وخفي على معاوية وعلى ابن أبيه ورجال مدرسته أن الامعان بالعنف من أكبر الاسباب التي تغذي المثل الاعلى الذي يحاربه الحاكم العنيف ، وان العنف لن يستطيع ان يقتل الفكرة التي كتب لها الخلود ، ولكنها ستظل نواة الشجرة التي ستبسق مع التاريخ .
  وهذا حييت مئات الملايين ـ بعد ذلك ـ وهي تشارك الكوفة في فكرتها ، وتحمل لمعاوية ورجاله وترها الذي لا تخلقه الايام .

التعذيب بغير القتل :
  وكان للغارة الاموية ألوان أخرى غير القتل والتشريد وهدم البيوت ومصادرة الاموال وكم الافواه .
  فقال ابن الاثير عند ذكره لفاجعة ( أوفى بن حصن ) : ( وكأن أول قتيل قتله زياد ، بعد حادثة الثلاثين أو الثمانين الذين قطع أيديهم !! ).
  واستبطن معاوية دخائل البصرة والكوفة فلم يدع في هذين المصرين رئيس قوم ، ولا صاحب سيف ، ولا خطيباً مرهوباً ، ولا شاعراً موهوباً من الشيعة ، الا أزعجه عن مقره ، فسجنه ، أو غله ، أو شرّده ، أو أهدر دمه ! .
  واليك فيما يلي أمثلة قليلة من هذه النكبات التي قارفها أبو يزيد في الشخصيات البارزة من رؤساء الشيعة يومئذ .

ب ـ زعماء الشيعة المرعون
1 ـ عبد اللّه بن هاشم المرقال :
  كان كبير قريش في البصرة ، ورأس الشيعة فيها .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 352 _

  وكان أبوه هاشم ـ المرقال ـ بن عتبة بن أبي وقاص ، القائد الجريء المقدام الذي لقي منه معاوية في صفين الرعب المميت ، وهو يومئذ على ميسرة علي ( عليه السلام ) .
 كتب معاوية الى عامله زياد : ( اما بعد ، فانظر عبد اللّه بن هاشم بن عتبة ، فشدَّ يده على عنقه ، ثم ابعث به اليّ ) .
  فطرقه زياد في منزله ليلاً ، وحمله مقيداً مغلولاً الى دمشق ، فأدخل على معاوية ، وعنده عمرو بن العاص ، فقال معاوية لعمرو : ( هل تعرف هذا ؟ ) قال : ( هذا الذي يقول أبوه يوم صفين ... ) وقرأ رجزه وكان يحفظه ثم قال متمثلاً :
  ( وقد ينبت المرعى على دمن الثرى***وتبقى حزازات النفوس كما هيا )
  واستمر قائلاً : ( دونك يا أمير المؤمنين الضب المضب ، فاشخب أوداجه على أثباجه ، ولا ترده الى العراق ، فانه لا يصبر على النفاق ، وهم أهل غدر وشقاق وحزب ابليس ليوم هيجانه ، وانه له هوى سيوديه ، ورأياً سيطغيه ، وبطانة ستقويه ، وجزاء سيئة مثلها ) .
  وكان مثل هذا المحضر ومثل هذا التحامل على العراق وأهله هو شنشنة عمرو بن العاص المعروفة عنه ، ولا نعرف أحداً وصف أهل العراق هذا الوصف العدو قبله .
  أمّا ابن المرقال فلم يكن الرعديد الذي يغلق التهويل عليه قريحته ، وهو الشبل الذي تنميه الاسود الضراغم ـ فقال ، وتوجه بكلامه الى ابن العاص : ( يا عمرو ! ان اقتل ، فرجل أسلمه قومه ، وادركه يومه. أفلا كان هذا منك اذ تحيد عن القتال ، ونحن ندعوك الى النزال ، وانت تلوذ بشمال النطاف (1) ، وعقائق الرصاف (2) ، كالأمة السوداء ، والنعجة

---------------------------
(1) أي بأشام الجانبين من الماء القليل .
(2) العقائق : سهام الاعتذار ، كانوا يرمون بها نحو السماء ـ والرصاف : الحجارة المرصوف بعضها على بعض في مسيل الماء ، فكأنه يقول له : انك تلوذ في أرض صلبة عند ماء قليل ترمي بسهام الاعتذار .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 353 _

  القوداء ، لا تدفع يد لامس ؟ ).
  فقال عمرو : ( أما واللّه لقد وقعت في لهاذم شدقم (1) للأقران ذي لبد ، ولا أحسبك منفلتاً من مخالب أمير المؤمنين ) .
  فقال عبد اللّه : ( أما واللّه يا ابن العاص انك لبطر في الرخاء ، جبان عند اللقاء ، غشوم اذا وليت ، هياب اذا لقيت ، تهدر كما يهدر العود المنكوس المقيد بين مجرى الشوك ، لا يستعجل في المدة ، ولا يرتجى في الشدة ، أفلا كان هذا منك ، اذ غمرك أقوام لم يعنفوا صغاراً ، ولم يمرقوا كباراً ، لهم أيد شداد ، والسنة حداد ، يدعمون العوج ، ويذهبون الحرج ، يكثرون القليل ، ويشفون الغليل ، ويعزون الذليل ) ؟ .
  فقال عمرو : ( أما واللّه لقد رأيت أباك يومئذ تخقق (2) أحشاؤه ، وتبق أمعاؤه ، وتضطرب اصلاؤه (3) كما انطبق عليه ضمد ) .
  فقال عبد اللّه : ( يا عمرو ! انا قد بلوناك ومقالتك فوجدنا لسانك كذوباً غادراً ، خلوت بأقوام لا يعرفونك ، وجند لا يساومونك ، ولو رمت المنطق في غير أهل الشام لجحظ (4) عليك عقلك ، ولتلجلج لسانك ، ولاضطرب فخذاك اضطراب القعود الذي اثقله حمله ).
  فقال معاوية : ( ايها عنكما ) ، وأمر باطلاق عبد اللّه لنسيبه. فلم يزل عمرو بن العاص يلومه على اطلاقه ويقول :
(أمـرتك أمراً عازماً iiفعصيتني      وكان من التوفيق قتل ابن هاشم
ألـيس أبـوه يـا معاوية iiالذي      أعـان علياً يوم حز الغلاصم ؟
فلم  ينثن حتى جرت من iiدمائنا      بصفين أمثال البحور iiالخضارم
وهـذا ابنه والمرء يشبه iiشيخه      ويوشك  ان تقرع به سن نادم )

---------------------------
(1) أي واسع الشدقين .
(2) تشقق .
(3) اوساط الظهر .
(4) جحظ اليه عمله نظر في عمله فرأى سوى ما صنع ، وجحط اليه عقله أي نظر الى رأيه فرأى سوء ما ارتأى .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 354 _

(2) عدي بن حاتم الطائي
  صحابي كريم ، كان رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم )يكرمه اذا دخل عليه ، وزعيم عظيم ، وخطيب مدره ، وشجاع مرهوب ، أسلم سنة تسع وحسن اسلامه ، قال : ( فلما قدمت المدينة استشرفني الناس فقالوا : عدي بن حاتم ! وقال لي رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ): يا عدي أسلم تسلم ، قلت : ان لي ديناً ، قال : أنا أعلم بدينك منك ... قد أظن أنه انما يمنعك غضاضة تراها ممن حولي ، وأنك ترى الناس علينا الباً واحداً ، قال : هل اتيت الحيرة ؟ قلت : لم آتها وقد علمت مكانها ، قال : يوشك ان تخرج الظعينة منها بغير جوار حتى تطوف بالبيت ، ولتفتحن علينا كنوز كسرى بن هرمز ، فقلت : كسرى بن هرمز ؟ قال : نعم وليفيضن المال حتى يهم الرجل من يقبل صدقته ) ، قال عدي : ( فرأيت اثنتين : الظعينة ، وكنت في أول خيل غارت على كنوز كسرى ، وأحلف باللّه لتجيئن الثالثة (1) ) ، وقال : ( أتيت عمر في أناس من قومي فجعل يفرض للرجل ويعرض عني ، فاستقبلته فقلت : أتعرفني ؟ ، قال : نعم آمنت اذ كفروا ، وعرفت اذ نكروا ، ووفيت اذ غدروا ، وأقبلت اذ أدبروا ، ان أول صدقة بيضت وجوه أصحاب رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم )صدقة طيئ (2) ) ، وقال : ( ما اقيمت الصلاة منذ أسلمت الا وأنا على وضوء (3) ) .
  ونازعه الراية يوم صفين عائذ بن قيس الحزمري الطائي ، وكانت بنو حزمر أكثر من ( عدي ) (4) رهط حاتم ، فوثب عليهم ( عبد اللّه بن خليفة الطائي ) البولاني عند علي ( عليه السلام ) فقال : ( يا بني حزمر أعلى عدي تتوثبون ؟ وهل فيكم مثل عدي ؟ ، أو في آبائكم مثل أبي عدي ؟ أليس بحامي القربة ؟ ، ومانع الماء يوم ( رويّة ) ؟ أليس بابن ذي المرباع

---------------------------
(1 و 2 و 3 ) الاصابة ( ج 4 ص 228 ـ 229 ) .
(4) هو الاب الخامس لعدي ، فعدي الصحابي هو ابن حاتم بن عبد اللّه بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي ـ هذا ـ .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 355 _

  وابن جواد العرب ؟ ، أليس بابن المنهب ماله ومانع جاره ؟ أليس من لم يغدر ، ولم يفجر ، ولم يجهل ، ولم يبخل ، ولم يمنن ولم يجبن ؟ ، هاتوا في آبائكم مثل أبيه ! ، أو هاتوا فيكم مثله ! ، أَوَليس أفضلكم في الاسلام ؟ ، أَوَليس وافدكم الى رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) ؟ ، أليس برأسكم ـ يوم النخيلة ـ ويوم القادسية ـ ويوم المدائن ـ ويوم جلولاء الوقيعة ـ ويوم نهاوند ـ ويوم تستر ؟ ، فما لكم وله ! ، واللّه ما من قومكم أحد يطلب مثل الذي تطلبون ) .
  فقال له علي ( عليه السلام ) : ( حسبك يا ابن خليفة ، هلم أيها القوم اليّ ، وعلي بجماعة طي ) ، فأتوه جميعاً ، فقال علي ( عليه السلام ) : ( من كان رأسكم في هذه المواطن ؟ ) ، قالت له طيئ : ( عدي ) ، فقال له ابن خليفة : ( فسلهم يا أمير المؤمنين : أليسوا راضين مسلمين لعدي الرياسة ) ، ففعل ، فقالوا : ( نعم ) ، فقال لهم : ( عديّ أحقكم بالراية ، فسلموها له (1) ) .
  وبعث اليه زياد سنة ( 51 ) وكان في مسجده الذي يعرف ( بمسجد عدي ) في الكوفة فأخرجه منه ، وحبسه ، فلم يبق رجل من أهل المصر من اليمن وربيعة ومضر الا فزع لعدي بن حاتم ، فأتوا زياداً وكلموه فيه ، وقالوا : ( تفعل هذا بعدي بن حاتم صاحب رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) .
  وطلب زياد من عدي أن يجيئه بعبد اللّه بن خليفة الطائي ، وكان من أصحاب حجر بن عدي أشدائهم على شرطة زياد ( الحمراء ) ، فأبى ثم رضي زياد من عدي أن يغيب ابن خليفة عن الكوفة (2) .
  ودخل عدي بن حاتم على معاوية ، وان معاوية ليهابه ويعرف سداده

---------------------------
(1) الطبري ( ج 6 ص 5 ).
(2) ابن الاثير ( ج 3 ص 189 ).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 356 _

  الحصيف في مزالق الفتن ، وتمرسه البصير في الشدائد ، وبصيرته النافذة وتجاربه الكثيرة الماضية ، فجرى في حديثه معه عند ( موهبته الخاصة ) التي كان يفزع اليها في منازلة العظماء من أعدائه ، فقال : ( يا عدي أين الطرفات ؟ ـ يعني بنيه طريفاً وطارفاً وطرفة ـ ) قال : ( قتلوا يوم صفين بين يدي علي بن أبي طالب ) ، فقال : ( ما أنصفك ابن أبي طالب ، اذ قدم بنيك واخر بنيه ) ، قال ، ( بل ما أنصفت أنا علياً ، اذ قتل وبقيت بعده ) ، فقال معاوية : ( أما انه قد بقي قطرة من دم عثمان ما يمحوها الا دم شريف من أشراف اليمن ! ) ، فقال عدي : ( واللّه ان قلوبنا التي ابغضناك بها لفي صدورنا ، وان أسيافنا التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا ، ولئن أدنيت لنا من الغدر فترا لندنين اليك من الشر شبراً ! وان حز الحلقوم ، وحشرجة الحيزوم ، لاهون علينا من أن نسمع المساءة في علي فسلم السيف يا معاوية لباعث السيف ) .
  فقال معاوية : ( هذه كلمات حكم فاكتبوها ) ـ هزيمة منكرة من معاوية ـ وأقبل على عدي يحادثه كأنه ما خاطبه بشيء (1) .
( ولا خير في حلم اذا لم يكن له      بوادر  تحمي صفوه ان يكدرا ii)

  ثم قال له : ( صف لي علياً ) ، فقال : ( ان رأيت ان تعفيني ). قال : ( لا أعفيك ) ، قال :
  ( كان واللّه بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول عدلاً ، ويحكم فصلاً ، تتفجر الحكمة من جوانبه ، والعلم من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل ووحشته ، وكان واللّه غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يحاسب نفسه اذا خلا ، ويقلب كفيه على ما مضى ، يعجبه من اللباس القصير ، ومن المعاش الخشن ، وكان فينا كأحدنا يجيبنا اذا سألناه ، ويدنينا اذا أتيناه ، ونحن مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه لهيبته ، ولا نرفع أعيننا اليه لعظمته ، فان تبسم فعن اللؤلؤ المنظوم ، يعظم أهل الدين ،

---------------------------
(1) المسعودي هامش ابن الاثير ( ج 6 ص 65 ).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 357 _

  ويتحبب الى المساكين ، لا يخاف القوي ظلمه ، ولا ييأس الضعيف من عدله ، فأقسم لقد رأيته ليلة وقد مثل في محرابه ، وأرخى الليل سرباله ، وغارت نجومه ، ودموعه تتحادر على لحيته ، وهو يتململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، فكأني الآن أسمعه وهو يقول :
  ( يا دنيا ! اليّ تعرضت أم الي أقبلت ؟ ، غري غيري ، لاحان حينك ، قد طلقتك ثلاثاً ، لا رجعة لي فيك ، فعيشك حقير ، وخطرك يسير. آهٍ من قلة الزاد وبعد السفر وقلة الانيس ) .
  فوكفت عينا معاوية ، وجعل ينشفهما بكمه. ثم قال : ( يرحم اللّه أبا الحسن ، كان كذلك. فكيف صبرك عنه ؟ ) قال : ( كصبر من ذبح ولدها في حجرها ، فهي لا ترقأ دمعتها ، ولا تسكن عبرتها ) ، قال : ( فكيف ذكرك له ؟ ) قال : ( وهل يتركني الدهر أن انساه ؟ (1) ) .
  اقول : وتوفي عدي بن حاتم في عهد المختار بن أبي عبيد سنة (68) (2) وهو ابن مائة وعشرين سنة فماتت معه نفس كريمة لا تخلق الا في ملك ، ورأي حصيف لا يختمر الا في حكيم ، وايمان صادق لا يعهد الا في وليّ.

(3) صعصعة بن صوحان
  سيد من سادات العرب ، وعظيم من اقطاب الفضل والحسب ، أسلم على عهد رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) ، ولكنه لم يلقه لصغره ، وأشكلت على عمر أيام خلافته قضية فخطب الناس وسألهم عما يقولون ـ فقام صعصعة ، وهو غلام شاب ، فأماط الحجاب ، وأوضح منهاج الصواب ـ ، وعملوا برأيه ـ ، وكان من أصحاب الخطط في الكوفة ، وشهد مع أمير المؤمنين ( الجمل ) و ( صفين ) ، قال في الاصابة (3) ( ان المغيرة نفى صعصعة بأمر معاوية من الكوفة الى الجزيرة او الى البحرين ، وقيل الى جزيرة ابن كافان فمات بها ) .

---------------------------
(1) البيهقي في المحاسن والمساوئ ( ج 1 ص 33 ) .
(2) تاريخ الكوفة ( ص 388 ) والاصابة ( ج 4 ص 119 ) .
(3) ( ج 3 ص 23 ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 358 _

  و ( حبس (1) معاوية صعصعة بن صوحان العبدي وعبد اللّه بن الكواء اليشكري ورجالاً من أصحاب علي مع رجال من قريش ، فدخل عليهم معاوية يوماً فقال : نشدتكم باللّه الا ما قلتم حقاً وصدقاً ، أيّ الخلفاء رأيتموني ؟ فقال ابن الكواء : لولا انك عزمت علينا ما قلنا ، لانك جبار عنيد ، لا تراقب اللّه في قتل الاخيار ، ولكنا نقول : انك ما علمنا واسع الدنيا ضيق الآخرة ، قريب الثرى بعيد المرعى ، تجعل الظلمات نوراً والنور ظلمات ، فقال معاوية : ان اللّه أكرم هذا الامر بأهل الشام الذابين عن بيضته ، التاركين لمحارمه ، ولم يكونوا كأمثال اهل العراق المنتهكين لمحارم اللّه ، والمحلين ما حرم اللّه ، والمحرمين ما احل الله.
  فقال عبد الله ابن الكواء : يا ابن ابي سفيان ان لكل كلام جواباً ، ونحن نخاف جبروتك ، فان كنت تطلق السنتنا ذببنا عن أهل العراق بألسنة حداد لا يأخذها في اللّه لومة لائم ، والا فانا صابرون حتى يحكم اللّه ويضعنا على فرحه ، قال : واللّه لا يطلق لك لسان ـ ثم تكلم صعصعة فقال : تكلمت يا ابن ابي سفيان فأبلغت ولم تقصر عما أردت ، وليس الامر على ما ذكرت ، أنى يكون الخليفة من ملك الناس قهراً ، ودانهم كبراً ، واستولى بأسباب الباطل كذباً ومكراً ، أما واللّه مالك في يوم بدر مضرب ولا مرمى ، وما كنت فيه الا كما قال القائل : لا حلى ولا سيرى ، ولقد كنت أنت وابوك في العير والنفير ممن أجلب على رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) ، وانما أنت طليق ابن طليق ، أطلقكما رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فأنى تصلح الخلافة لطليق ؟ ، فقال معاوية : لولا أني ارجع الى قول أبي طالب حيث يقول :
قـابلت جـهلهمو حـلماً iiومغفرة      والعفو عن قدرة ضرب من الكرم

  لقتلتكم ، وسأله معاوية : من البررة ومن الفسقة ؟ فقال : يا ابن ابي سفيان ترك الخداع من كشف القناع ، علي وأصحابه من الائمة الابرار ، وأنت وأصحابك من اولئك ، وسأله عن أهل الشام فقال : اطوع الناس

---------------------------
(1) المسعودي هامش ابن الاثير ( ج 6 ص 117 ).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 359 _

  لمخلوق ، وأعصاهم للخالق ، عصاة الجبار ، وخلفة الاشرار ، فعليهم الدمار ، ولهم سوء الدار ، فقال معاوية : واللّه يا ابن صوحان انك لحامل مديتك منذ أزمان ، الا أن حلم ابن ابي سفيان يرد عنك ، فقال صعصعة : بل أمر اللّه وقدرته ، ان امر اللّه كان قدراً مقدوراً ) .
  قال المسعودي : ( ولصعصعة بن صوحان أخبار حسان وكلام في نهاية البلاغة والفصاحة والايضاح عن المعاني على ايجاز واختصار ) .
  وكان صعصعة شخصية بارزة في أصحاب امير المؤمنين ، ووصفه أمير المؤمنين بالخطيب الشحشح ، ثم وصفه الجاحظ بأنه من أفصح الناس .
  وقال له معاوية يوم دخل الكوفة بعد الصلح : ( أما واللّه اني كنت لابغض ان تدخل في أماني ) ، قال : ( وأنا واللّه أبغض أن اسميك بهذا الاسم ) ، ثم سلّم عليه بالخلافة فقال معاوية : ( ان كنت صادقاً فاصعد المنبر والعن علياً ) ، فصعد المنبر وحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال : ( أيها الناس أتيتكم من عند رجل قدم شره ، وأخر خيره ، وانه أمرني ان العن علياً فالعنوه لعنه اللّه ) ، فضج أهل المسجد بآمين ، فلما رجع اليه فأخبره بما قال ، قال : ( لا واللّه ما عنيت غيري ، ارجع حتى تسميه باسمه ) ، فرجع وصعد المنبر ثم قال : ( ايها الناس ان امير المؤمنين أمرني أن العن علي بن أبي طالب فالعنوه ) ، فضجوا بآمين ، فلما أخبر معاوية قال : ( واللّه ما عني غيري ، أخرجوه لا يساكنني في بلد ) ، فأخرجوه (1) .
  وقال ابن عبد ربه : ( دخل صعصعة بن صوحان على معاوية ومعه عمرو بن العاص جالس على سريره فقال : وسّع له على ترابية (2) فيه ، فقال صعصعة : اني واللّه لترابي ، منه خلقت واليه أعود ومنه ابعث ، وانك مارج من مارج من نار ) .
  وقدم وفد العراقيين على معاوية ، فقدم في وفد الكوفة عدي بن حاتم ، وفي وفد البصرة الاحنف بن قيس وصعصعة بن صوحان ، فقال عمرو بن

---------------------------
(1) السفينة ( ج 2 ص 31 ) .
(2) يعني على حبه لابي تراب ، ويكنون بها عن علي ( عليه السلام ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 360 _

  العاص لمعاوية : ( هؤلاء رجال الدنيا ، وهم شيعة علي الذين قاتلوا معه يوم الجمل ويوم صفين فكن منهم على حذر ) .
  وفي أحاديث سيد عبد القيس صعصعة بن صوحان سعة لا يلم بها ما نقصده من الايجاز ، وانما أردنا ان نعطي بهذا صفحة من تاريخه مع معاوية وموقف معاوية منه .

(4) عبد اللّه بن خليفة الطائي
  مسعار حرب ، كان من مواقفه في العذيب ، وجلولاء الوقيعة ، ونهاوند ، وتستر ، وصفين ما شهد له بالبطولة النادرة ، وهو الخطيب الذي رد الطائيين يوم صفين عن مزاحمة ( عدي بن حاتم ) على الراية ـ كما مر عليك في الحديث عن عدي ـ .
  وصحب حجر بن عدي الكندي في موقفه القوي الذي وقفه في الذب عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
  وطاردته شرطة زياد [ وهم أهل الحمراء يومئذ ] فامتنع عليهم ، وهزمهم بقومه. خرجت أخته النوار فقالت : ( يا معشر طيء أتسلمون سنانكم ولسانكم عبد اللّه بن خليفة ؟ ) فشد الطائيون على الشرط فضربوهم ، وأعيت الحيلة به زياداً فقبض على زعيم قبيلته ( عدي بن حاتم ) فحبسه أو يأتيه بابن خليفة ، وأبى عدي أن يأتيه به ليقتله ، فرضي زياد منه بأن يغيّبه عن الكوفة .
  فأشار عدي على عبد اللّه بمغادرة الكوفة ووعده أن لا يألو جهداً في ارجاعه اليها ، فسار الى ( الجبلين (1) ) وقيل الى ( صنعاء ) ، ولم يزل مشرداً هناك مشبوب الاشواق الى وطنه .
  وطال عليه الامد فكتب الى عدي يستنجزه وعده ، وكان شاعراً يجيد الوصف ، وله عدة قصائد ومقطوعات يعاتب بها عدياً ويذكره سوابقه وغربته واسارته ، ولكن ظروف عدي لم تساعده على اسعافه ، فبقي هناك حتى مات رحمه اللّه (2) قبل موت ( زياد ) بقليل .

---------------------------
(1) هما جبلاً طيء : أجأ وسلمى ، بينهما وبين ( فدك ) يوم ، وبين ( خيبر ) خمس ليال ، وبينهما وبين المدينة ثلاث مراحل .
(2) يراجع الطبري ( ج 6 ص 5 وص 157 ـ 160 ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 361 _

نهاية المطاف

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 362 _

  وبقي بين فجوات هذه الاحداث خلاء ملحوظ في التاريخ ، لم تملأه المصادر التي بين أيدينا بالعروض التي تناسب تلك الاحداث.
  رأينا ـ الى هنا ـ مبلغ وفاء معاوية بما أخذه على نفسه من شروط .
  وعلمنا ـ الى هنا ـ ان المعاهدة بأبوابها الخمس ، لم تلق من الرجل أية رعاية تناسب تلك العهود والمواثيق والايمان التي قطعها على نفسه ، فلا هو حين تسلم الحكم عمل على كتاب اللّه وسنة نبيه وسيرة الخلفاء الصالحين ، ولا ترك الامر من بعده للشورى ، أو لصاحب الحق فيه. ولا أقلع عن شتم علي ( عليه السلام ) ، ولكنه زاد حتى ملأ منابر الاسلام سباباً وشتماً ، ولا وفى بخراج ، ولا سلم من غوائله شيعة علي وأصحابه ، ولكنه ـ وبالرغم من كل هذه الشروط والعهود ـ طالعهم بالاوليات البكر والافاعيل النكر من بوائقه :
  فكان أول رأس يطاف به في الاسلام منهم ، وبأمره يطاف به .
  وكان أول انسان يدفن حياً في الاسلام منهم ، وبأمره يفعل به ذلك .
  وكانت اول امرأة تسجن في الاسلام منهم ، وهو الآمر بسجنها .
  وكان أول شهداء يقتلون صبراً في الاسلام منهم ، وهو الذي قتلهم .
  واستقصى معاوية بنود المعاهدة كلها بالخلف !! .
  فاستقصى أيمانه المغلظة بالحنث ، ومواثيقه المؤكدة التي واثق اللّه تعالى عليها بالنقض !! ...
  فأين هي الخلافة الدينية يا ترى ؟؟ ...

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 363 _

  وبقيت آخر فقرة من المعاهدة ، تحاماها معاوية لانها كانت ادق شروطها حساسية وأروعها وقعاً ، وكان عليه اذا اساء الصنيع بهذه الفقرة ان يتحدى القرآن صراحة ، ورسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم )مباشرة .
  فصبر عليها ثماني سنين ، ثم ضاق بها ذرعاً ، وثارت به أمويته التي كان لا يزال يصارع لصاقتها ، بأمثال هذه الافاعيل ، ليعود بها أموية صريحة تشهد لهند بالبراءة من قالة الناس وشهادات المؤرخين ، وليكون ابن أبي سفيان حقاً ! .
  فما لابن أبي سفيان ولرسول اللّه ؟ ، وما لابن هند وكتاب اللّه ؟ .
  وكانت مطفئة الرضف التي أنست الناس الرزايا قبلها .
  ثم هي أول ذل دخل على العرب ـ كما قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه ـ .
  بل أول ذل دخل على الناس ـ كما قال أبو اسحق السبيعي رحمه اللّه ـ.
  وكانت بطبيعتها ، أبعد مواد المعاهدة عن الخيانة ، كما كانت بظروفها وملابساتها أجدرها بالرعاية ، وكانت بعد نزع السلاح ولف اللواء والالتزام من الخصم بالوفاء ، أفظع جريمة في تاريخ معاوية الحافل بالجرائم .
  وما في المدينة ـ موطن الحسن ( عليه السلام ) ـ ولا في أهل البيت ، ولا في شيعة الحسن ، ولا في جميع ما يمت الى الحسن بسبب أو نسب ، أي موجب يستدعي الوهم ، أو يوقظ الريبة ، أو يثير الظنون بأمر يخشاه معاوية على دنياه .
  اذاً ، فما هذا الغَدر وما هو العُذر ؟ ...
  وأين تلك العهود والعقود والايمان التي لا تبلغ قواميس اللغة أشد منها الفاظاً غلاظاً وتأكيداً شديداً ؟ .
  ترى ، فهل نعتذر عن معاوية بما اعتذر به الاغرار المنسوبون الى الاسلام عن ابنه يزيد في قتله الحسين ابن رسول اللّه عليه وعلى جده أفضل الصلاة والسلام ، فقالوا : ( شاب مغرور ، الهته القرود وغلبت عليه الخمور والفجور ؟ ، ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 364 _

  فأين ـ اذاً ـ حنكة معاوية ودهاؤه المزعوم ؟ ، وأين سنّه الطاعنة وتجاربه في الامور ؟ .
  ان بائقة الاب هذه ، كانت هي السبب الذي بعث روح القدوة في طموح الابن ، فليشتركا ـ متضامنين ـ في انجاز أعظم جريمة في تاريخ الاسلام ، تلك هي قتل سيدي شباب أهل الجنة الاحدين الذين لا ثالث لهما ، وليتعاونا معاً ، على قطع ( الواسطة الوحيدة ) التي انحصر بها نسل رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) ، والجريمة ـ بهذا المعنى ـ قتل مباشر لحياة رسول الله بامتدادها التاريخي !! .
  نعم ، والقاتلان ـ مع ذلك ـ هما الخليفتان في الاسلام !! ...
  فوا ضيعة الاسلام ان كان خلفاؤه من هذه النماذج !! ...
  وكان الدهاء المزعوم لمعاوية هو الذي زين له أسلوباً من القتل قصّر عنه ابنه يزيد ، فكان هذا ( الشاب المغرور ) ـ وكان ذاك ( الداهية المحنك في تصريف الامور ) !! ...
  ولو تنفس العمر بأبى سفيان الى عهد ولديه هذين ، لايقن انهما قد أجادا اللعبة التي كان يتمناها لبني ابيه .
  فاستعمل معاوية مروان بن الحكم (1) ، على اقناع جعدة بنت الاشعث

---------------------------
(1) وروى المسعودي هامش ابن الاثير ( ج 5 ص 198 ) والبيهقي ( ج 1 ص 64 ) سعيى الحسن ( عليه السلام ) بالامان لمروان يوم الجمل ، وكان قد أخذ أسيراً ، وقيل كان مختفياً في بيت امرأة في البصرة .
وقال الشريف الرضي في النهج ( ج 1 ص 121 ) قالوا : ( أخذ مروان بن الحكم أسيراً يوم الجمل ، فاستشفع الحسن والحسين ( عليهما السلام ) الى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فكلماه فيه فخلى سبيله ، فقالا له : يبايعك يا أمير المؤمنين ؟ فقال ( عليه السلام ) : أَوَلم يبايعني بعد قتل عثمان ، لا حاجة لي في بيعته ، انها كف يهودية ، لو بايعني بكفه لغدر بسبته ، اما ان له امرة كلعقة الكلب أنفه ، وهو أبو الاكبش الاربعة، وستلقى الامة منه ومن ولده يوماً أحمر ! ) ، أقول : وجزى مروان سعي الحسن له بالامان بسعيه الى جعدة بقتله ( وكل اناء بالذي فيه ينضح ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 365 _

  ابن قيس الكندي ـ وكانت من زوجات الحسن ( عليه السلام ) ـ بأن تسقي الحسن السم [ وكان شربة من العسل بماء رومة ] ، فان هو قضى نحبه زوجها بيزيد ، وأعطاها مائة الف درهم .
  وكانت جعدة هذه بحكم بنوتها للاشعث بن قيس ـ المنافق المعروف ـ الذي اسلم مرتين ، بينهما ردة منكرة ، أقرب الناس روحاً الى قبول هذه المعاملة النكراء .
  قال الامام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) : ( ان الاشعث شرك في دم امير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وابنته جعدة سمت الحسن ، وابنه محمد شرك في دم الحسين ) .
  أقول : وهكذا تمَّ لمعاوية ما أراد .
  وحكم بفعلته هذه على مصير أمة بكاملها ، فأغرقها بالنكبات ، وأغرق نفسه وبنيه بالذحول والحروب والانقلابات .
  وتم له بذلك نقض المعاهدة الى آخر سطر فيها .
  وقال الحسن ( عليه السلام ) وقد حضرته الوفاة : ( لقد حاقت شربته وبلغ أمنيته ، واللّه ما وفى بما وعد ، ولا صدق فيما قال (1) ) .
  وورد بريد مروان الى معاوية ، بتنفيذ الخطة المسمومة ، فقال : ( يا عجباً من الحسن شرب شربة من العسل بماء رومة فقضى نحبه (2) ).
  ثم لم يملك نفسه من اظهار السرور بموت الحسن ( عليه السلام ) .
  ( وكان بالخضراء ، فكبر ، وكبر معه أهل الخضراء ، ثم كبر اهل المسجد بتكبير أهل الخضراء ، فخرجت فاختة بنت قرظة بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف [ زوج معاوية ] من خوخة (3) لها ، فقالت : ( سرك

---------------------------
(1) المسعودي هامش ابن الاثير ( ج 6 ص 55 ـ 56 ) .
(2) ابن عبد البر .
(3) هي الكوة التي تؤدي الضوء الى البيت ، والباب الصغير في الباب الكبير .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 366 _

  اللّه يا أمير المؤمنين ، ما هذا الذي بلغك فسررت به ؟ ) ، قال : ( موت الحسن بن علي ) ، فقالت : ( انا للّه وانا اليه راجعون ) ، ثم بكت وقالت : ( مات سيد المسلمين ، وابن بنت رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) فقال معاوية : ( نعما واللّه ما فعلت ، انه كان كذلك ، أهل ان يبكى عليه ) .
  وزاد ابن قتيبة على هذا بقوله : ( فلما أتاه الخبر أظهر فرحاً وسروراً حتى سجد وسجد من كان معه ، وبلغ ذلك عبد اللّه بن عباس ـ وكان بالشام يومئذ ـ فدخل على معاوية فلما جلس ، قال معاوية : يا ابن عباس ، هلك الحسن بن علي ، فقال ابن عباس : نعم هلك انا للّه وانا اليه راجعون ترجيعاً مكرراً ، وقد بلغني الذي أظهرت من الفرح والسرور لوفاته ، أما واللّه ما سد جسده حفرتك ، ولا زاد نقصان أجله في عمرك ، ولقد مات وهو خير منك ، ولئن أصبنا به ، لقد أصبنا بمن كان خيراً منه ، جده رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فجبر اللّه مصيبته وخلف علينا من بعده أحسن الخلافة .
  ( ثم شهق ابن عباس وبكى من حضر في المجلس ، وبكى معاوية ، قال الراوي : فما رأيت يوماً أكثر باكياً من ذلك اليوم ، فقال معاوية : كم اتى له من العمر ؟ فقال ابن عباس : امر الحسن أعظم من ان يجهل أحد مولده ، قال : فسكت معاوية يسيراً ثم قال : يا ابن عباس ، أصبحت سيد قومك من بعده ، فقال ابن عباس : أما ما أبقى اللّه أبا عبد اللّه الحسين فلا (1) ).
  وعرض اليعقوبي ( ج 2 ص 203 ) صورة عن الاثر العظيم الذي قوبل به نبأ وفاة الحسن عليه السلام في الكوفة ، وما اجتمع عليه زعماء الشيعة هناك في دار كبيرهم ( سليمان بن صرد ) وتعزيتهم الحسين ( عليه السلام ) بكتاب مفتجع بليغ .

---------------------------
(1) ابن قتيبة المتوفى سنة 276 ( ص 159 ـ 160 ) وذكر مثله أو قريباً منه اليعقوبي والمسعودي أيضاً .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 367 _

  وبلغ نعيه البصرة ـ وعليها زياد بن سمية ـ فبكى الناس وعلا الضجيج فسمعه أبو بكرة [ أخو زياد لامه ] ـ وهو اذ ذاك مريض في بيته ـ فقال : ( أراحه اللّه من شر كثير ، وفقد الناس بموته خيراً كثيراً يرحم اللّه حسناً (1) ) .
  وأبنّه أخوه محمد بن الحنفية ، وقد وقف على جثمانه الشريف ، واليك نص تأبينه :
  ( رحمك اللّه أبا محمد ، فواللّه لئن عزت حياتك ، لقد هدت وفاتك. ونعم الروح روح عمر به بدنك ، ونعم البدن بدن ضمه كفنك ، ولم لا تكون كذلك ، وأنت سليل الهدى ، وحلف أهل التقوى ، وخامس أصحاب الكساء. غذتك كف الحق ، وربيت في حجر الاسلام ، وأرضعتك ثدياً الايمان. فطب حياً وميتاً ، فعليك السلام ورحمة اللّه ، وان كانت أنفسنا غير قالية لحياتك ، ولا شاكة في الخيار لك (2) ) .
  والنصوص على اغتيال معاوية الحسن بالسم متضافرة كاوضح قضية في التاريخ .
  ذكرها صاحب الاستيعاب ، والاصابة ، والارشاد ، وتذكرة الخواص ودلائل الامامة (3) ، ومقاتل الطالبيين ، والشعبي ، واليعقوبي ، وابن سعد في الطبقات ، والمدائني ، وابن عساكر ، والواقدي ، وابن الاثير ، والمسعودي ، وابن أبي الحديد ، والمرتضى في تنزيه الانبياء ، والطوسي في أماليه ، والشريف الرضي في ديوانه ، والحاكم في المستدرك ، وغيرهم .
  وقال في ( البدء والختام ) : ( وتوفي الحسن سنة 49 للهجرة ، سمته جعدة بنت الاشعث بما دسه معاوية اليها ، ومناها بزواج ولده يزيد ، ثم

---------------------------
(1) ابن أبي الحديد ( ج 4 ص 4 ) .
(2) اليعقوبي ( ج 2 ص 200 ) والمسعودي هامش ابن الاثير ( ج 6 ص 57 ) بتفاوت قليل في بعض الكلمات .
(3) للطبري .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 368 _

  نقض عهدها ) .
  وقال ابن سعد في طبقاته : ( سمه معاوية مراراً ) .
  وقال المدائني : ( سقي الحسن السم أربع مرات ) .
  وقال الحاكم في مستدركه (1) : ( ان الحسن بن علي سمَّ مراراً ، كل ذلك يسلم حتى كانت المرة الاخيرة التي مات فيها ، فانه رمى كبده ) .
  وقال اليعقوبي : ( ولما حضرته الوفاة قال لاخيه الحسين : يا أخي ان هذه آخر ثلاث مرات سقيت فيها السم ، ولم أسقه مثل مرّتي هذه ، وانا ميت من يومي ، فاذا أنا متُّ فادفني مع رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم )، فما أحد أولى بقربه مني ، الا أن تمنع من ذلك ، فلا تسفك فيه محجمة دم ! ) .
  وقال ابن عبد البر : ( دخل الحسين على الحسن ، فقال : يا أخي اني سقيت السم ثلاث مرات ، ولم اسق مثل هذه المرة ، اني لأضع كبدي. فقال الحسين : من سقاك يا أخي ؟ ، قال : ما سؤالك عن هذا ؟ أتريد أن تقاتلهم ؟ كلهم الى اللّه ).
  وقال الطبري في دلائل الامامة (2) : ( وكان سبب وفاته أن معاوية سمه سبعين مرة فلم يعمل فيه السم ، فأرسل الى امرأته جعدة بنت محمد ( كذا ) بن الاشعث بن قيس الكندي وبذل لها عشرين الف دينار واقطاع عشر ضياع من شعب السواد ، سواد الكوفة ، وضمن لها أن يزوجها يزيد ابنه ، فسقت الحسن السم في برادة من الذهب في السويق المقنّد ) .
  وقال اللّه عزّ من قائل : ( فهل عسيتم ان توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم ، اولئك الذين لعنهم اللّه فأصمهم وأعمى ابصارهم ) .

---------------------------
(1) ( ج 6 ص 5 ) طبع باريس .
(2) ص 61 .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 369 _

خاتمة
في الموازَنة
بين ظرُوف الحسن وَظرُوف الحُسين

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 370 _

  ورأى كثير من الناس ، ان الشمم الهاشمي الذي اعتاد ان يكون دائماً في الشواهق ، كان اليق بموقف الحسين ( عليه السلام ) ، منه بموقف الحسن ( عليه السلام ) .
  وهذه هي النظرة البدائية التي تفقد العمق ولا تستوعب الدقة .
  فما كان الحسن في سائر مواقفه ، الا الهاشمي الشامخ المجد ، الذي واكب في مجادته مُثُلَ أبيه وأخيه معاً ، فاذا هم جميعاً امثولة المصلحين المبدئيين في التاريخ ، ولكل ـ بعد ذلك ـ جهاده ، ورسالته ، ومواقفه التي يستمليها من صميم ظروفه القائمة بين يديه ، وكلها الصور البكر في الجهاد ، وفي المجد ، وفي الانتصار للحق المهتضم المغصوب .
  وكان احتساء الموت ـ قتلاً ـ في ظرف الحسين ، والاحتفاظ بالحياة ـ صلحاً ـ في ظرف الحسن ، بما مهدا به ـ عن طريق هاتين الوسيلتين ـ لضمان حياة المبدأ ، وللبرهنة على ادانة الخصوم ، هو الحل المنطقي الذي لا معدى عنه ، لمشاكل كل من الظرفين ، وهو الوسيلة الفضلى الى اللّه تعالى ، وان لم يكن الوسيلة الى الدنيا ، وهو الظفر الحقيقي المتدرج مع التاريخ وان كان فيه الحرمان حالاً ، وخسارة السلطان ظاهراً .
  وكانت التضحيتان : تضحية الحسين بالنفس ، وتضحية الحسن بالسلطان ، هما قصارى ما يسمو اليه الزعماء المبدئيون في مواقفهم الانسانية المجاهدة .
  وكانت عوامل الزمن التي صاحبت كلاً من الحسن والحسين في زعامته ، هي التي خلقت لكل منهما ظرفاً من أصدقائه ، وظرفاً من أعدائه ،

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 371 _

  لا يشبه ظرف أخيه منهما ، فكان من طبيعة اختلاف الظرفين اختلاف شكل الجهادين ، واختلاف النهايتين اخيراً .

1 ـ ظروفهما من انصارهما
  ومثلت خيانة الاصدقاء الكوفيين ، بالنسبة الى الحسين عليه السلام خطوته الموفقة في سبيل التمهيد لنجاحه المطرد في التاريخ ، ولكنها كانت بالنسبة الى أخيه الحسن ( عليه السلام ) ـ يوم مسكن والمدائن ـ عقبته الكؤود التي شلت ميدانه عن تطبيق عملية الجهاد ، ذلك لان حوادث نقض بيعة الحسين كانت قد سبقت تعبئته للحرب ، فجاء جيشه الصغير يوم وقف به للقتال ، منخولاً من كل شائبة تضيره كجيش امام له أهدافه المثلى .
  أما الجيش الذي أخذ مواقعه من صفوف الحسن ، ثم فر ثلثاه ونفرت به الدسائس المعادية ، فاذا هو رهن الفوضى والانتقاض والثورة ، فذلك هو الجيش الذي خسر به الحسن كل أمل من نجاح هذه الحرب .
  ومن هنا ظهر أن هؤلاء الاصدقاء الذين بايعوا الحسن وصحبوه الى معسكراته كمجاهدين ، ثم نكثوا بيعتهم وفروا الى عدوهم أو ثاروا بامامهم ، كانوا شراً من اولئك الذين نكثوا بيعة الحسين قبل ان يواجهوه .
  وهكذا مهد الحسين لحربه ـ بعد أن نخلت حوادث الخيانة انصاره ـ جيشاً من أروع جيوش التاريخ اخلاصاً في غايته وتفاديا في طاعته وان قل عدداً .
  أما الحسن فلم يعد بامكانه أن يستبقي حتى من شيعته المخلصين انصاراً يطمئن الى جمعهم وتوجيه حركاتهم ، لان الفوضى التى انتشرت عدواها في جنوده كانت قد أفقدت الموقف قابلية الاستمرار على العمل ، كما أشير اليه سابقاً .
  وأيّ فرق أعظم من هذا الفرق بين ظرفيهما من أنصارهما ؟ .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 372 _

2 ـ ظروفهما من اعدائهما
  وكان عدو الحسن هو معاوية ، وعدو الحسين هو يزيد بن معاوية ، وللفرق بين معاوية ويزيد ما طفح به التاريخ ، من قصة البلادة السافرة في ( الابن ) ، والنظرة البعيدة العمق التي زعم الناس لها الدهاء في ( الاب ) .
  وما كان لعداوة هذين العدوين ظرفها المرتجل مع الحسن والحسين ، ولكنها الخصومة التاريخية التي أكل عليها الدهر وشرب بين بني هاشم وبني أمية .
  ولم تكن الاموية يوماً من الايام كفواً للهاشمية (1) ، وانما كانت عدوتها التي تخافها على سلطانها ، وتناوئها ـ دون هوادة ـ ، وكان هذا هو سر ذكرها بازائها في أفواه الناس وعلى أسلات اقلام المؤرخين ، والا فأين سورة الهوى من مثُل الكمال ؟ واين انساب الخنا من المطهرين في الكتاب ؟ ، وأين شهوة الغلب ، وحب الاثرة ، والوان الفجور ، من شتيت المزايا في ملكات العقل ، وسمو الاخلاق ، وطهارة العنصر ، وآفاق العلوم التي تعاونت على تغذية الفكر الانساني في مختلف مناحي الثقافات العالية ، فأضافت الى ذخائره ثروة لا تطاول ؟ ، أولئك هم بنو هاشم الطالعون بالنور .
  واين هؤلاء من أولئك ؟ .
  ولم يكن من الاحتمال البعيد ما قدره الحسن بن علي احتمالاً قريباً ، ـ فيما لو اشتبك مع عدوه التاريخي معاوية بن أبي سفيان بن حرب في

---------------------------
(1) قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فيما كتبه الى معاوية جواباً : ( ولم يمنعنا قديم عزنا ولا عادي طولنا على قومك أن خلطناكم بأنفسنا فنكحنا وانكحنا فعل الاكفاء ، ولستم هناك ، وأنى يكون ذلك كذلك ومنا النبي ومنكم المكذب ، ومنا أسد اللّه ومنكم أسد الاحلاف ، ومنا سيدا شباب أهل الجنة ومنكم صبية النار ، ومنا سيدة نساء العالمين ومنكم حمالة الحطب ، الى كثير مما لنا وعليكم ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 373 _

  حرب يائسة مثل هذه الحرب ـ أن تجر الحرب بذيولها أكبر كارثة على الاسلام ، وأن تبيد بمكائدها آخر نسمة تنبض بفكرة التشيع لاهل البيت ( عليهم السلام ) ، ولمعاوية قابلياته الممتازة لتنفيذ هذه الخطة وتصفية الحساب الطويل في التاريخ ، وهو هو في عدائه الصريح لعلي ولاولاده ولشيعتهم .
  وفيما مرَّ من الكلام على هذا الموضوع كفاية عن الاعادة .
  أما الحسين فقد كفي مثل هذا الاحتمال حين كان خصمه الغلام المترف الذي لا يحسن قيادة المشاكل ، ولا تعبئة التيارات ، ولا حياكة الخطط ، ثم هو لا يعنيه من الامر الا ان يكون الملك ذا الخزائن ، حتى ولو واجهه الاخطل الشاعر بقوله ـ على رواية البيهقي ـ :
( ودينك حقاً كدين الحمار      بل أنت اكفر من هرمز )

  وكفى الحسين هذا الاحتمال ، بما ضمنه سيف الارهاب الذي طارد الشيعة تحت كل حجر ومدر في الكوفة وما اليها ، والذي حفظ في غيابات السجون والمهاجر وكهوف الجبال سيلاً من السادة الذين كانوا يحملون مبادئ أهل البيت ، وكانوا يؤتمنون على ايصال هذه المبادئ الى الاجيال بعدهم .
  فرأى ان يمضي في تصميمه مطمئناً على خطته وعلى أهدافه وعلى مستقبلهما من أعدائه .
  أما الحسن فلم يكن له أن يطمئن على مخلفاته المعنوية طمأنينة اخيه وفي أعدائه معاوية وثالوثه المخيف وخططهم الناصبة الحقود التي لا حد لفظاعتها في العداوة والحقد .
  وأخيراً فقد أفاد الحسين من غلطات معاوية في غاراته على بلاد اللّه الآمنة المطمئنة ، وفي موقفه من شروط صلح الحسن ، وفي قتله الحسن بالسم ، وفي بيعته لابنه يزيد وفي أشياء كثيرة أخرى ، بما زاد حركته في

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 374 _

  وجه الاموية قوة ومعنوية وانطباقاً صريحاً على وجهة النظر الاسلامي في الرأي العام .
  وأفاد ـ الى ذلك ـ من مزالق الشاب المأخوذ بالقرود والخمور ( خليفة معاوية ) ، فكانت كلها عوامل تتصرف معه في تنفيذ أهدافه .
  وكانت ظروفه من أعدائه وظروفه من أصدقائه تتفقان معاً على تأييد حركته ، وانجاز مهمته ، والاخذ به الى النصر المجنح الذي فاز به في اللّه وفي التاريخ .
  أما الحسن فقد أعيته ـ كما بينا سابقاً ـ طروفه من أصدقائه فحالت بينه وبين الشهادة ، وظروفه من أعدائه فحالت بينه وبين مناجزتهم الحرب التي كان معناها الحكم على مبادئه ( بالاعدام ) .
  لذلك رأى لزاماً ان يطوّر طريقة جهاده ، وان يفتتح ميدانه من طريق الصلح .
  وما كانت الالغام التي وضعها الحسن في الشروط التي أخذها على معاوية الا وسائله الدقيقة التي حكمت على معاوية وحزبه بالفشل الذريع في التاريخ .
  ومن الصعب حقاً أن نميز ـ بعد هذا ـ أي الاخوين عليهما السلام كان أكبر أثراً في جهاده ، وأشد نفوذاً الى أهدافه ، وأبعد امعاناً في النكاية بأعدائه .
  ولم يبق مخفياً أن تاريخ نكبات أمية بعد عملية الحسن في الصلح كان متصلاً بالحسن ، مرهوناً بخططه ، خاضعاً لتوجيهه ، وأن حادثاً واحداً من أحداث تلك النكبات لم يكن ليقع كما وقع ، لولا هذه العملية الناجحة التي كان من طبيعة ظروفها أن تستأثر بالنجاح ، وكان من طبيعة خصومها أن يكونوا أعواناً على نجاحها من حيث يشعرون أو لا يشعرون .