كان موضوع القضاء والقدر لغزاً عويصاً فيما مضى من حياتي إذ لم أجد فيه تفسيراً شافياً ولا كافياً يريح فكري ويقنع قلبي ، وبقيتُ محتاراً ، بينما تعلّمته في مدرسة أهل السنّة من إن الإنسان مسيّرٌ في كلّ أفعاله بما يوافق : ( كل ميسّرُ لما خلقَ له ) وإنّ الله سبحانه يبعث الى الجنين في بطن أمه ملكين من الملائكة فيكتبان أجله ورزقه وعمله ، وإن كان شقّياً أو سعيداً (1) ، وبين ما يمليه عقلي وضميري ، من عدالة الله سبحانه وتعالى وعدم ظلمه لمخلوقاته ، إذ كيف يجبرهم على أفعال ثم يحاسبهم عليها ويعذبهم من أجل جرم كتبه هو عليهم وأجبرهم عليه .
فكنت كغيري من شباب المسلمين أعيش تلك التناقضات الفكرية في تصويري بأن الله سبحانه هو القوي الجبار الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون (2) ـ وهو فعال لما يريد (3) ـ وقد خلق الخلق وجعل قسما منهم في الجنة
---------------------------
(1) صحيح مسلم 8 /44 .
(2) سورة الأنبياء آيه 23 .
(3) سورة البروج آية 16 .
لاكون مع الصادقين _ 134 _
وقسما آخر في الجحيم ـ ثم هو رحمن رحيم بعباده لا يظلم مثقال ذرة (1) وما ربك بظلام للعبيد (2) ـ إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون (3) ، ثم هو أحن عليهم من المرأة على ولدها كما جاء ذلك في الحديث الشريف (4) .
وكثيراً مايتراءى هذا التناقض في فهمي لآيات القرآن الكريم فمرة أفهم بأن الإنسان على نفسه بصيرة وهو المسؤول الوحيد عن أعماله فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره (5) .
ومرة أفهم بأنه مسير وليس له حول ولا قوة ، ولايملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا رزقا وما تشاؤون إلا أن يشاء الله (6) فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء (7) .
نعم لست وحدي بل أغلب المسلمين يعيش هذه التناقضات الفكرية وللذلك تجد أغلب الشيوخ والعلماء إذا ما سألتهم عن موضوع القضاء والقدر لا يجدون جواباً يقنعون به أنفسهم قبل إقناع غيرهم ، فيقولون : هذا موضوع لا يجب الخوض فيه ، وبعضهم يحرم الخوض فيه ويقول : يجب على المسلم أن يؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره وإنه من عند الله .
وإذا ماسألهم معاند : كيف يجبر الله عبده على إرتكاب جريمة ثم يزج به في نار جهنم ؟ إتهموه بالكفر والزندقة والخروج عن الدين الى غير ذلك من التهم
---------------------------
(1) سورة النساء آية 40 .
(2) سورة فصلت آية 46.
(3) سورة يونس آية 44 .
(4) صحيح البخاري 7 /75 .
(6) سورة الزلزلة آيه 7 ـ 8 .
(6) سورة الإنسان آية 30 .
(7) سورة فاطر آية 8 .
لاكون مع الصادقين _ 135 _
الباردة ، فجمدت العقول وتحجرت وأصبح الإيمان بأن الزواج بالمكتوب ، والطلاق بالمكتوب ، وحتى الزنا فهو مكتوب إذ يقولون : مكتوب على كل فرج إسم ناكحه ، وكذلك شرب الخمر ، وقتل النفس وحتى الأكل والشرب فلا تأكل ولا تشرب إلا ما كتب الله لك !
قلت لبعض علمائنا بعد إستعراض كل هذه المسائل : إن القرآن يكذب هذه المزاعم ، ولا يمكن للحديث أن يناقض القرآن ! قال تعالى في شأن الزواج وإنكحوا ماطاب لكم من النساء (1) فهذا يدل على مرتبة الأختيار وفي شأن الطلاق الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان (2) وهو أيضا إختيار وفي الزنا قال ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا (3) وهو أيضاً دليل الإختيار وفي الخمر قال إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون (4) وهي أيضا تنهى بمعنى ألأختيار .
أما قتل النفس فقد قال فيها : ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق (5) وقال : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه لعنه وأعد له عذابا أليما (6) فهذه أيضا تفيد الإختيار في القتل .
وحتى بخصوص الأكل والشرب فقد رسم لنا حدودا فقال : وكلوا وإشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (7) فهذه أيضاً بالإختيار .
فكيف ياسيدي بعد هذه الأدلة القرآنيه بأن كل شيء من الله
---------------------------
(1) سورة النساء آية 3 .
(2) سورة البقرة آية 229 .
(3) سورة الإسراء آيه 32 .
(4) سورة المائدة آيه 91 .
(5) سورة الأنعام آية 151 .
(6) سورة النساء آية 93 .
(7) سورة الأعراف آية 31 .
لاكون مع الصادقين _ 136 _
والعبد مسير في كل أفعاله ؟؟ .
أجابني : بأن الله سبحانه هو وحده الذي يتصرف في الكون وإستدل بقوله قل اللّهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير (1) .
قلت : لا خلاف بيننا في مشيئة الله سبحانه وإذا شاء الله أن يفعل شيئا ، فليس بإمكان الإنس والجن ولا سائر المخلوقات أن يعارضوا مشيئته ! وإنما إختلافنا في أفعال العباد هل هي منهم أم من الله ؟؟
أجابني : لكم دينكم ولي ديني ، وأغلق باب النقاش بذلك . هذه هي في أغلب الأحيان حجة علمائنا ، وأذكر أني رجعت إليه بعد يومين وقلت له : إذا كان إعتقادك إن الله هو الذي يفعل كل شيء وليس للعباد أن يختاروا أي شيء ، فلماذا لا تقول في الخلافة نفس القول ، وإن الله سبحانه هو الذي يخلق مايشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ؟
فقال : نعم أقول بذلك ، لأن الله هو الذي إختار أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ولو شاء الله أن يكون علي هو الخليفة الأول ما كان الجن والأنس بقادرين على منع ذلك .
قلت : الآن وقعت ؟
قال : كيف وقعت ؟
قلت : إما أن أن تقول بأن الله إختار الخلفاء الراشدين الأربعة ثم بعد ذلك ترك الأمر للناس يختارون من شاءوا .
وإما ان تقول بأن الله لم يترك للناس الإختيار وإنما يختار هو كل الخلفاء من وفاة الرسول الى قيام الساعة ؟
أجاب : أقول بالثاني قل اللّهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع
---------------------------
(1) سورة آل عمران آية 26
لاكون مع الصادقين _ 137 _
الملك ممن تشاء … .
قلت : إذاً فكل إنحراف وكل ضلالة وكل جريمة وقعت في الإسلام بسبب الملوك والأمراء فهي من الله ، لأنه هو الذي أمر هؤلاء على رقاب المسلمين ؟
أجاب : وهو كذلك ، ومن الصالحين من قرأ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها أي جعلناهم أمراء .
قلت متعجبا : إذاً فقتل علي على يد إبن ملجم وقتل الحسين بن علي أراده الله ؟؟
فقال منتصرا : نعم طبعا ـ ألم تسمع قول الرسول لعلي : ( أشقى الآخرين الذي يضربك على هذه حتى تبتل هذه ، وأشار الى رأسه ولحيته كرم الله وجهه ) .
وكذلك سيدنا الحسين قد علم رسول الله بمقتله في كربلاء وحدث أم سلمة بذلك كما علم بأن سيدنا الحسين سيصلح الله به فرقتين عظيمتين من المسلمين ، فكل شيء مسطر وكتوب في الأزل وليس للإنسان مفر ، وبهذا أنت الذي وقعت لا أنا .
سكت قليلا أنظر اليه وهو مزهو بهذا الكلام ، وظن أنه أقحمني بالدليل ، كيف لي أن أقنعه بأن علم الله بالشيء لا يفيد حتما بأنه هو الذي قدره وأجبر الناس عليه ، وأنا أعلم مسبقا بأن فكره لا يستوعب مثل هذه النظرية .
سألته من جديد : إذا فكل الرؤساء والملوك قديما وحديثا والذين يحاربون الإسلام والمسلمين نصبهم الله ـ قال : نعم وبدون شك .
قلت : عل الإستعمار الفرنسي على تونس والجزائر والمغرب هو من الله قال : بلا ، لما جاء الوقت المعلوم خرجت فرنسا من تلك الأقطار .
قلت : سبحانه الله ! فكيف كنت تدافع سابقا عن نظرية أهل السنّة بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مات وترك الأمر شورى بين المسلمين .
لاكون مع الصادقين _ 138 _
ليختاروا من يشاؤون ؟
قال : نعم ولا زلت على ذلك وسأبقى على ذلك إنشاء الله !
قلت : فكيف توفق بين القولين : إختيار الله وإختيار الناس بالشورى ؟
قال ! بما إن المسلمين إختاروا أبا بكر فقد إختاره الله !
قلت : أنزل عليهم الوحي في السقيفة يدلهم على إختيار الخليفة ؟
قال : أستغفر الله ليس هناك وحي بعد محمد كما يعتقد الشيعة ! (والشيعة كما هو معروف لا يعتقدون بهذا وإنما هي تهمة ألصقها بهم أعداؤهم ).
قلت : دعنا من الشيعة وأباطيلهم واقنعنا بما عندك ! كيف علمت بأن الله إختار أبا بكر ؟
قال : لو أراد الله خلاف ذلك لما تمكن المسلمون ، ولا العالمون خلاف مايريده الله تعالى ؟
عرفت حينئذ إن هؤلاء لا يفكرون ولا يتدبرون القرآن، على رأيهم سوف لن تستقيم أية نظرية فلسفية أو علمية .
وهذا يذكرني بقصة أخرى كنت أمشي مع صديق في حديقة كان بها نخل كثير وكنت أحدثه في القضاء والقدر فصقطت فوق رأسي تمرة ناضجة أخذتها من فوق الحشائش لأكلها وضعتها في في .
تعجيب صديقي قائلا : لا تأكل إلا ماكتبه الله لك ! هذه التمرة سقطت بأسمك قلت : ما دمت تؤمن بأنها مكتوبة فسوف لن آكلها ، ولفظتها .
قال : سبحان الله ! إذا كان الشيء غير مكتبوب لك يخرجه الله حتى من بطنك قلت : إذاً سآكلها والتقطها من جديد لأثبت بأني مخير في أكلها أو تركها بقي صديقي يرقبني حتى مضغتها وإبتلعتها ، عند ذلك قال : هي والله كاتبة لك ( يقصد كتبها الله إليك ) ، وإنتصر علي بتلك الطريقة لأني لا يمكن لي بعد ، أن أخرج التمرة من جوفي .
لاكون مع الصادقين _ 139 _
نعم هذه عقيدة أهل السنّة في خصوص القضاء والقدر أو قل هذه عقيدتي عندما كنتُ سنياً .
ومن الطبيعي أن أعيش بهذه العقيدة مشوش الفكر بين التناقضات ومن الطبيعي أن نبقى في جمود دائم وننتظر أن يغير الله ما بنا ، عوض أن نغير نحن ما بأنفسنا لكي يغير الله ما بنا ، ونتهرب من المسؤولية التي تحملناها ونلقي بها عليه سبحانه ، فإذا قلت للزاني أو للسارق أو حتى للمجرم الذي أغتصب فتاة قاصرة وقتلها بعد شهوته فسيجيبك : الله غالب ، قدر ربي ، سبحان هذا الرب الذي يأمر الإنسان بدفن إبنته ثم يسأله بأي ذنب قتلت ؟ سبحانك إن هذا إلا بهتان عظيم ! .
ومن الطبيعي أن يزدري بنا علماء الغرب ويضحكون لسخافة عقولنا ، بل وينبزوننا بالألقاب فيسمونه ( مكتوب العرب ) ويجعلونه سببا رئيسيا لجهلنا وتخلفنا .
ومن الطبيعي أيضا أن يعرف الباحثون بأن هذا الاعتقاد نشأ من الدولة الاموية الذين كانوا يرجون بأن الله سبحانه هو الذي أعطاهم الملك وأمرهم على رقاب الناس فيجب على الناس أطاعتهم وعدم التمرد عليهم لأن مطيعهم مطيع لله والخارج عليهم هو متمرد على الله يجب قتله ، ولنا في ذلك شواهد عديدة من التاريخ الأسلامي : فهذا عثمان بن عفان عندما يطلبون منه أن يعتزل يرفض ويقول لا أخلع قميصا قمصنيه الله (1) فعلى رأيه الخلافة هي لباس له وقد ألبسه الله إياه فلا ينبغي لأحد من الناس أن ينزعه عنه إلا الله سبحانه يعني بالوفاة وهذا معاوية أيضا يقول : إني لم أقاتلكم لتصوموا ولتزكوا وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون فهذا يذهب شوطا أبعد من
---------------------------
(1) تاريخ الطبري حصار عثمان وتاريخ إبن الأثير .
لاكون مع الصادقين _ 140 _
عثمان لأنه يتهم ربّ العزة والجلالة بأنّه أعانه على قتل المسلمين ليتأمّر عليهم وخطبة معاوية مشهورة (1)
وحتّى في إختياره ليزيد إبنه وتوّليه على النّاس رغم أنوفهم فقد إدّعى معاوية أنّ الله هو الذي إستخلف إبنه يزيداً على الناس وذلك مارواه المؤرخون ، وعندما كتب بَيعتهُ الى الآفاق ، وكان عامله على المدينه مروان بن الحكم ، فكتب اليه يذكر الذي قضى الله به على لسانه من بيعة يزيد (2) .
وكذلك فعل إبن زياد الفاسق عندما أدخلوا عليه علياً زين العابدين مكبّلاً بالأغلال فسأل قائلاً من هذا فقالوا علي بن الحسين ! قال : ألم يقتل الله علي بن الحسين فأجابته زينب عمّته : بل قتلَهُ أعداء الله وأعداء رسوله .
فقال لها إبن زياد : كيفَ رأيتُ فعل الله بأهل بيتك .
قالت : مارأيت إلا جميلاً ، هؤلاء قومٌ كتبَ الله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم ، فأنظر لمن الفلح يومئذ ، ثكلتك أمك يا بن مرجانه (3) .
وهكذا تفشّى هذا الإعتقاد من بني أمية وأعوانهم وسرى في الأمة الإسلامية عدا شيعة أهل البيت .
---------------------------
(1) مقاتل الطالبين ص 70 وإبن كثير 8 /131 و ابن أي الحديد 3 /16 .
(2) الإمامة والسياسة 1 /151 بيعة معاوية ليزيد بالشام .
(3) مقاتل الطالبين ـ مقتل الحسين .
وما أن عرفتُ علماء الشيعة (1) وقرأت كتبهم حتّى إكتشفتُ علماً جديداً في القضاء والقدر .
وقد أوضحه الإمام علي ( عليه السلام ) بأوضح بيان وأشمله إذ قال لمن سأله عن القضاء والقدر : ( ويحك لعلّك ظننتَ قضاء لازماً وقدراً حاتماً ، ولو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب ، وصقط الوعد والوعيد .
إن الله سبحانه أمر عباده تخييراً ، ونهاهم تحذيراً ، وكلّف يسيراً ولم يكلّف عسيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، ولم يُعصً مغلوباً ، ولم يُطعْ مُكرِهاً ، ولم يرسل الأنبياء لعباً ، ولم ينزل الكتب للعباد عبثاً ، ولا خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً ، ذلك ظنّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار … (2) .
---------------------------
(1) كالشهيد محمد باقر الصدر طيب الله ثراه الذي أفادني كثيرا في الموضوع وكالسيد الخوئي والعلامة السيد محمد علي الطباطبائي والسيد الحكيم وغيرهم .
(2) شرح نهج البلاغة محمد عبده 4 /673 .
لاكون مع الصادقين _ 142 _
فما أوضحه من بيان ، وما قرأت في الموضوع كلاماً أبلغ منه وبرهاناً أدّل على الحقيقة منه ، فالمسلم يقتنع بأن أعماله هي من محض إرادته وإختياره ، لأن الله سبحانه أمرنا ولكنّه ترك لنا حرية الإختيار وهو قول الإمام ( إن الله أمر عباده تخييراً ) .
كما إنه سبحانه نهانا وحذّرنا عقابَ مخالفته فدّل كلامه على أن للإنسان حرية التصرّف وبإمكانه أن يخالف أوامر الله ، وفي هذه الحالة يستوجب العقاب ، وهو قول الإمام ( ونهاهم تحذيراً ) .
وزاد الإمام علي ( عليه السلام ) توضيحا للمسألة فقال : بأن الله سبحانه لم يُعصَ مغلوباً ، ومعنى ذلك بأن الله لو أراد جبْرَ عباده وإرغانهم على شيء ، لم يكن بمقدورهم جميعا أن يغلبوه على أمره فدلّ ذلك على إنه ترك لهم حرّية الأختيار في الطاعة والمعصية وهو مصداقٌ لقوله تعالى قل الحق من ربّكم فمن شاء فيلؤمن ومن شاء فليكفر (1) .
ثم بعد ذلك يخاطب الإمام علي ضمير الإنسان ليصل الى أعماق وجدانه فيأتي بالدليل القاطع على إنه لو كان الإنسان مجبوراً على أفعاله ، كما يعتقده البعض لكان إرسال الأنبياء وإنزال الكتب ضرباً من اللعب والعبث الذي يتنزّه الله جلّ جلاله عنه ، لأن دور الأنبياء سلام الله عليه أجمعين وإنزال الكتب هو لإصلاح النّاس واخراجهم من الظلمات الى النور واعطائهم العلاج النافع لأمراضهم النفسيه وتوضيح الطريقة المثلى للحياة السعيدة قال تعالى : إنّ هذا القرآن يهدي للّتي هي أقومُ (2) .
ويختم الإمام علي بيانه بأن الإعتقاد بالجبر هو نفس الإعتقاد يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً ، وهو كفرّ توعّد الله القائلين به بالنّار ـ
---------------------------
(1) سورة الكهف آية 29 .
(2) سورة الإسراء آية 9 .
لاكون مع الصادقين _ 143 _
وإذا محصنا قول الشيعة في القضاء والقدر وجدناه قولاً سديداً ورأياً رشيداً ، فبينما فرطت طائفة فقالت بالجبر أفرطت أخرى فقالت بالتفويض ، جاء أئمة أهل البيت سلام الله عليهم ليصحّحوا المفاهيم والمعتقدات ويرجعوا بهؤلاء واولئك فقالوا : ( لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين ) (1)
ضرب الإمام جعفر الصادق لذلك مثلاً مبسّطاً يفهمه كل الناس وعلى قدر عقولهم فقال للسائل عندما سأله : ما معنى قولك لا جبر ولا تفويض ولكن أمرٌ بين أمرين ؟ أجابه عليه السلام : ( ليس مشيُك على الأرض كسقوطك عليها ومعنى ذلك أنّنا نمشي على الأرض بإختيارنا ـ ولكنّنا عندما نسقط على الأرض فهو بغير إختيارنا ، فمن منا يُحبّ السّقوط الذي قد يُسبّبْ بعض الأعضاء من جسمنا فنصبح معاقين .
فيكون القضاء والقدر أمراً بين أمرين ، أي قسم هو من عندنا وبإختيارنا ونحن نفعله بمحض إرادتنا .
وقسم ثان هو خرج عن إرادتنا ونحن خاضعون له ولا نقدر على دفعه ، فنُحاسَبُ على الأول ولا نُحاسبُ على الثاني .
والأنسانُ في هذه الحالة مُخيّرٌ ومسيّرٌ في نفس الوقت .
أ ـ مُخيّرٌ في أفعاله التي تصدر منه بعد تفكير ورويّة إذ يمر بمرحلة التخيير والصراع بين الإقدام والإحجام ، وينتهي به الأمر إمّا بالفعل أو الترك ، وهذا ماأشار اليه سبحانه بقوله : ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقوَاها ، قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها (2) .
فالتزكية للنفس والدسّ لها هما نتيجة إختيار الضمير في كل انسان ـ كما إن الفلاح والخيبة هما نتيجة حتمية وعادلة لذلك الإختيار .
---------------------------
(1) عقائد الشيعة في القضاء والقدر .
(2) سورة الشمس آيه 6 ـ 10 .
لاكون مع الصادقين _ 144 _
ب ـ مُسيّرٌ بكلّ مايحيط به من نواميس الكون وحركته الخاضعة كلها لمشيئة الله سبحانه بكل أجزائها ومركبّاتها وأجرامها وذرّاتها ، فالأنسان ليس له أن يختار جنسه من ذكورة وأنوثة ولا أن يختار لونه فضلاً عن إختيار أبويه ليكون في أحضان أبوين موسرين بدلاً من أن يكونوا فقراء ، ولا أن يختار حتى طول قامته وشكل جسده .
فهو خاضع لعدّة عوامل قاهرة ( كالأمراض الوراثية مثلاً ) ولعدّة نواميس طبيعية تعمل لفائدته بدون أن يتكلّف فهو ينام عندما يتعب ويستطيقظ عندما يرتاح ، ويأكل عندما يجوع ويشرب عندما يعطش ، ويضحك وينشرح عندما يفرح ، ويبكي وينقبض عندما يحزن ، وفي داخله معامل ومصانع تصنع الهرومونات والخلايا الحية ، والنطفْ القابلة للتحول ، وتبني في نفس الوقت جسمه في توازن منسّق عجيب ، وهو في كل ذلك غافل لايدري بأن العناية الألهية محيطة به في كل لحظة من لحظات حياته بلا وحتى بعد مماته ! يقول الله عزّ وجلّ في هذا المعنى : أيحسب الأنسان أن يترك سدى ، ألم يكُ نَطفة من منيّ يُمنَى ، ثم كان علقة فخلق فسوّى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يُحيي الموتَى (1) .
بَلا ، سبحانك وبحمدك َربنا الأعلى أنت الذي خلقْتَ فَسّويتَ وأنتَ الذي قدّرتَ فهديت وأنت الذي أمَتَّ ثم أحَيْيتَ ، تباركت وتعاليت ، فتعساً وبعداً لمن خالفك ونأى عنك ولم يقدّرك حق قدرك .
ولنختم هذا البحث بما قاله الإمام علي بن موسى الرضا وهو الإمام الثامن من أئمة اهل البيت عليهم السلام وقد إشتهر بالعلم في عهد المأمون ولم يبلغ
---------------------------
(1) سورة القيامة آية 36 ـ 40 .
لاكون مع الصادقين _ 145 _
الرابعة عشر من عمره حتّى كان أعلم أهل زمانه (1) .
سأله سائل عن معنى قول جدّه الإمام الصادق ( لا جبر ولا تفويض بل أمرٌ بين أمرين ) فأجابه الإمام الرضا : ( من زعم أن الله يفعل أفعالنا ، ثم يعذبنا عليها فقد قال بالجبر ، ومن زعم أن الله فوض أمر الخلق والرزق الى حُججه ـ أي الأئمة ـ فقد قال بالتفويض ، والقائل بالجبر كافرٌ ، والقائل بالتفويض مشركٌ .
أمّا معنى الأمر بين الأمرين فهو وجود السبيل الى إتيان ما أمر الله به ، وترك ما نهى عنه ، أي إن الله سبحانه أقدره على فعل الشرّ وتركه ، كما ، أقدره على فعل الشر وتركه ، وأمره بهذا ونهاه عن ذاك ).
وهذا لعمري بيان كافٍ وشافٍ على مستوى العقول ويفهمه كل الناس من المثقفين وغير المثققين .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال في حقهم : ( لا تتقدموهم فتهلكوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم ) (2) .
---------------------------
(1) العقد الفريد لإبن عبد ربه 3 /42 .
(2) إبن حجر في الصواعق المحرقة ص 148 ، مجمع الزوائد 9 /163.
لاكون مع الصادقين _ 154 _
ألف ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار والباقي عروض.
وعن عمرو بن العاص : إنّ طلحة ترك مائة بهار في كلّ بهار ثلاثة قناطير ذهب ، وسمعت أنّ البهار : جلد ثور ، وفي لفظ ابن عبـد ربّه من حديث الخشني : وجدوا في تركته ثلاثمائة بهار من ذهب وفضّة.
وقال ابن الجوزي : خلّف طلحة ثلاثمائة جمل ذهباً.
وأخرج البلاذري من طريق موسى بن طلحة ، قال : أعطى عثمان طلحة في خلافته مائتي ألف دينار ، وقال عثمان : ويلي على ابن الحضرمية (يعني طلحة) أعطيته كذا وكذا بهاراً ذهباً وهو يروم دمي يحرّض على نفسي (1).
ومنهم : الزبير بن العوّام ، خلّف ـ كما في صحيح البخاري ـ إحدى عشرة داراً بالمدينة ، ودارين بالبصرة ، وداراً بالكوفة ، وداراً بمصر ، وكان له أربع نسوة فأصاب كلّ امرأة بعد رفع الثلث ألف ألف ومائتا ألف ، قال البخاري : فجميع ماله خمسون
ألف ألف ومائتا ألف ، وقال ابن الهائم : بل الصواب أنّ جميع ماله حسبما فرض : تسعة وخمسون ألف ألف وثمانمائة ألـف (2).
---------------------------
(1) الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3 / 158 ، أنساب الأشراف 5 / 7 ، مروج الذهب 1 / 434 ، العقد الفريد 2 / 279 ، الرياض النضرة 2 / 358 ، دول الإسلام ـ للذهبي ـ 1 / 18 ، الخلاصة ـ للخررجي ـ : 152.
(2) صحيح البخاري ـ كتاب الجهاد / باب بركة الغازي في ماله 5 / 21 ، ذكره شرّاح الصـحيح : فتح الباري ، إرشاد الساري ، عمدة القاري ، شذرات الذهب 1 / 43 ، وفي تاريخ ابن كثير 7 / 249 قيّدها بالدرهم.
ولاحظ : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3 / 77 ، ومروج الذهب 1 / 434.
واللطيف في هذا الموضوع إن أهل السنة والجماعة رغم أعتقادهم بالقضاء والقدر الحتمي وإن الله سبحانه هو الذي يّسيرُ عباده في أعمالهم وليس لهم الخيرة في شيء ، ولكنهم في أمر الخلافة يقولون بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مات وترك الأمر شورى بين النّاس ليختاروا لأنفسهم .
والشيعة على العكس تماماّ ، فرغم إعتقادهم بأن الأنسان مخيّرٌ في أعماله وإن عباد الله يفعلون ماشاؤوا ( ضمن مقولة لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين ) ، إلا أنهم في أمر الخلافة يقولون بأنه لا حَّق لهم في الإختيار !
ويبدو هذا وكأنه تناقضٌ من الطرفين ، السنة والشيعة لأول وهلة ، ولكنّ الحقيقة ليست كذلك .
فالسنة عندما يقوولون بأن الله سبحانه هو الذي يّسير عباده في أعمالهم ، يتناقضون مع الواقع إذ إن الله سبحانه (عندهم ) هو المخيّر الفعلي ولكنه يترك لهم الخيار الوهمي إذ إن الذي إختار أبا بكر يوم السقيقفة ، هو عمر ثم بعض الصحابة ، ولكن في الحقيقة منفذون لأمر الله الذي جعلهم واسطة ليس إلا ، على حساب هذا الزعم .
لاكون مع الصادقين _ 148 _
وأمّا الشيعة عندمكا يقولون بأن الله سبحانه خيّر عباده في أفعالهم ، فلا يتناقضون مع قولهم بأن الخلافة هي بإختيار الله وحده وربّك يخلق مايشاء ويختار ، ما كان لهم الخيرة لأن الخلافة كالنّبوة ليست هي من أعمال العباد ولا موكلة اليهم ، فكما ان الله يصطفي رسوله من بين الناس ويبعثهُ فيهم فكذلك بالنسبة لخليفة الرسول وللناس أن يطيعوا أمر الله ولهم أن يعصوه ، كما وقع بالفعل في حياة الأنبياء وعلى مرّ العصور فيكون العباد أحرارا في قبول إختيار الله ، فالمؤمن الصالح يقبلْ ماإختاره الله ، والكافر بنعمة ربّه يرفض ما إختاره الله له ويتمرّد عليه ، قال تعالى : فمن إتّبعَ هدايَ فلا يضلَ ولا يشقى ، ومن أعْرضَ عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكاً ونحن نحشره يوم القيامة أعمى ، قال ربّ لِمَ حشرتني أعمى وقد كُنت بصيراً ، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها ، وكذلك اليوم تُنسىَ (1) .
ثم إنظر الى نظرية أهل السنّة والجماعة في هذه المسألة بالذات فسوف لن تُلقي باللّوم على أحد ، لأن كل ما وقع ويقع بسبب الخلافة وكل الدّماء التي أريقت والمحارم التي هُتكتْ كل ذلك من الله ، حيث عقب بعض من يدعي العلم منهم بقوله تعالى : ولو شاء ربّك ما فعلوه (2) .
أما نظرية الشيعة فهي تحمّل المسؤولية كل من تَسبب بالإنحراف وكلٌ من عصى أمر الله وكل على قدر وزره ووزر من تبع بدعته الى يوم القيامة كلّكم راع وكلكّم مسؤول عن رعيته قال تعالى : وقفوهم إنهم مسؤولون (3) .
---------------------------
(1) سورة طه اية 123 ـ 126 .
(2) سورة الأنعام آية 112 .
(3) سورة الصافات آية 24 .
وهو أيضاً من المواضيع الذي يختلف فيه الشيعة والسنة وقبل الحكم لهم أو عليهم ، لا بدّ لنا من بحث موجز في موضوع الخمس : ولنبدأ بالقرآن الكريم ، قال تعالى : وأعلموا إنّما غنتم من شيء فإن لله ُخمسه وللرسولِ ولذي القربى واليتامى والمساكين وأبن السبيل ... (1) .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( أَمركمْ بأربع : الإيمان بالله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تؤدّي لله خُمس ما غنمتُم ) (2) .
فالشيعة ـ إمتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ـ يُخرجون خمس ماحصلوا عليه من أموال طيلة سنتهم ، ويفسّرون معنى الغنيمة بكل ما يكسبه الإنسان من أرباح بصفة عامّة .
أما أهل السنة والجماعة فقد أجمعوا على تخصيص الخمس بغنائم الحرب
---------------------------
(1) سورة الأنفال آية 41 .
(2) صحيح البخاري 4 /44 .
لاكون مع الصادقين _ 150 _
فقط ، وفسّروا قوله سبحانه وتعالى : وإعلموا إنّ ما غنمتم من شيء يعني ما حصّلتم خلال الحرب .
هذه خلاصة أقوال الفريقين في الخمس ، وقد كتب علماء الفريقين في المسألة .
ولستُ أدري كيف أُقنِع نفسي أو غيري بآراء أهل السنة التي إعتمدتْ على ما أظنّ أقوال الحكّام من بني أمية وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان الذي إستأثر بأموال المسلمين وخص نفسه وحاشيته بكل صفراء وبيضاء .
فلا غرابة في تأويلهم لآية الخمس على إنها خاصّة بدار الحرب لأن سياق الآية الكريمة جاء ضمن آيات الحرب والقتال ، وكم له من تأويل للآيات على سياق ماقبلها أو مابعدها .
فهم يؤولون مثلا آية إذهاب الرجس والتطهير على إنها خاصّة بنساء النّبي لأن ماقبلها وما بعدها يتكلّم عن نساء النبي صلّى الله عليه وآله وسلم .
كما يؤولون قوله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم على إنها خاصّة في أهل الكتاب .
وقصة أبي ذر الغفاري رضي الله عنه مع معاوية وعثمان بن عفّان ونفيه الى الربذة من أجل ذلك مشهورة ، إذ إنه عاب عليهم كنزهم الذهب والفضّة وكان يحُتج بهذه الآية عليهم ـ ولكنّ عثمان إستشار كعب الأحبار عنها فقال له بأنها خاصّة بأهل الكتاب ، فشتمه أبو ذر الغفاري وقال له : ثكلتك أمّك يا إبن اليهوديّة أَوَ تُعلّمنا ديننا ؟ فغضب لذلك عثمان ، ثم نفاه الى الربذة بعدما تعاظم إنزعاجه منه فمات هناك وحيداً طريداً لم تجد إبنته حتّى من يغسّله ويكفنّه .
وأهل السنّة والجماعة لهم في تأويل الآيات القرآنية والأحاديث النّبوية فنٌ معروف وفقهٌ مشهورٌ وذلك إقتداءً بما تأوّله الخلفاء الأوّلون والصحابة المشهورون
لاكون مع الصادقين _ 151 _
في خصوص النصوص الصريحة من الكتاب والسنة (1) .
ولو أردنا إستقصاء ذلك لأستوجب كتاباً خاصاً ، ويكفي الباحث أن يرجع إلى كتاب ( النّص والإجتهاد ) ليعرف كيف يتلاعب المتأولون بأحكام الله سبحانه .
وأنا كباحث ليس لي أن أتأوّل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية حسبَ ما أهوى أو حسب مايُمليه عليَّ المذهبْ الذي أميلُ إليه .
ولكّن ماحيلتي إذا كان أهل السنّة والجماعة هم الذين أخرجوا في صحاحهم فرض الخمس في غير دار الحرب ، وناقضوا في ذلك تأويلهم ومذهبهم .
فقد جاء في صحيح البخاري في باب ( في الرّكاز الخُمس ) وقال مالك وإبن إدريس الركازُ دفنُ الجاهلية في قليله وكثيره الخُمس ، وليس المعدنُ بركاز وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ( في المعدن جبارٌ وفي الرّكاز الخُمس ) (2) وجاء في باب مايُستخرج ُمن البحرِ : وقال إبن عباس رضي الله عنهما ليس العنبرُ بركازٍ هو شيء دَسرهُ البحرُ وقال الحسنُ في العنْبرِ واللؤلؤ الخمس فإنّما جَعلَ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الرّكاز الخمس ليس في الذي يصابُ في الماء (3) .
والباحثُ يفهم من خلال هذه الأحاديث بأن مفهوم الغنيمة التي أوجب الله فيها الخمس لا تختصّ بدار الحرب لأنّ ألرّكاز الذي هو كنزٌ يستخرج من باطن الأرض وهو ملك لمن إستخرجه ، ولكن يجب عليه دفع الخمس منه لأنّهُ غنيمة ، كما إن الذي يستخرج العنبر واللؤلؤ من البحرِ يَجبْ عليه إخراج الخمس لأنه
---------------------------
(1) جمع الإمام شرف الدين في كتابه النص والإإجتهاد أكثر من مائة مورد تأولوا فيها النصوص الصريحة فعلى الباحثين قراءة هذا الكتاب لأنه ماجمع إلا ما أخرجوه علماء السنة معترفين بصحته .
(2) صحيح البخاري 2 /137 ( باب في الركاز الخمس ) .
(3) صحيح البخاري 2 /136 ( باب مايستخرج من البحرِ ) .
لاكون مع الصادقين _ 152 _
غنيمة .
وبما أخرجه البخاري في صحيحه يتبين لنا أن الخُمسْ لا يختص بغنائمِ الحرب .
فرأيُ الشيعة يبقى دائماً مصداقُ الحقيقة التي لا تناقضُ فيها ولا إختلاف وذلك لأنهم يرجعون في كل أحكامهم وعقائدهم الى أئمة الهدى الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، والذين هم عدلُ الكتاب لا يَضْلّ من تمسّكَ بهم ويأمن من لجأ اليهم .
على أنه لا يمكن لنا أن نعتمدَ على الحروب لإقامة دولة الإسلام ، وذلك يخالف سماحة الإسلام ودعوته للسّلم فالإسلام ليس دولة إستعمارية تقوم على إستغلال الشعوب .
ونهب خيراتها وهو ما يحاول الغربيون إلصاقه بنا عندما يتكلّمون عن نبي الإسلام بكل إزدراء ويقولون بأنه توسّع بالقوّة والقهر وبالسيف لإستغلال الشعوب .
وبما أن المال هو عصب الحياة وخصوصاً إذا كانت نظرية الإقتصاد الإسلامي تقتضي إيجاد مايسمّى اليوم بالضّمان الإجتماعي لنضمن للمعوزين والعاجزين معاشهم بكرامةٍ وشهامة .
فلا يُمْكنْ لدولة الإسلام أن تعتمد على مايخرجه أهل السنة والجماعة من الزكاة وهي تمثل في أحسن الأحوال أثنين ونصف بالمائة وهي نسبة ضعيفة لا تقوم بحاجة الدّولة من إعداد القوّة ومن بناء المدارس والمستشفيات وتعبيد الطرقات فضلاً عن أن تضمن لكل فردٍ دخلاً يكفي معاشَه ويضمن حياته ، كما لا يمكن لدولة الإسلام أن تعتمد على الحروب الدامية وقتال الناس لتضمن بقاءها وتطور مؤسساتها على حساب المقتولين الذين لم يرغبوا في الإسلام .
فأئمة أهل البيت سلام الله عليهم كانوا أعلم بمقاصد القرآن ، كيف لا وهم ترجمانه ، وكانوا يرسمون للدولة الإسلامية معالم الإقتصاد ، ومعالم الإجتماع ، لو كان لهم رأيٌ يطاع .
لاكون مع الصادقين _ 153 _
ولكن للأسف الشديد كانت السلطة والقيادة في يد غيرهم الذين إغتصبوا الخلافة بالقوّة والقهر وبقتل الصلحاء من الصحابة وإغتيالهم كما فعل ذلك معاوية ، وبدّلوا أحكام الله بما إقتضته مصالحهم السياسية والدنيوية فَضلّوا وأضلّوا وتركوا هذه الأمة تحت الحضيض لم تقم لها قائمة حتّى يومنا هذا .
فبقيت تعاليم أهل البيت مجرّد أفكار ونظريات يؤمن بها الشيعة ولم يجدوا لتطبيقها من سبيل إذ إنّهم كانوا مطاردين في مشارق الأرض ومغاربها ، وقد تتّبعهم الأمويون والعبّاسيون عَبرَ العصور .
وما إن إنقرضت الدولتان وأوجد الشيعة مجتمعاً عملوا بأداء الخُمسْ الذي كانوا يؤدّونه للأئمة سلام الله عليهم خُفية ، وهم الآن يؤدّونه الى المرجع الذي يقلّدونه ، نيابة عن الإمام المهدي عليه السلام ، وهؤلاء يقومون بصرفه في أبوابه المشروعة ، من تأسيس حوزات علمية ، ومبرّات خيرية ومكتبات عمومية ، ودور أيتام وغير ذلك من أعمال جليلة كدفع رواتب شهرية لطلبة العلوم الدينية والعلمية وغيرها .
ويكفينا أن نستنتج من هذا أن علماء الشيعة مستقلون عن السلطة الحاكمة ، لأن الخمس يفي بحاجاتهم ويقومون بإعطاء كل ذي حق حقّه .
أمّا علماء أهل السنّة والجماعة فهم عالة على الحكّام وموظفون لدى السّلطة الحاكمة في البلاد ، وللحاكم أن يقرّب من شاء منهم أو يبعّد حسب تعامله معه وإفتائهم لمصالحه ، فأصبح العَالِمُ بذلك أقرب الى الحاكم منه الى مجرد عَالِمْ ! ، وهو بعض الآثار الوخيمة التي ترتبت على ترك العمل بفريضة الخُمسْ بمعناها الذي فهمه أهل البيت عليهم السلام .
---------------------------
(1) ولاحظ لمزيد من التفاصيل : تاريخ الطبري 3 / 241 ، الكامل في التاريخ ـ لابن الأثير ـ 3 / 149 ، أُسـد الغابة 4 / 295 ، تاريخ دمشق ـ لابن عساكر ـ 5 / 105 ، خزانة الأدب 1 / 237 ، تاريخ ابن كثير 6 / 321 ، تاريخ الخميس 2 / 233 ، الإصابة 1 / 414 و 3 / 357 ، الفائق 2 / 154 ، النهاية 3 / 257 ، تاريخ أبي الفداء 1 / 158 ، وتاج العروس 8 / 75
(2) في هامش الكامل ـ لابن الأثير ـ 7 / 165.