الشهادات مجداً .
وهزّ أعصاب الكوفة في فورة الدعوة الى الجهاد ، تفاؤل عنيف غلب الناس على منازعها ، فاذا بالناس يتسابقون الى صفوفهم بما فيهم العناصر المختلفة التي لا يعهد منها النشاط للدعاوات الخيرة والاعمال الصالحة والمساعي الخالصة للّه عز وجل.
فجمع المعسكر الى جنب أولئك المخلصين من أنصار الحسن سواداً من الناس غير معروفين ، وجماعة من أبناء البيوت المرائين ، وجمهوراً من مدخولي النية الذين لا يتفقون معه في رأي ، وربَّما لا يكونون الا عين عدوه عليه وعلى أصحابه ، وآخرين من الضعفاء الرعاديد الذين اذا أُكرهوا على القتال اتقوه بالفرار ، وربما لم يكن لهم من الامل الا أمل الغنائم ( وليس أحد منهم يوافق احداً في رأي ولا هوى ، مختلفون لا نيّة لهم في خير ولا شر
)، ـ وفيهم الى ذلك ، المشاجرات الحزبية التي ستكون في غدها القريب شجرة الشوك في طريق التجهيزات التي تستدعيها ظروف الحرب.
وتخوَّف الحسن ـ منذ اليوم الاول ـ نتائج هذا التلوّن المؤسف الذي انتشر في صفوفه ، والذي لا يؤمن في عواقبه من الخذلان ، وهو ما تشير اليه بعض المصادر
صريحاً .
فكان ينظر الى الجماهير المرتجزة بين يديه للحرب ، غير واثق بثباتهم معه ، ولا مؤمن باخلاصهم لاهدافه .
وتراءت له من وراء هؤلاء ( في الكوفة ) ، الرؤوس ذوات الوجهين التي يئس من اصلاحها الهدى ، أمثال الاشعث بن قيس ، وعمرو بن حريث
ومعاوية بن خديج ، وأبي بردة الاشعري ، والمنذر بن الزبير ، واسحق بن طلحة ، وحجر بن عمرو ، ويزيد بن الحارث بن رويم ، وشبث بن ربعي ، وعمارة بن الوليد ، وحبيب بن مسلمة ، وعمر بن سعد ، ويزيد بن عمير ، وحجار بن أبجر ، وعروة بن قيس ، ومحمد بن عمير ، وعبد اللّه بن مسلم بن سعيد ، وأسماء بن خارجة ، والقعقاع بن الشور الذهلي ، وشمر بن ذي الجوشن الضبابي .
وعلم أن له من هؤلاء ليوماً .
وهؤلاء هم الكوفيون الناشزون ، الذين كانوا يشرعون الاخلاق لانفسهم وللناس الذين يماثلونهم ـ رغم ادّعائهم الاسلام !. وكان الاسلام الذي عمر الاخلاق في النفوس وزخر به النعيم على المسلمين ، قد هزمته المادة بين أوساط هذا المجتمع المأفون ، فتباعدت بينهم وبينه القربى ، وعجزوا عن مسايرته بتعاليمه وتربيته وتثقيفه ، فما بايعوا الحسن على السمع والطاعة حتى كانوا عملاء أعدائه على الشغب والعصيان ، يرقبون الحوادث ، ويتربصون الدوائر ، وينتهزون الفرص ، ويتآمرون على اخطر الموبقات غير حافلين بعواقبها ولا عارها ولا نارها.
وكان الخطر المتوقع من انخراط هؤلاء في الجيش ، أكبر من الخطر المنتظر من أعدائه الذين يصارحونه العداء وجهاً لوجه .
فلمَ لا يتخوّف عاهل الكوفة من الخذلان ، ولم لا يتمهل بالحرب ما وسعه التمهّل ، وللنتائج الغامضة حكمها الذي يفرض الاناة ويذكّر بالصبر ، ويلوّح بالخسران .
ولكنه ـ وقد دُعي الآن الى المبارزة ـ خليق أن يرجع الى الميراث النفيس الذي يشيع في نفسه من ملكات أبيه العظيم ( وكان لا بد للشبل أن ينتهي الى طبيعة الاسد ) .
فليرجع الى وصية أبيه له ، وكان مما أوصاه به أبوه : ( لا تدعونَّ
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 97 _
الى مبارزة ، فان دُعيت لها فأجب ، فان الداعي لها باغ ... ) .
وليرجع الى واجبه الشرعي بما له من ولاية أمر المسلمين ، وليس للامام الذي قلده الناس بيعتهم ، أن يغضي على الجهر بالمنكر والبغي على الاسلام ما وجد الى ذلك سبيلاً .
واللّه تعالى شأنه يقول : ( فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء الى أمر اللّه ) .
ورسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم )يقول : ( من دعا الى نفسه ، أو الى أحد ، وعلى الناس امام ، فعليه لعنة اللّه فاقتلوه ) .
اما السبيل الى ذلك ، ولا نعني به الا القوة على انكار المنكر ، فقد كان للكوفة من القوى العسكرية في مختلف الثغور الخاضعة لها ، ما يؤكد الظن بوجود الكفاية للحرب ، رغم الاوضاع الشاذة التي نزع اليها كثير من خونة الكوفيين المواطنين .
وكان للدولة الاسلامية في أواسط القرن الاول ، أعظم جيش تحتفل بمثله تلك القطعة من الزمن ، لولا أن الالتزام بقاعدة ( المرابطة ) التي تفرضها حماية الثغور والتي كان من لوازمها توزيع القسم الاكثر من الجيوش الاسلامية على مختلف المواقع البعيدة عن المركز ، كان يحول دائماً دون استقدام العدد الكثير من تلك الوحدات للاستعانة به في الحروب القريبة من المركز ، ولا سيما مع صعوبة العمليات السوقية بنظامها السابق ووسائطها القديمة المعروفة .
وكان الجيش المقدَّر على الكوفة وحدها. تسعين الفاً أو مائة الف ـ على اختلاف الروايتين
(1) ـ ، وكان الجيش المقدَّر على البصرة ثمانين الفاً
(2) ، وهؤلاء هم أهل العطاء في المصرين ، أعني الجنود الذين يتقاضون
---------------------------
(1) يرجع الى اليعقوبي ( ج 2 : ص 94 ) ، والى الامامة والسياسة ( ص 151 ) .
(2) حضارة الاسلام في دار السلام لجميل مدور .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 98 _
الرواتب من خزينة الدولة ، وفي المصرين العسكرّيين ـ الكوفة والبصرة ـ مثل هؤلاء عدداً من اتباعهم ومواليهم ومن متطوّعة الجهاد غالباً .
فهذه زهاء ثلاثمائة وخمسين الفاً ، هي مقاتلة العراق ، فيما يحسب على العراق من القدرة العسكرية ، عدا جيوش فارس واليمن والحجاز والمعسكرات الاخرى .
وكان من تحمّس الشيعة للحرب ( يوم الحسن ) ، ومن الحاح الخوارج على حرب الحالّين الضالّين اهل الشام ـ على حدّ تعبيرهم ـ ، ومن انسياح الناس الى صفوفهم يوم نجحت دعاوة الدعاة الى الجهاد في الكوفة ، ما يكفي وحده رصيداً للظن بوجود الكفاية بل اليقين بوجودها ، لو انهم صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه ، يوم التقت الفئتان وحميت الصدور واحمَرَّت الحدق .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 99 _
النفير وَالقيادة
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 100 _
ونادى منادي الكوفة ـ الصلاة جامعة ـ ، واجتمع الناس فخرج الحسن عليه السلام ، وصعد المنبر ، فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال :
( أما بعد ، فان اللّه كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها ، ثم قال لاهل الجهاد : اصبروا ان اللّه مع الصابرين ، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون الا بالصبر على ما تكرهون ، انه بلغني أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير اليه فتحرك ، لذلك اخرجوا رحمكم اللّه الى معسكركم في النخيلة
(1) حتى ننظر وتنظرون ، ونرى وترون ).
قال مؤرخو الحادثة : ( وسكت الناس فلم يتكلم أحد منهم ولا أجابه بحرف ) .
ـ ورأى ذلك ( عديّ بن حاتم ) وكان سيد طيء والزعيم المرموق بسوابقه المجيدة في صحبته للنبيّ والوصيّ معاً ( صلى اللّه عليهما ) فانتفض انتفاضته المؤمنة الغضبى ، ودوّى بصوته الرزين الذي هز الجمع ، فاستدارت اليه الوجوه تستوعب مقالته وتعنى بشأنه ـ وفي الناس كثير ممن عرف لابن حاتم الطائي ، تاريخه وسؤدده وثباته على القول الحق ـ واندفع الزعيم محموم اللهجة قاسي التقريع ، يستنكر على الناس سكوتهم ، ويستهجن عليهم ظاهرة التخاذل البغيض .
وقال :( أنا عديّ بن حاتم ، ما أقبح هذا المقام ! ، ألا تجيبون امامكم وابن
---------------------------
(1) تصغير نخلة ، موضع قرب الكوفة على سمت الشام ، اقول : ويوجد اليوم على سمت كربلاء بناية تعرف بخان النخيلة ، بينها وبين الكوفة اثنا عشر ميلاً .