إستأنفي العمل فقد غفر لك )
(1).
لقد تناول الحديث الشريف مرحلتين من أهم المراحل التي يمر بها الوليد ، وهما :
مرحلة الحمل ، ومرحلة التغذية في دورها الرضاعي ، وعلى هاتين القاعدتين تبتني الحياة .
ويأتي التشويق للمحافظة على الجنين في المرحلة الاولى في أروع صورة عندما يقول النبي ( ص ) إذا حملت المرأه كانت بمنزلة الصائم القائم المجاهد ) .
لقد منح الحديث المرأة الحامل ثواب :
1 ـ الصائم .
2 ـ القائم : وهو الذي يقضي وقته بالعبادة لله سبحانه .
3 ـ المجاهد : ولم يحدد الحديث الجهاد ، بل كان مطلقاً يشمل الجهاد على الصعيدين : بالنفس ، وبالمال في سبيل الله.
وثواب هؤلاء : طفحت ببيانه كتب الحديث من جميع المذاهب فأسهبت في تقديره .
كل ذلك تناله المرأة الحامل ، ولكن لماذا كانت موضع عناية الله في الحصول على كل هذا الثواب ؟
فهل قضت تلك المرأة أيامها صائمة ؟ .
أو هل اتعبت بدنها بالعبادة المتواصلة ؟ .
أو هل ضربت بسيف في معركة جهادية مع الكفار ؟ .
**************************************************************
(1) وسائل الشيعة : حديث (1) من الباب (67) من أبواب أحكام الأولاد.
اليتيم في القرآن والسنة
ـ 9 ـ
أو هل أنفقت من مالها إلى الفقراء ، والمعوزين لتنال بواحدٍ من هذه الأمور ، أو بأكثر كل هذا الثواب ؟ .
ويأتي الجواب عقب هذه التساؤلات بكلمة ( لا ) . . .
وإذا فلماذا نالت المرأة كل ذلك ؟ .
ونتلمس الجواب واضحاً من خلال الحديث نفسه في قوله ( ص ) : ( إذا حملت المرأة ) الخ . . .
فالحمل : هو السبب في نيلها هذه الدرجات الرفيعة ، وأي إمرأة لا تحافظ على حملها إذا كان الأجر بهذا النوع من العطاء الجزل من الله سبحانه ؟ .
أما في المرحلة الثانية : وهي المرحلة المتعقبة للولادة فنرى الحديث يشوق الأم لتغذية الطفل وضمه إلى صدرها بأن يمنحها بكل مصةٍ من ثديها ثواب عتق رقبة مؤمنة .
وأخيراً يختتم الحديث بأن يزف إلى تلك الام المرعضة البشرى الكبرى بأنه بانتهاء عملية الرضاع لكل وجبة غذاء يقول لها ملك كريم : ( إستأنفي العمل فقد غفر لك ) .
بهذا الأسلوب الرقيق جاءت الشريعة لتحث الوالدة لتتولى بنفسها تغذية الولد في أدواره الاولى من هذه الحياة ولا تتركه عرضة تتلاقفه المرضعات بين أحضانهن لان لبنها مكيف تكييفاً مناسباً لحال الطفل ، وبنيته فالام تعذي الطفل بلبن دافىء معقم طبيعي حي غير متغير بالتسخين ، أو فاسد بالجراثيم أو مختلف عليه لو كان من مرضعة أخرى .
والطفل حين تضمه الأم إلى صدرها تلاعبه وتلاطفه وتغذيه من لبنها تشعره بدفء الحنان الأنثوي ، وبعاطفة الأمومة فيأنس الطفل بهذه العاطفة ، ويطمئن إلى مصدر هذا اللطف .
ولهذا نرى الأطباء ينصحون الامهات اللاتي يرضعن أولادهن
اليتيم في القرآن والسنة
ـ 10 ـ
بالزجاجة أن لا يحرمن الطفل من هذه المداعبة والملاطفة لئلا يفقد الصغير الغذاء الروحي كما فقد اللبن منها .
وبنفس التقام الطفل لحلمة الثدي فائدة عظيمة حيث تتهيج الام بدغدغة هذا الموضع منها فتهيج عواطفها مما يبعثها على تقريب الطفل ، وضمه إليها وهي تشعر بالعطف المتزايد عليه وبهذا تشتد أواصر المحبة بينهما .
ويستمر التوجيه من الشارع المقدس للأبوين ليكملا ما بعد هذا الدور من أدوار الطفولة لينال الطفل تربية صالحة فالتربية الصالحة كفيلة بخلق جيل يحقق للأمة سعادتها وهنائها .
أما الأهمال ، وعدم الرعاية فنتيجته الحتمية هو ايجاد جيل ينخر في كيان الامة مما يؤدي إلى تدهورها ، وسقوطها .
ومن خلال هذه العناية بالطفل نرى اللطف الإلهي يتجلى في أظهر صوره حيث يتبنى مشكلة يعاني المجتمع منها في جميع الادوار والمراحل تلك هي مشكلة ( اليتامى ) الذين يفقدون اليد التي تحنو عليهم ، ويبقون عرضة لاعاصير هذه الحياة العاتية ومورداً خصباً لتجمع الرذائل ، والموبقات وبذلك تفقد الامة من أعضائها ما بهم تشد أزرها ، ويخسر المجتمع أفراداً كانت الاستفادة منهم حتمية لو حصل لهم من يبادلهم العطف ، واللطف ، والرعاية الطيبة .
ولذلك نرى الدين الاسلامي الحنيف يفرض على مجتمعه ويكلف كل فردٍ من أبنائه برعاية اليتيم ، والعناية به في سائر شؤون الحياة لئلا ينشأ فاقد التوجيه ، ويصبح عاهة في المجتمع العام ، فإهمال اليتيم يساوي إهمال المجتمع ، وهدم كيانه الحافظ للحياة الإنسانية العامة .
وإذاً فلكي نحافظ على مجتمعنا ، وندافع عن مصالحه يلزمنا القيام
اليتيم في القرآن والسنة
ـ 11 ـ
برعاية اليتيم ، وسد الفراغ العاطفي منه ، وذلك باشغال شعور الطفل بما ينسى به فقد أبيه .
من هو اليتيم ؟ :
اليتيم : كما تطالعنا به كتب اللغة هو :
الفرد من كل شيء ، يقال : بيت يتيم ، وبلد يتيم ، ومن الناس من فقد أباه .
ومن البهائم من فقد أمه .
وحيث كانت الكفالة في الإنسان منوطة بالاب كان فاقد الاب يتيماً دون من فقد أمه .
وعلى العكس في البهائم ، فإن الكفالة حيث كانت منوطة بالام كذلك كان من فقد أمه يتمياً .
وقد حدد اللغويون نهاية هذا العنوان فقال الليث : اليتيم ، الذي مات أبوه ، فهو يتيم حتى يبلغ الحلم فإذا بلغ زال عنه إسم اليتم .
وهكذا قال غيره من علماء اللغة .
تحديد عنوان اليتيم :
ويتفق الفقهاء مع اللغويين بتحديد اليتيم إلى هذا الحد ، فهم يرون أن هذا العنوان يتمشى مع الطفل إلى حد البلوغ الشرعي ، والذي تقرره الشريعة المقدسة بظهور واحدٍ من علامات ثلاث :
1 ـ إنهاء الطفل خمسة عشر عام من عمره إذا كان ذكراً ، وتسعة إذا كان إنثى .
اليتيم في القرآن والسنة
ـ 12 ـ
2 ـ إنبات الشعر على عانته .
3 ـ الإحتلام بخروج المني منه ، أو الحيض من الانثى .
حيث تنبىء هذه العلامات بوصوله إلى مدارك الرجال ، وحينئذٍ ، فينتقل من مرحلة الطفولة ، وهي مرحلة عدم المسؤولية إلى مرحلة العبء الإجتماعي ، والمسؤولية الشرعية التي تفرض على الرجال البالغين .
ولم يقتصر إطلاق عنوان اليتيم على الطفل قبل بلوغه بل أطلق على البالغين أيضاً ، ولكنه إطلاق مجازي ، وليس باطلاق حقيقي كما كانوا يسمون النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو كبير : ( يتيم أبي طالب ) ( عليه السلام ) لانه رباه بعد موت أبيه وفي الحديث : ( تستأمر اليتمية في نفسها فإن سكتت فهو أدنها ) .
اراد باليتيمة : البكر البالغة التي مات أبوها قبل بلوغها ، فلزمها إسم يتيم ، فدعيت به ، وهي بالغة مجازاً .
سبب التسمية باليتيم
الذي يظهر مما يقوله أهل اللغة في هذا الصدد هو : أن التسمية بهذا الاسم منشأها . . . عدم الاعتناء الذي يلاقيه من فقد كفيله وهو بهذا السن من العمر حيث صرح بمثل ذلك من تضلع بتتبع هذا النوع من المصطلحات .
يقول المفضل : أصل اليتم الغفلة ، وبه سمي اليتيم يتيماً لانه يتغافل عن بره .
أما أبو عمر فقال اليتم : الإبطال ، ومنه أخذ اليتيم لأن البر يبطيء عنه
(1).
**************************************************************
(1) لاحظ للموضوع من ناحيته اللغوية : لسان العرب / مادة يتم ، ومن الناحية الفقهية كافة المصادر الفقهية لجميع المذاهب .
اليتيم في القرآن والسنة
ـ 13 ـ
اليتيم في القرآن والسٌنة :
ليس من السهل ضبط حصة اليتيم من السنة الكريمة على النحو الدقيق .
أما حصته في القرآن الكريم فقد تعرضت الآيات له في اثنين وعشرين آية
(1) مقسمة إلى أقسام ثلاثة :
تعرض القسم الأول منها إلى بيان شمول اللطف الإلهي له في الشرائع السابقة ، والايصاء به .
أما القسم الثاني : فقد تعرض إلى بيان حقوقه الإجتماعية ، وقد تركز القسم الثالث على بيان حقوقه المالية .
كما وقد تناولت الآيات الكريمة بشكل خاص يتامى آل النبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) تمييزاً لهم في بعض الحقوق المالية عن بقية اليتامى لاداء بعض ما للنبي الاكرم ( صلى الله عليه وآله ) من
حق على الناس .
اليتيم في الشرائع السابقة :
لو لاحظنا اليتيم لرأيناه : طفلاً من الاطفال فقد كفيله ، وحرم من تلك العواطف الابوية ، ولكنه لم يفقد الرحمة الإلهية حيث إحاطته فكانت
**************************************************************
(1) وهي كما يلي :
سورة البقرة : آية ( 83 ، 177 ، 215 ، 230 ) .
وسورة النساء : آية ( 2 ـ 3 ، 6 ، 8 ، 10 ، 36 ، 137 ) .
وسورة الأنعام : آية ( 153 ) ، وسورة الانفال آية ( 41 ) وسورة الاسراء آية : ( 17 ) وسورة الكهف : آية ( 82 ) ، وسورة الحشر : آية ( 7 ) وسورة الإنسان : آية ( 8 ) وسورة الفجر : آية ( 17 ) وسورة البلد : آية ( 15 ) وسورة الضحى آية ( 6 ، 9 ) وسورة الماعون آية ( 2 ) .
اليتيم في القرآن والسنة
ـ 14 ـ
له الحصة الوافرة في التشريع من الحث على ضرورة التزامه ، والامن بعدم التجاوز على حقوقه ، والترغيب في جلب مودته ، والتلطف به لئلا يشعر بالوحدة والانعزال ، ولئلا يكون فريسة لشهوات أولئك الذين لم تجد الرحمة إلى قلوبهم سبيلاً .
ولم يكن هذا المعنى من مختصات شريعتنا الاسلامية المقدسة بل كانت هذه الرعاية سنة الله في خلقه قبل أن يقوم للاسلام كيان ، فرعاية اليتيم ، والمحافظة عليه كانت من جملة بنود الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل من قبل ، فالقرآن الكريم يحدث النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن هذا الميثاق المقدس ويوضح له ذلك في الآية الكريمة التالية :
( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ )
(1).
ولسنا الآن بصدد بيان أين ، ومتى أخذ هذا الميثاق ، بل المهم هو أن القرآن الكريم يعرض بنود هذا الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل ، والذي هو ميثاق إلى جميع البشر من غير الاسرائيليين لعدم إختصاصهم به لانه الركائز الحقيقية لدين الله الحنيف في جميع شرائعه المقدسة ، وهي الاصول الثابتة لبناء مجمتمع متماسك الاطراف .
ومع الميثاق في بنوده :
1 ـ لا تعبدون إلا الله :
الاقرار بالله ، والتوحيد لذاته المقدسة هو البند الاول في هذا الميثاق الانساني ، وهو كل شيء ، وقبل كل شيء في هذه الحياة ، فلا عبادة لغير
**************************************************************
(1) سورة البقرة آية ( 83 ) .
اليتيم في القرآن والسنة
ـ 15 ـ
الله ، ولا خضوع لغير ذاته المقدسة ، فاليه لا بد من الاتجاه في كل صغيرة وكبيرة ، وفي السراء والضراء لا بد من التوكل عليه ، والاتجاه لغيره هو الشرك الذي يفسد على الكون نظامه .
( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا )
(1).
فلا يستقيم نظام الكون لو فسحنا المجال لشريك يعبده الفرد ، وكيف نتصور كوناً تحكمه إرادتان ، ولنفرض ان إحدى الارادتين توجهت لسلب شيء ، بينما كانت الاخرى تريد الايجاب ، وهكذا في بقية المجالات التي يحصل فيها الاختلاف فأي الارادتين تتقدم ؟ .
إذاً فلا بد من السير على النهج الذي يضمن للحياة استقامتها وللمجتمع سعادته ، وهذا ما لا يحصل إلا بتوحيد الله سبحانه والعبودية له .
( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ )
(2).
والشرك بعد كل هذا يسد طريق المغفرة على الانسان ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء )
(3).
وإذا انسد باب المغفرة في وجه الفرد ، فمصيره جهنم ، وإذاً فالتوحيد هو اللبنة الاولى في سعادة الفرد ومن وراء ذلك سعادة المجتمع الموحد المتماسك الاطرف وإذا ما انتقلت الآية الكريمة تطالع الرسول الاعظم ببيان البند الثاني من ذلك الميثاق فاذا بها تصرح :
**************************************************************
(1) سورة الانبياء : آية ( 23 ) .
(2) سورة الاخلاص : الآيات ( 1 ـ 4 ) .
(3) سورة النساء : آية ( 48 ) .
اليتيم في القرآن والسنة
ـ 16 ـ
2 ـ وبالوالدين إحسانا :
لقد تكفلت الفقرة الاولى من هذا الميثاق ببيان عرى الوحدة الإلهية وأن الفرد لا بد أن يتخذ إلهاً واحداً لا شريك له ، لذلك جاء البند الثاني يبين للاجيال عرى الوحدة الاجتماعية ، وفي مقدمتها الاحسان إلى المجموعة البشرية .
فبالاحسان إلى الآخرين تتماسك أواصر المجتمع ، وبالعطف على الضعيف تموت العوامل التي تهدم بناء الامم ، فتحل بمكانها المحبة ، والسلام ، والعطف ، والرعاية من البعض إلى الاخرين حيث يتحسس القوي أحوال الضعيف ، فيبادله الا´خر عطفه ومحبته ، وبذلك يجد الخير طريقه إلى قلوب الوادعة الآمنة دون أن تكون موطناً للحسد ، والنفاق ، والحقد ، وبقية الموبقات التي تجر على المجتمع آلاماً ومصائب .
ولكن للاحسان درجات يتقدم البعض منها على البعض الآخر طبقاً لقانون : تقديم الاهم ، ورعاية لما يقتضيه تأخير المهم ، فالاحسان حسن ، ولكن في الدرجة الاولى لا بد وان يكون إلى الابوين لانهم الاصل الطيب لهذا الفرع ، وعلى هذا الأصل يتكيء الفرع وما تليه من ثمرات .
فالابوان : مصدر العاطفة ، ومنبع الحنان ، ومهد اللطف والرعاية ، ولا بد من مقابلة جهودهما المبذولة بالبر ، والاحسان وهما ـ في الوقت نفسه ـ أقرب حلقة إلى الانسان لذلك نرى الاهتمام بهما من قبل الشارع المقدس ملحوظاً في أكثر من مورد .
ونستعرض إلى عرض الكثير من هذه الموارد في فصل قادم .
3 ـ وذي القربى :
فقرابة الانسان هم الاوراق المتدلية من أغصان شجرة الاسرة ، وهم
اليتيم في القرآن والسنة
ـ 17 ـ
ـ في الوقت نفسه ـ الحواشي ، والاطراف والايصاء بهم من جملة ما يحقق البر والاحسان ، ويحقق الرحمة ، والتآلف بين الافراد .
يقول أحد الرواة قلت لأبي عبدالله الصادق ( عليه السلام ) ( إن آل فلان يبر بعضهم بعضاً )
(1) ويتواصلون فقال : إذاً تنمى أموالهم ، وينمون ، فلا
يزالون في ذلك حتى يتقاطعوا ، فاذا فعلوا ذلك انقشع عنهم .
والمجتمع ليس إلا هؤلاء الافراد المجتمعون ، وسعادته تتوقف على ما يربط بينهم من التودد ، والتحابب ، وهذا ما يتمثل في صورة الاحسان ، والخير ، وحواشي المحسن بعد أصوله مقدمون على غيرهم .
4 ـ واليتامى :
وحيث تم الايصاء بالاحسان بوشائج النسب ، ولحمته من الأصل ، والحواشي كانت الآية الكريمة تنحو بفقراتها الميثاقية إلى الايصاء بما يتعدى الأصل ، والاسرة النسبية فتشمل موارد الاحسان افراداً آخرين من أسرته الكبرى في هذه الحياة ، وهم : أبناء نوعه من البشر دون أن تقتصر بالاحسان على سبب قريب من اب ، أو رحم .
بل هناك في الناس من يحتاج إلى الاحسان وتتوقف حياته على الرعاية به خصوصا إذا كان ( يتمياً ) .
واليتامى هؤلاء الناس الابرياء الذين شاءت الحكمة الإلهية أن يختطف الموت اليد الكفيلة فتعوضهم بأيدٍ أخرى محسنة تحوطهم بكل معنى الرعاية ، والمحبة فجعلت الرحمة ، والعناية من جملة القواعد التي يتركز عليها دين الله القويم ، فكانت رعاية اليتيم من جملة بنود الميثاق المأخوذ على بني اسرائيل والذي هو صورة مرسلة إلى جميع البشر لئلا
**************************************************************
(1) اصول الكافي : حديث ( 20 ) من باب صلة الرحم .
اليتيم في القرآن والسنة
ـ 18 ـ
يفقد اليتيم من يرعاه ، فيبقى نتيجة الإهمال عضواً عاطلاً ، عالة على الآخرين .
ومن خلال بعض المشاهد نرى الرحمة الإلهية تشمل اليتيم بنحو من الرعاية حيث لم تكتف بالايصاء به ، وأخذ ذلك في الميثاق على بني إسرائيل ، بل ينتقل من الايصاء ، والترغيب إلى التطبيق ، والاظهار للاثار المترتبة على معاملة اليتيم بالحسنى ، ورعاية حقوقه لتظهر إلى الناس مدى التأثير الذي يخلفه هذا العمل الانساني .
فعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن عيسى بن مريم ( عليه السلام ) مر بقبر يعذب صاحبه ، ثم مر به من قابل ، فإذا هو ليس يعذب فقال : يا رب مررت بهذا القبر عام أول فكان صاحبه يعذب ، ثم مررت به العام ، فاذا هو ليس يعذب فأوحى الله عز وجل إليه : يا روح الله . . . أنه أدرك له ولد صالح ، فأصلح طريقاً ، وأوى يتيماً ،
فغفرت له بما عمل إبنه
(1).
من الايصاء ، والصعيد الكلامي تنتقل الشريعة ـ كما قلنا ـ الى الصعيد العملي لترغب الافراد في التسابق على أعمال الخير ، فقد غفر الله لعبده المعذب لانه أدرك له ولد صالح ، فأصلح طريقاً يمر به الناس ، وأوى يتمياً صغيراً لا كافل له ، فمنحه من عطفه ما أنساه مرارة اليتم ، فكان جزأوه من الله النجاة من العذاب لينال بذلك ثمار تربيته لذلك
الولد ، أما جزاء ذلك الولد على تلك الرعاية فذاك موكول إلى لطف الله سبحانه ، وهو الكريم .
وفي مشهد آخر من المشاهد التي نرى فيها رعاية اليتيم واضحة عبر الشرائع السابقة نرى القرآن الكريم يتعرض لقصة النبي موسى ( ع ) مع العبد الصالح ( الخضر ) ( ع ) حيث وجدا في سفرهما ( جداراً يريد أن
**************************************************************
(1) سفينة البحار : مادة ( يتم ) .
اليتيم في القرآن والسنة
ـ 19 ـ
ينقضي فأقامه ) وأصلحه الخضر بدون أجر يأخذه على ذلك العمل ، لذلك كان هذا المنظر غريباً على موسى .
( قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا )
(1).
وتمر لحظات ينتظر فيها موسى الجواب الشافي من الخضر فاذا به يكشف الحقيقة قائلاً :
( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي )
(2).
لقد حفظ الله بعنايته لهذين اليتيمين كنزهما المذخور جزاء لصلاح ابيهما وقد ذكرت كتب التفسير أنه كان ذلك جزاء صلاح أب لهما بينهما ، وبينه سبعة آباء .
وهكذا كان صلاح الآباء مثمراً في حفظ حقوق الذرية ورعاية ما اودع لهما من كنز مالي ، أو علمي على اختلاف ما جاء في التفسير من هذه الجهة ، وبيان نوعية الكنز .
كما كان صلاح الولد مثمراً في رفع العذاب عن الاب المقبور فيما سبق من قصة عيسى ـ عليه السلام ـ ومروره على أحد القبور .
أن هذه الآثار الدنيوية هي النتائج المترتبة على حسن نية المرء في حياته اتجاه الآخرين فكما تدين تدان .
وجلت عظمته حيث يقول :
**************************************************************
(1) سورة الكهف : آية ( 77 ) .
(2) سورة الكهف : آية ( 82 ) .
اليتيم في القرآن والسنة
ـ 20 ـ
( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ )
(1).
وفي موضع آخر من كتابه الكريم قال .
( وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ )
(2).
ولا بد للمرء أن يحب لغيره نفس ما يرغب به لنفسه ، ويدفع عن الباقين نفس ما لا يرغب به لنفسه لينتظم بذلك الاجتماع ، ويأمن الباقون من الشرور التي تصدر من الأفراد ، وبذلك تسير الحياة هادئة مطمئنة ، فيؤدي كل فردٍ الدور الذي يناط به ، ويتحمل أعباء مسؤوليته .
اليتيم في الاسلام :
لقد أولت الشريعة الاسلامية اليتيم عناية فائقة ، وحثت على رعايته والمحافظة على أمواله ، وحذرت من التجاوز على حقوقه .
ومن جهة أخرى فقد أهابت بالمحسنين أن يقوموا بتهذيبه وتأديبه كما يراعي الوالد أبنائه .
ولكن الملاحظ من المشرع أنه أكد بشكل ملحوظ على رعاية حقوقه المالية ، ولربما كان هذا بشكل يفوق بقية الجهات المطلوبة في رعاية اليتيم وقد ظهر ذلك من الآيات الكريمة والاخبار الشريفة والتي تشكل بدورها مجموعة كبيرة تلفت نظر الباحثين .
ولا غرابة في هذا التأكيد المتواصل من الشريعة على هذه الجهة لو
**************************************************************
(1) سورة الزلزلة : آية ( 7 ـ 8 ) .
(2) سورة لقمان : آية ( 16 ) .
اليتيم في القرآن والسنة
ـ 21 ـ
لاحظنا طبيعة القوم في أول الدعوة ، والظروف المحيطة بالمنطقة العربية مما كان يستدعي هذا الحث ، وهذا التأكيد .
لقد أطل الاسلام بنوره على الجزيرة العربية والقوم غارقون في ظلمات تقاليدهم الموحشة من الغزو ، والنهب ، وتقديم القوي على الضعيف ليكون هذا طعمة سائغة له فيرزح تحت الضغط الذي يواجهه من الطبقة المتجاوزة .
المنطقة المتكالبة لا عمل لها سوى الغزو ، والنهب والحروب المستعرة تجرها النعرات القبلية لتعيش على أسمال الغنيمة المغتصبة ولذلك كان الضعيف طعمة للقوي فكيف باليتيم ، والذي يأتي في الرعيل الاول من مسيرة الضعفاء والبائسين .
مجتمع قاس لا يرى كرامة الانسان مهما كانت شخصيته ما دام لا يتمكن من حفظ نفسه أمام تيارات القوة والتعدي .
مجتمع يضفي على نفسه شكل مرير من التقوقع القبلي فتتخذ كل قبيلة لها شاعراً يمجد بها ، ويصوغ من غزوها ، ونهبها درراً يشب الصغير على ترتيلها ليكبر ، وتكبر معه روح التجاوز والانتقام .
في هذا الجو المليء بالشجون ، والمآسي يقبع اليتيم يندب حظه العاثر ليخضع لتجاوز الاولياء ، والاقوياء فلم يجد له من يمد له العون ليحفظ له حقوقه ، ويراعي شؤونه ، وقد بقي وحيداً في معركة الحياة ولكن الاسلام :
دين العدل ، والمساواة ، ومبدأ الرحمة ، والعطف جاء ليأخذ بيد الضعفاء فيرفع بهم إلى المستوى الذي يجدون فيه حقوقهم كاملة غير منقوصة مهما كلف الثمن فالقوي عنده ضعيف حتى يأخذ منه الحق ، والضعيف في نظره قوي حتى يأخذ له حقه .
اليتيم في القرآن والسنة
ـ 22 ـ
بهذا المنطق القويم جاء الاسلام ليحل بين ظهراني تلك القبائل المتمردة على العرف الانساني لذلك لا نجد غرابة لو كانت حصة اليتيم وافرة في مقام التشريع فيلقى الاهمية البالغة من جانبه سواءاً في الكتاب المجيد ، أو في السنة على لسان أمناء الوحي النبي الاكرم ، وأهل بيته ومن تبعه على حق .
اليتيم والتقييم التشريعي :
تناولت الموسوعة التشريعية تقييم اليتيم من الجهتين : الاجتماعية والمالية .
فشرعت له في هذين المجالين ما يحقق رعايته كفرد فقد كفيله ، فأصبح إلى من يبادله العطف ، والحنان ، والتربية الصالحة ليكون فرداً صالحاً لا تؤثر على نفسيته حياة اليتيم ولا تترك الوحدة في سلوكه انحرافاً يسقطه عن المستوى الذي يتحلى به بقية الافراد ممن يتنعم بحنان الابوة ، وعطفها .
ومن جهة أخرى أحكمت له حقوقه المالية حيث يكون ـ والحالة هذه ـ عرضة للاستيلاء من جانب الاقوياء .
1 ـ اليتيم وحقوقه الاجتماعية :
لقد تنوع الاسلوب التشريعي في بيان حقوق اليتيم الاجتماعية : ولكنه شرع معه من حين الطفولة المبكرة لما لهذه المرحلة من الاهمية البالغة في احتضان اليتيم ، وإيوائه ليعيش في جو من الحنان الدافىء لينسيه مرارة اليتم ، وليعوض عليه ما فاته من عواطف الابوة .
ولذلك نرى الكتاب الكريم يسلك طريقاً جديداً للوصول إلى بيان
اليتيم في القرآن والسنة
ـ 23 ـ
حقوق اليتيم الاجتماعية ذلك هو توجيه الخطاب إلى النبي الاكرم متخذاً من الواقع المرير الذي مر به وهو طفل خير درس يوجهه إلى الأفراد لرعاية هذه الزهور الذابلة .
من هذه النقطة سيكون المنطلق لمسيرة الاسلام مع الحملة التوجيهية لليتيم .
لقد مرت هذه الادوار بالرسول الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ يوم فقد أباه وهو طفل فقيض الله له جده عبد المطلب ( شيخ الابطح ) ليقوم برعايته ، وتربيته فقد شاءت الحكمة الإلهية أن يذوق المنقذ الاول للانسانية مرارة اليتم ، فيفقد الحنان الابوي لولا أن يعوضه الله بمن سد له هذه الخله ليطبق الدرس تطبيقاً عملياً فتسير الامة على
هداه ، وتنحو هذا النحو من السلوك الذي تتمخض نتائجه بالتوجيه الصالح للافراد .
1 ـ ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ) .
2 ـ ( ووجدك ضالاً فهدى ) .
3 ـ ( ووجدك عائلاً فأغنى ) .
4 ـ ( فأما اليتيم فلا تقهر )
(1).
هذه الآيات الكريمة جمعت بين طياتها درساً كاملاً لكل ما يحتاجه اليتيم في الحياة الاجتماعية .
فهي الدستور الذي لابد من تطبيقه للوصول إلى الغاية السامية من رعاية حقوق الضعفاء .
وهي بمجموعها تشكل بيان المراحل التي لا بد للكبار من اجتيازها للوصول بهذا الانسان إلى الهدف المنشود .
**************************************************************
(1) سورة الضحى : الآيات ( 6 ، 7 ، 8 ، 9 ) .
اليتيم في القرآن والسنة
ـ 24 ـ
فالمشاكل التي يواجهها اليتيم في بداية الشوط ثلاث :
ـ المسكن الذي يلجأ إليه .
ـ والتربية الصالحة بما تشتمل عليه من تأديب وتعليم .
ـ والمال الذي ينفق عليه منه .
1 ـ إيواء اليتيم :
( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ) .
أول ما يحتاجه اليتيم في هذه الحياة هو :
الحضن الذي يضمه .
والصدر الذي يغمره بدفئه .
والبيت الذي يمرح فيه .
فإذا تهيأت هذه الثلاث كان بالامكان أن يحفظ هذا الطفل المهمل ليقوم بالانفاق عليه مادياً ، ومعنوياً .
ومن هنا جاءت فكرة الملاجىء للأيتام ومدى ما تسديه من خدمة للمجتمع في محافظتها على هذه الفئة من الاطفال .
لذلك يبدأ الكتاب المجيد بتذكير المشرع الاعظم بأولى مراحل احتياجاته وهو طفل يتيم فيخاطبه بهذا الاسلوب الهاديء لينقله إلى ذلك الدور الذي مر عليه .
أنت أيها المشرٌع أحسست بهذا الشعور يوم ودع أبوك هذه الدنيا وهو في ريعان شبابه فكنت مشتبكاً لهذه الحوادث القاسية فأواك الله ، وعطف عليك قلوب الحواضن ، وإذا بجدك عبد المطلب يحتضنك فيوليك من حنانه ما يعوضك عن حنان الابوة ، ويوصي بك لعمك أبي طالب فيكفلك ويفضلك على أولاده وليكن بعد ذلك خير ساعد لك على دعوتك المقدسة ووسط هذا العطف تنعمت بما أنساك مرارة الوحدة الابوية وذل اليتم .
اليتيم في القرآن والسنة
ـ 25 ـ
هذا العم الحنون الذي جاهد ، وكافح في سبيل رعاية ابن أخيه في الوقت الذي كانت العرب تنظر اليه كسير الجناح مهيض الجانب يتيماً لا أب له .
ان أبناء الجزيرة ـ كما أسلفنا ـ كانوا قد فقدوا القيم الرفيعة بتكالبهم الوحشي على اغتصاب الآخرين .
لذلك كانت الشريعة المقدسة قد غيرت المفاهيم الخاطئة وأصلحت ما كان منها فاسداً ، فاختارت من بين هذه المجموعة الضعيفة يتيماً كان محطاً للرحمة الإلهية في تبليغ رسالة السماء إلى أبناء الارض ليعطي صورة واضحة عن القيم ، والاخلاق وليزيل عن الاذهان الصور الخاطئة ، والتي كانت تعبر عن الانحراف الذهني لابناء الجزيرة العربية في عصورها المظلمة .
إذاً فلا بد من المأوى لليتيم ، ولا بد من تهيئة الملجأ لليتيم فبلا مأوى سيصبح هذا الطفل متسولاً تتلاقفه ارصفة الشوارع ، ومنعطفات الأزقة ، فيكون عالة على بلده ، ويكون هذا التسيب مبدأ مسيرته الاجرامية ، فلا مخدع يؤيه ، ولا رقيب ينتظره يقطع ساعات الليل متسكعاً ليلحقها في نهارة منبوذاً تحتضنه تكايا الرذيلة فاذا به عضو فاسد تخسره
الامة ، ويكون وبالاً عليها وعلى أبنائها .
وقد جاء في الخبر عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قوله ( خير بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه ، وشر بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه )
(1).
فلماذا هذه الاساءة لطفل لا ذنب له ، ولا دخل له في تحقق اليتم ،
**************************************************************
(1) أخرجه ابن ماجة تحت رقم ( 3679 ) .
اليتيم في القرآن والسنة
ـ 26 ـ
وإنطباقه عليه ، إنه كبقية الاطفال ، وقد شاءت الاقدار أن تخطف منه من يحنو عليه ، فهل يكون ذلك سبباً في تسويغ الاساءة إليه .
إن العطف الانساني ، واللطف ، والرعاية ليدعو كل ذلك إلى تقديم هذا المحروم على بقية الاولاد ممن يضمهم البيت لئلا يشعر اليتيم بذل الوحدة ، ومرارة الوحشة ، وإلا فإن البيت الذي لا يجد هذا الصغير فيه المعاملة الحسنة هو شر البيوت كما يحدث عنه الخبر ، وبالعكس إن وجد اليتيم اليد الحانية في ذلك البيت ، والعطف الذي يدغدغ قلبه
الكسير كان ذلك البيت خير بيت تحوطه البركة ، وتشمله الرعاية الإلهية .
2 ـ الانفاق على اليتيم :
( ووجدك عائلاً فأغنى ) .
وسواء كان الغنى المقصود هو الانفاق من أبي طالب ، أو الاموال التي صرفتها خديجة على النبي الاكرم فان المال هو العصب الذي يقوم بحفظ حياة الانسان ليحقق له احتياجاته كإنسان يأكل ، ويشرب ، ويلبس .
ان الغنى هو ما يقابل الفقر على كل حال ، ولذلك أخذت الآية الكريمة تذكر نبي الرحمة بهذه النقطة الحساسة لتدفع في نفسه الهمة على مساعدة الضعفاء ممن مروا بهذه المرحلة العسيرة .
فاليتيم وهو فقير بحاجة إلى من يمد له يد العون فيشبع له بطنه ، ويستر له عريه ولذلك تنوعت دعوة القرآن إلى مساعدة الضعفاء ، والاخذ بأيديهم لتأمين احتياجاتهم المعاشية .
ولنستعرض معاً هذه الطرق التي سلكها الكتاب الكريم لحث الناس على الانفاق والعطاء .
اليتيم في القرآن والسنة
ـ 27 ـ
التجارة مع الله
ومن بين تلك الاساليب التي تجلب الانتباه هو ما يسلكه القرآن في سبيل تشويق الافراد الى الانفاق بجعل عملية العطاء عملية مقايضة بين الانفاق ، والجزاء منه على هذا العمل الانساني .
وبذلك يكون المنفق قد سد خلة اجتماعية بمساعدته لهؤلاء المحتاجين والله لا يحرمه على هذه الاريحية بل يعوضه في الدارين :
في هذه الدنيا بزيادة الربح ، والبركة في ماله ، وفي الآخرة بالثواب الجزيل .
وتتوالى الآيات الكريمة لتعطينا صورة واضحة عن هذه الاتفاقية بين العبد ، وربه .
( وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ )
(1).
( فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ )
(2).
( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )
(3).
( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )
(4).
**************************************************************
(1) سورة فاطر : آية ( 29 ) .
(2) سورة الحديد : آية ( 7 ) .
(3) سورة البقرة : آية ( 261 ) .
(4) سورة البقرة : آية ( 265 ) .
اليتيم في القرآن والسنة
ـ 28 ـ
ولم تكن هذه الآيات الكريمة هي كل ما تعرض له القرآن الكريم في التشويق على الانفاق ، بل هناك أمثالها تحتوي عليها السور القرآنية ، وهي بمجموعها تصور اسلوباً دقيقاً في الحث على المساعدة ، ودفع الافراد إلى سبيل الخير .
وبهذا الاسلوب كانت الآيات تستنهض همم الاغنياء إلى مساعدة البائسين من الايتام وغيرهم .
ولكن الروعة النفسية تظهر في اختيار هذا النوع من الحث على المساعدة بهذا الاطار الترغيبي المحبب .
فالآيات الكريمة تحرك من الافراد جوانبهم العاطفية فتبدأ معهم بلهجة يلاحظ القارىء فيها آثار الشدة ، وأن الله ليس بمحتاج إلى العبد في ترغيبه إلى هذه المشاريع الخيرية ، بل على العكس من ذلك فان الله يمن على العبد بإرشاده إلى ما فيه خيره ، وصلاحه .
( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وأن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا
أمثالكم )
(1).
وإذا ما التفت الفرد ، وعرف أنه الفقير إلى تقديم الخير لينتفع بهذا الاحسان ، فيخفف به عما يلحقه من الذنوب رأينا هناك حقيقة أخرى تتكشف له لتدفعه بشكل عنيف إلى اعتناق مبدأ الانفاق ، والاحسان ، وتتجسد في قوله تعالى :
( وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ) .
أنها ليست مسألة خسارة من جانب المنفقين ، كما وأنها ليست
**************************************************************
(1) سورة محمد : آية ( 38 ) .
اليتيم في القرآن والسنة
ـ 29 ـ
عملية كاسدة حينما يجد العبد جزاء ما يقدمه موجوداً عند الله فهو بهذه العملية يتاجر مع الله عز وجل وهي تجارة ـ حتماً ـ رابحة ، ومضمونة تجر لصاحبها الربح الوفير .
ان العمليات التجارية المتضمنة لمبدأ الربح هي الطريقة التي يسير عليها في حياتهم المعاشية لتأمين الكسب ، والنفع ولذلك اختار الاسلوب القرآني هذه الطريقة ليصل إلى النتائج المطلوبة من النافذة التي يطل منها الفرد في حياته اليومية .
وأنها صورة حية مستوحاة من الحياة العملية الدارجة ليلتفت اليها الفرد فيقارن بينها ، وبين ما هو مألوف له فيما يسير عليه كل يوم لئلا تحتاج العملية إلى تصور دقيق وبحث عميق .
( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )
(1).
وهذه صورة أخرى من صور الحياة التي يمارسها الفرد .
أنها حياة الزراعة ، والنمو .
وحياة الربح ، والاستفادة .
ومن منٌا لم يشاهد الزرع ، وكيفية نموه ، والربح المتوخى من وراء الزرع أنها حبة واحدة إذا بارك الله فيها تقدم لزارعها سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ، والنسبة الحسابية لهذه العملية هي .
واحد في قبال سبعمائة ، وهو ربح وفير مغرٍ يناله الزارع من الارض الميتة ، والانفاق في سبيل الله مثله كمثل الحبة تزرع في الارض.
**************************************************************
(1) سورة البقرة : آية ( 261 ) .