الناس هنا وهناك ، وهي الاشهر التي ختمت أعمالها بأفضل خواتيم الاعمال في الاصلاح ، ووصلت بخاتمتها الفضلى مصلحة الدنيا بمصلحة السماء .
  واذا بالحسن بن علي ، هو ذلك المصلح الاكبر ، الذي بشّر به جده رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم )في الحديث الذي سبق ذكره : ( ان ابني هذا سيد وسيصلح اللّه به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ) .
  وان اللّه سبحانه عوّد أهل هذا البيت أن يحفظ لهم الشرف في أعلى مراتبه وفي مختلف ميادينه ، فان لم يكن بالانتصار بالسلاح ، فليكن بالشهادة الكريمة في اللّه وفي التاريخ ، وان لم يكن بهذا ولا ذاك فليكن بالاصلاح وجمع الكلمة وتوحيد أهل التوحيد ، وكفى بالاصلاح شرفاً وكفى ببقاء الشرف انتصاراً. وبقاء الشرف ضمان لبقاء العزة ، والعزة حافز دائب يدفع الى الحياة ويقوم على السيادة.
  ومن السهل ان نفهم دوافع الحسن الى الصلح مما ذكرنا.
  أما دوافع معاوية التي اندلف بها من جانبه الى طلب الصلح ، فقد كانت من نوع آخر لا يرجع في جوهره الى العجز عن القتال ، ولا ينظر في واقعه الى وجهة نظر دين أو اصلاح أو حقن دماء ، فلا الاصلاح ولا حقن الدماء بالذي يعنى به معاوية فينزل له عن مطامعه في الفتح ، وفي غاراته على المدينة ومكة واليمن ، ومواقفه الجريئة بصفين ، ما يزيدنا بصيرةً في معرفة الرجل وان قلّ عارفوه .
  اذاً ، فليكن طموحاً نفعياً خالصاً ، هو الاشبه بتاريخ معاوية الذي جاء تاريخه أشبه باسطورة .
  انه خُيّل اليه بأن تنازل الحسن له عن الحكم ، سيكون معناه في الرأي العام ، تنازله عن ( الخلافة ) ، وظن أنه سيصبح ـ على هذا ـ

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 252 _

  ( الخليفة الشرعي في المسلمين (1) .
  وكان الحلم اللذيذ الذي استرخص في سبيله كل غال ، وخفي عليه أن الاسلام أعز جانباً من أن يهضم الاساليب الهوج ، أو يعطي اقليده للطلقاء وأبناء الطلقاء.
  هذا ، ولا ننكر ان يكون لمعاوية بواعث أخرى جعلت منه انساناً آخر ينكر الحرب ويمد يده الى الصلح ويوقع الشروط ويحلف الايمان ويؤكد المواثيق ، ولكنا ـ اذ نتحرى بواعثه الاخرى ـ لا نزول عن الاعتقاد بأن الحلم اللذيذ الذي ذكرنا ، كان أكبر دوافعه وأشد بواعثه .
  وفيما يلي قائمة مناسبات ، تصلح لان تكون بعض دوافعه الى الصلح :
  1 ـ انه كان يرى أن الحسن بن علي عليهما السلام ، هو صاحب الحق في الامر ، ولا سبيل الى اقتناص ( الامر ) الا من طريق اسكات الحسن ـ ولو ظاهراً ـ ، ولا سبيل الى اسكاته الا بالصلح .
  اما رأيه بأولوية الحسن بالامر ، فقد جاء صريحاً في كتاب اليه قبيل زحفهما للصراع في مَسكِن ، بقوله له : ( انك أولى بهذا الامر وأحق به ) ، وجاء صريحاً فيما قاله لابنه يزيد على ذكر أهل

---------------------------
(1) وللحسن البصري كلمته الذهبية في هذا الموضوع [ انتظرها فيما تقرأه عن ( معاوية والخلافة ) في الفصل 17 ] ، وأخرج أحمد في مسنده وأبو يعلى والترمذي وابن حيان وأبو داود والحاكم قوله ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ): ( الخلافة بعدي ثلاثون ثم ملك بعد ذلك ) وبلفظ ابي نعيم في الفتن والبيهقي في الدلائل وغيرهما : ( ثم تكون ملكاً عضوضاً ) ، والحديث عند جماعة أهل السنة صحيح على شرطهم ، وقال قائلهم فيما علق عليه : ( انتهت الثلاثون سنة بعده صلى اللّه عليه ( وآله ) وسلم بخلافة الحسن بن علي عليهما السلام ) ، وأخرج أبو سعيد عن عبد الرحمن بن أبزي عن عمر أنه قال : ( هذا الامر في أهل بدر ما بقي منهم أحد ، ثم في أهل احد ما بقي منهم أحد ، وفي كذا وكذا ، وليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شيء ) .
أقول : أما بيعته التي أخذها على الناس بأساليبها المعروفة ، فلن تجعل غير الجائز جائزاً .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 253 _

  البيت : ( يا بنيَّ ان الحق حقهم (1) ، وفيما كتبه الى زياد ابن ابيه حيث يقول له على ذكر الحسن ( عليه السلام ) : ( وأما تسلطه عليك بالامر فحق للحسن أن يتسلط (2) .
  وكذلك رأيناه يستفتي الامام الحسن ، فيما يعرض له من معضلات كمن يعترف بامامته (3) .
  ويعترف للحسن بأنه ( سيد المسلمين (4) ، وهل سيد المسلمين الا امامهم ؟ .
  2 ـ انه كان ـ على كثرة الوسائل الطيعة لامره ـ شديد التوجس من نتائج حربه مع الحسن ، ولم يكن كتوماً ( كما يدّعي لنفسه ) يوم قال في وصف خصومه العراقيين : ( فواللّه ما ذكرت عيونهم تحت المغافر بصفين الا لبس على عقلي (5) ، ويوم قال فيهم ( ما لهم غضبهم اللّه بشر ، ما قلوبهم الا كقلب رجل واحد (6) ، فكان يرى في الجنوح الى الصلح ، مفراً من منازلة هؤلاء ومواجهة عيونهم تحت المغافر !! .
  3 ـ انه كان يهاب موقع الحسن ابن رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الناس ، ومقامه الروحيّ الفريد في العقيدة الاسلامية ، فيتقي حربه بالصلح .
  وكان يرى من الجائز ، أن يقيض اللّه لمعسكر الشام من يتطوع لتنبيه الناس فيه الى حقيقة أمر الحسن وفظاعة موقفهم منه ، الامر الذي من شأنه ان لا يتأخر بمسلمة الجيش في جبهة معاوية عن

---------------------------
(1 و 2) ابن ابي الحديد ( ج 4 ص 5 وص 13 وص 73 ) .
(3) وتجد الشواهد الكثيرة على ذلك فيما أورده اليعقوبي في تاريخه ( ج 2 ص 201 وص 202 ) ، وفيما استعرضه ابن كثير في البداية والنهاية ( ج 8 ص 40 ) ، وفيما رواه في البحار ( ج 10 ص 98 ) .
(4) الامامة والسياسة ( ص 159 ـ 160 ) .
(5) المسعودي هامش ابن الاثير ( ج 6 ص 67 ) وغيره .
(6) الطبري ( ج 6 ص 3 ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 254 _

  الانتقاض عليه والنكول عنه ، وبالجيش كله عن الانهيار اخيراً .
  وكان معاوية لا يزال يتذكر في زحفه على الحسن ، حديث النعمان بن جبلة التنوخيّ معه في ( صفين ) ـ وهو اذ ذاك أحد رؤساء جنوده المحاربين ـ ، وقد صارحه بما لم يصارحه بمثله شاميّ آخر ، وسخر منه بما لم يسخر بمثله رعية من سلطان ، وما يؤمن معاوية أن يشعر الناس تجاهه ـ اليوم ـ شعور ذلك التنوخي المغلوب على أمره ـ يومئذ .
  وكان مما قاله هذا التنوخي لمعاوية في صفين : ( واللّه لقد نصحتك على نفسي ، وآثرت ملكك على ديني ، وتركت لهواك الرشد وأنا أعرفه ، وحدت عن الحق وأنا ابصره ، وما وافّقت لرشد وأنا أقاتل عن ملك ابن عم رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) وأول مؤمن به ومهاجرٍ معه ، ولو اعطيناه ما اعطيناك ، لكان أرأف بالرعية وأجزل في العطية ، ولكن قد بذلنا لك الامر ، ولابد من اتمامه كان غياً أو رشداً ، وحاشا أن يكون رشداً ، وسنقاتل عن تين الغوطة وزيتونها ، اذا حرمنا أثمار الجنة وأنهارها ! ... (1) .
  وكان من سياسة معاوية ، حبس أهل الشام عن التعرف على أحد من كبراء المسلمين ـ خارج الشام ـ لئلا يكون لهم من ذلك منفذ الى انكاره أو الانقسام عليه. ولذلك فلا نعرف كيف تسنى لهذا الشامي معرفة ابن عم رسول اللّه ( صلى اله عليه وآله وسلم ) ومعرفة سبقه الى الايمان ورأفته بالناس وكرمه في العطاء وأولوّيته بالامر .
  وحرى معاوية على تجهيل أهل الشام بأعلام الاسلام الى آخر عهده ، وكانت سياسته هذه ، هي أداته في التجمعات التي ساقها لحروب صفين اولاً ، ولحرب الحسن بن علي في مسكن أخيراً .
  وتجد ظاهرة هذه السياسة ـ بما فيها من اعلان عن ضعف

---------------------------
(1) المسعودي ( هامش ابن الاثير ج 5 ص 216 ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 255 _

  صاحبها ـ فيما قاله معاوية ذات يوم لعمرو بن العاص وفد تحدّى الحسن بن علي ( عليهما السلام ) ، فردّ عليه الحسن بحدّياه البليغة التي لم يسلم منها المحرّض عليها ـ ايضاً ـ ، فقال معاوية لعمرو : ( واللّه ما أردت الا هتكي ، ما كان أهل الشام يرون أنَّ أحداً مثلي حتى سمعوا من الحسن ما سمعوا (1) .
  4 ـ وكان من الرشاقة السياسية التي لا يخطئها معاوية في سبيل طموحه الاناني الا نادراً ، أن يدعو الى ( الصلح ) فيلح عليه ويشهد على دعوته هذه أكبر عدد ممكن من الناس في القطرين ـ الشام والعراق ـ وفي سائر الآفاق التي يصلها صوته من بلاد الاسلام ، ثم هو لا يقصد من وراء هذه الدعوة ـ على ظاهرتها ـ الا التمهيد لغده القريب الذي ستنكشف عنه نتائج الحرب بينه وبين الحسن، وكان أحد الوجهين

---------------------------
(1) المحاسن والمساوئ للبيهقي ( ج 1 ص 64 ) .
وفي القصص التاريخي نوادر كثيرة عن جهل أهل الشام بأعلام الاسلام فمن ذلك أن أحدهم سأل رجلاً من زعمائهم وذوي الرأي والعقل فيهم : ( من أبو تراب الذي يلعنه الامام ـ يعني معاوية! ـ على المنبر ؟ ) قال : ( أراه لصاً من لصوص الفتن !!! ) ، وسأل شامي صديقاً له وقد سمعه يصلي على محمد ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) : ( ما تقول في محمد هذا ، أربنا هو ؟ ) ، ولما فتح عبد اللّه بن علي الشام سنة 132 هجري وجه الى أبي العباس السفاح أشياخاً من أهل الشام من أرباب النعم والرئاسة ، فحلفوا لابي العباس أنهم ما علموا لرسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) قرابة ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية ، حتى وليتم الخلافة...!! ( يراجع عنه مروج الذهب على هامش الجزء السادس من الكامل لابن الاثير ( ص 107 و108 و109 ) .
أقول : وهذا يدل على أن عامة الملوك الامويين نهجوا على سياسة معاوية في تجهيل الناس بعظمائهم ولا سيما بأهل البيت ( عليهم السلام ) ومنع نفوذ أسمائهم الى الشام ، ويدل ـ ايضاً ـ على مبلغ عناية أولئك الشاميين باسلاميتهم ، والمظنون أن الشام ـ على العهد الاموي ـ كانت لا تزال تزخر بأكثرية غير مسلمة من بقايا أهلها الاصليين ـ الروم والآراميين ـ ، ولا نعهد غير قضية الفتح عملاً جدياً آخر كان من شأنه أن يغير القديم عن قدمه ، ولا نعهد تصريحاً تاريخياً ينقض علينا هذا الظن .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 256 _

  المحتملين ، أن يدال للشام من الكوفة وأن تقضي الحرب وذيولها على الحسن والحسين وعلى من اليهما من أهل بيتهما وشيعتهما ، ولا تدبير ـ يومئذ ـ للعذر من هذه البائقة الكبرى أروع من أن يلقي معاوية مسؤوليتها على الحسن نفسه ، ويقول للناس ـ غير كاذب ـ ( اني دعوت الحسن للصلح ، ولكن الحسن أبى الا الحرب ، وكنت اريد له الحياة ، ولكنه أراد لي القتل ، وأردت حقن الدماء ، ولكنه أراد هلاك الناس بيني وبينه ... ) .
  ولمعاوية من هذه اللباقة الرائعة أهدافه التي لا تتأخر به عن تصفية الحساب مع آل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تصفيته الاموية الاخيرة ، وهو اذ ذاك المنتصر العادل المتظاهر بالانصاف ، الذي يشهد له على انصافه كل من كان قد أشهده ـ قبل الحرب ـ على ندائه بالصلح ، أما الحسن عليه السلام ، فلم يكن الرجل الذي تفوته الرشاقة السياسية ولا الاساليب الدقيقة التي يبرع فيها عدوه للنكاية به ، وانما كان ـ على كل حال ـ أكبر من عدوه دهاء ، وأبرع منه في استغلال الظروف واقتناص الفرص السانحة التي تجتمع عليها كلمة اللّه وكلمة المصلحة معاً ، فرأى من ظروفه المتداعية ، ومن سوء نوايا عدوّه فيما أراد من الدعوة الى ( الصلح ) ، ما استدعاه الى الجواب بالايجاب .
  ثم لم يكفه أنه قضى بذلك على خطط معاوية وشلها عن التنفيذ ، حتى أخذ يضع الخطة الحكيمة من جانبه للقضاء على خصومه باسم الصلح ، وسيجيء في الفصول القريبة التوضيح اللائق بالموضوع .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 257 _

معاهدة الصُّلح

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 258 _

  وروى فريق من المؤرخين ، فيهم الطبري وابن الاثير : ( أن معاوية أرسل الى الحسن صحيفة بيضاء مختوماً على أسفلها بختمه ) ، وكتب اليه : ( أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت ، فهو لك (1) .
  ثم بتروا الحديث ، فلم يذكروا بعد ذلك ، ماذا كتب الحسن على صحيفة معاوية. وتتبعنا المصادر التي يُسّر لنا الوقوف عليها ، فلم نر فيما عرضته من شروط الحسن عليه السلام ، الا النتف الشوارد التي يعترف رواتها بأنها جزء من كل. وسجّل مصدر واحد صورة ذات بدء وختام ، فرض أنها [ النص الكامل لمعاهدة الصلح ] ، ولكنها جاءت ـ في كثير من موادّها ـ منقوضة بروايات أخرى تفضلها سنداً ، وتزيدها عدداً .
  ولنا لو أردنا الاكتفاء ، أن نكتفي ـ في سبيل التعرّف على محتويات المعاهدة ـ برواية ( الصحيفة البيضاء ) ، كما فعل رواتها السابقون ، فبتروها اكتفاءً باجمالها عن التفصيل ، ذلك لان تنفيذ الصلح على قاعدة ( اشترط ما شئت فهو لك ) معناه أن الحسن أغرق الصحيفة المختومة في أسفلها ، بشتى شروطه التي أرادها ، فيما يتصل بمصلحته ، أو يهدف الى فائدته ، سواء في نفسه أو في أهل بيته أو في شيعته أو في أهدافه ، ولا شيء يحتمل غير ذلك .
  واذا قدّر لنا ـ اليوم ـ أن لا نعرف تلك الشروط بمفرداتها ، فلنعرف أنها كانت من السعة والسماحة والجنوح الى الحسن ، بحيث صححت ما يكون من الفقرات المنقولة عن المعاهدة أقرب الى صالح الحسن ،

---------------------------
(1) الطبري ( ج 6 ص 93 ) وابن الاثير ( ج 3 ص 162 ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 259 _

  ورجّحته على ما يكون منها في صالح خصومه ، كنتيجة قطعية لحرية الحسن عليه السلام في أن يكتب من الشروط ما يشاء .
  ورأينا بدورنا ، وقد أخطأنا التوفيق عن تعرّف ما كتبه الحسن هناك ، أن ننسق ـ هنا ـ الفقرات المنثورة في مختلف المصادر من شروط الحسن على معاوية في الصلح ، وأن نؤلف من مجموع هذا الشتات صورة تحتفل بالاصح الأهم ، مما حملته الروايات الكثيرة عن هذه المعاهدة ، فوضعنا الصورة في مواد ، وأضفنا كل فقرة من الفقرات الى المادة التي تناسبها ، لتكون ـ مع هذه العناية في الاختيار والتسجيل ـ أقرب الى واقعها الذي وقعت عليه .
  واليك هي
  صورة المعاهدة التي وقعها الفريقان
  المادة الاولى :
  تسليم الامر الى معاوية ، على أن يعمل بكتاب اللّه وبسنة رسوله (1) ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) ، وبسيرة الخلفاء الصالحين (2) .
  المادة الثانية :
  أن يكون الامر للحسن من بعده (3) ، فان حدث به حدث

---------------------------
(1) المدائني ـ فيما رواه عنه ابن أبي الحديد في شرح النهج ـ ( ج 4 ص 8 ) .
(2) ( فتح الباري ) شرح صحيح البخاري ـ فيما رواه عنه ابن عقيل في النصايح الكافية ـ ( ص 156 الطبعة الاولى ) ، والبحار ( ج 10 ص 115 ) .
(3) تاريخ الخلفاء للسيوطي ( ص 194 ) ، وابن كثير ( ج 8 ص 41 ) ، والاصابة ( ج 2 ص 12 و13 ) ، وابن قتيبة ( ص 150 ) ودائرة المعارف الاسلامية لفريد وجدي ( ج 3 ص 443 الطبعة الثانية ) وغيرهم .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 260 _

  فلأخيه الحسين (1) ، وليس لمعاوية أن يعهد به الى احد (2) .
  المادة الثالثة :
  أن يترك سبَّ أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة (3) ، وأن لا يذكر علياً الا بخير (4) .
  المادة الرابعة :
  استثناء ما في بيت المال الكوفة ، وهو خمسة آلاف الف فلا يشمله تسليم الامر ، وعلى معاوية أن يحمل الى الحسين كل عام الفي الف درهم ، وأن يفضّل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس ، وأن يفرّق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل وأولاد من قتل معه بصفين الف الف درهم ، وأن يجعل ذلك من خراج دار ابجرد (5) .
  المادة الخامسة :
  ( على أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض اللّه ، في شامهم

---------------------------
(1) عمدة الطالب لابن المهنا ( ص 52 ) .
(2) المدائني ـ فيما يرويه عنه في شرح النهج ـ ( ج 4 ص 8 ) ، والبحار ( ج 10 ص 115 ) ، والفصول المهمة لابن الصباغ وغيرهم .
(3) أعيان الشيعة ( ج 4 ص 43 ) .
(4) الاصفهاني في مقاتل الطالبيين ( ص 26 ) ، وشرح النهج ( ج 4 ص 15 ) وقال غيرهما : ( ان الحسن طلب الى معاوية أن لا يشتم علياً ، فلم يجبه الى الكف عن شتمه ، وأجابه على أن لا يشتم علياً وهو يسمع ) ، قال ابن الاثير : ( ثم لم يف به أيضاً ) .
(5) تجد هذه النصوص متفرقة في الامامة والسياسة ( ص 200 ) والطبري ( ج 6 ص 92 ) وعلل الشرائع لابن بابويه ( ص 81 ) وابن كثير ( ج 8 ص 14 ) وغيرهم .
و ( دار ابجرد ) ولاية بفارس على حدود الاهواز ، وجرد أو جراد : هي البلد أو المدينة بالفارسية القديمة والروسية الحديثة ، فتكون داراب جرد بمعنى ( مدينة داراب ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 261 _

  وعراقهم وحجازهم ويمنهم ، وأن يؤمّنَ الاسود والاحمر ، وان يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم ، وأن لا يتبع احداً بما مضى ، وأن لا يأخذ أهل العراق باحنة (1) .
  ( وعلى أمان أصحاب عليّ حيث كانوا ، وأن لا ينال أحداً من شيعة علي بمكروه ، وأن اصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم ، وان لا يتعقب عليهم شيئاً ، ولا يتعرض لاحد منهم بسوء ، ويوصل الى كل ذي حق حقه ، وعلى ما أصاب اصحاب عليّ حيث كانوا ... (2) .
  ( وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي ، ولا لاخيه الحسين ، ولا لاحد من أهل بيت رسول اللّه ، غائلةً ، سراً ولا جهراً ، ولا يخيف أحداً منهم ، في أفق من الآفاق (3) .

الختام :
  قال ابن قتيبة : ( ثم كتب عبد اللّه بن عامر ـ يعني رسول معاوية الى الحسن ( عليه السلام ) ـ الى معاوية شروط الحسن كما أملاها عليه ، فكتب معاوية جميع ذلك بخطه ، وختمه بخاتمه ، وبذل عليه العهود المؤكدة ، والايمان المغلَّظة ، وأشهد على ذلك جميع رؤساء أهل الشام ، ووجه به الى عبد اللّه

---------------------------
(1) المصادر : مقاتل الطالبيين ( ص 26 ) ، ابن أبي الحديد ( ج 4 ص 15 ) ، البحار ( ج 10 ص 101 و115 ) ، الدينوري ( ص 200 ) ، ونقلنا كل فقرة من مصدرها حرفياً .
(2) يتفق على نقل كل فقرة أو فقرتين أو أكثر ، من هذه الفقرات التي تتضمن الامان لاصحاب علي ( عليه السلام ) وشيعته ، كل من الطبري ( ج 6 ص 97 ) ، وابن الاثير ( ج 3 ص 166 ) ، وأبي الفرج في المقاتل ( ص 26 ) ، وشرح النهج ( ج 4 ص 15 ) ، والبحار ( ج 10 ص 115 ) ، وعلل الشرائع ( ص 81 ) ، والنصائح الكافية ( ص 156 ) .
(3) البحار ( ج 10 ص 115 ) ، والنصائح الكافية ( ص 156 ـ ط ، ل ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 262 _

  ابن عامر ، فاوصله الى الحسن (1) .
  وذكر غيره نص الصيغة التي كتبها معاوية في ختام المعاهدة فيما واثق اللّه عليه من الوفاء بها ، بما لفظه بحرفه :
  ( وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك ، عهد اللّه وميثاقه ، وما أخذ اللّه على أحد من خلقه بالوفاء ، وبما أعطى اللّه من نفسه (2) .
  وكان ذلك في النصف من جمادى الاولى سنة 41 ـ على أصح الروايات ـ .

---------------------------
(1) الامامة والسياسة ( ص 200 ).
(2) البحار ( ج 10 ص 115 ).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 263 _

دراسة النصُوص البارزة في المعاهدة

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 264 _

  لتكن صيغة المعاهدة بما لولوت عليه من عناصر موضوعية لها أهميتها في الناحيتين الدينية والسياسية ، شاهداً جديداً على ما وفّق له واضع بنودها من سمو النظر في الناحيتين جميعاً .
  ومن الحق ان نعترف للحسن بن علي ( عليهما السلام ) ـ على ضوء ما أثر عنه من تدابير ودساتير هي خير ما تتوصل اليه اللباقة الدبلوماسية لمثل ظروفه من زمانه وأهل زمانه ـ بالقابليات السياسية الرائعة التي لو قدّر لها أن تلي الحكم في ظرف غير هذا الظرف ، وفي شعب أو بلاد رتيبة بحوافزها ودوافعها ، لجاءت بصاحبها على رأس القائمة من السياسيين المحنكين وحكام المسلمين اللامعين ، ولن يكون الحرمان يوماً من الايام ، ولا الفشل في ميدان من الميادين بدوافعه القائمة على طبيعة الزمان ، دليلاً على ضعف أو منفذاً الى نقد ، ما دامت الشواهد على بعد النظر وقوة التدبير وسموّ الرأي ، كثيرة متضافرة تكبر على الريب وتنبو عن النقاش .
  وللقابليات الشخصية مضاؤها الذي لا يعدم مجال العمل ، مهما حدّ من تيارها الحرمان أو ثنى من عنانها الفشل ، وها هي ذي من لدن هذا الرجل العظيم تستجدّ ـ منذ الآن ـ ميدانها البكر ، القائم على الفكرة الجديدة القائمة على صيانة حياة أمة بكاملها في حاضرها ومستقبلها ، بما تضعه في هذه المعاهدة من خطوط ، وبما تستقبل به خصومها من شروط .
  وانك لتلمح من بلاغة المعاهدة بموادها الخمس ، أن واضعها لم يعالج موضوعه جزافاً ، ولم يتناوله تفاريق وأجزاءً ، وانما وضع الفكرة وحدة متماسكة الاجزاء متناسقة الاتجاهات ، وتوفر فيها على تحرّي أقرب المحتملات الى التنفيذ عملياً ، في سبيل الاحتياط لثبوت حقه الشرعي ، وفي

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 265 _

  سبيل صيانة مقامه ومقام أخيه ، وتيسير شؤون أسرته وحفظهم ، واعتصم فيها بالامان لشيعته وشيعة أبيه وانعاش أيتامهم ، ليجزيهم بذلك على ثباتهم معه ووفائهم مع أبيه ، وليحتفظ بهم أمناء على مبدئه وانصاراً مخلصين لتمكين مركزه ومركز أخيه ، يوم يعود الحق الى نصابه ، وسلّم فيها ( الأمر ) الى معاوية مشروطاً بالعمل على سنّة النبي (ص) وسيرة الخلفاء الصالحين ، فقلص بذلك من نفوذ عدوه في ( الأمر ) بما عرضه ـ من وراء هذا الشرط ـ للمخالفات التي لا عدَّ لها ولا حدَّ لنقمتها ، وهو اذ ذاك اعرف الناس بمعاوية وبقابلياته الخلقية تجاه هذا الشرط .
  والمعاهدة ـ بعدُ ـ هي الصكّ الذي وَقّعه الفريقان ليسجلا على أنفسهما الالتزام بما أعطى كل منها صاحبه وبما أخذ عليه ، وهي هنا ـ على الاكثر ـ قضية ( ماديَّات ) محدودة لجّ في تحصيلها أحد الفريقين لقاء ( معنويات ) لا حدَّ لها استأثر بها الفريق الثاني .
  فلم يهدف معاوية في صلحه مع الحسن ( عليه السلام ) ، الا للاستيلاء على الملك ، ولم يرض الحسن بتسليم الملك لمعاوية الا ليصون مبادئه من الانقراض ، وليحفظ شيعته من الابادة ، وليتأكد السبيل الى استرجاع الحق المغصوب يوم موت معاوية .
  ومن سداد الرأي أن لا نفهم مغزى هذه المعاهدة الا على هذا الوجه .
  ولكي نتبين صحة هذا التفسير لاهداف الفريقين يوم صلحهما ، علينا ان نتحلل هنا في سبيل الكشف عن حقيقة تاريخية لها أهميتها ، من التعبّد بأقوال المؤرخين وبتصرفاتهم ، وأن نرجع توّاً الى التصريحات الشخصية التي فاه بها كل من المتعاقدين أنفسهما ، فيما يمت الى عناصر اتفاقيتهما هذه ، أو فيما يلقي الضوء على تفسير ما يفتقر الى التفسير منها ، ولعلنا سنصل من وراء هذا الاسلوب في طريقة الاستنتاج ، الى حل شيء كثير من الرموز التي استعصى حلها على كثير من الاصدقاء في التاريخ .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 266 _

1 ـ تصريحات الفريقين :
  ويكفينا الآن من تصريحات معاوية بعد الصلح ، فيما يمتّ الى معاهدته مع الحسن عليه السلام قوله فيما يرويه عنه كثير منهم ابن كثير (1) : ( رضينا بها ملكاً ) ، وقوله في التمهيد لهذه المعاهدة ـ قبل الصلح ـ فيما كان يراسل به الحسن : ( ولك أن لا يستولى عليك بالاساءة ولا تقضى دونك الامور ولا تعصى في أمر (2) .
  ويكفينا من تصريحات الحسن ( عليه السلام ) ما قاله أكثر من مرة في سبيل افهام شيعته حيثيات صلحه مع معاوية : ( ما تدرون ما فعلت واللّه للذي فعلت خير لشيعتي مما طلعت عليه الشمس ) ، وما قاله مرة أخرى لبشير الهمداني وهو احد رؤساء شيعته في الكوفة : ( ما أردت بمصالحتي الا ان أدفع عنكم القتل (3) ، وما قاله في خطابه ـ بعد الصلح ـ : ( أيها الناس ان اللّه هداكم بأوّلنا ، وحقن دماءكم بآخرنا ، وقد سالمت معاوية ، وان أدري لعله فتنة ومتاع الى حين (4) .
  وليس في شيء من هذه التصريحات ولا في الكثير مما جرى على نسقها ، سواء من معاوية أو من الحسن ( عليه السلام ) ، ما يستدعينا الى الالتواء في فهم العقد القائم بينهما ، الذي لم يقصد منه الا الاهداف التي أشرنا اليها آنفاً ، فلمعاوية طموحه الى الملك ، وللحسن خطته في حماية الشيعة من القتل ، وصيانة المبادئ الدينية التي هي خير مما طلعت عليه الشمس ، والمسالمة الى حين .
  ولا بدع ـ بعد هذا ـ في تقرير هذه الحقيقة على واقعها ، وفي التنبيه الى جنف كثير من المؤرخين فيما حرّفوا من أهداف كل من المتعاقدين ، وفيما أساءوا فهمه من نصوصهما ، ولقد ترى ، ان المعاهدة نفسها

---------------------------
(1) في تاريخه ( ج 6 ص 220 ).
(2) ابن ابي الحديد ( ج 4 ص 13 ).
(3) الدينوري ( ص 203 ).
(4) اليعقوبي ( ج 2 ص 192 ).

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 267 _

  وتصريحات المتعاقدين أنفسهما ، لم تنبس قط ، بذكر بيعة ولا امامة ولا خلافة ، فأين اذاً ، ما يدعيه غير واحد من هؤلاء المؤرخين وعلى رأسهم ابن قتيبة الدينوري ، من أن الحسن بايع معاوية على الامامة !! ...
  وقبل الانتقال الى مناقشة هذا الموضوع ، أو مناقشة القائلين به نتقدم بتمهيد عابر عن نسبة الخلافة الاسلامية الى معاوية بن أبي سفيان ، وامتناع البيعة الشرعية لمثله ، فنقول :

معاوية والخلافة :
  لقد مرّ فيما ذكرناه بين أطواء المناسبات الآنفة ، أن خلافة رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) في الاسلام لا ينبغي ان تكون الا في أقرب المسلمين شبهاً به في سائر مزاياه الفضلى ، وانه ليس لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شيء في هذا الامر ( كما قاله عمر ) ، وأن الخلافة بعد رسول اللّه ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً عضوضاً ( الحديث كما صححه أهل السنة ) ، وأن لا امامة الا بالنص والتعيين ( كما عليه الشيعة والمعتزلة ) ، وأن الغلبة والقوة لا تجعل غير الجائز جائزاً ، فلا يصح أخذ الخلافة عنوة ولا فرضها على المسلمين قسراً ، وأن الذي يكون خليفة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يمكن أن ينقاد ـ لا ظاهراً ولا سراً ـ الى مناقضته في أحكامه ، فيلحق العهار بالنسب ويصلي الجمعة يوم الاربعاء وينقض عهد اللّه بعد ميثاقه .
  ونزيد هنا : أن قادة الرأي في الامة الاسلامية منذ عهد معاوية والى يوم الناس هذا ، لم يفهموا من استيلاء معاوية على الامر ، معنى الخلافة عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بما في هذا اللفظ من معنى ، رغم الدعاوة الاموية النشيطة التي تجنّد لها الخلفاء الاسميون من بني أمية ومن اليهم ، زهاء الف شهر ، هي مدة حكمهم في الاسلام ، أنفقوا فيها الرشوات بسخاء ، ووضعوا فيها الاحاديث والاقاصيص وفق الخطط والاهواء ، ثم بقي معاوية ـ مع كل ذلك ـ ملكاً دنيوياً وخليفة اسمياً لا اقلَّ ولا أكثر .
  دخل عليه ـ بعد أن استقر له الامر ـ سعد بن أبي وقاص فقال له :

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 268 _

  ( السلام عليك أيها الملك ) فضحك له معاوية وقال : ( ما كان عليك يا أبا اسحق لو قلت : يا أمير المؤمنين ) ، قال : ( أتقولها جذلان ضاحكاً ، واللّه ما أحب اني وليتها بما وليتها به (1) .
  وقال ابن عباس لابي موسى الاشعري في كلام طويل : ( وليس في معاوية خصلة تقربه من الخلافة (2) .
  وقال أبو هريرة في سبيل انكاره خلافة معاوية فيما يرويه عن رسول اللّه (ص) : ( الخلافة بالمدينة والملك بالشام (3) .
  وسئل سفينة مولى رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم )ـ فيما أخرجه ابن أبي شيبة ـ عن استحقاق بني أمية للخلافة ، فقال : ( كذب بنو الزرقاء بل هم ملوك من شرِّ الملوك ، وأول الملوك معاوية (4) .
  وأنكرت عائشة على معاوية ادعاءه الخلافة وبلغه ذلك ، فقال : ( عجباً لعائشة تزعم اني في غير ما أنا اهله ، وأن الذي أصبحت فيه ليس لي بحق ، مالها ولهذا يغفر اللّه لها (5) .
  وحضر أبو بكرة ( أخو زياد لامه ) مجلس معاوية ، فقال له : ( حدثنا يا ابا بكرة ) ، فقال [ فيما أخرجه ابن سعيد ] : ( اني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : الخلافة ثلاثون ثم يكون الملك قال عبد الرحمن بن أبي بكرة : ( وكنت مع أبي فأمر معاوية فوجئ في أقفائنا حتى أخرجنا (6) .

---------------------------
(1) ابن الاثير في الكامل ( ج 3 ص 163 ) والنصائح الكافية ( ص 158 ) .
(2) المسعودي ( هامش ابن الاثير ج 6 ص 7 ) .
(3) ابن كثير ( ج 6 ص 321 ) .
(4) النصائح الكافية ( ص 153 ـ طبع ايران ) .
(5) شرح النهج ( ج 4 ص 5 ) .
(6) النصائح الكافية ( ص 159 ـ ط ، أ ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 269 _

  وسأل معاوية صعصعة بن صوحان العبدي قائلاً : ( أي الخلفاء رأيتموني ؟ ) ، فقال صعصعة : ( أنى يكون الخليفة من ملك الناس قهراً ودانهم كبراً ، واستولى بأسباب الباطل كذباً ومكراً ، أما واللّه ما لك في يوم بدر مضرب ولا مرمى ، ولقد كنت أنت وابوك في العير والنفير ، ممن أجلب على رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) ، وانما أنت طليق وابن طليق أطلقكما رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فأنّى تصلح الخلافة لطليق؟! (1) .
  ودخل عليه صديقه المغيرة بن شعبة ، ثم انكفأ عنه وهو يقول لابنه : ( اني جئت من أخبث الناس !! (2) .
  ولعنه عامله سمرة يوم عزله عن ولاية البصرة ، فقال : ( لعن اللّه معاوية واللّه لو اطعت الله كما أطعته لما عذبني ابداً (3) .
  وقال الحسن البصري : ( أربع خصال كُنَّ في معاوية لو لم يكن فيه منهن الا واحدة لكانت موبقة : انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها امرها ( يعني الخلافة ) بغير مشورة منهم وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة ، واستخلافه ابنه بعده سكّيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير ، وادعاؤه زياداً وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه ( وآله ) وسلم : الولد للفراش وللعاهر الحجر ، وقتله حجراً ، ويل له من حجر وأصحاب حجر ، ( مرتين ) (4) .
  وأبى المعتزلة بيعة معاوية بعد الصلح ، واعتزلوا الحسن ومعاوية جميعاً ، وبذلك سموا أنفسهم ( المعتزلة ) (5) .

---------------------------
(1) المسعودي ( هامش ابن الاثير ج 6 ص 7 ) .
(2) مروج الذهب ( ج 2 ص 342 ) ، وابن ابي الحديد ( ج 2 ص 357 ) .
(3) ابن الاثير فيما يرويه عنه في النصائح ( ص 9 ) .
(4) الطبري ( ج 6 ص 157 ـ الطبعة الاولى ) .
(5) كتاب التنبيه والرد على أهل الاهواء والبدع : لمحمد بن أحمد الملطي المتوفى سنة 377 هجري ( ص28 ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 270 _

  ثم مشى موكب الزمان بتاريخ معاوية ، فاذا به المثال الذي يضربه فقهاء المذاهب الاربعة ، للسلطان الجائر (1) ...
  واذا به الباغي الذي يجب قتاله برأي أبي حنيفة النعمان بن ثابت (2) .
  فأين الخلافة المزعومة ، ياترى ؟ .
  وجاء المعتضد العباسي ، فنشر من جديد فعال معاوية وبوائقه الكبرى وما قيل فيه ، وما روي في شأنه ، ودعا المسلمين الى لعنه ، في مرسوم ملكي اذيع على الناس سنة 284 للهجرة (3) .
  وقال الغزالي بعد ذكره لخلافة الحسن بن علي ( عليه السلام ) : ( وأفضت الخلافة الى قوم تولوها بغير استحقاق (4) .
  وكان أروع ما ذكره به القرن السادس ، قول نقيب البصرة فيه : ( وما معاوية الا كالدرهم الزائف (5) .
  وصرّح ابن كثير بنفي الخلافة عن معاوية استناداً الى الحديث ، قال : ( قد تقدم أن الخلافة بعده عليه السلام ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكاً ، وقد انقضت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي ، فأيام معاوية أول الملك (6) .
  وقال الدميري المتوفى سنة 808 هجري بعد ذكره مدة خلافة الحسن ( عليه السلام ) : ( وهي تكملة ما ذكره رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) من مدة

---------------------------
(1) وذلك في اتفاقهم على جواز تقلد القضاء من السلطان الجائر ، استناداً الى عمل الصحابة في تقلدهم القضاء من معاوية .
(2) قال أبو حنيفة : ( أتدرون لم يبغضنا أهل الشام ؟ ) ، قالوا : ( لا ) ، قال : ( لانا نعتقد أن لو حضرنا عسكر علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه ، لكنا نعين علياً على معاوية ، ونقاتل معاوية لاجل علي ، فلذلك لا يحبوننا ) ، يراجع النصائح الكافية لابن عقيل ( ص 36 ) فيما يرويه عن أبي شكور في كتابه ( التمهيد في بيان التوحيد ) .
(3) نجد نص المرسوم على طوله في تاريخ الطبري ( ج 11 ص 355 ) .
(4) دائرة معارف القرن العشرين لفريد وجدي ( ج 3 ص 231 ) .
(5) ابو جعفر النقيب ( ص 41 ـ طبع بغداد ) .
(6) البداية والنهاية ( ج 8 ص 19 ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 271 _

  الخلافة ، ثم تكون ملكاً عضوضاً ثم تكون جبروتاً وفساداً في الارض ، وكان كما قال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) (1) .
  وجاء محمد بن عقيل ـ اخيراً ـ فكتب كتابه الجليل ( النصائح الكافية لمن يتولى معاوية ) وهو بحق : القول الفصل في موضوع معاوية ، وقد طبع الكتاب مرتين ، فليراجع .
  وفي اباء التشريع الاسلامي مثل هذه الخلافة ـ أولاً ـ .
  وفي المخالفات الصلع التي ثبتت على معاوية للنبي ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) ـ ثانياً ـ .
  وفي انكار قادة الرأي المسلمين عليه ـ في مختلف العصور الاسلامية ـ ادعاءه الخلافة ـ ثالثاً ـ ما يكفينا مؤنة البحث في موضوع ( معاوية والخلافة ) .
  وكذلك كان الحسن نفسه بعد تسليم الامر لمعاوية ، صريحاً في نفي الخلافة عنه ، شأنه في ذلك شأن سائر القادة من المسلمين ، فقال في خطابه يوم الاجتماع في الكوفة : ( وان معاوية زعم أني رأيته للخلافة أهلاً ولم أر نفسي لها اهلاً ، فكذب معاوية ، نحن أولى الناس بالناس في كتاب اللّه عزّ وجل وعلى لسان نبيه ) ، وسيأتي ذكر خطابه هذا في [ الفصل 18 ] .
  وقال في خطاب آخر له ـ بعد الصلح ـ وكان معاوية حاضراً : ( وليس الخليفة من دان بالجور وعطل السنن واتخذ الدنيا أباً وأماً ، ولكن ذلك ملك أصاب ملكاً يمتع به ، وكان قد انقطع عنه ، واستعجل لذته وبقيت عليه تبعته ، فكان كما قال اللّه جل وعزّ : وان أدري لعله فتنة ومتاع الى حين (2) .

---------------------------
(1) حياة الحيوان ( ج 1 ص 58 ) .
(2) ذكرها البيهقي في المحاسن والمساوئ ( ج 2 ص 63 ) وذكرها غيره .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 272 _

2 ـ حديث البيعة :
  وجاء فيما يرويه الكليني رحمه اللّه ( ص 61 ) : ( ان الحسن اشترط على معاوية أن لا يسميه أمير المؤمنين ) .
  وجاء فيما يرويه ابن بابويه رحمه اللّه في العلل ( ص 81 ) ، وروا غيره أيضاً : ( أن الحسن اشترط على معاوية أن لا يقيم عنده شهادةً ) .
  ولا أكثر مما تضمنته هاتان الروايتان تحفظاً عن الاعتراف بصحة خلافة معاوية فضلاً عن البيعة له ، ولم يكن ثمة الا تسليم الملك الذي عبرت عنه المعاهدة ( بتسليم الامر ) وعبر عنه آخرون بتسليم الحكم .
  اما قول الدينوري في ( الامامة والسياسة ) أن الحسن بايع معاوية على الامامة ، فهو القول الذي يصطدم قبل كل شيء بقابليات معاوية التي عرفنا قريباً النسبة بينها وبين الخلافة وصلاحية البيعة على المسلمين ، ويصطدم ثانياً بتصريحات الحسن في انكار خلافة معاوية ، سواء في خطابيه الآنفين ، أو في تحفظاته الواضحة في هاتين الروايتين .
  وهكذا دلّ الدينوري فيما مرَّ عليه من قضايا الحسن ومعاوية ، على تحيز واضح لا يليق بمؤرخ يعيش في القرن الثالث حيث لا معاوية ولا رشواته ولا دعاواته ، ولكنها الدوافع العاطفية التي لم يسلم من تأثيرها كثير من مؤرخينا المسلمين ... فقال مرة اخرى : ( ولم ير الحسن والحسين طول حياة معاوية منه سوءاً في أنفسهما ولا مكروهاً ! ) ، اقول : وأي سوء يصاب به انسان أعظم من قتله سماً ؟ ، وأي مكروه ينزل بانسان أفظع من اغتصاب عرشه ظلماً ؟ ، فأين مقاييس الدينوري بعد هذا يا ترى؟ ونحن اذ أردنا هنا ، ان نتعسف للمتسرعين الى ذكر البيعة عذراً أو شبه عذر ، حملناهم على التأثر بالدعاوات الكثيرة التي كانت لا تزال آخذة بالاسماع ، ولم يكن في التاريخ قضية أبرز من انتقال الحكم في الاسلام من سبط النبي نفسه ، الى طليق من الطلقاء المعروفين بتاريخهم القريب ، ولذلك

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 273 _

  فقد بلغ الكلف بالمنكرين على الصلح حداً استساغوا به الاسترسال في ذيوله وحواشيه ، فحوَّروا ما كان ، وزوَّروا ما لم يكن ، ومن هنا نسج الخيال حديث البيعة ، وكان في اللغط بهذا الحديث ـ المصطنع ـ غرض قويّ للقوة القائمة على الحكم بعد حادثة الصلح ، لأنه الدعامة التي تسند دعاوتهم باستحقاق الخلافة المزعومة ، الامر الذي تصايح المسلمون بانكاره لهم وانكارهم له ، منذ قال سفينة مولى رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) : ( كذب بنو الزرقاء بل هم ملوك من شر الملوك وأول الملوك معاوية ) .
  ثم جاءت السطحية الساذجة التي تقمصها اخواننا المؤرخون فيما جمعوه أو فيما فرّقوه من تاريخ الاسلام ، فمرّوا على هذه الاقصوصة المصطنعة كحقيقة واقعة ، وكان القليل منهم من وقف عن الفضول في الكلام ، وكان منهم من جاوز الحقيقة فخلط وخبط ، حتى نسب الى الحسن نفسه الاعتراف بالبيعة صريحاً ! ، وكان منهم من أوقعه الخلط والخبط في فرية وضيعة لا تجمل بمروءة الرجل المسلم فيما يكتبه عن سبط من أسباط نبيه العظيم ( صلى الله عليه اوآله وسلم ) ، فضلاً عن نبوها المكشوف بأمانة التاريخ ، فادّعى انه باع الخلافة بالمال !! ...
  ولسنا الآن بصدد الردّ على تقولات الافاكين .
  ولكننا اذ نبرئ حديث الصلح بواقعه الاول الذي رضيه الفريقان من قضية البيعة المزعومة ، لا نعتمد في التبرئة الا على الفهم الذي يجب ان يفهمه المسلم من معنى البيعة ومن معنى الامامة على حقيقتهما ـ هذا أولاً وأما ثانياً فلما مرّ عليك قريباً من روايات الحادثة ، ومن تصريحات ذوي الشأن في الموضوع .
  وما من حقيقة تتعاون على تقريرها مثل هذه الادلة فتبقي مجالاً للشك .
  وقديماً اعتاد الناس أن يرجعوا في كشف الوقائع الماضية الى اقوال المؤرخين القدامى ، ممن عاصر تلك الوقائع أو جاء بعدها بقليل أو كثير من الزمن ، وكان من الجمود على هذه الطريقة ما أدى في الاجيال المتأخرة

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 274 _

  الى مختلف الآراء وشتى التحزّبات ، بين المجتمع الواحد وفي الافق الواحد والدين الواحد ، ذلك لان مراجع هذا التاريخ أنفسهم ، كانوا يعيشون تحت تأثير آراء وتحزبات لا معدى لهم عنها في مثل عصورهم ، ومن الصعب جداً أن يطيق كاتب ما يومئذ التحلل ـ فيما يكتب ـ من المؤثرات العاطفية التي تشترك في تكوينه أدبياً وفي تدوير أعماله ومصالحه اجتماعياً ، ومن هنا كان هذا القلق الملموس ـ المأسوف عليه ـ في كثير من موضوعات التاريخ الاسلامي .
  ومن الحق أن نعتقد هنا ، بأن قصة ( البيعة ) التي طعنت بها قضية الحسن في صلحه مع معاوية ، انما كانت وليدة تلك المؤثرات التي كتب المؤرخون تحت تأثيرها تواريخهم ، فرأوا من الدعاوات المغرضة لتسجيل هذه القصة كحقيقة واقعة ما يحفزهم الى حسن الاحتذاء ، تطوعاً للمنفعة العاجلة أو جهلاً بالواقع ، ورأوا من التصريح ( بتسليم الامر ) في صلب المعاهدة ما يسوّغ لهم ـ أو قل ـ ما ييسر لهم التوسع الى ادعاء الاعتراف بالخلافة ، ثم الى ادعاء الانقياد بالبيعة !! ، وخفي عليهم ان الخلافة ـ بما هي منصب الهي ـ لا يمكن ان تنقاد الى مساومة أو تسليم ، ولا يمكن ان تمسها الظروف الزمنية في ( صلح ) أو ( تحكيم ) .
  ولكي نزداد بصيرة في تفهم معنى ( تسليم الامر ) الوارد في المادة الاولى من معاهدة الصلح ، علينا أن نرجع الى طريقتنا في استنتاج الحدّ بين هزل المؤرخين فندرس على المتعاقدين أنفسهما تفسير هذا المجمل من حيث التقييد والاطلاق .
  3 ـ تسليم الامر :
  علمنا ـ مما تقدم ـ أن معاوية قال لابنه يزيد ، وهو يشير الى أهل البيت ( عليهم السلام ) : ( ان الحق حقهم ) .
  وعلمنا انه كتب الى الحسن في التمهيد للصلح ( ولا تقضى دونك الامور ولا تعصى في أمر ) .

صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 275 _

  وعلمنا أنه قال بعد الصلح : ( رضينا بها ملكاً ) .
  وعلمنا أنه خطب على منبر الكوفة يوم وصوله اليها ، فقال : ( اني لم اقاتلكم لتصلوا ولا لتزكوا ... وانما قاتلتكم لأتأمر عليكم ) .
  وعلمنا أن الحسن بن علي أنكر عليه الخلافة وجاهاً ، فسكت ولم يرد عليه .
  فلنعلم اذاً ، بأن معاوية حين رضيها ملكاً نفاها عن نفسه خلافة ، وحين قال : ( لم اقاتلكم لتصلوا ولا لتزكوا ... ) دل على أنه ليس خليفة دين ، ولكنه ملك دنيا لا همَّ له في صلاة ولا زكاة ، وانما كل همه في التأمر على الناس ، وهو حين يقول للحسن : ( لا تقضى دونك الامور ) ويقول لابنه : ( ان الحق حقهم ) ، يعترف للحسن بالمقام الاعلى وبالسلطة التي لا تعصى في أمر ، وما ذلك الا مقام الخلافة فحسب ، وكان لابد لمعاوية أن يسكت ـ والحال هذه ـ حين يصارحه الحسن بانكار خلافته ، ويكذبه على ادعائها بغير استحقاق .
  فأين من هذا ، تسليم الخلافة الذي فسّروا به تسليم الامر ؟ .
  وشيء آخر ، قد يكون في مغزاه أدق دلالة على اعتراف معاوية ببراءته من استحقاق الخلافة ، وذلك هو ضحكته المخذولة لسعد بن أبي وقاص يوم دخل عليه وقال له : ( السلام عليك ايها الملك ) ، ولم يقل يا امير المؤمنين ، فقد كانت هذه الضحكة بلغتها المبطنة ، صريحة بالاعتراف بالخطأ اذ يريد أن يأخذ الخلافة لقباً من غنائم الحرب ، لا واسطةً بين المسلمين ونبيهم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وبهذا استحق من سعد ، وهو الرجل الذي لا تغلبه مداورات معاوية ، أن يقول له : ( واللّه ما أحب أني وليتها بما وليتها به ) ، يعني أنه كان يترفع عنها لقباً ينبت على الدماء المحرمة ، والفتن السود ، والعهود الخائسة .
  وترى ـ على هذا ـ أن سعداً لم يفهم من تسليم الامر الا تسليم الملك وهو ما يجب أن يفهمه كل من فهم لغة القرآن في الخلافة ، أو لغة الفريقين