الفهرس العام

الفصل الثالث : في تحديد مفهوم العبادة


العبادة في المعاجم و التفاسير
ليست العبادة نفس الخضوع أو نهايته
توجيه غير سديد
عقيدة المشركين في آلهتهم
حكم التاريخ في عقيدة المشركين
قضاء الكتاب في عقيدة المشركين
التعريف المنطقي لمفهوم العبادة

  العبادة من الموضوعات التي تطرّق إليها الذكر الحكيم كثيراً ، وقد حثَّ عليها في أكثر من سورةٍ وآية وخصَّها باللّه سبحانه و قال : ( وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّتَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) (الاِسراء | 23) و نهى عن عبادة غيره من الاَنداد المزعومة و الطواغيت والشياطين ، وجعل اختصاص العبادة به الاَصلَ الاَصيل بين الشرائع السماوية و قال : ( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّاللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (آل عمران | 64) كما جعلها الرسالة المشتركة بين الرسل فقال سبحانه : ( وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ) (النحل | 36).
  فإذا كانت لهذا الموضوع تلك العناية الكبيرة فجدير بالباحث المسلم أن يتناوله بالبحث و التحقيق العلمي ، حتى يتميّز هذا الموضوع عن غيره تميزاً منطقياً.
  والذي يُضفي على الدراسة ، أهمية أكثر ، هو أنّالتوحيد في العبادة أحد مراتب التوحيد التي لا محيص للمسلم من تعلّمه ، ثمّ عقد القلب عليه ، و التحرر من أيّ لون من ألوان الشرك ، فلا تُنال تلك الاَُمنيةُ في مجالي العقيدة و العمل إلاّ

الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 34 _

  بمعرفة الموضوع معرفة صحيحة ، مدعمة بالدليل حتى لا يقع المسلم في مغبَّة الشرك ، و عبادة غيره سبحانه.
  و رغم المكانة الرفيعة للموضوع لم نعثر على بحث جامع حول مفهوم العبادة يتكفّل بيان مفهومها ، وحدّها الذي يُفصلها عن التكريم و التعظيم أو الخضوع والتذلل ، و كأنّ السلف ـ رضوان اللّه عليهم ـ تلقّوها مفهوماً واضحاً ، و اكتفوا فيها بما توحي إليهم فطرتُهم.
  ولو صحّ ذلك فإنّما يصحّ في الاَزمنة السالفة ، دون اليوم الذي استفحل عند بعض الناس أمر إدّعاء الشرك في العبادة ، فيما درج عليه المسلمون منذ قرون إلى أن ينتهي إلى عصر التابعين والصحابة فأصبح ـ بادعائهم ـ كلّ تعظيم و تكريم للنبيّ ، عبادة له ، وكلّ خضوع أمام الرسول شرك ، فلا يلتفت الزائر يميناً و شمالاً في المسجد الحرام و المسجد النبوي إلاّو توقر سمعه كلمةُ (هذا شرك يا حاج) ، وكأنّه ليس لديهم إلاّ تلك اللفظة ، أو لا يستطيعون تكريم ضيوف الرحمن إلاّبذلك.
  فاللازم على هوَلاء ـ الذي يعدون مظاهر الحبّ والودّ ، و التكريم و التعظيم شركاً و عبادة ـ وضعُ حدٍّ منطقيّ للعبادة ، تُميَّز به ، مصاديقُها عن غيرها حتى يتّخذه الوافدون من أقاصي العالم وأدانيه ، ضابطة كلّية في المشاهد و المواقف ، ،و لكن ـ و للاَسف ـ لا تجد بحثاً حول مفهوم العبادة و تبيينها في كتبهم و نشرياتهم و دورياتهم.
  فلاَجل ذلك قمنا في هذا الفصل ، بمعالجة هذا الموضوع ، بشرح مفهوم العبادة لغة و قرآناً ، حيث بيّنا أنّ حقيقة العبادة في تعاليم الاَنبياء أخصّ ممّا ورد في المعاجم و كتب اللّغة.

الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 35 _

العبادة في المعاجم و التفاسير

  بالرغم من عناية اللغويين و المفسّرين بتفسير لفظ العبادة و تبيينها ، لكن لا تجد في كلماتهم ما يشفي الغليل ، و ذلك لاَنّـهم فسّـروه بأعمّ المعاني وأوسعها و ليس مرادفاً للعبادة طرداً و عكساً.
  1 ـ قال الراغب في المفردات : (العبودية : إظهار التذلّل ، و العبادة أبلغ منها ، لاَنّها غاية التذلّل ، ولا يستحقّها إلاّمن له غاية الاِفضال و هو اللّه تعالى و لهذا قال : ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ ... ) (الاِسراء | 23) ).
  2 ـ قال ابن منظور في لسان العرب : (أصل العبودية : الخضوع والتذلل).
  3 ـ قال الفيروز آبادي في القاموس المحيط : (العبادة : الطاعة).
  4 ـ قال ابن فارس في المقاييس : (العبد ، الذي هو أصل العبادة ، له أصلان متضادّان ، والاَوّل من ذينك الاَصلين ، يدلّ على لين و ذُلّ ، و الآخر على شدّة وغلظه).
  هذه أقوال أصحاب المعاجم و لا تشذّ عنها أقوال أصحاب التفاسير وهم يفسّرونه بنفس ما فسّره به أهل اللغة ، غير مكترثين بأنّتفسيرهم ، تفسير لها بالمعنى الاَعم.
  1 ـ قال الطبري في تفسير قوله : ( إِيّاكَ نَعْبُدُ ) : اللّهمّ لك نخشع و نذلّ و نستكين إقراراً لكَ يا ربّنا بالربوبية لا لغيرك ، إنّالعبودية عند جميع العرب أصلها الذلّة و أنّـها تسمّى الطريق المذلّل الذي قد وطئته الاَقدام و ذلّلته السابلة معبَّداً ، و من ذلك قيل للبعير المذلّل بالركوب للحوائج : معبَّد ، و منه سمّي العبد عبداً ، لذلّته لمولاه (1)

---------------------------
(1) الطبري : التفسير 1 : 53 ، ط دار المعرفة ، بيروت.

الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 36 _

  2 ـ قال الزجاج : معنى العبادة : الطاعة مع الخضوع ، يقال : هذا طريق معبّد إذا كان مذلّلاً لكثرة الوطء ، و بعير معبّد إذا كان مطلياً بالقطران ، فمعنى ( إِيّاكَ نَعْبُدُ ) : إيّاك نطيع ، الطاعة التي نخضع منها (1)
  3 ـ و قال الزمخشري : العبادة : أقصى غاية الخضوع و التذلّل ، و منه ثوب ذو عبدة أي في غاية الصفافة ، وقوة النسج ، و لذلك لم تستعمل إلاّ في الخضوع للّه تعالى لاَنّه مولى أعظم النعم فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع (2)
  4 ـ قال البغوي : العبادة : الطاعة مع التذلل والخضوع و سمّي العبد عبداً لذلّته وانقياده يقال : طريق معبّد ، أي مذلّل (3)
  5 ـ قال ابن الجوزي : المراد بهذه العبادة ثلاثة أقوال :
  أ : بمعنى التوحيد ( إِيّاكَ نَعْبُدُ ) عن علي و ابن عباس.
  ب : بمعنى الطاعة كقوله تعالى : ( لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ ) (مريم | 44) .
  ج : بمعنى الدعاء (4)
  6 ـ قال البيضاوي : العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلّل ، و منه الطريق المعبّد أي المذلّل ، و ثوب ذو عبدة ، إذا كان في غاية الصفافة ، و لذلك لاتستعمل إلاّ في الخضوع للّه تعالى (5)
  و سيأتي أنّتفسير العبادة بغاية الخضوع ربّما يكون تفسيراً بالاَخص ، إذ لاتشترط في صدقها غاية الخضوع ، و لذلك يعدُّ الخضوع المتعارف الذي يقوم به

---------------------------
(1) الزجاج : معاني القرآن 1 : 48.
(2) الزمخشري : الكشاف 1 : 10.
(3) البغوي : التفسير1 : 42.
(4) ابن الجوزي : زاد المستنير 1 : 12.
(5) البيضاوي : أنوار التنزيل1 : 9.

الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 37 _

  أبناء الدنيا أمام اللّه سبحانه عبادة ، و إن لم يكن بصورة غاية التعظيم ، و ربّما يكون تفسيراً بالاَعمّ ، فإنّ خضوع العاشق لمعشوقه ربّما يبلغ نهايته و لا يكون عبادة.
  7 ـ و قال القرطبي : نعبُد ، معناه نطيع ، و العبادة : الطاعة والتذلّل ، وطريق معبّد إذا كان مذلّلاً للسالكين (1)
  8 ـ و قال الرازي : العبادة عبارة عن الفعل الذي يوَتى به لغرض تعظيم الغير وهو مأخوذ من قولهم : طريق مُعبَّد (2)
  و إذا قصرنا النظر في تفسير العبادة ، على هذه التعاريف و قلنا بأنّها تعاريف تامّة جامعة للاَفراد و مانعة للاَغيار ، لزم رَمي الاَنبياء و المرسلين ، و الشهداء والصديقين بالشرك وأنّهم ـ نستعيذ باللّه ـ لم يتخلّصوا من مصائد الشرك ، و لزم ألاّيصحّ تسجيل أحد من الناس في قائمة الموحّدين ، و ذلك لاَنّ هذه التعاريف تفسّر العبادة بأنّها :
  1 ـ إظهار التذلّل.
  2 ـ إظهار الخضوع.
  3 ـ الطاعة و الخشوع و الخضوع.
  4 ـ أقصى غاية الخضوع.
  و ليس على أديم الاَرض من لا يتذلّل أو لا يخشع ولا يخضع لغير اللّه سبحانه و إليك بيان ذلك :

---------------------------
(1) القرطبي : جامع أحكام القرآن1 : 145.
(2) الرازي : مفاتيح الغيب1 : 242 ، في تفسير قوله تعالى : (إِيّاكَ نَعْبُدُ) .

الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 38 _

ليست العبادة نفس الخضوع أو نهايته

  إنّالخضوع و التذلّل حتى إظهار نهاية التذلّل لا يساوي العبادة ولا يعدّ حدّاًمنطقياً لها ، بشهادة أنّ خضوع الولد أمام والده ، و التلميذ أمام أُستاذه ، و الجنديُّ أمام قائده ، ليس عبادة لهم و إن بالغوا في الخضوع والتذلّل حتى و لو قبّل الولدُ قدمَ الوالدين ، لايعد عمله عبادة ، لاَنّ اللّه سبحانه يقول : ( وَاخْفِضْ لَهُما جناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) (الاِسراء | 24).
  و أوضح دليل على أنّالخضوع المطلق و إن بلغ النهاية لا يعدّعبادة هو أنّه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم وقال : ( وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ) (البقرة | 34) و آدم كان مسجوداً له ككونه سبحانه مسجوداً له ، مع أنّالاَوّل لميكن عبادة و إلاّ لم يأمر به سبحانه ، إذ كيف يأمر بعبادة غيره و في الوقت نفسه ينهى عنها بتاتاً في جميع الشرائع من لدن آدم (عليه السلام) إلى الخاتم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّمو لكن الثاني أي الخضوع للّه ، عبادة .
  و اللّه سبحانه يصرّح في أكثر من آية بأنّالدعوة إلى عبادة اللّه سبحانه و النهي عن عبادة غيره ، كانت أصلاًمشتركاً بين جميع الاَنبياء ، قال سبحانه : ( وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ ) (النحل | 36) و قال سبحانه : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّنُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّأَنَا فَاعْبُدُون ) (الاَنبياء | 25) و في موضع آخر من الكتاب يعد سبحانه التوحيد في العبادة : الاَصل المشترك بين جميع الشرائع السماوية ، إذ يقول : ( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهََ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ) (آل عمران | 64) ، و معه كيف يأمر بسجود الملائكة لآدم الذي هو من مصاديق الخضوع النهائي ؟ وهذا الاِشكال لايندفع إلاّ بنفي كون مطلق الخضوع عبادة ، ببيان أنّللعبادة مقوّماً آخر ـ كما سيوافيك ـ لميكن موجوداً في سجودالملائكة لآدم.

الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 39 _

  و لم يكن آدم فحسب هو المسجود له بأمره سبحانه ، بل يوسف الصديق كان نظيره ، فقد سجد له أبواه و إخوته ، وتحقّق تأويل روَياه بنفس ذلك العمل ، قال سبحانه حاكياً عن لسان يوسف : ( إِنّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَكَوكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدينَ ) (يوسف | 4).
  كما يحكي تحقّقه بقوله سبحانه : ( وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُسُجَّداً وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُوَْيايَمِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقّاً ) (يوسف | 100) و معه كيف يصحّ تفسير العبادة بالخضوع أو نهايته.
  إنّه سبحانه أمر جميع المسلمين بالطواف بالبيت ، الذي ليس هو إلاّحجراً و طيناً ، كما أمر بالسعي بين الصفا والمروة ، قال سبحانه : ( وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) (الحج | 29) و قال سبحانه : ( إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَفَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْيَطَّوَّفَ بِهِما ) (البقرة | 158).
  فهل ترى أنّالطواف حول التراب والجبال والحجر عبادة لهذه الاَشياء بحجّة أنّه خضوع لها ؟!
  إنّ شعار المسلم الواقعي هو التذلّل للموَمن و التعزّز على الكافر ، قال سبحانه : ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُوَمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكافِرينَ ) (المائدة | 54).
  فمجموع هذه الآيات و جميع مناسك الحجّ ، يدلاّن بوضوح على أنّمطلق الخضوع والتذلّل ليس عبادة. و إذا فسّرها أئمة اللغة بالخضوع و التذلّل ، فقد فسّروها بالمعنى الاَوسع ، فلا محيص حينئذٍ عن القول بأنّالعبادة ليست إلاّنوعاً خاصاً من الخضوع ، و إن سُميت في بعض الموارد مطلق الخضوع عبادة ، فإنّما سُميت من باب المبالغة و المجاز ، يقول سبحانه : ( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكيلاً ) (الفرقان | 43) فكما أنّإطلاق اسم الاِله على الهوى مجاز فكذا تسمية متابعة الهوى عبادة له ، ضرب من المجاز.

الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 40 _

  و من ذلك يعلم مفاد قوله سبحانه : ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ أَنْ لاتَعْبُدُوا الشَّيطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبينٌ * وَأَنِ اعْبُدُوني هذا صِراطٌ مُسْتَقيمٌ ) (يس | 60 ـ 61).
  فإنّ مَنْ يتَّبِع قولَ الشَّيطان فيتساهل في الصلاة والصيام ، و يترك الفرائض أو يشرب الخمر و يرتكب الزنا ، فإنّه بعمله هذا يقترف المعاصي لا أنّه يعبده كعبادة اللّه ، أو كعبادة المشركين للاَصنام و لاَجل ذلك ، لايكون مشركاً محكوماً عليه بأحكام الشرك ، و خارجاً عن عداد المسلمين ، مع أنّه من عبدة الشيطان لكن بالمعنى الوسيع للعبادة الاَعمّمن الحقيقي و المجازيّ.
  و ربما يتوسع في إطلاق العبادة فتستعمل في مطلق الاِصغاء لكلام الغير ، وفي الحديث : (من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن كان الناطق يوَدي عن اللّه عزّوجلّ فقدعبد اللّه ، و إن كان الناطق يوَدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان) (1)

توجيه غير سديد

  إنّ بعض من يفسّـر العبادة بالخضوع و التذلّل عند مايقف أمام هذه الدلائل الوافرة ، يحاول أن يجيب و يقول : إنّسجود الملائكة لآدم أو سجود يعقوب و أبنائه ليوسف ، لم يكن عبادة له و لا ليوسف ، لاَنّذلك كان بأمر اللّه سبحانه و لولا أمره لانقلب عملهم عبادة لهما.
  و هذا التوجيه بمعزِل عن التحقيق ، لاَنّ معنى ذلك أنّ أمر اللّه يُغيّر الموضوع ، و يبدل واقعه إلى غير ما كان عليه ، مع أنّ الحكم لا يغيِّر الموضوع.
  فإذا افترضنا أنّه سبحانه أمر بسبِّ المشرك و المنافق ، فأمره سبحانه لا يخرج السبَّ عن كونه سباً ، إذن لو كان مطلقُ الخضوع المتجلّي في صورة السجود لآدم ، أو ليوسف ، عبادة لكان معنى ذلك أنّه سبحانه أمر بعبادة غيره ، مع أنّها فحشاء

---------------------------
(1) الكليني : الكافي 6 : 434.

الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 41 _

  بتصريح الذكر الحكيم ولا يأمر بها سبحانه ، قال تعالى : ( إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِما لا تَعْلَمُونَ ) (الاَعراف | 28).
  وهناك تعاريف للعبادة لجملة من المحقّقين نأتي بها واحداً بعد الآخر :
  1 ـ نظرية صاحب المنار في تفسير العبادة
  إنّصاحب المنار لمّا وقف على بعض ما ذكرناه حاولَ أن يُفسّر العبادة بشكل لايرد عليه الاِشكال ، ولذلك أخذ في التعريف قيوداً ثلاثة :
  أ : العبادة ضرب من الخضوع بالِغٌ حدّ النهاية.
  ب : ناشىَ عن استشعار القلب عظمة المعبود ، لا يعرف منشأها.
  ج : واعتقادٍ بسلطة لا يُدرَك كنهُها و ماهيتها.
  ويلاحظ على هذا التعريف :
  أوّلاً : أنّالتعريف غير جامع ، و ذلك لاَنّه إذا كان مقوُّم العبادة ، الخضوعَ البالغَ حدّالنهاية فلا يشمل العبادة الفاقدة للخشوع والخضوع التي يوَديها أكثر المتساهلين في أمر الصلاة ، و ربما يكون خضوع الجندي لقائده أشدّ من خضوع هوَلاء المتساهلين الذين يتصوّرون الصلاة عبأً و جهداً.
  و ثانياً : ماذا يريد بقوله (عن استشعار القلب عظمة المعبود لا يعرف منشأها) ؟ فهل يعتقد أنّ الاَنبياء كانوا يستشعرون عظمة المعبود ولكن لا يعرفون منشأها ، مع أنّغيرهم يستشعر عظمة المعبود و يعرف منشأها ، وهو أنّه سبحانه : الخالق البارىَ ، المصوّر ، أو أنّه سبحانه هو الملك القدّوس ، السّلام ، الموَمن ، المهيمن العزيز الجبّار المتكبر.
  و ثالثاً : ماذا يريد بقوله : (و اعتقادٍ بسلطة لا يدرك كنهها و ماهيتها) ؟.
  فإن أراد شرطية هذا الاعتقاد في تحقّق العبادة ، فلازم ذلك عدم صدقها على

الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 42 _

  عبادة الاَصنام والاَوثان ، فإنّعُبّاد الاَوثان يعبدونها و كانوا يعتقدون بكونهم شفعاء عند اللّه سبحانه فقط لا أنّ لهم سلطة لا يدرك كنهُها وماهيتُها.
  2 ـ نظرية الشيخ شلتوت ، زعيم الاَزهر
  وقد عرّف شيخ الاَزهر الاَسبق العبادة بنفس ما عرّفها به صاحب المنار ، و لكنّه يختلف عنه لفظاًو يتّحد معه معنًى ، فقال : العبادة خضوع لا يحدُّ ، لعظمة لا تحد (1)
  وهذا التعريف يشترك مع سابقه نقداً و إشكالاً ، و ذلك أنّالعبادة ليست منحصرة في (خضوع لا يحدّ) بل الخضوع المحدود أيضاً ربّما يعد عبادة ، كما إذا كان الخضوع بأقلّ مراتبه ، و كذلك لا يشترط كون الخضوع لعظمة لا تحدّ ، إذ ربما تكون عظمة المعبود محدودة في زعم العابد كما هو الحال في عبادة الاَصنام ، و مع ذلك يعبدها و كان الدافع إلى عبادتها كونها شفعاء عند اللّه.
  3 ـ تعريف ابن تيمية
  و أكثر التعاريف عرضة للاِشكال هو تعريف ابن تيمية إذ قال : (العبادة اسم جامع لكلّ ما يحبّه اللّه و يرضاه من الاَقوال والاَعمال الباطنية والظاهرية كالصلاة والزكاة والصيام ، والحجّ ، و صدق الحديث و أداء الاَمانة ، و برّالوالدين و صلة الاَرحام) (2)
  وهذا الكاتب لم يفرّق ـ في الحقيقة ـ بين العبادة و التقرّب ، و تصوّر أنّ كلّ عمل يوجب القربى إلى اللّه ، فهو عبادة له تعالى أيضاً ، في حين أنّالاَمر ليس كذلك ، فهناك أُمور توجب رضا اللّه ، و تستوجب ثوابَه لكنّها قد تكون عبادة

---------------------------
(1) تفسير القرآن الكريم : 37.
(2) مجلة البحوث الاِسلامية ، العدد 2 : 187 ، نقلاً عن كتاب العبودية : 38.

الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 43 _

  كالصوم و الصلاة والحجّ ، و قد تكون موجبة للقرب إليه دون أن تعدّ عبادة ، كالاِحسان إلى الوالدين ، و إعطاء الزكاة ، و الخمس ، فكلّهذه الاَُمور (الاَخيرة) توجب القربى إلى اللّه في حين لا تكون عبادة ، و إن سمّيت في مصطلح أهل الحديث عبادة ، فيراد منها كونها نظير العبادة في ترتّب الثواب عليها او شرطيّة قصد القربة في صحّتها.
  و بعبارة أُخرى : إنّالاِتيان بهذه الاَعمال يعدّطاعة للّه و لكن ليس كلُّ طاعة عبادة.
  وإن شئت قلت : إنّ هناك أُموراً عباديّة و أُموراً قربية ، و كلّعبادة مقرِّبة ، و ليس كلّ مقرِّب عبادة ، فدعوة الفقير إلى الطعام ، و العطف على اليتيم ـ مثلاً ـ توجب القرب و لكنّها ليست عبادة بمعنى أن يكون الآتي بها عابداًبعمله للّهتعالى.
  و إذا وقفت على قصور هذه التعاريف هنا نذكر في المقام تعريفين ، كلّ يلازم الآخر.
  التعريف الصحيح :
  العبادة هي الخضوع للشي بما هو إلـه
  أو : العبادة هي الخضوع للشيء بما هو ربّ
  إنّ لفظ العبادة من المفاهيم الواضحة ، و ربّما يكون ظهور معناها الواضح مانعاً عن التحديد الدقيق لها غير أنّه يمكن تحديدها من خلال الاِمعان في الموارد التي تستعمل فيها تلك اللفظة ، فقد استعملها القرآن في مورد الموحّدين و المشركين ، وقال سبحانه في الدعوة إلى عبادة نفسه : ( وَ لكِنْ أَعبدُ اللّهَ الّذي يَتَوفّاكُمْ ) (يونس | 104) وقال سبحانه : ( قُلْ إِنّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ مُخْلِصاً لَهُ

الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 44 _

  الدِّينَ ) (الزمر|11).
  وقال في النهي عن عبادة غيره : ( إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِأَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) (العنكبوت|17) وقال : ( أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ ) (الصافّات|95) : فعلى الباحث أن يقتنصَ معنى العبادة بالدقة من أفعال العباد ، و عقائدهم من غير فرق بين عبادة الموحّدين و عبادة المشركين فيجعله حدّاً منطقياً للعبادة.
  إنّ الاِمعان في ذلك المجال يدفعنا إلى القول بأنّالعبادة عندهم عبارة عن الفعل الدالّ على الخضوع المقترن مع عقيدة خاصة في حقّ المخضوع له ، فالعنصر المقوّم للعبادة حينئذٍ أمران :
  1 ـ الفعل او القول المنبىَ عن الخضوع و التذلّل.
  2 ـ العقيدة الخاصة التي تدفعه إلى عبادة المخضوع له.
  أمّا الفعل ، فلا يتجاوز عن قول أو عمل دالّ على الخضوع والتذلّل بأيّ مرتبة من مراتبه ، كالتكلّم بكلام يوَدي إلى الخضوع له أوبعمل خارجي كالركوع و السجود بل الانحناء بالرأس ، أو غير ذلك ممّا يدلّ على ذلّته و خضوعه أمام موجود.
  وأمّا العقيدة التي تدفعه إلى الخضوع و التذلّل فهي عبارة عن :
  1 ـ الاعتقاد بأُلوهيته.
  2 ـ الاعتقاد بربوبيته (1)
  او مايعادلهما و تعلّم صحة التعريفين من دراسة عقيدة المشركين في أصنامهم و أوثانهم.

---------------------------
(1) قد وقفت على معنى الاِله و الاَلوهيّة ، و الربّ والربوبيّة ، فلو حكمنا على المشركين بأنّهم كانوا يعتقدون بألوهيّة اصنامهم و ربوبيّتها ، فانّما تعنى من اللفظين ماذكر لهما من المعنى في الفصلين السابقين.

الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 45 _

عقيدة المشركين في آلهتهم

  إنّ الذي يسبر حياةَ المشركين يقف بوضوح على انّهم معتقدين بأُلوهية معبوداتهم و ربوبيتها بشكل واضح و على القارىَ الكريم أن يستشفه عن كثب وما هو إلاّ حكم التاريخ أوّلاً ، و حكم القرآن ثانياً ، و نحن نذكر شيئاًيسيراً منهما :

حكم التاريخ في عقيدة المشركين

  إنّ المشركين العرب و إن كانوا لا يعاونون من أيّ انحراف و إشكال في مسألة التوحيد في الخالقية و كانوا يعتقدون أنّه سبحانه هو الخالق وحده و أنّه لاخالق سواه و قد نقله سبحانه عنهم في غير واحد من الآيات : قال تعالى : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالاََرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزيز الْحَليمُ ) (الزخرف | 9) إلاّ أنّهم كانوا في مسألة التدبير الّتي نعبر عنها بالربوبيّة على طرف النقيض من الحق و على خلاف الصواب ، فكانوا يعتقدون بأرباب مكان الربّ الواحد ، و لكلّربٍّ شأن في عالم الكون ، و ما اشتهر بين الناس من أنّ المشركين يعتبرون الاَصنام مجرّد شفعاء عند اللّه لا أكثر تصوّر خاطىَ ، بل كانوا يعتقدون أنّ لها وراء هذا ، شأناً أوشوَونا ، ولاَجل هذه المكانة لها كانوا يعبدونها و يستشفعون بها ، وإليك شواهد على ذلك : لقد دخلت الوثنية في مكة و ضواحيها أوّل ما دخلت في صورة (الشرك في الربوبية) فقصة (عمرو بن لُحيّ) الخُزاعي دليل على أنّأهل الشام كانوا يعتبرون الاَوثان و الاَصنام مدبرة لجوانب من الكون .
  يكتب ابن هشام في هذا الصدد فيقول : كان (عمرو بن لُحيّ) أوّل من أدخل الوثنية إلى مكة و ضواحيها فقد رأى في

الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 46 _

  سفره إلى البلقاء من بقاع الشام أُناساً يعبدون الاَوثانَ و عند ما سألهم عمّا يفعلون قائلاً : ما هذه الاَصنام التي أراكم تعبدونها ؟
  قالوا : هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتُمطرنا ، و نستنصرها فَتَنصُرنا ، فقال لهم : أفلا تعطونني منها فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه.
  وهكذا استحسن طريقتَهم و استصحب معه إلى مكّة صنماً كبيراًاسمه هُبل و وضعه على سطح الكعبة المشرّفة ودعا الناس إلى عبادته (1)
  فاستمطار المطر من هذه الاَصنام و الاستنصار بها يكشف عن عقيدتهم فيها و أنّ لها مدخلية في تدبير شوَون الكون و حياة الاِنسان.
  يقول هشام بن محمد بن السائب الكلبي : مرض لُحيّ بن حارث بن عامر الاَزدي و هو أبو خزاعة فقيل له : إنّبالبلقاء من الشام حَمَّة (2) إن أتيتَها بُرِئتَ فأتاها فاستحمّ بها فبَرىَ بها فوجد أهلها يعبدون الاَصنام ، فقال : ما هذه ؟ فقالوا : نستسقي بها المطر ونستنصر بها على العدو ، فسألهم أن يعطوه منها ، ففعلوا فقدم بها إلى مكة و نصبها حول الكعبة (3)
  وقال السيّد الآلوسي : وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة و كانت أعظمها هبل عندهم و كان ـ فيما بلغني ـ من عقيق أحمر على صورة الاِنسان مكسور اليد اليمنى أدركته قريش كذلك ، فجعلوا له يداًمن الذهب وكان أوّل من نصبه خزيمة بن مدركة و كان يقال له هبل خزيمة ... إلى أن قال : فإذا شكوا في مولود أهدوا له هدية ... الخ.
  و يقول أيضاً : وكان لمالك و مِلْكان ابني كنانة ، بساحل جدّة صنم يقال له

---------------------------
(1) ابن هشام : السيرة النبوية 1 : 79.
(2) بالفتح و تشديد الميم كلّعين فيها ماء حارّ ينبع ، و يستشفي الاَعلاّء.
(3) الكلبي| الاَصنام ص 8 ، شكرى الالوسي : بلوغ الارب في معرفة العرب 2 : 201.

الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 47 _

  سعد ، وكان صخرة طويلة فأقبل رجل من بني مِلْكان بإبلٍ له موَبلة ليقفها عليه ابتغاء بركته ، فلما أدناها منه و رأته و كان يُهراق عليه الدماء نفرت منه فذهبت في كلّ وجه فغضب ربّها فتناول حجراً فرماه به فقال : لا بارك اللّه فيك إلهاً أنفرْتَ إبلي ثمّ خرج في طلب الاِبل حتى جمعها ثمّ انصرف يقول :

أتـينا  إلـى سـعد لـيجمع iiشملنا      فـشتتنا  سـعد فـما نحن من iiسعد
و  هـل سعدُ إلاّصخرة بتنوفة (1)ii      من الاَرض لايدعى لغيّولا رشد (2)
  هذا شأن عبدة الاَصنام وأمّا شأن عبّاد الاَجرام العلوية فحدّث عنهم ولا حرج ، فقد كانوا يعتقدون فيها ربوبية وتدبيراً للعوالم السفلية ، و لم تكن مناظرة إبراهيم (عليه السلام) لهوَلاء إلاّ لاَنّهم كانوا يعتقدون بربوبية الكواكب والقمر والشمس ، و لاَجل ذلك يصف إبراهيم آلهتهم بالربوبية مجاراة لهم حتى يقضي على تلك الفكرة ببرهان قاطع ، يقول : ( فَلَمّا جَنَّ عَلَيهِ اللّيلُ رَأى كَوكباً قالَهذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّالآفِلينَ ) (الاَنعام | 76) وقد كرر لفظ الربّأيضاً عند مواجهته للقمر والشمس.
  يقول الآلوسي عند البحث عن عبادة الشمس : زعموا أنّها ملك من الملائكة لها نفس وعقل و هي أصل نور القمر و الكواكب وتكوّن الموجودات السفلية كلّها عندهم منها و هي عندهم ملك الفلك فتستحق التعظيم والسجود والدعاء ، ومن شريعتهم في عبادتها انّـهم اتّخذوا لها ، صنماً بيده جوهر على لون النار ، و له بيت خاص قد بنوه باسمه و جعلوا له الوقوف الكثيرة في القرى والضياع ، وله سدنة و قوّام و حَجبة يأتون البيت و

---------------------------
(1) التنوقة : المفازة والقفر من الاَرض.
(2) شكري الالوسي : بلوغ الارب : 2 : 205 و 208.

الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 48 _

  يصلون فيه لها ثلاث كرات في اليوم ، و يأتيه أصحاب العاهات فيصومون لذلك الصنم و يصلون و يدعونه و يستشفعون به (1)
  نعم إنّالشوَون التي كانوا يعتقدونها لآلهتهم كانت متنوعة و أقلّها شأناً انّها تملك الشفاعة ، و قد فوض إليها أمرها لتشفع لمن شاءت و تقبل شفاعتها عند اللّه بلا قيد و لا شرط.
  قد وقفت على قضاء التاريخ في عقيدة المشركين و أنّهم ما انفكّوا في حياتهم عن الاعتقاد بأُلوهية معبوداتهم و ربوبيتها ، و إليك دراسة حكم القرآن في عقيدة المشركين من غير فرق بين عبّاد الاَجرام السماوية أو الاَرضية وحتى المشركين من أهل الكتاب الذين يعدّهم القرآن مشركين أيضاً.

قضاء الكتاب في عقيدة المشركين

  1 ـ إنّ الذكر الحكيم يصف المشركين بأنّهم قاطبة جعلوا للّه أنداداً فلذلك عبدوا غير اللّه ، والمراد من جعلهم أنداداً للّه هو إشراكهم مع اللّه في شأن ممّا يرجع إلى اللّه سبحانه : و يختص به سواء أكان تدبيراًللكون و الحياة أم مغفرةللذنوب ، أو مالكيتهم للشفاعة.
  يقول سبحانه : ( فَلا تَجْعَلُوا للّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (البقرة | 22).
  وقال سبحانه : ( وَ مِنَالنّاسِ مَنْ يَتَّخِذَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُ كَحُبِّ اللّهِ ) (البقرة | 165).
  وقال سبحانه : ( وَجَعَلُوا للّه أنداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصيرَكُمْ إِلَى النّارِ ) (إبراهيم | 30).
  وقال سبحانه : ( إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْنَكْفُرَ بِاللّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنداداً ) (سبأ | 33).

---------------------------
(1) الالوسي : بلوغ الارب 2 : 215 ـ 216.

الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 49 _

  وقال سبحانه : ( وَ إِذا مَسَّ الاِِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبّهُ مُنيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَ جَعَلَ للّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْهُ سَبيلِهِ ) (الزمر | 8).
  وقال سبحانه : ( قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرونَ بِالّذي خَلَقَ الاََرْضَ في يَومَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمينَ ) (فصلت | 9).
  2 ـ يحكي سبحانه عن المشركين انّهم يعترفون في يوم القيامة بانّهم كانوا يسوُّون بين اللّه وآلهتهم.
  قال سبحانه : حاكياً عن لسان المشركين يوم القيامة : ( تَاللّهِ إِنْ كُنّا لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ * إِذْنُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمينَ ) (الشعراء | 97 ـ 98).
  فهذه الآيات ـ التي تحكي عقيدة المشركين و هي أنّهم جعلوا للّه سبحانه تعالى ندّاً بل أنداداً و أنّهم كانون يسوّون آلهتهم بربّ العالمين ـ تكشف الغطاء عن وجه الحقيقة ، وهو انّ الاَصنام بزعمهم كانت موَثرة في الكون و لو في قسم منه ، موَثرة في مصير عبادها ، و لذلك سميت الآلهة أرباباً ، أي مالكين لاَزمّة الاَُمور و مصير حياة العابد و إن كان فوق هذه الاَرباب ربّالعالمين.
  3 ـ و هناك مجموعة من الآيات تحكي عن مناظرة إبراهيم لمشركي عصره من عبدة الاَجرام السماوية يقول سبحانه : ( وَ إِذْقالَإِبْراهيمُ لاََبيهِ آزَرَأَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلهة إِنّي أَراكَ وَقَومكَفي ضَلالٍ مُبينٍ ) ثم إنّه سبحانه يسرد مناظرته معهم بشكل بديع و يذكر أنّبطل التوحيد حاجّهم بالنحو التالي : ( فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ

الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 50 _

  الآفِلينَ * فَلَمّا رَءَا الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِني رَبِّي لاََكُونَنَّ مِنَ الْقَومِ الضّالّينَ * فَلَمّا رَءَا الشَّمْسَ بازِغَةً قالَهذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَريءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمواتِ وَالاََرْضَ حَنيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكينَ ) (الاَنعام | 74 ـ 79).
  نرى أنّإبراهيم يركز على كلمة ( ربّي ) و يعترف مجاراة للقوم بربوبية الاَجرام السماويّة ، و لم يزل يُظهر لهم أنّه على هذا الاعتقاد قبل أُفولها ، ثمّ يعود و يبطل ربوبيتها بأُفولها.
  فماذا كان المشركون يقصدون من الاعتقاد بربوبية الاَجرام السماوية ؟! وماذا أراد بطل التوحيد حسب الظاهر من الاقرار بربوبيتها؟! أليس الربّ بمعنى الصاحب ، أليس سياسة المربوب و تدبير حياته بيد الربّ فهل يمكن أن يعبد هوَلاء هذه الاَجرام من دون اعتقاد بتأثيرهم على حياتهم و مسيرتهم.
  كلّ ذلك يعرب عن كيفية عقيدة المشركين بالنسبة إلى آلهتهم و أربابهم ، وإنّما جرّتهم إلى عبادتها لاعتقادهم الخاص بها.
  4 ـ إنّه سبحانه : ( يصف اليهود والنصارى بأنّهم اتخذوا أحبارهم و رُهبانهم أرباباً ، قال سبحانه : ( اتَّخذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَالْمَسيحَ ابْنَ مَرْيََمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ ) (التوبة | 31).
  و ليس المراد أنّهم اعتقدوا بأنّ علماء دينهم و رهبانهم خالقون أو مدبرون للكون بل كانوا يعتقدون أنّلهم شأناً من شوَونه سبحانه : وهو أنّلهم تحليل الحرام و تحريمه و انّه فوض إليهم زمام التشريع و بالتالي مصيرهم بأيديهم و يكفي ذلك في صدق الربوبية.

الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 51 _

  روى المفسرون عن عدي بن حاتم قال : أتيت رسول اللّه و في عنقي صليب من ذهب فقال لي : يا عدي إطرح هذا الوثنَ في عنقك قال : فطرحته ثم انتهيتُ إليه و هو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية ( اتَّخذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً ) حتّى فرغ منها فقلت له : إنّا لسنا نعبدهم فقال : أليس يحرِّمون ما أحل اللّه فتحرّمونه ، ويُحلّون ما حرّم اللّه فتستحلونه ؟ قال : فقلت : بلى قال : فتلك عبادتهم (1)
  هذا قليل من كثير ممّا يعرب عن عقيدة المشركين القدامى والجدد في حقّ معبوداتهم.
  ونختم المقال بشيء من شعر زيد بن عمر بن نوفل الذي أسلم قبل أن يبعث النبي ّالاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ يقول بعد استبصاره معرباً عن عقيدته في الجاهلية :
أرب  واحـد أم ألـف iiرب      أديـن  إذا تـقسّمت الاَُمور
عزلتُ  اللاة والعُزى iiجميعاً      كذلك  يفصل الجلد iiالصبور
فـلا عُزّى أدين ولا iiابنتيها      ولا صنَمَي بني عمرو أزور
  ويقول في شعر آخر :
إلى الملك الاَعلى الذي ليس فوقه      إلـه  و لا ربّ يكون مداينا (2)ii
  هذه الاَشعار و سائر الكلمات المروية عن الاَمّة الجاهلية قبل مبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تثبت أمراً واحداً وهو أنّآلهتهم كانت تتمتع حسب عقيدتهم بقوة غيبة مالكة لها موَثرة في الكون و مصير الاِنسان و انّهوَلاء آلهة و أرباب واللّه سبحانه إله الآلهة و ربّالاَرباب.

---------------------------
(1) الطبرسي : مجمع البيان : 3 | 23 ـ 24.
(2) الالوسي : بلوغ الارب 2 : 249.

الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 52 _

التعريف المنطقي لمفهوم العبادة

  المقصود من التعريف المنطقي ، هو التعريف الجامع الشامل لجميع أفراد العبادة سواء كانت حقّة أو باطلة ، صحيحة أو فاسدة ، و ـ التعريف ـ المانع عن دخول غيرها ، ممّا ليس من مصاديقها و جزئياتها ، و إن كانت شبيهة بها في الظاهر ، ولكنّها في الواقع تكريم و تبجيل ويتوهمها الجاهل عبادة.
  و بما أنّا لم نقف على تعريف للعبادة ، في الكتاب و السنّة ، لا محيص لنا عن اصطياده عن طريق تحليلها في ضوء المصدرين الكريمين فانّ دراستها كذلك يُشرِف الباحثَ على تمييز العبادة عن غيرها و بالتالي على صبّما استفاده منهما في قالب تعريف جامع و مانع.
  أقول : العبادة تتقوم بعنصرين ولا يُغني أحدهما عن الآخر :
  الاَوّل : الاعتقادُ الخاص في حقّ المعبود ، أعني الاعتقادَ بأنّه إله أو ربّ ، أو بيده مصير العابد آجلاً وعاجلاً في تمام شوَون الحياة أو بعضها ، وقد تعرّفتَ على معنى (الاِله) و (الرب) في الفصلين السابقين فلا نعود إلى ما ذكرنا سابقاً ، فإذا كان الخضوع و التذلل ، مجرّداً عن هذا النوع من الاعتقاد لايعدّ العمل عبادة سواء أكان باللسان ، أم بسائر الجوارح ، نعم يمكن أن يكون حراماً موجباً للعقاب لا لاَنّه عبادة بل لكونه عملاً محرماً كسائر المحرّمات الّتي ليست بعبادة قطعاً كالكذب و الغيبة.
  الثاني : العمل الحاكي عن الخضوع ، و يكفي في ذلك أبسط الخضوع إلى أعلاه سواء أكان باللفظ والبيان ، أم بسائر الجوارح ، فإذا كان الخضوع نابعاً عن الاعتقاد الخاص في مورد المخضوع له ، يتصف بالعبادة.
  إنّ الاعتقاد بأُلوهية المخضوع له ، أو ربوبيته ، أو كون مصير العباد بيده ،

الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 53 _

  مجرّداً عن الخضوع العملي أو اللفظي ، يستلزم كونَصاحبه مشركاً في العقيدة لا مشركاً في العبادة ، و إنّما يكون مشركاً فيها إذا انضمّ إلى العقيدة ، خضوع عملي كما أنّ مجرّدَ الخضوع النابع عن الحب و العطف ، يكون تكريماً و تبجيلاً ، و خضوعاً و تذلّلاً لا عبادة ، و ربما يكون حلالاً و مباحاً و يعدّ مَظْهَراً للتكريم و سبباً لاِظهار الحبّ و الودّ ، و ربما يكون حراماً كالسجود للمحبوب بما أنّه جميل ، لا لاَنّه إله و ربّ أو بيده مصيره ، و مع ذلك فالسجود لمثله حرام حسب ما ورد في السنّة و إن لميكن عبادة و كونه مثلها في الصورة لا يُدخله في عنوانها لاَنّالعبرة بالنيّات و البواطن ، لا بالصور و الظواهر.
  أمّا العنصر الثاني : فلم يختلف في لزوم وجوده اثنان إنّما الكلام في مدخلية العنصر الاَوّل في صدق العبادة و دخوله في واقعها و نحن نستدل على مدخليته بطريقين :
  الاَوّل : التمعن في عبادة الموحّدين و المشركين
  إنّ الاِمعان في أعمالهم ، يدلُّ بوضوح على أنّخضوعهم جميعاً لم يكن منفكاً عن الاعتقاد بأُلوهية معبوداتهم و ربوبيتها و كانت تلك العقيدة هي التي تَجرُّهم إلى الخضوع و التذلل أمامها ولولاها لم يكن لخضوعهم وجه ولا سبب فالموحِّد يخضع أمام اللّه لاعتقاده بأنّه خالق ، بارىَ ، مبدع ، و مصور ، مدبّر ، و متصرّف ، و بكلمة جامعة : إنّه إله العالمين إلى غير ذلك من الشوَون ، فمن هذا الاعتقاد ، ينشأ الخضوع و التذلل.
  والمشرك يخضع أمام الاَصنام والاَوثان ، أو الاَجرام السماوية ، لاعتقاده بأنّها آلهة و أرباب بيدها مصيره في الدنيا و الآخرة و لذلك كانوا يستمطرون بها ، ويطلبون منها الشفاعة والمغفرة و بذلك صاروا آلهة و أرباباً.
  إنّ الموحّد يرى أنّ العزّة بيد اللّه سبحانه و هو القائل عزّ من قائل : ( فَلِلّهِ الْعِزَّةُ جَميعاً ) (فاطر | 10) ( وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ ) (آل عمران | 26)

الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 54 _

  ولكن المشرك يرى أنّالعزة بيد الاَصنام والاَوثان يقول سبحانه حاكياً عن عقيدته : ( وَاتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً ) (مريم | 81).
  إنّ الموحّد لا يُثبت شيئاًمن صفاته سبحانه ، و أفعاله ، لغيره ولا يرى له مثيلاً و لا نظيراًفي الصفات والاَفعال فهو المتفرِّد في جماله و كماله ، وفي أسمائه و صفاته ، وفي أعماله و أفعاله ، و لكن المشرك يسوي الاَصنام بربّالعالمين إذ يقول سبحانه حاكياً عنهم : ( تَاللّهِ إِنْ كُنّا لَفِي ضَلالٍ مُبين * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمين ) (الشعراء | 97 ـ 98) و إذا لم تكن التسوية متحقّقة في تمام الشوَون فقد كانت متحقّقة في بعضها فقد كانوا عندهم مالكين للشفاعة النافذة التي لا تردّ ، و لغفران الذنوب ، فلاَجل ذلك تُركّز الآيات على أنّ الشفاعة للّه و المغفرة بيده ، يقول سبحانه : ( قُلْ للّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً ) (الزمر | 44) و يقول : ( وَ مَنْ يَغْفِر ُالذُّنُوبَ إِلاّ اللّه ) (آل عمران | 135)
  إنّ النبيّ إبراهيم يصف ربّه بقوله : ( الّذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالّذي يُطْعِمُنِي وَ يَسْقينِ*وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالّذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيينِ * وَالّذي أَطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لي خَطِيئَتي يَومَ الدّينِ ) (الشعراء |78 ـ 82) و هو في هذا المقام يحاول ردّ عقيدة المشركين حيث كانوا يثبتون بعضَ هذه الاَفعال لمايعبدون من الاَجرام السماوية والاَرضية.
  وحصيلة الكلام أنّ التاريخ القطعي وآيات الذكر الحكيم متّفقان على أنّخضوع المشركين لم يكن مجرّدَ عمل دون أن يكون نابعاً من الاعتقاد الخاصّ في حقّ معبوداتهم و لم تكن عقيدتهم سوى إثبات ما لربّ العالمين من الشوَون ، كلّها أو بعضها لهم ، و لاَجل ذلك كانوا يتذلّلون أمامهم.
  هذه هي الطريقة الاَُولى لاستكشاف مدخلية العنصر الاَوّل في صدق العبادة و قد وقفنا عليها من طريق الامعان في عبادة الموحدين و المشركين و إليك الكلام في الطريقة الثانية.

الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 55 _

  الثانية : الاِمعان في الآيات الداعية إلى عبادة اللّه ، الناهية عن عبادة الغير إنّ الآيات الحاثة على عبادة اللّه و المحذرة عن عبادة غيره ، تعلل لزوم عبادته سبحانه بالاَُلوهية تارة و الربوبية أُخرى ، و هذا إن دلّعلى شيء فإنّما يدلّ على أنّ العبادة من شوَون الاِله و الربّ ، و انّها كانت ضابطة مسلّمة بين المخاطبين ، و لم يكن فيها أيّاختلاف و إنّما كان الاختلاف في الموصوف بهما ، فالذكر الحكيم لا يرى في صحيفة الوجود ، إلهاً ولا ربّاً غيره ، و يُحصر العنوانين في اللّه سبحانه بينما يرى المشركين أصنامَهم آلهة و أرباباً و لذلك ذهبوا إلى عبادتها و الخضوع أمامها لاَنّها أرباب و آلهة عندهم و لها نصيب من العنوانين.
  وعلى الجملة : انّ الدعوة إلى عبادة اللّه أو حصرها فيه معللاًبأنّه سبحانه إله و ربّ و لا إله ولا ربّغيره ، يعطي اتفاق الموحد والمشرك على تلك الضابطة و أنّها من شوَون من كان ربّاً و إلهاً و إنّما كان الاختلاف و الجدال في المصاديق ، و إنّه هل هناك إله أو ربّ غيره سبحانه ، أو لا ؟ فالاَنبياء يوَكدون على الثاني ، و المشركون على الاَوّل ، وعلى هذا لو كان هناك خضوع أمام شيء ، من دون هذه العقيدة فلا يكون عبادة باتّفاق الموحد و المشرك ، و إليك ما استظهرناه من الآيات :
  1 ـ قال سـبحانه : ( يا قَومِ اعْبُدُوا اللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) (الاَعراف | 59).
  وقد وردت هذه الآية في مواضع كثيرة من القرآن (1)
  إنّقوله سبحانه : ( ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) بمنزلة التعليل للاَمر بحصر

---------------------------
(1) لاحظ ، الاَعراف | 65 ، 73 و 58 ، و سورة هود | 5 ، 61 ، 84 ، و سورة الاَنبياء | 25 و سورة الموَمنين | 23 ، 32 و سورة طه | 14.

الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 56 _

  العبادة في اللّه تعالى و معناه : اعبدوا اللّه و لا تعبدوا سواه ، و ذلك لاَنّ العبادة من شوَون الاَُلوهية ولا إله غيره.
  2 ـ قال سبحانه : ( وَ قال َالْمَسِيحُ يا بَنِي إِسرائِيلَا عْبُدُوا اللّه َرَبّي وَ ربَّكُمْ ) (المائدة | 72).
  ( إنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمّةً واحِدة وأَنَا ربُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (الاَنبياء | 92).
  ( إِنَّ اللّهَ ربّي وَربُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقيم ) (آل عمران | 51).
  ( يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ وَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) (البقرة | 21).
  و كيفية البرهنة في هذا الصنف من الآيات مثلها في الآية السابقة.
  وقد ورد مضمون هذه الآيات أعني : جعل العبادة دائرة مدار الربوبية في آيات أُخرى (1)
  إنّتعليق الاَمر بالعبادة على لفظ الربّ في قوله ( اعبدوا ربّكم ) دليل على أنّوجه تخصيص العبادة باللّه سبحانه هو كونه ربّاً و لا ربّ غيره ، فهذا يعرب عن كون العبادة من شوَون من يكون ربّاً ، وليس الربّ إلاّاللّه سبحانه ، وأمّا ربوبية غيره فباطلة.
  3 ـ قال سبحانه : ( ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) (الاَنعام 102).
  فقد علل الاَمر بعبادة اللّه سبحانه في هذه الآية بشيئين :
  أ : إنّه ( ربّكم ).
  ب : إنّه ( خالق كلّشيء ).

---------------------------
(1) لاحظ : يونس | 3 ، الحجر | 99 ، مريم | 36 ، 65 ، الزخرف | 64.

الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 57 _

  فيدل بوضوح على أنّ العبادة من شوَون الربوبية و الخالقية ، فمن كان خالقاً ، أو ربّاً ، مدبّراً للكون والاِنسان ، تجب عبادته ، وأمّا من كان مجرداًعن هذه الشوَون فكان مخلوقاً بل خالقاً و لا ربّاًو مدبّراً متصرفاً فيه مكان كونه مدبِّراً و متصرِّفاً ، فلا يصلح أن يكون معبوداً.
  إنّه سبحانه يشرح في مجموعة من الآيات بأنّه الخالق الرازق المميت المحيي ، و إنّ الشفاعة له جميعاً ، وهو الغافر للذنوب لا غيره ، ولا يهدف من ذكر هذه الاَوصاف لنفسه إلاّ توجيه نظر الاِنسان نحو صلاحيته للعبادة لا غيره و هو يعرب عن أنّالعبادة من شوَون من يكون خالقاً ، و رازقاً ، مميتاً ، محيياً ، غافراً للذنوب ، ماحياً للسيئات و ليس إلاّ هو ، و إنّالمشركين يعبدون أصناماً ، يزعمون أنّها تملك شيئاً من هذه الاَُمور أو بعضها و لكنّها عقيدة خاطئة ، إذ هو الرازق المحيي المميت الغافر ، للذنوب لا غيره.
  5 ـ يقول سبحانه : ( اللّهُ الّذي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) (الروم | 40).
  وقال تعالى : ( هَلْ لَكُمْ مِن ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ شُرَكاء فِي ما رَزَقْناكُمْ ) (الروم | 28).
  وقال تعالى : ( هُوَ يُحْيي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرجَعُونَ ) (يونس | 56).
  وقال سبحانه : ( قُلْ للّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً ) (الزمر | 44).
  وقال تعالى : ( وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاّ اللّه ) (آل عمران | 135).
  فهذا الصنف من الآيات التي تلونا عليك قسماً قليلاً منها يدل على أنّه لايستحقّ العبادة إلاّمن يتمتع بهذه الشوَون وماضاهاها فلو كان متمتعاً بها واقعاً