وبلغت البالغات في تهويل هذه الاخبار بين حلقات هذا الجيش رقمها القياسي ، وفي هذا الجيش كثرة ساحقة من رعاع أهل السواد ومن اخلاط الناس ومختلف الاحزاب، وفيه ـ الى هؤلاء و اولئك ـ البهاليل من الهاشمين اليمامين ، والكتل المخلصة من ربيعة و همدان .
  وكادت الرجة العاتية أن تجتاح المعسكر ، لولا هذه الاطواد الراسية في مختلف أكنافه ، الاطواد التي كانت تتكسر على صخرتها شتي المحاولات التي كان يتسرع اليها المتوثبون الى الفتنة .
  اما الحسن نفسه ، فقد قابل هذه المزعجات بالامل الذي يعمر القلوب القوية والنفوس الخالدة ، وكان يرى ان الاخفاق في ظرف خاص أو مكان خاص ، لا يعني الحرمان من الازدهار والاثمار اخيرا في ظرف لا يجب ان يكون هو ـ بشخصه ـ صاحبه ، ولكن ( بمبدئه ) ، وثمة نقطة التركز في أهداف الحسن ـ مخفقا او منتصرا ـ وثمة مركز التجلي ( الرباني ) الذي تنشق عنه الانسانية في شخصية هذا الامام الروحي ، بأفضل ما قدر لها من مراتب الانسياح في ذات الله ، والفناء في سبيل الله.
  ثم انه لم يزل على نشاطه الموفور ، في تدوير دولاب حركته وجهاده وجيوشه ، رغم ما كان يحسه من وميض الفتنة الذي أخذ يستعر تحت رماد الاحدات المتعاقبة بين يديه ، ولم يسمع منه كلمة واحده تتجاوز به الى جحمة غضب ، أو تدل بحدتها على ما كان يشيع في نفسه من بلاغة الخطب ، وروعة التشاؤم ، والنقمة على الوضع ، اللهم الا كلماتة التوجيهية التي كان يقصد بها تدريب جماهيره على النظام ، وتعليمهم الاتزام بقواعد ( الجهاد ) في الاسلام .
  ودار بوجه الى كوفته ، كأنه يتذكر شيئا ، أو يستعرض اشياء عقت الكوفة بها أياديه عندها وأيادي أبيه من قبل ، وكان ابوه هو باعث مجدها ، ومؤسس كيانها المستطيل الشامخ ، الذي باتت تتمتع به كأعظم حاضرة في العالم الاسلامي ، تلتقي عندها حضاراته ، وتثوب اليها شعوبه من مختلف

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 152 _

  الاجناس ، وتلتحم بمصالحها الثقافية والتجارية مع اعظم الاقطار المعروفة في ذلك الزمان ، والكوفة هي كل شيء في سياسة الحسن عليه السلام ، أو هي اعظم ذخيرة كان يدخرها للايام السود ، والوقائع الحمر ، والبلايا الملونة التي شاءت الليالي أن تجمعها عليه في وقته الحاضر ـ فذكر ، وهو يستعرض في نفسه سوابقه مع الكوفة أو سوابق الكوفة معه ، انثيال الناس ـ هناك ـ على بيعته والاخذ بيده ، واجماعهم على قبول شرطه يوم رضي أن يمد يده لبيعتهم ( على أن تكون بالسمع والطاعة ، وأن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم ) .
  ثم نظر الى حوادث ( مسكن ) وزلزلة الاكثر من جيوشه ( الكوفيين ) هناك ، ونفورهم من القتال وركونهم الى الفرار ، وانخداعهم بالمطامع ، وجهرهم بالعصيان ، ونقضهم المواثيق التي عاهدوا الله عليها .
  فساءه ، ان تبلغ السفالة البشرية ، وميوعة الدين ، وصفاقة الاخلاق ، في عصبة تدعى الاسلام ، وتتقلد القرآن ، وتؤمن ـ على ظاهرها ـ بالنبي فتصلي عليه وعلى اله ، في صلواتها الخمس كل يوم خمس مرات ـ مبلغها من هؤلاء الذين خانوا النبي في آله ، وخانوا الله في مواثيقه ، وباءوا بمخزاة التاريخ على غير كلفة ولا اكتراث .
  وظنوا ان معاوية مانعهم من الموت والفقر ، ولا والله ما من الموت مفر ، ولا رشوات معاوية بأجدي لهم من الرزق الحلال الذي قدّر لهم في هذه الحياة ، وسيصعد معاوية منبره في الكوفة ، معلنا على رؤوسهم حنثه بأيمانه و عهوده و مواعيده ، وجاعلا ( كل ذلك تحت قدميه (1) ، وما هي الا شنشنته التي كان يمليها عليه طموحه الى الغلبة بكل سبب منذطمع بالطفرة الى التاج .

---------------------------
(1) يراجع عن هذا التصريح اكثر المصادر التاريخية ، وذكره ابن قتيبة في ( تاريخ الخلفاء الراشدين ودولة بني امية ) ( ص 151 ـ مطبعة مصطفي محمد ـ بمصر ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 153 _

  وليت شعري الى أين كان يفرّ هؤلاء من الفقر الذي اتقوه بالفرار من امامهم الشرعي ، يوم يستيقنون اصرار معاوية على الخلف بوعده وعهوده ـ وانهم لمستيقنون ـ والى أين كانوا يفرون من الموت وقد خافوه بالجهاد مع ابن بنت نبيهم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وانه لمدركهم ( ولو كانوا في بروج مشيدة ) ، وسيدركهم وهم فقراء من دينهم ودنياهم معا ، فلا بمواثيق الله عملوا ولا على رشوات معاوية حصلوا ، وسيموتون ميتتهم الجاهلية التي سبقت لابائهم فاستبقوا بها الى النار ، وبئس الورد المورود. (
يـا  ويـح من ولى الكتا      ب  قـفاه والـدنيا iiأمامه
فـليقر عـن سـنَّ iiالندا      مـة  يوم لا تغني الندامة
ولـيدر  كـنَّ على الغرا      مـة  سوء عاقبة iiالغرامه
يـالعنة صـارت iiعـلى      أعناقهم طوق الحمامة (1)

  وكان الوزر الاكبر الذي تأزره الكوفيون في مسكن ، وزر النفر الذين قادوا الحركة الخائنة في خطواتها الاولى ، منذ ركبوا المآثم السود بتكتلاتهم ومكاتباتهم ...
  وتمثل للحسن وهو بالمدائن ، أفراد من ( الوجوه وابناء البيوتات ) في جيش مسكن كان يعرفهم بلحن القول حينا ولحن العمل احيانا ، وما كانوا بالذين ينقطعون عنه وعن جماعته في الكوفة ، ولكنهم المنقطعون عن مودته وعن الاخلاص لاهدافه فيما يبطنون ، ولم يكن شيء مما يبطنونه بالذي يغيب عنه ، ولا شيء يزاولونه ـ في مناوراتهم معه ـ فيجهله من نواياهم ، وكانوا اذ يتصلون به ، انما يصطنعون الدين وسيلة الى الدنيا ، ويخيل اليهم انهم قد حذقوا اتخاذ الوسيلة ، حتى اذا علموا خطأهم يدأوا يزرعون في بطاح غدهم نوابت الزرع الخبيث ، وعادوا وهم ـ في عهده ـ على سابق عهدهم ، يوم كانوا يجترون تملقهم الاصفر وخذلانهم الاسود

---------------------------
(1) بديع الزمان الهمداني.

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 154 _

  الذي نسجوا عليه لعابهم المرير في عهد ابيه امير المؤمنين عليه السلام في الكوفة يوم سئم أبوه الحياة من سوء صحبتهم ، وتمني الموت صريحا لفراقهم .
  وعلم الحسن بن علي غير متردد في علم ، ان هذه العصابة نفسها كانت هي أصابع معاوية التي عاثت بمقدرات جيشه في مسكن ، وهي التي شجعت القوافل على الفرار الى معاوية ، اغترارا برشواته الاخاذة المنوعة التي جاوز بها معاوية المألوف من رشوات الناس وعرض فيها من العرض ما لا يعهد الرشوة بمثله ، حتى لقد كتب الى بعضهم : ( وبنت من بناتي (1) !.
  وكانت الخصيصة البارزة في معاوية ، انه الرجل الذي لا تفوته الفرص السانحة من مآزق خصومه ، وكان هو ـ قبل كل شيء ـ الصناع المفن في بعث هذه المآزق واستغلال فرصها ، وكانت هذه هي موهبته التي خلب بها الباب المعجبين به ، وبرع فيها البراعة بأقصى حدودها ، حتى ليخيل الى مؤرخته حين ينظرون اليه من هذه الزاوية أنه الداهية ، وانه السياسي المحنّك ، وانه العسكري المفنّ .
  ولكن دراسة معاوية ـ على ضوء ما تقلب فيه الرجل من أطوار وما زاوله من محاولات ـ كمحارب لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في بدر (2) ، فطليق من طلقاء يوم الفتح بمكة ، فصعلوك (3) لا مال له يركض حافيا ـ بغير نعل ـ تحت ركاب علقمة بن وائل الحضرمي (4) في المدينة ، فوال على الشام ولكن من عمر وعثمان مدى عشرين سنة ، فمحارب للامامين علي وابنه

---------------------------
(1) علل الشرائع لابن بابويه ( ص 84 ـ طبع ايران ).
(2) ابن النديم ( ص 249 ) قال : ( سئل هشام بن الحكم عن معاوية أشهد بدرا ؟ فقال : نعم من ذاك الجانب ! ) .
(3) الدميري ( ج1 : ص 59 ) قال : ( وكانت امرأة استشارت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في ان تتزوج منه ـ يعني معاوية ـ فقال ـ انه صعلوك لا مال له ) .
(4) البيهقي في المحاسن والمساوئ (ج1 : ص 209 و 210 ) وغيره .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 155 _

  الحسن ( عليه السلام ) اربع سنوات ، فمدّع للخلافة عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يناقضه صريحا في أحكامه ويخالفه عامدا في سرته ، ويقول : ( والله ما بقي شيء يصيبه الناس من الدنيا الا وقد اصبته (1) ـ أقول : ان دراسته على ضوء محاولاته الكثيرة ، و وصولياته المنوّعة مما ذكر أو لم يذكر ، لا تفضي بنا الى الاعتراف بكل الاوصاف التي يسبغها عليه المعجبون به .
  ولا تدل على أكثر من براعته في استغلال الفرص جاهلية واسلاما .
  وما كان من الدهاء ، ولا من السياسة بمعناها الصحيح ، ان يتصل الانسان في طريقه الى مآربه بوسائل لا يملك لها وجاهة الاقناع ـ ولو ظاهرا ـ في عرف المجتمع ، ولا أن يتسور الى اهدافه بالشذوذ المكشوف الذي لا يهضمه تقليد ، ولا يقرّه دين ، ثم هو لا ينفك يحاول أن يدّعي أنه رئيس حماة الدين ، وكبير رعاة التقاليد .
  وما من دهاء في منطقة مناقضات .
  ولا من دهاء في اغتيال الامنين من الناس ، ولا في اعلان السب والشتم وفرضه على الناس في كل مكان ، ولا في نقض العهود والحنث بالايمان .
  ان شيئا من ذلك لا يدخل في حساب الدهاء ، ولا هو من سياسة الملك ، ولكنها الاساليب البدائية في دنيا العداوات ، ولعل في أدنياء المتناجزين من سواد الناس من يستطيع أن يأتي بالافظع الاروع من هذه الاساليب نكالا في خصومه ، أفيكون حينئذ أعظم دهاء من معاوية ؟ .
  و متى كان الشذوذ في الكيد دهاء يا ترى ؟ .
  و اذا كان معاوية فيما اتاه من هذه الافاعيل النكر داهية ، فلقد زاده ابنه يزيد دهاء ، لانه توسل الى مآربه بوسائل انكى من وسائل ابيه .
  ودع عنك من شواهد الضعف في معاوية ، استضاءه البيز نطيين بالمال ، وخطالبه الطائش الذي نقض عليه سياسته ـ في الكوفة ـ عند دخوله اليها ،

---------------------------
(1) المصدر السابق.

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 156 _

  و موقفه الفطير من شهداء ( مرج عذراء ) ، واشياء اخرى ليس هنا مجال بحثها .
  ولكننا ـ ولننصف القائلين بدهائه ـ نتذكر لمعاوية موقفا يشبه أن يكون فيه ( الداهية ) الذي يحيك الخطط ليمهد الى غده ، ثم هو يصدر الى الناس من وراء خطته بعذر يقبله المعنيون به .
  ذلك هو الموقف المبرقع الذي وقفه معاوية من نجدة عثمان ، يوم خلع و قتل ...
  وربح معاوية من مقتل عثمان انصارا من ( العثمانية ) قبلوا عذره اذ يخذل (1) عثمان وهو حي ، ثم تطوعوا له لينصر بهم عثمان وهو ميت ، وهو انما ينتصر بهم لنفسه ، ولكنهم لا يشعرون ، فعزز بهذه الحفنة من

---------------------------
(1) نجد التصريح بهذه الحقيقة التاريخية في كثير مما دار حولها من أحاديث معاصريها وخطبهم و أشعارهم ، وكان فيما واجه به شبث بن ربعي معاوية أن قال له : ( انه والله لا يخفي علينا ما تعزو وما تطلب ، انك لم تجد شيئا تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم ، وتستخلص به طاعتهم الاقولك : قتل امامكم مظلوما فنحن نطلب بدمه ، فاستجاب له سفهاء طغام ، وقد علمنا ان قد ابطأت عنه بالنصر ، وأحببت له القتل لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب ، ورب متمني أمر وطالبه ، الله عزوجل يحول دونه بقدرته ، وربما اوتي المتمني أمنيته وفوق أمنيته ، و والله ما لك في واحدة منهما خير ، لئن اخطأت ما ترجو ، لانت شر العرب حالا في ذلك ، ولئن أصبت ما تمني ، لا تصيبه حتى تستحق من ربك صلي النار ، فاتق الله يا معاوية ، ودع ما أنت عليه ولا تنازع الامر اهله ... ) ، الطبري ( ج 5 ص 243 ).
وأخرج ابن عساكر عن ابي الطفيل عامر بن واثلة ، أنه دخل على معاوية فقال له : ( ما منعك عن نصر عثمان اذ لم ينصره المهاجرون والانصار؟ ) ، فقال معاوية : ( أما لقد كان حقه واجبا عليهم أن ينصوره ) ، قال : ( فما منعك يا امير المؤمنين من نصره ومعك أهل الشام ؟ ) فقال معاوية ( أما طلبي بدمه نصرة له ؟ ) فضحك أبو الطفيل بن واثلة ثم قال : ( انت وعثمان كما قال الشاعر ) :
(  لا الـفينك بعد الموت iiتندبني      وفي حياتي ما زودتني زادي ! )

و روى المسعودى ما رواه ابن عساكر ثم ذكر في جواب ابي الطفيل لمعاوية قوله : ( منعنى ما منعك اذ تربص به ريب المنون ، وانت بالشام ! )

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 157 _

  ( الاغنياء ) جبهته الضعيفة في ميادينه مع على ( عليه السلام ) .
  ومن هنا عرض معاوية عسكريته على التاريخ .
  ولا نعرف عن عسكرية معاوية ـ بما يلتقي عند هذه الكلمة من المعنيين ـ شيئا مذكورا .
  فلا هو بالعسكري على المعنى المصطلح عليه ، الذي يعني ( بوضع الخطط و قيادة الميدان ) ، ولا هو بالعسكرى في شجاعته وفروسيته ، حين يدعي لمقارعة شجاع أو منازلة فارس .
  ودعاه (1) امير المؤمنين ( عليه السلام ) ليبارزه ، فاما واما ، فأبى اباء الرعاديد !!! .

---------------------------
وقال البلاذري : ( ان معاوية لما استصرخه عثمان ، تثاقل عنه ، وهو في ذلك يعده ، حتى اذا اشتد به الحصار ، بعث اليه يزيد بن أسد القشيري وقال له : اذا أتيت ذا خشب فاقم بها ، ولا تقل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ، فانا الشاهد وانت الغائب !! ... قالوا : فاقام بذي خشب حتى قتل عثمان ، فاستقدمه ) .
(1) قال البيهقي في المحاسن والمساوىء ( ج1 ص 37 ) : ( ولما كان حرب صفين ، كتب امير المؤمنين الى معاوية بن أبي سفيان : ما لك يقتل الناس بيننا ، ابرز لي فان قتلتني استرحت مني ، وان قتلتك استرحت منك. فقال له عمرو بن العاص : أنصفك الرجل ، فابرز اليه ، قال : كلا يا عمرو ، أردت أن ابرز اليه فيقتلني. وتثب على الخلافة بعدي !! ... قد علمت قريش أن ابن ابي طالب سيدها وأسدها ) .
وقال ( ص38 ) : ( عن الشعبي ، أن عمرو بن العاص دخل على معاوية وعنده ناس ، فلما رآه مقبلا استضحك فقال ـ يا أمير المؤمنين أضحك الله سنك وأقر عينك ، ما كل ما أرى يوجب الضحك ، فقال معاوية : خطر ببالي يوم صفين يوم بارزت أهل العراق ، فحمل عليك علي بن ابي طالب فلما غشيك طرحت نفسك عن دابتك وابديت عورتك ! كيف حضرك ذهنك في تلك الحال ؟ ، أما والله لقد واقفت هاشميا منافيا ، ولو شاء ان يقتلك لقتلك ، فقال عمرو : يامعاوية ان كان أضحكك شأني فمن نفسك فاضح ، أما والله لو بدا له من صفحتك مثل الذي بدا له من صفحتي لاوجع قذالك وأيتم عيالك ، وأنهب مالك ، وعزل سلطانك ، غير أنك تحرزت منه بالرجال في أيديها العوالي ، أما اني قد رأيتك يوم دعاك الى

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 158 _

  نعم هو صاحب موهبة ـ كما قلنا ـ ولكن في حيز محدود ، وصاحب سخاء ولكن من نوع فريد ، وصاحب هواية خاصة لها سلطانها القاهر على نفسه .
  فأما موهبته ففي اغتنام الفرص من مآزق الناس ، واما هوايته ففي الغلبة والسلطان ، واما سخاؤه فبما لا يسخو به من يحسب لاخرته حسابها .
  والمرجح أن معاوية كان يعرف من نفسه قصورها عن العسكري الذي كان يجب أن يكونه وهو يناضل أشجع عسكرية في الاسلام ، فكان يود دائما ان يلتوي بحروبه مع العراق ، الى الطريقة الخاضعة لموهبته ، ويفر ـ ما وسعه الفرارـ ـ من حرب السلاح الى حرب الفتن .
  وكانت التجارب التي صارعها معاوية في حروب صفين ، هي الاخرى التي املت عليه القناعة القصوى بهذا الاختيار .
  ولم يفلت معاوية من النهيار المحقق الذي حاق به يوم ذاك ، والذي نشط به الى محاولة الفرار بنفسه على ظهر جواد ، الا حين أخذ بالرأى البكر الذي أملاه عليه مستشاره الكبير ( ابن العاص ) ! ثم كانت الفتنة بنطاقها الواسع الذي خلق للمسلمين انواع المشاكل والنكبات فيما بعد .
  فالفتنة في نظر معاوية خير مركب للنجاح ، وهي بتجارب معاوية امضي أثرا من السلاح ، فكيف لا يجنح اليها كلما حاق به مأزق من هذه المآزق التي كان يجرها على نفسه في مختلف المناسبات ؟ .
  ورفق معاوية في ميدان ( الفتنة ) الى تعبئة جهاز من النوع الثقيل ،

---------------------------
البراز فأحولت عيناك ، وأزبد شدقاك ، وتنشر منخراك ، وعرق جبينك ، وبدا من اسفلك ما أكره ذكره !! فقال معاوية : حسبك حيث بلغت ، لم نرد كل هذا ... ) .
و روى هذا الحديث المسعودي ( هامش ابن الاثير ج 6 : ص 91 ) وبدأه بقول عمرو بن العاص لمعاوية : ( لولا مصر وولايتها لركبت النجاة منها ، فاني أعلم ان علي بن ابي طالب على الحق وانا على ضده ، فقال معاوية : مصر والله أعمتك ، ولولا مصر لالفيتك بصيرا ، ثم ضحك معاوية ضحكا ذهب به كل مذهب ، قال : مم تضحك يا امير المؤمنين أضحك الله سنك ؟ قال : أضحك من حضور ذهنك يوم بارزت عليا ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 159 _

  لا نعهد مثله لغيره ، بما يسر له من الثراء الضخم الذي مهدته له بلاد الشام في عقدين كاملين من السنين وبما حظى به من صحب مساعير في هذا الميدان ، أمثال المغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص ، وكان ابن العاص هذا ، أعظم مصارع على هذا المسرح ، وهو الذي ( ما حكَّ قرحة الا نكأها ) .
  واستلحق ـ الى هذين ـ زياد بن عبيد الرومي الذي انتزعه من معسكر الحسن عليه السلام انتزاعته (1) المفضوحة في التاريخ ، فكانوا ثالوثه المخيف الذي فتن الناس وزلزل الدنيا وبلبل الاسلام ، واخيرا فان الفتنة بمعناها الاعم ، هي موهبة معاوية التي لا يغلبه عليها ألمعي قط .

---------------------------
(1) كان زياد هذا ، عامل الحسن بن علي ( عليه السلام ) على ناحية من فارس وهو عليها منذ عهد ابيه بعثه اليها عبدالله بن عباس منذ كان على البصرة.
فكتب اليه معاوية يتوعده ويتهدده ، فقام زياد في محل عمله بفارس خطيبا فشتم معاوية ووصفه ( بابن آكلة الاكباد و كهف النفاق وبقية الاحزاب ) ، وهدده بابني رسول الله ( صلى الله علبه وآله وسلم ) ـ وهو اذ ذاك من شيعتهما ـ وبأجنادهما من المسلمين ، وتجد نص الخطبة في فصل ( عدد الجيش ) من هذا الكتاب.
واما قضية استلحاقه ، فهي على الاجمال ، حكاية زنية يزنيها ابو سفيان ببغي من ذوات الاعلام بالطائف كانت تؤدي الضريبة الى الحرث بن كلدة الثقفي ، تدعى ( سمية ) فيكون نتيجتها ( زياد ) هذا ، ويقبل معاوية شهادة كل من ابن أسماء الحرمازي وأبي مريم الخمار السلولي ـ قواد هذه البغي وغيرها من امثالها ـ فيستلحق زيادا كاخ شرعي رغم ان عبدالله بن عامر ( صهر معاوية على ابنته هند ) كان يهم أن يأتي بقسامة من قريش يحلفون أن اباسفيان لم ير سمية !! ثم تكشف جويرية بنت ابي سفيان لزياد عن شعرها وتقول له : ( أنت أخي أخبرني بذلك ابومريم !!) ثم يقول زياد عن أبيه الاول الذي ولد على فراشه فبدله بأبي سفيان ، وكان عبدا روميا للحرث بن كلدة الثقفي ، يدعى ( عبيدا ) : ( وما كان عبيد الا والدا مشكورا ونزل!! ... ) وكان ذلك سنة 41 للهجرة على الاصح .
وعدَّ الناس حادثة الاستلحاق أعظم تهتك وقع في الاسلام علنا .
قال ابن الثير : ( وكان استلحاقه أول ما ردت به احكام الشريعة علانية ، فان رسول الله (ص) قضي بالولد للفراش وللعاهر الحجر ، وقضي معاوية بعكس ذلك ، طبقا لما كان العمل عليه قبل الاسلام ، يقول الله تعالى : أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) انتهي

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 160 _

  وعلى هذه القاعدة ، طوّر معاوية حزبه مع الحسن الى الحرب بالفتن .
  وكان اذ يعسكر بجيوشه على حدود العراق ، لا يريد القتال ، وانما يخاف المبادءة من خصومه ، ويود لو حاربهم في ميدان غير ميدان الجيوش.
  ولم يبح بسرّه هذا ، الا على أسلوب من المصانعة والتمويه ، يتظاهر من ورائهما بالجنوح الى المصلحة والخوف على امور الناس. فيقول حين ينظر الى جيوش الفريقين في موقفه من الحسن بن علي عليهما السلام : ( ان قَتَلَ هؤلاء ، هؤلاء ، وهؤلاء ، هؤلاء ، من لي بامور الناس (1) ، ويقول : ( الامر الكبير يدفعه الامر الصغير (2) .
  وما يدرينا ، فلعله اذ يتلكأ بهذا ونحوه ، انما يتلكأ لانه يحذر نتائج حرب السلاح ، فيمالو صدق العراق بالقراع ، وليكن ـ على هذا الاحتمال ـ قد جهل موقف الكوفة في نفيرها مع الحسن وخيّل اليه من نتائج الدعاوة الشيعية ما لم يكن .

---------------------------
بلفظه .
وعلم زياد ان العرب لا تقر له بالنسب الجديد لعلمهم بحقيقة حاله ، وبالدراعي التي اقتضت استلحاقه ، فعمل ( كتاب المثالب ) والصق فيه بالعرب كل نقيصة ، فدل بذلك ايضا على شعوبيته الهوجاء.
وقضي للكوفة ان يحكمها زياد هذا ـ بعد هلاك حاكمها الاموي الاول المغيرة بن شعبة الثقفي ـ فجعل منها جحيما يستعر وزلزالا لا يستقر .
قال الطبري ( ج 6 ص 123 ) : ( ان زيادا لما قدم الكوفة قال : قد جئتكم في أمر ما طلبته الا لكم ، قالوا : ادعنا الى ما شئت ، قال : تلحقون نسبي بمعاوية ، قالوا : اما بشهادة الزور فلا ) ، وهو اول من جمع له الكوفة والبصرة معا ، واول من سير بين يديه بالحراب ، ومشي بين يديه بالعمد ، واتخذ الحرس ، وكان يستخلف على البصرة عند غيابه ( سمرة بن جندب ) وعلى الكوفة ( عمرو بن حريث ) ولما رجع الى البصرة بعد ستة اشهر وجد سمرة قد قتل ثمانية الاف من الناس !! ... ( كلهم قد جمع القرآن ).
ومات زياد سنة 53 هـ ، وجاء المهدي العباسي سنة 159 هـ فالغى هذا الاستلحاق ، وأمر باخراج آل زياد من ديوان قريش والعرب ، وعاد زياد الى ابيه العبد الرومي مرة اخرى !! .
(1) ابن كثير ( ج 8 ص 17 ).
(2) المسعودى : هامش ابن الاثير ( ج 6 ص 67 ).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 161 _

  وقد يكون معني تردده ، انه كان يرى اتقاء الفضيحة التي لا يسرها عذر امام العالم الاسلامي ، في محاربة سيدى شباب أهل الجنة ، ابني بنت رسول الله( صلى الله عليه واله وسلم ) ، وجها لوجه .
  وقد يكون انما أغراه باتخاذ هذه الوسيلة دون وسيلة السلاح ، كتب الخونة من رؤساء الكوفة وزعماء قبائلها ( يعرضون بها له السمع والطاعة ، ويتبرعون له بالمواعيد ، ويتخذون عنده الايادي ، ويستحثونه على المسير نحوهم ، ويضمنون له تسليم الحسن عند دنوهم من عسكره ، أو الفتك به (1) .
  وكان من أبرع اساليب ( الفتنة ) ان يجمع معاوية كل ما ورد عليه من كتب هؤلاء ، ثم يدعو كلا من المغيرة بن شعبة وعبدالله بن عامر بن كريز وعبدالرحمن بن الحكم ، فيوفدهم جميعا بهذه الكتب كلها الى الحسن (2) نفسه ليطلع عليها ، وليعرف نوايا أصحابها من متطوعة صفوفه ، ثم ليكون من اللفتة البارعة مدخل للمفاوضة في الصلح أو التفاهم على نصفٍ من الامر ، فيما لو وجد هذا الوفد من جانب الحسن عليه السلام استعداداً لتفاهم او صلح .
  وتفقّد الحسن خطوط الكوفيين وتواقيعهم بشيء من العناية و الامعان كما لو كان يعرف ـ قبل ذلك خطوطهم وتواقيهم وتأكد صحة نسبة الكتب لاصحاب التواقيع ، ولكنها لم تكن لتزيده معرفة بأصحابها ، ولم ير فيها جديدا لا يعهده من هذه الطبقة المعروفة بميولها و أهوائها وشذوذها الخلقي ، الذي جرّ عليه الشيء الكثير من المآسي والنكبات في شتى مراحله منذ فاه بدعوة الجهاد .
  ثم رجع بخطابه الى الوفد الشامي ، دقيق العبارة لا يبت بأمر ولا ينكشف عن سرّ ، ولم يترك النصيحة للمغيرة ورفاقه ، بالدعوة الى الله عزّ وجل ، عن طريق نصرته وترك البغي عليه ، وذكّرهم بما هم مسؤولون

---------------------------
(1) سبق ذكر المصادر في الفصل الثالث.
(2) يراجع اليعقوبي ( ج2 ص 191 ).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 162 _

  عنه أمام الله ورسوله في حقه .
  ولا نعلم ـ بعد ذلك ـ ولا فيما ترويه المصادر ، أنه ذكر الصلح بنفي أو اثبات.
  ولكنا علمنا أن المغيرة ورفاقه الذين دخلوا معسكر المدائن حين اذن لهم بدخوله لعرض هذه الكتب على الامام ، لم يغادروا المعسكر حتى زرعوا في ميدانه أكبر فتنة في الناس ، فخرج الوفد العدّ و ويستعرض في طريقه مضارب الجيش ، وهو اذ ذاك هدف الانظار في حركته ، وهدف الاسماع في حديثه ، فقال بعض أفراده لبعض ـ وهم يرفعون من أصواتهم ليسمعهم الناس ـ : ( ان الله قد حقن بابن رسول الله الدماء وسكن الفتنة ، وأجاب الى الصلح (1) .
  وما كان حديثهم هذا الا الفتنة نفسها ، ليعبروا بها وبمثيلاتها من هذا الطراز ، الى انتزاع الصلح انتزاعا.
  و اذا هي الطعنة النجلاء ، في ظروف موليّة كظروف المدائن بما كان قد لحقها من التبلبل الذريع ، في أعقاب الحوادث المؤسفة في معسكر ( مسكن ).
  وكانت أكثرية المدائن لا تزال ملحة على مباشرة الحرب ، فهي لا ترى للصلح مكانا ، و كان يخيل اليها أن في بقايا المجاهدين في مسكن كفاية لمنازلة معاوية ، وأن في احتياطي المدائن ما يضمن لمسكن القوة على الصمود فيما لو ضعفت كفايتها. وربما كانوا أو كان فيهم ، من لا يتخيل شيئا من ذلك ، ولكنهم انما يلحّون على الحرب لانهم ( يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة (2) ، وتلك هي نعرة الخوارج في جيش الحسن ( عليه السلام ) ، وكيف يقول المغيرة ورفاقه ( ان الحسن أجاب الى الصلح ) ، انها الكلمة الكافرة التي لا يجوز الصبر عليها ـ برأيهم ـ .
  وكان شغب فئة كبيرة كالخوارج ، مدعاة لزلزلة فئات أكثر عددا ولا سيما من أغرار الناس المتارجحين بين الطاعة والعصيان ، والمتأهبين للفتن

---------------------------
(1) يراجع اليعقوبي ( ج 2 ص 191 )
(2) البحار ( ج 10 ص 110 ) والارشاد.

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 163 _

  والاضطرابات مع كل ناعق بها وفي كل آن .
  وجاءت الخطة المدبرة التي أجاد حياكتها الثالوث الشامي ، فتنة عنيفة الاثر على مقدرات المدائن ، ناشزة على خطط التدبير .
  ومن السهل أن نفطن الان ـ جازمين ـ الى ان اجوبة الحسن لهذا الوفد ، لم تكن لتشتمل على ذكر الصلح او الاستعداد له ، لانه لو كان قد اجاب اليه كما اشاعه الوفد عند خروجه منه ، لا نتهي كل شيء ولا غلق الموقف بين العراق وال ، ام ، فلم هذه الفتن اذاً ؟ ، وهل هي الا من قبيل استعمال السلاح مع الصلح ؟ وهل معني الصلح الا نزع السلاح ؟ .
  وعلى هذا ، فلا تصريح بقبول الصلح من جانب الحسن قطعا.
  وانما هي الفتتة ، وهي سلاح الشام الانكي .
  وتلوّن معاوية في هذا السلاح تولّنا مخفيا جدا ، فعمد الى سلة أكاذيب ، يختار مضامينها اختيارا دقيقا ، وينخل أساليبها نخلا فينا ، ثم يبعث بها الى معسكرات الحسن ، هنا وهناك .
  ( فكان يدس الى عسكر الحسن ـ في المدائن ـ من يتحدث : ان قيس بن سعد ـ وهو قائد مسكن بعد فرار ابن عباس ـ قد صالح معاوية وصار معه (1) .
  (ويوجه الى عسكر قيس ـ في مسكن ـ من يتحدث ان الحسن قد صالح معاوية و أجابه (2) .
  ثم ينشر في اشاعة اخرى على معسكر المدائن ( الا ان قيس بن سعد قد قتل فانفروا (3) .
  وما ظنك بأثر هذه الشائعات في جيش مثل جيش المدائن ، وقد سبق له أنه علم خيانة قائد سابق لم يكن أهلا للخيانة ، فلِم لا يصدق خيانة الثاني ، أو الخبر بقتله ؟ .
  وفي مسكن مثل ما في المدائن من مآسٍ ودفائن وقوافل تنزع الى

---------------------------
(1 و 2) اليعقوبي ( ج 2 ص 191 ).
(3) ابن الاثير ( ج 3 ص 161 ) والطبرى ( ج 6 ص 92 ) وابن كثير ( ج 8 ص 14 ) والدميري في حياة الحيوان ( ص 57 ).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 164 _

  الفرار ، وعملاء لا يفتأون يبعثون الفتن ويبثون افظع الاخبار.
  وهكذا بلغ معاوية ( بفتنه ) ما أراد ، وبات الجيشان كلاهما طمعة الاضطرابات والحوادث المؤسفة التي لا تناسب ساحة قتال.
  وما مني الاسلام منذ ضرب بجرانه على جزيرة العرب ، بأفظع من هذه النكبة التي يترنح بها موقف الخلافة الاسلامية ، بين تثاقل الجنود ، وتخاذل الزعماء وخيانة القائد ، وفتن العدو !.
  انها الظروف القاهرة التي بدأت تنذر باكداس من الخطوب و النكبات والتي ستجر حتما الى نهاية تاريخ قصير ، كان انصع وأروع صفحات التاريخ الاسلامي ، وابعدها ارتفاعا في المجد ، وأقربها اسبابا الى الفخر.
  انها الكارثة التي تؤذن باللحظة المشؤومة في تاريخ الاسلام ، اللحظة القائمة على عملية الفصل بين العهدين ، عهد الخلافة بمميزاتها ومثاليتها ، وعهد ( الملك المعضوض (1) وبلائه المقدَّر المفروض.
  وكان الحسن عليه السلام ، أعرف الناس بقيم هذه المعنويات المهددة وأحرص المسلمين على حفظ الاسلام ، والرجل الحديدي الذي لا تزيده النكبات المحيطة به ، الا لمعانا في الاخلاص ، واتقادا في الرأي ، واستبسالا في تلبية الواجب ، وتفاديا للمبدأ .
  ولم يكن لتساوره الحيرة ، على كثرة ما كان في موقفه من البواعث عليها ، ولا وجد في صدره حرجا (2) ولا تلوّما ولا ندما ، ولكنه وقف ليختار الرأي ، و ليرسم الخطة ، وليتخذ التدابير .
  وكان لابد لاصطفاء الرأي ، من دراسة سائر الاراء.
  وذلك ما نريد أن نسيمه : ( موقف الحيرة ).

---------------------------
(1) قال الدميري ( ج 1 ص 58 ) بوعد ان ذكر خلافة الحسن عليه السلام وأحصى ايامها : ( وهي تكملة ما ذكره رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من مدة الخلافة ، ثم تكون ملكا عضوضا ثم تكون جبروتا وفسادا في الارض ، وكان كما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ... ) .
(2) قال ابن كثير ( ج 8 ص 19 ) : ( وهو ـ يعني الحسن ( عليه السلام ) ـ في ذلك ، الامام البار الراشد الممدوح ، وليس يجد في صدره حرجا و لا تلوما و لا ندما بل هو راض بذلك ، مستبشر به ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 165 _


صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 166 _

  وانصرف الى التفكير ، فما كان ليغيب عنه ما يهدد موقفه من عبءٍ ، بعضه فجيعة. وبعضه هوان ، وبعضه موت لا يشبه موت العظماء .
  ولم تكن الحيرة عنده بالغة الغور ، ولكنها كانت بالغة الاسى مشبوبة الاحاسيس ، تخزه و خز الشوك الملتهب ، وتستفزُّه بالحاح الى اختراع المخرج الذي لا يساوره الهوان ، ولا يخضع للفجيعة ، ولا هو من الموت المغتصب ، الذي تربأ عن مطارحته الذكريات الكريمة .
  وكل ما كانت تحتفل به اللحظة القائمة بين يديه ، هو اللجاجة اللاغبة ، والشائعات الكاذبة ، والاندفاع في تيار الفوضي الرهيب .
  والحسن بين هذه الهزاهز ، الجبل الذي لا تزعزعه العواصف ، والاماام البر الذي لا يغيظه جهل الجاهلين عليه ، ولا يُحفظه سخط الناقمين منه ، ووقف غير عابئ بما يدور حوله ، ولكن ليسقرئ الخطط فيضع خطته ، وليستعرض الاراء فيبت برأيه .
  وليس بمقدورنا الان ان نقرأ ـ بتفضيل ـ الافكار التي كانت تحت سيطرته ساعة أذ ، أو كان هو تحت سيطرتها ، ولكنها ـ بالاجمال ـ لم تكن لتعدو ( ما يريده الله وما يؤثر عن رسول الله وما يجب لصيانة المبدأ ) .
  أما ما يقوله الناس ، فلم يكن مما يعنيه كثيرا .
  ولنتذكر دائما ، انه الامام الروحي ، الذي لا يريد الحياة بين الناس الا بمقدار ما تكون الحياة بذلةً في سبيل الله ، ووسيلة للنفع العام ومثلا يحتذى في الاصلاح ونشر الاحسان ، فما قيمة ما يقول الناس الى

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 167 _

  جنب هذه المعنويات الممعنةفي اتجاهها الى الله. والامام بصفته الروحية التي يقود بها الغير الى الخير ، لايهجس ابدا بغير هذا النوع من التفكير ، ولا ينصرف بخلجاته ومشاعره وعواطفه الى غير الله ، وسيرة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والمبدأ الصحيح .
  لذلك لم تكن الحيرة عنده ـ كما قلنا ـ بالغة الغور ، لان طريق الله لاحب ، وأسوة رسول الله واضحة ، ولكنها كانت حيرة مريرة المذاق .
  وكم من المزعج ان يساق الانسان من ظروفه ، ومن حيث لا يد له ، الى وضع لا يسيغه طبع ، تصطلح عليه الازمات ، ثم لا يفتأ يقوم من نفسه على عقُدٍ لا تنقطع الا لتتصل. ذلك هو الوضع ( الشاذ ) الذي لايعهد الا مع الحيرة ، ولا يطرد في نوازعه الا مع القلق ، ولا تكون النفس معه الا بين الاقدام و الاحجام و اليأس و الرجاء ، و للنفس ـ مع هذا الوضع ـ حاجتها القصوى الى التأمل والتفكير ، والى الكلاءة والتثبيت ، وللضمير ـ مع هذا الوضع ـ موقفه الدقيق الذي تتفاوت فيه معادن الناس .
  وايّ نفس كانت هي تلك النفس ، وأيّ ضمير كان هو ذلك الضمير !!؟؟ ، انها النفس المطمئنة التي ترجع عند كل هول يعصف بها الى ربها راضية مرضية ، لا تستكفي بغيره ، ولا تسترشد بسواه. وانه الضمير الطاهر النقي ، الذي لم يضعف على ثقل الواجب و انما كان ـ على كل حال ـ أصلب من الكارثة ، ولم نسمع عن الحسن ان احدا ممن حوله شعر عليه في لحظات مرزأته ، أنه المرزأ في دخيلته او الممتحن في موقفه ، اذ لا حزن ولا انكسار ، وانما كل ظاهراته ثبات و عزم و استقرار ، و حتى في مناجاته لربه فانه كان مثال الصبر واللجأ الى الله والاستكفاء به من دون الناس .
  وكان من دعائه ( عليه السلام ) : (اللهم ياذا القوة والسلطان يا عليَّ المكان ، كيف أخاف و أنت املي ، وكيف أخشى وعليك توكلي ، أفرغ علىَّ من صبرك ، وأظهرني على أعدائي بأمرك ، وأيدني بنصرك ، اليك اللجا ، وبك الملتجا ، فاجعل لي من أمري فرجا و مخرجا ، يا كافي أهل

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 168 _

  الحرم من أصحاب الفيل ، والمرسل عليهم طيراً أبابيل ، ترميهم بحجارة من سجيل ، ارم من عاداني بالتنكيل ! ) .
  والتمعت على جوانب فِكَرِه اليائسة ، وفي زوايا تاملاته العابسه ؟ اشعاعة من الامل ، كانت جواب دعائه الى الله عزّ و جل ، ففاحت ذكية العرف ، ولاحت مضواءة الملامح ، كأنها نذر البشارة .
  وكانت مفاجأة غريبة أغلقت في وجهه هموم حاضره كلها فاذا هو بين طوفان من الذكريات التي لا تمتّ الى ظرفه ولا تتصل بأرزاء لحظته ، ذكريات تشيع فيها اللذة وتجد فيها النفس الوانا من الامتاع والمؤانسة .
  وللنفس اذا أفرط بها الالم و أرهقها الفكر والصمت العميق ، انتفاضتها المباركة التي تفرُّ بها من الضيق الى السعة ، ومن اليأس الى الرجاء ، ومن الحيرة الى الدلالة المليئة بالامال .
  انه ليفكر لحاضره من هذه المزعجات ، ولمستقبله من هذا العدو المستهتر بالمقدسات ، وانه ليظن ( بأنه لو وضع يده في يده فسالمه لم يتركه أن يدين لدين جده رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) (1) .
  اما هذه المفاجأة الجديدة ، فقد رجعت به الى ثلث قرن مضى وحواليه فاذا هو بين منازل النبوة تتجاذبه ، ومهابط الوحي تتلاقفه ، وحلقات المهاجرين والانصار تحتفل به .
  رؤيً تملك الحس وأحلام لذيذة تؤاسي الجراح .
  هذا جده الاعظم ، وهذا سلطان نبوته في قومه ، وهذه نجوم الاي الكريمة تتنزل بين الفينة والفينة. كأنها بريد السماء الى الارض ولا تتنزل الا في بيته ، وهذا أبوه ، وزير النبي والمجاهد الاكبر الذي أخضع صناديد العرب لكلمات الله ، كأنه يرجع الان وقد فتح حصن خبير ، وهذه أمه الطاهرة البتول ، التي باهل بها الرسول فكانت بحق سيدة نساء العالمين .

---------------------------
(1) من كلمات الحسن نفسه كما يرويها البحار ( ج 10 ص 107 ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 169 _

  واذا لم يكن شيء مما يراه الان ، واقعا خارجيا ، فليكن بحقيقته واقعا نفسيا ، جلاه لناظره تيار روحي لا ينقطع بروحه عن هذا الجد وهذين الابوين ، كما كان لا ينقطع عنهم بجسمه ـ في الواقع الخارجي ـ يوم الف الله و فده لمباهلة نصارى نجران ، فكان الوفد هو الحسن و جده و أباه و امه و أخاه ، و يوم دعا رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) بالكساء فلفّه على الصفوة المختارة ( أصحاب الكساء الخمسة ) فكانوا ( الحسنين وأبويهما وجدهما الاعظم ) ، يوم نزلت آية التطهير ففسَّرها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالخمسة الميامين ( عليهم السلام ) .
  خصائص من العظمة لا يشاركهم فيها أحد في الاسلام .
  وتراءت له من وراء أفقه الحزين ، صور ممتعة من طفولته المباركة و صباه الباكر الكريم ، فتطلع منها الى أيامه البيض الحافلة بالنور في المدينة المنوَّرة ، يوم كان يدرج فيها بموقعه الممتاز ، ومقامه المدلّل المرموق بين أقرانه و اترابه ، و يوم كان يلعب و يمرح فيها ، ولكن بين سواعد أبويه العظيمين وعلى صدر جده الاعظم أو على ظهره المقدس او على أعواد منبره الشريف ، و يوم كان يتلقّف الوحي منذ لحظاته الاولى ، ويتعلم كلمات الله من لسان نبيّ الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ويتخرج بعلمه على مصدر العلم ، و يضع النقاط على الحروف ليستقبل سيادته على الناس ، و امامته المفروضة في أعناق المسلمين ، و انه ليستمع الى جده حين كان يراود الناس في كل مناسبة على الاعتراف له ـ بلسان أشبه بمباهاة ـ كلما ذكر ابنه الحسن للسيادة و الامامة. و طالما ذكره لمهما في حديثه أو ذكرهما له .
  كانت عهودا مفعمةً بروح العظمة وبعظمة الروح ، جديرة بأن تهيب بالحسن فيتذكر منها اطيب الذكريات ، وأحفلها بالغبطة والقوة والمكرمات .
  وكانت الذكرى الاخاذة التي تمكنت بسلطانها من نفسه حتى انتزعت منه ابتسامته الملذوذة غير مظنون الابتسام في ظرفه ، انه رأى جده رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) كأنه ينتزعه الان من عاتق أمه فيأخذه بيده ،

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 170 _

  ويوقفه على قدميه المباركتين ، ثم لا يزال يباغمه بأنشودته المقدسة : ( حزقه حزقه ، ترقَّ عينَ بقّه ) فيرقى بقدميه الصغيرتين متدرجا حتى يضعهما على صدر جده العظيم ، ويفتح فاه ، اذ يقول له : ( افتح فاك ) ، فيقبله بفيه ، ثم يقول : ( اللهم انى احبه فأحبَّه وأحبَّ من أحبَّه (1) .
  ثم كانت هذه الذكرى مفتاح ذكريات كان من حقها ان تؤنسه و أن تنسيه مزعجات لحظته الاخيرة ، و ان أسطع فترة في حياة كل انسان هي فتره طفولته البريئة بما يعمرها من الروابط المقدسة ـ بينه و بين الاحضان التي يلجأ اليها ، و بينه و بين المجتمع الذي يعيش فيه ـ ، و ان ذكريات تلك الفترة من حياة أيّ انسان تبقى خالدة في رأسه و في قلبه و في روحه و لا يمكن نسيانها ابدا .
  فذكر مرةً جده رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، وقد وضعه على منكبه الايمن ، و وضع أخاه الحسين على منكبه الايسر ، فاستقبله أبوبكر فقال لهما : ( نعم المركب ركبتما ياغلامان ) ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) : ( ونعم الراكبان هما ، ان هذين الغلامين ريحانتاي من الدنيا ! (2) .
  وذكر يوم جثا جده وأركبه على ظهره ، وأركب معه أخاه الحسين ، وقال لهما : ( نعم الجمل جملكما ، ونعم العدلان أنتما (3) .
  وذكر مرةً اخرى يوم جاء وجده ساجد فركب رقبته وهو في صلاته (4) ، و يوم جاء وجده راكع ، فأخرج له بين رجليه حتى خرج من الجانب الاخر (5) ، ويوم قيل لجده : ( يا رسول الله انك تصنع بهذا

---------------------------
(1) الزمخشري وابن البيع والطبراني وينابيع المودة والاصابة ( ج 2 ص 12 ) وغيرها .
(2) كتاب سليم بن قيس ، والبيهقي في المحاسن والمساويء ( ص 49 ) وروى الاخير قول الحميري في نظمه الحديث:
اتى حسنا والحسين الرسول      وقـد بـرزا ضحوة iiيلعبان
فـضـمـهما iiوتـفـداهما      وكـانا  لـديه بذاك iiالمكان
و  مـرا و تـحتهما iiعاتقاه      فـنعم الـمطيه و iiالراكبان
(3) الابانة لابن بطة.
(4) الحلية لابي نعيم.
(5) الاصابة ( ج 2 ص 11 ).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 171 _

  ـ يعني الحسن ـ شيئا لم تصنعه بأحد ) ، فقال : ( ان هذا ريحانتي ، وان ابني هذا سيد سيصلح الله به بين فئتين من المسلمين (1) .
  وذكر ركوبه على رقبة جده ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يخطب في مسجده ، حتى لقد كان يرى بريق خلخاليه من أقصى المسجد ، وهما يلمعان على صدر جده العظيم ، ثم لا يزال كذلك حتى يفرغ النبي من خطبته (2) .
  وذكر نزول جده رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) من على منبره فزعا وكان هو قد عثر عند باب المسجد ، فحمله وأخذه معه الى منبره ، ثم قال : ( أيها الناس ما الولد الا فتنة (3) .
  وذكر جده وهو يقول له غير مرة : ( أشبهت خلقي وخلقي (4) .
  وذكر يوم استيقظ من نومه ، فاذا جده وأمه يتحدثان ، فأقبل على جده قائلا : ( يا جداه اسقني ) ، فأخذه جده وقام الى لقحة (5) كانت له ، فاحتلبها ثم جاء بالعُلبة (6) وعلى اللبن رغوة ، ليناوله الحسن ، فاسيتقظ الحسين فقال : ( يا أبت اسقني ) ، فقال له : ( يابُنَّي أخوك أكبر منك ، وقد استسقاني قبلك (7) .
  وذكر يوم كان طفلا بين يدي أمه فاطمة ( عليهما السلام ) ، ودخل عليها أبوها رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، ورآه يلعب ، فقال لها : ( ان الله تعالى سيصلح على يدي ابنك هذا ، بين فئتين عظيمتين من المسلمين (8) .
  وذكر من ملامح سلطانه في صباه ، يوم جاء الى أبي بكر وهو على منبر جده رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، فقال له : ( انزل عن مجلس أبي ! (9) .

---------------------------
(1) الحلية
(2) البحار ( ج 6 ص 58 ).
(3) المناقب والترمذي والسمعاني وفضائل أحمد.
(4) الغزالي والمكي في الاحياء ، وقوت القلوب .
(5) الناقة الكثيرة اللبن .
(6) العلبة بضم اوله : اناء من جلد أو خشب .
(7) كتاب سليم بن قيس ( ص 98 ) .
(8) العقد الفريد ( ج 1 ص 194 ) والبيهقي ( ج 1 ص 40 ) ، والبخاري والخطيب والسمعاني والحركوشي والجنابذى وابو نعيم في الحلية وينابيع المودة ومروج الذهب وغيرها .
(9) الصواعق المحرقة ( ص 105 ) واخرجه الدار قطني .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 172 _

  وذكر جده وقد أخذه معه الى منبره ، فهو يقبل على الناس مرة ، وعليه مرةّ ، ويقول : ( ان ابني هذا سيد ولعل الله ان يصلح به بين فئتين من المسلمين (1) .
  وكانت مناظر وجدان مؤثرة في الحسن ، وذكريات تاريخ ملذوذة في النفس بدلت من وحشة اللحظة ، وخففت من عرامة الخطب ، وكانت كل ذكرى تثير ذكريات ، وكل منظر يمرّ يوقظ مناظر أخريات .
  وانه ليطمئن الى قول جده ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، كما يطمئن الى محكم التنزيل ، وها هو ذا جده العظيم يقول له ، وكان صوته الشريف يرنّ بعذوبته المحببة في اذنه ، ويقول لامه الطاهرة البتول ، ويقول على منبره ، ويقول بين أصحابه ، و يقول ما لا يحصى كثرة : ( ان ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين ).
  ويرجع الحسن الى نفسه فيقول :
  ترى ، هل أراد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ان اصالح اليوم أهل الشام ؟ .
  وهل أهل الشام البغاة ، فئة مسلمة يصح أن يعنيها هذا الحديث ؟ .
  وهل هذه هي الفتنة التي أرادني رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لاصلاحها ؟ ، أو قد فدنا الكفاية لقمعها من طريق القوة ؟ .
  كل ذلك كان يراود الحسن ، فيثير في نفسه تفاعلا عنيفا ،ينذر بانقلاب تاريخ ، وكل هذه الاسئلة كانت تنتظر الجواب من الحسن استعدادا للمصير الاخير.
  وبعثت هذه الذكريات بما فيها التوجيه النبويّ الذي استشعر منه الحسن حماية جده له في أحرج ساعاته ، فكرة الانقاذ للموقف ، فيما لو اتيح لهذه الاسئلة أجوبتها المطابقة لمقتضى الحال .
  ـ نعم ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال ذلك يقينا دون شك .

---------------------------
(1) البخاري و مسلم و الاصابة ( ج 2 ص 12 ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 173 _

  وان هذه الفتنة هي الفتنة التي عناها فيما لوَّح اليه في أحاديثه الشريفة ، ولا فتنة أعظم من فتنة تشق المسلمين انشقاقهم هذا ، فتلهيهم عما يُراد بهم أعدائهم الواقفين لهم بالمرصاد (1) ، وعما يراد منهم من اعمار وتنظيم وجهاد .
  واما الحكم على البغاة بحصانة الاسلام ، فهو ما يشير اليه موقف أمير المؤمنين عليه السلام منهم ، حين منع سبي نسائهم وذراريهم ، وكفى بسيرة أميرالمؤمنين أسوةً صالحة وقدوة في الدين راجحة .
  واما السؤال عن الكفاية لقمع هذه الفتنة بالقوة ، وهو الحلم اللذيذ الذي هتف به الشيعة المتحمسون بالكوفة ابان النهضة للجهاد .
  فالجواب عليه ، يتوقف على دراسة الموقف من ناحيتيه المعنوية والعددية معا ، وذلك باستعراض الامكانيات الحاضرة على حقيقتها ، والمعنويات في الجيوش هي رمز القوة التي تدخر لربح الوقائع ، وهي أهم بكثير من تصاعد الاعداد التي لا تعزّزها الروح العسكرية الرفيعة .
  وكان للحسن في مَسكن بقية من جيش ، لا تجد المعنويات سبيلها اليه الا بالمعجزة ، بعد النكبة التي أصيب بها هذا المعسكر بخيانة قائده وفرار ثمانية الاف من أفراده .
  وفي المدائن ، مجموعة من أشباح ، كشفت الارجافات الدوة المربكة عن نواياها ، فاذا بها لا تفتأ تتلقّف الفتن ، وتهمّ بالعظائم ولا ترجى لميدان حرب ، وهذه هي الناحية المعنوية على واقعها .
  واما النسبة العددية فقد كان أكبر عدد بلغه جيش الحسن ( عليه السلام ) فيما زحف به الى لقاء معاوية عشرين الفا أو يزيدها قليلا ، وكان جيش معاوية الذي عسكر به على حدود العراق ستين الفا! .
  فللحسن ـ يومئذ ـ ثلث أعداد جيش معاوية .

---------------------------
(1) اشارة الى محاولات البيز نطيين عند ثغور الشام سنة 40 هـ .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 174 _

  وجاءت عملية الفرار التي اجتاحت معسكر مسكن والتي انهزم بها ابن العم ( ورب ابن عم ليس بابن عم ) ـ كما يقول المثل العربي ـ بتمانية الاف ! ، فتصاعدت النسبة صعودا مريعا .
  وبقى الحسن في معسكريه جميعا على الخمس من عسكر معاوية ! .
  واذا اعتبرنا ـ هنا ـ القاعدة العسكرية الحديثة التي تنسب القوة المعنوية الى الكثرة العددية ، بنسبة ثلاثة الى واحد رجعنا الى نتيجة مؤسفة جدا ، هي نسبة واحد الى خمسة عشر .
  واذا نظرنا الى جيش الحسن الذي بقى ينازل معاوية في مسكن وحده ـ على ضوء هذه القاعدة ـ رأيناه ينازل عدوا يعدّه خمسة واربعين ضعفا بالضبظ .
  فأين هي الكفاية لقمع فتنة الشام بالقوة ، ياترى ؟ ...
  ولن تجيز النظم المتبعة لحروب الانسان في التاريخ ، مبارزة واحد لخمسة و أربعين ، ولا محاربة واحد لخمسة عشر ، و ما هي ـ ان اتفقت يوما ـ بحرب نظامية ، تنتظرها النتائج ، و انما هي الحملات المستميتة التي تقصد الى الانتحار عن ارادة وعمد .
  فليكن الحسن ابن رسول الله ، هو ذلك المخلوق الذي ادخره الله للاصلاح لا للحرب ، وللسلام لا للخصام ، وليكن الغرس الذي أنبته الله للمسلمين لا لنفسه ، وللدين لا للسلطان وليكن نصيبه من هذا الموقف في الباقي دون الزائل ، وفي الخالد دون الفاني ، وفي الله دون الناس .
  وهكذا حالت رسالة الحسن بالسلام ، دون أن يشتبك الفريقان بحرب ما ، وكان ذلك هو الثابت ـ تاريخيا ـ رغم ان بعض المؤرخين حاول التلميح الى موقعة حربية ، بين جيش قيس ، قائد الحسن على مقدمته ـ وبين جند الشام في ( مسكن ) ، وصرح السيد في ( الدرجات

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 175 _

  الرفيعة ) بشيء من أطوار هذه الموقعة المزعومة .
  ولا نعرف لهذا النبأ مصدرا جديرا بالاعتبار ، أقدم من السيد الرفيع الدرجات ( السيد على خان المتوفى سنة 1120 هـ ) .
  ولا نجد من دراسة الوضع الراهن يومئذ في مسكن ما يدعم هذا الزعم .
  ولا نرى من خطة ( حقن الدماء ) التي كانت طابع سياسة الحسن ( عليه السلام ) ، في سائر مراحله ، ما يبعثنا على التسليم لهذا الخبر .
  ولا نفهم من حديث رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) ( بان الله سيصلح بالحسن بي فئتين عظيمتين من المسلمين ) الا كون الحسن رسول السلام في الاسلام .
  فأنى يكون لجيشه أن يحارب أو يهاجم ؟ .
  وعلمنا من وصية الحسن يوم حضرته الوفاة ، أنه لم يرض أن يهرق في أمر محجمة دم ، فكان في ذلك وفق رسالته التي أردها أو اريد لها .
  على أن شهود عيان كثيرين يؤكدون : ( أنه ولي الخلافة ولم يهرق في خلافته محجمة دم ) وقال ذلك بعضهم ، وهو يعزز كلامه بالقسم (1) مرتين .

---------------------------
(1) تراجع الاصابة ( ج 2 ص 12 ) ، وابن كثير في تاريخه ( ج 8 ص 8 و 14 ) وغيرهما .