موضوع عدد الجيش ، وتدرّج العدد الكبير فيها من أربعين الفاً الى ثمانين الفاً فمائة الف .
والواقع أن المراتب الثلاث بجملتها ، معرضة للشك وخاضعة للتمحيص ، وحتى أدناها ، واليك البيان :
اما اولاً : فالعدد الاعلى ( وهو مائة الف أو اكثر ، أو تسعون الفاً ) فيما يشير اليه زياد ابن أبيه ( على رواية اليعقوبي ) ، أو فيما ينسب الى سليمان بن صرد ( برواية ينفرد بها الدينوري خلافاً لمؤرخين كثيرين ) مشكوك فيه من جهات :
أهمها أن كلاً من هذين الزعيمين ـ سليمان وزياد ـ كانا غائبين عن بيعة الحسن وجهاد الحسن وكوفة الحسن ، طيلة خلافته في الكوفة وكانا قد غادرا مواطنهما في العراق منذ سنتين
، وأيّ قيمة لتصريح غائبٍ لم يشهد الوضع السائد في الكوفة ، بما كان يجتاح هذه الحاضرة من تحزّب قويّ وتثاقل لئيم فيما واجهت به امامها وصاحب بيعتها .
وان زياداً وسليمان اذ يفرضان هذه الاعداد من الجيش فانما يقيسان حاضر الكوفة على ماضيها ، ويظنان أنها جنّدت مع الحسن ما كانت تجنده مع أبيه امير المؤمنين سنة 37 و38 يوم كان كل منهما لا يزال في الكوفة يساهم بنصيبه من تلك الصفوف ، هذا اولاً، واما ثانياً ، فقد كان من موقف الرجلين كليهما في اللحظة العاطفية التي اندفعا بها الى هذا التصريح ، ما يبرر لهما الجنوح الى اسلوب المبالغات ، وكانت المبالغة في عدد الجيش تهويلاً قريب التناول من جموح العاطفة الناقمة في سليمان ، وهو ينكر على
الامام الحسن عليه السلام الرضا بالصلح ، وقريب التناول ـ كذلك ـ من سياق التهديد والوعيد في زياد وهو يرد في خطابه على تهديد معاوية .
وبعد هذا كله ، فليس في هذين التصريحين ما يصح الركون اليه من احصاء أو تعيين أعداد .
وعلمنا ان سليمان هذا ، كان صديق المسيب بن نجية وصاحبه الذي تربطه به وشائج أخرى هي أبعد اثراً من الصداقات الشخصية ، وقد مرَّ عليك في النص [ رقم 4 ] قول المسيّب للحسن في معرض العتاب على الصلح : ( ومعك اربعون الفاً ) ، ومن المقطوع عليه أن مثل هذين الصديقين لا يختلفان في قضايا أهل البيت ( عليه السلام ) اختلافهما في هذا التقدير .
اذاً ، فما من سبب لشذوذ كلمة ابن صرد ، الا كون راويها الدينوري الذي انفرد في قضية الحسن بعدة روايات لم يهضمها التمحيص الصحيح ! .
وشاءت المقادير أن لا يفارق الزعيمان الصديقان الدنيا ، حتى يأخذا جوابهما ـ عمليَّاً ـ عن عتابهما الطائش الذي قابلا به امامهما أبا محمد عليه السلام ، فيما أنكرا عليه من الصلح .
فبايعهما على الاخذ بثأر الحسين عليه السلام سنة 65 هجري ثمانية عشر الفاً من أهل الكوفة ، ثم لم يكن معهما حين جدّ الجد في ساحة ( عين الوردة ) غير ثلاثة آلاف ومائة ، ومنيا من خذلان الناس بما ذكّرهما بالصميم من قضايا أهل البيت ( عليهم السلام ) .
ثم استشهد سليمان والمسيب وهما زعيما حركة التوّابين في عين الوردة ، واستشهد معهما ـ يوم ذاك ـ أكثر من كان قد انضوى اليها.
واما ثانياً : فالعدد ثمانون الفاً أو سبعون الفاً ، وهو ما تضمنه كلام الحسن في جواب الرجل الذي قال له : ( لقد كنت على النصف فما فعلت ؟ ).
وكلام الحسن ـ في حقيقته ـ لا يدل على أكثر من عشرين الفاً على
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 121 _
أكبر تقدير ، وذلك لان الحسن حين يذكر الذين ( تشخب أوداجهم يوم القيامة ) ثم يتردد في تعيين عددهم بين السبعين والثمانين الفاً ، لا يعني جنوده خاصة ، وانما يشير بذلك الى الجيشين المتحاربين جميعاً ، وعلمنا ان عدد أهل الشام في زحفهم على الحسن ، كان ستين الفاً ، فيكون الباقي عدد جيشه الخاص .
وكان تردده في تعيين العدد صريحاً بما أفدناه ، لانه لو عنى جيشه دون غيره ، لذكره برقمه الذي لا تردّد فيه ، وهو أعلم الناس بعدده .
واما ثالثاً : فالعدد أربعون الفاً ، وهو الذي سبق الى ذكره غير واحد من المؤرخين ، وذكره المسيب بن نجية ، فيما رويناه عنه في النص الرابع من النصوص الثمانية ، ولا كلام لنا على هذا العدد الا من وجهين .
( أحدهما ) أنه لا يتفق وكلمة الحسن نفسه التي أشار بها الى عدد الجيش ، وقد عرفت أن كلمته لم تعن أكثر من عشرين الفاً على أكبر تقدير ، ولا يتفق وكلمته الاخرى التي وصف بها موقف الناس منه [ بالنكول عن القتال
(1) ] ، ومن كان معه أربعون الفاً لم ينكل الناس معه عن القتال ، فالعدد اذاً لا يزال معرضاً للشك .
( وثانيهما ) أنه عدد أملاه الظن على القائلين به ، فرأوا ان امير المؤمنين ( عليه السلام ) كان قد جهَّز لحملته الاخيرة على الشام أربعين الفاً ، ثم اخترمت حياته الكريمة ولمّا يزحف بهذا الجيش ، فظنوا ـ اجتهاداً ـ أن جنود الاب انضافت الى الابن ، وفاتهم أن يقدّروا حيال هذا الظن قيمة التخاذل الذي جوبه به الخليفة الجديد في الكوفة .
وبعد ، فأي قيمة للاحصاء مبتنياً على هذه الاخطاء .
وكانت أغرب روايات الموضوع ، رواية الزهري التي تشير الى وجود
---------------------------
(1) وذلك فيما أجاب به بشير الهمداني وهو أحد وجوه شيعته في الكوفة ، البحار ( ج 10 ص 113 ).
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 122 _
اربعين الفاً من جيش الحسن ، مع قيس بن سعد بن عبادة الانصاري ، بعد أن رجعت اليه قيادة المقدمة في ( مسكن ) بفرار عبيد اللّه ومن معه ، ومعنى ذلك ان مقدمة الحسن وحدها كانت قبل حوادث الفرار ثمانية واربعين الف مقاتل !!
وهذا ما لا يصح في التاريخ .
فلم تكن المقدمة الا اثني عشر الفاً ، منذ كان عليها عبيد اللّه بن عباس كما هو صريح الفقرة التي تخص العدد فيما عهد به الحسن الى قائده ، حين سرّحه على رأس هذه المقدمة ، وصريح نصوص كثيرة للمؤرخين لا يتخللها شك .
وروايات الزهري في قضايا أهل البيت أضعف الروايات ، وأشدها ارباكاً لموضوعاتها ، وسمه صاحب ( دراسات في الاسلام ) ( ص 16 ) بانه كان ( عاملاً مأجوراً للامويين ) وكفى .
على اننا اذا حاولنا التصرف في رواية الزهري هذه وأردنا علاج ارباكها المقصود ، فأرجعنا الضمير في قوله ( وقد نزل معاوية بهم وعمرو واهل الشام ) الى جيش معاوية دون جيش قيس ، يكون المعدود حينئذ جنود معاوية التي نزل بها على قيس ، وليكن المقصود منهم ( اهل العطاء خاصة ) وليكن المقصود من ( اهل الشام ) المتطوعين غير أهل العطاء ، ليتم بذلك التوفيق بين روايته هذه ، والروايات الاخرى التي تعدّ مقدمة الحسن ، والتي تعدّ جنود معاوية .
واما رابعاً : فالعسكر العظيم ، وهو تصريح ابن ابي الحديد فيما وصف به مسير الحسن من النخيلة صوب دير عبد الرحمن في طريقه الى معسكراته. والكلمة كما ترى ، مجملة لا تأبى الانطباق على العدد الذي ذكرناه آنفاً ، فان ستة عشر الفاً ( عسكر عظيم ) ، وان أبيت فعشرين الفاً .
واما خامساً : فرواية البحار ، وهي أولى النصوص التي أوردناها في سبيل استيعاب
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 123 _
ما روي في الموضوع ، وان لهذه الرواية من التناسق في حوادثها المتكرّرة ما يفرض الشك بها فرضاً .
وهي تغفل عند عرضها الحوادث المتشابهة تسمية كل من القائدين ـ الكندي والمرادي ـ اللذين تفرض أنهما سبقا عبيد اللّه بن عباس الى لقاء معاوية وسبقاه الى الخيانة ايضاً ، ولا يعهد في تاريخ قضية من هذا الوزن ، اغفال تسمية قائدين في حادثتين من أبشع حوادث الانسان في التاريخ .
ولعل الاغرب من ذلك ، ان رواية البحار هذه تشير الى اصرار الامام على اتهام القائدين قبل بعثهما ، ثم تصرّ على ان الامام بعثهما ـ مع ذلك ـ الى لقاء معاوية عالماً بما سيصيران اليه من غدر !! .
وبعض هذا يكفينا عن الاستمرار في نقاش هذه الرواية التي يجب أن نتركها لتعلن هي عن نفسها .
اقول :
ولم نحصل ـ بعد هذا كله ـ على محصل في الموضوع الذي أردناه تحت عنوان ( عدد الجيش ) ولتكن هذه النصوص ـ على كثرتها ـ أحد أمثلتنا التي نقدّمها للقارئ عما نكبت به قضية الحسن في التاريخ ، من اختلاف كثير واختلاق صريح ، ولا بدع في تقرير هذه الحقيقة وتكرارها وتعظيم خطرها وانكارها والتنبيه الى تبعاتها ، فهذه ثمانية نصوص ، ليس فيها ما يصبر على النقاش ، ولا ما يصح الاعتماد عليه كسند تاريخي .
ولم يبق لدينا الا عدد جيش المقدمة ، وهو اثنا عشر الفاً ، وعدد المتطوعين بعد ذلك في الكوفة ، وهو اربعة آلاف ، ثم الفصائل التي تواردت على الحسن في دير عبد الرحمن حين اقام بأزائه ثلاثاً ـ كما اشير اليه آنفاً ـ فهذه قرابة عشرين الفاً ، هي جيش الحسن عند زحفه الى معسكريه في مسكن والمدائن .
اما مقاتلة المدائن نفسها ، فقد عرفنا انها لم تتخلف ـ فيما سبق ـ عن
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 124 _
ميادين علي ( عليه السلام )، ومن البعيد جداً ان يعسكر ابنه الحسن بين ظهرانيهم ثم لا يلتحق به القادرون منهم على حمل السلاح .
وهذا ما يؤكد الظن ببلوغ عدد الجيش في كلا المعسكرين العشرين الفاً او يزيد قليلاً .
وهو ( العسكر العظيم ) الذي عناه ابن ابي الحديد ، وهو ـ ايضاً ـ العدد الذي يلتقي بتصريح الحسن عليه السلام ـ الانف الذكر ـ ولا أحسن من تصريح الحسن دليلاً فيما يخص قضاياه .
ثم لا نعلم ان الحسن عليه السلام ، تلقى بعد وجوده في المدائن أيّ نجدة من أيّ جهة .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 125 _
عناصِرُ الجَيش