البيعة

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 52 _

  اذا كان الدين في الاسلام ، هو ما يبلّغه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لانه الذي لا ينطق عن الهوى ( ان هو الا وحي يوحى ) ، واذا كان الخليفة في الاسلام هو من يعيّنه النبي للخلافة ، لانه المرجع الأعلى في الاثبات والنفي ، فالحسن بن علي ، هو الخليفة الشرعي ، بايعه الناس أو لم يبايعوه .
  ذكره رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلم ) باسمه في سلسلة أسماء خلفائه الاثني عشر ، كما تضافر به الحديث عنه ، فيما رواه علماء السنة (1) ، وفيما أجمع على روايته علماء الشيعة ، وفيما اتفق عليه الفريقان ، من قوله له ولاخيه الحسين : ( انتما الامامان ولأُمَّكما الشفاعة (2) ) ، وقوله وهو يشير الى الحسين : ( هذا امام ابن امام أخو امام أبو أئمة تسعة (3) ) ـ الحديث ـ .
  وأمره أبوه أمير المؤمنين ـ منذ اعتل ـ أن يصلي (4) بالناس ، وأوصى اليه عند وفاته قائلاً : ( يا بنيّ أنت ولي الامر وولي الدم ، وأشهد على وصيته الحسين ومحمداً وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته ، ودفع اليه الكتاب والسلاح ، ثم قال له : ( يا بنيّ أمرني رسول اللّه أن اوصي اليك ، وأن أدفع اليك كتبي وسلاحي ، كما أوصى اليّ رسول اللّه ودفع اليّ

---------------------------
(1) تجد ذلك مفصلاً في ينابيع المودة ( ج 2 ص 440 ) فيما يرويه عن الحمويني في فرائد السمطين ، وعن الموفق بن احمد الخوارزمي في مسنده ، وروى ذلك ابن الخشاب في تاريخه وابن الصباغ في ( الفصول المهمة ) ، والحافظ الكنجي في ( البيان ) ، وأسعد بن ابراهيم بن الحسن بن علي الحنبلي في ( أربعينه ) ، والحافظ البخاري ( خاجه بارسا ) في ( فصل الخطاب ) .
(2) الاتحاف بحب الاشراف ، للشبراوي الشافعي ( ص 129 ط مصر ) ونزهة المجالس ، للصفوري الشافعي ( ج 2 ص 184 ).
(3) ابن تيمية في منهاجه ( ج 4 ص 210 ) .
(4) المسعودي ( هامش ابن الاثير ج 6 ص 61 ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 53 _

  كتبه وسلاحه ، وأمرني أن آمرك ، اذا حضرك الموت أن تدفعها الى اخيك الحسين ) ، ثم أقبل على الحسين فقال : ( وأمرك رسول اللّه أن تدفعها الى ابنك هذا ) ، ثم اخذ بيد علي بن الحسين وقال : ( وأمرك رسول اللّه أن تدفعها الى ابنك محمد ، فأقرِئه من رسول اللّه ومني السلام ) (1).
  صورة تحكيها كل كتب الحديث التي تعرض لهذه المواضيع ، وترفعها مسندة بالطرق الصحيحة الموثقة ، الى مراجعها من اهل البيت عليهم السلام وغيرهم ، وهي الصورة التي تناسق الوضع المنتظر لمثل ظرفها ، والا فما الذي كان ينبغي غير ذلك ؟
  وهذه هي طريقة الامامية من الشيعة في اثبات الامامة .
  ـ نصوص نبوية متواترة من طرقهم ، ومروية بوضوح من طرق غيرهم ، تحصر الامامة في اثني عشر اماماً كلهم من قريش (2) ، وتذكر ـ ضمناً ـ أو في مناسبة اخرى ، أسماءهم اماماً اماماً الى آخرهم ، وهو المهدي المنتظر الذي يملأ اللّه به الارض قسطاً وعدلاً ، بعد أن تكون قد امتلأت ظلماً وجوراً .
  ـ ونصوص خاصة ، من كل امام على خلفه الذي يجب أن يرجع اليه الناس .
  ثم يكون من تفوّق الامام ، في علمه وعمله ومكارمه وكراماته ، أدلة وجدانية اخرى ، هي بمثابة تأييد لتلك النصوص بنوعيها .

---------------------------
(1) اصول الكافي ( ص 151 ) وكشف الغمة ( ص 159 ) وغيرهما .
(2) ففي صحيح مسلم ( ج 2 ص 119 ) في باب ( الناس تبع لقريش ) عن جابر بن سمرة قال : ( سمعت رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ) ، وروى نحواً منه البخاري ( ج 4 ص 164 ) وابو داود والترمذي في جامعه والحميدي في جمعه بين الصحيحين ، ورواه غيرهم ، والحديث بحصره العدد في الاثني عشر من قريش ، وبما يفصله صحيح مسلم من كون هذا العدد هو عدد الخلفاء الى ان تقوم الساعة ، صريح بما يقوله الامامية في ائمتهم ، دون ما وقع في التاريخ من أعداد الخلفاء ومختلف عناصرهم.

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 54 _

  اما بيعة الناس فليست شرطاً في امامة الامام ، وانما على الناس أن يبايعوا من أرادته النصوص النبوية ، ولا تصحّح الامامية بيعة غيره ، ولا تقع من أحدهم الا اضطراراً.
  وقضت الظروف بدوافعها الزمنيّة ، أن لا يبايع الناس من الائمة المنصوص عليهم ، الا الامامين علياً والحسن ( عليهما السلام ) .
  وابتدأ بعد الحسن عهد ( الخلافات ) الاسمية ، التي ترتكز في نفوذها على السلاح ، وتقوم في بيعتها على شراء الضمائر بالمال ، أو كما قال الغزالي ( وأفضت الخلافة الى قوم تولوها بغير استحقاق (1) .
  وكان الاولى بالمسلمين ، أو بمؤرخة الاسلام على الاخص ، ان يغلقوا عهد ( الخلافة ) بنهاية عهد الحسن ( عليه السلام ) ، ليشرعوا بعده عهد ( الملك ) بظواهره وسياسته وارتجالاته ولو فعلوا لحفظوا مثالية الاسلام مجلوّةً بما ترسَّمه خلفاؤه المثاليون من سيرة النبي ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) ولصانوا الاسلام عن كثير مما وصمه به هؤلاء الملوك الذين فرضوا على المسلمين خلافاتهم فرضاً ، ثم جاء التاريخ فرضي أن يسميّهم ( الخلفاء ) من دون استحقاق لهذا الاسم ، وأساء الى الاسلام من حيث أراد الاحسان.
  ترى ، أيصح للخليفة الذي يجب أن يكون أقرب الناس شبهاً بصاحب الرسالة في ورعه وعلمه والتزامه بحرفية الاسلام ، أن يصلي ( الجمعة ) يوم الاربعاء ، أو يصليها مرةً اخرى في ضحى النهار ، أو يتطلب محرماً ، أو يبيع الذهب باكثر منه وزناً ، أو يلحق العهار بالنسب ، أو يقتل المؤمن صبراً ، أو يرد الكافر بالمال ليتجهز على اخوانه المسلمين بالحرب ؟ الى غير ذلك والى أنكى من ذلك من ظواهر الملك التي لا يجوز نسبتها الى الدين ، فَلمَ لا يكون صاحبها رئيس دنيا و ( ملكاً ) بدل أن نسميه رئيس دينٍ و ( خليفةً ) ؟ ، وناهيك بمن جاء بعد معاوية من خلائف هذه الشجرة المنعوتة في القرآن ـ نعتها اللائق بها ـ ، فماذا كان من يزيد وماذا كان من

---------------------------
(1) تراجع ( دائرة المعارف ) لفريد وجدي مادة ( حسن ) ( ج 3 ص 231 ).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 55 _

  عبد الملك ومن الوليد ، ومن آخرين وآخرين .
  كل ذلك كان يجب أن يستحث المسلمين الى الانتصاف للاسلام ، فلا يضيفون الى مراكزه الدينية العليا ، الا الاكفاء المتوفرين بتربيتهم على مثاليّته والذين هم أقرب الناس شبهاً بمصدر عظمته الاول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  وعلمنا ـ مما تقدم ـ أن الحسن بن علي عليهما السلام ، كان أشبه الناس برسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) خلقاً وخلقاً وهيأة وسؤدداً (1) ، وانه كان عليه سيماء الانبياء وبهاء الملوك ، وعلمنا أنه كان سيد شباب أهل الجنة في الآخرة ، والسيد في الآخرة هو السيد في الدنيا غير منازع ، و ( السيد ) المطلق لقبه الشخصيّ الذي لقبه به جدّه رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله ) .
  وعلمنا أنه كان أشرف الناس نسباً ، وخيرهم أباً واماً وعماً وعمة وخالاً وخالة وجداً وجدة ، كما وصفه مالك بن العجلان في مجلس معاوية (2) .
  فلم لا يكون ـ على هذا ـ هو المرشح بالتزكية القطعية للبيعة العامة ، كما كان ـ الى ذلك ـ هو الامام المقطوع على أمره بالنص ، ولم لا يضاف

---------------------------
(1) الارشاد ( ص 167 ) واليعقوبي ( ج 2 ص 201 ) وغيرهما.
(2) قال معاوية ذات يوم ـ وعنده اشراف الناس من قريش وغيرهم : ( اخبروني بخير الناس اباً واماً وعماً وعمة خالاً وخالة وجداً وجدة ) ، فقام مالك بن العجلان ، فأومأ الى الحسن فقال : ( ها هو ذا ابوه علي بن ابي طالب ، وامه فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعمه جعفر الطيار في الجنان ، وعمته ام هانئ بنت ابي طالب ، وخاله القاسم ابن رسول اللّه وخالته بنت رسول اللّه زينب ، وجده رسول اللّه ، وجدته خديجة بنت خويلد ) ، فسكت القوم ، ونهض الحسن ، فاقبل عمرو بن العاص على مالك فقال : ( أحب بني هاشم حملك على ان تكلمت بالباطل ؟ ) ، فقال ابن العجلان : ( ما قلت الا حقاً ، وما احد من الناس يطلب مرضاة مخلوق بمعصية الخالق ، الا لم يعط امنيته في دنياه ، وختم له بالشقاء في آخرته ، بنو هاشم انضرهم عوداً ، وأوراهم زنداً ، كذلك يا معاوية ؟ قال : اللهم نعم ) ، ( البيهقي ج 1 ص 62 ).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 56 _

  اليه المركز الدينيّ الأعلى ، وهو من عرفت مقامه وسموّه ومميزاته ، واذا تعذر علينا أن نفهم الامامة والكفاءة للخلافة ، من هذه القابليات الممتازة والمناقب الفضلى ، فأي علامة اخرى تنوب عنها أو تكفينا فهمها .
  خرج ( عليه السلام ) الى الناس ، غير ناظر الى ما يكون من أمرهم معه ، ولكنه وقف على منبر أبيه ، ليؤبن أباه بعد الفاجعة الكبرى في مقتله صلوات اللّه وسلامه عليه .
  فقال : ( لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الاولون ، ولا يدركه الآخرون ، لقد كان يجاهد مع رسول اللّه فيقيه بنفسه ، ولقد كان يوجّهه برايته ، فيكتنفه جبرئيل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره ، فلا يرجع حتى يفتح اللّه عليه ، ولقد تُوفي في الليلة التي قبض فيها موسى بن عمران ، ورفع بها عيسى بن مريم ، وانزل القرآن ، وما خلّف صفراء ولا بيضاء الا سبعمائة درهم من عطائه ، أراد أن يبتاع بها خادماً لاهله (1) .
  وتأبين الحسن هذا ـ بأسلوبه الخطابي ـ فريد لا عهد لنا بمثله ، لانه ـ كما ترى ـ لم يعرض الى ذكر المزايا المعروفة في الراحل العظيم ، كما هي العادة المتبعة في أمثال هذه المواقف ، ولا سيما في تأبين الرجال الذين احتوشوا الفضائل ، فكان لهم أفضل درجاتها ، ومرنوا على المكارم فاذا هم في القمة من ذرواتها ، علماً وحلماً وفصاحة وشجاعة وسماحة ونسباً وحسباً ونبلاً ووفاء واباء ، كعلي الذي حيّر المادحين مدح علاه ، فلماذا يعزف الحسن ( عليه السلام ) ، فيما يؤبنه به عن الطريقة المألوفة في تأبين العظماء ؟ ، ترى أكانت الصدمة القوية في مصيبته به ، هي التي سدّت عليه ـ وهو الخطيب المصقع وابن أخطب العرب ـ أبواب القول فيما ينبغي أن يقول ، أم أنه كان قد عمد الى هذا الاسلوب قاصداً ، فكان في اختيار

---------------------------
(1) اليعقوبي ( ج 2 ص 190 ) وابن الاثير ( ج 3 ص 16 ) ومقاتل الطالبيين.

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 57 _

  الاسلوب الخاص ، ابلغ الخطباء وابرعهم اصابة للمناسبات ، وأطولهم خطابة على اختصار الكلمات .
  نعم انه يؤبّنه بما لا يسع أحداً في التاريخ أن يؤبن به غيره ، وكل تأبين على غير هذا الاسلوب ، كان بالامكان أن يؤبَّن على غراره غيره وغيره من عظماء الناس ، اما الاوصاف الفريدة التي ذكرها الحسن لأبيه في هذا التأبين ، فكانت الخصائص العلوية التي لا تصح لغير علي في التاريخ ، ولا يشاركه فيها أحد من العظماء ولا من الاولياء .
  انه ينظر اليه من زاويته الربانية ـ نظر امام الى امام ـ فاذا هو الراحل الذي لا يشبهه راحل ولا مقيم ، ولا يضاهيه ـ في شتى مراحله ـ وليٌّ ولا زعيم.
  رجلٌ ولكنه الذي لم يسبقه الاولون ولا يدركه الآخرون ، وانسان ولكنه بين جبرئيل وميكائيل ، وهل هذا الا الانسان الملائكي ، ترفع روحه يوم يرفع عيسى ، ويموت يوم يموت موسى ، وينزل الى قبره يوم ينزل القرآن الى الارض! مراحل كلها بين ملَكٍ مقرّب ونبي مرسلٍ وكتاب منزل ، ومع رسول اللّه يقيه بنفسه ، فما شأن مكارم الدنيا ، الى جنب هذه المكرمات الكرائم ، حتى يعرض اليها في تأبينه .
  ولعلك تتفق معي الآن الى أن هذا الاسلوب الرائع ( الفريد ) فيما أبن به الحسن أباه ( عليهما السلام ) ، كان أبلغ تأبين في ظرفه ، وأليقه بهذا الفقيد .
  وهذه احدى مواقفه الخطابية ، التي دلت بموهبتها الممتازة على نسبها القريب ، من جده ومن أبيه ( صلى اللّه عليهما وعلى آلهما ) ، وسيكثر منذ اليوم أمثالها ، من الحسن ( الخليفة ) ( عليه السلام ) ، بحكم نزوله الى قبول البيعة من الناس ، وبما سيستقبله من طوارئ كثيرة ، تستدعيه للكلام وللقول وللخطابة في مختلف المناسبات .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 58 _

  ووقف بحذاء المنبر في المسجد الجامع ـ وقد غص بالناس ـ ابن عمه ( عبيد اللّه بن عباس بن عبد المطلب ) ، ينتظر هدوء العاصفة الباكية المرَّنة ، التي اجتاحت الحفل ، في أعقاب تأبين الامام الحسن لابيه ( عليهما السلام ) .
  ثم قال ـ بصوته الجهوريّ الموروث ـ الذي يدوّي في الارض دويّ أصوات السماء ، وما كان عبيد اللّه منذ اليوم ، الا داعي السماء الى الارض :
  ( معاشر الناس هذا ابن نبيكم ، ووصي امامكم فبايعوه ) ( يهدي به اللّه من اتبع رضوانه سبل السلام ، ويخرجهم من الظلمات الى النور باذنه ، ويهديهم الى صراط مستقيم ) .
  وفي الناس الى ذلك اليوم ، كثير ممن سمع نص رسول اللّه ( صلى اللّه عليه واله وسلم ) ، على امامته بعد ابيه ، فقالوا : ( ما أحبّه الينا وأوجب حقه علينا وأحقه بالخلافة ) ، وبادروا الى بيعته راغبين .
  وكان ذلك يوم الواحد والعشرين من شهر رمضان ، يوم وفاة ابيه ( عليه السلام ) ، سنة اربعين للهجرة (1) .
  وهكذا وفقت الكوفة لان تضع الثقة الاسلامية في نصابها المفروض لها ، من اللّه عز وجل ومن العدل الاجتماعي ، وبايعته ـ معها ـ البصرة والمدائن وبايعه العراق كافة ، وبايعه الحجاز واليمن على يد القائد العظيم ( جارية بن قدامة ) ، وفارس على يد عاملها ( زياد بن عبيد ) ، وبايعه ـ الى ذلك ـ من بقي في هذه الآفاق من فضلاء المهاجرين والانصار ، فلم يكن لشاهد أن يختار ولا لغائب أن يرد ، ولم يتخلف عن بيعته ـ فيما نعلم ـ الا معاوية ومن اليه ، واتبع بقومه غير سبيل المؤمنين ، وجرى مع الحسن مجراه مع أبيه بالامس ، وتخلّف أفراد آخرون عرفوا بعد ذلك بالقعّاد .

---------------------------
(1) يرجع فيما ذكرناه هنا الى شرح النهج لابن ابي الحديد ( ج 4 ص 11 ) وذكر غيره مكان عبيد اللّه أخاه عبد اللّه ، وسنشير في فصل ( القيادة والنفير ) الى ان عبد اللّه لم يكن في الكوفة أيام بيعة الحسن.

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 59 _

  اما الخلافة الشرعية ، فقد تمت ( على ظاهرتها العامة ) من طريق البيعة الاختيارية ، للمرة الثانية في تاريخ آل محمد ( صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم ) الطاهرين وطلعت على المسلمين من الزاوية المباركة التي طلعت عليهم بالنبوة قبل نصف قرن ، فكانت من ناحية صلتها برسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) ، امتداداً لمادة النور النبويّ ، في المصباح الذي يستضيء به الناس ، ومع الخليفة الجديد كل العناصر المادية والمعنوية التي تحملها الوراثة في كينونته ومثاليته .
  فكان على ذلك الأولى بقول الشاعر :
نال الخلافة اذ كانت له iiقدراً      كما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ

  ويعود الامام الحسن ( عليه السلام ) ـ بعد أن أُخذت البيعة له ـ فيفتتح عهده الجديد ، بخطابه التاريخيّ البليغ ، الذي يستعرض فيه مزايا أهل البيت وحقهم الصريح في الامر ، ثم يصارح الناس فيه بما ينذر به الجوّ المتلبد بالغيوم من مفاجئات واخطار ...
  فيقول ، ( وهو بعض خطابه ) :
  ( نحن حزب اللّه الغالبون ، وعترة رسول اللّه الاقربون ، وأهل بيته الطيبون الطاهرون ، وأحد الثقلين اللذين خلّفهما رسول اللّه في امته ، ثاني كتاب اللّه الذي فيه تفصيل كل شيء ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فالمعوّل علينا في تفسيره ، لا نتظنن تأويله بل نتيقن حقائقه ، فأطيعونا فان طاعتنا مفروضة ، اذ كانت بطاعة اللّه ورسوله مقرونة ، قال اللّه عزّ وجل : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول واولي الامر منكم فان تنازعتم في شيء فردّوه الى اللّه والرسول وقال : ولو ردّوه الى الرسول واولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) .
  ثم يمضي في خطابه ، ويردف أخيراً بقوله :

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 60 _

  ( واحذركم الاصغاء لهتاف الشيطان فانه لكم عدوّ مبين فتكونون كأوليائه الذين قال لهم : لا غالب لكم اليوم من الناس واني جارٌ لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال اني بريء منكم اني أرى ما لا تَرون ، فستلقون للرماح وردا ، وللسيوف جزرا ، وللعُمُد حطما ، وللسهام غَرَضا ، ثم لا ينفع نفساً ايمانها ، لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في ايمانها خيراً (1) ) ...
  ثم نزل من على منبره ، فرتب العمّال ، وأمَّر الامراء ونظر في الامور (2).

قبول الخلافة
  وتحذلق بعض المترفهين بالنقد ، فرأى من ( التسرع ) قبول الحسن للخلافة ، في مثل الظرف الذي بايعه فيه الناس ، بما كان يؤذن به هذا الظرف من زعازع ونتائج ، بعضها ألم ، وبعضها خسران .
  ولكي نتبين مبلغ الاصابة في التسرع الى هذا النقد ، نقول :
  اما اولاً :
  فلما كان الواجب على الناس ديناً ، الانقياد الى بيعة الامام المنصوص عليه ، كان الواجب على الامام ـ مع قيام الحجة بوجود الناصر ـ قبول البيعة من الناس .
  اما قيام الحجة ـ فيما نحن فيه ـ فقد كان من انثيال الناس طواعية الى البيعة في مختلف بلاد الاسلام ، ما يكفي ـ بظاهر الحال ـ دليلاً عليه ، ولا مجال للتخلف عن الواجب مع وجود شرطه .
  واما ثانياً :
  فان مبعث هذا الانعكاس البدائي ، عن قضية الحسن ( عليه السلام ) هو

---------------------------
(1) روى هذه الخطبة هشام بن حسان ، وقال : انها بعض خطبته بعد البيعة له بالامر البحار ( ج 10 ص 99 ) والمسعودي .
(2) وروى هذا النص اكثر المؤرخين .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 61 _

  النظر اليها من ناحيتها الدنيوية فحسب ، بينما الانسب بقضية ( امام ) ان يستنطقها الباحث من ناحيتها الدينية على الاكثر ، وكثير هو الفرق بين الدنيا والدين في نظر امام ، والقضية من هذه الناحية ظفر لا خسارة ـ كما سنأتي على توضيحه في محله المناسب ـ وهي وان تكن معرض آلام ، ولكنها آلام في سبيل الاسلام ، ومن أولى من الحسن بالاسلام وتحمّل آلامه ، وانما هو نبت بيته.
  واما ثالثاً :
 فلم يكن الحسن في رفعة مكانه من زعماء المسلمين ، وفي نسبه الممتاز ومركزه من العلم ، بالذي يستطيع الفراغ وان أراده عن عمد ، ولا بالذي يتركه الناس وان أراد هو ان يتركهم ، وكان لابد للرجات العنيفة في المجتمع الاسلامي ، أن تتدافع اليه ، تستدعيه للوثوب احقاقاً للحق وانكاراً للمنكر ـ كما وقع لاخيه الحسين ( عليه السلام ) في ظرفه .
  وأيضاً ، فلو ترك الناس وتجافى عن بيعتهم ، أو تركه الناس وأعفوه خلافتهم ، فلن يتركه المتغلبون على الناس ، وانهم لينظرون اليه ـ دائماً ـ كشبح مخيف ، بما يدور حوله من الدعوة الى الاصلاح ، او النقمة الصارخة على الوضع ، التي كان يتطوع لها مختلف الطبقات ، من الساخطين والمعارضين والدعاة للّه ، ولن يجد هؤلاء يومئذ ملجأ يفيئون اليه ، خيراً من ابن رسول اللّه الامام المحبوب ، وهل كانت الوفود التي عرضت عليه استعدادها لمناوأة الحكام الامويين واعادة الكرة (1) لاسترجاع الحق المغصوب ، الا ظاهرة هذه النقمة الصارخة التي كان يعج بها المجتمع الاسلامي يوم ذاك ، وأنى لسلطان المتغلبين أن يستقر ما دام هذا المنار قائماً يفيء اليه الناس.
  ولنتذكر أنه قتل مسموماً ، ولماذا يقتلونه وقد صالحهم وترك لهم الدنيا برمتها ، لولا أنهم خافوه على سلطانهم ، ورأوا من وجوده حاجزاً

---------------------------
(1) الامامة والسياسة ( ص 151 ).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 62 _

  يمنعهم من النفوذ الى قلوب الناس ؟ وهل ذلك الا دليل انقياد الناس ـ في عقيدتهم ـ اليه دونهم ؟
  وهذا كله بعد الصلح ، وبعد ظهور جماعات من شيعته وغير شيعته ينكرون عليه موقفه من الصلح .
  ترى فكيف كانت قوته في الناس لو انه أبى الخلافة من أول الامر ، وبقي شغف المسلمين الى بيعته على حدّته ، فهل كان من المحتمل ، أن يظل محور الامل ومفزع الناقمين والمعارضين ، ثم تنام عنه العيون الحذرة على دنياها ، فلا تعاجله بما ختمت به حياته المقدسة اخيراً ؟ وهل كان الا طعمة الاغتيالات الكافرة في سنته الاولى بعد ابيه ـ على اغلب الظن ـ ؟ .
  فأيّ منطق هذا الذي يرى من قبول الحسن للخلافة تسرّعاً !
  والخلافة ـ في أصلها ـ مقام ابيه وميراثه وميراث أخيه ـ على حد تعبير الامام علي بن موسى بن جعفر ( عليهم السلام ) .
  واما الزعازع التي لوّح بها هذا النقد ، فما كانت الا خطط المناوئين في الكوفة ، وليس شيء منها بالذي يضير الحسن ابان نشاط الناس معه ـ كما هو في ابان بيعته ـ وأي خليفة أو زعيم ليس له مناوئون ؟
  فلم لا يكون قبول البيعة هو الارجح على مختلف الوجوه ؟ .
  بل هو الواجب لضرورة الوقت وللمصلحة العامة ولاحقاق الحق .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 63 _

الكوفة ايّام البَيعة

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 64 _

  الكوفة كما يصفها صعصعة بن صوحان العبدي (1) : ( قبة الاسلام وذروة الكلام ، ومصان (2) ذوي الاعلام ، الا ان بها أجلافاً (3) تمنع ذوي الامر الطاعة وتخرجهم عن الجماعة ، وتلك أخلاق ذوي الهيئة والقناعة ).
  مصّرها المسلمون في السنة السابعة عشرة (4) للهجرة بعد فتح العراق مباشرة .
  وكان بناؤها الاول بالقصب ، فأصابها حريق ، فبنيت باللبن وكانت شوارعها العامة بعرض عشرين ذراعاً ـ بذراع اليد ـ ، وأزقتها الفرعية بعرض سبعة أذرع ، وما بين الشوارع أماكن البناء وهي بسعة أربعين ذراعاً ، والفطايع وهي بسعة ستين ذراعاً .
  وكان المسجد أول شيء خطّوه فيها ، فوقف في وسط الرقعة التي أريدت للمدينة ، رجل شديد النزع ، رمى الى كل جهة بسهم ، ثم اقيمت المباني فيما وراء السهام ، وترك ما دونها للمسجد وساحته ، وبنوا في مقدمة المسجد رواقاً ، أقاموه على أساطين من رخام كان الاكاسرة قد جلبوها من خرائب الحيرة ، وجعلوا على الصحن خندقاً لئلا يقتحمه أحد ببنيان .
  وزاد عمران الكوفة زيادة مفاجئة ، حين هاجر اليها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فاتخذها مقراً له بعد وقعة الجمل سنة 36 للهجرة وكان دخوله اليها في الثاني عشر من شهر رجب .

---------------------------
(1) تجد ترجمته في ( زعماء الشيعة المروعين ) في الكتاب ، وروى كلمته هذه المسعودي ( هامش ابن الاثير ج 6 ص 118 ) .
(2) بفتح اوله غلاف القوس .
(3) الجلف هو الغليظ الجافي .
(4) البلاذري في فتوح البلدان والبراقي في تاريخ الكوفة ، وذكره الحموي في المعجم ثم ناقض نفسه اذ قال في مادة ( البصرة ) : ( وكان تمصير البصرة في السنة الرابعة عشرة قبل الكوفة بستة أشهر ! ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) ـ 65 ـ

  وكان من بواعث هذه البادرة ـ هجرة علي الى الكوفة ـ ضعف موارد الحجاز ، واعتماده في موارده على غيرها ، وما من علة تتعرض لها دولة أضرّ من اعتمادها في الموارد على غيرها ، وكانت الكوفة وبلاد السواد تكفي نفسها وتفيض ، وهذا عدا الاسباب العسكرية التي اضطرته لها الثورات المسلحة التي كانت تتخذ من بلاد الرافدين ميادين لاعمالها العدوانية .
  وتقاطر على الكوفة ـ اذ هي عاصمة الخلافة ـ كبار المسلمين من مختلف الآفاق ، وسكنتها القبائل العربية من اليمن والحجاز ، والجاليات الفارسية من المدائن وايران ، وعمرت فيها الاسواق التجارية ، وزهت فيها الدراسات العلمية ، وأنشئت حولها الحدائق والبساتين والارباض والقريات ، وأغفت على ذراعها أمجاد التاريخ والآداب والعلوم زمناً طويلاً .
  وغلب على الكوفة تحت ظل الحكم الهاشمي التشيّع لعلي واولاده عليهم السلام ، ثم لم يزل طابعها الثابت اللون ، ووجد معه بحكم اختلاف العناصر التي يممت المصر الجديد أهواء مناوئه اخرى ، كانت بعد قليل من الزمن أداة الفتن في اكثر ما عصف بالكوفة من الزعازع التاريخية والرجّات العنيفة لها وعليها .
  وجاءت بيعة الحسن ( عليه السلام ) يوم بايعته الكوفة ، عند ملتقى الآراء من سائر العناصر الموجودة فيها يوم ذاك ، على أنها كانت قلَّ ما تلتقي على رأي .
  وكان للحسن من اسلوب حياته في هذه الحاضرة ، مدى اقامته فيها ، ما جعله قبلة الانظار ومهوى القلوب ومناط الآمال ، وملأ أجواء المدينة الجديدة ( عاصمة ابيه ) بكرائم المكرمات التي تنتقل في آل محمد بالارث : جود يد ، وسجاحة خلق ، ونبل شعور ، وظرف شمائل ، وسعة حلم ، ورجاحة عقل وعلم وزهادة وعبادة ، وضحك منبر الخلافة ـ في بحران

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 66 _

  حزنه على الامام الراحل ـ بما شاع في أكنافه من شيم الانبياء الموروثة في خليفته الجديد ، ولم يكن ثمة أعمل بالتقوى ، ولا أزهد بالدنيا ، ولا أجمع لخصال الخير كلها منه ، لذلك كان الشخصية الفذة التي تتفق عليها الآراء المختلفة عن رغبة وعمد ، وتجتمع فيها عناصر الزعامة كما يجب في قائد أمة أو امام قوم .
  وانتهت مهرجانات البيعة في الكوفة على خير ما كان يرجى لها من القوة والنشاط والتعبئة ، لولا ان للقدر أحكاماً لا تجري على أقيسة العقول ، ولا تسير على رغائب الانفس ، فكان الجوّ السياسي في الحاضرة التي تحتفل لاول مرة في تاريخها بتنصيب خليفة ، لا يزال راكداً متلبداً مشوباً بشيء كثير من التبليل المريب ، وذلك هو ما ورثته الكوفة من مخلّفات الحروب الطاحنة التي كانت على مقربة منها في البصرة والنهروان وصفين ، وفي الكوفة يومئذ انصار كثيرون لشهداء هذه الحروب وضحاياها من الفريقين يشاركونهم الرأي ، ويتمنون لو يسّر لهم اخذ الثار ، ويعملون ما وسعهم العمل لتنفيذ اغراضهم.
  ومن هذه الاغراض ، الاغراض الصالحة المؤاتية ، ومنها الفاسدة المبرقعة الاهداف التي لا تفتأ تخلق ذرائع الخلاف في المجموع .
  اما الحسن ـ وهو في مستهل خلافته ـ فقد كانت القلوب كلها معه لانه ابن بنت رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) ، ولان من شرط الايمان مودته ، ومن شرط البيعة طاعته.
  قال ابن كثير : ( وأحبوه أشد من حبهم لابيه (1) .
  وكان لا يزال بمنجاة من هؤلاء وهؤلاء ، ما دام لم يباشر عملاً ايجابياً يصطدم بأهداف البعض ، أو يمس الوتر الحساس من عصبيات البعض الآخر ، ذلك لان الوسائل التي أصبح يعيش بها الاسلام يومئذ ، كانت

---------------------------
(1) البداية والنهاية ( ج 8 ص 41 ).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 67 _

  تخضع في أمثال هؤلاء المسلمين للاهداف الشخصية تارة ، وللعصبيات اخرى.
  وخيل للكثيرين من اولئك الذين تتحكم فيهم الانانية والنفعية حتى تتجاوز بهم حدود العقيدة ، أنهم اذ يبايعون الحسن بالخلافة ، انما يتسورّون بهذه البيعة الى اسناد قضاياهم ، وارضاء مطامعهم ، عن طريق الخلق الثري الواسع ، الذي ألفوه في الحسن بن علي منذ عرفوه بين ظهرانيهم ، والذي كان يذكّرهم ـ دائماً ـ بخلق جده الأعظم صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وكانوا يحفظون من صحابة الرسول أن الحسن أشبه آله به خلقاً وخلقاً .
  والواقع انهم فهموا هذا الخلق العظيم على غير حقيقته .
  وتسابق على مثل هذا الظن كثير من ذوي المبادئ التي لا تتفق والحسن في رأي ولا عقيدة ، فبايعوه راغبين ، كما يبايعه المخلصون من المؤمنين ، ثم كان هؤلاء ـ بعد قليل من الزمن ـ أسرع الناس الى الهزيمة من ميادينه لا يلوون على شيء ، ذلك لانهم حين عركوا مواطن طمعهم من ليونة الحسن ( عليه السلام ) ، وجدوها بعد تسلّمه الحكم واضطلاعه بالمسؤولية ، أعنف من زبر الحديد ، حتى ان كلاً من أخيه وابن عمه وهما اقرب الناس اليه وأحظاهم منزلة عنده عجز ان يعدل به عن رأي أراده ، ثم مضى معتصماً برأيه في غير تكلّف ولا اكتراث .
  ولهذا ، فلم يكن عجيباً أن تدب روح المعارضة وئيدةً في الجماعات القلقة من هؤلاء الرؤساء والمترئسين في الكوفة ، ولم يكن عجيباً ان يعودوا متدرجين الى سابق سيرتهم مع الامام الراحل الذي ( ملأوا قلبه غيظاً وجرّعوه نغب التهمام انفاساً ) ، وهكذا تنشأت ـ في هذا الوسط الموبوء ـ الحزبية الناقمة التي لا تعدم لها نصيراً قوياً في الخارج ، وهكذا انبثقت مع هذه الحزبية المشاكل الداخلية بمختلف الوانها.
  واستغل هذه المرحلة الدقيقة فئات من النفعيين ، تمكنوا ان يخلقوا من

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 68 _

  أنفسهم همزة وصل بين الكوفة والشام ، بما في ذلك من تمرد على الواجب. وخروج على الخلق ، وخيانة للعهد الذي فرضته البيعة في أعناقهم .
  وقديماً مرن هذا النمط من ( أشباه الرجال ) على الشغب والقطيعة والنفور ، منذ انتقلت الخلافة الاسلامية الى الحاضرة الجديدة في العراق بما تحمله معها من الصراحة في الحكم والصرامة في العدل ، وكان قلق هؤلاء وتبرمهم ونفورهم ، نتيجة اليأس من دنيا هذه الخلافة ، لانها لم تكن خلافة دنيا ولكن خلافة دين ، وعلموا أنها لن تقرهم على ما هم عليه من سماحة التصرفات في الشؤون العامة والاستئثار بالدنيا ، وأنها ستأخذ عليهم الطريق دون آمالهم واعمالهم ومختلف تصرفاتهم .
  ووجد هؤلاء من نشوء الخلافة الجديدة في الكوفة ، ومن استمرار معاوية على الخلاف لها في الشام ، ظرفاً مناسباً لبعث النشاط واستئناف أعمال الشغب واستغلال الممكن من المنافع العاجلة ، ولو من طريق اللعب على الجانبين ، فاما أن يحتلوا من الامارة الجديدة أمكنتهم التي ترضي طموحهم ، واما أن يعملوا على الهدم ويتعاونوا على الفساد. وكانت خزائن الشام لا تفتأ تلوح بالمغريات من الاموال والمواعيد ، وكانت الاموال والمواعيد أمضى أسلحة الشام في مواقفها من الكوفة على طول الخط .
  وهكذا فتَّ في أعضاد كوفة الحسن تقلّب الهوى وتوزّع الرأي وتداعي الخلق وتوقح الخصومة في الكثير الكثير من أهلها .
  وكان على هذه الشاكلة من عناصر الكوفة ابان بيعة الحسن ( عليه السلام ) أقسام من الناس .
  لنا ان نصنّفهم كما يلي :

1 ـ الحزب الاموي :
  واكبر المنتسبين اليه عمرو بن حريث ، وعمارة بن الوليد بن عقبة ، وحجر بن عمرو ، وعمر بن سعد بن ابي وقاص ، وأبو بردة بن أبي موسى الاشعري ، واسماعيل واسحق ابنا طلحة بن عبيد اللّه ، واضرابهم .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 69 _

  وفي هذا الحزب عناصر قوية من ذوي الاتباع والنفوذ ، كان لها أثرها فيما نكبت به قضية الحسن من دعاوات ومؤامرات وشقاق .
  ( فكتبوا الى معاوية بالسمع والطاعة في السرّ ، واستحثوه على المسير نحوهم ، وضمنوا له تسليم الحسن اليه عند دنوّهم من عسكره ، أو الفتك به (1) .
  وفيما يحدثنا المسعودي في تاريخه (2) : ( أن أكثرهم اخذوا يكاتبونه ـ يعني معاوية ـ سراً ، ويتبرعون له بالمواعيد ، ويتخذون عنده الايادي ) .
  ( ودس معاوية الى عمرو بن حريث والاشعث بن قيس وحجار بن أبجر وشبث بن ربعي دسيسةً ، وآثر كل واحد منهم بعين من عيونه ، انك اذا قتلت الحسن ، فلك مائة الف درهم ، وجند من اجناد الشام ، وبنت من بناتي ، فبلغ الحسن ( عليه السلام ) ذلك فاستلأم ( لبس اللامة ) ولبس درعاً وكفرها ، وكان يحترز ولا يتقدم للصلاة بهم الا كذلك ، فرماه أحدهم في الصلاة بسهم ، فلم يثبت فيه لما عليه من اللامة (3) .
  ومثلٌ واحد من هذه النصوص يغني عن أمثال كثيرة .
  وهكذا كان يعمل هؤلاء عامدين ، شر ما يعمله خائن يتحين الفرص ، وكانت محاولاتهم اللئيمة ، لا تكاد تختفي تحت غمائم الدجل والنفاق ، حتى

---------------------------
(1) المفيد في الارشاد ( ص 170 ) ـ والطبرسي في اعلام الورى .
(2) هامش ابن الاثير ( ج 6 ص 42 ) ، اقول : وما يدرينا أن يكون كثير من أهل الشام كاتبوا الحسن يومئذ ، بمثل ما كاتب به الكوفيون معاوية ، وقد علمنا ان الفريقين ـ أهل الشام واهل الكوفة ـ كانوا سواء في افلاسهم الخلقي الذي ينزع الى الخيانة كلما أغرتهم المظاهر ، وعليك ان ترجع الى البيهقي في المحاسن والمساوي ( ج 2 ص 200 ) لتشهد مكاتبة أصحاب معاوية علياً ( عليه السلام ) ، وترجع الى اليعقوبي ( ج 3 ص 12 ) لتشهد مكاتبة عامة أصحاب عبد الملك بن مروان لمصعب بن الزبير وطلبهم الامان والجوائز منه ، فلعل مكاتبة الشاميين للحسن انما خفيت علينا لان الحسن كان آمن من صاحبه على السر فلم يبح بما وصله منهم ، أو لان المؤرخين شاءوا اغفالها ككثير من امثالها .
(3) علل الشرائع ( ص 84 ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 70 _

  تبدو عارية سافرة في ساعة نداء الواجب .
  وهكذا كانوا ـ على طول الخط ـ قادة السخط ، وأعوان الثورة ، وأصابع العدو في البلد .
  ومالأهم ( الخوارج ) على حياكة المؤامرات الخطرة ، بحكم ازدواج خطة الفئتين ، على مناهضة الخلافة الهاشمية في عهديها الكريمين، ودل على ذلك اشتراك كل من الاشعث بن قيس وشبث بن ربعي فيما يرويه النص الاخير من هذه الامثلة الثلاث ، وكان هذان من رؤوس الخوارج في الكوفة .

2 ـ الخوارج :
  وهم أعداء علي ( عليه السلام ) منذ حادثة التحكيم ، كما هم اعداء معاوية .
  وأقطاب هؤلاء في الكوفة : عبد اللّه بن وهب الراسبي ، وشبث بن ربعي ، وعبد اللّه بن الكوّاء ، والاشعث بن قيس ، وشمر بن ذي الجوشن .
  وكان الخوارج أكثر اهل الكوفة لجاجة على الحرب ، منذ يوم البيعة ، وهم الذين شرطوا على الحسن عند بيعتهم له حرب الحالّين الضالّين ـ أهل الشام ـ ، فقبض الحسن يده عن بيعتهم على الشرط ، وأرادها ( على السمع والطاعة وعلى أن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم ) ، فأتوا الحسين أخاه ، وقالوا له : ( ابسط يدك نبايعك على ما بايعنا عليه أباك يوم بايعناه ، وعلى حرب الحالين الضالين أهل الشام )، فقال الحسين : ( معاذ اللّه أن ابايعكم ما دام الحسن حياً )، فانصرفوا الى الحسن ولم يجدوا بداً من بيعته على شرطه (1) .
  أقول : وما من ظاهرة عداء للحسن ( عليه السلام ) ، فيما اقترحه هؤلاء

---------------------------
(1) يراجع كتاب الامامة والسياسة ( ص 150 ).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 71 _

  الخوارج لبيعتهم اياه ، ولا في اصرارهم على الحرب ، وقد كان في شيعة الحسن من يشاطرهم الالحاح على الحرب ، ولكنك سترى فيما تستعرضه من مراحل قضية الحسن ( عليه السلام ) ، أن الخوارج كانوا أداة الكارثة في أحرج ظروفها ، ورأيت فيما مرّ عليك ـ قريباً ـ أن زعيمين من زعمائهم ساهما في أفظع مؤامرة أموية في الكوفة.
  وللخوارج في دعاوتهم الى ( الخروج ) أساليبهم المؤثرة المخيفة ، التي كانت تزعزع ايمان كثير من الناس بالشكوك. وكان هذا هو سرّ انتشارهم بعد نكبتهم الحاسمة على شواطئ النهروان.
  وكان زياد بن ابيه يصف دعوة الخوارج بقوله : ( لكلام هؤلاء أسرع الى القلوب من النار الى اليراع (1) ، وكان المغيرة بن شعبة يقول فيهم : ( انهم لم يقيموا ببلد يومين الا افسدوا كل من خالطهم ) (2).
  والخارجي يقول الزور ويعتقده الحق ، ويفعل المنكر ويظنه المعروف ، ويعتمد على اللّه ولا يتصل اليه بسبب مشروع .
  وسنعود الى ذكرهم في مناسبة اخرى عند الكلام على ( عناصر الجيش ) .

3 ـ الشكاكون :
  ورأينا ذكر هؤلاء فيما عرضه المفيد ( رحمه اللّه ) من عناصر جيش الحسن ( عليه السلام ) ، والذي يغلب على الظن ، أن تسميتهم بالشكاكين ترجع الى تأثرهم بدعوة الخوارج من دون أن يكونوا منهم ، فهم المذبذبون لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء.
  ورأيت المرتضى في أماليه ( ج 3 ص 93 ) يذكر ( الشكاك ) استطراداً ويلوّح بكفرهم ، وكأنه فهم عنهم التشكيك بأصل الدين .

---------------------------
(1) اليراع : القصب.
(2) الطبري ( ج 6 ص 109 ).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 72 _

  وكانوا طائفة من سكان الكوفة ومن رعاعها المهزومين ، الذين لا نية لهم في خير ولا قدرة لهم على شر ، ولكن وجودهم لنفسه كان شراً مستطيراً وعوناً على الفساد وآلة ( مسخرة ) في أيدي المفسدين.

4 ـ الحمراء :
  وهم عشرون الفاً من مسلحة الكوفة ( كما يحصيهم الطبري في تاريخه ) ، كانوا عند تقسيم الكوفة في السبع الذي وضع فيه أحلافهم من بني عبد القيس ، وليسوا منهم ، بل ليسوا عرباً ، وانما هم المهجّنون من موالٍ وعبيد ، ولعل اكثرهم من أبناء السبايا الفارسيات اللائي اخذن في ( عين التمر ) و ( جلولاء ) من سنة 12 ـ 17 فهم حملة السلاح سنة 41 وسنة 61 في ازمات الحسن والحسين ( عليهما السلام ) في الكوفة ( فتأمل ) .
  والحمراء شرطة زياد الذين فعلوا الافاعيل بالشيعة سنة 51 وحواليها ، وكانوا من اولئك الذين يحسنون الخدمة حين يغريهم السوم ، فهم على الاكثر أجناد المتغلبين وسيوف الجبابرة المنتصرين .
  وقويت شوكتهم بما استجابوا له من وقايع وفتن في مختلف الميادين التي مرّ عليها تاريخ الكوفة مع القرن الاول، وبلغ من استفحال امرهم في الكوفة أن نسبوها اليهم فقالوا ( كوفة الحمراء ) .
  وكان في البصرة مثل ما في الكوفة من هؤلاء المهجَّنين الحمر، وخشي زياد ( وكان والي البصرة اذ ذاك ) قوّتهم فحاول استئصالهم ، ولكن الاحنف بن قيس منعه عما أراد .
  ووهم بعض كتّاب العصر ، اذ نسب هؤلاء الى التشيع ، أبعد ما يكونون عنه آثاراً ونكالاً بالشيعيين وأئمتهم ، ولا ننكر ان يكون فيهم أفراد رأوا التشيّع ، ولكن القليل لا يقاس عليه.

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 73 _

  وكان الى جنب هذه العناصر العدوّة في الكوفة ( شيعة الحسن ) وهم الاكثر عدداً في عاصمة علي ( عليه السلام ) ، وفي هؤلاء جمهرة من بقايا المهاجرين والانصار ، لحقوا علياً الى الكوفة ، وكان لهم من صحبتهم الرسول ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) ما يفرض لهم المكانة الرفيعة في الناس .
  وبرهن رجالات الشيعة في الكوفة على اخلاصهم لاهل البيت عليهم السلام ، منذ نودي بالحسن للخلافة ، ومنذ نادى ـ بعد خلافته ـ بالجهاد ، وفي سائر ما استقبله من مراحل. ولو قدّر لهؤلاء الشيعة أن يكونوا ـ يومئذ ـ بمنجاة من دسائس المواطنين الآخرين ، لكانوا العدّة الكافية لدرء الاخطار التي تعرّضت لها الكوفة من الشام ، وكان في هذه المجموعة المباركة من الحيوية والقابلية ما لا يستطيع أحد نكرانه ، ونعني بالحيوية القابليات التي تهضم المشاكل وتفهمها ، وتعطيها الاهمية المطلوبة في حلولها .
  وما ظنك بقيس بن سعد بن عبادة الانصاري وحُجر بن عديّ الكندي ، وعمرو بن الحمِقِ الخزاعي ، وسعيد بن قيس الهمداني ، وحبيب بن مظاهر الاسدي ، وعديّ بن حاتم الطائي ، والمسيّب بن نجية ، وزياد بن صعصعة ، وآخرين من هذا الطراز .
  اما الطوارئ المستعجلة المعاكسة ، والاصابع المأجورة الهدامة ، فقد كانت تعمل دائماً ، لتغلب هذه القابليات ، ولتغيرّ من هذا التقدير .
  ولم يخف على الحسن ( عليه السلام ) ما كانت تتمخض عن لياليه الحبالى في الجوّ المسحور بشتى النزعات ، والمتكهرب بشواجر الفتن والوان الدعاوات ، وكان لا بدّ له ـ وهو في مطلع خلافته ـ أن يعالن الناس بخطته وأن يصارحهم عن موقفه ، وأن يستملي خطته من صميم ظروفه وملابساتها في الداخل والخارج معاً .
  وكان معاوية هو العدو ( الخارج ) الذي يشغل بال الكوفة يما يكيده

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 74 _

  لها من انواع الكيد ، وبما يتمتع به من وسائل القوة والاستقرار في رقعته من بلاد الشام ، وما كان معاوية بالعدو الرخيص الذي يجوز للحسن ( عليه السلام ) ، أن يتغاضى عن أمره ، ولا بالذي يأمن غوائله لو تغاضى عنه ، وكان الحسن ـ في حقيقة الواقع ـ أحرص بشر على سحق معاوية والكيل له بما يستحق ، لو أنه وجد الى ذلك سبيلاً من ظروفه.
  واما في ( الداخل ) فقد كان أشد ما يسترعي اهتمام الامام ( عليه السلام ) موقف المعارضة المركزة ، القريبة منه مكاناً ، والبعيدة عنه روحاً ومعنى وأهدافاً .
  ولقد عز عليه أن يكون بين ظهراني عاصمته ، ناس من هؤلاء الناس ، الذين استأسدت فيهم الغرائز ، وأسرفت عليهم المطامع ، وتفرقت بهم المذاهب ، وأصبحوا لا يعرفون للوفاء معنى ، ولا للدين ذمة ، ولا للجوار حقاً ، نشزوا بأخلاقهم ، فاذا بهم آلة مسخرة للانتقاض والغدر والفساد ، ينعقون مع كل ناعق ويهيمون في كل واد ، ولا يكاد يلتئم معهم ميدان سياسة ولا ميدان حرب ، وحسبك من هذا مثار قلق ومظنة شغب وباعث مخاوف مختلفات .
  وهكذا كان للعراق ـ منذ القديم ـ قابلية غير عادية لهضم المبادئ المختلفة والانتفاضات الثورية العاتية باختلاف المناسبات.
  وللحسن في موقفه الممتحن من هذه الظروف ، عبقرياته التي كانت على الدوام بشائر ظفرٍ لامع ، لولا ما فوجئ به من نكسات مروعات كانت تنزل على موقفه كما ينزل القضاء من السماء .
  وتنبأ لكثير من الحوادث قبل وقوعها ، وكان يمنعه الاحتياط للوضع ، من الاصحار بنبوءته ، فيلمح اليها الماحاً ، وعلى هذا النسق جاءت كلمته اللبقة الغامضة ، التي اقتبسها من الآي الكريم ، والتي قصد لها الغموض عن ارادة وعمد ، وهي قوله في خطبته الاولى ـ يوم البيعة ـ : ( اني أرى ما لا ترون ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 75 _

  ترى ، هل كان بين يديه يومئذ ، الا المهرجانات النشيطة التي دلت قبل كل شيء ، على عظيم اخلاص المجتمع لخليفته الجديد ؟ فما بال الخليفة الجديد لا يرى منهم الا دون ما يرون ؟.
  انها النظرة البعيدة التي كانت من خصائص الحسن في سلمه وفي حربه وفي صلحه وفي سائر خطواته مع اعدائه ومع اصدقائه .
  وعلى أن الموسوعات التاريخية لم تُعنَ بذكر الامثلة الكثيرة التي يصح اقتباسها كعرض تاريخيّ عن سياسة الحسن ، ولا سيما في الدور الاول من عهده القصير ، وهو الدور الذي سبق اعلانه الجهاد في الكوفة ، فقد كان لنا من النتف الشوارد التي تسقّطناها من سيرته ، ما زادنا وثوقاً ببراعته السياسية التي لا مجال للريب فيها ، فقد اقتاد الوضع المترنح الذي صحب عهده من اوله الى آخره ، قيادته الحكيمة التي لا يمكن أن تفضلها قيادة اخرى لمثل هذا الوضع .
  وليكن من أمثلة سياسته في قيادة ظروفه قبل الحرب ما يلي :
  1 ـ أنه وضع لبيعته صيغةً خاصة ، وقبض يده عما أريد معها من قيود ، وأرادها هو على السمع والطاعة والحرب لمن حارب والسلم لمن سالم ، فكان عند ظن المعجبين ببلاغته الادارية ، بما ذكر الحرب ولوح بالسلم فأرضى الفريقين من أحزاب الكوفة ـ دعاة الحرب ، والمعارضين ـ ، وكان لديه من الوضع العام ( في كوفته ) ما يكفيه نذيراً لاتخاذ مثل هذه الحيطة الحكيمة لوقتٍ ما .
  2 ـ أنه زاد المقاتلة مائةً مائةً ، وكان ذلك أول شيء أحدثه حين الاستخلاف ، فتبعه الخلفاء من بعده عليه (1) .

---------------------------
(1) شرح النهج لابن ابي الحديد ( ج 4 : ص 12 ).