قال المفيد في الارشاد (169) : ( وبعث الحسن حجر بن عديّ فأمر العمال ـ يعني امراء الاطراف ـ بالمسير ، واستنفر الناس للجهاد ، فتثاقلوا عنه ، ثم خفوا ، وخف معه اخلاط من الناس ، بعضهم شيعة له ولابيه ، وبعضهم محكّمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع بالغنائم ، وبعضهم شكّاك ، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون الى دين ... (1) ) .
  اقول : علمنا مما سبق قريباً ان جيش الحسن تألف من زهاء عشرين الفاً ، أو يزيد قليلاً ، ولكنا لم نعلم بالتفصيل الطريقة التي اتخذت لتأليف هذا الجيش ، والمعتقد انها كانت الطريقة البدائية التي لم تدخلها التحسينات المكتسبة بعد ذلك ، وهي ـ اذ ذاك ـ الطريقة المتبعة في التجمعات الاسلامية مع القرون الاولى في الاسلام ، وهي الطريقة التي لا تشترط لقبول الجندي أو لقبول المجاهد أيّ قابليات شخصية ، ولا سناً خاصة ، ولا تنزع في مناهج تجنيدها الى الاجبار بمعناه المعروف اليوم ، وللمسلم القادر على حمل السلاح وازعه الديني حين يسمع داعي اللّه بالجهاد فاما ان يبعث فيه هذا الوازع ، الشعور بالواجب فيتطوع بدمه في سبيل اللّه ، واما ان يكون المغلوب على أمره بدوافع الدنيا ، فيخمد في نفسه هذا الشعور ، ويحرم نصيبه من الاجر ومن الغنيمة اذا قدّر لهذه الحرب الظفر والغنائم .
  اما النظم الحديثة المتبعة اليوم في الاجبار على خدمة العلم ، ودعوة ( مواليد ) السنوات المعينة ، وفحص القابليات المحدودة ، فلم تكن يومئذ

---------------------------
(1) وروى هذا النص الاربلي في كشف الغمة ( ص 161 ) والبحار ( ج 10 ص 110 ).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 127 _

  ولا هي مما يتفق والتشريع الاسلامي بسعته وسماحته .
  وللاسلام اعتداده بصحة حقائقه التي تكفل له بعث الناس الى الطاعة والانقياد ، وليس في عناصر هذا الدين إكراه أحد على الطاعة بالقوة ، ولكنه دلّهم على السبيلين وأعان على خيرهما بالهدى ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) وكان هذا هو شعار الاسلام في جميع ما أمر به أو نهى عنه.
  وعلى ذلك جرى رؤساء المسلمين فيما دعوا الناس اليه ، وفيما حذّروا الناس منه.
  وكان لهم عند اعتزامهم الحرب ، دعاواتهم الرائعة ، في التحريض على الجهاد ، وأساليبهم المؤثرة التي لا تتأخر ـ غالباً ـ عن اقناع اكبر عدد من المطلوبين الى حمل السلاح .
  فمن ذلك ، أنهم كانوا يزيدون في مخصصات أهل العطاء من مقاتلتهم ، ويأمرون عمالهم على البلاد فيستنفرون الناس للجهاد ، ويبثون السنتهم وخطباءهم وذوي التأثير من رجالهم لبعث الناس الى التطوع في سبيل اللّه عز وجل .
  وفعل الحسن عليه السلام كل ذلك منذ ولي الخلافة في الكوفة ، ومنذ أعلن النفير للحرب. وكان من أوليّاته ـ كما اشير اليه آنفاً ـ : انه زاد المقاتلة مائة مائة ، وبعث حجر بن عديّ الى عماله يندبهم الى الجهاد ، ونهض معه مناطقته الافذاذ من خطباء الناس أمثال عديّ بن حاتم ، ومعقل بن قيس الرياحي ، وزياد بن صعصعة التيمي ، وقيس بن سعد الانصاري ، فأنّبوا الناس (1) ، ولاموهم على تثاقلهم ، وحرضوهم على اجابة داعي اللّه ، ثم تسابقوا بأنفسهم الى صفوفهم في المعسكر العام ، يغلبون الناس عليه.
  ونشرت الوية الجهاد في ( أسباع الكوفة ) وفي مختلف مرافقها العامة ، تدعو الناس الى اللّه عزّ وجل ، وتدين بالطاعة لآل محمد ( عليهم السلام ) .

---------------------------
(1) ابن ابي الحديد ( ج 4 ص 14 ).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 128 _

  وانبعث في الحاضرة المتخاذلة وعي جديد يشبه ان يكون تحسّساً بالواجب ، أو استعداداً له .
  وكان التثاقل عن الحرب حباً بالعافية أو انصهاراً بدعاوات الشام ، قد اخذ حظه من أهل الكوفة وممن حولها .
  اما هذا الوعي الجديد الذي يدين لهؤلاء الخطباء المفوَّهين ، فلم يلبث أن بعث في كثير من المتثاقلين رغبة ، فأثارت الرغبة نشاطاً ، فانبثق من النشاط حماس.
  ونجحت دعاوة الشيعة الى حد ما ، في اكتساب العدد الاكبر من المتحمسين للحرب ، رغم المواقف اللئيمة التي وقفها يومئذ المعارضون في الكوفة ( ونشط الناس للخروج الى معسكرهم (1) ) .
  ونجحت ـ الى حد بعيد ـ في اكتساب الرأي العام ، في الكوفة وأسباعها وقبائلها ، وفي الضواحي القريبة التي لا تنقطع بمواصلاتها اليومية ، عن اسواق الكوفة ، وعن مراكز القضاء والادارة فيها .
  وكان من براعة خطباء الحسن ، انهم أحسنوا استغلال الذهنية المؤاتية في الناس ، فبذلوا قصارى امكانياتهم في الدعوة الى أهل البيت تحت ستار الدعوة للجهاد .
  وبحّت حناجر الاولياء ، فيما يعرضون من مناقب آل محمد ومثالب أعدائهم ، ومرّوا على مختلف نوادي الكوفة وأحيائها وأماكنها العامة ، ينبهون الناس الى المركز الممتاز الذي ينفرد به سيّدا شباب اهل الجنة اللذان لا يعدل بهما أحد من المسلمين ، والى الصلابة الدينية المركزة الموروثة في أهل بيت الوحي ، والمزايا التي يستأثر بها هذا الفخذ من هاشم في العلم والطهارة والزهد بالدنيا والتضحية في اللّه والعمل لاصلاح الامة ووجوب المودة على المؤمنين .

---------------------------
(1) نص عبارة ابن ابي الحديد في الموضوع ( ج 4 ص 14 ).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 129 _

  ثم ذكروا البيعة وما اللّه سائلهم عنه من طاعة اولي الامر ووجوب الوفاء بالميثاق .
  وعرضوا في حماستهم الى الانساب ، فاذا هي ( مقامة ) ظريفة جداً وصادقة جداً ومؤثرة جداً ، ملكت الالباب حتى أذهلت وأثارت الاعجاب حتى أدهشت.
  ذكروا الحسن ومعاوية فقالوا : أين ابن علي من ابن صخر ، وابن فاطمة من ابن هند ، وأين من جده رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) ممن جده حرب ، ومن جدته خديجة ممن جدته فتيلة ؟ ... ولعنوا أخمل الرجلين ذكراً ، وألأمهما حسباً ، وشرَّهما قديماً وحديثاً ، وأقدمهما كفراً ونفاقاً ، فعج الناس قائلين آمين آمين ، ثم جاءت بعدهم الاجيال ، فما استعرض هذه الموازنة الظريفة مسلم من المسلمين ، الا سجّل على حسابه ( آمين ) جديدة .
  وعملت هذه الاساليب الحكيمة ، والخطب الحماسية البليغة عملها وانتشرت ـ كما قلنا ـ القناعة بخذلان الشام والثقة بظفر الكوفة .
  وفي الكوفة ، وهي الحاضرة الجديدة الجبارة التي طاولت أهم الحواضر الاسلامية الكبرى ـ يومئذ ـ أجناس من الجاليات العربية وعير العربية ومن حمراء الناس وصفرائها وممن لم يرضهم الاسلام ولم يُجدهم اعتناقه توجيهاً جديداً ، ولا أدباً اسلامياً ظاهراً ، الا أن يكونوا قد أنسوا منه وسيلته الى منافعهم العاجلة ، فكان هؤلاء لا يفهمون من الجهاد اذا نودي بالجهاد الا دعوته للمنافع ووسيلته الى الغنائم ، ورأوا من انتشار القناعة بنجاح هذه الحرب ، أن الالتحاق بجيش الحسن ( عليه السلام ) هو الذريعة المضمونة الى استعجال المنافع والرجوع بالغنائم ، فلم لا يكونون من السابقين الاولين الى هذا الجهاد ؟ .
  ولعلك تتفق معي الآن ، على اكتشاف الحوافز التي اندفعت تحت تأثيرها ( الاخلاط المختلفة ) من رعاع الناس الى الالتحاق بجيش الحسن ، فاذا باصحاب الفتن ، وأصحاب الطمع بالغنائم ، وأصحاب العصبيات التي لا

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 130 _

  ترجع الى دين ، والشكاك ومن اليهم ـ جنود متطوعون في هذا الجيش ، أبعد ما يكونون في طماحهم وفي طباعهم عن أهدافه وغاياته .
  ولم يكن ثمة في نظم التجنيد المتبعة في التجمعات الاسلامية يومئذ ـ كما بينا آنفاً ـ ما يحول دون قبول هؤلاء كجنود أو كمجاهدين ، لان الكفاءة الاسلامية ، والقدرة على حمل السلاح ، هي كل شيء في حدود قابليات المجاهد المسلم.
  واما الخوارج ، فيقول المفيد رحمه اللّه في تعليل التحاقهم بجيش الحسن : ( انهم كانوا يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ) .
  ولكنا لا نؤمن بهذا التعليل على اجماله ، ولا ننكره على بعض وجوهه وقد يكون ما يقوله المفيد بعض هدفهم ، وقد يكون هدفهم شيئاً آخر غير هذا .
  وليس فيما نعهده من علاقات ( الخوارج ) مع الحسن وأبي الحسن عليهما السلام ما يشجعنا على الظن الحسن بهم ، وان لنا من دراسة أحداث النهروان ما يزيدنا فيهم ريباً على ريب ، واذا صح أنهم انما أرادوا قتال معاوية حين تبعوا الحسن ، وأنهم كانوا لا يقصدون بالحسن سوءاً ، فأين كانوا عن معاوية قبل ذلك ، ولِم لم يتألبوا عليه كما كانوا يتألبون على علي عليه السلام في انتفاضاتهم التي حفظها التأريخ ؟ ...
  وكان للخوارج من ذحولهم القريبة العهد ، ومن اسلوب دعاوتهم النكراء ما يحفزنا حفزاً الى سوء الظن بما يهدفون اليه في خروجهم مع الحسن ( عليه السلام ) .
  وعلمنا من أحوالهم قبل خروجهم لهذه الحرب ، أنهم كانوا يداهنون الناس ويجاملون الحسن ، بعد وقيعتهم الكافرة بالامام الراحل ( عليه السلام ) ، يتقون بذلك غوائل الكراهة العامة التي غمرتهم في أعقاب الفاجعة الكبرى.
  أفلا يقرب الى الذهن ، أن يكون من جملة أساليب دهائهم الذي اضطروا اليه تحت ضغط الظروف الموقتة ، ان يتظاهروا بالتطوع في الجيش

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 131 _

  كما لو كانوا جنوداً مناصحين ، وان يبطنوا من وراء هذا التظاهر مقاصدهم فاذا هم جنود مبادئهم المعروفة بل مبادئهم المبطنة التي لم تعرف لحد الآن.
  وكانت فكرة ( الخروج ) بذرةً خبيثةً انبثقت عن قضية التحكيم بصفين ، ومنها سمّوا ( المحكّمة ) ، ورسخت جذور هذه الفكرة كعقيدة مكينة في نفوس هؤلاء ، واستطالت بمرور الزمن ، فبسقت عليها أشجار أثمرت للمسلمين الواناً من الخطوب والنكبات .
  وكان الخوارج على ظاهرتهم المخشوشنة في الدين ، قوماً يحسنون المكر كثيراً .
  فلم لا يغتنمون ظروف الحرب القائمة بين عدوين كبيرين من اعدائهم ؟ ، ولمَ لا يكونون في غمار هذا الجيش الزاحف من الكوفة يقتنصون الفرص المؤاتية ، بين تجهيزات المجاهدين ، والحركات السوقية ، والمعارك المنتظرة التي ستكون في كثير من أيامها سجالاً ـ والفرص في الحرب السجال أقرب تناولاً ، وأيسر حصولاً ، وأفظع مفعولاً ، اذا حذق المتآمرون استخدامها ـ ؟ .
  ولا أريد أن انكر ـ بهذا ـ عداوتهم لمعاوية وايثارهم قتاله بكل حيلة كما أفاده شيخنا المفيد ( رحمه اللّه ) ، ولكني أرى أَنهم كانوا يرمون من خطتهم الى غرضين ... وما من غرض للخوارج في ثوراتهم ومؤامراتهم الا اقتناص الرؤوس العالية في الاسلام ! سواء في العراق أو في مصر أو في الشام ، وعشعشت بين ظهراني هؤلاء القوم كوامن الغيلة فغلبت على سائر مناهجهم الاخرى ، فمشوا مع الحسن ولكن الى الفتنة ، وحبوا في طريق الجهاد ولكن الى الفساد ، وكانت الطعنة المركزة الجريئة التي ( أشوت ) الحسن عليه السلام في ( مظلم ساباط (1) ، هي الحلقة الجهنمية الثانية من سلسلة جرائم هذه العصابة الخطرة في البيت النبوي العظيم.

---------------------------
(1) الساباط لغة سقيفة بين دارين من تحتها طريق نافذ ، وساباط قرية في ( المدائن ) عندها قنطرة على ( نهر الملك ) ولعلها انما سميت بهذا الاسم لوجود سقيفة نادرة من ( السوابيط ) فيها ، والمظنون ان هذه السقيفة هي ( مظلم ساباط ).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 132 _

  وكلتا الجريمتين وليدة المؤامرات السرية النشيطة التي حذقها الخوارج الطغام ، في مختلف المناسبات.
  وشاء اللّه بلطفه أن لا تبلغ طعنة ابن سنان الاسدي (1) من الحسن ، ما بلغته بالامس القريب ضربة صاحبه ابن ملجم المرادي من أمير المؤمنين أبي الحسن ( عليه السلام ) .
  ومثّلت هذه المؤامرة الدنيئة أفظع قطيعة لرسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم )من نوعها ، بما حاولته من القضاء على الامام الثاني ـ سبطه الاكبر ـ ، وازدلفت الى معاوية بالخدمة الفريدة التي لا تفضلها خدمة اخرى لاهدافه ، من القوم الذين كان يقال عنهم ( انهم انما خرجوا مع الحسن لانهم يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ) !!
  وهكذا ثبت للامام الحسن بصورة لا تقبل الشك ، نيات المحكّمة معه رغم مجاملاتهم الكاذبة له ، وكان هو منذ البداية شديد الحذر منهم ولكنه كان يعاملهم ـ دائماً ـ على ضغن مكتوم .
  وليس أنكى من عدوّ في ثوب صديق. ذلك هو العدو الذي ينافقك ظاهراً ، ويحاربك سراً ، وأنكى أقسام هذا العدو عدو يحاربك بذحوله وعصبيته كما حاربت الخوارج الحسن بذحولها وعصبيتها .
  وهكذا قدّر لجيش الحسن عليه السلام ، أن يتخم بالكثرة من هؤلاء واولئك جميعاً ، وأن يفقد بهذا التلوّن المنتشر في صفوفه ، روحية الجيش المؤمل لربح الوقائع ، وأن يبتلي بالصريح والدخيل من كيد العدوين الداخل والخارج ، وفي المكانين العراق والشام معاً .

---------------------------
(1) ووهم حسن مراد في كتابه ( الدولة الاموية في الشام والاندلس ) ( الباب الرابع : ص 50 ) حيث نسب طعن الحسن ( عليه السلام ) بالخنجر الى اتباع الامويين دون الخوارج ، وستقرأ في فصل ( سر الموقف ) نصوص الحادثة كما يرويها مؤرخوها القدامى وكما يجب أن يفهمها المحدثون.

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 133 _

  وأحر بجيش يتألف من أمثال هذه العناصر ، أن يكون مهدداً لدى كل بادرة بالانقسام على نفسه ، والانتقاض على رؤسائه .
  ولم يكن الجهاد المقدس ـ يوماً من الايام ـ وسيلة لطمع مادي ، ولا مجالاً للمؤامرات الشائكة ، ولا مظهراً للعصبيات الجاهلية الهزيلة ، ولا مسرحاً لتجارب الشكاكين .
  و ( ازدادت بصيرة الحسن بخذلان القوم له (1) ) ، وتراءى له من خلال ظروفه شبح الخيبة الذي ينتظر هذه الحرب في نهاية مطافها ، اذ كانت العدة المدخرة لها ، هي هذا الجيش الذي لا يرجى استصلاحه بحال .
  وأثر عنه كلمات كثيرة في التعبير عن ضعف ثقته بجيشه .
  وكان من أبلغ ما أفضى به في هذا الصدد ـ مما يناسب موضوع هذا الفصل ـ خطابه الذي خاطب به جيشه في المدائن .
  وقال فيه :
  ( وكنتم في مسيركم الى صفين ، ودينكم أمام دنياكم ، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم ، وأنتم بين قتيلين ، قتيل بصفين تبكون عليه ، وقتيل بالنهروان تطلبون (2) بثاره ، فأما الباقي فخاذل ، واما الباكي فثائر ... ) .
  وهذه هي خطبته الوحيدة التي تعرض الى تقسيم عناصر الجيش من ناحية نزعاته واهوائه في الحرب .
  فيشير بالباكي الثائر الى الكثرة من أصحابه وخاصته ، وبالطالب للثأر الى الخوارج الموجودين في معسكره [ وما كان ثأرهم الذي يعنيه الا عنده ] ويشير بالخاذل الى العناصر الاخرى من اصحاب الفتن واتباع المطامع وعبدة الاهواء .

---------------------------
(1) نص عبارة المفيد في الارشاد ( ص 170 ) .
(2) وبرواية ابن طاووس في كتاب ( الملاحم والفتن ) ( ص 142 طبع النجف سنة 1368 ) : ( وقتيل بالنهروان تطلبون منا ثاره ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 134 _

  واستطرد التاريخ بين صفحاته أسطراً قاتمة دامية ، بما انقاد اليه الاغرار المفتونون من هذه ( العناصر ) ، وبما صبغوا به ميدان الجهاد المقدس ـ بعد ذلك ـ من اساليب الغدر ، والخلاف ، ونقض العهود ، والمؤامرات ، ونسيان الدين ، وخفر الذمام ... حتى قد عادت بقية آثار النبوة ـ متمثلة بالطيبين من آل محمد وبنيه ( عليهم السلام ) ـ نهباً صيح في حجراتها ، ولعلنا سنأتي على استطراد صورة من هذه المآسي في محلها المناسب لذكرها من الكتاب .

تتميم :
  وبقي علينا ان نستمع هنا الى ما يدور في خلد كثير من الناس حين يدرسون هذا العرض المؤسف لعناصر جيش الحسن ( عليه السلام ) ، فيسألون : لماذا فسح الحسن مجاله لهذه العناصر ؟ ولماذا تأخر بعد ذلك عن تصفية جيشه بسبيل من هذه السبل التي يفزع اليها رؤساء الجيوش في تصفية جيوشهم بقطع العضو الفاسد ، أو بادانته ، أو باقصائه على الاقل ؟ .
  ونحن من هذه النقطة بازاء قلب المشكلة وصميمها على الاكثر .
  ونقول في الجواب على هذا السؤال :
  اولاً :
  ان الاسلام كما الغى الطبقات فيما شرعه من شؤون الاجتماع ، الغاها في الجهاد ايضاً ، فكان على اولياء الامور أن لا يفرقوا في قبولهم الجنود بين سائر طبقات المسلمين ، ما دام المتطوع للجندية مدّعياً للاسلام وقادراً على حمل السلاح ، ولما لم يكن أحد من هؤلاء ( الاخلاط ) الذين التحقوا بالحسن ، الا مدّعياً للاسلام وقادراً على حمل السلاح ، فلا مندوحة للامام ـ بالنظر الى صميم التشريع الاسلامي ـ عن قبوله .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 135 _

  وثانياً :
  ان النبي نفسه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم )، وأمير المؤمنين ايضاً ، منيا في بعض وقائعهما بمثل هذا الجيش ، ولا يؤثر عنهما انهما منعا قبول أمثال هؤلاء الجنود في صفوفهما ، ولا طردا أحداً منهم بعد قبوله ، مع العلم بأن كلاً منهما ، جنى بعد ذلك أضرار وجود هذه العناصر في كل من ميدانيهما .
  فقالت السير عن واقعة حنين ما لفظه بحرفه : ( رأى بعض المسلمين كثرة جيشهم فأعجبتهم كثرتهم ، وقالوا سوف لا نغلب من قلة ، ولكن جيش المسلمين كان خليطاً ، وبينهم الكثيرون ممن جاء للغنيمة ... ) .
  وجاء في حوادث اقفال المسلمين من غزوة بني المصطلق ما يشعر بمثل ذلك.
  وقالوا عن حروب علي ( عليه السلام ) : ( كان جند علي في صفين خليطاً من امم وقبائل شتى ، وهو جند مشاكس معاكس لا يرضخ لامر ولا يعمل بنصيحة ... ) .
  وقال معاوية ـ فيما يحكيه البيهقي في ( المحاسن والمساوئ ) : ( وكان ـ يعني علياً ( عليه السلام ) ـ في أخبث جيش وأشدهم خلافاً ، وكنت في أطوع جند واقلهم خلافاً ) .
  اقول : وما على الحسن الا أن يسير بسنة جده وبسيرة أبيه ، ومن الحيف أن يطالب بأكثر مما اتى به جده وأبوه ، وكفى بهما اسوة حسنة وقدوة صالحة .
  وكان التحرّج في الدين والالتزام بحرفية الاسلام يقيدان الحسن في كل حركة وسكون ، ولكنهما لا يقيدان خصومه فيما يفعلون أو يتركون ، ولولا ذلك لرأيت تاريخ هذه الحقبة من الزمن تكتب على غير ما تقرأه اليوم .
  وثالثاً :
  فان معالجة الوضع بما يرجع اليه رؤساء الجيوش في تنقية جيوشهم

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 136 _

  بالقتل ، أو بالافصاء ، أو بالادانة ، كان في مثل ظروف الحسن تعجلاً للنكبة قبل أوانها ـ كما ألمحنا اليه في غمار الفصل الرابع ـ وسبباً مباشراً لاثارة الشقاق واعلان الخلاف ورفع راية العصيان في نصف جيشه على أقل تقدير ومعنى ذلك القصد الى اشعال نار الثورة في صميم الجيش ، ومعنى هذا ان ينقلب الجهاد المقدس الى حرب داخلية شعواء ، هي أقصى ما كان يتمناه معاوية في موقفه من الحسن وأصحابه ، وهي أقصى ما يحذره الحسن في موقفه من معاوية وأحابيله .
  وشيء آخر :
  هو أن الحسن ( عليه السلام ) ، لم يكن له من عهده القصير الذي احتوشته فيه النكبات بشتى ألوانها ، مجال للعمل على استصلاح هذه الالوان من الناس ، وجمعهم على رأي واحد ، بل ان ذلك لم يكن ـ في وقته ـ من مقدور أحد الا اللّه عزّ وجل ، ذلك لان الصلاح في الاخلاق ليس مما يمكن تزريقه في الزمن القليل ، وانما هو تهذيب الدين وصقال الدهر الطويل ، ولان التيارات المعاكسة التي طلعت على ذلك الجيل بأنواع المغريات ، حالت دون امكان الاصلاح وجمع الاهواء ، الا من طريق المطامع نفسها ، وكان معنى ذلك معالجة الداء بالداء ، وكان من دون هذه الاساليب في عرف الحسن حاجز من أمر اللّه .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 137 _

عبيدُ اللّه بن عبّاس

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 138 _

  اما ذلك القائد الملتهب بالحماسة للحرب ، والموتور من معاوية بابنيه المقتولين صبراً في اليمن ، فقد كان منذ انفصل بجيشه من دير عبد الرحمن ، لا ينفك يتسقط أخبار الكوفة ، وانه ليعهد في الكوفة دعاوتها الشيعية السائرة على وتيرتها المحببة ، والذاهبة صعداً في نشاطها والتي كان ينتظر من تعبئتها النجدات التي يجب أن لا تنقطع عنه .
  ونمى اليه ، وقد انتهى الى ( مسكن ) وهي النقطة التي التقى عندها الجيشان المتحاربان ، أن الدعاوات النشيطة البارعة في أسباع الكوفة لم تئمر شيئاً جديداً ، الا ان تكون بعض الفصائل من مقاتلة الاطراف أو من متطوعة المدائن نفسها ، قد التحقت بمعسكرها هناك .
  وبلغه أن المناورات العدوة التي كان يقودها بعض الزعماء الكوفيين هي التي أحبطت المساعي الكثيرة لرجالات الشيعة ، وهي التي عرقلت النفير العام بنطاقه الواسع الذي كان ينتظر نتيجة لذلك النشاط المحسوس .
  ولم يكن عجيباً ، ان تغيظ هذه الانباء عبيد اللّه بن العباس فتملأ اهابه ثورة على الوضع وحنقاً على الناس .
  وكان عليه كقائد جيش ضعف أمله بالنجدات القريبة التي كان يعلق عليها أروع آماله ، أن ينتفع من هذا الدرس الذي أملته عليه ظروف الكوفة ، وأن يرجع الى قواته هذه فيوازن بها قوات عدوه التي تنازله وجهاً لوجه ، والتي علم أنها لا تقلّ عن ستين الفاً من أجناد الشام المعروفين

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 139 _

  بالطاعة العمياء لأمرائهم وقوادهم .
  ولم يكن التفاوت بالعدد مما يستفزه كثيراً ، ولكنه كان شديد العناية بالمزايا المعنوية التي يتحلى بها جنود الفريقين ، وكان القائد الحريص على روحية جيشه التي هي كل ما يدخره للقاء عدوه .
  ولاح له في سبيل موازنته ، اشتراك ( الاخلاط ) من العناصر المختلفة في جيشه ، وانه ليستقبل حرباً لن تجدي فيها غير الكثرة المخلصة من المحاربين الاشداء ، فما شأن الجماعات التي لم تفهم الجهاد الا كوسيلة للغنائم .
  وتشاءم عبيد اللّه بن عباس ، منذ الساعة الاولى التي يمم بها معسكره في ( مسكن ) ، تشاؤماً كان له أثره في المراحل القريبة مما استقبله من خطوات .
  وكان أنكى ما يخافه على مقدّرات جيشه ، أن تتسرب الى صفوفه أخبار التعبئة الفاشلة في الكوفة ، أو أن تحبو اليه أحابيل معاوية بما تحمله من أكاذيب ومواعيد ، وهاهم أولاء وقد جمعهم صعيد واحد ومشارع واحدة واظلتهم سماء مسكن جميعاً ، وماذا يؤمنه من أن يكون مع جنوده أو من جنوده انفسهم من هو بريد معاوية في الافساد عليه وعلى الامام؟ ، وكانت أسلحة معاوية ( الباردة ) أروع أسلحته في هذا الميدان بل في سائر ميادينه .
  وصدق ظن عبيد اللّه.
  فاذا بباكورة دسائس معاوية تشق طريقها الى معسكر مسكن ، وفي هذا المعسكر من أصحاب الحسن مخلصون ومنافقون ، وآخرون يؤثرون العافية ويتمنون لو صدقت الشائعة الجديدة ، وكانت الشائعة الكاذبة ( أن الحسن يكاتب معاوية على الصلح ، فَلمَ تقتلون انفسكم (1) .

---------------------------
(1) شرح النهج ( ج 4 : ص 15 ).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 140 _

  ولم يُجدِ ابن عباس أن يعلم هو وخاصته كذب الشائعة ، واصطدامها بالواقع الذي لا يقبل الشك ، لان الحسن الذي لا يزال يشمّر للحرب في رسله الى الاطراف ، وفي رسائله الى معاوية ، وفي خطبه بالكوفة ، لن يكتب في صلح ولن ينزل عن رأي ارتآه .
  ولكنها كانت أحبولة الشيطان الرائعة الصنع .
  وارتفعت أصوات المخلصين من الانصار ، تدعو الناس الى الهدوء ، وتستمهلهم ريثما يصل بريد المدائن ، ولكنها كانت صيحات في واد ، ونفخات في رماد ، واجتاح الموقف ارتباك مؤسف لا يناسب ساحة قتال .
  وتخاذل عبيد اللّه للخدعة الخبيثة التي أصابت المحزَّ من موقفه الدقيق .
  فخلا بنفسه ، وانقبع تحت سماء خيمته البعيدة عن ضوضاء الناس ، ورأى ان قيادته هذه ستطوح بمكانته العسكرية الى أبعد الحدود ، فثار لسمعته وحديث الناس عنه ، وندم على قبولها ، وكان من دفعات الحدّة التي طبع عليها ، أن لعن الظروف التي عاكسته في رحلته العسكرية هذه والظروف التي خلقت منه قائدا على هذه الجبهة ، ثم انطوى على نفسه تحت كابوس من القلق وحب الذات لا يدري ماذا يصنع .
  ورأى اخيراً [ وكان المخرج الذي بلغته قصارى براعته ] أن يتقدم باستقالته ، نزولاً على حكم ملكاته الانانية التي كان يستكين لها راغباً عامداً ، وما يدرينا ، فربما لم يكن له من القابليات الشخصية ما يمكنه من محاسبة نفسه والتفكير في اصلاح ما يمر به من اخطاء أو ما يفجؤه من نكبات .
  وكان عليه ـ وقد صمم على الاستقالة ـ أن يترك مقر القيادة الى مصيرها الذي لا يعدو رأي الامام ، أو يتخلى عنها لخليفته وهو ( قيس بن سعد بن عبادة الانصاري ).
  ولكنه فطن ـ ولما يغادر فسطاطه المترفع الذي كان يقع على جانب بعيد من مضارب جنوده ، والذي شهد وحده ثورة القائد المتخاذل ، وسمع

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 141 _

  وحده تمتمته الناقمة ، وكفرانه الايادى البيض التي استوعب بها مدى جيلين من بني عمه المطهَّرين ـ فطن ، الى أن الاستقالة من عمل ما ، لا تستكمل شرائطها في التشريع الاسلامي ، الا بالاعتراف صريحا ( بالاعجز ) ، ولم يكن الفتى الاناني بالذي يفرّط بشخصيته فيعرضها لسخرية الناس ، ورجع الى نفسه من جديد ، ليلتمس المخرج الذي لا يضطره الى مثل هذا الاعتراف .
  وكانت رسائل معاوية التي وصلته ليلته هذه والتي خفي عليه أنه تسلمها من يد البريد الذي نشر الشائعة السوداء في معسكره صباحا ، هي الاخرى لا تزال تعنّ له بمغرياتها الجبارة، كلما أدار رأسه في تفكير أو تدبير ، و أذهله حين ذكر رسائل معاوية ، الفارق الهائل بين الحلم الجميل المموّه بالذهب ، وبين الحقيقة المرة ، فشلّ تفكيره وشعوره ولم يهتد الى الرأي الذي يناسبه كزعيم هاشمي ينازل أصلب عدو للهاشمية في ميدان موت أو حياة .
  انه كان بامكانه أن يستقيل وأن يعترف بالعجز غير متلكىء ولا حيران ثم ينتزع معذرته لسمعته وكرامته ، من الاخفاق المحقق الذي كان ينتظر القائد الثاني ، الذي سيستسلم قيادته في ظرف لا يستقيم معه ميدان حرب .
  وكان بامكانه أن يتجلد في موقفه ، فيتوعد المشاغبين ، ويأخذ بالحزم المصطنع الذي يكون ظاهره العنف وباطنه التوجيه ، بلون من الاوان هذه المناورات الادارية التي كان ينبغي له أن يجيدها كما يجيدها امثاله من رؤساء الناس ، ويتريث قليلا ، ثم ينتظر تعاليمه الاخيرة من ناحية الامام ، ويكون ـ عند ذلك ـ المعذور في دينه وفي سمعته معا .
  أما ان يتنازل من شموخه كقائد في معسكر امام ، فيساوم رسل معاوية على أجر الهزيمة ، فلا و لا كرامة !!!؟
  وكانت رسالة معاوية اليه ، تضرب على وتره الحساس من ناحية حبه

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 142 _

  للتعاظم وتطلعه الى السبق ، فيقول له فيها : ( ان الحسن سيضطر (1) الى الصلح ، وخير لك أن تكون متبوعا ولا تكون تابعا (2) ... ) وجعل له فيها الف الف درهم (3) .
  وكان معاوية أحرص بشر على استغلال مآزق أعدائه .
  ( وكان ايمان معاوية بالسفالة البشرية ، ايمانا لا حدّ له ، وهو ايمان يقوم على الاعتقاد بأنَّ أقوم الناس خلقا ، وأشدهم عزما ، وأنقاهم فضيلة ، قد تستغويه الاطماع ويذله الحرص ، في ساعة من ساعات الضعف الذي يطرأ على النفوس ، وفترة من فترات الشك الذي لا ينفك عن مطاردة الناس ، ولا يسلم من غوائله أفاضل الناس و أعالي البشرية (4) .
  وكان فيما حذر به أمير المؤمنين عليه السلام زيادا ، أن قال له : (و ان معاوية يأتي الانسان من بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله ، فاحذر ثم احذر (5) .
  وهكذا صرع الشعور بالخيبة ، والاستسلام للطمع ، الفتى الاصيل ، فاذا هو من أبشع صور الخيانة المفضوحة والضعف المخذول .
  فلا الدين ، ولا الوتر ، ولا العنعنات القبلية ، ولا الرحم الماسة من رسول الله ( صلى الله عليه اله وسلم ) ومن قائده الاعلى ، ولا الميثاق الذي واثق الله عليه في البيعة منذ كان أول من دعا الناس الى بيعة الحسن في مسجد الكوفة ، ولا الخوف من حديث الناس و نقمة التاريخ ـ بالذي منعه عن الانحدار الى هذا المنحدر السحيق.

---------------------------
(1) اقول : وهذا النص صريح بتكذيب الشائعة التي اجتاحت معسكر ( مسكن ) ( بأن الحسن كاتب معاوية على الصلح ).
(2) ابن ابي الحديد ( ج 4 ص 15 ).
(3) اليعقوبي ( ج 2 ص 191 ) وشرح النهج ايضا ( ج 4 ص 15 ).
(4) على أدهم ـ مجلة العالم العربي ( السنة 11 العدد 2 ص 30 ).
(5) ابن الاثير في الكامل ( ج 5 ص 176 ).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 143 _

  ودخل حمى معاوية ليلا ، دخول المنهزم المخذول الذي يعلم في نفسه أي اثم عظيم أتاه .
  ثم شاح عنه التاريخ بوجهه ، فلم يذكره الا في قائمته السوداء ، وكان ذلك جزاء الخائنين ، الذين يحفرون أجداثهم بايديهم ، ثم يموتون عامدين ، قبل أن يموتوا مرغمين .
  و خلقت هزيمة عبيدالله بن عباس في ( مسكن ) جوا من التشاؤم الذريع ، لم يقتصر أثره على مسكن ، ولكنه تجاوزها الى ( المدائن ) ايضا ، فكانت النكبة الفاقرة بكل معانيها .
  وللمسؤوليات الهائلة التي تدرّج اليها الموقف بعد هذه النكبة ، ما يحمله عبيدالله أمام الله و أمام التاريخ .
  و تسلم قيادة المقدمة بعد فرار قائدها الاول ، صاحبها الشرعي الذي سبق للامام تعيينه للقيادة بعد عبيدالله ، وهو ( قيس بن سعد بن عبادة الانصارى ) العقيدة المصهورة ، والدهاء المعترف به في تاريخ العرب ، والشخصية الممتازة من بقايا أصحاب (1) علي ( عليه السلام ) ، شب مع الجهاد ، واستمر على الدرب اللاحب ، وأنكر على الاخرين ضعفهم حين ضعفوا ، و نقم عليهم استجابتهم للمغريات وعزوفهم عن الواجب .
  وما ان دان له المعسكر في مسكن حتى وقف بين صفوفه المتباقية ـ بعد

---------------------------
(1) قال مسعودي : ( كان قيس بن سعد من الزهد والديانة والميل الى علي بالموضع العظيم ، وبلغ من خوفه الله وطاعته اياه ، انه كان يصلي فلما أهوى للسجود اذا في موضع سجوده ثعبان عظيم مطوق ، فمال عن الثعبان برأسه وسجد الى جانبه ، فتطوق الثعبان برقبته ، فلم يقصر من صلاته ولا نقص منها شيئا حتى فرغ ، ثم أخذ الثعبان فرمى به ) ، قال : ( وكذلك ذكر الحسن بن علي بن عبدالله بن المغيرة بن المعمر بن خلاد عن ابي الحسن علي بن موسى الرضا ). وتوفي قيس سنة 85 .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 144 _

  حوادث الفرار ـ ليودع سلفه بما هو أهله ، ثم ليبدأ عمله في قيادته الجديدة ، فيدارى ما أحدثته هذه الرجة العنيفة في معنويات جيشه .
  فقال :
  ( أيها الناس لا يهولنكم ولا يعظمّن عليكم ، ما صنع هذا الرجل المولّه ، ان هذا و أباه أخاه ، لم يأتو بيوم خير قط ، أن أباه عم رسول الله خرج يقاتله ببدر ، فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الانصارى ، فاتى به رسول الله ، فأخذ فداءه ، فقسمه بين المسلمين ، و ان اخاه ولاه علي على البصرة ، فسرق ماله ومال المسلمين ، فاشترى به الجواري ، وزعم أن ذلك له حلال ، وان هذا ولاه علي على اليمن ، فهرب من بسر بن أرطأة ، وترك ولده حتى قتلوا ، وصنع الان هذا الذى صنع (1) .
  وكان قيس الخطيب المؤثر فيما يقصد اليه من تأثير ، ولا سيما اذا اندفع بعاطفة مشبوبة ، كعاطفته عند موقفه الاخير .
  وكان من تأثيره على سامعيه ، فيما ثلب به عبيدالله بن عباس أن ( تنادى الناس : الحمدلله الذي أخرجه من بيننا!! (2) .
  أقول : وهكذا كانت التجارب مفاتيح الرجال كما يقول المثل العربي .

---------------------------
(1) مقاتل الطالبيين ( ص 35 ).
(2) مقاتل الطالبيين (ص 35).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 145 _

بداية النهاية

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 146 _

  وجاء الى الحسن ( عليه السلام ) بريد مسكن ـ لاول مرة ـ و اذا بكتاب قيس بن سعد و هو يقول :
  ( انهم نازلوا معاوية بقرية يقال لها ( الجنوبية ) بازاء ( مسكن ) وان معاوية أرسل الى عبيدالله بن العباس ، يرغبه في المصير اليه ، وضمن له الف الف درهم ، يعجل له منها النصف ، ويعطيه النصف الاخر عند دخوله الكوفة ، فانسل عبيدالله في الليل ، الى معسكر معاوية في خاصته ، واصبح الناس قد فقدوا اميرهم ، فصلى بهم قيس بن سعد ونظر في امورهم (1) .
  والكتاب في فقرته الاولى ، يشعرنا بان عبيدالله بن عباس لم يراسل (2) الحسن منذ نزل بجيشه عند مسكن .
  ولا ادري هل في انقطاع اتصال احد القواد عن المركز الاعلى ما يدل على سبق اصرار على التمرد ؟ ، على اننا لا نعلم على التحقيق الفواصل الزمانية التي تتسع للمراسلات بين نزوله مسكن وبين هروبه الى معاوية .
  وتتابعت أخبار مسكن مع كتاب قيس و بعده ( واخبار السوء اسرع الاخبار بدارا وأكثرها انتشارا ) ، فبلغ الحسن أن هذه ( الخاصة ) التي ورد ذكرها في كتاب قيس ، والتي سمتها المصادر الاخرى ( اهل الشرف والبيوتات ) أو ( الوجوه وأهل البيوت ) ، كانت شريكة عبيدالله في تدبير خطة الخيانة وعلم ايضا ان بعض هؤلاء سبق عبيدالله الى الهزيمة ـ وتطرفت

---------------------------
(1) الارشاد ( ص 170 ) .
(2) لان الفقرة هي الخبر الاول الذي وصل الحسن عن نزولهم مسكن ، والكتاب من قيس لا من عبيدالله .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 147 _

  بعض الانباء فأوغلت في النكاية بعبيدالله حتى قالت ( انه مرّ بالراية (1) ).
  وهيأت هذه الحركة العدوة جواً لتمردٍ خبيث ، نشبت عدواه في قوافل اخرى من اجيش ، فنشطوا للفرار و هم يحسبون ان في اتباع اهل الشرف والبيوتات مغنما يخسرونه اذا تخلفوا عنهم .
  وعمل معاوية اكثر ما يمكن ان يعمل لاثارة هذا التمرد ، ثم لتغذيته بعد اثارته ثم لتوسعته بعد تغذيته ، وكان العارف بنفسيات ابناء البيوت الرعاديد ، الذين غلبهم الترف وانستهم النعمة الوارفة عنعناتهم العربية العنود ، فكان لا ينفك يتوقع انزلاقهم اليه ، ويتوسل اليهم بمختلف الوسائل وانواع الكيد ، حتى لقد نجح في استذلال شموخهم عن طريق المطامع المادية التي تطامن لسحرها كبيرهم المغرور ، فنزل يهرول امامهم ، الى الهوة التي لا يختارها شريف يعتز بشرفه ، ولا قائد يغار على سمعته.
  وهكذا ( جعل اصحاب الحسن الذين وجههم مع عبيدالله يتسللون الى معاوية ، الوجوه وأهل البيوتات (2) و اتباعهم طبعا .
  ثم صعد عدد الفارين من الزحف ، عن طريق الخيانة لله ولرسوله ولابن رسوله ، الى ثمانية الاف !! [ كما يحدثنا أحمد بن يعقوب في تاريخه ] .
  قال :
  ( انه ـ يعني معاوية ـ أرسل الى عبيدالله بن عباس ، وجعل له الف الف درهم ، نصار اليه في ثمانية الاف من اصحابه ، واقام قيس بن سعد على محاربته (3) .
  نعم ، ثمانية الاف من اثني عشر الفا ! ...
  انها الثغرة المخيفة في جدار المعسكر الواقف في جبهة القتال أمام

---------------------------
(1) البحار ( ج 10 : ص 114 ).
(2) شرح النهج ( ج 4 ص 8 ).
(3) اليعقوبي ( ج2 ص 191 ) ، وروضة الشهداء ( ص 115).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 148 _

  ستين الفا من الاعداء الاشداء ، لا ، بل انه الانهيار المخيف ، والنكبة التي تهدد بالكارثة القريبة .
  فليتحمل عبيدالله مسؤوليتها الثقيلة في الله ، وفي التاريخ !! .
  وظن هؤلاء المتسرعون الى الفتنة ، والراكضون بكل اعصابهم الى الهزيمة ، انهم اذا عملو مثل العمل الذي أتاه ابن عم الخليفة واولى الناس برعاية حقه والوفاء ببيعته فانهم غير ملومين ، واصطلحوا على مثل هذا المنطق المفلوج لتبرير عملهم أمام الناس ، ولكن الناس لم ينظروا الى هزيمتهم الا من ناحية اطارها المموّه بالذهب الوهّاج ، ذهب معاوية ( الزائف ) ، ثم لم يشهدوا من أمجاد ( ابناء البيوتات ) الا سبقهم لنقض المواثيق التي واثقوا الله عليها ، وبيعهم الدنيا بالدين .
  وما كان بالقوم ـ وهم يفرون من ميادين الحسن ـ أنهم ينكرون فضله ومزاياه ، أو يجهلون سمسموه وكفاءاته ، ولكنهم كانوا يريدونه لدنياهم ثم لا يجدونه حيث يريدون .
  وما كان بهم ـ وهم يفرون الى معاوية ـ أنهم وثقوا به وبمواعيده ، وانهم لم يقدروا العاقبة التي قابلهم بها يوم دخل الكوفة فنقض كل عهد و وعد. وما معاوية بالرجل الذي يخفي أمره ، ولا هم من الطبقة الذين يجهلون امثاله وهو اذ ذاك بين سمعهم وبصرهم .
  اذاً ، فلا بغض الحسن ولا جهلهم له ، ولا حب معاوية ولا ثقتهم به ـ كان هو السبب كله لنفورهم وفرارهم ، ولكنها كانت حوافز أخرى او حوافز من الوان شتى ، دفعت بهؤلاء الموّلهين الى هذا الشكل من الجهر بالسوء الذي لا يزال صداه البغيض يرن في مسمع التاريخ .
  وما يدرينا فلعلها كانت مراحل مقرّرة ومؤامرات مدبّرة سبق اليها الزعماء المعارضون ، ليتقوا بها المصير الذي كان ينتظرهم ، فيما لو أديل

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 149 _

  للكوفة من الشام ، وكان من شأن التدابير الواسعة التي اخذ بها الامام في دعوة الاقطار الاسلامية الى الجهاد ، ومن بوادر النشاط الذي تطوع له الشيعة في عضد هذه الدعوة ، ما هو خليق بأن يبعث في نفوس القلقين من الخونة والرؤساء المتبوعين ، الخوف على أنفسهم ومصالحهم ، وان يزدادوا حذرا مما كانوا قد تورطوا فيه من مناورات ومعارضات تجاه معسكرهم في الكوفة ، فرأوا في الالتحاق بمعاوية خروجا من هذا الخوف ، وتحريبا سريع الاثر في قوة الجانب الذي يخافونه ، وكان من تنفيذ الخطة في أضيق وقت وعلى اوسع نطاق ، ما يؤيد كونها نتيجة لمؤامرة كثيرة الانصار.
  ولعل فهم مأساة الهزيمة على هذا الوجه اقرب الى الواقع ، مما فهمها عليه سائر رواتها من أعدائها ومن اصدقائها .
  وليس معنى هذا التفسير ، أن معاوية لم يعد أحدا او لم يرش قائدا .
  كلا ... فانه سخا بالمواعيد حتى أذهلهم ، واعطي القائد وحده مليونا من الدراهم حتى اشترى دينه وكرامته .
  ولكن الشيء الذي يسترعي النظر ويستدعي التنبيه ، ان حوادث الهزيمة لم تنسب الى اسم صريح اخر غير عبيدالله بن عباس [ قائد المقدمة في مسكن ] أنه قبض من معاوية في سبيل الخيانة نقدا معينا .
  تري ، فكيف رضي الزعماء الاخرون من معاوية بالوعد دون النقد ، لولا ان يكون الخوف الذي ذكرناه ، هوالذي بعث فيهم روح الهزيمة وزين لهم الاكتفاء بالوعود !!.
  وللخوف سلطانه على النفوس ، ولاسيما نفوس المترفين من الناس ، فلا بدع اذا قدح في نفوس ( أبناء البيوتات ) فكرة الخيانة و أوقدتها ـ بعد ذلك ـ مغريات الشام ، في بيئة ليس فيها اغراء بغير الله والعدل الصارم .
  وهكذا انكشفت كل جماعة من عناصر هذا الجيش عن مكنونها الذي مزف الستار ، وظهر على المسرح باللون الذي لا تشتبه فيه الابصار ، فكان

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 150 _

  لحب العافية من قوم وللعصبيات الجاهلية من اخرين وللاهواء والمنازع وأصحابها الاثر المستبين فيما آل اليه الموقف من نتائج واضرار .
  وفضحت المطامع أولئك الذين لم يلتحقوا بهذا الجيش الا طمعا بالغنائم ، وسرهم أن يتلقفوا الغنائم من طريق الخيانة في سهولة ويسر ، وكانوا يظنون انهم لن ينالوها الا بعد أن تزيغ قلوبهم هلعا ، من قراع الاسنة و الضرب الدراك .
  ونزلوا عن هذا الطريق الى الدرك الاسفل من حظوظهم التي تخيروها لانفسهم مغرورين ، ( فمن نكث فانما ينكث على نفسه ومن اوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ) .
  وما كان المسلم الذي يترك امامه ليلتجيء الى البغاة الا شرا من باغ ، واولئك هم المستضعفون في دينهم ، والقلقون في دنياهم ، وان صفوف معاوية لاولى بالمستضعفين القلقين .
  ومازت النكبة الذين جثموا في مواقعهم ، وثبتو على مبدأ المقاومة لا يلتسمون محيدا عنه ، وصمدوا ولكنهم انما صمدوا للموت المحقق (1) ، ينتظرونه فرحين مطمئنين ، دفاعا عن ابن بنت رسول الله ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) ، ووفاءً لله ببيعتهم .
  وكان الصمود للنكبات ، والصبر على الكوارث ، والاستعداد لتحمل الآلام وبذل التضحيات ، أنبل دليل على طيب المعدن ، وصدق النية ، وصلابة العود ، والجدارة بالحياة ، وهذه هي نعوت شيعة الحسن الاوفياء .
  ثم كان لانباء هذه النكبات المروعة في مسكن ، وقعها السيء الذي يناسب خطورتها ، في أوساط الجيش الاخرالذي كان يعسكر في ( المدائن ) .

---------------------------
(1) قال ابن كثير ( ج 8 ص 19 ) : ( قال أبو العريف : كنا في مقدمة الحسن بن علي بمسكن ، مستميتين من الجد على قتال أهل الشام ... ).