للتغافل عن عناصر الموضوع التي كان لها أروع الاثر في النتائج التي توخاها الحسن بن علي من صلحه مع معاوية بن أبي سفيان ، ولذلك ، ولما لهذه التفاصيل الحساسة الثقيلة على النفس من الاهمية القصوى لموضوعنا العام ، فلابد لنا من مسايرة هذا الموضوع في سائر خطواته ، حتى ينتهى بنا أو ننتهي به الى النتائج الواضحة المملاة عن مقدماتها المسلمة ، بما في هذه النتائج من مجد المظلوم ( الغالب ) وخزاية الظالم ( المغلوب ) ، فنقول :

(1) الوفاء بالشرط الاول
  كان هذا الشرط هو الشرط الوحيد الذي لمعاوية على الحسن.
  فكان هو الشرط الوحيد الذي حظي بالوفاء من شروط هذه المعاهدة اطلاقاً .
  ثم لا يعهد من الحسن بعد توقيعه الصلح ، أي محاولة لنقض شرطه هذا ولا التحدث بذلك ، ولا الرضا بالحديث عنه .
  وجاءه زعماء شيعته بعد أن أعلن معاوية التخلّف عن شروطه ، فعرضوا عليه ـ وقد رجع الى المدينة ـ أنفسهم واتباعهم للجهاد بين يديه ، ووعده الكوفيون منهم باخلاء الكوفة من عاملها الاموي ، وضمنوا له الكراع والسلاح لاعادة الكرة على الشام ، فلم تهزه العواصف ولا قلقلته حوافز الانصار المتوثبين.
  فقال له سليمان بن صرد ، وهو اذ ذاك سيد العراق ورئيسهم ـ على حد تعبير ابن قتيبة عنه ـ : ( وزعم ـ يعني معاوية ـ على رؤوس الناس ما قد سمعت : اني كنت شرطت لقوم شروطاً ووعدتهم عدات ومنيتهم أمانيّ ...

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 302 _

  فان كل ما هنالك تحت قدميَّ هاتين ، وواللّه ما عنى بذلك الا نقض ما بينك وبينه ، فأعد الحرب خدعة وأْذَنْ لي أشخص الى الكوفة ، فأخرج عاملها منها وأُظهر فيها خلعه ، وانبذ اليه على سواء ، ان اللّه لا يهدي كيد الخائنين .
  ( ثم سكت ابن صرد ، فتكلم كل من حضر مجلسه بمثل مقالته ، وكلهم يقول : ابعث سليمان بن صرد وابعثنا معه ، ثم الحقنا ، اذا علمت انا قد أشخصنا عامله ، وأظهرنا خلعه (1) ) .
  وجاءه ـ ايضاً ـ حجر بن عدي الكندي ، ومركزه القويّ في العراق مركزه ، كما ستعرف قريباً .
  وجاءه المسيب بن نجية ، فارس مضر الحمراء كلها ، اذا عدّ من أشرافها عشرة كان هو أحدهم ـ على حد تعبير زفر بن الحارث الكلابي عنه ـ .
  وجاءه آخرون من نظرائهم ، وكلهم لم يحظ من الحسن الا بالرّد الجميل والاستمهال الى موت معاوية ، لانه صاحب عهده فيما تعاهدا عليه ، ولانه كان قد درس من أحوال الكوفة في تجربته الاولى ، ما أغناه عن تجارب أخرى .
  وكان آخر جوابه اليهم قوله : ( ليكن كل رجل منكم حلساً من أحلاس (2) بيته ما دام معاوية حياً ، فان يهلك معاوية ، ونحن وانتم احياء ، سألنا اللّه العزيمة على رشدنا ، والمعونة على أمرنا ، وأن لا يكلنا الى انفسنا ، فان اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون (3) ) .

---------------------------
(1) ابن قتيبة ( ج 1 : ص 151 ) .
(2) فلان حلس بيته يعني ( ملازم بيته لا يبرحه ) .
(3) الامامة والسياسة ( ج 1 ص 152 ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 303 _

(2) الوفاء بالشرط الثاني
  أجمع المؤرخون ـ بما فيهم المتحزبون والمستقلون ـ على أن العهد لذي أعطاه معاوية للحسن في شروط الصلح ، هو أن لا يعهد بالامر من بعده الى أحد ، ومعنى ذلك رجوع الامر من بعده الى صاحبه الشرعي ، أعني الحسن بن علي فان لم يكن فللحسين أخيه ، تمشياً مع مفهوم الشرط القائل بتسليم الامر محدوداً بحياته ، ومفهوم سلبه صلاحية العهد الى أحد من بعده .
  وأجمع المؤرخون ـ بعد ذلك ـ على أن معاوية نقض هذا العهد علناً ، وعهد من بعده الى ابنه يزيد ( المعروف !!! ) .
  ولسنا الآن بصدد مناقشة معاوية على نقضه العهد بعد ميثاقه ، وهو ـ على كل حال ـ جماع غلطاته التي أركسه ( الصلح ) فيها من حيث يدري أو لا يدري ، ولكنا وقد مررنا على موقف معاوية من عهوده مراتٍ ومرات ، لا نريد ان نمر هنا على تعيينه يزيد ابنه لخلافة المسلمين دون أن نقول : انه ارتكب بهذا العمل الجريء أكبر اثم في دينه ، وأفظع جريمة في الصالح العام ، وقد كان من أبرز النتائج ، لاعمال معاوية الارتجالية الجريئة هذه ، ان تنحرف قيادة الاسلام عن منهجها القويم ، وان تفقد الرعية قدوتها العملية ، وان تسود الاثرة ، ويضطرب حبل الثقة بين الافراد والجماعات ، وأن ينعدم التجاوب والتفاعل الوجداني بين القادة والاتباع ، فتتوزع الميول وتتباين المقاصد ، ثم لا يزال الامر يأخذ بهم سفالاً ، حتى يستعد الى الثورات الدامية والانتفاضات الداخلية التي كان لابد منها لتدارك الاخطاء والتنبه على الاخطار ، دع عنك ما كان يقال عن يزيد هذا ، وعن قابلياته الشخصية والخلقية التي عجت بها التواريخ ، من يومه الى يومنا ، والتي

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 304 _

  كان من آثارها ـ في حكومته ـ ما كان ( مما لا نريد التوسع في ذكره ) ، وانما جل ما نريد هو التنبيه على الغلطة الكبرى التي أتاها معاوية ، فتقمص بها مسؤولية الحرمات الاسلامية التي انتهكها بهذه الغلطة غير متحرج ولا متأثم .
  وكان من الاساليب العجيبة التي توفر على روايتها أصدقاء الرجل فضلاً عن أعدائه ، فيما لجأ اليه يوم نصب ابنه ولياً لعهد المسلمين ، ما يكفينا للتأكد من وزنه كمسلم فضلاً عن وزنه كخليفة !! ... وانها لصفحة من أنكد صفحات التاريخ ، وأبعدها عن ( الاسلام ) روحاً ومعنى وأهدافاً ، ولولا أنها ـ بنتائجها التي تنكشف عنها في معاوية وفي المجتمع الذي كان يدور في فلك معاوية ـ أحد شرايين بحثنا الواسع فيما يهدف اليه هذا البحث من بيان أسرار الحسن فيما أتاه من الصلح ، لاعرضنا عن ذكرها ، ولكُنّا أحرص على سترها ، رغم افتضاحها المكشوف مدى ثلاثة عشر قرناً .
  أما الآن فسنعرض خلاصة من نصوص المؤرخين ، دون ان نتعمد الشرح والتعليق في الاثناء ، لان هذه النصوص بذاتها غنية عن الشرح والتعليق .
  هكذا بايع معاوية ليزيد :
  قال ابو الفرج الاصفهاني : ( وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد ، فلم يكن شيء أثقل عليه من أمر الحسن وسعد بن ابي وقاص ، فدس اليهما سماً ، فماتا منه (1) ) .
  وقال ابن قتيبة الدينوري : ( ثم لم يلبث معاوية بعد وفاة الحسن الا يسيراً حتى بايع ليزيد بالشام وكتب ببيعته الى الآفاق (2) ) .
  وقال ابن الاثير : ( وكان ابتداء ذلك وأوله من المغيرة بن شعبة ، فان

---------------------------
(1) المقاتل ( ص 29 ) .
(2) الامامة والسياسة ( ج 1 : ص 160 ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 305 _

  معاوية أراد ان يعزله عن الكوفة ، ويستعمل عوضه سعيد بن العاص ، فبلغه ذلك ، فقال : الرأي ان أشخص الى معاوية فاستعفيه ، ليظهر للناس كراهتي للولاية ، فسار الى معاوية وقال لاصحابه حين وصل اليه : ان لم أكسبكم الآن ولاية وامارة لا أفعل ذلك ابداً ، ومضى حتى دخل على يزيد (1) وقال له : انه ذهب أعيان اصحاب النبي ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) ، وكبراء قريش وذوو أسنانهم ! (2) وانما بقي أبناؤهم ، وأنت من أفضلهم ! وأحسنهم رأياً ! وأعلمهم بالسنة !! والسياسة ! ، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة ؟ قال : أَوَترى ذلك يتم ؟ قال : نعم ، فدخل على أبيه ، وأخبره بما قال المغيرة ، فأحضر المغيرة وقال له : ما يقول يزيد ؟ ، فقال : يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان ، وفي يزيد خلف ( ! ) ، فاعقد له ، فان حدث بك حادث كان كهفاً للناس وخلفاً منك ، ولا تسفك دماءٌ ( !! ) ، ولا تكون فتنة ( !! ) ، قال : ومن لي بهذا ؟ قال : أكفيك أهل الكوفة ، ويكفيك زياد أهل البصرة ، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك ، قال : فارجع الى عملك ، وتحدث مع من تثق اليه في ذلك ، وترى ونرى .
  ( فودّعه ورجع الى أصحابه ، فقالوا : مه ؟ ، قال : لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أمة محمد !! ، وفتقت عليهم فتقاً لا يرتق أبداً ! (3) ) .
  ( وتواطأ معاوية مع رؤساء الوفود المناصحين له ، أن يخطبوا ويذكروا

---------------------------
(1) وذكر البيهقي في المحاسن والمساوئ ( ج 1 : ص 108 ) مناورة المغيرة بن شعبة هذه ، ولكنه رأى أو روى ان المغيرة ابتدأ بمعاوية اولاً ، وان معاوية لما وثق منه أرجعه الى عمله وقال له : ( انصرف الى عملك ، وأحكم الامر لابن اخيك ، وأعاده على البريد يركض ( كذا ) ) .
(2) انظر الى مكانة السن في عرف المغيرة ...
(3) كامل ابن الاثير ( ج 3 : ص 198 ـ 201 ) ، وفي هذا الحديث ما يشعرك بروحية المغيرة بن شعبة ومدى غيرة هذا الصحابي ذي الفتوق على أمة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ! .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 306 _

  فضل يزيد !! ... فلما اجتمعت عند معاوية وفود الامصار ، وفيهم الاحنف بن قيس الفهري ، فقال له : اذا جلست على المنبر ، وفرغت من بعض موعظتي وكلامي فاستأذن للقيام فاذا أذنا لك ، فاحمد اللّه تعالى واذكر يزيد ، وقل فيه الذي يحق له من حسن الثناء عليه !! ... ثم ادعني الى توليته ! ، ثم دعا عبد الرحمن بن عثمان الثقفي وعبيد اللّه بن مسعدة الفزاري وثور بن معن السلمي وعبد اللّه بن عصام الاشعري ، فأمرهم ان يقوموا اذا فرغ الضحاك ، وان يصدقوا قوله !! فقام هؤلاء النفر خطباء يشيدون بيزيد !! ... الى أن قام الاحنف بن قيس [ ولم يكن من الممثلين الذين رتبهم معاوية لهذه الرواية ] فقال :
  ( أصلح اللّه الامير ، ان الناس قد أمسوا في منكر زمان قد سلف ، ومعروف زمان مؤتنف ، وقد حلبت الدهور وجربت الامور ، فاعرف من تسند اليه الامر بعدك ، ثم اعص من يأمرك ، ولا يغررك من يشير عليك ولا ينظر اليك ، مع أن أهل الحجاز وأهل العراق ، لا يرضون بهذا ، ولا يبايعون ليزيد ما دام الحسن حياً ) .
  ثم أردف قائلاً :
  ( وقد علمت يا معاوية ، أنك لم تفتح العراق عنوة ، ولم تظهر عليه مقصاً ، ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود اللّه ما قد علمت ، ليكون له الامر من بعدك (1) ، فان تف فأنت أهل الوفاء ، وان تغدر تظلم ، واللّه ان وراء الحسن خيولاً جياداً ، وأذرعاً شداداً ، وسيوفاً حداداً ، وان تدن له شبراً من غدر ، تجد وراءه باعاً من نصر. وانك تعلم من أهل العراق ، ما أحبوك منذ أبغضوك ، ولا أبغضوا علياً وحسناً منذ أحبوهما ، وما نزل

---------------------------
(1) واخطأ فهم هذه الحقبة من الزمن كثير ممن كتب عنها ، فقال حسن مراد في ( الدولة الاموية ) ( ص 70 ) : ( ومن هنا نرى أن عهد معاوية بالخلافة لابنه يزيد على ما سيجيء لم يكن انتقالاً غير منتظر !! ) ، وقد عرفت من كلام الاحنف هنا ومن كلامنا في البحوث الآنفة أنه كان انتقالاً غير منتظر .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 307 _

  عليهم في ذلك غيَرٌ من السماء ، وان السيوف التي شهروها عليك مع علي يوم صفين ، لعلى عواتقهم ، والقلوب التي أبغضوك بها لبين جوانحهم (1) ) .
  أقول : وكلام الاحنف هذا ، صريح بأن معاوية حاول البيعة لابنه يزيد في حياة الحسن بن علي ، بينما صرح آخرون ، بأن بيعة يزيد انما وقعت بعد وفاة الحسن ، حتى قال ابو الفرج : ( انه سم الحسن وسعد بن ابي وقاص تمهيداً لبيعة ابنه يزيد ) ( كما اشير اليه ) ، اذاً فقد كان لمعاوية محاولتان لهذا التصميم : احداهما في حياة الحسن رغم العهود والأيمان والمواثيق ، وهي انما فشلت لمكان وجود صاحب العهد حياً .
  وثانيتهما بعد وفاة الحسن ( عليه السلام ) ، وهي التي تمت بأساليبها الظالمة التي عرضها أكثر المؤرخين .
  ( فعزل مروان عن المدينة حين عجز عن أخذ البيعة على أهلها ليزيد ، وولى المدينة سعيد بن العاص ، فاظهر الغلظة وأخذهم بالعزم والشدة ، وسطاً بكل من ابطأ عن البيعة ليزيد ، فأبطأ الناس عنها الا اليسير ، لا سيما بني هاشم ، فانه لم يجبه منهم أحد .
  ( أما مروان فذهب الى الشام مغاضباً ، وواجه معاوية بكلام طويل قال فيه : وأقم الامر يا ابن أبي سفيان ، واهدأ من تأميرك الصبيان ، واعلم أن لك في قومك نظراء ، وأنهم على مناوأتك وزراء ...
  ـ ثم سكت لانه رزقه الف دينار في كل هلال !! ـ
  ( وكتب معاوية الى عبد اللّه بن عباس والى عبد اللّه بن الزبير والى عبد اللّه بن جعفر والى الحسين بن علي ، يدعوهم الى البيعة ليزيد ! .
  ـ وكان كتابه الى الحسين ( عليه السلام ) ما لفظه ـ :
  ( أما بعد ، فقد انتهت اليَّ منك امور ، لم اكن اظنك بها ، رغبةً

---------------------------
(1) ابن قتيبة ( ج 1 ص 156 ـ 158 ) ، والمسعودي ـ هامش ابن الاثير ( ج 6 ص 100 ـ 102 ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 308 _

الاجتماع في الكوفة
  بك عنها ، وان احق الناس بالوفاء من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك اللّه بها ، فلا تنازع الى قطيعتك ، واتق اللّه !! ، ولا تردَّنَّ هذه الامة في فتنة !! ، وانظر لنفسك ودينك وأمة محمد ، ولا يستخفنَّك الذين لا يوقنون !! ) .
  ـ فكتب اليه الحسين بما يلي ـ :
  ( أما بعد فقد جاءني كتابك ، تذكر فيه أنها انتهت اليك مني أمور لم تكن تظنني بها رغبةً بي عنها ، وان الحسنات لا يهدي لها ولا يسدد عليها الا اللّه تعالى ، واما ما ذكرت انه رقى اليك عني ، فانما رقاه الملاقون المشاؤون بالنميمة ، المفرقون بين الجمع. وكذب الغاوون المارقون ، ما أردت حرباً ولا خلافاً ، واني اخشى اللّه في ترك ذلك منك ومن حزبك القاسطين المحلين ، حزب الظلم وأعوان الشيطان الرجيم ، الست قاتل حجر وأصحابه العابدين المخبتين ، الذين كانوا يستفظعون البدع ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ؟ ، فقتلتهم ظلماً وعدواناً ، من بعد ما أعطيتهم المواثيق الغليظة والعهود المؤكدة ، جراءة على اللّه واستخفافاً بعهده ، أَوَلست بقاتل عمرو بن الحمق الذي أخلقت وأبلت وجهه العبادة ؟ فقتلته من بعد ما أعطيته من العهود ما لو فهمته العصم (1) لنزلت من شعف (2) الجبال ، أولست المدعي زياداً في الاسلام فزعمت أنه ابن أبي سفيان ؟ ، وقد قضى رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) ، أن الولد للفراش وللعاهر الحجر ، ثم سلطته على أهل الاسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ويصلبهم على جذوع النخل ! ، سبحان اللّه يا معاوية ، لكأنك لست من هذه الامة وليسوا منك !! ، أولست قاتل الحضرمي الذي كتب فيه اليك زياد أنه على دين علي ؟ ، ودين علي هو دين ابن عمه صلى اللّه عليه وسلم الذي

---------------------------
(1) العصم [ جمع اعصم ] وهو : ( الظبي في ذراعيه او في احداهما بياض وسائره أسود او احمر ) .
(2) الشعفة بالتحريك : ( رأس الجبل ) ، وشعفة كل شيء : ( اعلاه ) وجمعه : [ شعف ] محركاً في النص .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 309 _

  أجلسك مجلسك الذي انت فيه ، ولولا ذلك كان أفضل شرفك وشرف آبائك تجشم الرحلتين ، رحلة الشتاء والصيف ، فوضعها اللّه عنكم بنا ، منةً عليكم ! .
  وقلت فيما قلت : لا تردَّ هذه الامة في فتنة ، واني لا أعلم فتنة لها أعظم من امارتك عليها .
  وقلت فيما قلت : انظر لنفسك ولدينك ولامة محمد ، واني واللّه ما أعرف أفضل من جهادك ( أي : قتالك ) ، فان أفعل ، فانه قربة الى ربي ، وان لم أفعل ، فأستغفر اللّه لذنبي ، واسأله التوفيق لما يحب ويرضى .
  وقلت فيما قلت : متى تكدني أكدك ، فكدني يا معاوية فيما بدا لك ، فلعمري لقديماً يُكاد الصالحون ، واني لارجو ان لا تضر الا نفسك ، ولا تمحق الا عملك ، فكدني ما بدا لك ! .
  ( واتق اللّه يا معاوية ! ، واعلم ان للّه كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها ! واعلم ان اللّه ليس بناس لك قتلك بالظنة وأخذك بالتهمة ، وامارتك صبياً يشرب الشراب ويلعب بالكلاب !! ، ما أراك الا وقد أوبقت نفسك ، وأهلكت دينك ، وأضعت الرعية ، والسلام (1) ).
  ثم قدم معاوية بعد ذلك الى المدينة ، ومعه خلق كثير من أهل الشام عدهم ابن الاثير بألف فارس ، قال : ( ثم دخل على عائشة ، وكان قد بلغها انه ذكر الحسين وأصحابه وقال : لاقتلنهم ان لم يبايعوا ... فقالت له فيما قالت : وارفق بهم فانهم يصيرون الى ما تحب ، ان شاء اللّه !! (2) ) .
  وقال الدينوري (3) بعد ذكره ورود معاوية الى المدينة : ( ثم جلس معاوية صبيحة اليوم الثاني ، وأجلس كتابه بحيث يسمعون ما يأمر به ،

---------------------------
(1) ابن قتيبة ( ج 1 ص 63 ـ 65 ) .
(2) أقول : ولنا ان نفهم من هذه اللغة أن ام المؤمنين نفسها كانت قد صارت الى ما يحب معاوية من البيعة ليزيد !!
(3) ( ج 1 ص 168 ـ 172 ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 310 _

  وأمر حاجبه ان لا يأذن لاحد من الناس وان قرب ، ثم أرسل الى الحسين بن علي وعبد اللّه بن عباس ، فسبق ابن عباس ، فأجلسه عن يساره ، وشاغله بالحديث حتى أقبل الحسين ودخل ، فأجلسه عن يمينه ، وسأله عن حال بني الحسن ( !! ) وأسنانهم ، فأخبره .
  ( ثم خطب معاوية خطبة أثنى فيها على اللّه ورسوله وذكر الشيخين وعثمان ، ثم ذكر أمر يزيد ، وانه يحاول ببيعته سدّ خلل الرعية ! ، وذكر علمه بالقرآن والسنة ! ، واتصافه بالحلم ! ، وأنه يفوقهما سياسة ومناظرة ! وان كانا أكبر منه سناً (1) ، وأفضل قرابة ، واستشهد بتولية النبي ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) عمرو بن العاص في غزوة ( ذات السلاسل ) على أبي بكر وعمر وأكابر الصحابة ثم استجابهما عما ذكر ) .
  قال : ( فتهيأ ابن عباس للكلام ، فقال له الحسين : على رسلك ، فانا المراد (2) ، ونصيبي في التهمة أوفر .
  وقام الحسين ، فحمد اللّه تعالى وصلى على الرسول ( صلى اللّه عليه وآله وسلم )وقال :
  ( أما بعد ـ يا معاوية ـ ، فلن يؤدي القائل وان أطنب في صفة الرسول صلى اللّه عليه وسلم من جميع جزءاً ، وقد فهمتُ ما لبست به الخلف بعد رسول اللّه (3) من ايجاز الصفة ، والتنكب عن استبلاغ البيعة ، وهيهات هيهات يا معاوية ، فضح الصبح فحمة الدجا ، وبهرت الشمس انوار السُرُج ، ولقد فضلت حتى أفرطتَ ، واستأثرت حتى أجحفت ومنعت حتى بخلتَ ، وجرتَ حتى جاوزتَ ، ما بذلتَ لذي حق من اسمٍ حقه

---------------------------
(1) سبق ان معاوية كان يحتج على الحسن بكبر سنه ، ولم تكن له حجة غيرها على استحقاقه الخلافة دونه ، فما لهذه الباء لا تجر هنا ؟!! .
(2) لانه هو صاحب الحق بالخلافة بعد الحسن ، كما نص عليه جده رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اولاً ، وكما نصت عليه معاهدة الصلح ثانياً .
(3) يشير الى اعراضه عن ذكر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فيمن ذكره بعد رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 311 _

  من نصيب ، حتى أخذ الشيطان حظه الاوفر (1) ، ونصيبه الأكمل .
  ( وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لامة محمد ، تريد أن توهم الناس في يزيد ، كأنك تصف محجوباً أو تنعت غائباً ، أو تخبر عما كأنك احتويته بعلم خاص ، وقد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش ، والحمام السُبَّق لاترابهن ، والقينات ذوات المعازف ، وضروب الملاهي ـ تجده ناصراً .
  ودع عنك ما تحاول !! ، فما أغناك ان تلقى اللّه بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه ، فواللّه ما برحت تقدح باطلاً في جور ، وحنقاً في ظلم ، حتى ملئت الاسقية ، وما بينك وبين الموت الا غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ، ولات حين مناص ...
  ( وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما صار ذلك لعمرو يومئذ ، حتى أنف القوم امرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدوا عليه أفعاله ، فقال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) : لا جرم معشر المهاجرين ، لا يعمل عليكم بعد اليوم ، فكيف تحتج بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الاحوال وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب ؟ أم كيف ضاهيت بصاحب تابعاً ؟ وحولك من يؤمن في صحبته ، ويعتمد في دينه وقرابته ، تتخطاهم الى مسرف مفتون ، تريد أن تلبس الناس شبهة ، يسعد بها الباقي في دنياه ، وتشقى بها في آخرتك ، ان هذا لهو الخسران المبين ، واستغفر اللّه لي ولكم ) .
  قال : ( فنظر معاوية الى ابن عباس ، فقال : ما هذا يا ابن عباس ؟ ولما عندك أدهى وأمرّ ! ... فقال ابن عباس : لعمر اللّه ، انه لذرية الرسول ، وأحد أصحاب الكساء ، ومن البيت المطهر فالهُ عما تريد ، فان لك في

---------------------------
(1) يريد ان هذا الاجحاف المقصود كان هو منية الشيطان في تأريث الخلاف...

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 312 _

  الناس مقنعاً ، حتى يحكم اللّه بأمره ، وهو خير الحاكمين .
  ثم خرج معاوية الى مكة كما يحدثنا ابن الاثير وغيره من المؤرخين ، قال : ( وسبقه الحسين بن علي وعبد اللّه بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر اليها ، ولما كان آخر أيامه بمكة ، أحضر هؤلاء ... وقال لهم : اني أحببت ان اتقدم اليكم ، انه قد أعذر من انذر ، اني كنت اخطب فيكم ، فيقوم اليَّ القائم منكم فيكذبني على رؤوس الناس ، فأحمل ذلك وأصفح ، واني قائم بمقالة ، فأقسم باللّه لئن ردَّ عليَّ أحدكم كلمةٌ في مقامي هذا ، لا ترجع اليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف الى رأسه ، فلا يبقينَّ رجل الا على نفسه ! .
  ثم دعا صاحب حرسه بحضرتهم فقال : أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين ، ومع كل واحد سيف ، فان ذهب رجل منهم يردّ عليَّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفهما !! ...
  ثم خرج وخرجوا معه ، حتى أتى المنبر ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثم قال : ان هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم ، لا يبتز أمرٌ دونهم ، ولا يقضى الا عن مشورتهم ، وانهم قد رضوا وبايعوا يزيد !! فبايعوا على اسم اللّه ! ، فبايع الناس ، انتهى ملخصاً .
  وولدت هذه البيعة البغيضة ولكن بعد اعسار شديد ، لم تنجع فيه الا السيوف المشهورة على رؤوس الرجال ، فاذا هي بنت مؤامرات ومناورات وارهاب ! .
  واذا كانت هذه هي خلافة الاسلام ، فعلى الاسلام السلام .
  وأخرج البخاري في صحيحه عن النبي (ص) : ( ما من والٍ يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم ، الا حرم اللّه عليه الجنة ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 313 _

(3) الوفاء بالشرط الثالث
  قال ابن الاثير ( ان معاوية كان اذا قنت سبّ علياً وابن عباس والحسن والحسين والاشتر (1) ) ، ونقل أبو عثمان الجاحظ في كتاب [ الرد على الامامية ] : ( ان معاوية كان يقول في آخر خطبته : اللهم ان أبا تراب ـ يعني علياً ـ الحد في دينك ، وصدَّ عن سبيلك ، فالعنه لعناً وبيلاً وعذبه عذاباً اليماً ، وكتب بذلك الى الآفاق ، فكانت هذه الكلمات يشاد بها على المنابر (2) ) .
  وقيل لمروان : ( ما لكم تسبونه على المنابر ؟ ) فقال : ( لا يستقيم لنا الامر الا بذلك !! ) ...
  وكان من مجهود معاوية في هذا السبيل ما طفحت به السير والتواريخ. وهو ـ على هذا ـ أول من سن الجهر بسب صحابة الرسول ، وأول من فتح هذا الباب على مصراعيه لمن جاء من بعده ، ولا نعرف أن أحداً سبقه الى مثل هذا اللهم الا ما كان من عائشة يوم قالت : ( اقتلوا نعثلاً فقد كفر !! ) ، ثم لا نعهد في علماء المسلمين من حكم على عائشة بالكفر ، ولا على معاوية بالمروق من الدين ، لانهما استباحا سبَّ الصحابة ، أو لانهما أوغلا في السب حتى عمدا الى التكفير ، ومما لا شك فيه أن حكم الامثال واحد لا يختلف مع الزمان ، ولذلك ، فانا لا نجد مساغاً الى الحكم على من نال من معاوية أو نال من صحابي آخر ، الا بما حكم به علماء المسلمين على معاوية وعائشة في نيلهما من علي وعثمان ، لا أقل ولا أكثر .
  وأما الاثر المزعوم القائل ( بأيهم اقتديتم اهتديتم ) ، فقد خُصَّ حتى سقط عمومه عن الحجية ، والا لكان السبابون للصحابة من الصحابة أولى

---------------------------
(1) ( النصائح الكافية ) لابن عقيل ( ص 19 ـ 20 ) .
(2) ( النصائح الكافية ) لابن عقيل ( ص 19 ـ 20 ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 314 _

  بالعمل به ، ولو كف معاوية لسانه عن النجوم من آل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذين كان عليه ان يقتدي بهم ليهتدي ، لكف الناس ألسنتهم عنه وعن أمثاله من الظالمين ، ولماتت النعرات ولتم الصلح بصلاح المسلمين .
  ولكنها كانت البذرة الخبيثة التي زرعها الرجل عامداً ، ثم تعاهدها هو وذووه بالتغذية والسَّقي ، فاذا بها شجرة العوسج في تاريخ الاسلام ، استغفلوا بها البسطاء ولبسوا بها على عقول الجهلاء ، وجعلوا من السبّة في التاريخ ( سُنّة ) في المسلمين ، يتنادون عليها ، ويحتفلون بها ، ويحتجون (1) على تركها اذا تركت !! ...
  وما لمعاوية فيما قدم لنفسه من هذه الباقيات من عذر يرجى ، ولا فيما أخَّر لتاريخه من مجد يحسد عليه أو يطرى ، واذا كان الدهاء هو فشل الانسان فيما قدّم وفيما أخّر ، فمعاوية أدهى الدهاة ! .
  وكان من أروع مظاهر الدهاء فيه موقفه من صلح الحسن ( عليه السلام ) بما جرَّ عليه هذا الصلح من ويلات معنوية ونكبات تاريخية في حياته وبعد مماته !! .
  وكان معنى الصلح في مفهوم الناس ، واعني الصلح الذي لج هو في تحصيله حتى أقام الدنيا وأقعدها ـ هو ان يُحطم السنان وان يكمَّ اللسان وان يكون كل وشأنه ، وفق الحدود التي ستقررها المعاهدة فيما يتفق عليه الفريقان ، وجاءت المادة الثالثة من اتفاقيتهما ، وهي صريحة بوجوب الكف عن السب ، فكان على معاوية ان يكف ، لو انه أراد الصلح حقيقة ، أو أراد الوفاء بالشروط كما يفرضه الذمام والعهد والايمان .
  ولكن الرجل لم يطلب الصلح الا ليسرح الجنود ، وليأمن غائلة حربه مع الحسن ابن رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ كما اشير اليه ـ ، لم يشأ ان يرجع في صلحه الى التزام المقررات ، أو الاكتراث بالمعاهدات ، فوقَّع الصلح ولكنه انما وقعه حبراً على ورق ، وحلف الايمان وأعطى المواثيق ولكنه

---------------------------
(1) سبق في الفصل ( 14 ) زيادة توضيح للبحث مع ذكر المصادر بأرقامها .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 315 _

  أرسلها ارسالاً لا يتحسس من ورائه ذمةً ولا سؤالاً ، وجاء الكوفة ، وسبق الى منبرها فذكر علياً ونال منه ، ثم نال من الحسن ، فقام الحسين ليرد عليه ، فأخذ الحسن بيده فأجلسه ، ثم قام فقال ما شاء أن يقول من أسلوب حكيم ، ودعوة حق الى صراط مستقيم ... [ وقد مرّت خطبة الحسن بطولها وما قاله معاوية قبلها في الفصل ( 18 ) ] .
  وكان فيما هتف الناس به للحسن على خطابه وجوابه ، ما لم يرض له معاوية ، وهو اذ ذاك لا يزال ثملاً بخمرة الانتصار الموهوم ، فرأى أن ينظم حملة جديدة لتربيب الخلق الذي لا يُحسد عليه ـ خلق السباب والشتم والطعن في الناس ـ ، رغم أن المثالية الاسلامية تناقض هذا الخلق وتنكره على الناس وتدعوهم الى التراحم والتحابب والاخوة في الدين ، وتقول فيما تقول : ( لا يكون المؤمن سباباً ولا فحّاشاً ولا طعاناً ولا لعاناً ) .
  ( فقال ابو الحسن علي بن محمد بن أبي يوسف المدائني في كتاب الاحداث : كتب معاوية نسخة واحدة بعد عام الجماعة ، أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب ـ يعني علياً ( عليه السلام ) ـ وأهل بيته ، فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر ، يلعنون علياً ويبرؤون منه ، ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي ( عليه السلام ) (1) ) .
  ودعا المغيرة بن شعبة وهو يريد أن يستعمله على الكوفة ـ بعد الصلح ـ فقال له : أما بعد ، فان لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ، ولا يجزي عنك الحليم بغير التعليم ، وقد أردت ايصاءك بأشياء كثيرة ، انا تاركها ، اعتماداً على بصرك. ولست تاركاً ايصاءك بخصلة واحدة ، لا تترك شتم علي وذمه !! (2) ) .
  ثم خلفَ المغيرة على الكوفة زياد ( فكان يجمع الناس بباب قصره

---------------------------
(1) ابن ابي الحديد ( ج 3 ص 15 ) .
(2) ابن الاثير ( ج 3 ص 187 ) ، والطبري ( ج 6 ص 141 ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 316 _

  يحرضهم على لعن علي ، فمن أبى عرضه على السيف !! (1) ) .
  وأما في البصرة ، فانه استعمل عليها بسر بن أرطاة ( فكان يخطب على منبرها فيشتم علياً ، ويقول : ناشدت اللّه رجلاً علم أني صادق الا صدقني أو كاذب الا كذبني ) ، قال الطبري في تاريخه : ( فقال له أبو بكرة : اللهم انا لا نعلمك الا كاذباً ! ، قال : فأمر به فخنق ، ثم أنقذوه منه !! (2) ).
  واما في المدينة ، وواليه عليها مروان بن الحكم ، فكان لا يدع سب علي عليه السلام على المنبر كل جمعة ، قال ابن حجر المكي : ( وكان الحسن يعلم ذلك ولا يدخل المسجد الا عند الاقامة ، فلم يرض بذلك مروان ، حتى أرسل الى الحسن في بيته بالسب البليغ لابيه وله !! (3) ).
  ( ولما حج معاوية ـ بعد الصلح ـ طاف بالبيت ومعه سعد بن أبي وقاص ، فلما فرغ انصرف معاوية الى دار الندوة ، فأجلسه معه على سريره ، ووقع معاوية في علي وشرع في سبه ، فزحف سعد ، ثم قال : أجلستني معك على سريرك ثم شرعت في سب علي ! ، واللّه لأن يكون فيَّ خصلة واحدة من خصال كانت لعلي أحبّ اليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ! ، واللّه لأن اكون صهر الرسول ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) ، لي من الولد ما لعلي ، أحب اليَّ من ان يكون لي ما طلعت عليه الشمس ! ، وللّه لأن يكون رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال لي ما قاله يوم خيبر : لاعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبه اللّه ورسوله ويحب اللّه ورسوله ، ليس بفرّار ، يفتح اللّه على يديه ، أحب اليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ! ، واللّه لأن يكون رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال لي ما قاله له في غزوة تبوك : ألا ترضى ان تكون مني بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبي بعدي ، أحب اليَّ من ان يكون لي ما طلعت عليه الشمس ! ، وايم اللّه

---------------------------
(1) المسعودي ( هامش ابن الاثير ج 6 ص 99 ).
(2) الطبري ( ج 6 ص 96 ) وابن الاثير ( ج 3 ص 105 ).
(3) يراجع النصائح الكافية ( ص 73 الطبعة الاولى ).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 317 _

  لادخلت لك داراً ما بقيت (1) ) .
  وروى المسعودي من جواب معاوية لسعد ، ما نربأ بقلمنا عن التصريح به لقبحه ، ولكنه على كل حال دليل جديد على مبلغ اسفاف الرجل في خلقه وفي آدابه وفي مجاملاته ...

(4) الوفاء بالشرط الرابع
  قال الطبري ( ج 6 ص 95 ) : ( وحال أهل البصرة بينه ـ يعني بين الحسن ـ وبين خراج دارابجرد ، وقالوا : فيئُنا ) .
  وقال ابن الاثير ( ج 3 ص 162 ) : ( وكان منعهم ـ يعني منع أهل البصرة ـ بأمر من معاوية ايضاً !! ) .

(5) الوفاء بالشرط الخامس
  وكان الشرط ـ كما علمت ـ هو العهد بالامان العام ، والامان لشيعة علي على الخصوص ، وأن لا يبغي للحسنين ( عليهما السلام ) وأهل بيتهما غائلة سراً ولا جهراً .
  وللمؤرخين فيما يرجع الى موضوع هذا الشرط نصوص كثيرة ، بعضها وصف للكوارث الداجية التي جوبه بها الشيعة من الحكام الامويين في عهد معاوية ، وبعضها قضايا فردية فيما نكب به معاوية الشخصيات الممتازة من أصحاب أمير المؤمنين ، وبعضها خيانته تجاه الحسن والحسين خاصة ، وليكن عرضنا لهذه النصوص هنا على الترتيب المذكور ايضاً .

---------------------------
(1) المسعودي ( هامش ابن الاثير ج 6 ص 81 ـ 82 ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 319 _

معاوية وشيعة علي ( عليه السلام )

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 320 _

  كانت السياسة الاموية التي وضعها معاوية ثم تبعه عليها الامراء الامويون من بعده ، هي أن يخلقوا من أنفسهم سادة يستأثرون بكل محمدة في الناس ، فما الكرم ولا الحلم ولا الدهاء ولا الشجاعة ولا الفصاحة الا بعض هباتهم الخاصة التي احتجزوها من دون الناس جميعاً ، وقد وضعوا في سبيل تركيز هذه السياسة المتعمدة ، التاريخ الزائف الذي ظل يفيض بسلسلة من الاحاديث الموضوعة ، والقصص المصطنع ، والاكاذيب المنوعة ، والادعاء الفارغ ، وأمروا الوّعاظ المأجورين ، ومعلمي الكتاتيب في سائر بلدان المملكة الاسلامية ، بدراسة الامالي الاموية بما فيها من مدح زائف أو قدح كاذب ، وعملوا كل ما كان بوسعهم أن يعملوه ليثيروا في قلوب الناشئة من أولاد الناس الغرور بحبهم ، والانقياد المطلق لدهائهم ، فاذا بهذه الناشئة بعد لأي جنود لامية يتخاصمون بدمائهم البريئة لاهدافها ، واذا بسيول الدماء تصبغ بقاع الارض لتستقيم صفوف الخدم والحشم والوكلاء والمقدمين في بلاد الاسياد المتغلبين .
  ولم يكن ثمة هدف آخر غير هدف الاستئثار بالسيادة والملك والثراء واللذات الدنيوية الرخيصة ، وهو ما كان يضيق به المعنيون بدينهم من آل محمد ( صلى اللّه عليه وآله وسلم )، ومن المسلمين الثابتين على الاخلاص للّه في اسلاميتهم ، ومن هنا كان مبعث الشقاق المتواصل الحلقات بين هذه الطبقة من أموية الاسلام ، وتلك الفئة من حملة تراث الاسلام ودعاته المخلصين .
  جاء في تاريخ الطبري ( ج 7 ص 104 ) استطراد مقتضب يرفعه الى زيد بن أنس عن الوضع العام الذي كان يرزح تحته معاشر الشيعة في أيام معاوية ، وكان فيما يقوله أحدهم وهو يخاطبهم : ( انكم كنتم تقتلون

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 321 _

  وتقطع أيديكم وأرجلكم وتسمل أعينكم وترفعون على جذوع النخل في حب أهل بيت نبيكم وأنتم مقيمون في بيوتكم وطاعة عدوكم !! ) .
  والحديث على اقتضابه تفصيل غريب ومعرض رهيب لم يحدثنا المسعودي الا بطرف منه فيما نقلناه عنه قريباً .
  أما المدائني المتوفى سنة 225 ، وسليم بن قيس المتوفي سنة 70 ، فانهما عرضا صورة كاملة من هذه المعارض الرهيبة والمآسي الكئيبة ، وكان سليم بن قيس أحد شهودها المروّعين بها ، لانه عاش معاصراً لمعاوية ومات بعده بعشر سنين ، ولا شاهد كشاهد عيان ، ولذلك فلنؤثر لفظه ، وان كان المدائني يكاد لا يختلف عنه في قليل ولا كثير ، قال :
  ( قدم معاوية حاجاً ـ في خلافته ـ بعدما قتل أمير المؤمنين وصالح الحسن ... واستقبله أهل المدينة وفيهم قيس بن سعد ـ وكان سيد الانصار وابن سيدهم ـ فدار بينهما الحديث حتى انتهيا الى [ الخلافة ] ، فقال قيس : ولعمري ما لأحد من الأنصار ولا لقريش ولا لاحد من العرب والعجم في الخلافة حق مع علي وولده من بعده ، فغضب معاوية ... ونادى مناديه وكتب بذلك نسخة واحدة الى عماله : ( ألا برئت الذمة ممن روى حديثاً في مناقب علي وأهل بيته !! ) ، وقامت الخطباء في كل كورة ومكان على المنابر بلعن علي بن أبي طالب والبراءة منه ، والوقيعة في أهل بيته ، واللعنة لهم بما ليس فيهم ، ثم ان معاوية مرّ بحلقة من قريش ، فلما رأوه قاموا اليه غير عبد اللّه بن عباس ، فقال له : يا ابن عباس ما منعك من القيام كما قام أصحابك الا لموجدة عليّ بقتالي اياكم يوم صفين ، يا ابن عباس ان ابن عمي عثمان قتل مظلوماً ، قال ابن عباس : فعمر بن الخطاب قد قتل مظلوماً فسلم الامر الى ولده ، وهذا ابنه ، قال : ان عمر قتله مشرك ، قال ابن عباس : فمن قتل عثمان ؟ قال : قتله المسلمون ، قال : فذلك أدحض لحجتك ، ان كان المسلمون قتلوه وخذلوه فليس الا بحق ، قال : فانا كتبنا الى الآفاق ننهى عن ذكر مناقب عليّ وأهل بيته ، فكف

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 322 _

  لسانك يا ابن عباس ، قال : فتنهانا عن قراءة القرآن ؟ قال : لا ، قال : فتنهانا عن تأويله ؟ قال : نعم ، قال : فنقرأه ولا نسأل عما عنى اللّه به ؟ قال : نعم ، قال : فأيهما أوجب علينا قراءته أو العمل به ؟ قال : العمل به ، قال : فكيف نعمل به حتى نعلم ما عنى اللّه بما أنزل علينا ؟ قال : سل عن ذلك من يتأوله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك ، قال : انما أنزل القرآن على أهل بيتي فأسأل عنه آل أبي سفيان وآل أبي معيط ؟! قال : فاقرأوا القرآن ولا ترووا شيئاً مما أنزل اللّه فيكم ومما قال رسول اللّه ، وارووا ما سوى ذلك! قال ابن عباس : قال اللّه تعالى : يريدون أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم ويأبى اللّه الا أن يتم نوره ولو كره الكافرون .
  قال معاوية : يا ابن عباس اكفني نفسك وكف عني لسانك ، وان كنت لابد فاعلاً فليكن سراً ولا تسمعه أحداً علانية ! ـ ثم رجع الى منزله واشتد البلاء بالامصار كلها على شيعة علي وأهل بيته ، وكان أشد الناس بلية أهل الكوفة لكثرة من بها من الشيعة ، واستعمل عليها زياداً ، وجمع له العراقين ، وكان يتتبَّع الشيعة وهو بهم عالم ، لأنه كان منهم ، فقتلهم تحت كل كوكب ، وتحت كل حجر ومدر واحلأهم وأخافهم ، وقطع الايدي والارجل منهم ، وصلبهم على جذوع النخل ، وسمل أعينهم ، وطردهم وشردهم ، وكتب معاوية الى قضاته وولاته في الامصار أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي الذين يروون فضله ويتحدثون بمناقبه شهادة !! وكتب الى عماله ، انظروا من قبلكم من شيعة عثمان الذين يروون فضله ويتحدثون بمناقبه فأكرموهم وشرّفوهم ، واكتبوا الي بما يروي كل واحد منهم فيه باسمه واسم أبيه ، وبعث اليهم بالصلات والكُسا ، وأكثر القطائع للعرب والموالي فكثروا ، وتنافسوا في المنازل والضياع ، واتسعت عليهم الدنيا ، ثم كتب الى عماله : ان الحديث قد كثر في عثمان فاذا جاءكم كتابي هذا فادعوهم الى الرواية في أبي بكر وعمر ، فقرأ كل قاض وأمير كتابه على الناس ، وأخذ الناس في الروايات فيهم وفي مناقبهم ، ثم كتب نسخة جمع فيها جميع ما روي فيهم من المناقب ، وأنفذها الى عماله ، وأمرهم بقراءتها على المنابر ، وفي كل

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 323 _

  كورة ، وفي كل مسجد ، وأمرهم أن ينفذوا الى معلمي الكتاتيب أن يعلموها صبيانهم حتى يرووها ويتعلموها كما يتعلمون القرآن حتى علموها بناتهم ونساءهم وخدمهم ـ ثم كتب الى عماله نسخة واحدة : ( انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان ) ، ثم كتب كتاباً آخر : ( من اتهمتموه ولم تقم عليه بينة فاقتلوه !! ) فقتلوهم على التهم والظن والشبه تحت كل كوكب ، حتى لقد كان الرجل يسقط بالكلمة فتضرب عنقه!! ، وجعل الامر لا يزداد الا شدة ، وكثر عددهم ، وأظهروا أحاديثهم الكاذبة فنشأ الناس على ذلك ، لا يتعلمون الا منهم ، وكان أعظم الناس في ذلك القرّاء المراؤون المتصنعون الذين يظهرون الحزن والخشوع والنسك ويكذبون ، ليحظوا عند ولاتهم ، ويصيبوا بذلك الاموال والقطائع والمنازل ، حتى صارت أحاديثهم في أيدي من يحسب انها حق فرووها وعلموها ، وصارت في أيدي المتدينين الذين لا يستحلون الكذب ، فقبلوها وهم يرون أنها حق ، ولو علموا انها باطل لم يرووها ولم يتدينوا بها ، فلما مات الحسن بن علي عليه السلام ، لم تزل الفتنة والبلاء يعظمان ويشتدان ) .
 اقول : وروى مثل ذلك بكامله ابو الحسن المدائني فيما أخذه عنه ابن أبي الحديد ( ج 3 ص 15 ـ 16 ) وقال في آخره :
  ( فلم يزل الامر كذلك حتى مات الحسن بن علي عليه السلام ، فازداد البلاء والفتنة فلم يبق أحد من هذا القبيل الا وهو خائف على دمه أو طريد في الارض ) .
  وكان هذا أسلوباً من الحوادث تستسيغه المحاكمة في ظروف الفريقين ، ويصدقه التناسق التاريخي في تسلسل الاحداث ، ولا يضيره اغفال المؤرخين الآخرين لأنهم ـ ولنعذرهم ـ انما كانوا يكتبون للسياسة القائمة ، أو لما لا يضيرها على الاقل .
  وتقدم أن الطبري والمسعودي ألمحا الى كل ذلك باختصار ، وعلى

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 324 _

  هذا فمصادر هذه المادة : سليم بن قيس ، المدائني ، ابن ابي الحديد ، الطبري ، المسعودي .
  وفي سبيل اللّه أشلاء مضرجة ، وشمل شتيت ، وحطام من مساكن يشرد أهلها أو يساقون الى الجزر سوق القطيع! فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً .
  وتلك هي تعبئة معاوية لاقتناص الخلافة في الاسلام له ولبنيه ! .
  وتلك هي طريقته البكر في وفائه بعهود اللّه ومواثيقه ! .
  وزاد سليم بن قيس بعد ذلك فقال :
  ( ولما كان قبل موت معاوية بسنة ، حج الحسين بن علي وعبد اللّه بن عباس وعبد اللّه بن جعفر فجمع الحسين بني هاشم ، ثم رجالهم ونساءهم ومواليهم ومن حج منهم من الانصار ، ممن يعرفه الحسين ( عليه السلام ) وأهل بيته ، ثم أرسل رسلاً : لا تدعوا أحداً حجّ العام من أصحاب رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم )المعروفين بالصلاح والنسك الا اجمعوهم لي ، فاجتمع اليه بمنى أكثر من سبعمائة رجل ، وهم في سرادقه ، عامتهم من التابعين ، ونحو من مائتي رجل من أصحاب النبي ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) ، فقام فيهم خطيباً .
  ( فحمد اللّه واثنى عليه ثم قال : أما بعد ، فان هذا الطاغية قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم ، واني أريد أن اسألكم عن شيء فان صدقت فصدقوني وان كذبت فكذبوني ، اسمعوا مقالتي ، واكتبوا قولي ، ثم ارجعوا الى أمصاركم وقبائلكم فمن أمنتم من الناس ، ووثقتم به فادعوهم الى ما تعلمون من حقنا ، فاني أتخوف أن يدرس هذا الامر ويذهب الحق ويغلب ، واللّه متم نوره ولو كره الكافرون .
  ( وما ترك شيئاً مما أنزله اللّه فيهم من القرآن الا تلاه وفسره ، ول
ا

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 325 _

  شيئاً مما قاله رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) في أبيه وأخيه وأمه وفي نفسه وأهل بيته الا رواه ... وكل ذلك يقول أصحابه ، اللهم نعم وقد سمعنا وشهدنا ، ويقول التابعي : اللهم قد حدثني به من أصدقه وأئتمنه من الصحابة ، فقال : أنشدكم اللّه الا حدثتم به من تثقون به وبدينه ) .

معاوية وزعماء الشيعة   وكان موقف معاوية من زعماء الشيعة بعد صلحه مع الحسن موقف المنتقم الحاقد الذي لا تأخذه بهم رأفة ولا ذمة ولا ( عهد ) ، وكان لخوفه من الدعاوة الفعالة التي يحملها هؤلاء السادة من زعماء الشيعة أثره فيما توفر عليه من القصد الى ايذائهم واقصائهم وقتلهم والتنكيل بهم ، ولسنا الآن بسبيل استقصاء ما عمله معاوية تجاه هؤلاء الشيعة ، ولا استقصاء ما كان ينويه بهم من خطط بعيدة الاهداف ، ولكننا ـ لندل على مدى وفاء هذا الاموي بشروطه وأيمانه ـ سنورد في هذا الفصل بعض أعماله تجاههم وبعض نواياه بهم. وفي قليل من هذه الامثلة كفاية عن الكثير آثرنا تركه أو خفي علينا علمه .
  وقد خسر تاريخ هؤلاء الشيعة انصاف المؤرخين بعد ذلك ، ولعب التعصب الذميم دوره المهم في طمس معالم هذا التاريخ أحفل ما يكون بالقضايا البارزة التي كان من حقها أن تأخذ مكانها من عبرة الاجيال ، وكان للسلطات الحاكمة عملها في توجيه ما يكتب للتاريخ أو يملى للحديث ، حتى فيما يتناول أئمة الشيعة فضلاً عن زعمائهم أو سوادهم .
  ( روى ابن عرفة المعروف بنفطويه وهو من أكابر المحدثين وأعلامهم في تاريخه ما يناسب هذا ... قال : ان اكثر الاحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية تقرباً اليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم ! .
  ( وقال المدائني عن عصر معاوية : وظهر حديث كثير موضوع ،

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 300 _

  عرفنا ـ الى هنا ـ بواعث كل من الفريقين فيما تطلعا به الى الصلح ، وعرفنا شروط كُلٍ فيما اعتبره ضماناً لبواعثه تلك .
  وعرفنا ـ بعد ذلك ـ أنهما أرادا الجنوح الى التصالح عملياً ، فاجتمعا في الكوفة ، وكان من المنتظر لهذا الاجتماع التاريخي أن يبعث بينهما من التقارب ما لم تبعثه الصكوك التحريرية ولا المقاولات الرسمية ، التي تبودلت بينهما في الصلح ، لولا أن معاوية لم يشأ ان يلتزم في هذا الاجتماع جانب المجاملة ، رغم أنه كان في ظرفه الخاص أحوج الرجلين الى هذا النمط من السلوك ، وانه ليمر ـ اذ ذاك ـ بأدق امتحان في سياته العامة وفي شخصيته كملك يريد ان يحكم شعباً ما أحبه منذ أبغضه ـ على حد تعبير الاحنف بن قيس ـ ، فاجتمع بالحسن ولكن كما يجتمع ( ابن أبي سفيان ) بابن فاتح مكة ، لا كما يجتمع متناجزان القيا السلاح وتبادلا وثائق الصلح ، وكان من هذا الخلق الثابت لمعاوية ـ رغم ما يتكلفه من الحلم الكثير أحياناً ـ ما هو أداة الحسن في حملته المنظمة التي جردها عليه في ( ميدانه الثاني ) ـ كما اشير اليه في آخر فصل مضى ـ .
  واذ قد عرفنا ذلك كله من فصولنا القريبة السابقة ، فلنعرف الآن موقف كلٍّ من شروطه وفاءً ونقضاً ، وها نحن أولاء من هذه المرحلة بازاء النقطة الحساسة التي طال حسابها في التاريخ .
  وكان بودنا لو طوينا كشحاً عن استنطاق هذا الموضوع ، بما تثيره تفاصيله من ذكريات : بعضها ألم ، وبعضها فضيحة سافرة ، وقليل منها تاريخ تعافه الامجاد ، ولكننا ـ وقد أخذنا على أنفسنا في هذا الكتاب مهمة البحث التحليلي المكشوف ، عن قضية الحسن ومعاوية ـ لا نجد مجالاً