هاتين لا أفي به ! ) ثم شهد عليه الحصين بن المنذر الرقاشي قائلاً : ( ما وفى معاوية للحسن بشيء مما أعطاه ، قتل حجراً واصحاب حجر ، وبايع لابنه ، وسمَّ الحسن !!
) .
وهكذا قدّر لهذا الرجل الواسع الممتلكات الضيق الملكات أن يعود بعد حنثه بأيمانه علناً ، ونقضه لمواثيقه صراحةً ، أبعد الناس عن ثقة الناس ، وأقلهم وزناً في المقاييس المعنوية التي يتواضع عليها الناس ، وكان جزاءً وفاقاً ، أن ينكره أكثر المغرورين بما كان أنكر هو عهوده ومواثيقه ، وأن يضعوه من أنفسهم في المحل الذي وضع هو شروطه من نفسه ...
وما يدرينا ، فلعلنا الآن عند مفترق الطريق بين الماضي المغلوب والمستقبل الغالب ، الذي سينكشف عنه الصراع التاريخي بين الحسن ومعاوية ، ولعلنا الآن على أبواب الخطة الجبارة التي نزل الحسن بن علي ( عليه السلام ) من طريقها الى الصلح ، والتي فرضت ارادتها على معاوية أبعد ما يكون في المعروف من دهائه عن الفشل في الخطط التي تمسه في الصميم من مصالحه .
وكان الحسن ـ كما نعلم ـ أعرف الناس بمعاوية وبحظه من الصدق والوفاء ، وهو اذ يأخذ عليه الصيغ المغلّظة في الايمان والعهود ، لا يقصد من ذلك الى التأكد من صدقه أو وفائه ، ولكن ليكشف للاغبياء قابليات الرجل في دينه وفي ذمامه وفي شرفه بالقول .
وانها للمبادأة الاولى التي ابتدأ الحسن عليه السلام زحفه منها الى ميدانه الثاني ، ومن هنا وضعَ أول حجرٍ في البناء الجديد لقضية أهل البيت ( عليه السلام ) ، ثم مشى موكب الزمان ، فاذا بالخطوات الموّفقة تمشي وئيداً مع الزمان واذا بطلائع النجاح كفيالق الجيش التي تتلاحق تباعاً لتتعاون على الفتح ، وان من الفتوح ما لا يعتمد في أداته على السلاح ، ومنها ما يكون وسائله الاولية أشبه بالهزيمة ، حتى ليخاله الناس تسليماً محضاً ، ولكنه
في منطق العقلاء ، ظفر لامع وفتح مبين .
وكان من أبرز الخطوات التي وفقت اليها خطة الحسن عليه السلام عن طريق الصلح ، في سبيل التشهير بمعاوية حياً وميتاً ، والنكاية ببني أمية اطلاقاً .
1 ـ أنها ألَّبَت على معاوية في بداية عهده الاستقلالي عدداً ضخماً من الشخصيات البارزة في المملكة الاسلامية .
فلعنه صراحةً بعضهم ، وخبَثه آخر ، وقرعه وجاهاً ثالث بل ثلاثة ، وقاطعه رابع ، وانكر عليه حتى مات غماً من فعاله كبير خامس ، وقال فيه أحدهم : ( وكان واللّه غداراً ) ، وقال الآخر
(1) : ( اربع خصال كنَّ في معاوية لو لم يكن فيه منهن الا واحدة لكانت موبقةً ) ، وقابله على مثل ذلك كثير من سادة وسيدات ، لسنا الآن بصدد احصائهم ، أو استيعاب كلماتهم .
2 ـ وخلقت له معارضة الطبقات التي شملتها بنود المعاهدة ، سواء في الامان المفروض فيها ، أو في الحقوق المالية المنصوص عليها ، فاذا بعالم عظيم من الناس أصبح ينظر الى معاوية نظره الى العدوّ الواتر في النفس والمال ، بما نقضه من شروطهم ، في نفوسهم وأموالهم .
3 ـ وظن معاوية أنه سيجعل من نقضه معاهدة الحسن وضعاً شكلياً لبيعة ابنه يزيد ، يتغلب به على عنعنات الاسلام المقررة بين المسلمين في أمر البيعة وصلاحية الخلافة .
ولكنه لم يلبث أن اصطدم بالواقع ، فاذا بهذه البيعة الجديدة ،
---------------------------
(1) كان الذي لعنه صاحبه سمرة ، والذي وصفه بأخبث الناس صديقه المغيرة ، وكان الذي قرعه وجاهاً عائشة وآخرون ، والذي قاطعه مالك بن هبيرة السكوني ، والذي مات غماً من فعاله الربيع بن زياد الحارثي ، وكان السادس أبا اسحق السبيعي ، والسابع الحسن البصري ، ويراجع عن ذلك شرح النهج وابن الاثير ومروج الذهب وغيرها .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 296 _
مثار النقمة الاسلامية العامة التي اصبحت تتحسس منذ ترشيح يزيد للخلافة بنوايا بني أمية من الاسلام.
4 ـ ثم كانت البوائق الدامية التي جهر بها معاوية بعد نقض الصلح ، في قتله خيار المسلمين ـ من صحابة وتابعين ـ بغير ذنب ، عوامل أخرى للتشهير به ، ولتحطيم معنوياته المزعومة ، تمشياً مع الخطة المكينة ، التي أرادها الامام الحسن ( عليه السلام ) منذ قرر الاقدام على الصلح .
5 ـ وقضية الحسين في كربلاء سنة (61) هجري ، كبرى قضايا الحسن فيما مهد له من الزحف على عدوهما المشترك ، وعدو أبيهما من قبل .
ولا ننسى أنه قال له يوم وفاته : ( ولا يوم كيومك أبا عبد اللّه ) .
وهذه الكلمة على اختزالها ـ المقصود ـ هي الرمز الوحيد الذي سُمع من الحسن ( عليه السلام ) ، فيما يشير به الى الخطة المقنَّعة بالسر ، التي اعتورها الغموض من ست جهاتها ، منذ يوم الصلح الى يوم صدور هذا الكتاب ، وانك لتقرأ من هذه الكلمة لغة ( القائد الاعلى ) الذي يوزّع القواد لوقائعهم ، ويوزع الايام لمناسباتها ، ثم يميز أخاه ويوم أخيه فيقول : ( ولا يوم كيومك ... ) .
وكان من طبيعة الحال ان تبعث المناسبات الزمنية حلقات الخطة كلاً ليومها ، وكان لابد لكل حلقة أن توقظ الاخرى ، وأن تؤرث السابقة اللاحقة ، وتوقد الاولى جذوة الثانية ، وهكذا دواليك .
وحسبَ الحسن لكل هذه الخطوات حسابها المناسب لها ، منذ قاول معاوية على هذا الصلح المعلوم ، ودرس ـ الى ذلك ـ نفسيات خصومه بما كانت تشرئب له من النقمة عليه وعلى أخيه وعلى شيعته وعلى أهدافه جميعاً ، وكانت هذه المطالعات بنطاقها الواسع ، الاساس الذي بنى عليه الحسن خطواته المستقبلة فيما مهَّده لنفسه ولعدوه معاً .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 297 _
وكان من طبيعة الحال ، أن تلقي هذه الخطوات قيادتها الى الحسين فيما لو حيل بين الحسن وبين قيادتها بنفسه ، وهذا هو ما أردناه في بداية هذا القول .
وهكذا كانت نهضة الحسين الخالدة الخطوة الجبارة في خطة أخيه العبقري العظيم .
ولا تزال فاجعة كربلاء التي استوعبتها كل لغات الارض ، اللطخة السوداء التي صبغت تاريخ أمية بالعار ، مادام لكربلاء رسم ، ولامية اسم .
6 ـ ثم لم تزل الخطة البعيدة الاهداف ، تستعرض في الفترات المتقاربة التاريخ ، بعد واقعة الحسين ( عليه السلام ) بكربلاء ، سلسلة أحداث قانية انبثقت من صميم الوضع الاموي المتشابه في أكثر ملامحه ـ بين عهد معاوية وابن عمه ( الحمار )
(1) ـ .
وعادت الاموية في عرف المسلمين المعنيين باسلاميتهم الحكومة الجائرة المتغلبة بالظلم والاسراف وبالتحلل من كثير كثير من النواميس الدينية ، واشتدت نقمة الناس عليها مع تمادي الايام ، وكان أيّ علم يرفع لحرب بني أمية ، لا يعدم الالوف وعشرات الالوف من المبايعين له على الموت .
---------------------------
(1) هو مروان الاموي الذي انقرضت دولة بني أمية على يده ـ ويلقب ( بالحمار ) و ( بالجعدي ) نسبة الى مربيه ( الجعد بن درهم ) ، وكان ابن درهم زنديقاً فعلمه مذهبه ، وكان الناس يذمونه بنسبته اليه ، ولما تعقب الفاتحون العباسيون مرواناً في هزيمته ، أودع حرمه ( الكنيسة ) في بوصير ! ، فأين هو عن المساجد يا ترى ؟ ـ يراجع ابن الاثير ( ج 5 ص 159 و 160 ) .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 298 _
اذاً ، فلتكن عملية الصلح ـ على هذا ـ البذرة المستمدة من صميم مصلحة الاسلام ومصلحة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، ومن الوحي ايضاً ، وليعد الحسن بن علي ( عليهما السلام ) بعد أقل من قرن ، الغالب المنتصر على الخصوم المغلوبين ، المنهزمين في التاريخ .
خطوات موفقات ، وسياسة صاعدة لا تبلغها السياسات ، في صمت وتواضع واتئاد ، وتحت ظل اصلاح وتسليم وحقن دماء .
وهل العظمة شيء آخر غير هذا ، ياترى ؟ .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 299 _
الوفاء بالشرُوط
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 300 _
عرفنا ـ الى هنا ـ بواعث كل من الفريقين فيما تطلعا به الى الصلح ، وعرفنا شروط كُلٍ فيما اعتبره ضماناً لبواعثه تلك .
وعرفنا ـ بعد ذلك ـ أنهما أرادا الجنوح الى التصالح عملياً ، فاجتمعا في الكوفة ، وكان من المنتظر لهذا الاجتماع التاريخي أن يبعث بينهما من التقارب ما لم تبعثه الصكوك التحريرية ولا المقاولات الرسمية ، التي تبودلت بينهما في الصلح ، لولا أن معاوية لم يشأ ان يلتزم في هذا الاجتماع جانب المجاملة ، رغم أنه كان في ظرفه الخاص أحوج الرجلين الى هذا النمط من السلوك ، وانه ليمر ـ اذ ذاك ـ بأدق امتحان في سياته العامة وفي شخصيته كملك يريد ان يحكم شعباً ما أحبه منذ أبغضه ـ على حد تعبير الاحنف بن قيس ـ ، فاجتمع بالحسن ولكن كما يجتمع ( ابن أبي سفيان ) بابن فاتح مكة ، لا كما يجتمع متناجزان القيا السلاح وتبادلا وثائق الصلح ، وكان من هذا الخلق الثابت لمعاوية ـ رغم ما يتكلفه من الحلم الكثير أحياناً ـ ما هو أداة الحسن في حملته المنظمة التي جردها عليه في ( ميدانه الثاني ) ـ كما اشير اليه في آخر فصل مضى ـ .
واذ قد عرفنا ذلك كله من فصولنا القريبة السابقة ، فلنعرف الآن موقف كلٍّ من شروطه وفاءً ونقضاً ، وها نحن أولاء من هذه المرحلة بازاء النقطة الحساسة التي طال حسابها في التاريخ .
وكان بودنا لو طوينا كشحاً عن استنطاق هذا الموضوع ، بما تثيره تفاصيله من ذكريات : بعضها ألم ، وبعضها فضيحة سافرة ، وقليل منها تاريخ تعافه الامجاد ، ولكننا ـ وقد أخذنا على أنفسنا في هذا الكتاب مهمة البحث التحليلي المكشوف ، عن قضية الحسن ومعاوية ـ لا نجد مجالاً