الفهرس العام

الوسيلة بين العبودية والربوبية


محاسبة النفس ومراقبتها
ما يجب معرفته وتذكره
الإعتبار من القصص القرآني
تطهير وتمييز وتمحيص
تمييز الخبيث من الطيب
إبتلاء العبد بما يسمع ويشاهد
التنبه لابتلاء أهل البيت عليهم السلام
الوفاء بالعهود تمييز للصادق من الكاذب
أمراض وضغائن :
نقض العهود
التوحيد وولاية أهل البيت عليهم السلام
الإستدراج :

  وأعتقد أنه من الضروري جدا للعبد المؤمن ، حتى يزداد قربا من الله تعالى ، وحبا وولاء لأحباب الله أهل البيت عليهم السلام ، أن يتفكر دائما في ابتلاءاتهم ومظلومياتهم ، حتى تزاد عوامل الصلة الوثيقة بينه وبينهم ، ففي الحزن لأحزانهم ، والفرح لفرحهم ، آثار كبيرة وواضحة في تطهير النفس البشرية من حجاب الغفلة الكثيف عنهم ، وعن موقعية الوسيلة بيننا وبين ربنا أثناء تحقيق معنى العبودية لله تعالى ، فكلما تعمقنا في معانيهم عليهم السلام ، فإننا نتطهر ونطهر ، ونزداد إيمانا وروحانية تجعلنا مؤهلين لحضرة القرب والفتح الإلهي والمدد الرباني الواسع ، عسى الله أن يرضى عنا فمن أرضاهم فقد أرضى الله ، ومن أحبهم فقد أحب الله ، ومن والاهم فقد والى الله ، وعسى الله أن يفتح علينا بتعجيل فرجهم وفرج المؤمنين.
  في الحقيقة ، فأنا أخجل من نفسي وأنا العبد الفقير العاجز وأنا أحاول التعريف بأئمتي الهداة المهديين ، ولازلت أجهل حقيقتهم ، يعجز القلم أن يكتب وكذا يعجز الوصف عن أولئك العظماء ، القدوة والأسوة في كل شيء ، وفي كل مثل أعلى بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأتوسل إلى الله تعالى أن يعرفني أئمتي ، فإنني إن لم أعرفهم لم أعرف ديني ، حتى أكون بين يدي ربي متحققا بأوصاف العبودية التي ارتضاها لمخلوقاته ، وجعل أهل البيت عليهم السلام الوسيلة بين العبودية والربوبية ، إنه قريب مجيب.
  النوع الثاني من الإبتلاء :
  قال تعالى في سورة المائدة الآية 119 { قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم }.
  وهؤلاء الصادقون منهم من يرتقي إلى أقصى درجات ميزان أهل اليمين ، ومنهم من يتوسطه ، ومنهم من يتجه إلى درجاته الدنيا عند حدود ميزان الكاذبين.
  ولذلك كانت الإبتلاءات في هذا النوع من أجل أن يحقق العباد موقعهم على ميزان أهل اليمين ، فتكون الإبتلاءات وبشكل عام لتمييز العبد على درجات

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 47 _

  الميزان ، من ناحية أعلى درجاته وهي الأقرب إلى ميزان السابقين ، أوفي أوسط الميزان أو في أدنى درجاته وهي الأقرب من ميزان الكاذبين.
  ولذلك كان هذا النوع من الإبتلاء والإختبار حتى يحدد العبد موقعيته على ميزان أهل اليمين ، ويكشف عن حقيقة ما يدعيه مما يعتقده ويؤمن به على بساط العبودية لله تعالى.
  وموقعية العبد على هذا الميزان ترتفع نحو السابقين أو تنخفض نحو الكاذبين ، أي أنها تزداد وتنقص حسب فهم العبد لمعنى الإبتلاء والإختبار والتعرفات الإلهية التي يتعرض لها ، فإذا كان العبد صادقا في عبوديته ظاهرا وباطنا ، فيبتليه ربه ليطهره ويرقيه ، وربما يكون صادقا لكنه يعيش بعض الغفلة فيبتليه ليذكره وينبهه ، أوربما يكون العبد صادقا في ظاهره مدعيا كاذبا في باطنه فيبتليه ربه ليميزه عن الصادقين وليكشف حقيقته حتى يتبين أنه من المدعين لمقامات الصادقين ، فينزل إلى ميزان الكاذبين المنافقين ليحدد له موقعا عليه.
  وعلى ذلك يكون هذا النوع من الإبتلاء ، ابتلاء تأديب وتنبيه ، وابتلاء إنذار وتذكير ، وابتلاء تمييز وتطهير.
  وهذا النوع من الإبتلاء يعتبره العلماء العارفون منة ونعمة من الله تعالى لعبده ، وهو رسائل تذكير وتنبيه من أجل التأديب والتهذيب ، أو تمييز وتحقيق وتطهير ، ومن أجل حماية المؤمن من الإفتتان والركون إلى الدنيا.
  ويبتلى في هذا النوع أغلب المسلمين ، خصوصا منهم المؤمنين ، ومن عرف عن الحقائق الإلهية ولو القليل.
  وحيث أن شؤون الحياة والجسد والنفس تتغلب على غيرها من الشؤون ، فكثيرا ما ينزع الناس إلى الدنيا وملذاتها والطمع في الحصول على الحد الأعلى من موجوداتها ، من أجل تحقيق رغبات وشهوات الإنسان ، فلربما يغفل الإنسان عن آخرته وعن دينه وشريعته ، ويكون التوجه إلى الدنيا في تلك الحال على حساب العمل للآخرة.

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 48 _

محاسبة النفس ومراقبتها

  فبالتالي هو بحاجة إلى مراجعة حساباته ، ومحاسبة نفسه ، وتغييرها نحو الأفضل قبل نزول التعرفات الجلالية عليه ، يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سلام الله تعالى عليه ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا ).
  ويقول عز وجل في سورة الرعد الآية 11 { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }.
  فهم الرسائل الإلهية يجنب العبد الإبتلاء
  ولذلك تأتي الإنذارات الربانية ، والتحذيرات من وقوع الإبتلاء في الدنيا قبل الآخرة على لسان الأنبياء والأوصياء ، لتنبه وتذكر عباد الله حتى يعودوا إلى ربهم وحتى تقام الحجة عليهم.
  قال تعالى في سورة الأنعام الآية : 51 { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون }.
  فإذا كان المسلم المؤمن عنده حب لله ولرسوله ولدينه وشريعته ، وعنده استعداد قلبي ، وإخلاص ونية صادقة ، ولكنه وبسبب غفلته وانهماكه في رؤية الدنيا ، يغفل أويتناسى الآخرة ، أو يصير من أهل التسويف ، فتأتي المنة والعطاء الإلهي على شكل الإبتلاء والتعرفات الجلالية حتى تنبه العبد أو تذكره بربه وحقوقه عليه وتأدبه حتى يعود إلى رشده ويتوب إلى ربه.
  ولذلك كان المسلم المؤمن بحاجة إلى تذكير مستمر وتنبيه دائم ، من أجل أن يبقى على بساط العبودية محافظا على إيمانه ويقينه ، وعليه أيضا البحث عن كل مقومات ذلك التذكير والتنبيه ، فقد أشارت الآيات القرآنية والسنة النبوية الشريفة إلى تلك المقومات ، كاتخاذ أخ في الله يقربه من الله ويعينه على طاعته ، وكثرة الدرس والمطالعة لمن يستطيع ذلك ، واتخاذ المعلم ، والإقتداء بالمرجع الجامع للشرائط ، والمحافظة على الجو الإيماني من خلال الجماعة ، ومداومة الطاعات المندوبة والأذكار ، والمحافظة على أدعية الأئمة الأطهار ، ومن المهم أيضا دوام التفكر والإعتبار في النفس من أجل معرفتها وفي الدنيا وحقيقتها.

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 49 _

ما يجب معرفته وتذكره

  وعلى رأس ما يجب على المؤمن المحافظة على تذكره والتنبه له ، هو المحافظة على الصلة الوثيقة بالأئمة من أهل البيت عليهم السلام ، من خلال معرفتهم ومعرفة حقوقهم وأحقيتهم ، وكذلك معرفة محبيهم ومبغضيهم ، ومعرفة مظلومياتهم وظالميهم ، بالإضافة إلى معرفة ما بينوا من الأوامر والمنهيات الربانية والأوامر والنواهي النبوية الصحيحة من خلال متابعتهم والإقتداء بهديهم ، ومن المهم أيضا تذكر الموت والمصير الذي سوف يؤول إليه العبد بعد هذه الحياة ، وباختصار يجب أن يعرف عقيدته التي فيها رضى الله ورسوله وكذلك الأحكام الشرعية المأمور بتحقيقها والنواهي المأمور باجتنابها.

الإعتبار من القصص القرآني

  ومن المهم أيضا قراءة القرآن الكريم والحديث النبوي الصحيح ، حتى يعرف العبد ما فيه من تنبيهات وتحذيرات وعبر ، وسوف نلقي الضوء على بعض الآيات المتعلقة بموضوعنا من أجل توضيح بعض المعاني المتعلقة بالإبتلاء.
  قال تعالى سورة الأعراف الآية 130 { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون }.
  وقال تعالى في سورة الأعراف الآية 26 { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون }.
  وقال تعالى في سورة الأنعام الآية 42 { ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون }.
  وقال تعالى في سورة الأعراف الآية 94 { وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون }.
  وقال تعالى في سورة الأعراف الآية : 168 { وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون }.

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 50 _

  وقال تعالى في سورة الروم ، الآية : 41 { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون }.
  وقال تعالى في سورة السجدة ، الآية : 21 { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون }.
  وقال تعالى في سورة الزخرف ، الآية : 28 { وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون }.
  وقال تعالى في سورة الزخرف الآية 51 { وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون }.

تطهير وتمييز وتمحيص

  وهناك قسم آخر من الناس يتعرضون لهذا النوع من التعرفات الجلالية ، وهذا ما يختص به المؤمن الصادق الذي يريده رب العالمين أن يكون مؤهلا للعناية الإلهية والعطاء والمدد ، وهذا لا يقبل منه أن يكون في مستوى المسلمين العاديين ، فحسنات الأبرار سيئات المقربين ، فتنزل بهم التعرفات الجلالية من أجل تطهيرهم ، وتمييزهم وتمكينهم من القيم الأخلاقية والأدبية الفاضلة ، ومن أجل الإعتبار والتأسي ، بل وربما يحميهم الله من كثير من درجات الدنيا ، فيبتليهم بالفقر لأنهم لا يصلحون بالغنى ، ويبتليهم بالمرض لأن الصحة تفسدهم ، لأن الله تعالى هو الذي يعلم الحال الذي ينفع العبد المؤمن ويصلحه أو يضره ، قال تعالى في سورة البقرة الآية : 216 { عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون }.
  وعن أبي عبد الله عليه السلام قال : فيما أوحى الله إلى موسى عليه السلام أن : يا موسى ما خلقت خلقا أحب إلي من عبدي المؤمن ، وإني إنما أبتليه لما هو خير له ، وأعطيه لما هو خير له ، وأزوي عنه لما هو خير له ، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي ، فليصبر على بلائي ، وليرض بقضائي ، وليشكر نعمائي ، أكتبه في الصديقين عندي إذا عمل برضائي وأطاع أمري.
  وعلى ذلك فإن دور العبد المؤمن الصادق في هذا المعنى من الإبتلاء أن يرضى بقضاء ربه له ، وأن يستسلم لإرادته ، وأن يشهد الله على صدق

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 51 _

  عبوديته له ، وعلى العبد المؤمن الصادق أن يتيقن أن الله ممتحنه ومختبره في كل ما يدعيه ، وهذا ما نشاهده عند المؤمنين التائبين الآيبين إلى الله حديثا ، فإن الدنيا تكون مفتوحة عليه من كل أبوابها حتى إذا ما تاب وعاد إلى بساط العبودية حقيقة ، تلاحقه الإختبارات الإلهية والتعرفات الجلالية ، حتى يكشف حقيقة توبته وصدق أوبته ويشهد الله على إيمانه ومجاهدته في الله ولله ، فيطهره الله تعالى حتى يهيأه للمنزلة التي أعدها له في الجنة.
  قال تعالى في سورة آل عمران الآية 140 { وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين }.
  وقال تعالى في سورة محمد الآية 31 { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين }.
  وقال تعالى في سورة الحديد الآية 25 { وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز }.
  قال تعالى في سورة آل عمران 139 ـ 142 { ولاتهنوا ولا تحزنوا وإنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين * أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين }.
  وقال أبو عبد الله الإمام الصادق عليه السلام : إنه ليكون للعبد منزلة عند الله عز وجل ، لا يبلغها إلا بإحدى الخصلتين ، إما ببلية في جسمه ، أو بذهاب ماله.

تمييز الخبيث من الطيب

  وقسم ثالث من العوام ، وهم الذين يدعون الأحوال الدينية وهم ليسوا من أهلها ، فيظهرون للناس مدى إهتمامهم في دينهم ، وحبهم لله ولرسوله وأهل بيته ، ويتنسكون ويلبسون مسوك الضان ، ويتحلون بحلية الصالحين ، ولكن قلوبهم خاوية على عروشها ، خالية من مقومات الإيمان ، فهم قوم أصلحوا

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 52 _

  ظواهرهم للناس وخربوا بواطنهم أمام الله ، { إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ، وإنما ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم }.
  وهذا القسم يشمل طبقات متعددة من المسلمين منذ بداية الدعوة الإسلامية في مكة والمدينة وفشى واستشرى بعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الرفيق الأعلى ، وما زال هذا القسم مستمرا حتى يومنا هذا ، فتنزل بهم التعرفات الجلالية لتكشف حقيقتهم ، ولتنضح قلوبهم بما فيها ، لتفضحهم وتظهر كذبهم ونفاقهم ، فمن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الإمتحان ، فكانت الإبتلاءات لهم تمييزا لهم وفضحا لأحوالهم ، وكشفا لحقيقتهم ، فتجدهم عند سكرات الموت ، يظهرون كثيرا مما كان منهم في حياتهم من ظلم واعتداء على عباد الله تعالى ، وتهجم على بيوت أولياء الله ، وحرقها والإعتداء على المسلمين ، فيظهرون ندمهم في اللحظات الأخيرة من الحياة ، فمنهم من قال ( وددت أني كنت نسياً منسيا ) ومنهم من قال ( وددت أني لم أكن أكشف بيت فاطمة وتركته ) ومنهم من يقول ( يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ) ومنهم من يقول ( يا ليتني كنت ترابا ).
  بينما تجد المؤمن الصادق في شوق إلى لقاء ربه ولقاء نبيه وأئمته ، هذا حالهم عند الموت ، فهذا بلال رضي الله عنه كان يردد وهو في حالة النزاع يقول ( واطرباه ، غداً نلقى الأحبه ، محمداً وصحبه ) وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قولته المشهورة ( فزت ورب الكعبة ) بعدما ضربه ابن ملجم لعنة الله عليه.
  قال تعالى في سورة العنكبوت الآيات 1 ـ 3 { الم ، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين }.
  وقال تعالى في سورة العنكبوت الآيات : 4 ـ 7 { أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون ، من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ، ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون }.

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 53 _

  وقال تعالى في سورة العنكبوت الآية 10 ـ 11 { ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ، وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين }.
  لاحظ الآيات كيف توضح أن الناس أنواع بحسب ادعاءاتهم وأحوالهم ، فمنهم الصادق ومنهم المنافق ومنهم الكاذب ومنهم الضعيف الذي بميل مرة مع المؤمنين ومرة مع الضائعين في الدنيا ، فجاءت التعرفات الجلالية لتضع كل واحد منهم في موقعه الذي يستحقه ، وكشفت عن حقيقته والتزامه بما يقول ويدعي ، فيطهر من كان من المؤمنين الصادقين من كان من السابقين ، وأما إن كان من أهل اليمين ، تكون التعرفات بالنسبة له تنبيه وتذكير وتأديب ، وعلى كل فكلا الحالتين هي تمييز لهما عن أهل العقوبة والطرد ، ابتلاء المال والبدن وما يرتبط بهما و لبيان تلك الأقسام من التعرفات الجلالية وبيان أماكن تأثيرها ، نقول أنها ربما تكون في نفس العبد وبدنه وما يخصه من مال أو أهل أو ولد أو عرض ، ويكون ذلك تأديب وتهذيب وتطهير.
  أخرج ابن عدي والبيهقي وضعفه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن الله ليبتلي عبده بالبلاء والألم حتى يتركه من ذنبه كالفضة المصفاة ) وأخرج أحمد عن أبي الدرداء ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن الصداع والمليلة لا يزال بالمؤمن وإن ذنبه مثل أحد فما يتركه وعليه من ذلك مثقال حبة من خردل ) وأخرج أحمد عن خالد بن عبد الله القسري عن جده يزيد بن أسد أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : المريض تحات خطاياه كما يتحات ورق الشجر.
  وأخرج ابن أبي شيبة عن سلمان قال : إن المؤمن يصيبه الله بالبلاء ثم يعافيه فيكون كفارة لسيئاته ومستعتبا فيما بقي ، وإن الفاجر يصيبه الله بالبلاء ثم

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 54 _

  يعافيه فيكون كالبعير عقله أهله ، لا يدري لم عقلوه ثم أرسلوه فلا يدري لم أرسلوه.
  وأخرج ابن أبي شيبة عن عمار أنه كان عنده أعرابي ، فذكروا الوجع فقال عمار : ما اشتكيت قط ؟ قال : لا ، فقال عمار : لست منا ، ما من عبد يبتلى إلا حط عنه خطاياه كما تحط الشجرة ورقها ، وإن الكافر يبتلى فمثله مثل البعير عقل فلم يدر لم عقل ، وأطلق فلم يدر لم أطلق.
  روى الحاكم في المستدرك قال ، قال النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : ( ما يزال البلاء بالمؤمن في جسده وماله ، حتى يلقى الله ـ تعالى ـ وما عليه خطيئة ).
  ومن الضروري أن يتذكر القارئ العزيز أن هذا الثواب العظيم ، المذكور في الأحاديث ، يختص بالمؤمنين ، فليس كل مبتلى يكون ابتلاءه تطهير وتزكية بل ربما يكون عقوبة ، ولذلك تصف الأحاديث العبد المبتلى بالمؤمن ، وحتى أعزز المعنى أضيف مجموعة من الأحاديث عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ، توضح معنى هذا النوع من الإبتلاء.
  قال الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام ، قال : فيما أوحى الله إلى موسى عليه السلام أن يا موسى ما خلقت خلقا أحب إلي من عبدي المؤمن ، وإني إنما أبتليه لما هو خير له ، وأعطيه لما هو خير له ، وأزوي عنه لما هو خير له ، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي ، فليصبر على بلائي ، وليرض بقضائي ، وليشكر نعمائي ، أكتبه في الصديقين عندي إذا عمل برضائي وأطاع أمري وعن أبي الحسن عليه السلام قال : ما أحد من شيعتنا يبتليه الله عز وجل ببلية فيصبر عليها إلا كان له أجر ألف شهيد وعن أبي جعفر عليه السلام قال : إن الله تبارك وتعالى إذا كان من أمره أن يكرم عبدا وله عنده ذنب ابتلاه بالسقم ، فإن لم يفعل ابتلاه بالحاجة ، فإن هو لم يفعل شدد عليه عند الموت ، وإذا كان من أمره أن يهين عبدا وله عنده حسنة أصح بدنه ، فإن هو لم يفعل وسع في معيشته ، فإن هو لم يفعل هون عليه الموت.

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 55 _

  وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : قال الله تبارك وتعالى : وعزتي لا إخرج لي عبدا من الدنيا أريد رحمته ، إلا استوفيت كل سيئة هي له ، إما بالضيق في رزقه ، أو ببلاء في جسده ، وإما خوف أدخله عليه ، فإن بقي عليه شيء ، شددت عليه الموت.
  وعن أبي جعفر عليه السلام قال : مر نبي من أنبياء بني إسرائيل برجل بعضه تحت حائط وبعضه خارج منه ، فما كان خارجا منه قد نقبته الطير ومزقته الكلاب ، ثم مضى ووقعت له مدينة فدخلها ، فإذا هو بعظيم من عظمائها ميت ، على سرير مسجى بالديباج حوله المجامر ، فقال : يا رب إنك حكم عدل لا تجور ، ذاك عبدك لم يشرك بك طرفة عين ، أمته بتلك الميتة ، وهذا عبدك لم يؤمن بك طرفة عين أمته بهذه الميتة ، فقال الله عزوجل : عبدي أنا كما قلت حكم عدل لا أجور ، ذاك عبدي كانت له عندي سيئة وذنب ، فأمته بتلك الميتة لكي يلقاني ولم يبق عليه شيء ، وهذا عبدي كانت له عندي حسنة ، فأمته بهذه الميتة لكي يلقاني وليس له عندي شيء.
  عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه رفعه قال : بينما موسى يمشي على ساحل البحر ، إذ جاء صياد فخر للشمس ساجدا ، وتكلم بالشرك ، ثم ألقى شبكته فأخرجها مملوءة ، فأعادها فأخرجها مملوءة ، ثم أعادها فأخرج مثل ذلك ، حتى اكتفى ثم مضى.
  ثم جاء آخر فتوضأ ثم قام وصلى وحمد الله وأثنى عليه ، ثم ألقى شبكته فلم تخرج شيئا ، ثم أعاد فلم تخرج شيئا ، ثم أعاد فخرجت سمكة صغيرة ، فحمد الله وأثنى عليه وانصرف.
  فقال موسى : يا رب عبدك جاء فكفر بك وصلى للشمس وتكلم بالشرك ، ثم ألقى شبكته ، فأخرجها مملوءة ، ثم أعادها فأخرجها مملوءة ، ثم أعادها فأخرجها مثل ذلك حتى اكتفى وانصرف ، وجاء عبدك المؤمن فتوضأ وأسبغ الوضوء ثم صلى وحمد ودعا وأثنى ، ثم ألقى شبكته فلم يخرج شيئا ، ثم أعاد فلم يخرج شيئا ، ثم أعاد فأخرج سمكة صغيرة فحمدك وانصرف! ؟
  فأوحى الله إليه : يا موسى انظر عن يمينك ، فنظر موسى فكشف له عما أعده

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 56 _

  الله لعبده المؤمن فنظر ، ثم قيل له : يا موسى انظر عن يسارك فكشف له عما أعده الله لعبده الكافر فنظر ، ثم قال الله تعالى : يا موسى ما نفع هذا ما أعطيته ، ولا ضر هذا ما منعته ، فقال موسى ، يا رب حق لمن عرفك أن يرضى بما صنعت.

إبتلاء العبد بما يسمع ويشاهد

  وأيضا يكون الإبتلاء فيما ينزل من تعرفات وتنزلات جلالية بغيره ، كالتي يراها أو يسمع عنها تقع لغيره ليكون عبرة وتذكرة للمشاهد والمستمع ، كأن يرى شخصا مبتلى بمرض معين ، أو حادث سير ، أو زلزال ، أو ظلم هنا أو هناك يقع في منطقة يسمع عنها أو يراها من خلال المحطات الفضائية ، أو كأن يقرأ أو يسمع عن مظلوميات أهل البيت عليهم السلام وحقوقهم وأحقيتهم ، فيكون ذلك عبرة لتنبيه العبد وتذكيره بحقيقة نفسه وعبوديته ، ومن أجل التمسك بتعاليم دينه أو العودة إليها ، فيستفيد من تلك التعرفات التنبيه والتذكير.
  فإذا كان المشهد الذي سمعه أو رآه يتعلق بظلم أو إيذاء لمن حرم الله إيذاءهم وظلمهم ، فإن الإبتلاء هنا يكون من حيث الرضى أو السخط ، ومن حيث الولاء والبراء ، لأن من رضي بأفعال الظالمين أو المستكبرين الخاطئين فهو منهم حتى وإن كانت الفترة الزمنية بينه وبين فعل الظالمين المستكبرين طويلة ، فمن ابتلي بسماع قصص المستكبرين الظالمين الفاسقين ورضي بها وأقرها فهو منهم بدون أدنى شك ، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها ـ وقال مرة فأنكرها ـ كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها).
  أو ربما يكون العبد في الأصل من أهل الإيمان والإعتبار فيزداد بالتعرف الإلهي والإبتلاء معرفة وخشية من الله تعالى ، أو يستفيد معرفة حقيقة كانت غائبة عنه فيتوب ويتطهر.
  قال تعالى في سورة طه الآيات 1 ـ 4 { طه ، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ، إلا تذكرة لمن يخشى ، تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى }.

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 57 _

  لاحظ عند استماع أو قراءة الآيات التالية ، كيف يكون التأثير على العبد عند اعتقاد ضرورة معرفة ما جرى في تاريخ الأمم عموما وتأريخ المسلمين خصوصا ، لابد وأن يقف على الكثير من المحطات والمواقف التي تدعوا للتفكر والتذكر من خلال العبرة والتبصر.
  قال تعالى في سورة الحاقة الآية 11 ـ 12 { إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية ، لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية }.
  فالأذن الواعية هي التي عقلت عن الله تعالى وانتفعت بما سمعت ، وهي أذن أمير المؤمنين على ابن أبي طالب عليه السلام ، ومن له أسوة وقدوة برسول الله وأمير المؤمنين وأهل البيت ، فإنه ولاشك ينتفع بما يسمع ، لأنه يعلم أن السمع والطاعة لرسول الله وأهل بيته المعصومين من أهم مظاهر العبودية لله تعالى.
  أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والواحدي وابن مردويه وابن عساكر وابن البخاري عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي : ( إن الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك ، وأن أعلمك ، وأن تعي ، وحق لك أن تعي ) فنزلت هذه الآية { وتعيها أذن واعية }.
  وأخرج أبو نعيم في الحلية عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( يا علي إن الله أمرني أن أدنيك وأعلمك لتعي ) فأنزلت هذه الآية { وتعيها أذن واعية } ( فأنت أذن واعية لعلمي ).
  قال تعالى في سورة المزمل الآية 15 ـ 19 { إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا ، فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا ، فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا ، السماء منفطر به كان وعده مفعولا ، إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا }.
  قال تعالى في سورة ق الآية 36 ـ 38 { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص ، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد }.

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 58 _

التنبه لابتلاء أهل البيت عليهم السلام

  وأهم ما يجب على العبد معرفته مما يسمع ويشاهد ، معرفة ابتلاءات النبي وأهل البيت عليهم الصلاة والسلام.
  لأن في معرفتها والتنبه الدائم والمستمر لها ، والاعتبار من تفاصيلها ، وتحديد خط السير للعبد المؤمن في الحياة الذي فيه النجاة والتطهير والتزكية ، فإن العبد يطهر بولايتهم ونصرتهم واتباعهم كما بينت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية عند كل المسلمين ، فهم الطاهرون المطهرون ، قال تعالى { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا }.
  ومن اتخذ الطاهرين المطهرين قدوة وأسوة فلاشك أنه يطهر ويتطهر ، يطهر بحبهم وولايتهم واتباعهم ، ويحقق رضى ربه وسيده ومولاه ، فقد كان ميزان الطهارة هذا ظاهر في تصرفات الصحابة المؤمنين منذ العصر الأول للإسلام ، فقد ورد عن عدد كبير منهم رضي الله عنهم أنهم قالوا ( كنَّا نَبُور أولادنا بَحُبّ علي عليه السلام ).
  ورد في الزيارة الجامعة ( وجعل صلواتنا عليكم ، وما خصّنا به من ولايتكم ، طيباً لخلقنا ، وطهارة لأنفسنا ، وتزكية لنا ، وكفّارة لذنوبنا ، فكنّا عنده مسلمين بفضلكم ، ومعروفين بتصديقنا إيّاكم ) .
  وورد في زيارة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام ( فاشهدي أنّي طاهر بولايتك وولاية آل نبيّك محمد صلى الله عليه وآله ).
  فإما أن يسير العبد مع الناجين ، ويتجنب الآثار السلبية للإبتلاء ، ويوالى من أمر الله بولايتهم واتباعهم والإقتداء بهديهم ، فيركب سفينة النجاة سفينة أهل البيت عليهم السلام ، فتكون ابتلاءاته تطهيرا له وتزكية من الله ورسوله ، وفوزا عظيما في الآخرة.
  وأما من لا يتنبه إلى أئمته من أهل البيت ، فإنه يضيع مع آثار الإبتلاء السلبية ، ويبتعد عن ربه ودينه لأنه عليهم السلام الصلة بين العبد وربه ، وربما كان موقفه مع الظالمين الذين ظلموا أهل البيت واعتدوا على حقوقهم وأحقيتهم التي فرضها الله تعالى لهم ، فيحرم من الورود على الحوض يوم القيامة ، مثل الصحابة الذين غيروا وبدلوا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وتركوا

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 59 _

  أوامر الله تعالى في ولاية أهل البيت عليهم السلام ، فيجدوا أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام بينهم وبين الحوض يحجزهم عنه.

الوفاء بالعهود تمييز للصادق من الكاذب

  إن الوفاء بالعهد من أهم ابتلاءات تمييز الصادقين من الكاذبين ، والمتمكنين من المدعين ، وتمييز الخبيث من الطيب.
  قال تعالى في سورة الأحزاب الآية : 23 ـ 24 { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ، ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما }.
  قال تعالى في سورة الرعد ، الآية : 19 ـ 21 { أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب }.
  فلطالما قطعت العهود على إتباع وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أمام رسول الله صلى الله عليه وآله ، خاصة في يوم الغدير عندما بايعوا عليا عليه السلام بإمرة المؤمنين ، وهنأه المسلمون على ذلك ، وشهد كل المسلمين بولايته عليه السلام ، ولقد ورد حديث الغدير يوم أخذت العهود لولايته عليه السلام في كل كتب المسلمين وهو حديث متواتر مقطوع بتواتره عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأورد للقارئ العزيز رواية مجملة منه.
  حج رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في السنة العاشرة من الهجرة حجة الوداع ، وخرج معه خلق كثير من المدينة وممّن توافد على المدينة ليخرجوا مع رسول للحج في تلك السنة ، ويتراوح تقدير أصحاب السير لمن خرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ للحج بين تسعين ألفا ومئة وأربعة وعشرين ألفا ، عدا من حجّ مع رسول اللّه في تلك السنة من مكة المكرمة وممّن التحق برسول اللّه في مكة من اليمن ومن العشائر الذين توافدوا إلى مكة للحج.

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 60 _

  وفي عودته صلى الله عليه وآله وسلم من الحج في طريقه إلى المدينة نزل رسول اللّه بـ (غدير خم) في يوم صائف شديد الحرّ في الثامن عشر من ذي الحجة ، فأذّن مؤذن رسول اللّه بردّ من تقدّم من الناس وحبس من تأخر عنهم في ذلك المكان ، فصلّى بالناس الظهر ، وكان يوما هاجرا ، يضع الرجل بعض ردائه على رأسه ، وبعضه تحت قدميه من شدة الرمضاء ، وظلّل لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بثوب على شجرة سمرة من الشمس ، فلما انصرف رسول اللّه من صلاته قام خطيبا ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثم أخذ بيد علي عليه السلام فرفعها حتى رؤي بياض آباطهما وعرفه القوم جميعا ، فقال : أيّها الناس ألست أولى بكم من أنفسكم ؟ ، قالوا : بلى.
  فقال : ( من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ) ـ يقولها أربع مرّات كما يروي أحمد بن حنبل ـ ، ثم قال : ( اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار ، ألا فليبلّغ الشاهد الغائب ).
  فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأقتاب التي صفت له ، أخذ الناس يهنئون عليا عليه السلام يومئذ بالولاية ، وممّن هنأه يومئذ بالولاية الشيخان أبو بكر وعمر ، قالا له : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.
  ثم هناك عهد قد قطعه الله تعالى على المسلمين ، في كل زمان ومكان ، في قوله تعالى في سورة الشورى ، الآية : 23 { ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور }.
  أخرج أبو نعيم والديلمي من طريق مجاهد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { لا أسألكم عليه أجر إلا المودة في القربى } ( أن تحفظوني في أهل بيتي وتودوهم بي ).
  وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 61 _

  المودة في القربى } قالوا : يا رسول الله ، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت مودتهم ؟ قال : علي وفاطمة وولداها.
  وأخرج سعيد بن منصور ، عن سعيد بن جبير { إلا المودة في القربى } قال : قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
  وأخرج ابن جرير عن أبي الديلم ، قال : لما جيء بعلي بن الحسين ـ عليه السلام ـ أسيرا ، فأقيم على درج دمشق ، قام رجل من أهل الشام فقال : الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم ، فقال له علي بن الحسين ـ عليه السلام : أقرأت القرآن ؟ قال : نعم ، قال : أقرأت آل حم ؟ قال نعم ، قال : أما قرأت { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } قال : فأنكم لأنتم هم ؟ قال : نعم.
  وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس { ومن يقترف حسنة } قال : المودة لآل محمد.
  وقد ذكرت النصوص الشرعية ، عددا كبيرا من العهود تتعلق مباشرة بأهل البيت عليهم السلام ، تأكيدا على دورهم العظيم في الإمتحان الإلهي لعبيده.
  فماذا فعل العباد بأهل البيت عليهم السلام ؟ هل أوفوا بعهودهم التي قطعوها على أنفسهم ؟ هل تفكر العباد بأن ابتلاءهم واختبارهم بأهل البيت عليهم السلام من أعظم الإختبارات والتعرفات الربانية التي تميز المؤمن من غير المؤمن ، والموفي بعهده من الناقض لها ؟ هل وصل العباد ما أمر الله به أن يوصل ؟.
  فهم عليهم السلام الباب الأعظم المبتلى والممتحن به الناس ، فمن نجح في الإختبار وأوفى بعهده فقد نجى ، ومن سقط في الإختبار فقد ضل وهلك والعياذ بالله.
  تنبه الشيعة لأئمتهم منقطع النظير إن الناظر إلى أتباع أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم المخلصين ، الذين أوفوا بعهدهم ووصلوا ما أمر الله به أن يوصل ، يجدهم يتميزون في إتباعهم لأهل البيت عليهم السلام ، فقد نجحوا في الإمتحان الأعظم للعباد ، وحصلوا على أعلى الدرجات في حبهم وولائهم لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فمن أجل دوام التذكر والتفكر والتنبه لأئمتهم ، تجدهم دائما يحيون

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 62 _

  مناسبات أهل البيت عليهم السلام ، ويحافظون على إحيائها بالرغم من كل المعاناة والمحن التي تعرض لها أهل البيت وشيعتهم عبر كل العصور الغابرة ، وحتى يومنا هذا ، تجدهم يبكون في ذكريات استشهاد أهل البيت عليهم السلام ، ويفرحون لأفراحهم ، ويعرفون الناس معنى الوفاء ومعنى الإتباع والإقتداء ، ومعنى تعظيم شعائر الله ، وإحياء لأمر أحباب الله ، فقد أمرنا رسول الله والأئمة من أهل البيت عليهم الصلاة والسلام بإحياء أمرهم ، فقالوا ( أحيوا أمرنا ، رحم الله من أحيا أمرنا ).
  وفي الحقيقة فأنك لن تجد اليوم من يتذكر أهل البيت ويتنبه لهم ويحيي أمرهم ويواليهم ويوفي بعهده معهم ، وينتظر فرجهم ، غير شيعة أهل البيت عليهم السلام.
  فبالرغم من كل رسائل التنبيه الربانية ، وكذلك الإبتلاء الذي ينزل بالمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بسبب الضلال الذي تفشى بسبب معصية أمر الله ورسوله حيث قال رسول الله لنا ، لن تضلوا ما إن تمسكتم بالقرآن وأهل البيت ، وبالرغم من الذل والهوان الذي تعانى الأمة الإسلامية ، فإن أغلب المسلمين يترفعون بل وربما يستكبرون عن البحث في أهل البيت وولايتهم ، بل وربما قادهم العمى في بصائرهم أن يكفروا أتباع أهل البيت وشيعتهم المؤمنين الصادقين ، والسبب في ذلك الجهل في معنى العبودية ومعنى الإبتلاء والإختبار الذي جعله الله تعالى ، من أجل أن يشهد العبد فيه على حقيقة ما يدعيه من إلتزام واستسلام لله الواحد الأحد ، والإقتداء برسوله محمد صلى الله عليه وآله الذي طالما يذكره أغلب المسلمين في كل وقت وحين من دون أن يصلوا على أهل بيته أو يتذكرونهم ، بل يدعون حب رسول الله المجرد مع أن الرسول قال عن أهل البيت أن من أحبهم فقد أحب الله ورسوله ومن أبغضهم فقد أبغض الله ورسوله ، فكيف يدعي العبد محبة ربه ورسول ربه وهو يبغض أحباب الله ورسوله ، ويوالي أعداءهم ظالميهم ومبغضيهم ؟.
  حقيقة إن هذا لهو البلاء العظيم ، ولذلك روي في الزيارة الجامعة أنهم عليهم السلام الباب المبتلى به

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 63 _

  الناس ، ولم يدرك ذلك المعنى ويتنبه له سوى شيعتهم وأتباعهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
  النوع الثالث من الإبتلاء :
  وهو إبتلاء الكاذبين أهل الشمال ، وهذا النوع من الإبتلاء تكون نتيجته عقوبة وطرد ، وذلك لمن يسيء الأدب على بساط العبودية ويستكبر ، فيؤدبه الله تعالى على استكباره وخروجه عن بساط العبودية ، فيعاقبه الله تعالى في الدنيا قبل الآخرة ، وذلك بعد أن يمتحن بتعرفات جلالية تنزل في حقه على شكل عقوبات قهرية ، فيسخط ويقنط من رحمة الله ، ويزداد استكبارا وتطاولا على مقام الربوبية ، فينكر ويزداد من الله بعدا وطردا من رحمة الله تعالى.
  وهذه العقوبة الربانية تأتي بعد أن تقام الحجة ، وتستبين الفضيلة ، وتظهر الآيات البينات من الله تعالى ، فيترفع العبد عن مقام العبودية ويستكبر ، فيعرض نفسه للإختبارات الإلهية التي من نتائجها أن يجلي عن حقيقة ذاته وسلوكه ، فبالتالي تنطبق عليه موازين استحقاق نتائج الإختبار فتنزل به التعرفات الجلالية ، فيزداد استكبارا عن مقام العبودية وتطاولا على مقام الربوبية ، فيستحق اللعن والطرد ، ليعلن عن نفسه أنه من أهل الباطل والضلال المستكبرين ، والقانطين من رحمة الله ، الظالمين لأنفسهم ولعباد الله ، ويصبح من حزب المتألهين المتجبرين والمتسلطين بالجبروت.
  وأمثال هؤلاء اليوم كثر ، فبالأمس كان الفراعنة والطواغيت الذين ذكرهم القرآن الكريم ، وأمثال معاوية ويزيد ، وابن ملجم وابن الحكم وابن زياد وابن ذي الجوشن وأتباعهم ومن والاهم ومن رضي بأفعالهم وسلوكهم ، الملعونين على لسان رسول الله وأهل بيته المعصومين ، الذين استكبروا عن مقام العبودية ، ورفضوا مقام السمع والطاعة لرسول الله والعترة الطاهرة ، فأهلكهم الله تعالى ، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
  واليوم الشيطان الأكبر وعاد الثانية ، وأحفاد القردة والخنازير ، وأحفاد بلعم بن باعوراء ومن والاهم واقتدى باستكبارهم ، من أمثال أولئك خوارج العصر الحديث المكفرين للمسلمين ، الذين يستمدون قهرهم وظلمهم لعباد الله

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 64 _

  المؤمنين ، من أسلافهم وأسوتهم المذكورين ، الذين يعتبرون عباد الله المؤمنين ، خارجين عن قواعد الشياطين ، وقوانين إبليس اللعين.
  وهؤلاء المطرودين من رحمة الله ، الملعونين على كل لسان ، سوف تنزل بهم العقوبة الإلهية أو بالأحرى عينات من العقوبات الإلهية القهرية التي نرى طلائعها تتجه نحوهم حتى تصيبهم في مقاتلهم ، ثم يفضحهم الله تعالى ، بالذل والعار والخزي في الدنيا قبل الآخرة ، على يد إمامنا الموعود المهدي المنتظر ، حتى يقصمهم الله القوي العزيز ، ويذل استكبارهم ويخزيهم ، ويشف صدور قوم مؤمنين.
  وينطبق هذا النوع من الإبتلاء ونتائجه على الكثير من أفراد العباد من المسلمين ، بعد أن تقام الحجة عليهم وبعد تذكيرهم بمقام العبودية ، والسمع والطاعة للوسيلة بين العبودية والربوبية رسول الله وأهل بيته الطاهرين المعصومين ، لكنهم يستكبرون عن آيات الله ، ويدعون أنهم من المسلمين المؤمنين ، مع أن إتباعهم للهوى والرأي العاجز الناقص واضح وجلي ، ويستكبرون على أوصاف العبودية لله التي أعزهم الله بها ورفعهم بها ، لكنهم اتبعوا الشياطين وبقوا في حظيرة الذل والخسران المبين.
  قال تعالى في سورة الأعراف ، الآية : 175 { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون }.

أمراض وضغائن :

  وهذا الصنف من الناس ، الذين هم من أهل الطرد واللعن ، هم في الحقيقة مرضى في قلوبهم ونفسياتهم ، مرضى بالآفات بشتى أنواعها وأصنافها ، ومع مرور الوقت تنضح قلوبهم بأعراض تلك الأمراض والآفات على جوارحهم ، لتنضح قلوبهم بما فيها ، وتظهر للعلن ، حتى تصير أمراضهم مزمنة عضال لا يمكن علاجها ، ولا يمكن لأحد أن يعرف أو يكشف حقيقة تناقضهم إلا الله تعالى

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 65 _

  الذي ينزل بهم التعرفات الإلهية ، وتكون نتائجها كشف وإظهار حقيقة ظاهرهم وباطنهم ، قال تعالى في سورة محمد الآية : 29 ـ 30 { أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ، ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم }.
نقض العهود

  ومن أهم عوامل استحقاق عقوبة اللعن والطرد ونزول هذا النوع من المصائب والإبتلاءات هو نقض العهود ، ومن الطبيعي أن تكون هناك عوامل أخرى ، ولكن نقض العهود من أهمها.
  وأهم تلك العهود هو عهد السمع والطاعة ، عهد الأسوة والإقتداء ، عهد المتابعة والمولاة لرسول الله وأهل بيته الأئمة المعصومين عليهم الصلاة والسلام.
  قال تعالى في سورة الرعد الآية 25 { والّذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللّعنة ولهم سوء الدّار }.
  إن من أهم مظاهر العبودية لله تعالى هي طاعة رسوله محمد في كل شيء ، ولأجل ذلك لا يقبل الإسلام إلا بالشهادتين ، فعندما يشهد العبد بهما يأخذ عهدا على نفسه بالسمع والطاعة لله تعالى من خلال من شهد العبد برسالته عند النطق بالشهادتين وهو رسول الله وأهل بيته المعصومين.
  وفيما يتعلق بتوثيق العهود والمواثيق على العباد ، من أجل تصديق رسول الله صلى الله عليه وآله والسمع والطاعة له وأهل بيته المعصومين ونصرتهم ، أخذت العهود على العباد كافة وعلى رأسهم الأنبياء والمرسلين ، يقول سبحانه وتعالى في سورة آل عمران الآية 81 { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين }.

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 66 _

  وقال تعالى في سورة الفتح الآية 8 ـ 9 { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ، لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا }.
  روى السيوطي في الدر المنثور قال أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله { وتعزروه } يعني الإجلال { وتوقروه } يعني التعظيم ، يعني محمدا صلى الله عليه وآله وسلم.
  ولذلك فإن من أهم مظاهر العبودية لله تعالى إحترام رسول الله وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام ، واجتناب كل ما فيه أذى لرسول الله وأهل بيته ، لأن من آذى رسول الله فقد آذى الله ، ولقد كان إيذاء رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته المعصومين الطاهرين ، سببا رئيسيا في طرد ولعن العديد من الناس في عهد رسول الله المكي منه والمدني ، وهذا ما تؤكد عليه الآية التالية.
  قال تعالى في سورة الأحزاب الآية : 57 { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا }.
  وأخرج الحاكم عن ابن أبي مليكة قال : جاء رجل من أهل الشام ، فسب عليا عليه السلام عند ابن عباس رضي الله عنهما ، فحصبه ابن عباس رضي الله عنهما وقال : يا عدو الله آذيت رسول الله { ان الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة }.
  وروى الحاكم في المستدرك عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال ( ستة لعنتهم ولعنهم الله وكل نبي مجاب : ... منهم المتسلط بالجبروت فيعز بذلك من أذل الله ويذل من أعز الله ، والمستحل لحرم الله ، والمستحل من عترتي ما حرم الله ، والتارك لسنتي ) ورواه الحاكم عن ابن عمر ، ورواه السيوطي وقال صحيح ورواه الترمذي ، والمناوي ، وكنز العمال عن عمرو بن شعيب ، والطبراني ، وابن حبان وقال رجاله رجال الصحيح ، ورواه في مجمع الزوائد ، والخطيب عن أمير المؤمنين علي عليه السلام.
  وروى الزمخشري في الكشاف قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من مات على حب آل محمد مات شهيدا ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الإيمان ، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 67 _

  بالجنة ثم منكر ونكير ، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له قبره بابان إلى الجنة ، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله ، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافرا ، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة ).
  والأحاديث التي تحذر من أذية أهل البيت وظلمهم أكثر من أن تحصى ، تجدها في مصادر كل طوائف المسلمين ، أذكر القارئ العزيز بجملة مختصرة منها.
  قال رسول الله صلى الله عليه وآله ( فاطمة بضعة مني ، فمن أغضبها أغضبني ) ، ومنها قوله ( فاطمة بضعة مني ، يريبني ما أرابها ، ويؤذيني ما أذاها ).
  وحديث يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق ، وحديث من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله ، وقوله صلى الله عليه وآله من آذى عليا فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله.
  وروى السيوطي في الدر المنثور قال ، أخرج ابن مردويه عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لجهنم باب لا يدخل منه إلا من أخفرني في أهل بيتي وأراق دماءهم من بعدي.
  وأخرج ابن مردويه عن أنس قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ( قد أعطيت الكوثر ، قلت يا رسول الله : ما الكوثر ؟ قال : نهر في الجنة عرضه وطوله ما بين المشرق والمغرب لا يشرب منه أحد فيظمأ ولا يتوضأ منه أحد فيتشعث أبدا ، لا يشرب منه من أخفر ذمتي ولا من قتل أهل بيتي.
  وروى السيوطي عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال أما بعد ، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، من استمسك به وأخذ به كان

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 68 _

  على الهدى ، ومن أخطأه ضل ، فخذوا بكتاب الله تعالى ، واستمسكوا به ، وأهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، ورواه الحاكم ومسلم وأحمد وغيرهم كثير.
  روى الحاكم في المستدرك عن أبي سعيد الخدري قال ، قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ( إن أهل بيتي سيلقون من بعدي من أمتي قتلا وتشريدا ، وإن أشد قومنا لنا بغضا : بنو أمية ، وبنو المغيرة ، وبنو مخزوم ).
  وروى السيوطي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ( ما بال أقوام إذا جلس إليهم أحد من أهل بيتي قطعوا حديثهم والذي نفسي بيده لا يدخل قلب إمرئ الإيمان حتى يحبهم لله ولقرابتي ).
  وروى السيوطي عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ( اشتد غضب الله على من آذاني في عترتي ) ورواه في كنز العمال والديلمي وغيرهم كثير.
  فما بالك بمن آذاهم وظلمهم وضربهم وقتلهم أوسمهم ، وما بالك بمن أبغضهم وعاداهم ، وما بالك بمن انتزع منهم حقوقهم واغتصب حق الإمامة من أمير المؤمنين علي والأئمة من ولده عليهم السلام ، وانتزع فدكا وحقوق السيدة فاطمة الزهراء الأخرى ، وما بالك بمن تهجم على بيتها عليها السلام وحرقه وضربها وأسقط جنينها المحسن ، وما بالك بمن سم الإمام الحسن وقتل الإمام الحسين سيدا شباب أهل الجنة وريحانتي رسول الله من الدنيا ، وما بالك بمن لاحق بقية الأئمة من أهل البيت عليهم السلام وسجنهم أو نفاهم أو سمهم ولاحق أتباعهم وشيعتهم بالضرب والتعذيب والسجن والحرق وحرمهم من كل حقوقهم ، أليس في كل ذلك أذى لله ورسوله ؟
  كما ترى عزيزي القارئ ، فأن أغلب حالات اللعن من الله ورسوله والطرد من رحمة الله تعالى هي في حق من اختبر وامتحن بمحمد وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام ، فاستكبر وتجبر ، وتسلط على رسول الله وأهل بيته ، وآذاهم وظلمهم واعتدى عليهم ، فخرج عن حقيقة العبودية لله تعالى ، وبالتالي استحق اللعن والطرد من رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة.

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 69 _

التوحيد وولاية أهل البيت عليهم السلام

  لاحظ عزيزي القارئ أن الإبتلاء على بساط العبودية ، ومن أجل إثبات التوحيد والعقائد وكذلك من أجل بيان وإثبات صحة الأحكام الشرعية ، فإنك تجد النبي وأهل البيت في المقدمة دائما ، كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقدمهم في كل أمر خطير وجليل ، يبدأ بهم لأنهم الأدلاء على مصداقية هذا الدين العظيم ، لاحظوا آية المباهلة عندما قدم رسول الله أهل البيت عليهم السلام من أجل إثبات الحقيقة أمام الناس قال تعالى في سورة آل عمران ، الآية : 61 { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين }.
  ومن هذا المنطلق ، ومن موقعية أهل البيت ودورهم الأساسي في الدعوة إلى الله تعالى وعبوديته ، فإن مقياس هذا النوع من الإبتلاء كغيره من الأنواع هو رسول الله وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام ، من حيث الولاية والبراءة ، أي ولايتهم وحبهم والبراءة من أعدائهم ، ولا يكتمل معنى كلمة التوحيد إلا بتحقيق الولاء والبراء على بساط العبودية لله ، وهذا لا يخلو من ولايتهم والبراءة من أعدائهم.
  روي في مصادر الشيعة والسنة بالسلسلة الذهبية لرجال الحديث أنه لمّا وافى أبو الحسن الرضا عليه السّلام نيسابور وأراد أن يرحل منها إلى المأمون اجتمع عليه أصحاب الحديث فقالوا : يا بن رسول الله صلّى الله عليه وآله ، ترحل عنا ولا تحدّثنا بحديث فنستفيده منك ! ـ وقد كان قعد في العماريّة ـ فأطْلع رأسه وقال : سمعتُ أبي موسى بنَ جعفر يقول : سمعت أبي جعفرَ بن محمّد يقول : سمعت أبي محمّدَ بن عليّ يقول : سمعت أبي عليَّ بن الحسين يقول : سمعت أبي الحسينَ بن علي يقول : سمعت أبي اميرَ المؤمنين عليّ بن أبي طالب يقول : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول : سمعت جبرئيل يقول : سمعت الله عزّ وجلّ يقول : لا إله إلاّ الله حصني ، فمن دخل حصني أمنَ من عذابي.

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 70 _

  فلمّا مرّت الراحلة نادانا : بشروطها ، وأنا من شروطها ، رواه من أهل السنة القندوزي الحنفي ، وأبو نعيم في حلية الأولياء ، والمناوي في فيض القدير ، والحاكم في تاريخ نيسابور ، والشبلنجي الشافعي ، وابن حجر في الصواعق المحرقة ، ورواه غيرهم كثير ، العقوبات الفورية والمؤجلة بالإضافة إلى ذلك ، فإن المقياس لهذا النوع من الإبتلاء ينحصر أكثر في رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكذلك في أهل البيت عليهم السلام من ناحية طاعتهم أو مخالفتهم ، وأيضا من ناحية إيذائهم وظلمهم ، والإستهزاء بهم وبدعوتهم ، في هذه الحالة تبدو عقوبة الطرد من رحمة الله واضحة في حق من يفعل ذلك بهم ، كما ويستحق اللعن في الدنيا والآخرة من الله والملائكة والناس أجمعين.
  فهذا أبو لهب الذي آذى الله ورسوله ، وآذى المسلمين ، واستكبر على عبودية رب العباد ، بعد أن أقام رسول الله صلى الله عليه وآله الحجة عليه وعلى قريش كافة ، لكنه تمادى في استكباره وأذيته لرسول الله ، فلعنه الله وطرده من رحمته ونزلت في حقه سورة كاملة وهي تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب ... ثم أظهر الله خسته وذلته وقيمته الحقيقية في الدنيا وأمام الملأ ، قبل عقاب الآخرة.
  فقد روى الحاكم في المستدرك عن وفاة أبي لهب ، الرواية التالية عن أبي رافع قال ( حتى ضربه الله بالعدسة فقتلته ، فلقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثة ما يدفنانه ، حتى أنتن ، فقال رجل من قريش لابنيه : ألا تستحيان ، إن أباكما قد أنتن في بيته ؟ فقالا : إنا نخشى هذه القرحة ، وكانت قريش تتقي العدسة ، كما تتقي الطاعون ، فقال رجل : انطلقا ، فأنا معكما.
  قال : فوالله ما غسلوه إلا قذفا بالماء عليه من بعيد ، ثم احتملوه ، فقذفوه في أعلى مكة إلى جدار ، وقذفوا عليه الحجارة).
  قال ابن الأثير في النهاية ـ العدسة هي بَثْرة تُشْبِه العَدَسة ، تَخْرج في مَواضعَ من الْجَسَد ، من جنْسِ الطَّاعُون ، تقْتُل صاحِبَها غالباً. ‏

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 71 _

  وروى في كنز العمال عن هبار بن الأسود قال : كان أبو لهب وابنه عتيبة ابن أبي لهب تجهزا إلى الشام فتجهزت معهما ، فقال ابنه عتيبة : والله لأنطلقن إلى محمد ولأوذينه في ربه ! فانطلق حتى أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا محمد ! هو يكفر بالذي دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم ابعث عليه كلبا من كلابك ! ثم انصرف عنه فرجع إلى أبيه ، فقال : يا بني ! ما قلت له ! فذكر له ما قال له ، ثم قال : فما قال لك ؟ قال قال : اللهم سلط عليه كلبا من كلابك !
  فقال : والله يا بني ! ما آمن عليك دعاءه ، فسرنا حتى نزلنا السراة وهي مأسدة فنزلنا إلى صومعة راهب ، فقال الراهب : يا معشر العرب ! ما أنزلكم هذه البلاد ؟
  فإنما تسرح الأسد فيها كما تسرح الغنم ، فقال لنا أبو لهب : إنكم عرفتم كبر سني وحقي ، فقلنا ؟ أجل ، يا أبا لهب ؟ فقال : إن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوة والله ما آمنها عليه !
  فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة وافرشوا لابني عليها ثم افرشوا حولها ، ففعلنا فجمعنا المتاع ثم فرشنا له عليه وفرشنا حوله فبينا نحن حوله وأبو لهب معنا أسفل وبات هو فوق المتاع ، فجاء الأسد فشم وجوهنا فلما لم يجد ما يريد انقبض ؟ ؟ فوثب وثبة فإذا هو فوق المتاع ! فشم وجهه ثم هزمه هزمة ففشخ رأسه ، فقال أبو لهب : لقد عرفت أنه لا ينفلت من دعوة محمد.
  لكن هذه المرحلة من الطرد واللعن والعقوبة في الدنيا قد تكون فورية وسريعة ، كما حصل مع بعض بني إسرائيل الذين مسخوا قردة وخنازير ، وكغيرهم من أمم الرسل والأنبياء.
  قال تعالى في سورة المائدة الآية : 78 { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون }.
  وقال تعالى في سورة المائدة الآية 60 { قل هل أنبّئكم بشرٍّ من ذلك مثوبةً عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطّاغوت أولئك شرٌّ مكاناً وأضلّ عن سواء السّبيل }.‏

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 72 _

  أو ربما يستدرج صاحبها ويمتع إلى حين كبني أمية الذين استشرف رسول الله أنهم سوف يؤذونه في أهل بيته وحذر المسلمين منهم مرارا وتكرارا.
  قال تعالى في سورة آل عمران الآية 87 { كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أنّ الرّسول حقٌّ وجاءهم البيّنات والله لا يهدي القوم الظّالمين أولئك جزاؤهم أنّ عليهم لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين }.
  روى السيوطي في الدر المنثور قال أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط ، وابن مردويه والحاكم وصححه من طرق ، عن علي بن أبي طالب عليه السلام في قوله : { ألم ترى إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار ، جهنم يصلونها وبئس القرار } ، قال : هما الأفجران من قريش ، بنو أمية وبنو المغيرة.
  فأما بنو المغيرة ، فقطع الله دابرهم يوم بدر ، وأما بنو أمية ، فمتعوا إلى حين.
  فإذا جاء الوقت أخذه الله فجأة بعد أن يرفعه ، فيتهيأ له أنه القوي المتين ، حتى إذا أخذه المولى لم يفلته ، فيذله الله تعالى في هذه الدنيا ويقصمه ويفضحه ، ثم في الآخرة إلى الخزي والعار والعذاب المهين والأليم.
  روي في صحيح مسلم والترمذي من حديث أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ) ثم قرأ { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد }.
  وأعتقد أن في الآية الشريفة التي ذكرناها سابقا ، والتي تبشر بعقوبة الطرد لمن يؤذي الله ورسوله وأهل بيته دلالة واضحة لمعرفة من استكبر وتمادى وتطاول على مقام الربوبية في إيذاء أحباب الله الذين حذر الله ورسوله من إيذائهم وظلمهم ، بل أمر بطاعتهم وولايتهم ومنحهم حق الشفاعة في الآخرة.
  هذا لمن قرأ تاريخ الإسلام والمسلمين ، ولكنني أجد من الضروري التذكير بمراجعة الروايات النبوية التي تحذر من أذية أهل البيت وظلمهم ، وكذلك بعض المواقف التاريخية ، وكذلك معرفة من لعنهم رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأخبر المسلمين علانية بنتيجة امتحانهم واختبارهم ، لعل المسلمون يحذرون تأييدهم واتباعهم. ‏

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 73 _

الإستدراج :

  الإستدراج هو الأخذ بالتدريج ، وهو من عقوبات الطرد واللعن في الدنيا والآخرة ، وهو نوع من إبتلاء الكاذبين ، حيث يستكبر العبد على حقيقة العبودية لله تعالى ومعانيها وواجباتها ، ويجحد آيات الله وحججه على عباده ، فيقسى قلبه ، ويقيم على معاصيه ، ويزداد من الله تعالى بعدا ومن رحمته طردا.
  فتنزل العقوبات الإلهية على مستحقي هذا النوع من الإبتلاء على شكل جمالي في ظاهرها ، فيوسّع الله عليهم في الدنيا ، ويبسط لهم في الرزق ، يكثّر أموالهم وأولادهم ، فيغترون بذلك فيقولون لولا أنّ الله عنّا راضٍ ما أعطانا ، فيقيمون على كفرهم وجحودهم وظلمهم ومعاصيهم ، ويفرحون بما أوتوا ، ولا يزالون كذلك حتى يأخذهم الله ، قال تعالى في سورة آل عمران الآية 178 { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين }.
  فبسبب تكذيبهم لآيات الله ، وإنكارهم لحجج الله تعالى أخذوا من حيث لا يعلمون ، ومن حيث يجهلون.
  قال تعالى في سورة الأعراف الآية : 182 { والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون }.
  جاء عن الإمام الصادق عليه السلام ، في تفسير الآية المشار إليها آنفا أنه قال ( هو العبد يذنب الذنب فتجدد له النعمة معه ، تلهيه تلك النعمة عن الاستغفار عن ذلك الذنب ).
  وورد عـن الإمام الصادق عليه السلام في كتاب الكافي : إن اللّه إذا أراد بعبد خيرا فأذنب ذنبا ، أتبعه بنقمة ويذكره الإسـتـغفار ، وإذا أراد بعبد شرا فأذنب ذنبا أتبعه بنعمة لينسيه الإستغفار ، ويتمادى بها ، وهو قوله عزوجل { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } بالنعم عند المعاصي.
  فهؤلاء عندما ينزل بهم الإبتلاء ، ويرون بأس الله الشديد ، تزداد قلوبهم قسوة ، ويزين لهم الشيطان أعمالهم ، فلا يعتبرون من آيات الله تعالى ولا يتنبهون لها ، بل ربما يبررون النوازل القهرية بتبريرات علمية مقطوعة الصلة من رب ‏

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 74 _

  العالمين ، ويطمئنون لذلك ويستدرجون به ، ويزدادون من حقيقة العبودية جحودا وإنكارا ، كما يفعل الأمريكان ( ومن والاهم في عبوديتهم لأنفسهم ) اليوم عند حصول إعصار أو زلزال أو عند انتشار أمراض معينة ، يبررون ذلك وكأنهم أهل العلم المطلق ، ويخَرجون تحليلاتهم وتقاريرهم مزينة بزينة الشياطين ، يفرحون بذلك وبتقدمهم المادي في كل شيء ، ويستهزؤون بقدرة الله القادر ، الذي سوف ينزل بهم الإبتلاءات القهرية بغتة ، فيذلهم ويقطع دابرهم.
  قال تعالى في سورة الأنعام الآيات 43 ـ 45 { فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ، فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين }.
  فأبشروا أيها المؤمنون الصابرون المستضعفون ، ولا يحزنكم استكبارهم ، وحلم الله عليهم ، فإن الله يمهل ولا يهمل ، فسيأتيهم الخزي والعار في الدنيا قبل الآخرة سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
  قال تعالى في سورة المائدة { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم }.
  وقال تعالى في سورة الأعراف ، الآية : 165 { فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون }.
  عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال ـ قال الله تعالى : وعزتي لا اخرج لي عبدا من الدنيا وأريد عذابه إلا استوفيته كل حسنة له إما بالسعة في رزقه ، أو بالصحة في جسده وإما بأمن ادخله عليه فان بقي عليه شيء هونت عليه الموت ‏

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 75 _

  ويـقـول الإمام عـلي عليه السلام في نهج البلاغة أنه ( من وسع عليه في ذات يده فلم ير ذلك استدراجا فقد أمن مخوفا ).
  وهناك أيضا أنواع أخرى من الإستدراج غير التي ذكرناها وتتضمنها الآيات المذكورة آنفا في مضامينها ، تختص بمن يتمثلون بالإسلام والتدين أكثر من غيرهم.
  كالإستدراج بالطاعات والعبادات ، من خلال العجب والرياء ، ومن خلال حب النفس وإعجاب أصحاب الآراء بآرائهم ، وأصحاب العقول بعقولهم ، قال تعالى في سورة فاطر ، الآية : 8 { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا }.
  فيتصورون الكمال في أنفسهم وأعمالهم وسلوكهم ، فيبتهجون ويستكبرون ويهلكون ، فمن دخله العجب هلك ، ولا جهل أضر من العجب.
  فيؤخذون من هذا الجانب تدريجيا إلى الطرد من رحمة الله تعالى من حيث ما يعتقدون أنهم فيه على حق ، فيكون تدميرهم في تدبيرهم ، ومن خلال جمودهم على أهوائهم وآرائهم ، واعتقادهم بأعلميتهم ، فيترفعون عن بساط العبودية وعن الإقتداء بالأئمة من أهل البيت عليهم السلام ، ولا يأخذون من هديهم ، ثم تدريجيا يتطاولون على مقام رسول الله صلى الله عليه وآله من خلال اعتقادهم بأنهم مُشَرعون مثله ، ثم بعد ذلك يفضلون ما تُمليه عليهم عقولهم ويفضلون ذلك على أحكام وأوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
  وواقع الإستدراج هذا حاصل فعلا عند المسلمين وقد عاشوه فعلا ولازالوا يعيشونه اليوم ، ولا أريد أن أذكر بمن استدرج بآرائه ليتطاول بها على رسول الله ، وعلى مقام أهل البيت عليهم الصلاة والسلام ، فلقد ذكرت لك بعضا من أولئك.
  ولكنني أُذَكر هنا بالخوارج الذين تمكنوا في العبادات وحفظ القرآن ، وظنوا أنفسهم أوصياء الله في الأرض ، واستدرجوا حتى وصل بهم الأمر إلى تكفير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، ثم التآمر على قتله ، وهم يعتقدون أنهم يطبقون أمر الله تعالى ، فأوصلهم الإستدراج بالطاعات وحفظ القرآن والعجب إلى الخروج عن بساط العبودية واستحقاق عقوبة اللعن والطرد

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 76 _

  من رحمة الله تعالى ، وهم يعتقدون أنهم سيدخلون الجنة ربما قبل رسول الله صلى الله عليه وآله.
  ولقد حذر رسول الله صلى الله عليه وآله من هؤلاء ومن نوع استدراجهم ، حتى يتقيهم المسلمون ولا يُستدرجوا مثلهم.
  روى الحاكم في المستدرك عن أنس بن مالك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم قال ( سيكون في أمتي اختلاف وفرقة ، قوم يحسنون القيل ، ويسيئون الفعل ، ويقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ، لا يرجع حتى يرد السهم على فوقه ، وهم شرار الخلق والخليقة ، طوبى لمن قتلهم وقتلوه ، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء ، من قاتلهم كان أولى بالله منهم ) قالوا : يا رسول الله ، ما سيماهم ؟ قال : التحليق.
  وروى في مجمع الزوائد عن عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ): يخرج من أمتي قوم يسيئون الأعمال ، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يحقر أحدكم عمله مع عملهم ، يقتلون أهل الإسلام ، فإذا خرجوا فاقتلوهم إذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم فطوبى لمن قتلهم وطوبى لمن قتلوه كلما طلع منهم قرن قطعه الله عز وجل ).
  فردد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين مرة أو أكثر وأنا أسمع ، ورواه أحمد بن حنبل في المسند والحاكم ، ورواه البخاري ومسلم مع الإختلاف في بعض الألفاظ.
  وأعتقد أن أولئك المستدرجون من خلال الدين ، يتجددون في كل عصر بحسب ما ذكرت الأحاديث النبوية الشريفة ، فها هم اليوم ينتشرون بين المسلمين ، يصلون ويصومون ، ويقرؤون القرآن ، مستدرجون بعقولهم وآرائهم وأفكارهم وتبعيتهم ، وكما قتل أسلافهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، فهاهم اليوم يكفرون المسلمين المؤمنين أتباع وشيعة أمير المؤمنين ، خير البرية كما وصفهم القرآن الكريم ، ويعتبرون قتلهم جهادا في سبيل الله ، ويعتبر ‏

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 77 _

  أحدهم أنه وبكبسة زر على حزام ناسف يفجره في مساجد المؤمنين سوف يكون بين الحور العين في الجنة.
  هذا هو واقع أولئك المستدرجون بالطاعات والعبادات ، أهل العجب ، خوارج العصر الحديث ، الذين يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، الجالسون على بساط عبودية دين معاوية ويزيد ، أهل العقوبة واللعن والطرد من رحمة الله.
  أما على مستوى الأفراد العاديين الذين يقيمون على المعاصي ويستدرجون من خلالها فهم كثر ولا يخلو منهم مجتمع من مجتمعات المسلمين ، وأعتقد أن كل واحد منا قد عاش وتعامل مع أمثالهم ، فأنا شخصيا أعرف الكثير ممن نقضوا عهودهم وقطعوا حبل الوصال مع شيعة أهل البيت عليهم السلام وطعنوا في أعراضهم وسرقوا حقوقهم وظلموهم وافتروا عليهم وتجسسوا عليهم لحساب أعداء الله ، بعد كل تلك الجرائم نجد أن الدنيا قد فتحت على أولئك وتوسعت عليهم ، ظنا منهم أنهم من أهل القرب من الله تعالى ، ولولا أن الله راض عنهم لما أعطاهم ، ولقد رأيتهم بعد ذلك يتمتعون بأموال المظلومين التي انتزعوها من أصحابها الشرعيين ، بينما أصحاب الحق لا يجدون ما يسد رمقهم ، وأما أولئك المستدرجون فنراهم يصلون ويصومون ويبنون المساجد ظنا منهم أن الله غافل عما يعمل الظالمون ، ولقد كنت على قرب من |أحد أولئك المستكبرين المستدرجين الذين يعيشون أوهام الكبرياء والعظمة والإستكبار على بساط العبودية وعلى عباد الله الصالحين المؤمنين ، ومن العجيب أن ذاك المستدرج وفي كل جلسة كان يردد دائما آية يحفظها ويلقنها لمن يجلس معه ، اعتقادا منه أنها لا تتحدث عن أمثاله ، وهي قوله تعالى من سورة الأنعام الآيات 43 ـ 45 { فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ، فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين } ، حتى أنني أعرف عدة أشخاص قد حفظوا تلك الآية غيبا من كثرة ما ذكرها أمامهم ، فيا سبحان الله كيف يقيم رب العالمين الحجة على ‏

الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 78 _

  المستدرجين حتى من أفواههم وبألسنتهم ، قبل أن يذلهم ويخزيهم ويلعنهم ويطردهم من رحمته ، ويشف صدور قوم مؤمنين.
  وفي النهاية أقول لعلي أكون قد وفقت في بيان معنى الإبتلاء وما يتعلق به والعبودية ومعناها ، والعلاقة الوثيقة بين تلك المصطلحات وأهل البيت عليهم السلام ، من خلال الأسلوب السهل والمباشر ، وأهم ما يجب تذكره هو الوسيلة والصلة بين العبودية والربوبية ، وهم شعائر الله الرسول وأهل بيته المعصومين الطاهرين ، وأننا مبتلون بهم ممتحنون في الإعتقاد بحقوقهم وأحقيتهم ، وأننا لا يمكن أن نفهم معاني العبودية لله تعالى والقيام بحقوقها ومعنى الإبتلاء إلا من خلال معرفتهم ، والله ولي التوفيق . ‏