حول الحسن ( عليه السلام ) ، في ابان وجوده في المقصورة البيضاء بالمدائن !! ...
فانظر الى أيّ حد كان قد بلغ التفسخ الخلقي في الجيل الذي قدّر للحسن أن يتخذ منه أجناده الى جهاد عدوه .
قد يكون الفرد بذاته من ذوي الحسب ، وقد يكون على انفراده من ذوي السكينة ، ولكنه اذا انساح بضعفه المتأصل في نفسه مع العاصفة الطارئة ، واحتضنته الجماهير المتحمسة من حوله ، كان جديراً بان تغلب عليه روح الجماعة فلا يشعر الا بشعورها ، ولا يفكر الا بفكرها ، ولا يعمل الا بعملها ـ ويخالف ـ عندئذٍ ـ مشاعره الفطرية مخالفة لا تنفك في أكثر الاحيان عن الندم الجارح عند سكون العاصفة وتبدّل الاحوال .
وهكذا كان من السورة الجامحة في ضوضاء المدائن يومئذ ما أخضع لتياره حتى الشيعيّ الضعيف ، فنسي تشيعه ونسي عنعناته ، ونسي حتى المعنويات العربية الساذجة التي تتحلل من الدين على اختلاف نزعاته !! ...
فانه ان لم يكن امامك فولي نعمتك ، وان لم يكن ولي نعمتك فالكريم الجريح.
وهذا مثلٌ واحد ـ حفظه التاريخ ـ عن شيعيهم ، ظنك بخارجيهم وأمويهم وشكاكهم وأحمرهم ؟.
ومثلٌ واحد حفظه التاريخ ، يدل على أمثال كثيرة نسيها التاريخ أو تناساها.
هو ما أشار اليه الحسن نفسه في أجوبته لشيعته الذين نقموا عليه الصلح. قال : ( ما أردت بمصالحتي معاوية الا أن ادفع عنكم القتل
.
وأثر عنه بهذا المعنى كلمات كثيرة .
وللتوفر على فهم هذه الحقيقة بشيء من التفصيل الذي يخرج بنا الى القناعة بما أجمله الامام بهذا القول ، نقول :
لم يكن النزاع بين الحسن ومعاوية في حقيقته ، نزاعاً بين شخصين يتسابقان الى عرش ، وانما كان صراعاً بين مبدأين يتنازعان البقاء والخلود ، وكان معنى الانتصار في هذا النزاع ، خلود المبدأ الذي ينتصر له أحد الخصمين المتنازعين ، وكذلك هي حرب المبادئ التي لا تسجل انتصاراتها من طريق السلاح ، ولكن من طريق الظفر بثبات العقيدة وخلود المبدأ ، وربما ظفر المبدأ بالخلود ولكن تحت ظل اللواء المغلوب ظاهراً .
وانقسم المسلمون يومئذ ، على اختلاف رأيهم في المبدأين ، الى معسكرين يحمي كل منهما مبدأه ، ويتفادى له بكل ما أوتي من حول وقوة .
فكانت العلوية والاموية ، وكانت الكوفة والشام .
ونخلت الادوار الاستفزازية التي لعبها معاوية ، باسم الثأر لعثمان ، معسكر الشام من شيعة عليّ وأولاده ( عليهم السلام ) ، فكان لابد لهؤلاء أن ينضووا الى معسكرهم في الكوفة ، وفي البلاد التي ترجع بأمرها الى الكوفة ، غير مروعين ولا مطاردين .
واجتمع ـ على ذلك ـ في الكوفة والبصرة والمدائن والحجاز واليمن عامة القائلين بالتشيّع لأهل البيت ( عليهم السلام ) .
وخلص الى عاصمة الامام في العراق من الامصار كلها ، الثقل الاكبر من أعلام المسلمين ، وبقايا السيوف من المهاجرين والانصار ، فكانت كوفة علي على عهد الخلافة الهاشمية ، مباءة الاسلام ، والمركز الذي احتفظ بتراث الرسالة بأمانة وصبر وايمان .
وكان طبيعياً ان يستجيب لدعوة الحسن ، في زحفه للموقعة الفاصلة بين المبدأين ، عامة هذه النخبة المختارة المتبقية في الكوفة بعد وفاة أبيه ( عليه
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 239 _
السلام ) ، من شيعته وشيعة أبيه وصحابة جده ( صلى اللّه عليه وآله وسلم )، فاذا هم جميعاً عند مواقعهم من صفوف وحداتهم ، في الجيش الذي يستعدّ في ( النخيلة ) .
ولم يكن في الدنيا كلها ، قابلية أخرى لصيانة التراث الاسلامي على وجهه الصحيح ، كالقابليات التي لفّها جناح هذا الجيش ، بانضواء هذه الكتل الكريمة اليه ، وفيها أفراد الاسرة المطهرة من الهاشميين .
واحتضنت وحدات النخيلة مع هؤلاء ، أجناساً كثيرة من الناس ، أتينا ـ فيما سبق ـ على عرض واسع لمختلف عناصرهم وشتى منازعهم ونتائج أعمالهم .
وكان المضيّ في الزحف ضرورة اقتضاها الظرف الطارئ كما أشير اليه آنفاً .
وما هي الا أيام لم تبلغ عدد الاصابع ، حتى انتظم المعسكران في ( المدائن ) و ( مسكن ) أقسام الجيش كلها ، فكان في كل منهما جماعة من الطبقة الممتازة في مسلكها ومعنوياتها واخلاصها ، وجماعات أخرى من طبقات مختلفة منوّعة .
وجاءت هزيمة عبيد اللّه بن عباس ومن معه الى معاوية ، أشبه بعملية تصفية قد تكون نافعة ، لو لم تعزّزها نكبات أخرى من نوعها ومن غير نوعها ، ذلك لانها نخلت معسكر مسكن ، وهو المعسكر الذي نازل العدو وجهاً لوجه ، من الاخلاط التي كانت العضو الفاسد في هذا الجيش .
أما في المدائن فقد كان الحسن وخاصته في سواد من أشباه المهزومين لا يتسنى لهم الوصول الى معاوية فيفرون ، ولا يستفزّهم الواجب فيرضخون ، وكانوا في المستقبل القريب ، أداة الكارثة التاريخية ، بما حالوا بين الحسن وبين أهدافه من هذه الحرب ، وبما أغلقوا عليه من طريق الشهادة الكريمة ، وبما أفسدوا عليه كل شيء من أمره ، ( كما مرّ
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 240 _
بيانه قريباً ) .
ولنفترض الآن أن شيئاً واحداً كان لا يزال تحت متناول الحسن في سبيل الاستمرار على الحرب ، أو في سبيل الامتناع على الصلح .
ذلك هو أن يصدر أوامره من حصاره في ( المدائن ) الى انصاره في ( مسكن ) بمباشرة الحرب ، تحت قيادة القائد الجديد ( قيس بن سعد بن عبادة الانصاري ) ، الرجل العظيم الذي نعرف من دراسة ميوله الشخصية ، أنه كان يؤثر الحرب حتى ولو صالح الامام
(1) ، واذا كانت ثورة المشاكسين في المدائن ، قد حالت دون تكتيب هذا الجيش للقتال ، فما كانت لتحول دون ارسال الاوامر الى المخلصين الاوفياء في جيش مسكن بالحرب ، ان سراً وان علناً .
ومن المحتمل أن كثيراً من المغلوبين على أمرهم من مجاهدة المدائن المخلصين ، كانوا يستطيعون التسلل الى ( مسكن ) لانجاد القوات المحاربة هناك ، فيما لو وجدوا من جانب الحسن استعداداً لهذه الفكرة او تشجيعاً عليها .
ولعل من المحتمل ايضاً ان الامام نفسه كان يستطيع هو ايضاً وبعد تريث غير طويل ، ينتظر به خفوت الزوابع الدائرة حوله في المدائن ، أن يخفّ الى مسكن حيث النصر الحاسم ، أو الشهادة بكل معانيها الكريمة في اللّه وفي التاريخ .
فلماذا ينزل الى الصلح ، وله من هذا التدبير مندوحة عنه ؟ .
نقول :
ربما كان في مستطاع الحسن اصدار هذه الاوامر في لحظاته الاخيرة في المدائن ، وربما لم يكن .
---------------------------
(1) يراجع عن هذا ابن الاثير ( ج 3 ص 162 ) .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 241 _
وعلى كل من التقديرين ، فما كل مندوحة لوحت بنجاح ، يجوز الاخذ بها ، ورب تدبير في ظرف هو نفسه مفتاح مآزق صعابٍ لظرفٍ آخر ، وهذه هي القاعدة التي يجب الالتفات اليها عند الاخذ بأيّ اقتراح في أيّ من المآزق .
وهنا ايضاً ، فهل فكَّر مقترح هذا التدبير ، في المدة التي كان يمكن أن تستوعبها حرب أربعة آلاف ـ هم جيش الحسن في مسكن ـ لستين الفاً هم جيش معاوية أو ثمانية وستين الفاً ؟ واستغفر اللّه ، بل حرب مجموعة من جيش تنازل مجموعة من جيش تزيدها خمسة واربعين ضعفاً ! [ ارجع الى تحليل النسبة العددية بين الفريقين عسكر مسكن وعسكر الشام في الفصل ـ 11 ـ ] .
وهل فكَّر مقترح هذه المندوحة ، فيما عسى ان يكون موقف الحسن عند انتهاء اللحظات القصيرة من عمر هذه الحرب ، وعندما يتفانى المساعير من أنصاره في مسكن .
انه ولا شك الموقف الذي سيضطره ـ لو بقي حياً ـ الى التسليم بدون قيد ولا شرط .
وانه ولا شك الطالع الجديد الذي كان ينتظره معاوية للاجراءات الحاسمة بين الكوفة والشام ، الاجراءات التي لا تعدو الاحتلال العسكري المظفر بويلاته ونقماته التي لا حدَّ لفظاعتها في أهل البيت وشيعتهم ، وأخلق باحتلال كهذا أن يطوّح بكل أماني البلاد ، وبشعائرها الممتازة ، ومبادئها التي قامت على جماجم عشرات الالوف من صفوة الشهداء المجاهدين في اللّه .
ولا اخال أنّ أحداً يفطن الى هذه النتائج المحتمة ، ثم لا يحكم بفشل هذه المندوحة المنتقضة على نفسها ، وانّ من أبرز اخطائها انها تنقل الحسن ـ في أقصر زمان ـ من خصم مرهوب يملي الشروط على عدوه ، الى محارب مغلوبٍ لا مفرّ له من التسليم بدون قيد ولا شرط .
وهذا فيما لو انكشفت الحرب والحسن حيّ يحال بينه وبين
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 242 _
الاشتراك فيها .
وأما لو قدر لهذه الحرب القصيرة العمر ، أن تجتاح في طاحونتها حتى الحسن لينال الشهادة ، وافترضنا أنه كان قد استطاع التسلل الى مسكن والاشتراك في القتال ـ الامر الذي لا ينسجم وسير الحوادث هناك كما عرفت قريباً ـ فالجواب هو أن الشهادة التي يكون ثمنها امحاء المبدأ امحاءً أبدياً ، لا يمكن ان تكون وسيلة نجاح في اللّه ولا في التاريخ .
وان التاريخ الذي سيناط به ذكر هذه الحرب ، بعد شهادة الحسن وذيولها المؤسفة ، سيروي للاجيال من شؤون الحسن وحروبه ، ما لا يخرج بمفهومه عن معنى ( الخروج ) ، وذلك هو ما أردنا التلميح اليه في كلامنا على ( خطة معاوية تجاه أهداف الحسن ) من هذا الفصل .
ولكي نزيد هذا الاجمال توضيحاً نقول :
علمنا مما تقدم ، أن الصفوة من حملة الكتاب ، والبقية من الصحابة الابرار ، والنخبة المختارة من الشيعة الاوفياء ، كانوا قد اجتمعوا للحسن ( عليه السلام ) فيمن دلف به الى معاوية في زحفه هذا ، ولا نعرف أن احداً من هذا الطراز تخلَّف مختاراً عن تلبية الحسن فيما دعا اليه من الجهاد .
فكان الموقف في هذه اللحظة المبدئية الدقيقة بين الحسن ومعاوية ، أشبه بالموقف الآنف بين أبويهما رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأبي سفيان بن حرب يوم كان يبرز الايمان كله للشرك كله .
وعلمنا مما تقدم ايضاً أنه لم يكن في الدنيا كلها مجموعة اخرى تؤتمن على الثقل الاكبر من نواميس الاسلام ، والمبادئ المثالية الصحيحة على وجهها الصحيح ، مثل هذه المجموعة التي اجتمعت للحسن في هذا الزحف .
فكان معنى تنفيذ فكرة الحرب ، والتورّط بهذه الزمرة في القتال المستميت الذي لن ينكشف منهم على نافخ ضرمة قط ، هو التفريط بالثقل الاكبر الذي يحملونه ولا يحمله في الدنيا أحد غيرهم .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 243 _
وكان معنى التفريط به ، انقطاع الصلة بين عليّ واولاده الائمة الميامين ، وبين الاجيال الآتية الى يوم الدين .
ثم لتعودن قضية الحسن ـ بعد ذلك ـ أشبه بقضايا الاشراف العلويين ، الذين نهضوا في ظروف مختلفة من أيام الحكم الاسلامي ، يهتفون بالاصلاح ، ويحتجون بالرحم الماسة من رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم )، ثم غلبوا على امرهم ، فلم يبق من دعوتهم الا اسماؤهم في أطواء التاريخ أو في كتب الانساب .
وما يدرينا ، فيما لو صُفّي الحساب مع آل محمد تصفيته الاموية الاخيرة ، فقتل الحسن ، وقتل معه جميع أهل بيته ، وقتل معهم الصفوة المختارة من عباد اللّه المخلصين ، وانقلب الاسلام أموياً ، ماذا سيكون من ذكريات محمد ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) في التاريخ ؟ ، وماذا سيكون من شأن المثاليات التي نفخ الاسلام روحها في الصفوة من رجالاته ؟ ، وهل رجالاته المصطفون الا هذه الاشلاء التي طحنتها سيوف الشام في هذه الحروب ؟ .
وعلمنا ـ مما تقدم ـ مبلغ ما تهتز به أوتار معاوية بن أبي سفيان من العنعنات القبلية والانانيات والترات ، فهل لنا ـ وقد أيسنا من ذكر عليّ وأولاده في أعقاب هذه التصفية الا بالسوء ، أن نطمئن الى ذكر محمد ( صلى اللّه عليه وآله وسلم )وذكر تعاليمه ومبادئه الصحيحة بخير ؟ .
والعدوّ المنتصر هو معاوية بن أبي سفيان ، الذي ضاق بذكر الناس لاخي هاشم ( النبي ص ) في كل يوم خمس مرات كما تقتضيه السنة الاسلامية في ( الاذان ) ، حتى قال للمغيرة بن شعبة : ( فأي عملٍ يبقى بعد هذا لا أُمَّ لك ، الا دفنا دفناً
(1) !! ...
) .
---------------------------
(1) مروج الذهب ( ج 2 ص 343 ) ، وابن أبي الحديد ( ج 2 ص 357 ) ( قال مطرف بن المغيرة بن شعبة : وفدت مع أبي المغيرة الى معاوية فكان أبي يأتيه يتحدث عنده ، ثم ينصرف الي فيذكر معاوية ويذكر عقله ، ويعجب مما يرى منه ، اذ جاء ذات ليلة ، فأمسك عن العشاء ، فرأيته مغتمَّاً فانتظرته ساعة ، وظننت أنه لشيء حدث فينا أو في عملنا ، فقلت له : مالي أراك مغتماً منذ الليلة ، قال : يا بني اني جئت من أخبث الناس ، قلت له : وما ذاك ، قال : قلت له وقد خلوت به : انك قد بلغت مناك يا امير المؤمنين فلو أظهرت عدلاً وبسطت خيراً ، فانك قد كبرت ، ولو نظرت الى اخوتك من بني هاشم ، فوصلت أرحامهم ، فواللّه ما عندهم اليوم شيء تخافه ، فقال لي : هيهات هيهات ، ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل ، فواللّه ما عدا ان هلك ، فهلك ذكره ، الا أن يقول قائل أبو بكر. ثم ملك أخو عدي فاجتهد وشمر عشر سنين ، فواللّه ما عدا ان هلك فهلك ذكره ، الا أن يقول قائل عمر ، ثم ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه ، فعمل ما عمل وعمل به ، فواللّه ما عدا أن هلك ذكره وذكر ما فعل به ، وان أخا هاشم يصرخ به في كل يوم خمس مرات أشهد ان محمداً رسول اللّه ، فأي عمل يبقى بعد هذا لا ام لك ، الا دفنا دفناً ) .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 244 _
ورجاله المنتصرون هم : أخوه [ الشرعي ؟! ] ( زياد ابن ابيه ) ، والصحابي المسنّ ( عمرو بن العاص ) ، والداهية [ النزيه ؟! ] ( المغيرة بن شعبة ) ، وفاتح الحرمين !! ( مسلم بن عقبة ) ، وامثال هذه النماذج من الغيارى على روحيات الاسلام !! ...
وفي مجازر ( زياد ) في الكوفة ، وفتن ( عمرو ) في صفين ودومة الجندل ، ومساعي أول مرتشٍ في الاسلام ( المغيرة بن شعبة ) لتنصيب يزيد للخلافة ولالحاق زياد للاخوة ، ومواقف ( ابن عقبة ) من المدينة والكعبة ، كفاية للاطمئنان على الرقم القياسي الذي صعدت اليه غيرة كلٍّ من هؤلاء ، على التراث الاسلامي ، وعلى مقدسات الاسلام ، وعلى مصالح المسلمين .
انهم عملوا ما عملوا ، وهم اذ ذاك على مسمع ومشهد ، من آل محمد والصفوة الباقية من تلامذة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومن أشياعهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، والواقفين لهم بالمرصاد .
فكيف بهم ، وماذا كانوا يعملون ، لو أصفرت الدنيا من آل محمد وعباد اللّه الصالحين ؟؟ .
ان النتائج الواضحة المستقيمة التي لا عوج في تأويلها ، هي أن الامام
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 245 _
الحسن عليه السلام لو سخا بنفسه وبشيعته ، وفرضنا أنه كان قد استطاع حضور ميدانه في ( مسكن ) ، لحكم على نفسه بالموت حتى لا يبقى اسمه الا في كتب الانساب ، وعلى مبدئه المقدس بالاعدام حتى لا يبقى منه أيّ أثر بين سمع الارض وبصرها ، ولرأيت تاريخه المجيد وتاريخ بيته العتيد ، أسطورة مشوهة من أبشع الاساطير ، يمليها معاوية كما يشتهي ، ويشرحها بعده مروان وآل مروان كما يشاؤون .
وكان معنى ذلك نهاية تاريخ الروحية الاسلامية ، وبداية تاريخ اموي له طابعه المعروف وخصائصه الغنية عن البيان .
وفي الحديث الشريف : ( لو لم يبق من بني أمية الا عجوز درداء لبغت دين اللّه عوجاً
(1) .
ترى ، فهل كان في امكان الحسن غير ما كان ؟ .
وان أقل استقراء وتدبر ، يثبتان أنها كانت افضل طريقة للتخفيف من عرامة الاجراءات المتوقعة ، بل كانت الطريقة الوحيدة التي لا ثانية لها .
وحفظ الحسن بها ـ حين استيقن هذه النتائج كحقائق واقعة ـ خطوط اتصاله بالاجيال ، بل خطوط اتصال أبيه وجده عليهما الصلاة والسلام ، من طريق الابقاء على شيعته ، وأنقذ بذلك مبدأه من الابادة المحققة ، وصان تاريخه من التشويه والتزوير والمسخ والازدراء.
وانتزع من الخذلان الذي حاق به في دنياه ، الانتصار اللامع لروحيته وعقيدته واخراه .
وهكذا ترك الدنيا ليحفظ الدين .
وذلك هو طابع الامامة في هذه الزمرة المباركة من آل اللّه .
---------------------------
(1) الخرائج والجرائح لسعيد بن هبة اللّه الراوندي المتوفى سنة 573 ( ص 228 ) .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 246 _
القسمُ الثالث
الصُّلح
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 247 _
دوافع الفريقين للصُّلح
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 248 _
وما كان بدعاً من محاولات معاوية فيما يهدف اليه ، أن يبتدر هو الى طلب الصلح
(1) ، فيعطي الحسن كل شرط ، ليأخذ عليه شرطاً واحداً هو ( الملك ) .
وقرر معاوية خطته هذه ، في بحران نشاط الفريقين للحرب ، وكان في توفره على تنفيذ هذه الخطة ، أعنف منه في عمله لتنظيم المعسكرات وتدبير شؤون الحرب ، ورأى ان يبادئ الحسن بطلب الصلح ، فان أجيب اليه فذاك ، والا فلينتزعه انتزاعاً ، دون أن يلتحم والحسن في قتال .
وكان عليه قبل كل شيء ، أن يصطنع في سبيل التمهيد الى غايته ، ظرفاً من شأنه ان ينبّه خصومه الى تذكر الصلح .
ومن هنا طلعت على معسكرات الحسن عليه السلام ، الوان الاراجيف ، وعمرت سوق الرشوات ، وجاء في قائمة وعوده التي خلب بها ألباب كثير من الزعماء أو المتزعمين : رئاسة جيش ، وولاية قطر ، ومصاهرة على أميرة اموية !! ... وجاء في أرقام رشواته النقدية الف الف [ مليون ] ! .
واستعمل في سبيل هذه الفكرة كل قواه وكل مواهبه وكل تجاربه ، واستجاب له كثير من باعة الضمائر الذين كانوا لا يفارقون الحسن ظاهراً فاذا هم عيون معاوية التي ترى ، وأصابعه التي تعمل ، وعملاؤه الذين لا يدخرون وسعاً في ترويج اهدافه .
---------------------------
(1) هذا هو الصحيح كما دل عليه خطاب الحسن فيما استشار به اصحابه في ( المدائن ) فقال : ( ألا وان معاوية دعانا لامر ليس فيه عز ولا نصفة ... ) ، وكما دلت عليه مصادر أخرى خلافاً لبعض المؤرخين الآخرين ، والترجيح لخطاب الحسن ( عليه السلام ) .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 249 _
وكانت الجيوش والاسلحة والحركات السوقية في الزحف الى المعسكرات ، هي الاخرى بعض وسائله الى الصلح ، ولم يشأ أن يبدأ بهم غاراته على العراق ، لانه لن يلتحم مع الحسن بقتال ، الا اذا اعيته الوسائل كلها ، والوسائل في عرف معاوية ، غير الوسائل في عرف الناس أو في عرف الدين الجديد .
ومن الحق أن نقول : ان وسائله في هذا الميدان ، كانت من النوع المحبوك الصنع ، الدقيق الاساليب ، الموفق كل التوفيق ، في سبيل الغرض الذي رمى اليه ، من اصطناع الظرف الخاص الذي يذكر عدوه بالصلح .
فاذا باع القائد في جبهة العراق ضميره لمعاوية بالمال ، وباع معه أكثر الرؤساء ضمائرهم بالعِدات .
واذا أصبح المعسكران في مسكن والمدائن يعجان بالشائعات التي راحت تمطرهما بوابل من الويل والثبور والمخاوف .
واذا أصبح الحسن نفسه لا يتسنى له تنفيذ أوامره في جيشه بما فعلته الاراجيف من حوله ، بل لا يستطيع الظهور بشخصه أمام الكثرة من جنوده ، الا ليغتال بين مضاربه وعلى سواعد أصحابه .
فهل من سبيل الا الصلح ؟ ...
انه الظرف الذي استعصى صلاحه بفساد ناسه ، ولا تثريب على الحسن من ظرفه اذا فسد ، وناسه اذا فشت فيهم الفتنة ، وان لانحراف الطبائع حكمه ، ولحداثة الاسلام خاصتها ، في القلقين من المسلمين أو في المفروضين على الاسلام فرضاً .
واذا قدر للحسن أن يخسر بخيانة جنوده ، أو ببراعة الفتن التي تسلح بها عدوه ( معركته الاولى ) ، فليكن منذ اليوم عند ( معركته الثانية ) التي لا تنالها خيانة الجنود ، ولا يضيرها انحراف الطبائع ، ولا تزيدها
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 250 _
دسائس العدوّ ولا أساليب فتنه البارعة الا مضاءً ونفوذاً وانتصاراً مع الايام .
وتلك هي ( الفذلكة ) التي أجاد الحسن استغلالها كأحسن ما تكون الاجادة ، واستغفل بها معاوية أشد ما يكون في موقفه من الحسن يقَظةً ونشاطاً وانتباهاً .
انه لبى طلب معاوية للصلح ، ولكنه لم يلبه الا ليركسه في شروط لا يسع رجلاً كمعاوية الا أن يجهر في غده القريب بنقضها شرطاً شرطاً. ثم لا يسع الناس ـ اذا هو فعل ذلك ـ الا ان يجاهروه السخط والانكار ، فاذا بالصلح نواة السخط الممتد مع الاجيال ، واذا بهذا السخط نواة الثورات التي تعاونت على تصفية السيطرة الاغتصابية في التاريخ .
وليكن هذا هو التصميم السياسي الذي نزل الحسن من طريقه الى قبول الصلح ، ولتكن هذه هي الفذلكة التي استغفل بها معاوية فكانت من أبرز معاني العبقرية المظلومة في الامام المظلوم .
وأيّ غضاضة على الحسن ـ بعد هذا ـ اذا هو وقّع الصلح وفق الخطط المرسومة .
وان له من حراجة ميدانه الاول ، ومن الامل بنتائج ميدانه الثاني ما يزين له حديث الصلح ، فضلاً عما يستأثر به هذا الحديث من ظاهرة الاصلاح في الامة ، وما يتفق معه من حقن الدماء وصيانة المقدسات ، وتحقيق وجهة النظر الاسلامي .
وكانت اشهراً لم تناهز عدد الاصابع العشر ، ولكنها ناهزت عدد النجوم هزاهز وزعازع ، وكانت قطعة من الزمن يتجه اليها القلب بكل ما يملكه من حبٍّ واعجاب ، فاحت بروائح النبوة ، وتجلت فيها مزايا الامامة الصادقة ، وتكشفت على قلتها وقصر مدتها عن حقائق كثير من