تبدو عارية سافرة في ساعة نداء الواجب .
وهكذا كانوا ـ على طول الخط ـ قادة السخط ، وأعوان الثورة ، وأصابع العدو في البلد .
ومالأهم ( الخوارج ) على حياكة المؤامرات الخطرة ، بحكم ازدواج خطة الفئتين ، على مناهضة الخلافة الهاشمية في عهديها الكريمين، ودل على ذلك اشتراك كل من الاشعث بن قيس وشبث بن ربعي فيما يرويه النص الاخير من هذه الامثلة الثلاث ، وكان هذان من رؤوس الخوارج في الكوفة .
وهم أعداء علي ( عليه السلام ) منذ حادثة التحكيم ، كما هم اعداء معاوية .
وأقطاب هؤلاء في الكوفة : عبد اللّه بن وهب الراسبي ، وشبث بن ربعي ، وعبد اللّه بن الكوّاء ، والاشعث بن قيس ، وشمر بن ذي الجوشن .
وكان الخوارج أكثر اهل الكوفة لجاجة على الحرب ، منذ يوم البيعة ، وهم الذين شرطوا على الحسن عند بيعتهم له حرب الحالّين الضالّين ـ أهل الشام ـ ، فقبض الحسن يده عن بيعتهم على الشرط ، وأرادها ( على السمع والطاعة وعلى أن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم ) ، فأتوا الحسين أخاه ، وقالوا له : ( ابسط يدك نبايعك على ما بايعنا عليه أباك يوم بايعناه ، وعلى حرب الحالين الضالين أهل الشام )، فقال الحسين : ( معاذ اللّه أن ابايعكم ما دام الحسن حياً )، فانصرفوا الى الحسن ولم يجدوا بداً من بيعته على شرطه
.
الخوارج لبيعتهم اياه ، ولا في اصرارهم على الحرب ، وقد كان في شيعة الحسن من يشاطرهم الالحاح على الحرب ، ولكنك سترى فيما تستعرضه من مراحل قضية الحسن ( عليه السلام ) ، أن الخوارج كانوا أداة الكارثة في أحرج ظروفها ، ورأيت فيما مرّ عليك ـ قريباً ـ أن زعيمين من زعمائهم ساهما في أفظع مؤامرة أموية في الكوفة.
وللخوارج في دعاوتهم الى ( الخروج ) أساليبهم المؤثرة المخيفة ، التي كانت تزعزع ايمان كثير من الناس بالشكوك. وكان هذا هو سرّ انتشارهم بعد نكبتهم الحاسمة على شواطئ النهروان.
وكان زياد بن ابيه يصف دعوة الخوارج بقوله : ( لكلام هؤلاء أسرع الى القلوب من النار الى اليراع
(1) ، وكان المغيرة بن شعبة يقول فيهم : ( انهم لم يقيموا ببلد يومين الا افسدوا كل من خالطهم )
(2).
والخارجي يقول الزور ويعتقده الحق ، ويفعل المنكر ويظنه المعروف ، ويعتمد على اللّه ولا يتصل اليه بسبب مشروع .
وسنعود الى ذكرهم في مناسبة اخرى عند الكلام على ( عناصر الجيش ) .
3 ـ الشكاكون :
ورأينا ذكر هؤلاء فيما عرضه المفيد ( رحمه اللّه ) من عناصر جيش الحسن ( عليه السلام ) ، والذي يغلب على الظن ، أن تسميتهم بالشكاكين ترجع الى تأثرهم بدعوة الخوارج من دون أن يكونوا منهم ، فهم المذبذبون لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء.
ورأيت المرتضى في أماليه ( ج 3 ص 93 ) يذكر ( الشكاك ) استطراداً ويلوّح بكفرهم ، وكأنه فهم عنهم التشكيك بأصل الدين .
---------------------------
(1) اليراع : القصب.
(2) الطبري ( ج 6 ص 109 ).
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 72 _
وكانوا طائفة من سكان الكوفة ومن رعاعها المهزومين ، الذين لا نية لهم في خير ولا قدرة لهم على شر ، ولكن وجودهم لنفسه كان شراً مستطيراً وعوناً على الفساد وآلة ( مسخرة ) في أيدي المفسدين.
4 ـ الحمراء :
وهم عشرون الفاً من مسلحة الكوفة ( كما يحصيهم الطبري في تاريخه ) ، كانوا عند تقسيم الكوفة في السبع الذي وضع فيه أحلافهم من بني عبد القيس ، وليسوا منهم ، بل ليسوا عرباً ، وانما هم المهجّنون من موالٍ وعبيد ، ولعل اكثرهم من أبناء السبايا الفارسيات اللائي اخذن في ( عين التمر ) و ( جلولاء ) من سنة 12 ـ 17 فهم حملة السلاح سنة 41 وسنة 61 في ازمات الحسن والحسين ( عليهما السلام ) في الكوفة ( فتأمل ) .
والحمراء شرطة زياد الذين فعلوا الافاعيل بالشيعة سنة 51 وحواليها ، وكانوا من اولئك الذين يحسنون الخدمة حين يغريهم السوم ، فهم على الاكثر أجناد المتغلبين وسيوف الجبابرة المنتصرين .
وقويت شوكتهم بما استجابوا له من وقايع وفتن في مختلف الميادين التي مرّ عليها تاريخ الكوفة مع القرن الاول، وبلغ من استفحال امرهم في الكوفة أن نسبوها اليهم فقالوا ( كوفة الحمراء ) .
وكان في البصرة مثل ما في الكوفة من هؤلاء المهجَّنين الحمر، وخشي زياد ( وكان والي البصرة اذ ذاك ) قوّتهم فحاول استئصالهم ، ولكن الاحنف بن قيس منعه عما أراد .
ووهم بعض كتّاب العصر ، اذ نسب هؤلاء الى التشيع ، أبعد ما يكونون عنه آثاراً ونكالاً بالشيعيين وأئمتهم ، ولا ننكر ان يكون فيهم أفراد رأوا التشيّع ، ولكن القليل لا يقاس عليه.
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 73 _
وكان الى جنب هذه العناصر العدوّة في الكوفة ( شيعة الحسن ) وهم الاكثر عدداً في عاصمة علي ( عليه السلام ) ، وفي هؤلاء جمهرة من بقايا المهاجرين والانصار ، لحقوا علياً الى الكوفة ، وكان لهم من صحبتهم الرسول ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) ما يفرض لهم المكانة الرفيعة في الناس .
وبرهن رجالات الشيعة في الكوفة على اخلاصهم لاهل البيت عليهم السلام ، منذ نودي بالحسن للخلافة ، ومنذ نادى ـ بعد خلافته ـ بالجهاد ، وفي سائر ما استقبله من مراحل. ولو قدّر لهؤلاء الشيعة أن يكونوا ـ يومئذ ـ بمنجاة من دسائس المواطنين الآخرين ، لكانوا العدّة الكافية لدرء الاخطار التي تعرّضت لها الكوفة من الشام ، وكان في هذه المجموعة المباركة من الحيوية والقابلية ما لا يستطيع أحد نكرانه ، ونعني بالحيوية القابليات التي تهضم المشاكل وتفهمها ، وتعطيها الاهمية المطلوبة في حلولها .
وما ظنك بقيس بن سعد بن عبادة الانصاري وحُجر بن عديّ الكندي ، وعمرو بن الحمِقِ الخزاعي ، وسعيد بن قيس الهمداني ، وحبيب بن مظاهر الاسدي ، وعديّ بن حاتم الطائي ، والمسيّب بن نجية ، وزياد بن صعصعة ، وآخرين من هذا الطراز .
اما الطوارئ المستعجلة المعاكسة ، والاصابع المأجورة الهدامة ، فقد كانت تعمل دائماً ، لتغلب هذه القابليات ، ولتغيرّ من هذا التقدير .
ولم يخف على الحسن ( عليه السلام ) ما كانت تتمخض عن لياليه الحبالى في الجوّ المسحور بشتى النزعات ، والمتكهرب بشواجر الفتن والوان الدعاوات ، وكان لا بدّ له ـ وهو في مطلع خلافته ـ أن يعالن الناس بخطته وأن يصارحهم عن موقفه ، وأن يستملي خطته من صميم ظروفه وملابساتها في الداخل والخارج معاً .
وكان معاوية هو العدو ( الخارج ) الذي يشغل بال الكوفة يما يكيده
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 74 _
لها من انواع الكيد ، وبما يتمتع به من وسائل القوة والاستقرار في رقعته من بلاد الشام ، وما كان معاوية بالعدو الرخيص الذي يجوز للحسن ( عليه السلام ) ، أن يتغاضى عن أمره ، ولا بالذي يأمن غوائله لو تغاضى عنه ، وكان الحسن ـ في حقيقة الواقع ـ أحرص بشر على سحق معاوية والكيل له بما يستحق ، لو أنه وجد الى ذلك سبيلاً من ظروفه.
واما في ( الداخل ) فقد كان أشد ما يسترعي اهتمام الامام ( عليه السلام ) موقف المعارضة المركزة ، القريبة منه مكاناً ، والبعيدة عنه روحاً ومعنى وأهدافاً .
ولقد عز عليه أن يكون بين ظهراني عاصمته ، ناس من هؤلاء الناس ، الذين استأسدت فيهم الغرائز ، وأسرفت عليهم المطامع ، وتفرقت بهم المذاهب ، وأصبحوا لا يعرفون للوفاء معنى ، ولا للدين ذمة ، ولا للجوار حقاً ، نشزوا بأخلاقهم ، فاذا بهم آلة مسخرة للانتقاض والغدر والفساد ، ينعقون مع كل ناعق ويهيمون في كل واد ، ولا يكاد يلتئم معهم ميدان سياسة ولا ميدان حرب ، وحسبك من هذا مثار قلق ومظنة شغب وباعث مخاوف مختلفات .
وهكذا كان للعراق ـ منذ القديم ـ قابلية غير عادية لهضم المبادئ المختلفة والانتفاضات الثورية العاتية باختلاف المناسبات.
وللحسن في موقفه الممتحن من هذه الظروف ، عبقرياته التي كانت على الدوام بشائر ظفرٍ لامع ، لولا ما فوجئ به من نكسات مروعات كانت تنزل على موقفه كما ينزل القضاء من السماء .
وتنبأ لكثير من الحوادث قبل وقوعها ، وكان يمنعه الاحتياط للوضع ، من الاصحار بنبوءته ، فيلمح اليها الماحاً ، وعلى هذا النسق جاءت كلمته اللبقة الغامضة ، التي اقتبسها من الآي الكريم ، والتي قصد لها الغموض عن ارادة وعمد ، وهي قوله في خطبته الاولى ـ يوم البيعة ـ : ( اني أرى ما لا ترون ) .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 75 _
ترى ، هل كان بين يديه يومئذ ، الا المهرجانات النشيطة التي دلت قبل كل شيء ، على عظيم اخلاص المجتمع لخليفته الجديد ؟ فما بال الخليفة الجديد لا يرى منهم الا دون ما يرون ؟.
انها النظرة البعيدة التي كانت من خصائص الحسن في سلمه وفي حربه وفي صلحه وفي سائر خطواته مع اعدائه ومع اصدقائه .
وعلى أن الموسوعات التاريخية لم تُعنَ بذكر الامثلة الكثيرة التي يصح اقتباسها كعرض تاريخيّ عن سياسة الحسن ، ولا سيما في الدور الاول من عهده القصير ، وهو الدور الذي سبق اعلانه الجهاد في الكوفة ، فقد كان لنا من النتف الشوارد التي تسقّطناها من سيرته ، ما زادنا وثوقاً ببراعته السياسية التي لا مجال للريب فيها ، فقد اقتاد الوضع المترنح الذي صحب عهده من اوله الى آخره ، قيادته الحكيمة التي لا يمكن أن تفضلها قيادة اخرى لمثل هذا الوضع .
وليكن من أمثلة سياسته في قيادة ظروفه قبل الحرب ما يلي :
1 ـ أنه وضع لبيعته صيغةً خاصة ، وقبض يده عما أريد معها من قيود ، وأرادها هو على السمع والطاعة والحرب لمن حارب والسلم لمن سالم ، فكان عند ظن المعجبين ببلاغته الادارية ، بما ذكر الحرب ولوح بالسلم فأرضى الفريقين من أحزاب الكوفة ـ دعاة الحرب ، والمعارضين ـ ، وكان لديه من الوضع العام ( في كوفته ) ما يكفيه نذيراً لاتخاذ مثل هذه الحيطة الحكيمة لوقتٍ ما .
2 ـ أنه زاد المقاتلة مائةً مائةً ، وكان ذلك أول شيء أحدثه حين الاستخلاف ، فتبعه الخلفاء من بعده عليه
(1) .
---------------------------
(1) شرح النهج لابن ابي الحديد ( ج 4 : ص 12 ).