الواقع تعقيداً وابتعاداً به عن فهم الناس .
ثم كان من طبيعة هذا اللغو ـ أبعد ما يكون عن التغلغل في الصميم من تسلسل الحوادث ـ أن يرتجل الاحكام ، وأن يتناول قبل كل شيء سياسة الحسن فينبزها بالضعف ، ويتطاول عليها بالنقد غير مكترث ولا مرتاب .
وسنرى بعد البحث ، أيّ هاتيك الآراء مما اختاره الحسن أو مما افترضه الناقدون ، كان أقرب الى الصواب ، وانفذ الى صميم السياسة .
وما كان الحسن في عظمته بالرجل الذي تستثار حوله الشبه ، ولا بالزعيم الذي يسهل على ناقده أن يجد المنفذ الى نقده والمأخذ عليه .
واذ قد انتهينا الآن عامدين ، الى مواجهة المشكلة في صميمها ، وبما حيك حولها من نقدات ونقمات ، فمن الخير أن نسبق الكلام على حلها ، باستحضار حقائق ثلاث ، هنَّ هنا أصابع البحث التي تمتد بتدّرج رقيق الى كشف الغطاء عن السرّ ، فاذا الموضوع كله وضوح بعد تعقيد ، وعذر بعد نقمة ، وتعديل بعد تجريح .
الاولى في بيان معنى الشهادة .
والثانية في رسم صورة مصغرة عن الواقع الذي حاق بالحسن في لحظاته الاخيرة في ( المدائن ) .
والثالثة في خطة معاوية تجاه أهداف الحسن ( عليه السلام ) .
وسيجرنا البحث الى التلميح بحقائق تقدم عرضها في أطواء دراستنا السابقة في الكتاب ، ولكن الحرص على استيفاء ما يجب أن يقال هنا ، هو الذي سوّغ لنا هذا التجاوز فرأيناه جائزاً .
وهي بمعناها الذي يصنع الحياة ، تضحية النفس لاحياء معروف او اماتة منكر .
وليس منها التضحية لغاية ليست من سبل اللّه ، ولا التضحية في ميدان ليس من ميادين الامر بالمعروف والنهي عن المنكر .
فلو قتل كافر مسلماً في ساحة جهاد ، كان المسلم شهيداً .
ولو قتل باغ مسلماً في ميدان دفاع كان المسلم شهيداً .
اما لو قتل مسلم مسلماً في نزاع شخصي ، أو قتله انتصاراً لمبدأ ديني صحيح ، فلا شهادة ولا مجادة ، ذلك لان الكرامة التي تواضع عليها تاريخ الانسانية للشهيد ، هي أجرة تضحيته بروحه في سبيل المصلحة العامة فلا الحوادث الشخصية ، ولا التضحيات التي تناقض المصلحة في خط مستقيم ، مما يدخل في معنى الشهادة .
وقتلة اخرى ، أضيع دماً ، وأبعد عن ( الشهادة ) معنى واسماً ، هي ميتة رئيس يثور به أتباعه وذوو الحق في أمره ، فيلقونه ارضاً ، والمجموع في كل مجتمع هو مصدر السلطات لكل من يتولى شيئاً من أموره باسمه ، وكانت هذه هي القاعدة التي بنيت عليها السلطات الجماعية في الاسلام ، وعلى هذه القاعدة قال المسلم الاول لعمر بن الخطاب : ( لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقوّمناه بسيوفنا ) .
وانما كانت هذه القتلة أضيع دماً ، وأبعد عن الشهادة اسماً ، لان الايدي الصديقة التي اجتمعت على اراقة هذا الدم ، كانت في ثورتها لحقها ، وتضافرها الناطق ببلاغة حجتها ، أولى عند الناس بالعذر ... ( ولان الامة التي ولّته هي التي تقيم عليه الحدود ) ـ على حد تعبير القفال الشافعي ـ .
فعثمان ـ مثلاً ـ الذي كان ثالث ثلاثة من أكبر الشخصيات التاريخية ، التي هزّت الارض بسلطانها المرهوب ، مات مقتولاً بسلاح الثائرين من ذوي الحق في أمره ، فلم يستطع التاريخ ، ولم يوفق اصدقاؤه في التاريخ ،
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 222 _
أن يسجلوا له ( الشهادة ) كما تقتضيها كلمة ( شهيد ) .
أما ذلك العبد الاسود الفقير ، الذي لم يكن له من الاثر في الحياة ، ما يملأ الشعور أو يشغل الذاكرة [ جون مولى أبي ذر الغفاري ] ، فقد أرغم التاريخ على تقديسه ، لانه قتل في سبيل اللّه فكان ( الشهيد ) بكل ما في الكلمة من معنى .
اذاً ، فليس من شروط الشهادة ولا من لوازم كرامتها ، أن لا تكون الا في العظيم ، وليس من شروط العظيم اذا قتل أيّ قتلة كانت ، ان يكون شهيداً على كل حال .
ولندع الآن هذا التمهيد لنخطو عنه الى الموضوع الثاني ، ثم لنأخذ منه حاجتنا عند اقتضاء البحث .
2 ـ صورة مصغرة عن الوضع الشاذ في المدائن :
علمنا مما سبق ـ وبعض الاعادة ضرورة للبحث ـ أن خيرة أجناد الحسن كان في الركب الذي سبقه في مقدمته الى ( مسكن ) ، وأن الفصائل التي عسكر بها الحسن في ( المدائن ) كانت من أضعف الجيوش معنوية ، ومن أقربها نزعة الى النفور والقلق والانقسام .
وعلمنا أنه فوجئ في أيامه الاول من المدائن ـ ولما يتلقَّ نجداته من معسكراته الاخرى ـ ببوادر ثلاث ، كانت نذر الكارثة على الموقف .
1 ـ أنباء الخيانة الواسعة النطاق في ( مسكن ) .
2 ـ الشائعة الاستفزازية التي ناشدت الناس بأن ينفروا ، لان قيس بن سعد ـ وهو القائد الثاني على جيش مسكن ـ قد قتل ! .
3 ـ فتنة الوفد الشامي الذي جاء ليعرض كتب الخونة الكوفيين على الامام ، ثم خرج وهو يعلن في المعسكر أن الحسن اجاب الى الصلح! .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 223 _
وفي هذا الجيش ـ كما قدمنا في الفصل (8) ـ ، أصحاب الفتن ، وأصحاب الطمع بالغنائم ، والخوارج ، وغيرهم ، ولم يكن لهؤلاء مرتع أخصب من هذه الفتن التي زرعتها هذه البوادر المؤسفة الثلاث .
وجمع الحسن الناس فخطبهم وناشدهم سلامة النية وحسن الصبر ، وذكرهم بالمحمود من أيامهم في صفين ، ثم نعى عليهم اختلافهم في يومه منهم ، وكان أروع ما أفاده الحسن من خطابه هذا ، أنه انتزع من الناس اعترافهم على انفسهم بالنكول عن الحرب صريحاً ، واستدرجهم الى هذا الاعتراف بما تظاهر به من استشارتهم فيما عرضه عليه معاوية ، فقال في آخر خطابه : ( الا وان معاوية دعانا لامر ليس فيه عزّ ولا نَصفة ، فان أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه الى اللّه عزّ وجل بظبا السيوف ، وان أردتم الحياة قبلناه منه وأخذنا لكم الرضا ؟ ) ، فناداه الناس من كل جانب : ( البقية البقية وأمض الصلح
(1) .
أقول : وليس في تاريخ قضية الحسن عليه السلام روايتان كثر رواتهما حتى لقد أصبحت من مسلمات هذا التاريخ ، كرواية جواب الناس على هذه الخطبة بطلب البقية وامضاء الصلح ، ورواية ثورة الناس في المدائن انكاراً للصلح والحاحاً على الحرب!! ، وليت شعري ، فأيّ الرأيين كان هدف هؤلاء الناس ؟ .
وهل هذه الا بوادر الانقسام الذي أشرنا اليه آنفاً ، بل ( الفوضى ) التي لن يستقيم معها ميدان حرب ، والتي لا تمنع ان يكون المنادون بالصلح من كل جانب هم المنادين بالحرب انفسهم .
وما للفوضى ودعوة جهاد وصحبة امام ؟!
وعلى أيٍّ ، فقد كان هذا أحد الوان معسكر المدائن وأحد ظواهر التلوّن في عساكره وتحكّم العناصر المختلفة في مقدراته .
---------------------------
(1) ابن خلدون وابن الاثير والبحار وغيرهم ـ وكنا عرضنا القسم الاول من هذه الخطبة فيما رويناه في تصريحات المؤرخين من هذا الفصل .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 224 _
ولقد تدل ملامح النداء بالتكفير للحسن ( عليه السلام ) من قبل الثائرين عليه من جنوده هناك ، أنه كان لسان حال ( الخوارج ) ، وكانت هذه هي لغتهم النابية اذا استشرى غضبهم على أحد من المسلمين أو أئمة المسلمين ، وانهم اذ يستغلون هذه اللحظة ، أو يبعثونها من مرقدها ، فانما كانوا يقصدون التذرّع الى أعظم جريمة في الدم الحرام ، وفق مبادئهم الجهنمية التي طعن بها أحدهم الامام الحسن في فخذه فشقه حتى بلغ العظم! .
وتدل ملامح النهب والسلب الذي مزّق الستار وتناول حتى رداء الحسن ومصلاه ، على أنه كان عمل الفريق الآخر الذي سمته المصادر ( أصحاب الطمع بالغنائم ).
ويدل طغيان الفتنة وسرعة انتشار الاضطرابات في المعسكر على أنه صنيعة ( أصحاب الفتن ) الذين كان يعج بهم هذا الجيش منذ كان في الكوفة ومنذ انتقل الى المعسكرين تحت لواء الجهاد المقدس ! .
وهكذا جمحت الفتنة في المدائن جماحها الذي خرجت به من أعنّة المخلصين والمنظمين ، وحال الاكثرون بأحداثهم دون قيام الاقلين بواجبهم ، ولم يعد لهذا الجيش من الاستقرار ما يستطيع به الثبات ، ولا من الاهداف الا الاهداف الطائشة. فان لم يتسنَّ لهم قتال معاوية فليقتلوا الحسن امامهم ، وان لم يبلغوا غنائم الحرب من أعدائهم فليتبلغوا بالغنائم من نهب أصدقائهم ، وان لم يمكنهم الفرار الى معاوية ـ كما فعل أمثالهم في المعسكر الثاني ـ فليكتبوا الى معاوية ليجيء هو اليهم !!!
وكان هذا هو ما حفظه التاريخ على هذه المجموعة من الناس ، أمّا ما نسيه التاريخ أو تناساه أو حيل بينه وبين ذكره ، فذلك ما لا يعلمه الا اللّه عزّ وجل .
تُرى ، فهل لو وضعنا معاوية مكان الحسن من هذه اللحظة أو من هذا الجيش بما لمعاوية من دهاء وسخاء ، أكان يستطيع أن يخرج من مأزقه بأحسن مما خرج به الحسن مضمون السلامة على مبادئه وخططه ومستقبله؟ .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 225 _
ولكي نزداد تحريّاً للاسباب التي أغلقت في وجه الحسن طريق الشهادة الكريمة ، ننتقل بالقارئ الى الموضوع الثالث من مراحل هذه الجولة الكئيبة الخطوات .
3 ـ خطة معاوية من أهداف الحسن ( عليه السلام )
ومات بموت عثمان لقب ( الوالي ) عن معاوية ، ولا نعرف ما كان يجب أن يلقب به بعد ذلك ، ولا نوع مسؤوليته في العرف الاسلامي ، وقد علمنا أن الخليفتين الشرعيين علياً وابنه الحسن ( عليهما السلام ) لم يوّلياه ، فليس هو بالوالي ، وعلمنا أن الاسلام لا يتسع في تشريعه لخليفتين في عصر واحد ، فليس هو بالخليفة .
اذاً ، فما معاوية بعد عثمان ؟ .
لا ندري .
نعم ، انه شهر السلاح في وجه هذين الخليفتين منذ عزل عن ولاية الشام ، ورأينا أن التشريع الاسلامي يثبت للقائم بمثل عمله هذا ، لقباً نشك أن يكون معاوية رضي به لنفسه ، وهذا اللقب هو ( الباغي ) .
تُرى ، فهل كان هو يعرف لنفسه لقباً آخر غير زعامة البغاة ؟ .
والمظنون أن معاوية في طموحه العتيد ، لم يكن بالذي يزعجه أن يظل مجهول اللقب ، أو محكوماً في ( الشرع ) بلقب الباغي ، مادام هو في طريقة الى غزو أكبر الالقاب بالقوة ، رضي الشرع أو أبى، فهو الملك ـ بعد ذلك ـ على لسان سعد بن أبي وقاص ، وهو ( الخليفة )