عنه أمام الله ورسوله في حقه .
ولا نعلم ـ بعد ذلك ـ ولا فيما ترويه المصادر ، أنه ذكر الصلح بنفي أو اثبات.
ولكنا علمنا أن المغيرة ورفاقه الذين دخلوا معسكر المدائن حين اذن لهم بدخوله لعرض هذه الكتب على الامام ، لم يغادروا المعسكر حتى زرعوا في ميدانه أكبر فتنة في الناس ، فخرج الوفد العدّ و ويستعرض في طريقه مضارب الجيش ، وهو اذ ذاك هدف الانظار في حركته ، وهدف الاسماع في حديثه ، فقال بعض أفراده لبعض ـ وهم يرفعون من أصواتهم ليسمعهم الناس ـ : ( ان الله قد حقن بابن رسول الله الدماء وسكن الفتنة ، وأجاب الى الصلح
.
وما كان حديثهم هذا الا الفتنة نفسها ، ليعبروا بها وبمثيلاتها من هذا الطراز ، الى انتزاع الصلح انتزاعا.
و اذا هي الطعنة النجلاء ، في ظروف موليّة كظروف المدائن بما كان قد لحقها من التبلبل الذريع ، في أعقاب الحوادث المؤسفة في معسكر ( مسكن ).
وكانت أكثرية المدائن لا تزال ملحة على مباشرة الحرب ، فهي لا ترى للصلح مكانا ، و كان يخيل اليها أن في بقايا المجاهدين في مسكن كفاية لمنازلة معاوية ، وأن في احتياطي المدائن ما يضمن لمسكن القوة على الصمود فيما لو ضعفت كفايتها. وربما كانوا أو كان فيهم ، من لا يتخيل شيئا من ذلك ، ولكنهم انما يلحّون على الحرب لانهم ( يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة
، وتلك هي نعرة الخوارج في جيش الحسن ( عليه السلام ) ، وكيف يقول المغيرة ورفاقه ( ان الحسن أجاب الى الصلح ) ، انها الكلمة الكافرة التي لا يجوز الصبر عليها ـ برأيهم ـ .
وكان شغب فئة كبيرة كالخوارج ، مدعاة لزلزلة فئات أكثر عددا ولا سيما من أغرار الناس المتارجحين بين الطاعة والعصيان ، والمتأهبين للفتن
والاضطرابات مع كل ناعق بها وفي كل آن .
وجاءت الخطة المدبرة التي أجاد حياكتها الثالوث الشامي ، فتنة عنيفة الاثر على مقدرات المدائن ، ناشزة على خطط التدبير .
ومن السهل أن نفطن الان ـ جازمين ـ الى ان اجوبة الحسن لهذا الوفد ، لم تكن لتشتمل على ذكر الصلح او الاستعداد له ، لانه لو كان قد اجاب اليه كما اشاعه الوفد عند خروجه منه ، لا نتهي كل شيء ولا غلق الموقف بين العراق وال ، ام ، فلم هذه الفتن اذاً ؟ ، وهل هي الا من قبيل استعمال السلاح مع الصلح ؟ وهل معني الصلح الا نزع السلاح ؟ .
وعلى هذا ، فلا تصريح بقبول الصلح من جانب الحسن قطعا.
وانما هي الفتتة ، وهي سلاح الشام الانكي .
وتلوّن معاوية في هذا السلاح تولّنا مخفيا جدا ، فعمد الى سلة أكاذيب ، يختار مضامينها اختيارا دقيقا ، وينخل أساليبها نخلا فينا ، ثم يبعث بها الى معسكرات الحسن ، هنا وهناك .
( فكان يدس الى عسكر الحسن ـ في المدائن ـ من يتحدث : ان قيس بن سعد ـ وهو قائد مسكن بعد فرار ابن عباس ـ قد صالح معاوية وصار معه
(1) .
(ويوجه الى عسكر قيس ـ في مسكن ـ من يتحدث ان الحسن قد صالح معاوية و أجابه
(2) .
ثم ينشر في اشاعة اخرى على معسكر المدائن ( الا ان قيس بن سعد قد قتل فانفروا
(3) .
وما ظنك بأثر هذه الشائعات في جيش مثل جيش المدائن ، وقد سبق له أنه علم خيانة قائد سابق لم يكن أهلا للخيانة ، فلِم لا يصدق خيانة الثاني ، أو الخبر بقتله ؟ .
وفي مسكن مثل ما في المدائن من مآسٍ ودفائن وقوافل تنزع الى
---------------------------
(1 و 2) اليعقوبي ( ج 2 ص 191 ).
(3) ابن الاثير ( ج 3 ص 161 ) والطبرى ( ج 6 ص 92 ) وابن كثير ( ج 8 ص 14 ) والدميري في حياة الحيوان ( ص 57 ).
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 164 _
الفرار ، وعملاء لا يفتأون يبعثون الفتن ويبثون افظع الاخبار.
وهكذا بلغ معاوية ( بفتنه ) ما أراد ، وبات الجيشان كلاهما طمعة الاضطرابات والحوادث المؤسفة التي لا تناسب ساحة قتال.
وما مني الاسلام منذ ضرب بجرانه على جزيرة العرب ، بأفظع من هذه النكبة التي يترنح بها موقف الخلافة الاسلامية ، بين تثاقل الجنود ، وتخاذل الزعماء وخيانة القائد ، وفتن العدو !.
انها الظروف القاهرة التي بدأت تنذر باكداس من الخطوب و النكبات والتي ستجر حتما الى نهاية تاريخ قصير ، كان انصع وأروع صفحات التاريخ الاسلامي ، وابعدها ارتفاعا في المجد ، وأقربها اسبابا الى الفخر.
انها الكارثة التي تؤذن باللحظة المشؤومة في تاريخ الاسلام ، اللحظة القائمة على عملية الفصل بين العهدين ، عهد الخلافة بمميزاتها ومثاليتها ، وعهد ( الملك المعضوض
(1) وبلائه المقدَّر المفروض.
وكان الحسن عليه السلام ، أعرف الناس بقيم هذه المعنويات المهددة وأحرص المسلمين على حفظ الاسلام ، والرجل الحديدي الذي لا تزيده النكبات المحيطة به ، الا لمعانا في الاخلاص ، واتقادا في الرأي ، واستبسالا في تلبية الواجب ، وتفاديا للمبدأ .
ولم يكن لتساوره الحيرة ، على كثرة ما كان في موقفه من البواعث عليها ، ولا وجد في صدره حرجا
(2) ولا تلوّما ولا ندما ، ولكنه وقف ليختار الرأي ، و ليرسم الخطة ، وليتخذ التدابير .
وكان لابد لاصطفاء الرأي ، من دراسة سائر الاراء.
وذلك ما نريد أن نسيمه : ( موقف الحيرة ).
---------------------------
(1) قال الدميري ( ج 1 ص 58 ) بوعد ان ذكر خلافة الحسن عليه السلام وأحصى ايامها : ( وهي تكملة ما ذكره رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من مدة الخلافة ، ثم تكون ملكا عضوضا ثم تكون جبروتا وفسادا في الارض ، وكان كما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ... ) .
(2) قال ابن كثير ( ج 8 ص 19 ) : ( وهو ـ يعني الحسن ( عليه السلام ) ـ في ذلك ، الامام البار الراشد الممدوح ، وليس يجد في صدره حرجا و لا تلوما و لا ندما بل هو راض بذلك ، مستبشر به ) .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 165 _
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 166 _
وانصرف الى التفكير ، فما كان ليغيب عنه ما يهدد موقفه من عبءٍ ، بعضه فجيعة. وبعضه هوان ، وبعضه موت لا يشبه موت العظماء .
ولم تكن الحيرة عنده بالغة الغور ، ولكنها كانت بالغة الاسى مشبوبة الاحاسيس ، تخزه و خز الشوك الملتهب ، وتستفزُّه بالحاح الى اختراع المخرج الذي لا يساوره الهوان ، ولا يخضع للفجيعة ، ولا هو من الموت المغتصب ، الذي تربأ عن مطارحته الذكريات الكريمة .
وكل ما كانت تحتفل به اللحظة القائمة بين يديه ، هو اللجاجة اللاغبة ، والشائعات الكاذبة ، والاندفاع في تيار الفوضي الرهيب .
والحسن بين هذه الهزاهز ، الجبل الذي لا تزعزعه العواصف ، والاماام البر الذي لا يغيظه جهل الجاهلين عليه ، ولا يُحفظه سخط الناقمين منه ، ووقف غير عابئ بما يدور حوله ، ولكن ليسقرئ الخطط فيضع خطته ، وليستعرض الاراء فيبت برأيه .
وليس بمقدورنا الان ان نقرأ ـ بتفضيل ـ الافكار التي كانت تحت سيطرته ساعة أذ ، أو كان هو تحت سيطرتها ، ولكنها ـ بالاجمال ـ لم تكن لتعدو ( ما يريده الله وما يؤثر عن رسول الله وما يجب لصيانة المبدأ ) .
أما ما يقوله الناس ، فلم يكن مما يعنيه كثيرا .
ولنتذكر دائما ، انه الامام الروحي ، الذي لا يريد الحياة بين الناس الا بمقدار ما تكون الحياة بذلةً في سبيل الله ، ووسيلة للنفع العام ومثلا يحتذى في الاصلاح ونشر الاحسان ، فما قيمة ما يقول الناس الى
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 167 _
جنب هذه المعنويات الممعنةفي اتجاهها الى الله. والامام بصفته الروحية التي يقود بها الغير الى الخير ، لايهجس ابدا بغير هذا النوع من التفكير ، ولا ينصرف بخلجاته ومشاعره وعواطفه الى غير الله ، وسيرة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والمبدأ الصحيح .
لذلك لم تكن الحيرة عنده ـ كما قلنا ـ بالغة الغور ، لان طريق الله لاحب ، وأسوة رسول الله واضحة ، ولكنها كانت حيرة مريرة المذاق .
وكم من المزعج ان يساق الانسان من ظروفه ، ومن حيث لا يد له ، الى وضع لا يسيغه طبع ، تصطلح عليه الازمات ، ثم لا يفتأ يقوم من نفسه على عقُدٍ لا تنقطع الا لتتصل. ذلك هو الوضع ( الشاذ ) الذي لايعهد الا مع الحيرة ، ولا يطرد في نوازعه الا مع القلق ، ولا تكون النفس معه الا بين الاقدام و الاحجام و اليأس و الرجاء ، و للنفس ـ مع هذا الوضع ـ حاجتها القصوى الى التأمل والتفكير ، والى الكلاءة والتثبيت ، وللضمير ـ مع هذا الوضع ـ موقفه الدقيق الذي تتفاوت فيه معادن الناس .
وايّ نفس كانت هي تلك النفس ، وأيّ ضمير كان هو ذلك الضمير !!؟؟ ، انها النفس المطمئنة التي ترجع عند كل هول يعصف بها الى ربها راضية مرضية ، لا تستكفي بغيره ، ولا تسترشد بسواه. وانه الضمير الطاهر النقي ، الذي لم يضعف على ثقل الواجب و انما كان ـ على كل حال ـ أصلب من الكارثة ، ولم نسمع عن الحسن ان احدا ممن حوله شعر عليه في لحظات مرزأته ، أنه المرزأ في دخيلته او الممتحن في موقفه ، اذ لا حزن ولا انكسار ، وانما كل ظاهراته ثبات و عزم و استقرار ، و حتى في مناجاته لربه فانه كان مثال الصبر واللجأ الى الله والاستكفاء به من دون الناس .
وكان من دعائه ( عليه السلام ) : (اللهم ياذا القوة والسلطان يا عليَّ المكان ، كيف أخاف و أنت املي ، وكيف أخشى وعليك توكلي ، أفرغ علىَّ من صبرك ، وأظهرني على أعدائي بأمرك ، وأيدني بنصرك ، اليك اللجا ، وبك الملتجا ، فاجعل لي من أمري فرجا و مخرجا ، يا كافي أهل
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 168 _
الحرم من أصحاب الفيل ، والمرسل عليهم طيراً أبابيل ، ترميهم بحجارة من سجيل ، ارم من عاداني بالتنكيل ! ) .
والتمعت على جوانب فِكَرِه اليائسة ، وفي زوايا تاملاته العابسه ؟ اشعاعة من الامل ، كانت جواب دعائه الى الله عزّ و جل ، ففاحت ذكية العرف ، ولاحت مضواءة الملامح ، كأنها نذر البشارة .
وكانت مفاجأة غريبة أغلقت في وجهه هموم حاضره كلها فاذا هو بين طوفان من الذكريات التي لا تمتّ الى ظرفه ولا تتصل بأرزاء لحظته ، ذكريات تشيع فيها اللذة وتجد فيها النفس الوانا من الامتاع والمؤانسة .
وللنفس اذا أفرط بها الالم و أرهقها الفكر والصمت العميق ، انتفاضتها المباركة التي تفرُّ بها من الضيق الى السعة ، ومن اليأس الى الرجاء ، ومن الحيرة الى الدلالة المليئة بالامال .
انه ليفكر لحاضره من هذه المزعجات ، ولمستقبله من هذا العدو المستهتر بالمقدسات ، وانه ليظن ( بأنه لو وضع يده في يده فسالمه لم يتركه أن يدين لدين جده رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم )
(1) .
اما هذه المفاجأة الجديدة ، فقد رجعت به الى ثلث قرن مضى وحواليه فاذا هو بين منازل النبوة تتجاذبه ، ومهابط الوحي تتلاقفه ، وحلقات المهاجرين والانصار تحتفل به .
رؤيً تملك الحس وأحلام لذيذة تؤاسي الجراح .
هذا جده الاعظم ، وهذا سلطان نبوته في قومه ، وهذه نجوم الاي الكريمة تتنزل بين الفينة والفينة. كأنها بريد السماء الى الارض ولا تتنزل الا في بيته ، وهذا أبوه ، وزير النبي والمجاهد الاكبر الذي أخضع صناديد العرب لكلمات الله ، كأنه يرجع الان وقد فتح حصن خبير ، وهذه أمه الطاهرة البتول ، التي باهل بها الرسول فكانت بحق سيدة نساء العالمين .
---------------------------
(1) من كلمات الحسن نفسه كما يرويها البحار ( ج 10 ص 107 ) .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 169 _
واذا لم يكن شيء مما يراه الان ، واقعا خارجيا ، فليكن بحقيقته واقعا نفسيا ، جلاه لناظره تيار روحي لا ينقطع بروحه عن هذا الجد وهذين الابوين ، كما كان لا ينقطع عنهم بجسمه ـ في الواقع الخارجي ـ يوم الف الله و فده لمباهلة نصارى نجران ، فكان الوفد هو الحسن و جده و أباه و امه و أخاه ، و يوم دعا رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) بالكساء فلفّه على الصفوة المختارة ( أصحاب الكساء الخمسة ) فكانوا ( الحسنين وأبويهما وجدهما الاعظم ) ، يوم نزلت آية التطهير ففسَّرها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالخمسة الميامين ( عليهم السلام ) .
خصائص من العظمة لا يشاركهم فيها أحد في الاسلام .
وتراءت له من وراء أفقه الحزين ، صور ممتعة من طفولته المباركة و صباه الباكر الكريم ، فتطلع منها الى أيامه البيض الحافلة بالنور في المدينة المنوَّرة ، يوم كان يدرج فيها بموقعه الممتاز ، ومقامه المدلّل المرموق بين أقرانه و اترابه ، و يوم كان يلعب و يمرح فيها ، ولكن بين سواعد أبويه العظيمين وعلى صدر جده الاعظم أو على ظهره المقدس او على أعواد منبره الشريف ، و يوم كان يتلقّف الوحي منذ لحظاته الاولى ، ويتعلم كلمات الله من لسان نبيّ الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ويتخرج بعلمه على مصدر العلم ، و يضع النقاط على الحروف ليستقبل سيادته على الناس ، و امامته المفروضة في أعناق المسلمين ، و انه ليستمع الى جده حين كان يراود الناس في كل مناسبة على الاعتراف له ـ بلسان أشبه بمباهاة ـ كلما ذكر ابنه الحسن للسيادة و الامامة. و طالما ذكره لمهما في حديثه أو ذكرهما له .
كانت عهودا مفعمةً بروح العظمة وبعظمة الروح ، جديرة بأن تهيب بالحسن فيتذكر منها اطيب الذكريات ، وأحفلها بالغبطة والقوة والمكرمات .
وكانت الذكرى الاخاذة التي تمكنت بسلطانها من نفسه حتى انتزعت منه ابتسامته الملذوذة غير مظنون الابتسام في ظرفه ، انه رأى جده رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) كأنه ينتزعه الان من عاتق أمه فيأخذه بيده ،
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 170 _
ويوقفه على قدميه المباركتين ، ثم لا يزال يباغمه بأنشودته المقدسة : ( حزقه حزقه ، ترقَّ عينَ بقّه ) فيرقى بقدميه الصغيرتين متدرجا حتى يضعهما على صدر جده العظيم ، ويفتح فاه ، اذ يقول له : ( افتح فاك ) ، فيقبله بفيه ، ثم يقول : ( اللهم انى احبه فأحبَّه وأحبَّ من أحبَّه
(1) .
ثم كانت هذه الذكرى مفتاح ذكريات كان من حقها ان تؤنسه و أن تنسيه مزعجات لحظته الاخيرة ، و ان أسطع فترة في حياة كل انسان هي فتره طفولته البريئة بما يعمرها من الروابط المقدسة ـ بينه و بين الاحضان التي يلجأ اليها ، و بينه و بين المجتمع الذي يعيش فيه ـ ، و ان ذكريات تلك الفترة من حياة أيّ انسان تبقى خالدة في رأسه و في قلبه و في روحه و لا يمكن نسيانها ابدا .
فذكر مرةً جده رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، وقد وضعه على منكبه الايمن ، و وضع أخاه الحسين على منكبه الايسر ، فاستقبله أبوبكر فقال لهما : ( نعم المركب ركبتما ياغلامان ) ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) : ( ونعم الراكبان هما ، ان هذين الغلامين ريحانتاي من الدنيا !
(2) .
وذكر يوم جثا جده وأركبه على ظهره ، وأركب معه أخاه الحسين ، وقال لهما : ( نعم الجمل جملكما ، ونعم العدلان أنتما
(3) .
وذكر مرةً اخرى يوم جاء وجده ساجد فركب رقبته وهو في صلاته
(4) ، و يوم جاء وجده راكع ، فأخرج له بين رجليه حتى خرج من الجانب الاخر
(5) ، ويوم قيل لجده : ( يا رسول الله انك تصنع بهذا
---------------------------
(1) الزمخشري وابن البيع والطبراني وينابيع المودة والاصابة ( ج 2 ص 12 ) وغيرها .
(2) كتاب سليم بن قيس ، والبيهقي في المحاسن والمساويء ( ص 49 ) وروى الاخير قول الحميري في نظمه الحديث:
اتى حسنا والحسين الرسول وقـد بـرزا ضحوة iiيلعبان فـضـمـهما iiوتـفـداهما وكـانا لـديه بذاك iiالمكان و مـرا و تـحتهما iiعاتقاه فـنعم الـمطيه و iiالراكبان |
(3) الابانة لابن بطة.
(4) الحلية لابي نعيم.
(5) الاصابة ( ج 2 ص 11 ).
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 171 _
ـ يعني الحسن ـ شيئا لم تصنعه بأحد ) ، فقال : ( ان هذا ريحانتي ، وان ابني هذا سيد سيصلح الله به بين فئتين من المسلمين
(1) .
وذكر ركوبه على رقبة جده ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يخطب في مسجده ، حتى لقد كان يرى بريق خلخاليه من أقصى المسجد ، وهما يلمعان على صدر جده العظيم ، ثم لا يزال كذلك حتى يفرغ النبي من خطبته
(2) .
وذكر نزول جده رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) من على منبره فزعا وكان هو قد عثر عند باب المسجد ، فحمله وأخذه معه الى منبره ، ثم قال : ( أيها الناس ما الولد الا فتنة
(3) .
وذكر جده وهو يقول له غير مرة : ( أشبهت خلقي وخلقي
(4) .
وذكر يوم استيقظ من نومه ، فاذا جده وأمه يتحدثان ، فأقبل على جده قائلا : ( يا جداه اسقني ) ، فأخذه جده وقام الى لقحة
(5) كانت له ، فاحتلبها ثم جاء بالعُلبة
(6) وعلى اللبن رغوة ، ليناوله الحسن ، فاسيتقظ الحسين فقال : ( يا أبت اسقني ) ، فقال له : ( يابُنَّي أخوك أكبر منك ، وقد استسقاني قبلك
(7) .
وذكر يوم كان طفلا بين يدي أمه فاطمة ( عليهما السلام ) ، ودخل عليها أبوها رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، ورآه يلعب ، فقال لها : ( ان الله تعالى سيصلح على يدي ابنك هذا ، بين فئتين عظيمتين من المسلمين
(8) .
وذكر من ملامح سلطانه في صباه ، يوم جاء الى أبي بكر وهو على منبر جده رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، فقال له : ( انزل عن مجلس أبي !
(9) .
---------------------------
(1) الحلية
(2) البحار ( ج 6 ص 58 ).
(3) المناقب والترمذي والسمعاني وفضائل أحمد.
(4) الغزالي والمكي في الاحياء ، وقوت القلوب .
(5) الناقة الكثيرة اللبن .
(6) العلبة بضم اوله : اناء من جلد أو خشب .
(7) كتاب سليم بن قيس ( ص 98 ) .
(8) العقد الفريد ( ج 1 ص 194 ) والبيهقي ( ج 1 ص 40 ) ، والبخاري والخطيب والسمعاني والحركوشي والجنابذى وابو نعيم في الحلية وينابيع المودة ومروج الذهب وغيرها .
(9) الصواعق المحرقة ( ص 105 ) واخرجه الدار قطني .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 172 _
وذكر جده وقد أخذه معه الى منبره ، فهو يقبل على الناس مرة ، وعليه مرةّ ، ويقول : ( ان ابني هذا سيد ولعل الله ان يصلح به بين فئتين من المسلمين
(1) .
وكانت مناظر وجدان مؤثرة في الحسن ، وذكريات تاريخ ملذوذة في النفس بدلت من وحشة اللحظة ، وخففت من عرامة الخطب ، وكانت كل ذكرى تثير ذكريات ، وكل منظر يمرّ يوقظ مناظر أخريات .
وانه ليطمئن الى قول جده ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، كما يطمئن الى محكم التنزيل ، وها هو ذا جده العظيم يقول له ، وكان صوته الشريف يرنّ بعذوبته المحببة في اذنه ، ويقول لامه الطاهرة البتول ، ويقول على منبره ، ويقول بين أصحابه ، و يقول ما لا يحصى كثرة : ( ان ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين ).
ويرجع الحسن الى نفسه فيقول :
ترى ، هل أراد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ان اصالح اليوم أهل الشام ؟ .
وهل أهل الشام البغاة ، فئة مسلمة يصح أن يعنيها هذا الحديث ؟ .
وهل هذه هي الفتنة التي أرادني رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لاصلاحها ؟ ، أو قد فدنا الكفاية لقمعها من طريق القوة ؟ .
كل ذلك كان يراود الحسن ، فيثير في نفسه تفاعلا عنيفا ،ينذر بانقلاب تاريخ ، وكل هذه الاسئلة كانت تنتظر الجواب من الحسن استعدادا للمصير الاخير.
وبعثت هذه الذكريات بما فيها التوجيه النبويّ الذي استشعر منه الحسن حماية جده له في أحرج ساعاته ، فكرة الانقاذ للموقف ، فيما لو اتيح لهذه الاسئلة أجوبتها المطابقة لمقتضى الحال .
ـ نعم ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال ذلك يقينا دون شك .
---------------------------
(1) البخاري و مسلم و الاصابة ( ج 2 ص 12 ) .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 173 _
وان هذه الفتنة هي الفتنة التي عناها فيما لوَّح اليه في أحاديثه الشريفة ، ولا فتنة أعظم من فتنة تشق المسلمين انشقاقهم هذا ، فتلهيهم عما يُراد بهم أعدائهم الواقفين لهم بالمرصاد
(1) ، وعما يراد منهم من اعمار وتنظيم وجهاد .
واما الحكم على البغاة بحصانة الاسلام ، فهو ما يشير اليه موقف أمير المؤمنين عليه السلام منهم ، حين منع سبي نسائهم وذراريهم ، وكفى بسيرة أميرالمؤمنين أسوةً صالحة وقدوة في الدين راجحة .
واما السؤال عن الكفاية لقمع هذه الفتنة بالقوة ، وهو الحلم اللذيذ الذي هتف به الشيعة المتحمسون بالكوفة ابان النهضة للجهاد .
فالجواب عليه ، يتوقف على دراسة الموقف من ناحيتيه المعنوية والعددية معا ، وذلك باستعراض الامكانيات الحاضرة على حقيقتها ، والمعنويات في الجيوش هي رمز القوة التي تدخر لربح الوقائع ، وهي أهم بكثير من تصاعد الاعداد التي لا تعزّزها الروح العسكرية الرفيعة .
وكان للحسن في مَسكن بقية من جيش ، لا تجد المعنويات سبيلها اليه الا بالمعجزة ، بعد النكبة التي أصيب بها هذا المعسكر بخيانة قائده وفرار ثمانية الاف من أفراده .
وفي المدائن ، مجموعة من أشباح ، كشفت الارجافات الدوة المربكة عن نواياها ، فاذا بها لا تفتأ تتلقّف الفتن ، وتهمّ بالعظائم ولا ترجى لميدان حرب ، وهذه هي الناحية المعنوية على واقعها .
واما النسبة العددية فقد كان أكبر عدد بلغه جيش الحسن ( عليه السلام ) فيما زحف به الى لقاء معاوية عشرين الفا أو يزيدها قليلا ، وكان جيش معاوية الذي عسكر به على حدود العراق ستين الفا! .
فللحسن ـ يومئذ ـ ثلث أعداد جيش معاوية .
---------------------------
(1) اشارة الى محاولات البيز نطيين عند ثغور الشام سنة 40 هـ .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 174 _
وجاءت عملية الفرار التي اجتاحت معسكر مسكن والتي انهزم بها ابن العم ( ورب ابن عم ليس بابن عم ) ـ كما يقول المثل العربي ـ بتمانية الاف ! ، فتصاعدت النسبة صعودا مريعا .
وبقى الحسن في معسكريه جميعا على الخمس من عسكر معاوية ! .
واذا اعتبرنا ـ هنا ـ القاعدة العسكرية الحديثة التي تنسب القوة المعنوية الى الكثرة العددية ، بنسبة ثلاثة الى واحد رجعنا الى نتيجة مؤسفة جدا ، هي نسبة واحد الى خمسة عشر .
واذا نظرنا الى جيش الحسن الذي بقى ينازل معاوية في مسكن وحده ـ على ضوء هذه القاعدة ـ رأيناه ينازل عدوا يعدّه خمسة واربعين ضعفا بالضبظ .
فأين هي الكفاية لقمع فتنة الشام بالقوة ، ياترى ؟ ...
ولن تجيز النظم المتبعة لحروب الانسان في التاريخ ، مبارزة واحد لخمسة و أربعين ، ولا محاربة واحد لخمسة عشر ، و ما هي ـ ان اتفقت يوما ـ بحرب نظامية ، تنتظرها النتائج ، و انما هي الحملات المستميتة التي تقصد الى الانتحار عن ارادة وعمد .
فليكن الحسن ابن رسول الله ، هو ذلك المخلوق الذي ادخره الله للاصلاح لا للحرب ، وللسلام لا للخصام ، وليكن الغرس الذي أنبته الله للمسلمين لا لنفسه ، وللدين لا للسلطان وليكن نصيبه من هذا الموقف في الباقي دون الزائل ، وفي الخالد دون الفاني ، وفي الله دون الناس .
وهكذا حالت رسالة الحسن بالسلام ، دون أن يشتبك الفريقان بحرب ما ، وكان ذلك هو الثابت ـ تاريخيا ـ رغم ان بعض المؤرخين حاول التلميح الى موقعة حربية ، بين جيش قيس ، قائد الحسن على مقدمته ـ وبين جند الشام في ( مسكن ) ، وصرح السيد في ( الدرجات
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 175 _
الرفيعة ) بشيء من أطوار هذه الموقعة المزعومة .
ولا نعرف لهذا النبأ مصدرا جديرا بالاعتبار ، أقدم من السيد الرفيع الدرجات ( السيد على خان المتوفى سنة 1120 هـ ) .
ولا نجد من دراسة الوضع الراهن يومئذ في مسكن ما يدعم هذا الزعم .
ولا نرى من خطة ( حقن الدماء ) التي كانت طابع سياسة الحسن ( عليه السلام ) ، في سائر مراحله ، ما يبعثنا على التسليم لهذا الخبر .
ولا نفهم من حديث رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) ( بان الله سيصلح بالحسن بي فئتين عظيمتين من المسلمين ) الا كون الحسن رسول السلام في الاسلام .
فأنى يكون لجيشه أن يحارب أو يهاجم ؟ .
وعلمنا من وصية الحسن يوم حضرته الوفاة ، أنه لم يرض أن يهرق في أمر محجمة دم ، فكان في ذلك وفق رسالته التي أردها أو اريد لها .
على أن شهود عيان كثيرين يؤكدون : ( أنه ولي الخلافة ولم يهرق في خلافته محجمة دم ) وقال ذلك بعضهم ، وهو يعزز كلامه بالقسم
(1) مرتين .
---------------------------
(1) تراجع الاصابة ( ج 2 ص 12 ) ، وابن كثير في تاريخه ( ج 8 ص 8 و 14 ) وغيرهما .