في ذلك كالذي يزل عن حقه في حياته جهادا في سبيل الله ، ويبيع الله نفسه ليشتري منه جنته .
  2 ـ واما صبره
  فانه صدى جهاده ، والحصن الذي يلجأ اليه في مختلف ميادينه.
  ولقي من زمانه ومن أهل زمانه ، الحرمان و الخيانة و الغدر و المؤامرات و النفاق و الغيلة و نقض العهود ، و بهتان الاعداء و سبابهم ، و ازورار الاصدقاء و عتابهم ، وما لم يلقه أحد غيره فيما نعهد من زعماء التاريخ ، وتفجرت عليه من كل مكان ، المحن السود والنكبات الفواتن .
  فقابل كل ذلك بالصبر الذي لا توازنه الجبال .
  وعالج الاوضاع التي دارت حوله ، بما اوتي من الحكمة البالغة الحنكة الموهوبة ، متدرّجا معها من البداية الى النهاية ، لا يستسلم للغضب ولا يتأثر بالعاطفة ، ولا يستكين للحوادث ، ولا يتقلقل للمربكات ، ولا تهزّه الا نُصرَةُ الدين كلمة القرآن ودعوة الاسلام .
  وهذا هو الحسن السبط على حقيقته التي خلقه الله عليها ، ولن ينكر على الحسن خصاله هذه ، الا متعنت جاهل ، أو عدّو متحامل ، وكانت مزاياه في عصره مُثُلَ المزايا ، وكان كرمه في الناس مضرب المثل ، وكان من حلاوة حديثه ، و سرعة بديهته ، و قوة حجته ، و هيبته ، و حلمه ، و حجاه ، ما شهد به أعداؤه فضلا عن أصدقائه .
  انظر الى تقريظ معاوية له في خواتيم ( المشاجرات ) التي كان يثيرها عليه في مجالسه ، والى اطرائه اياه في مناسبات أخرى لا تتصل بهذه المشاجرات .
  فقال مرة وهو يطري حلاوة حديثه :
  ( ما تكلم عندي أحد أحب اليَّ اذا تكلم ان لا يسكت من الحسن ابن علي (1) .

---------------------------
(1) اليعقوبي ( ج 2 ص 202 ) ، وابن كثير ( ج 8 ص 39 ).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 202 _

  وقال عنه وقد ذكر عنده :
  ( انهم قوم قد الهموا الكلام (1) .
  وقال عن هيبته وحسن محضره :
  ( والله ما رأيته الا كرهت غيابه وهبت عتابه (2) .
  وقال ايضا :
  ( فوالله ما رأيته قط ، جالسا عندي ، الا خفت مقامه وعيبه لي (3) .
  وقال يمدحه :
(  أما حسن فابن الذي كان قبله      اذا سار سار الموت حيث يسير
وهـل يـلد الرئبال الا iiنظيره      وذا  حـسن شـبه لـه ونظير
ولـكنه  لو يوزن الحلم والحجا      بـأمر لـقالوا يذبل و ثبير (4)ii

  نعم هذا هو معاوية وهو عدو الحسن (رقم 1) ، واما مروان بن الحكم ، فهو الذي كان يقول عن الحسن عليه السلام : ( انه ليوازن حلمه الجبال (5) .
  وكان التظاهر بالثناء على الحسن من عدويه هذين ، دليل قوة الحسن في الناس ، والا فدليل خضوعهما للامر الواقع ، أو هو الستار الذي يسدله الخصم على الفكرة التي يجهز بها على خصمه .
  اما هذه المشاجرات التي مررنا على ذكرها مرورا ، والتي حفل بكثير منها بعض الموسوعات ذات الشأن ، فهي ( الحُدَيَّا (6) التي كان ينشط لها

---------------------------
(1) العقد الفريد ( ج 2 ص 323).
(2) البحار ( ج 10 ص 116 ).
(3) شرح النهج ( ج 2 ص 101 ).
(4) ابن ابي الحديد ( ج 4 ص 73 ).
(5) ابن ابي الحديد ( ج 4 ص 5 و ص18 ).
(6) : ( المنازعة والمباراة ).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 203 _

  معاوية في مضطربه مع الحسن ، حين يوجد الحسن في الشام [ بعد الصلح ] أو حين يوجد هو في المدينة .
  وكانت مجالس يستعد لها معاوية ، بالاقوياء من أصدقائه الخلّص واقرابئه الأدنين ، الذين يساهمونه النظر الى أهل البيت عليهم السلام كالعائق لهم عن النفوذ الى قلوب الناس ، فيجمع اليه ـ عمرو بن العاص ، عتبة بن أبي سفيان ، وعمرو بن عثمان بن عفان ، والمغيرة بن شعبة ، والوليد بن عقبة بن أبي معيط ، ومروان بن الحكم ، وعبد الله بن الزبير ، وزياد أبن ابيه ، وربما جمع بعض هؤلاء دون بعض ، وربما ضم اليهم آخرين ، ثم يدعو الحسن عليه السلام ، فلا يزال يبرز لمشاجرته رجال الحلبة من هذا الحزب ، الواحد تلو الاخر ، مشبوب الحفيظة ، وارم الانف لا يدع شيئا يقدر عليه فيما يتحدّى به الحسن الا أتاه ، ليشفي نفسه وليرضي هواه ، فاذا هي مؤامرة في أسلوب مشاجرة .
  أما الحسن عليه السلام وهو ( الصخرة الململمة التي تنحط عنها السيول ، وتقصر دونها الوعول ، ولا تبلغها السهام ) ـ على حد تعبير عبد الله بن جعفر عنه (1) ـ ، فقد كان له من براءة القلب وروحانية النفس وشعار الطهر ، ما يربأ به عن النزول الى مثل مهاراتهم ، ولكنه كان يجيبهم وهو يقول : ( أما والله لوالا أن بني أمية تنسبني الى العجز عن المقال لكففت تهاونا ) .
  ويردّ عليهم بالحجة القوية البالغة التي ترغم ذلك العناد الصاعد ليعود استكانةً وهزيمةً و ذهولاً .
  ويسعرض في بعض ردوده عليهم ، ميراث النبوة و ولاية الامر ، فيستدرجهم ببديهته التي تغترف من بحره المتدفق الزاخر ، الى الاعتراف له بحقه وبحق أبيه .
  ويمضي قائلاً فلا يزال بهم ، حتى يجزيهم على بذاءتهم المنكرة ، غير

---------------------------
(1) يراجع المحاسن والمساويء للبيهقي ( ج 1 ص 62 ).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 204 _

  مستعين ـ مثلهم ـ بالكذب ، ولا متذرع ـ مثلهم ـ بالبذاء ، بل يطعن كلاً على انفراده ، فيصيب منه أبرز مقوّماته ، في نسبه المعروف أو حسبه الموصوف ... وان أبلغ حدياك لخصمك ، أن تمسه في غروره وفي صميم مزاياه التي يخالها مناط أمجاده ، ومرتكز شخصيته .
  وكان الحسن في كل هذه المجالس ، الغالب القوي الى جانب الضعفاء المغلوبين .
  وكان أشد القوم شعورا بالضعف والتماسا للهزيمة [ في هذه المجالس ] كبيرهم الذي كان أكثرهم وسائل في القوة المادية الطيعة لاوامره ، وكان يغيظه أن يرى أشلاء اخوانه وبني عمومته ، مضرجةً بطعناتها النجل ، عند نهاية كل شجار .
  فيقول لهم آنذاك : ( قد كنت أخبرتكم و أبيتم ، حتى سمعتم ما أظلم عليكم بيتكم وأفسد عليكم مجلسكم ! ) .
  ويقول لهم : ( قد انبأتكم أنه ـ يعني الحسن ـ ممن لا تطاق عارضته ! ).
  ويقول وهو يخاطب مروان بن الحكم : ( قد كنت نهيتك عن هذا الرجل ، وأنت تأبى الا انهماكا فيما يعنيك ، اربع على نفسك ، فليس أبوك كأبيه ، ولا أنت مثله ، أنت ابن الطريد الشريد ، وهو ابن رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) الكريم ، ولكن رب باحث عن حتفه ، وحافر عن مديته ) .
  ويقول لعمرو بن العاص مؤنبا ومحرضا : ( طعنك أبوه ـ يعني أمير المؤمنين عليه السلام ـ فوقيت نفسك بخصييك ، فلذلك تحذره ! ).
  ويقول له في مجلس اخر : ( لا تجار البحار فتغمرك ، ولا الجبال فتبهرك ، واسترح من الاعتذار ! ) .
  و يندم ابن الزبير ، وهو اذ ذاك من ندماء معاوية ، على مشاجرته للحسن ( عليه السلام ) ، فيعتذر قائلا : ( اعذر ابا محمد فما حملني على محاورتك الا هذا ـ ويشير الى معاوية ـ ، أحبَّ الاغراء بيننا ، فهلا اذ جهلت أمسكتَ عني ، فانكم أهل بيت سجيتكم الحلم والعفو ... ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 205 _

  فيقول له معاوية وقد عزّ عليه أن يسمعه وهو يعتذر الى الحسن اعتذار المنهزم المغلوب : ( أما انه قد شفى بلابل صدري منك ، ورمى مقتلك فصرت كالحجل في كف البازيّ ، يتلاعب بك كيف أراد ، فلا أراك تفتخر على أحد بعدها ! ).
  ويقول في أعقاب مشاجرة اشترك فيها ابن العاص و مروان و ابن سمية في جهة ، و الحسن بن علي ( عليه السلام ) في جهة ، ما لفظه : ( أجاد عمرو الكلام لولا أن حجته دحضت ، وتكلم مروان لولا أن نكص ) ، ثم التفت الى زياد وقال : ( ما دعاك الى محاورته ، ما كنت الا كالحجل في كف البازي ! ) .
  فقال عمرو : ( الا رميت من ورائنا ؟ ) ، قال معاوية : ( اذاً كنت شريككم في الجهل ، أفاخر رجلاً جده رسول الله وهو سيد من مضى ومن بقي ، وأمه فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين ) ، ثم قال لعمرو : ( والله لئن سمع به اهل الشام ، لهي السوءة السوءاء ) ، فقال عمرو : ( لقد ابقى عليك ، ولكنه طحن مروان وزيادا طحن الرحى بثفالها ، و وطئهما وطء البازل القراد بمنسمه ! ) ، فقال زياد : ( قد والله فعل ، ولكن معاوية يأبى الا الاغراء بيننا وبينهم ) .
  وهكذا شهد على معاوية بالاغراء على هذه المهاترات كل من ابن الزبير ورياد صريحا ، وشهد ( عليه السلام ) في الكثير من ردوده عليهم ، قالوا : ( وخلا عبدالله بن عباس بالحسن ، فقبّل بين عينيه وقال : ( أفديك يا ابن عم والله ما زال بحرك يزخر ، وانت تصول حتى شفيتني من أولاد ... (1) .

---------------------------
(1) يراجع المحاسن والمساوىء للبيهقي ( ج 1 ص 59 ـ 64 ) ، والعقد الفريد ( ج 2 ص 323 ) ، والبحار ( ج 10 ص 116 ) .

وتجد خطب الحسن عليه السلام في هذه المشاجرات مجتمعة في كتابنا ( أوج البلاغة ) ـ فيما اثر عن الامامين الحسنين من الخطب والكتب والكلمات ـ مشروحا .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 206 _

  وكانت نصوص هذه المشاجرات بصيغها البلاغية ، وقيمها الادبية ، جديرة بالعرض ، كتراث عربي أصيل يدل بنفسه على صحة نسبه ويعطينا بأسلوبه وصياغته ، صورة عن ( أدب المشاجرات ) في عصره ، ولكن الذي رغّبنا عن استعراضها في سطورنا هذه ، ايغالها المؤسف بالتهتــار البذيء ، الذي بلغ به صاغة الاكاذيب الامويون غايتهم ، فأساءوا لانفسهم أكثر مما أرادوا بعّد وهم ، وما كانوا محسنين .
  واذ قد آثرنا الرغبة عن استعراضها هنا ، فلا نؤثر أن نتجاهل ـ في موضوع الكلام على صبر الحسن عليه السلام ـ ما بلغته هذه المجالس ، من الاساءة الى الحسن ، وما بلغه الحسن في نفسه من عظيم الصبر عليها ، وعظيم البلاء في التعرض لها ولا مثالها من اساليب معاوية وأحابيله ، سلما وحربا .
  ومما لا شك فيه ، انها كانت مجالس مبيتة ، وكان لها هدفها السياسي المقصود ، وهي من هذه الناحية ، أحد ميادين معاوية ، فيما شنه على الحسن وشيعته من حزب الاعصاب التي استبدل بها حرب الميدان .
  ثم كان من ميادين حربه ( الباردة ) ما سيجيء الالمام بطرف منه في الفصول القريبة .
  3 ـ التضحية
  واما النوع الفريد من تضحيته ، فهو موقفه من الحكم والسلطان ، وفي سبيل مبدئه .
  وقد تكون التضحية بالعرش من صاحب الحق به ، أشد دلالة على انكار الذات من التضحية بالنفس ، وانكار الذات في سبيل المبدأ ، أوضح صفات الحسن بن علي ( عليه السلام ) ، وأروع أدواته في جهاده الموصول الحلقات .
  وهي على كل حال ، آلم التضحيتين للنفس ، وأطولهما عناء في الحياة ، وأشدهما ارهاقا لكيان الانسان .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 207 _

  وقديما كان الحرص على العرش أعنف اثرا في نفوس القائمين عليه ، من الحرص على النفس بله المبدأ ، فترى العدد الكثير ممن فدى عرشه بنفسه ، ولا ترى الا عددا ضئيلا جدا ممن فدى نفسه بعرشه .
  وفي التاريخ صور بشعة كثيرة من قرابين العروش التي كان يفتدي الملوك عروشهم بها اولا ، وبأنفسهم أخيرا [ اذا لم يكن بد من الفداء بالنفس ] .
  وعلى مثل هذه النسبة من كثرة التضحية بالنفس في سبيل التاج وندرة التضحية بالتاج في سبيل النفس ، كان الفرق بين قيمتها المعنوية فيما يتواضع عليه الناس من القيم المعنوية للاشياء .
  وذلك هو سر ما تستأثر به الحادثة النادرة ، من حوادث السخاء بالعرش من اهتمام الناس ، ولغط الاندية ، وقالة الجماهير ، وهو سر ما تستثير من نهم المتطفلين الى الاشتباك بألوان النقاش ومختلف التحاليل والتعاليل ، ولا يروى التاريخ حادثة سلطان يتنازل عن عرشه ، ثم لا يختلف عليه الناس ، فمن مصوّب ومخطيء ، وعاذر وعاذل ، [ فقوم له وآخرون عليه ] .
  الا الحسن بن علي ( عليهما السلام ) .
  فقد خرج عن سلطان ملكه ، وضحّى بامكانياته الدنيوية كلها ، في سبيل مبدئه ، فما شك انسان قط في نيته واخلاصه واستهدافه المصلحة ، وسمّو تضحيته في الله. وسمي عامه ( عام الجماعة ) اشعارا بالاجماع على موافقته والاخذ برأيه ـ عمليا ـ .
  وتلك هي آية عظمته في التاريخ .
  وآية مقامه المكين من قلوب المسلمين .
  وآية سلطانه الروحي الذي لا يضيره نزع الصولجان .
  وشكا بعضهم عزوفه ـ بهذه التضحية ـ عن معركة السلاح وكان من هؤلاء أفراد من كبار شيعته ، ولكن أحدا ممن شكا ذلك بدوافعه الزمنية ،

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 208 _

  لم يشكَّ قط في صحة ما أتاه الامام بدوافعه الدينية ، من صلاح الامة ، وحقن دمائها ، والانتصار لاهدافها .
  وسترى فيما تقرأه قريبا ـ في الفصل الاتي ـ أن العاتيين لم ينصفوا الحسن فيما شكوه منه ، أو عتبوا به عليه ، وان الحل الذي اتخذه الحسن للخروج من مشاكله الاخيرة ، كان هو المخرج الوحيد لظرفه الخاص .
  ولم يكن الحسن بن علي ( عليهما السلام ) ، حين قرر النزول الى اصعب التضحيتين ألما في النفس ، وأفضلهما أثرا في الدين ، واقلهما حدوثا في التاريخ ، وأكبرهما قيمة في عرف الناس ، مثارا لشبهة ، أو مجالا لنقد ، أو هدفا لاتهام ، وأين يجد الاتهام أو الشبهة او النقد سبيله فيمن يختار من الوجوه أشدها على نفسه ، وأنفعها لغيره ، وأقربها الى ربه ، وهو هو الرباني المعترف به ، والمطهر بنص الكتاب عن كل ما يوجب شبهةً أو خطأ او اتهاما .
  ومتى كانت الدنيا من حساب الحسن ، حتى يطمع بالحياة فيها ، وحتى يستأخر على حسابها ما ينتظره ـ في لقاء ربه ـ من المقام المحمود ، و ـ في جوار جده وأبويه ـ من الكرامة ، يحبونه بها ويزلفونه الى الله تعالى شأنه ؟
  ومتى كان الحسن بن علي ، الرعديد الجبان ، حتى يخاف القتل ، فيتقيه بالتنازل عن ملكه ، ومن أين تَسمُتُ الى الحسن بن علي الجبانة يا ترى ؟ ، أمن أبيه اسد الله واسد رسوله ، أم من جديه رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) وشيخ البطحاء ، أم من عميه سيدي الشهداء العظيمين حمزة وجعفر ، أم من اخيه أبي الشهداء ، أم من مواقفه المشهورة في مختلف الميادين ، يوم الدار ويوم البصرة وفي مظلم ساباط (1) ، وهو ذلك الرئبال

---------------------------
(1) يراجع ( الفخري ) عن موقف الحسن يوم الدار ، و ( كتاب الجمل ) للمفيد عن مواقفه يوم البصرة ، و ( اليعقوبي ) عن بسالته في حادثة مظلم ساباط .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 209 _

  الذي ( اذا سار سار الموت حيث يسير ) على حد تعبير عدوه فيه ؟؟؟ [ والفضل ما شهدت به الاعداء ] .
  وكانت تضحيته بسلطانه لذاتها ، من أروع آيات شجاعته ، لو كانوا يشعرون .
  فأين هو الطمع بالحياة ، أو الخوف من القتل .
  وليس في موازين الحسن ، الا مبادئُه التي لا يوازنها في حسابه شي ء اخر ، فرأى أن يفدي مبادئه بسلطانه ليحفظ كيانها وكرامتها ، وليحميها من الايدي العادية التي لا تخاف عاجل عار ولا آجل نار ، وتولّى شطر هذه الخطة متساميا على الدنيا لا يتغير ولا ينحرف ولا يحيد ، فاذا به المنتصر في صميم الخذلان ، والفاتح في صميم الهزيمة ، والظافر في صميم الانهيار .
  ورضي لنفسه أن تحيا حياة أهون من آلامها الموت ، صيانة لاهدافه من أن تموت ، ورضي لنفسه أن تكون بكل وجودها أداة الخير للغير ، دون أيّ استغلال أو استئثار أو احتكار ، وهذا بمفرده ، قصارى ما يصل اليه أفذاذ المصلحين في التاريخ ، وقصارى ما تصبو اليه التربية الاسلامية لتحقيق وجهة النظر الاسلامي ، في نشر الاصلاح في الناس ، وفي تعبئة المبادىء الصحيحة في المجتمع .
  وكثير اولئك الذين خدموا مبادئهم ، بتحمل النوائب في أنفسهم ، الا أنّ أحدا من اولئك لم يبلغ مبلغ الحسن فيما تحمله ، من الوانها المختلفة ، التي اصطلحت عليه ، وصحبته كظله الملازم له حتى ختمت حياته ـ في نهاية المطاف ـ بالنكبة الكبرى .
  فكان ـ من جميع أطرافه ـ أمثولة الامام الصاعد في مثاليته ، والمصلح العظيم الذي اختط للمصلحين ، آلم التضحيات للنفس ، في سبيل الابقاء على المبدأ .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 210 _

  وقاد الخطوات المقبلة ، بما زهد فيه من حظوظ الدنيا العاجلة ، فكان زهده في دنياه ، وصبره على مثل حياته ، وتضحيته بملكه ، هو نفسه جهادا في سبيل الله ، وانتصارا في خلود المبدأ ، وأداته في الخلود .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 211 _

سرّ الموقف

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 212 _

  ولعلنا لم نأت الى الان ، بشيء ينقع الغليل ، أو يقنع كدليل فيما يرجع الى فهم السرّ الذي تجافى به الحسن ( عليه السلام ) ، عن الشهادة قتلا ونزل منه الى قبول الصلح عمليا ، وهنا نقطة التركز في قضية الحسن منذ حيكت من حولها الاقاويل الكثر ، والنقدات النكر ، وليس في ما تتناوله بحوثنا في غضون هذه الدراسة الواسعة الخطوات ، موضوع أجدر بالعناية وبالكشف وبالتحقيق من هذا الموضوع ، بماله من الاهمية الذاتية القائمة بنفسه ، وبما هو ( سر الموقف ) الذي لم يوفق لازاحة الستار عنه أحد في التاريخ ـ مدى ثلاثة عشر قرنا ونيفا ـ ! .
  ولكي نكون اكثر توفرا على الاخذ باسباب الغرض الذي نهدف اليه من هذا البحث ، نبدأ اولا بنقل تصريحات اشهر المؤرخين في الموضوع ، ثم نعود ـ بعد ذلك ـ الى غربلتنا الدقيقة للظرف القائم ساعة تسليم الحسن ، و الى نتائجنا من البحث .

(1) اليعقوبي في تاريخه :
  ( وكان معاوية يدس الى عسكر الحسن من يتحدث أن قيس بن سعد قد صالح معاوية وصار معه ، ووجه الى عسكر قيس ـ بعد هزيمة عبيدالله ابن عباس ومن معه ـ من يتحدث أن الحسن قد صالح معاوية و أجابه ، و وجه معاوية الى الحسن المغيرة بن شعبة وعبدالله بن كريز وعبدالرحمن ابن أم الحكم وأتوه وهو بالمدائن ، نازل في مضاربه ، ثم خرجوا من عنده وهم يقولون ويسمعون الناس : انّ الله

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 213 _

  قد حقن بابن رسول الله الدماء وسكن الفتنة وأجاب الى الصلح ، فاضطرب العسكر ، ولم يشكك الناس في صدقهم ، فوثبوا بالحسن ، فانتهبوا مضاربه وما فيها ، فركب الحسن فرسا له ومضى في مظلم ساباط ، وقد كمن الجراح ابن سنان الاسدي ، فجرحه بمغول (1) في فخذه ، وقبض على لحية الجراح ثم لواها ، فدق عنقه ، وحمل الحسن الى المدائن ، وقد نزف نزفا شديدا ، واشتدت به العلة ، فافترق عنه الناس ، وقدم معاوية العراق فغلب على الامر ، والحسن عليل شديد العلة ، فلما رأى الحسن ان لا قوة له به ، وأن اصحابه قد افترقوا عنه فلم يقوموا له ، صالح معاوية ... ).

(2) الطبرى :
  ( بايع الناس الحسن بن علي ( عليه السلام ) بالخلافة ، ثم خرج بالناس حتى نزل المدائن ، وبعث قيس بن سعد على مقدمته ( كذا ) في اثنى عشر الفا وأقبل معاوية في أهل الشام حتى نزل مسكن ، فبينا الحسن في المدائن اذ نادى منادٍ في العسكر : الا ان قيس بن سعد قد قتل فانفروا ، فنفروا ونهبوا سرادق الحسن ( عليه السلام ) ، حتى نازعوه بساطا كان تحته وخرج الحسن حتى نزل المقصورة البيضاء بالمدائن ، وكان عم المختار بن ابي عبيد عاملا على المدائن ، وكان اسمه سعد بن مسعود ، فقال له المختار وهو غلام شاب : هل لك في الغنى والشرف ؟ ، قال : وما ذاك ؟ ، قال : توثق الحسن وتستأمن به الى معاوية ، فقال له سعد : عليك لعنة الله ! ، أثبُ على ابن بنت رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأوثقه ، بئس الرجل انت !!، فلما رأى الحسن تفرق الامر عنه ، بعث الى معاوية يطلب الصلح وبعث معاوية اليه عبدالله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس ، فقدما على الحسن بالمدائن ، فأعطياه ما أراد وصالحاه ) .

---------------------------
(1) : ( نصل طويل ).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 214 _

(3) ابن الاثير في الكامل :
  ( فلما نزل الحسن المدائن ، نادى منادٍ في العسكر : الا ان قيس بن سعد قتل فانفروا ، فنفروا بسرادق الحسن ونهبوا متاعه ) .
  ( وساق حديث الطبري المذكور قبله ) ، ثم قال :
  ( ... وقيل انما سلم الحسن الامر الى معاوية ، لانه لما راسله معاوية في تسليم الخلافة ( كذا ) ، خطب الناس ، فحمد الله واثنى عليه وقال : انا والله ما يثنينا عن أهل الشام شكّ ولا ندم ، وانما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر ، فشيبت السلامة بالعداوة والصبر بالجزع ، وكنتم في مسيركم الى صفين ، ودينكم امام دنياكم ، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم ، الا وقد أصبحتم بين قتيلين قتيل بصفين تبكون له ، وقتيل بالنهروان تطلبون بثاره ، أما الباقي فخاذل ، وأما الباكي فثائر ، الا وان معاوية دعانا لامر ليس فيه عزّ ولا نصفة ، فان أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه الى الله عزوجل بظبا السيوف ، وان اردتم الحياة قبلناه واخذنا لكم الرضا ... فناداه الناس من كل جانب : البقية البقية ، وأمض الصلح ).

(4) ابن ابى الحديد في شرح النهج :
  ( عن المدائني ، قال : ثم وجه عبدالله بن عباس ( كذا ) ومعه قيس بن سعد بن عبادة مقدمة له في اثنى عشر الفا الى الشام ، وخرج هو يريد المدائن فطعن بساباط وانتهب متاعه ، ودخل المدائن وبلغ ذلك معاوية فاشاعه ، وجعل اصحاب الحسن الذين وجههم مع عبدالله يتسللون الى معاوية ،

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 215 _

  الوجوه وأهل البيوتات ، فكتب عبدالله بن عباس بذلك الى الحسن عليه السلام ، فخطب الناس و وبخهم و قال : خالفتم أبي حتى حكَّم وهو كاره ، ثم دعاكم الى قتال أهل الشام بعد التحكيم ، فأبيتم حتى صار الى كرامة الله ثم بايعتموني على أن تسالموا من سالمني وتحاربوا من حاربني ، وقد أتاني أن اهل الشرف منكم قد أتوا معاوية وبايعوه ، فحسبي منكم لا تعروني من ديني ونفسي ، وأرسل عبدالله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، وأمه هند بنت أبي سفيان بن حرب الى معاوية يسأله المسالمة ، واشترط عليه العمل بكتاب الله وسنة نبيه ، وان لا يبايع لأحد بعده ) .

المفيد في الارشاد :
  ( وكتب جماعة من رؤساء القبائل الى معاوية بالسمع والطاعة في السرّ استحثوه على المسير نحوهم ، وضمنوا له تسليم الحسن اليه عند دنوّهم من عسكره ، أو الفتك به ، وبلغ الحسن ذلك ، وورد عليه كتاب قيس بن سعد وكان قد أنفذه مع عبيدالله بن العباس عند مسيره من الكوفة ، ليلقى معاوية ويرده عن العراق ، وجعله أميرا على الجماعة ، وقال : ان أصبت فالامير قيس بن سعد ، فوصل كتاب قيس بن سعد يخبره أنهم نازلوا معاوية بقرية يقال لها الجنوبية بازاء مسكن ، وأن معاوية ارسل الى عبيدالله بن العباس يرغبه في المصير اليه ، وضمن له الف الف درهم ، يعجل له منها النصف ويعطيه النصف الاخر عند دخوله الى الكوفة ، فانسل عبيدالله في الليل الى معسكر معاوية في خاصته ، وأصبح الناس قد فقدوا اميرهم فصلى بهم قيس بن سعد ونظر في أمورهم ، فازدادت بصيرة الحسن بخذلان القوم له ، وفساد نيات المحكمة فيه بما اظهروا من السب والتكفير له واستحلال دمه و نهب امواله ، ولم يبق معه من يأمن غوائله الا خاصته من

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 216 _

  شيعة أبيه وشيعته ، وهم جماعة لا تقوم لاجناد الشام ، فكتب اليه معاوية في الهدنة والصلح ، وانفذ اليه بكتب أصحابه الذين ضمنوا له فيها الفتك به وتسليمه اليه ، فاشترط له على نفسه في اجابته الى صلحه شروطا كثيرة ، وعقد له عقودا كان في الوفاء بها مصالح شاملة ، فلم يثق به الحسن وعلم باحتياله بذلك ، واغتياله ، غير أنه لم يجد بدا من اجابته الى ما التمس من ترك الحرب وانفاذ الهدنة ، لما كان عليه أصحابه مما وصفناه من ضعف البصائر في حقه والفساد عليه والخلف منهم له ، وما انطوى عليه كثير منهم في استحلال دمه ، وتسليمه الى خصمه ، وما كان من خذلان ابن عمه له ، وميله الى عدوه ، وميل الجمهور منهم الى العاجلة وزهدهم في الآجلة ... ).
  أقول :
  ثم لا تجد في أكثر الموسوعات التاريخية الاخرى ، عرضا يحفل بشيء من التفصيل عن قضية الحسن ( عليه السلام ) ، يشبه هذه العروض ، على ما بينها من تضارب في استعراض الحقائق التاريخية ، و على ما فيها من نقص في العرض و اختزال في التعبير .
  فيرى أحدهم ـ كما رأيت ـ ان الذي طلب الصلح هو الحسن ، ويرى الاخر أنه معاوية ، ويرى بعضهم ان سبب طلبه الصلح أو قبوله اياه هو فتن الشام في المعسكرين [ مسكن والمدائن ] ، ثم يختلفون في نوع الفتنة ، بينما يرى البعض الاخر ان سبب قبول الصلح من جانب الحسن هو تفرق الناس عنه بعد اصابته ومرضه ، ويرى ثالث منهم أن السبب هو نكول الناس عن القتال معه كما يدل عليه جوابهم على خطبته ( بالبُقيَة البُقيَة ) وقولهم له صريحا ( وأمض الصلح ) ، ويرى الرابع ، ان فرار قائده وخيانة اصحابه واستحلال بعضهم دمه وعدم كفاية الباقين للقتال ، هو السبب لقبوله الصلح .
  ثم لا يزالون مختلفين في تسمية قائد المقدمة ، فيسميه أحدهم عبدالله ابن عباس ، ويسميه الثاني قيس بن سعد بن عبادة ، ويسميه الثالث عبيدالله

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 217 _

  ابن العباس ...
  وما انكى النكبة التي تتعرض لها القضية التاريخية ، حين يخبط بها مؤرخوها هذا الخبط ، و يخلطون حقائقها بموضوعاتها هذا الخلط .
  ومرت المصادر الاخرى على هذه القضية ، مرورها على القضايا الهامشية في التاريخ ، دون أن تستفزها الاحداث الكبرى ، التي حفلت بها هذه الحقبة القصيرة من الزمن ، التي هي عهد الحسن في الخلافة الاسلامية العامة ، وعهد الفصل بين السلطتين الروحية والزمنية ، وعهد انقلاب الخلافة الى الملك ، وعهد انبثاق الحزازات الطائفية في الاسلام .
  ولم يعن مؤرخو قضية الحسن من الصنفين ـ المفصلين والموجزين ـ بأكثر من الاشارة الى الظروف المتأزمة التي كان من طبيعتها أن تشفع لدى الحسن بقبول الصلح أو تضطرَّه اليه ، فمن مذعن ساكت لا يبدي رأيا ، ومن مصوب عاذر يتزيد الحجج ويعدد المعاذير ، ومن ناقد جاهل خفي عليه ( سر الموقف ) فراح يكشف عن سر نفسه من التعصب الوقح والتحامل المرير .
  ولم يكن فيما توفر عليه كل من الاصدقاء والناقمين في استعراضهم التاريخي للمآزق التي تعرض لها الحسن عليه السلام ، ما يحول بنسقه دون النقد الجارح [ أو قل ] ما يجيب بأسلوبه على السؤال المتأدب ، في عزوف الحسن عن ( الشهادة ) التي كانت ـ ولا شك ـ افضل النهايتين ، وأجدرهما بالامام الخالد .
  وكان الكلام على كشف هذا السرّ لو قدروا عليه هو نفسه الدليل الكاشف عن السبب الجوهري فيما صار اليه الامام من اختيار الصلح ، دون أن يحتاجوا الى جهد اخر في تعداد المحن أو استعراض المآزق الصعاب لان شيئا من ذلك لا يدلّ في عرف الناقمين ولا المستفهمين ، على انحصار المخرج بالصلح ، ولا يغلق في وجوههم ، احتمال ظرف الحسن للشهادة ،

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 218 _

  كما احتملها ظرف اخيه الحسين ، فيما كان قد اصطلح عليه من مضايقات هي في الكثير من ملامحها ، صورة طبق الاصل عن ظروف أخيه ، وقد خرج منها بالشهادة دون الصلح ، وكانت آية خلوده في تاريخ الانسانية الثائرة على الظلم .
  اذاً ، فلماذا لم يفعل الحسن اولاً ، ما فعله الحسين اخيراً ؟ .
  ألِجبُنٍ ـ واستغفر اللّه ـ وما كان الحسين بأشجع من الحسن جناناً ، ولا امضى منه سيفاً ، ولا اكثر منه تعرضاً لمهاب الاهوال ، وهما الشقيقان بكل مزاياهما العظيمة ، خُلُقاً ، وديناً ، وتضحيةً في الدين ، وشجاعة في الميادين ، وابنا أشجع العرب ، فأين مكان الجبن منه يا ترى ؟ .
  أم لطمع بالحياة ، وحاشا الامام الروحي المعطر التاريخ ، أن يؤثر الحياة ، على ما ادخره اللّه له من الكرامة والملك العظيم ، في الجنان التي هو سيد شبابها الكريم ، والطليعة من ملوكها المتوجين ، وما حياة متنازل عن عرشه ، حتى تكون مطمعاً للنفوس العظيمة التي شبت مع الجهاد ، وترعرعت على التضحيات ؟ .
  أم لانه رضي معاوية لرياسة الاسلام ، فسالمه وسلم له ، وليس مثل الحسن بالذي يرضى مثل معاوية ، وهذه كلماته التي أثرت عنه في شأن معاوية ، وكلها صريحة في نسبة البغي اليه ، وفي وجوب قتاله ، وفي عدم الشك في أمره ، وفي كفره اخيراً .
  فيقول فيما كتبه اليه أيام البيعة في الكوفة : ( ودع البغي واحقن دماء المسلمين ، فواللّه مالك خير في أن تلقى اللّه من دمائهم بأكثر مما انت لاقيه به (1) ! ... ) .
  ويقول وهو يجيب أحد اصحابه العاتبين عليه بالصلح : ( واللّه لو وجدت انصاراً لقاتلت معاوية ليلي ونهاري (2) .

---------------------------
(1) شرح النهج ( ج 4 ص 12 ).
(2) احتجاج الطبرسي (151).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 219 _

  ويقول في خطابه التاريخي في المدائن ( انا واللّه ما يثنينا عن أهل الشام شك ولا ندم ... ) .
  ويقول لابي سعيد فيما نقلناه عنه آنفاً : ( علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول اللّه لبني ضمرة وبني أشجع ولاهل مكة ، حين انصرف من الحديبية ، اولئك كفار بالتنزيل ، ومعاوية وأصحابه ( كفار ) بالتأويل .
  اذاً ، فما سالم معاوية رضا به ، ولا ترك القتال جبناً عن القتال ، ولا تجافى عن الشهادة طمعاً بالحياة ، ولكنه صالح حين لم يبق في ظرفه احتمال لغير الصلح ، وبذلك ينفرد الحسن عن الحسين ، اذ كان للحسين محرجان ميسّران من ظرفه ـ الشهادة والصلح ـ ولن يتأخر افضل الناس عن أفضل الوسيلتين ، اما الحسن فقد اغلق في وجهه طريق الشهادة ، ولم يبق أمامه الا باب واحد لا مندوحة له ومن ولوجه .
  وأقول ذلك وانا واثق بما أقول .
  وقد يبدو مستغرباً قولي [ أغلق في وجهه طريق الشهادة ] ، وهل شهادة المؤمن الذي نزل للّه عن حقه في حياته ، الا أن يقتحم الميدان مستقتلاً في سبيل اللّه ، تاركاً ما في الدنيا للدنيا ، وبائعاً للّه نفسه تنتاشه السيوف ، وتنهل من دمه الاسنة والرماح ، فاذا هو الشهيد الخالد ، وكيف يغلق مثل هذا على مجاهدٍ له من ميدانه متسع للجهاد ؟ ، وللحسن ميدانه الذي يواجه به العدوّ في ( مسكن ) ، فلماذا لم يخفَّ اليه ؟ ، ولم لم نسمع أنه وصله أو بارز العدوّ فيه ، أو اقتحمه اقتحامة الموت ، يوم ضاقت به الدنيا ، فسدّت في وجهه كل باب الا باباً واحداً ؟ ، وانه لو فعل ذلك فبرز الى ميدانه مستميتاً ، لاستمات بين يديه عامة شيعته المخلصين لاهدافه ، فانما كانوا ينتظرون منه كلمته الاخيرة لخوض غمرات الموت .
  نعم ، ومن هنا كان مهبّ الرياح التي اجتاحت قضية الحسن بين قضايا أهل البيت عليهم السلام ، ومن هنا جاءت الشبهات التي نسجت هيكل المشكلة التاريخية التي لغا حولها اللاغون ما شاء لهم اللغو ، فزادوا

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 220 _

  الواقع تعقيداً وابتعاداً به عن فهم الناس .
  ثم كان من طبيعة هذا اللغو ـ أبعد ما يكون عن التغلغل في الصميم من تسلسل الحوادث ـ أن يرتجل الاحكام ، وأن يتناول قبل كل شيء سياسة الحسن فينبزها بالضعف ، ويتطاول عليها بالنقد غير مكترث ولا مرتاب .
  وسنرى بعد البحث ، أيّ هاتيك الآراء مما اختاره الحسن أو مما افترضه الناقدون ، كان أقرب الى الصواب ، وانفذ الى صميم السياسة .
  وما كان الحسن في عظمته بالرجل الذي تستثار حوله الشبه ، ولا بالزعيم الذي يسهل على ناقده أن يجد المنفذ الى نقده والمأخذ عليه .
  واذ قد انتهينا الآن عامدين ، الى مواجهة المشكلة في صميمها ، وبما حيك حولها من نقدات ونقمات ، فمن الخير أن نسبق الكلام على حلها ، باستحضار حقائق ثلاث ، هنَّ هنا أصابع البحث التي تمتد بتدّرج رقيق الى كشف الغطاء عن السرّ ، فاذا الموضوع كله وضوح بعد تعقيد ، وعذر بعد نقمة ، وتعديل بعد تجريح .
  الاولى في بيان معنى الشهادة .
  والثانية في رسم صورة مصغرة عن الواقع الذي حاق بالحسن في لحظاته الاخيرة في ( المدائن ) .
  والثالثة في خطة معاوية تجاه أهداف الحسن ( عليه السلام ) .
  وسيجرنا البحث الى التلميح بحقائق تقدم عرضها في أطواء دراستنا السابقة في الكتاب ، ولكن الحرص على استيفاء ما يجب أن يقال هنا ، هو الذي سوّغ لنا هذا التجاوز فرأيناه جائزاً .
  1 ـ الشهادة في اللّه :

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 221 _

  وهي بمعناها الذي يصنع الحياة ، تضحية النفس لاحياء معروف او اماتة منكر .
  وليس منها التضحية لغاية ليست من سبل اللّه ، ولا التضحية في ميدان ليس من ميادين الامر بالمعروف والنهي عن المنكر .
  فلو قتل كافر مسلماً في ساحة جهاد ، كان المسلم شهيداً .
  ولو قتل باغ مسلماً في ميدان دفاع كان المسلم شهيداً .
  اما لو قتل مسلم مسلماً في نزاع شخصي ، أو قتله انتصاراً لمبدأ ديني صحيح ، فلا شهادة ولا مجادة ، ذلك لان الكرامة التي تواضع عليها تاريخ الانسانية للشهيد ، هي أجرة تضحيته بروحه في سبيل المصلحة العامة فلا الحوادث الشخصية ، ولا التضحيات التي تناقض المصلحة في خط مستقيم ، مما يدخل في معنى الشهادة .
  وقتلة اخرى ، أضيع دماً ، وأبعد عن ( الشهادة ) معنى واسماً ، هي ميتة رئيس يثور به أتباعه وذوو الحق في أمره ، فيلقونه ارضاً ، والمجموع في كل مجتمع هو مصدر السلطات لكل من يتولى شيئاً من أموره باسمه ، وكانت هذه هي القاعدة التي بنيت عليها السلطات الجماعية في الاسلام ، وعلى هذه القاعدة قال المسلم الاول لعمر بن الخطاب : ( لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقوّمناه بسيوفنا ) .
  وانما كانت هذه القتلة أضيع دماً ، وأبعد عن الشهادة اسماً ، لان الايدي الصديقة التي اجتمعت على اراقة هذا الدم ، كانت في ثورتها لحقها ، وتضافرها الناطق ببلاغة حجتها ، أولى عند الناس بالعذر ... ( ولان الامة التي ولّته هي التي تقيم عليه الحدود ) ـ على حد تعبير القفال الشافعي ـ .
  فعثمان ـ مثلاً ـ الذي كان ثالث ثلاثة من أكبر الشخصيات التاريخية ، التي هزّت الارض بسلطانها المرهوب ، مات مقتولاً بسلاح الثائرين من ذوي الحق في أمره ، فلم يستطع التاريخ ، ولم يوفق اصدقاؤه في التاريخ ،

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 222 _

  أن يسجلوا له ( الشهادة ) كما تقتضيها كلمة ( شهيد ) .
  أما ذلك العبد الاسود الفقير ، الذي لم يكن له من الاثر في الحياة ، ما يملأ الشعور أو يشغل الذاكرة [ جون مولى أبي ذر الغفاري ] ، فقد أرغم التاريخ على تقديسه ، لانه قتل في سبيل اللّه فكان ( الشهيد ) بكل ما في الكلمة من معنى .
  اذاً ، فليس من شروط الشهادة ولا من لوازم كرامتها ، أن لا تكون الا في العظيم ، وليس من شروط العظيم اذا قتل أيّ قتلة كانت ، ان يكون شهيداً على كل حال .
  ولندع الآن هذا التمهيد لنخطو عنه الى الموضوع الثاني ، ثم لنأخذ منه حاجتنا عند اقتضاء البحث .
  2 ـ صورة مصغرة عن الوضع الشاذ في المدائن :
  علمنا مما سبق ـ وبعض الاعادة ضرورة للبحث ـ أن خيرة أجناد الحسن كان في الركب الذي سبقه في مقدمته الى ( مسكن ) ، وأن الفصائل التي عسكر بها الحسن في ( المدائن ) كانت من أضعف الجيوش معنوية ، ومن أقربها نزعة الى النفور والقلق والانقسام .
  وعلمنا أنه فوجئ في أيامه الاول من المدائن ـ ولما يتلقَّ نجداته من معسكراته الاخرى ـ ببوادر ثلاث ، كانت نذر الكارثة على الموقف .
  1 ـ أنباء الخيانة الواسعة النطاق في ( مسكن ) .
  2 ـ الشائعة الاستفزازية التي ناشدت الناس بأن ينفروا ، لان قيس بن سعد ـ وهو القائد الثاني على جيش مسكن ـ قد قتل ! .
  3 ـ فتنة الوفد الشامي الذي جاء ليعرض كتب الخونة الكوفيين على الامام ، ثم خرج وهو يعلن في المعسكر أن الحسن اجاب الى الصلح! .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 223 _

  وفي هذا الجيش ـ كما قدمنا في الفصل (8) ـ ، أصحاب الفتن ، وأصحاب الطمع بالغنائم ، والخوارج ، وغيرهم ، ولم يكن لهؤلاء مرتع أخصب من هذه الفتن التي زرعتها هذه البوادر المؤسفة الثلاث .
  وجمع الحسن الناس فخطبهم وناشدهم سلامة النية وحسن الصبر ، وذكرهم بالمحمود من أيامهم في صفين ، ثم نعى عليهم اختلافهم في يومه منهم ، وكان أروع ما أفاده الحسن من خطابه هذا ، أنه انتزع من الناس اعترافهم على انفسهم بالنكول عن الحرب صريحاً ، واستدرجهم الى هذا الاعتراف بما تظاهر به من استشارتهم فيما عرضه عليه معاوية ، فقال في آخر خطابه : ( الا وان معاوية دعانا لامر ليس فيه عزّ ولا نَصفة ، فان أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه الى اللّه عزّ وجل بظبا السيوف ، وان أردتم الحياة قبلناه منه وأخذنا لكم الرضا ؟ ) ، فناداه الناس من كل جانب : ( البقية البقية وأمض الصلح (1) .
  أقول : وليس في تاريخ قضية الحسن عليه السلام روايتان كثر رواتهما حتى لقد أصبحت من مسلمات هذا التاريخ ، كرواية جواب الناس على هذه الخطبة بطلب البقية وامضاء الصلح ، ورواية ثورة الناس في المدائن انكاراً للصلح والحاحاً على الحرب!! ، وليت شعري ، فأيّ الرأيين كان هدف هؤلاء الناس ؟ .
  وهل هذه الا بوادر الانقسام الذي أشرنا اليه آنفاً ، بل ( الفوضى ) التي لن يستقيم معها ميدان حرب ، والتي لا تمنع ان يكون المنادون بالصلح من كل جانب هم المنادين بالحرب انفسهم .
  وما للفوضى ودعوة جهاد وصحبة امام ؟!
  وعلى أيٍّ ، فقد كان هذا أحد الوان معسكر المدائن وأحد ظواهر التلوّن في عساكره وتحكّم العناصر المختلفة في مقدراته .

---------------------------
(1) ابن خلدون وابن الاثير والبحار وغيرهم ـ وكنا عرضنا القسم الاول من هذه الخطبة فيما رويناه في تصريحات المؤرخين من هذا الفصل .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 224 _

  ولقد تدل ملامح النداء بالتكفير للحسن ( عليه السلام ) من قبل الثائرين عليه من جنوده هناك ، أنه كان لسان حال ( الخوارج ) ، وكانت هذه هي لغتهم النابية اذا استشرى غضبهم على أحد من المسلمين أو أئمة المسلمين ، وانهم اذ يستغلون هذه اللحظة ، أو يبعثونها من مرقدها ، فانما كانوا يقصدون التذرّع الى أعظم جريمة في الدم الحرام ، وفق مبادئهم الجهنمية التي طعن بها أحدهم الامام الحسن في فخذه فشقه حتى بلغ العظم! .
  وتدل ملامح النهب والسلب الذي مزّق الستار وتناول حتى رداء الحسن ومصلاه ، على أنه كان عمل الفريق الآخر الذي سمته المصادر ( أصحاب الطمع بالغنائم ).
  ويدل طغيان الفتنة وسرعة انتشار الاضطرابات في المعسكر على أنه صنيعة ( أصحاب الفتن ) الذين كان يعج بهم هذا الجيش منذ كان في الكوفة ومنذ انتقل الى المعسكرين تحت لواء الجهاد المقدس ! .
  وهكذا جمحت الفتنة في المدائن جماحها الذي خرجت به من أعنّة المخلصين والمنظمين ، وحال الاكثرون بأحداثهم دون قيام الاقلين بواجبهم ، ولم يعد لهذا الجيش من الاستقرار ما يستطيع به الثبات ، ولا من الاهداف الا الاهداف الطائشة. فان لم يتسنَّ لهم قتال معاوية فليقتلوا الحسن امامهم ، وان لم يبلغوا غنائم الحرب من أعدائهم فليتبلغوا بالغنائم من نهب أصدقائهم ، وان لم يمكنهم الفرار الى معاوية ـ كما فعل أمثالهم في المعسكر الثاني ـ فليكتبوا الى معاوية ليجيء هو اليهم !!!
  وكان هذا هو ما حفظه التاريخ على هذه المجموعة من الناس ، أمّا ما نسيه التاريخ أو تناساه أو حيل بينه وبين ذكره ، فذلك ما لا يعلمه الا اللّه عزّ وجل .
  تُرى ، فهل لو وضعنا معاوية مكان الحسن من هذه اللحظة أو من هذا الجيش بما لمعاوية من دهاء وسخاء ، أكان يستطيع أن يخرج من مأزقه بأحسن مما خرج به الحسن مضمون السلامة على مبادئه وخططه ومستقبله؟ .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 225 _

  ولكي نزداد تحريّاً للاسباب التي أغلقت في وجه الحسن طريق الشهادة الكريمة ، ننتقل بالقارئ الى الموضوع الثالث من مراحل هذه الجولة الكئيبة الخطوات .
  3 ـ خطة معاوية من أهداف الحسن ( عليه السلام )
  ومات بموت عثمان لقب ( الوالي ) عن معاوية ، ولا نعرف ما كان يجب أن يلقب به بعد ذلك ، ولا نوع مسؤوليته في العرف الاسلامي ، وقد علمنا أن الخليفتين الشرعيين علياً وابنه الحسن ( عليهما السلام ) لم يوّلياه ، فليس هو بالوالي ، وعلمنا أن الاسلام لا يتسع في تشريعه لخليفتين في عصر واحد ، فليس هو بالخليفة .
  اذاً ، فما معاوية بعد عثمان ؟ .
  لا ندري .
  نعم ، انه شهر السلاح في وجه هذين الخليفتين منذ عزل عن ولاية الشام ، ورأينا أن التشريع الاسلامي يثبت للقائم بمثل عمله هذا ، لقباً نشك أن يكون معاوية رضي به لنفسه ، وهذا اللقب هو ( الباغي ) .
  تُرى ، فهل كان هو يعرف لنفسه لقباً آخر غير زعامة البغاة ؟ .
  والمظنون أن معاوية في طموحه العتيد ، لم يكن بالذي يزعجه أن يظل مجهول اللقب ، أو محكوماً في ( الشرع ) بلقب الباغي ، مادام هو في طريقة الى غزو أكبر الالقاب بالقوة ، رضي الشرع أو أبى، فهو الملك ـ بعد ذلك ـ على لسان سعد بن أبي وقاص ، وهو ( الخليفة )