آخر ، كخلافة عمر و يزيد و الرشيد و غيرهم ، و امّا باختيار فئة من المسلمين ايّاه بادىء ذي بدء ، كخلافة أبي بكر ، وعثمان ، ومحمد رشاد .
ورجع الفريق الثاني من المسلمين في تعيين النائب عن الرسول ( صلى الله عليه واله وسلم ) الى نصوص صاحب الرسالة نفسه ، فلم ينسيبوا عنه الا من أنابه هو فيما اثر عنه .
.
وكما اختلفا في أسباب نصب الخليفة ، اختلفا في قابليته للتغيير والعزل ، فعلى النظرية الاولى ، كان حرياً بالعزل متى وفّق غيره للتغلب عليه ، أو متى وجد اقتضاء آخر ، وعلى نظرية النص ليس لاحد تغييره ولا عزله ، ولن يكون الخليفة المنصوص عليه معرّضاً لنقص يخلّ بمقامه كنائب نبي ، ومن هنا يرمز اليه بالعصمة من الله تعالى شأنه ، كما هي شأن النبي نفسه ( صلى الله عليه واله وسلم ) .
فالخلافة من النوع الاول سلطة عامة مقيدة بدستور خاص ، وهي بواقعها أشبه بهذه السلطات القائمة اليوم ، لا تختلف عنها الا من ناحية الاختلاف في الدستور ، أو كما تختلف بعض هذه السلطات عن بعض .
وقداستها ، فرع قابليات الرجل الذي اختير لها أو الرجل الذي تغلّب عليها ، وأحياناً كان أفضل الناس قدسا ، كما كان في وقت آخر من أشد الناس تمردا على الدين والخلق الصحيح .
وهي من النوع الثاني وعلى نظرية النص منصب آلهي تجب له الطاعة ديناً ، كما تجب للنبي ، وما هي بهذا المعنى الا ظل النبوة بمعناها الذي يتصل بالسماء ، ولكنها انما تتصل بالسماء عن طريق النبي ، وهو مصدر روحيتها كما هو مصدر النص عليها .
أما قداستها فطبيعية ثابتة لها ، ثبوتها للنبوة نفسها. ولا خليفة من خلفاء النص ، الا كان أقدس شخصية في الناس وأفضلهم .
وقديما كان موضوع ( الخلافة ) مثار شغب عنيف بين المسلمين ومصدر مآسٍ كثيرة مؤسفة في تاريخ الاسلام ، وما كان من السهل ولا من الممكن يومئذ ، ما نظنه اليوم ممكنا وسهلاُ ، في موضوع تقريب الفريقين بعضهما من بعض ، و جمعهما على نصف من الرأي ، ينبذ به الخلاف ، و يؤخذ معه بالواجب من الاخوة و النجوح الى الاصلاح .
وذلك هو ما يقتضيه الاهتمام بالجوهر دون الاعراض ، وبالدين الصحيح دون الاغراض ، وذلك هو الاسلام الذي يجب أن يتصل به المسلم الى الله على حقيقته ، دون أن تخدعه العنعنات أو العواطف أو المؤثرات .
وقضية الدين ـ وهو العلاقة بين العبد وربه و هو النقطة التي يرتكز عليها مسقبله في حياته الاخرى ـ لا تشبه القضايا الدنيوية التي يجوز عليها أن تخضع في الكثير من علاقاتها ، لهوى النفس أو لتقاليد البيئة ، أو لعواطف أو المؤثرات .
وقضية الدين ـ وهو العلاقة بين العبد وربه وهو النقطة التي يرتكز عليها مستقبله في حياته الاخرى ـ لاتشبه القضايا الدنيوية التي يجوز عليها أن تخضع في الكثير من علاقاتها ، لهوى النفس أو لتقاليد البيئة ، أو لعواطف الانسان وميوله وعصبياته .
أمّا صاحب الدين ،فلا همّ له في دينه الا الواقع مجرداً.
ولا نريد الآن ، في موضوع الخلافة ، الا جمع الكلمة على الواقع المجرد دون أيّ تصرّف أو تحريف .
فيعترف الشيعي بالخلافة ( من النوع الاول ) على واقعها يوم وقعت [ ولا ينبغي للاعتراف بأمرٍ ما أن يجاوز واقعه ] بوصفها سلطة عامة قائمة بين المسلمين ، لها ما تستحقه من الاطراء في كثير من آثارها في الاسلام.
ويعترف السني بالخلافة ( من النوع الثاني ) على واقعها ايضا بوصفها
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 181 _
واسطة بينه وبين النبي في دينه ، وهي الحقيقة التي تواترت بها الصحاح في مختلف البيانات النبوية التي لا يصح ـ علمياً ـ النقاش عليها ، مرويةً بأفضل الطرق التي يفزع اليها المسلم في أخذ دينه .
ثم يكون هذا هو الحل
(1) الجدير بالاعتبار ، الذي تتحلل به العقد الرئيسة بين الفريقين دون أيّ غبنٍ أو استئثار .
ولما كنا الآن بصد البحث عن أحد أفراد الصفوة المختارة من خلفاء النص ، فلنعلم بأن لموضوع بحثنا ـ الحسن بن علي ( عليهما السلام ) ـ خلافةً اسلامية من طراز فريد في تاريخ الخلائف في الاسلام ، ذلك لانه حظي ( بالخلافة ) منذ بيعته و وفاة أبيه ( عليه السلام ) ، على النوعين من معنييها اللذين يلتقيان عند هذا اللفظ في عرف المسلمين كافة ، وعلى أفضل وجه في كل نوع يحتمل التفاضل .
فهو الخليفة من النوع الاول ، ولكن ( بالانتخاب ) ، وهو الخليفة بالنص بلفظ ( امام ) .
ولعلك قرأت [ في الفصل الثالث ] نموذجاً من النصوص على تعيينه للمنصب ، وعرضا عابراً لطريقة اختياره و بيعته من الناس .
والحسن اذ يقف موقفه الاخير من معاوية ـ بين المبدأ و الملك ـ فلا يعني بالملك الا تلك السلطة التي كان مصدرها انتخاب الناس له دون المنصب الذي كان مصدره اختيار الله له ونص الرسول عليه ، لان هذا المنصب لا تناله يد في تغيير أو تبديل ـ كما نبَّهنا عليه ـ وانما هو من أمر الله ، وأمر الله لا مرد له .
وكذلك كانت الزعازع والنكبات التي اصطلحت على الحسن في دور
---------------------------
(1) ولعل من الخير ان ننبه هنا ، الى ان بعض منتحلة آراء الناس سبق الى نشر هذا الحل من دون أن، ينسبه الى صاحبه ، وكان الرجل أحد مستمعينا ـ في أكثر من مناسبة ـ حين نوهنا بهذا الرأي كنموذج من آراء هذا الكتاب التي ينفرد بها .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 182 _
خلافته ، فانها لا تعنى الحسن ( الامام ) وانما الحسن ( ذا الجيش والسلطان ) .
والحسن في امامته ، لا يناله تغيير و لا تمسه نكبة ، فهو كالقرآن في امامته. ولن يضير القرآن ، وهو المرجع الاعلى للمسلمين ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، خلاف الناس عليه ، ولا جموحهم عنه ، ولا نفارهم منه ، وهو هو في منزلة من امامة الناس ، وعلى حقيقته من كلمات الله ، رضي الناس أو أبوا ، عملوا بهداه أو عصوا ، أسلموه قيادهم أو جمحوا .
وكذلك كانت امامة الحسن ( عليه السلام ) .
و كل من القرآن و الحسن ، هو مركز الثقل في الاسلام ، كما يكون كل من القانون والمَلكِ في الدولة الدستورية ، هو مركز الثقل في الامة.
وأعني ( بالثقل في الاسلام ) ذاك الذي نوّه به رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، في الصحيح بل المتواتر من حديثه الشريف ، حيث يقول :
( اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض
(1) .
والحسن من العترة ـ يومئذ ـ واسطة العقد وامام القوم ، فهو من الاسلام كله ( مركز الدائرة ) الذي خلفّه صاحب الرسالة للمسلمين ، كما خلّف القرآن ( المرجع الاعلى ) .
وهل الامامة شيء آخر غير هذا ، ياترى ؟
وانظر الى الحسن حين تتحدث عن حقيقته ، كيف تتجاذبه كلمات
---------------------------
(1) أخرجه الحاكم ( ج 3 ص 148 ) ثم قال ( هذا حديث صحيح الاسناد على شرط الشيخين ) ، واخرجه الذهبي في تلخيص المستدرك معترفا بصحته على شرط الشيخين ، وروى حديث الثقلين الامام أحمد في مسنده ( ص 17 وص 26 ) واخرجه ابن ابي شيبة وأبويعلى وابن سعد في الكنز ( ج 1 ص 47) وغيرهم.
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 183 _
الله من شتى جوانبه : القرآن ، النبوة ، الامامة ، الثقلان ، الجنة ، الاصلاح ، حقن الدماء ، الوفاء بالعهد .
ثم ارجع بذاكرتك قليلاً الى خصمه الذي راح ينازعه على الطاعة المفروضة له في الناس ، فانظر أي كلمات تتجاذب الحديث عنه : الطمع ، المراوغة ، الفتنة ، الرشا ، نقض العهود ، المال والحطام ، الحروب وشن الغارات .
وانّ من هوان الدنيا أن ينازع فيها مثل هذا مثل ذاك !!
نعم ذاك هو الحسن ابن رسول الله ( الامام ) ، فما شأن الملك الدنيويّ وما شأن المال والحطام ؟
وذاك هو ( سيد شباب أهل الجنة ) ، كما وصفه جده الاعظم (ص) وراءه عنه جميع فرق الاسلام ، وهو الحديث الذي واكب القرآن في صحته وتواتره ، وجاوز كلام الآدميين في عمقه وبلاغته .
ونقول على هامش هذا الحديث : هل اختلج في رأس سائل ان يسأل : لماذا لم يوصف الحسن في هذا الحديث ، بأنه سيد شباب أهل الدنيا ؟ وهل كان في الدنيا الا سيد شبابها خلالاً مشرقة ، ومزايا مشرفة ، وكرائم مكرمات غلب عليها الناس ؟
من هاشم في ذراها وهي صاعدة الى السماء تميت الناس iiبالحسد قـوم أبـى الله الا ان تكون iiلهم مـكارم الـدين والـدنيا بلا iiأمد |
فما هو سرّ الطفرة التي جاوزت بهذا الحديث عالما بكامله ، لتضيف الحسن الى عالم آخر ، غائب غير حاضر ؟
انه ليغيب عن الذهن ( اليوم ) التنبّه الى هذا الاستفهام ، لان الذهن حين يلتفت اليوم الى الحسن ـ وقد اختاره الله اليه ـ لا يتصوره الا سيداً من سادات الجنة ، فليكن سيد شبابها ، ثم لا يفطن الى نسبة هذه السيادة للدنيا ـ ولان القرون [ الاربعة عشر ] لاكت الحديث و روته في مختلف
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 184 _
المناسبات ، كأكثر ما يروى حديث في مناسبة حتى أصبح كأنه كلمة واحدة لا يفهم الناس منها الا حسنا وحسينا ، دون ما تنبه الى الاستفهام.
ترى ، فهل فهم الناس منه ، يوم صدر من مصدر بلاغته الاول ، ما أراد به ذلك البليغ العظيم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
نعم انه أراد أن يلمح ـ اذ يبارك على ابنيه بهذا اللقب ـ الى أن الوطن العاق الذي ينبت الخيانة والغدر ، كهذه الدنيا ، والناس القلقين الذين مرنوا على النفاق ونقض المواثيق ، كشباب ذلك العصر ، لا يستحقان الاستظلال بسيادة هذين السيدين ، ولا يناسبانها ، فهما اذاً ، سيدا الشباب ، ولكن من ذلك النوع المختار الذي وفي لله في عهده ، وفي الوطن المختار الذي نزع الله فيه الغلّ من صدور ساكنيه ، وجعلهم فيه اخواناً على سرر متقابلين .
سيدا شباب أهل الجنة وكفى
وعلى اسلوب أقرب الى التوضيح : انهما اذا عقّت الدنيا وعقّ شباب هذه الدنيا حقهما ، وبغيا عليهما ، وأنكرا سيادتهما ، وأبقا منهما ، فلا بد لسيادتهما أن تسود ، ولكن في دنيا خير من هذه الدنيا ، وفي ناسٍ خير من هؤلاء الناس .
ولتبؤ هذه الدنيا بحرمانها من بركتهما وفضلهما وتوجيههما .
وليبؤ شبابها الخائن الغادر، بالعار والندامة ، وخزي التاريخ وعذاب القيامة.
والحديث ـ على هذا المفهوم ـ ملحمة نبوية ، تقرأ الغيب من وراء الغيب ، وتشير ـ باجمال الملاحم ـ الى ما سيلاقيه سيدا شباب أهل الجنة من شباب أهل الدنيا ، وتفرض لكل من السيدين عليهما السلام نصيبهما رابحاً غير خاسر .
وما من شك ، بأن من كان سيد الجنة أو سيد شبابها ، فانه سيد الناس وسيد الدنيا بأسرها .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 185 _
ولسيد الانبياء ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، فيما تحملته عنه الاسانيد الصحيحة من كلماته القصار ، بلاغته التي تتقاصر عن شأوها ملكات العظماء من بلغاء الناس ، ثم هي في فيضها العربي الرائع ، أعجوبة اللغة في سعتها وروعتها ، وان من أروع وجوه الامتياز في البلاغة النبوية اشعاعها الخاص الى المعاني الكثيرة باللفظ القليل ، فتارة بالتصريح و أخرى بالتلويح ، ومن هنا كان اتصالها الكثير بالنبوءات الصادقة التي لا يفارقها الاعجاز.
وكان هذا النوع من البلاغة ـ بذاته ـ دليل صحة الحديث النبوي اذا كان في صحته ما يقال .
ومن ذلك ، قوله ( صلى الله عليه وال وسلم ) في سبيل النص على امامة سبطيه الكريمين الحسن والحسين ( عليهما السلام ) : ( انهما امامان ان قاما وان قعدا ) ـ ولقد تتدبر ظاهر هذا الحديث فلا تفهم منه الا التصريح بامامة السيدين الحسنين ، ثم تتدبره من وراء هذا الظاهر ، فتراه يلمح بنبوءته الصادقة الى سيرة كل من هذين الامامين ، ويدل على أن احدهما سيقوم وأن الآخر سيقعد ، أو على أن أحدهما أو كلا منهما سيكون مرةً قائماً ، واخرى قاعدا ، ثم هو في كل من الحالين امام لا يجوز الخلاف عليه على اختلاف حاليه .
ولم يكن أحد في الاسلام أكثر استيعابا لنبوءات رسول الله( صلى الله عليه واله وسلم ) فيما أثر عنه ، من ابنه وخليفته الحسن بن علي ، فعلم ما عناه جده فيما أثبته له أو رفعه عنه ، في هذين الحديثين ، وفي أحاديث كثيرة أخرى .
وانه لأولى من يتمسك بنبوءاته ، ليتخذ منها مناهج حياته ومماته.
أو ليس هو ابن ذلك النبي (ص) ووارث شمائله ، ووصيّه على أمته ؟ فليكن ما يلقاه من قومه ، شبيه مالقيه النبي من قومه ، ـ في دعوته ـ ، وليقل اليوم مثل ما كان يقوله النبي يوم ذاك :
( اللهم اهدِ قومي فانهم لا يعلمون ) .
ولهذه النبوَّة من تلكم النبوة ، خاصّتها الكريمة ، التي غلب بها الحسن
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 186 _
سائر المسلمين في دنيا الاسلام ، واستغنى بها عن القوة المادية وعن الثروة والسلطان ، لانها بحقيقتها قوة وثروة وسلطان .
فليبغ عليه معاوية ، وليخنه عبيدالله بن عباس ولتخذله الكوفة ، فلن تخذله بنوته الكريمة من رسول الله ، ولن تخونه امامته المفروضة بأمر الله ، ولن تبغي عليه مودته الواجبة في كتاب الله.
وما قيمة الملك المحدود ، اذا قيس بالملك الروحي الذي لا تبلغه الحدود .
وما كان الاخفاق ولا الفشل ولا الموت ، بقادر على القضاء ـ ولو يوماً واحداً ـ على هذه المعنويات الروحية التي طبقت الجواء فخارا ، وتجارب بها التاريخ اعجاباً واكبارا ، وبسطت سلطانها على قلوب المسلمين ، لا يحرمها الزدهار عدوان المعتدين ، ولا يمنعها الاثمار انكار المنكرين الجاحدين ، وها هي ذي الى يوم الناس هذا لتصّاعد قدماً في عظمتها وعلى طريق خلودها ، في خط مستقيم بدون انحناءات.
والى هنا وقد تبينا ـ بهذا ـ الصلة الوشيجة بين الحسن وبين الينبوع الذي ينض بالخير على البشرية في مزالق الشر، وبالهدى على المسلمين في مواقف الفتنة و التيه ، وبالبركة على الدنيا في ساعات الجدب والحرمان ، وعرفنا الحسن بوصفه ابن رسول الله وسيد شباب أهل الجنة واماماً يشارك القرآن في امامته .
بقي علينا ان ننقاد بشيء كثير من العناية والاهتمام ، الى فهم ما يرمز اليه الحسن نفسه في ايضاح موقفه ـ بين الملك والمبدأ ـ .
ولنرسم الآن صورة موجزة مختارة من كثير كثير ، مما تناقلته عنه الحكايات المتناثرة بأسانيدها المتفاوتة في الثقة ، ثم لنستظهر ـ بعد ذلك ـ اشارته البليغة الواردة فيما نذكره من هذه الحكايات ، وهي ذات اهمية كبرى ، لتوجيهنا الى القول الفصل في الموضوع .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 187 _
ولنستمع الآن الى تصريح شخصي منه له قيمته في موضوعنا الخاص .
انه يجيب على السؤال العاتب الذي ألقاه عليه ( سليمان بن صرد ) الرجل الذي وصفه ابن قتيبة ( بسيد العراق ورئيسهم
(1) ، فيقول :
( ولو كنت بالحزم في أمر الدنيا وللدنيا أعمل وأنصب ، ما كان معاوية بأبأس مني وأشد شكيمة ، ولكان رأيي غير ما رأيتم ...
(2)
ومثل واحد يغني عن كثير مما أجاب به شيعته .
أما أجوبته لاعدائه ، وفيهم من يسرّه أن يؤذيه وقد أمن الشر من ناحيته ، كعبدالله بن الزبير الذي كان يعلن مناوأته لآل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فكان مما أجابه به قوله ( وتزعم أني سلسَّمت الامر ، وكيف يكون ذلك ـ ويحك ـ كذلك ، وأنا ابن أشجع العرب ، وقد ولدتني فاطمة سيدة نساء العالمين ، لم افعل ذلك ـ ويحك ـ جبنا ولا ضعفا ولكنه بايعني مثلك ، وهو يطلبني بترةٍ ، ويداجيني الموّدة ، ولم أثق بنصرته ...
(3) .
وتصريح آخر قصير ولكنه خطير ، ولعله على اجماله ، أبلغ تصريح في هذا الصدد ، وهو ما يجيب به شقيقه ومزاج مائه ، وشريك حوبائه في سراته وضرائه ( الحسين عليه السلام ) .
انه سأله : ( ما الذى دعاك الى تسليم الامر ؟ ) فقال : ( الذى دعا أباك فيما تقدم
(4) .
اقول : ولتكفنا هذه النماذج القليلة عن كثير من مثيلاتها ، شاهدا على ( الامتحان ) القاسي الذي تعرضت له الامامة من أصدقائها ومن اعدائها ، والذي خرجت منه ـ في نهاية المطاف ـ مزهوةً بدرجة الشرف في النجاح .
ونحن اذا نخلنا تصريحات الامام في هذا الصدد ، وجدناها تنكشف
---------------------------
(1 و 2) ابن قتيبة الدينوري في الامامة والسياسة ( ص 151 ).
(3) المحاسن والمساويء للبيهقي ( ج 2 ص 60 ـ 65 ).
(4) البحار ( ج 10 ص 113 ).
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 188 _
في شتي بياناتها عن العناصر الرئيسة الآتية .
1 ـ أنه لم يعمل للدنيا .
2 ـ أنه لو أراد أن يعمل للدنيا ، لكان أقوى عليها من خصومه ، و لكانت مناهجه في الحياة ، غير هذه المناهج .
3 ـ أنه لم يؤت في موقفه من ضعف نفس ولا ضعف سياسة ولا جبن ، ولكنه لم يجد الانصار المخلصين ، ومعني ذلك أن أداة النصر كانت متوفرة لديه ، لو قدّر له مؤازرون صادقون .
4 ـ أن هدفه الوحيد هو هدف أبيه من قبل ، وكان هدف أبيه فيما سكت عنه من حقه ، صيانة المعنويات الاسلامية من الانقراض ، والعقائد الدينية عن الانتقاض.
ولقد ترى ان معالم الامامة الروحية تتجلى واضحة بين عناصر هذه البنود الاربع ، لا تشتبه بضعف ولا تتصل بتراجع ولا تمتّ الى نكول ، ولكنها القوة القائمة بنفسها ، والدائبة على العمل لربها ، فلماذا تعمل للدنيا ، وما الدنيا من شاكلتها ولا هي من شاكلة الدنيا ، كذلك هي ( الامامة ) بمعناها الصحيح ، وبما هي ظل النبوة بمعناها الذي يتصل بالسماء ، وما قامت النبوة في الارض ـ يوم شاء الله لها ان تقوم ـ الا بالانصار المخلصين ، ولن تقوم الامامة اذا شاء الله لها أن تقوم الا بالانصار المخلصين ، وأين الانصار المخلصون من هؤلاء الذين يداجون المودة رئاءً وهم يطلبون بالترات ، ويبايعون على الطاعة المطلقة ثم يفرّون على غير مبالاة .
وكما لم يكن محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) الا رسولا قد خلت من قبله الرسل ، فما كان ابنه الحسن الا اماما في قلبه الايمان وعلى لسانه المثُل ، وهذه هي رسالته التي أريدت له وأريد لها .
ومُني بالموقف الحرج ، كذلك الذي مني به جده رسول الله( صلى
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 189 _
الله عليه واله وسلم ) يوم الحديبية وبني أشجع ، ونكب من أنصاره كما نكب أبوه ( عليه السلام ) بخذلان الناصر يوم ( السقيفة ) ويوم ( الشورى
(1) ، فلم لا يتخذ من جده وأبيه مثله ، وينجز على سنتّهما عمله ، وما من غضاضة عليه اذا كان فيما أتاه ثالث هذين الاثنين العظيمين .
ثم نقول على هامش ما ورد في دلالة البند الثاني : ان الحسن بن علي كان قد أخذ على نفسه أن يضع مواهبه وحياته وتاريخه وكيانه السياسي وما أوتي من جلد وقوة ، رهنا بخدمة مبدئه وقربانا في سبيل تخليده واعلاء كلمته ، وكان في خطوته الجبّارة التي ختم بها موقفه ـ بين المبدأ والملك ـ الامام الزاهد بالدنيا والخليفة الذي لم ينزل الى قبول المسؤولية من الناس الا ليصعد من طريقها الى اقامة المُثل الانسانية في الناس .
فهو فيما أخذ وفيما ترك ، كان المثل الاعلى للزعماء المبدئيين.
وجاءته الدنيا طائعة بملكها وثروتها ونفوذها ولذاذاتها ، و لم تكلّفه ثمنا لانقيادها اليه ، و اختصاصها به ، و عكوفها بين يديه ، الا ايثارها من ناحيته ، فأبى .
ولو أنه كان فعل ، فآثرها ( وحزم ونصب لها ) لكان ـ بدون شك ـ أربح انسان فيها ، لانه اذ ذاك الملك الذي جمع أفضل نسب في تاريخ الانسانية ، الى اعظم مملكة في تاريخ الممالك.
ولكنه كان عليه ، لو رضينا له أن يكون دنيويا ـ وفرض المحال غير محال ـ أن يتجرد من قيود وراثته وتربيته ، وأن يترك عنعناته الروحية جانبا ، وأن يكون هو غير الحسن بن علي وابن فاطمة وسبط رسول الله
---------------------------
(1) للتعريف بيوم السقيفة بحوثها التي استوفتها الكتب الطوال ، واما يوم الشورى ، فأن احسن عرض لموقف علي ( عليه السلام ) منه ، هو ما يدل عليه قوله هو لاصحاب الشورى يومئذ : ( لقد علمتم أني احق الناس بها من غيري ، و والله لا سلمن ما سلمت امور المسلمين ولم يكن فيها جور الا علي خاصة ، التماسا لاجر ذلك وفضله ، وزهدا فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه ... ) ـ النهج ( ج 1 ص 124 ) .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 190 _
( صلى الله عليه واله وسلم ) ، فيعمد الى ارضاء الطامعين ، واصطناع الموازرين وارشاء القلقين ، وفي جباية امبراطوريته المترامية يومئذ ، ما يتسع لشتي المطامع التي يتطامن لسحرها زعماء ذلك الجيل و ( أبناء بيوتاته النفعيون ) فاذا المنافقون كلهم مؤمنون طيّبون ، واذا الخونة كلهم أمناء مخلصون واذا القلقون رعية خاضعون ، واذا الناس كلهم مزيّفون وهم لا يشعرون !! .
ولرأيت عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وزياد ابن ابيه ورجال مدرستهم ، يلوذون ببلاط الحسن في الكوفة ، كما يلوذ به اليوم حجر بن عدّي وقيس بن سعد وعدّي بن حاتم ، أو كما يلوذون هم ببلاط معاوية هناك ، وما كانوا ليصطدموا من شمائل الحسن ـ اذ يلوذون به ـ بما يصدمهم من عناصر الفشل في معاوية وتاريخه ومواريثه وارتجالياته .
ولنجحت قضية الحسن ، على الشكل الذي لا يغرينا بأن نكتب عنها أو نخوض فيها ، أو نضحي لها وقتا ...
ولرأيت هذا الشعب الكوفي اللئيم ـ الذي واكب عهد الحسن في التاريخ ـ ولاءً وطمانينةً واستقرارا ، ما دامت خزائنه معرضة لشراء الضمائر وولاياته مفوّضة لاستجابة نهم الاكابر ، وما دامت سياسة دولته تداري ما حولها من الاهواء النفسية ، والاغراض الحزبية ، والاطماع الدنيوية ، اللهم الا ما ينبهنا اليه استقراء نفسيات الاقلية المتزّمته من ( شيعة أبيه ) الذين برهنوا في ثباتهم مع الحسن العازف عن الدنيا ، ومع أبيه الذي طلّق الدنيا ثلاثا ، على أنهم كانوا وراء حقائق لا وراء مطامع .
ولكن الذي كان يؤمل أن يخفف الضغط من ناحية هؤلاء أن بنوّة الحسن ـ التي لن تفارقه ـ من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ستكون هي شفيعه المقبول الشفاعة ، لدى هذه الزمرة من المؤمنين غير المزيفين .
وما ظنك بعد هذا ؟ فهل ترى أنه كان من مستطاع معاوية أن يقاوم ( هذا الحسن ) أو ينتصر عليه ؟ وأيهما ـ على هذا ـ كان أولى بالضعف ، وأيهما كان اولى بالقوة ، الحسن أم معاوية ؟
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 191 _
وعلى ضوء هذا التقريب ، نفهم معنى قول الامام الحسن : ( ولو كنت بالحزم في أمر الدنيا وللدنيا أعمل و أنصب ما كان معاوية بأبأس
(1) مني و أشد شكيمة
(2) ، ولكان رأيي غير ما رأيتم ) .
أجل ، وهذا هو المظنون ، لو أراد الحسن الدنيا.
ولكن الشيء المعلوم ،هو أن الامام الحسن بن علي عليه وعلى أبيه السلام كان بشرا آخر غير هذا .
انه كان من ذلك النوع الذي لا يطلّ على هذا العالم ، الا في فترات معدودة من الزمان ، فتستروح البشرية من شمائله مُثُلَها ، وتترسم بهداه النقي الفاضل سعادتها .
انه كان يفهم من الشرف معنى خاصا ، مزيجا من عزة النفس ومصالح الدين ، فلا الملك ولا المال ، ولا المتع الملذوذة في الدنيا ، مما يدخل في حساب الشرف عنده .
وكانت عصمته عن الرجس كما يصفها الكتاب ، وروحيته المثالية التي تملأ ذلك الاهاب ، تمنعانه النزول عن شموخ هذا الشرف ، الى الحضيض من رغبات الملك الزائل ، واللُّبانات المنغَّصات ، مع ما يستلزم ذلك من الصدوف عن الله وعن كتبه ورسله واليوم الاخر ، ولن يكون الرجل الدنيوي الا متغاضيا عن اولئك جميعا أو مغاضبا لهم.
وكان معنى ربح الموقف ، عن طريق هذه الاساليب الملتوية ، الخسارة الكبرى ، في حياة هذا النوع من ذروات المثالية و أعالي الناس .
---------------------------
(1) البأس : الشجاعة والقوة ، ومعنى ( ما كان معاوية بأبأس مني ) : ما كان بأشجع وأقوى مني .
(2) الشكيمة : الأنفة والانتصار من الظلم ، وشديد الشكيمة : هو الابي الذي لا ينقاد .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 192 _
وكان من لوازم هذا الالتواء ـ في جانب الحسن ـ أن تتلاشى في نفسه ، الغرائز المثلى التي غرستها في كيانه يد النبوة ، وغذتها في روحه أثداء الوحي ، وبسطتها في وجدانه مهابط التنزيل .
و أنى لتلك الغرائز ان تتلاشى في نفسه ، وهي منه كبعض ذاتياته التي لا تنفصل عنه ؟ ، وانى له أن يعمل للدنيا أو ( يحزم وينصب لها ) وهو ابن رسول الله وربيب حجره ، وتلميذ مدرسته ؟ .
وما لرسول الله وللدنيا ، لولا انها ميدان رسالته .
فليكن الحسن بحكم طبيعته المملاة عليه من تربيته و عقيدته و محيطه ، مرآة جده ، ولكن في ميدان امامته ، وتلك هي القدوة الحسنة والاسوة الطيبة ، التي لا يمسها ضعف ، و لاتتهم بجبن ، و لايهزمها همزة بنقص ـ مرآته في زهده بالدنيا ، كما هو مرآته في كرائم صفاته ، لانه كان ( أشبههم به خلقاً خلقا ) ، ومرآته حتى في سياسته و ادراته .
فأين هي مآخذ الضعف على الحسن فيما يتسرع اليه المنتقدون ؟.
ونسي الخائضون في نقد سياسة الحسن عليه السلام ، حراجة موقفه من أنصاره ، ونسوا ان شذوذ هؤلاء الانصار انما كان وليد الحوادث الزمنية التي لا يَدَ للحسن فيها ، بحكم تطور الحياة العامة منذ الجيل الثالث بعد عهد النبوة ، و انطلاق الناس ـ أو اكثرهم ـ من عقال التقوى ، واستكانتهم للمطامع وللملذات. فالجناية اذاً جناية ظرفه ، والخيانة خيانة جيله الذي قدر له أن يعيش معه ، ولا تثريب على الحسن من هذا أو ذاك .
ونسوا ـ وهم يتحاملون على سياسة الحسن ( عليه السلام ) ـ ان العاقبة لمثل هذا الموقف ومثل هذا الظرف ، ومثل هذا المجتمع الذي جبل على الرياء والباطل ، مع الرجل الذي لا يحلم بغير الاخلاص والحق ، لا تحتمل في الامكان أحسن مما كان .
لذلك نرى أن التدابير الخاصة التي اتخذها الامام الحسن في خطوات
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 193 _
قضيته ، كانت أبرع الحلول لمشاكلها ، وأروعها سياسة ، وأدقها نظرا ، واليقها بسيرة امام .
وقد عرضنا في فصولنا هذه ، المآخذ التي أخذت على الحسن عليه السلام فذكرنا كلا منها فيما ناسبه من موضوعاتنا ، ورجعناه هناك الى وجه الصحيح الذي كان يواكبه في واقعه ، والذي لا يدع مجالا ـ بعده ـ لتحريف أو تخريف .
وهكذا انتفض الحسن ـ اخيرا ـ انتفاضته الاصلاحية الكبرى ، فطوّر الموقعة القائمة على الفتن والسلاح ، الى دعاوة خُلُق ومحبة واصلاح ، فاذا هو ( المصلح الاكبر ) المجلى في ميدان المصلحين ، واذا هو ( القائد المبدئيّ ) الظافر بأسمى مدارج الكمال بين الابطال المبدئيين .
واذا هو ـ بعد ـ ملك الدنيا بأسرها ، وان لم يكن ملك عرش .
وهل الاسلام في حقيقته ، الا هذه الروح الملائكية ، التي لن تغلبها مادية الدنيا ، ولن تستذلها شهواتها الرخيصة وأوهامها الخلّب الكذوب ؟
انه نظر الى الكثرة من ( أصحابه ) فساءه أن يجدهم في تواكلهم عن الواجب ، وعزوفهم عن الخلق ، وتفرقّهم عن حقهم ، أصحابا لعدوه من دونه ، وكانت العدوى الخبيثة التي نشبت أظافرها في رؤوس الخائنين المعدودين ، قد فتكت في المجتمع المغلوب على أمره ففرقّت كلمته وضعضعت من صفوفه وجعلت من ـ في قليل من الزمن ـ طرائق و اوزاعا ، يرسم كل فريق منهم خططه بيده ويستعدّ للحرب ، و لكن ليحارب ـ في يوم كريهته ـ أبعد الرجلين عن مآربه وأقربهما الى حرمانه .
وأيّ أمل بأصحاب ليس شرا منهم الاعداء؟
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 194 _
فلِمَ لا يقول الامام( النائب عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كلمته التي يفرغ بها عن لسان النبوة في رحمتها وسموها ، كلمته التي تتحايد بمغزاها عن الفريقين المتحاربين ، كما لو كانت شيئا فوق الجميع ؟
و هل ( الامام ) في حقيقته الا شيئا فوق الجميع ؟.
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 195 _
التضحية
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 196 _
ما كان من السهل الانصياع الى هذه النبالة في ( رقمها القياسي ) الذي لا تحلم بمثله كبريات النفوس مهما بلغ بها انكار الذات ، لو لا ما أودع الله في هذه النفس من القوة و الصبر و الاحتمال و الكبرياء على الحياة .
وأين تكون التضحية في سبيل الله والفناء في ذات الله والعمل في جنب الله الا حين تستقيم النفس سافرة لا تلتمس ريبة ، صريحة لا تتكلف مداراة ولا مداورة ولا استخفاء ، مجاهدة جهادها الاكبر في تحطيم ميولها الشخصية ، ومعاكسة طبيعتها البشرية بكبح جماحها الارضي الانانيّ .
وها هي ذي ( الامامة ) بكل معانيها المنقطعة الى الله وها هو ذا ( الامام ) المنقطع الى الله بكل معانيه .
واذا لم يكن الظرف القائم بين يديه ، كافيا للانتصار على الباطل فلم لا يتخذ منه ظرفا كافيا للاحتفاظ بالحق ؟
وذلك هو ما انتهت اليه صورة الموقف ، بعد أن رفع الستار عن نوايا الجماهير التي كانت ترتجز أمامه للجهاد ، وتتركز في حقيقتها على الاغراض.
واذا كان لا يردّ عادية معاوية عن الاسلام الصحيح ، متمثلا في الصفوة من آل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والبقية الباقية من حزب الله المخلصين ، ولا يردّ أجناده من أهل الشام ، ورتله الخامس المتغلغل في صميم الكوفة وفي معسكر الامام الا الغلب على الملك ... فلتكن لهذه الايدى العادية الضارية غنيمتها من الدنيا ، بشهواتها ومطامعها ومضارها ومعايبها ، ولتسلم للحسن وللبقية من حزب الله ، مبادئُهم الروحية ، بجلالها و قوتها و اتساعها و عظمتها و خلودها .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 197 _
وما من غضاضة على ابن رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) اذا تنزّه عن و ضر المادة ، فترك الدنيا لاهلها ، و انفرد بسلطان الروح ، ثابت المقام في عظمته ، مرفوع الاعلام في امامته ، معروف الفضل في أمثولته ، مشكور الشمائل في جهاده و صبره و تضحياته.
وما لمسلم معنيّ باسلاميته ، ولا لمؤمنٍ حريص على الصحيح من عقيدته ، أن يشتبه في أمره ، أو يفرط بحقه ، أو يتناسى مكانته من رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) أو يتجاهل امامته الثابتة بأمر الله ـ تلك الامامة التي لا تقبل تغييرا ولا انتقالا ، ولاتحتمل ضعفا ولا انخذالا ، ولكنها الغالبة المتصرة رغم المحاولات المخذولة المناوئة ، تقوى بقوة الله ، و تثبت بثبوت الحق ، و تمتد في أعناق الاجيال كما تمتد النبوّات في أعناق أممها ، فيها كلّ معاني المجد الحقيقي ، و فيها الهيبة القادرة ، و فيها الاستخفاف بخيلاء المناوئين .
انها المرحلة الدقيقة من مراحل تاريخ الاسلام. وهي مرحلة الفصل بين الخلافة الحقيقية والملك [ بين الامامة الدينية والسلطان ] ، بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية .
ولم يكن هذا الفصل ـ على صورته الظاهرة ـ مما تألفه الذهنية الاسلامية بادىء الرأي ، ولكنه الامر الواقع الذي درج عليه الاسلام و الفه المسلمون من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون ، منذ قبض رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، الا في الفترات القصيرة التي كانت قطرةً في بحر هذه القرون ، وكان الاستسلام لعملية الفصل من قبل أولاياء الامر الشرعيين ، الوسيلة الاصلاحية التي يجب الاخذ بها عند الخوف على بيضة الاسلام .
ولكي نكون أكثر صراحةً في البحث ، وأوضح تعبيرا عن الغرض نقول : ان الامام الحسن لم يفعل في موقفه من معاوية ، الا مثل ما فعله أبوه امير المؤمنين ( عليه السلام ) في موقفه من أبي بكر وصاحبيه. وذلك هو معنى
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 198 _
جوابه لاخيه الحسين ( عليه السلام ) فيما مرّ عليك ، حين سأله : ( ما الذي دعاك الى تسليم الامر ؟ ) فقال له : ( الذي دعا أباك فيما تقدم ) .
ولكل من الامامين في ظرفه الخاص ، تضحياته الرفيعة التي حفظ بها الاسلام .
ومحا الحسن ـ على هذه القاعدة ـ خارطة مملكته المادية من الارض ، لينقش بدلها خارطة عظمته الروحية في الارض والسماء معا ، وتلفّت الى ( حدود ) مملكته في الملك الجديد الذي لا يبلى ، فاذا هي الحدود بين مملكة الحق والمملكة التي هي شيء غير الحق ، بين الانسانية المثالية و الانانية الطاغية ، بين روحانية ( الامام ) الذي يحيا ويموت ، وعلى لسانه كلمات الله : ( أقيموا الصلوة ) ، ( وآتوا الزكوة ) ، ( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ) ، ( ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا ) ـ وبين مادية ( الجبّار ) الذي يعالن الناس قائلا : ( والله اني ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتزكوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ، وانما قاتلتكم لأتأمَّر عليكم ، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون ! ) .
واعتاد الناس ان يتلقوا مثل هذه الحادثة ، كما يتلقون الصدمة الكبيرة من أحداث الزمان ، ذلك لانهم انما ينظرون اليها من ناحيتها الدنيوية الضيقة فلا يرون فيها الا الخسارة .
أما النفس المطمئنة المفطورة على الخير المحض ، فالحادثة عندها وسيلة أهداف هي أعز من الملك ، وهي أعز من الدنيا بأسرها ، وهي ـ مع ذلك ـ التاريخ الذى يلعلع على الانسانية بالامجاد .
وهكذا غلب الحسن الناس في جهاده ، وفي صبره ، وفي تضحيته جميعا. وهذه ثلاث هن امهات الفضائل كلها ، وللحسن ثلاث اخرى وثلاث ثالثة ، كلهن أدوات عظمته ، وشواهد مزاياه .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 199 _
غلب الناس بامامته ، وبوجوب مودته ، وببنوته من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
ونُكب من الناس بأنصاره ، وبأعدائه ، وبزوجه .
وخُصَّ بين الناس ـ كما قلنا ـ بالنوع الممتاز من جهاده ، والنوع العظيم من صبره ، والنوع الفريد من تضحيته .
ولكي نتوفر على فهم هذه المواهب الثلاث على الاخص ، كخصائص حسنية لها مميزاتها التي لا تقبل الجدال ، نقول :
1 ـ اما جهاده
فقد كان أروع الجهاد ، وآلمه للنفس ، وأوسعه ميدانا وأطوله عناء.
انه جاهد في سبيل الله ولكن في ميادين كثيرة ، لا في ميدان واحد : جاهد عدوه بما زحف الى لقائه ، وبما جوبه به من فِتنَه وأسوائه ، وجاهد أصحابه وجنوده بما حاول من استصلاحهم بمخلتف الاساليب ، فأعيته الاساليب كلها ، وجاهد نفسه بما ضبط من عواطفها ، وبما كبت من طموحها ، وبما ردًّ من سلطانها ، ولا نعرف في زعماء البشرية انسانا تمكن من نفسه ومن أعصابه ومن عواطفه كما تمكن منها الحسن في مواقفه التي مرّ عليها ، وجاهد شيعته المخلصين في تشيّعهم له ، بما تحمل من عتابهم الجرىء على قبوله الصلح ، فوقف منهم موقفه الذي دلّ بذاته ، على خصائصه الملكية الممتازة التي لا تفارق الامام ( المعصوم ) ، بما ملك من حفيظته ، وبما ربط من جأشه ، وبما قابلهم به من هدوء الطبيعة ، وميوعة اللهجة وطول الاناة .
وأجاب كلا على عتابه أوضح جواب ، وأقربه الى صواب ، وكشف له عن أهدافه فيما أتاه ، بما استأصل به شأفة عتابه ، فاذا المخاطب مأخوذ ببراعة الحجة وروعة الغرض وأصالة الرأى ، يستذكر بمواقف امامه مواقف الانبياء ، ويتسقط من أخباره مساقط الوحي ، فاذاهو هي .
واليك هنا نموذجا واحدا مما قاله له أحدهم ومما أجابه به ، قال :
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 200 _
( يا ابن رسول الله لم هادنت معاوية وصالحته ، وقد علمت ان الحق لك دونه ، وان معاوية ضال باغ ؟ ) .
فأجابه :
( يا أبا سعيد ألست حجة الله تعالى على خلقه واماما عليهم بعد أبي ؟ ) قال : ( بلى ) ، قال : ( الست الذي قال رسول الله لي ولا حي : الحسن والحسين امامان قاما أو قعدا ؟ ) قال : ( بلى ) ، قال ( فأنا اذاً امام لو قمت وأنا امام اذا قعدت ) .
( يا ابا سعيد ، علة مصالحتي لمعاوية ، علة مصالحة رسول الله لبني ضمرة وبني أشجع ولاهل مكة حين انصرف من الحديبية ، اولئك كفار بالتنزيل ، ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل ) .
( يا أبا سعيد ، اذا كنت اماما من قبل الله تعالى ذكره ، لم يجب ان يسفّه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة ، وان كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبسا ، ألا ترى الخضر لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار ، سخط موسى فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه ، حتى أخبره فرضي ، هكذا أنا ، سخطتم عليَّ بجهلكم وجه الحكمة ، ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الارض أحد الا قتل
(1) .
اقول : وللحسن من فصيلة هذا الجهاد ، جهاد اخر مثله ، مع فصيلة أخرى من الناس ، هم الامويون أنفسهم [ وسنشير اليه قريبا ] .
وهذه وحدها خمسة ميادين ، أفنى الحسن ( عليه السلام ) فيها عمره الشريف وتحمل همومها بقوة ثابتة ، وجلد عنيف .
ولم يبق ميدان للجهاد ، لم يبرز الحسن فيه للنضال .
وانه اذ ينزل عن سلطان ملكه ، انما يجاهد في الله من هذا الطريق ابقاءً على الاسلام ، و تيسيرا لحياة المسلمين ، ودفعا للقتل عن المؤمنين ، وهو
---------------------------
(1) البحار ( ج 10 ص 101 ).