هذه السجاعة ، لقد لعمري كان أبوك شاعراً سجاعاً .
  قالت : ما للمرأة والشجاعة إن لي عن السجاعة لشغلاً ... ) .
  ثم التفت ابن زياد عليه لعنة الله فرأى علي بن الحسين عليه السلام وكان مريضاً قد أنهكته العلة فأراد قتله ، عندها تعلقت به عمته زينب سلام الله عليها ، وقالت له : يا ابن زياد حسبك من دمائنا ما سفكت ، فإذا أردت قتله فاقتلني دونه ، فقال : عجبت للرحم ودت لو أنها تقتل دونه .
  وهكذا دافعت بطلة بني هاشم عن سليل النبوة بمنطقها البليغ ، وشجاعتها وإقدامها على المخاطر ، وجرأتها العظيمة التي ورثتها عن جدها وأبيها و امها وأخيها ، فكان الله معها في كل مكان حلت به ، وصارت إليه .

زينب عقيلة بني هاشم في الشام :
  خرج موكب الاسارى من الكوفة ، بقيادة شمر بن ذي الجوشن عليه لعائن الله ، يجد السير نحو الشام عاصمة بني امية ، مقر الطاغية يزيد لعنه الله .
  ولما أشرف الركب على الشام ترنح يزيد في مقصورته طرباً فقال :
لـما  بـدت تلك الحمول iiوأشرقت      تـلك  الـرؤوس على شفا iiجيرون
نعب الغراب فقلت صح أو لا تصح      فـلقد  قـضيت من الرسول ديوني

  وأدخلت الرؤوس والسبايا ، على يزيد وهو في مجلسه يحف به أعوانه ورجال بلاطه ، ووضع رأس الحسين الشريف ( عليه السلام ) بين يدي يزيد لعنه الله فالتفت الى أصحابه وقال لهم : هذا وإيانا كما قال الحصين بن الحمام:

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 302 ـ

أبى قومنا أن ينصفونا فانصفت      قواضب  في أيماننا تقطر iiالدما
يـفلقن هـاماً من رجال iiأعزة      عـلينا  وهم كانوا أعق وأظلما

  تقول المرويات : ( نظر رجل شامي الى فاطمة بنت علي (1) فطلب من يزيد أن يهبها له لتخدمه ، ففزعت ابنة امير المؤمنين وتعلقت باختها العقيلة زينب وقالت لها : كيف أخدم ؟ قالت زينب : لا عليك إنه لن يكون هذا ابداً .
  فقال يزيد : لو أردت لفعلت ... فقالت له : إلا أن تخرج عن ديننا ، فرد عليها بتهكم :
  إنما خرج عن الدين أبوك وأخوك ... قالت زينب : بدين الله ودين جدي وأبي وأخي اهتديت أنت وأبوك إن كنت مسلماً .
  قال : كذبت يا عدوة الله ! فرقت عليها السلام وقالت : أنت أمير مسلط ، تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك ) (2) .
  لقد توقعت الناس يومئذٍ ، أن تحني الكارثة المؤلمة جبهة زينب سلام الله عليها وتصدع أركانها ، وتنقاد لعاطفتها فتطأطئ رأسها .

********************************************************************************
(1) وفي بعض الروايات .. انها فاطمة بنت الحسين ( عليه السلام ) وليست فاطمة بنت علي ...
(2) مقتل الحسين ـ للسيد عبد الرزاق المقرم ـ تاريخ الطبري ـ تاريخ ابن الأثير .

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 303 ـ

  ولكنها حفيدة الرسول ... وابنة علي ... وسليلة بيت المجد والكرامة والإباء والأنفة فلا مجال للعاطفة ، والانكسار والذل .
  إنها البطلة الصامدة ، والمؤمنة الصابرة ، لم تخلق للنياحة ، ولم تتهيأ للبكاء والعويل .
  إنها تحمل وصية امها الزهراء ، وأخيها الحسين سيد الشهداء ، فهي صاحبة رسالة ، يجب عليها أن تتحمل في سبيلها المتاعب والمصاعب .
  وعن ابن طيفور في بلاغات النساء قال :
  ( لما كان من أمر أبي عبد الله الحسين بن علي عليهما السلام الذي كان ، وانصرف عمر بن سعد لعنه الله بالنسوة ، والبقية من آل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ووجههن الى ابن زياد لعنه الله فوجههن هذا الى يزيد لعنه الله وغضب عليه .
  فلما مثلوا بين يديه ، أمر برأس الحسين عليه السلام فأبرز في طست ، فجعل ينكث ثناياه بقضيب في يده وهو يقول :
يـا غراب البين أسمعت iiفقل      إنـما  تـذكر شيئاً قد iiحصل
لـيت  أشـياخي ببدر iiشهدوا      جزع الخزرج من وقع iiالأسل
حـين  حـكت بـقباء iiبركها      واستمر  القتل في عبد iiالأشل
لأهـلـوا واسـتهلوا iiفـرحا      ثـم قـالوا يـا يزيداً لا iiتشل
فـجـزيناهم  بـبدر iiمـثلها      وأقـمنا  مـيل بـدر iiفاعتدل
لـست من خندف إن لم iiأنتقم      من بني أحمد ما كان فعل (1)

********************************************************************************
(1) بلاغات النساء ـ لابن طيفور .

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 304 ـ

  خطبة السيدة زينب ( عليها السلام ) في مجلس يزيد في الشام :
  يذكر المؤرخون وجميع أهل السير أن السيدة زينب وقفت في مجلس يزيد والإباء والأنفة يملآن نفسها ، ثم توجهت ( عليها السلام ) إليه تسمعه من التقريع والتوبيخ بل تعدت للتهديد والتنديد غير هيابة ولا وجلة ، مستصغرة قدره وسلطانه ، ومستعظمه ومستنكره لفعلته النكراء وجريمته الشنعاء .
  قالت عليها السلام : (1) ( صدق الله ورسوله يا يزيد ـ ( ثم كان عاقبة الذين أساوا السوأى (2) أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن ) (3) .
  أظننت يا يزيد أنه حين أخذ علينا بأطراف الأرض ، وأكناف السماء ، فأصبحنا نساق كما يساق الأسارى ، ان بنا على الله هواناً ، وبك عليه كرامة ، وان هذا العظيم خطرك ! افشمخت بأنفك ، ونظرت في عطفك جذلاناً فرحاً حين رأيت الدنية مستوسقة لك ، والامور متسقة عليك ، وقد امهلت ونفست ، وهو قول الله تبارك وتعالى :
  ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيراً لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين ) ، أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك نسائك وإمائك ، وسوقك بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد هتكت ستورهن وأصحلت أصواتهن ، مكتئبات تجري بهن الأباعر ،

********************************************************************************
(1) عن بلاغات النساء لابن طيفور .
(2) السوآى : تأنيث ـ او مصدر وصف به ـ تفسير القرآن للسيد عبد الله شبر .
(3) سورة الروم ـ آية ـ 10 .

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 305 ـ

  ويحدو بهن الاعادي من بلد الى بلد ، لا يراقبن ولا يؤوين ، يتشوفهن القريب والبعيد ، ليس معهن ولي من رجالهن ! وكيف يستبطأ في بغضنا من نظر الينا بالشنف والشنآن والاحن والاضغان ... أتقول ( ليت أشياخي ببدر شهدوا ) ؟ اغير متأثم ولا مستعظم وانت تنكث ثنايا أبي عبد الله بمخصرتك ، ولم لا تكون كذلك ، وقد نكأت القرحة ، واستأصلت الشأفة ، باهراقك دماء ذرية رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) ونجوم الأرض من آل عبد المطلب ، ولتردن على الله وشيكاً موردهم ، ولتودن انك عميت وبكمت وانك لم تقل : ( فاهلوا واستهلوا فرحاً ) ... اللهم خذ لنا بحقنا وانتقم لنا ممن ظلمنا ، ثم قالت :
  والله ما فريت إلا في جلدك ، ولا حززت إلا في لحمك وسترد على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) برغمك ، وعترته ولحمته في حظيرة القدس ، يوم يجمع الله شملهم ملمومين من الشعث ، وهو قول الله تبارك وتعالى :
  ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ) وسيعلم من بوأك ، ومكنك من رقاب المؤمنين ، إذا كان الحكم الله ... والخصم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وجوارحك شاهدة عليك .
  فبئس للظالمين بدلاً ايكم شر مكاناً واضعف جنداً ، مع اني والله يا عدو الله وابن عدوه استصغر قدرك واستعظم تقريعك ، غير المرأة في ظل الإسلام م (20)

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 306 ـ

  ان العيون عبرى والصدور حرى وما يجزى ذلك او يغني وقد قتل الحسين عليه السلام ، وحزب الشيطان يقربنا الى حزب السفهاء ليعطوهم اموال الله ، على انتهاك محارم الله .
  فهذي الأيدي تنطف من دمائنا ، وهذه الأفواه تتحلب من لحومنا ، وتلك الجثث الزواكي يعتامها عسلان الفلوات .
  فلئن اتخذتنا مغنماً ، لتجدنا مغرماً حين لا تجد إلا ما قدمت يداك ، تستصرخ يا ابن مرجانة !!... ويستصرخ بك ، وتتعاوى وأتباعك عند الميزان ، وقد وجدت أفضل زاد زودك معاوية قتلك ذرية محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  فوالله ما اتقيت غير الله ... ولا شكواي إلا إلى الله ... فكد كيدك ، واسعى سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله لا يرحض عنك عار ما اتيت الينا أبداً ، والحمد لله الذي ختم بالسعادة والمغفرة ، لسادات شبان الجنان فأوجب لهم الجنة ، اسأل الله أن يرفع لهم الدرجات ، وان يوجب لهم المزيد من فضله فإنه ولي قدير ) .
  وسكتت زينب بعد ان اضرمت النار في القلوب ، وهزت المشاعر وايقظت النفوس المتخدرة ، فأفاقت على الحقيقة التي اوضحتها العقلية في خطبتها التي اعجزت البلغاء ، ودقت أجراس الثورة والفداء ضد الظلم والفساد .
  وحسبنا اقتناعاً ان خطبة زينب كانت البداية في إيقاظ المشاعر فإن الشام برغم انها كانت عاصمة الامويين ومقر خلافة يزيد لعنه الله . فقد سرت البلبلة بين الناس وكثر اللغط وساد الهرج .

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 307 ـ

  ففي بعض المرويات : قيل ان ( هند ابنة عبد الله بن عامر زوجة يزيد ) سمعت ما يدور في مجلس زوجها ، وخطاب السيدة زينب ـ فتقنعت بثوبها وخرجت اليه فقالت :
  يا يزيد أرأس الحسين بن فاطمة بنت رسول الله ؟ قال : نعم ، فاعولي عليه ... لقد عجل عليه ابن زياد فقتله ... فقالت : ابنات رسول الله سبايا فاطرق برأسه لان صوت زينب لا يزال يدوي في اذنيه .
  فقالت له زوجته : غداً يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك ... ويجيء الحسين وجده رسول الله شفيعه ) ، زينب وحدها التي لم تغب لحظة عن مسرح المأساة والفاجعة الأليمة ، وهي التي سجلها التاريخ على صفحاته .
  وهي وحدها التي سمعت الصيحة الاولى ، ولم تفارق الحسين لحظة واحدة منذ بدأ القتال حتى انتهى ، وهي وحدها كانت الى جانب المريض العليل ( زين العابدين ) ( عليه السلام ) تمرضه وتحافظ عليه ـ ومع المحتضر تواسيه والشهيد تبكيه .
  وقال بعض الشعراء عندما مر على أرض المعركة قبل دفن الجثث :
وقـفت عـلى أجـداثهم iiومـجالهم      فـكاد الـحشا ينفض والعين iiساجمة
لعمري لقد كانوا مصاليت في الوغي      سـراعاً  الى الهيجا حماة iiخضارمة

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 308 ـ

تأسسوا على نصر ابن بنت نبيهم      بـأسيافهم  آسـاد غيل ضراغمه
وما أن رأى الراؤون أفضل iiمنهم      لدى  الموت سادات وزهر قماقمه

  عقيلة بني هاشم في مدينة جدها الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :
  عاد موكب السبايا الى مدينة جدهم الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، تحدوهم الحسرات ، ويلفهم رداء الحزن والكآبة ، وكان منظرهم مؤلماً يتصدع له الصخر الأصم .
  فقد هرع الناس لاستقبال الركب الحزين بمآتم مفجعة تبللها دموع البواكي ونوح الثكالي ، لكن العقيلة زينب لم تلتفت لشيء او تفوه بكلمة ، ولم تتوقف عن السير رغم تهافت الناس عليها ، بل مضت في طريقها صامتة ، حتى وصلت المسجد النبوي الشريف فأخذت بعضادتى الباب وصاحت من قلب جريح :
  يا جداه يا رسول الله ... جئت ناعية اليك أخي الحسين والاقمار من أهل بيته ... وخنقتها العبرة وماتت الكلمات على شفتيها ... ثم كانت المآتم في بيوت بني هاشم ولم تبقى مخدرة في المدينة إلا خرجت نائحة تبكي .
  وخرجت زينب بنت عقيل ( اخت مسلم ) ومعها نساؤها نادبة تلوي بثوبها وهي تقول :

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 309 ـ

مـاذا  تـقولون إن قال النبي iiلكم      مـاذا فـعلتم ، وأنـتم آخر iiالأمم
بـعترتي  وبـأهلي بـعد iiمفتقدي      مـنهم اسارى ومنهم ضرجوا iiبدم
ما كان هذا جزائي إذ نصحت iiلكم      أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي

  وتقول بعض المرويات : وسمع صوت من بعيد يقول :
أيها القاتلون جهلاً حسيناً      أبشروا بالعذاب والتنكيل

  رجعت زينب ( عليها السلام ) الى بيتها ومرت بديار أهلها فرأتها موحشة باكية تنعي أهلها وتندب سكانها ، كما قال الشاعر :
مـررت  عـلى أبيات آل محمد      فـلم أرهـا أمـثالها يـوم حلت
فـلا  يـبعد الـلّه الديار iiوأهلها      وإن أصبحت منهم برغمي تخلت

  وكان عمرو بن سعيد الاموي (1) والياً على المدينة ، وتذكر الأخبار أنه لما

********************************************************************************
(1) لقد لاقى عمرو بن سعيد الاموي جزاء شماتته بقتلى بني هاشم ، إذ قتله عبد الملك بن مروان الاموي بالشام ، تقول بعض المرويات ، انه حينما دخل عمرو بن سعيد على عبد الملك بن مروان بالشام تنازعا

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 310 ـ

  سمع واعية بني هاشم وبكائهن على الحسين ضحك وابتهج وقال : يوم بيوم يا عثمان ... وناعية بناعية عثمان ... ثم تمثل بقول عمرو بن معد يكرب :
عجت نساء بني زياد iiعجة      كعجيج نسوتنا غداة الأرنب

  شخصية السيدة زينب وأثرها على المجتمع :
  يمضي التاريخ ليسجل بطولة سيدة عظيمة ، هي السيدة زينب بنت علي ، عقيلة بني هاشم الثائرة على الظلم ، المتمردة على الطغيان .
  تلك السيدة الأبية ، التي أتمت مسيرة نهضة أخيها الحسين ( عليه السلام ) ، وإيقظت و كان نزاعهما حول الملك ـ او الخلافة بالشام ، فأمر عبد الملك صاحب حرسه ( أبا الزيزعة ) بضرب عنق عمرو بن سعيد الاموي .
  وجاء في كتاب مروج الذهب للمسعودي ... ما ملخصه ، قال : ان عمرو بن سعيد خرج من منزله يريد عبد الملك ، فعثر بالبساط ، فقالت له امرأته نائلة : انشدك الله لا تأتيه .
  فقال لها : دعيني عنك فوالله لو كنت نائماً ما أيقظني ، ودخل على عبد الملك وهو مكفر بالدرع ، فقال له : يا أبا امية أجئت للقتال ؟ وبعد كلام طويل بينهما قال له : اني كنت قد حلفت إن ملكتك لأشدنك في الجامعة ( أي القيد ) ، فلما وضع الجامعة في عنق عمرو بن سعيد أيقن عمرو بالهلاك ، قال لعبد الملك : تخرجني الى الناس وأنا في جامعة ؟ فقال له عبد الملك : أتريد أن اخرجك الى الناس فيمنعوك ويستنقذوك من يدي ؟ ... ( أتماكرني وأنا أمكر منك ؟) ثم أضجعه وذبحه ولم يراع له عهداً ولا حرمة .
  لقد أظهر عمرو بن سعيد الشماتة حين مقتل بني هاشم بعد موقعة كربلاء ... وما أحسن قول الشاعر :
فـقل للشامتين بنا iiأفيقوا      سيلقى الشامتون كما لقينا

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 311 ـ

  مشاعر الناس ببلاغتها وصمودها وجهادها ، فهيجت فيهم شعوراً لاذعاً ممضاً بالحسرة والندم تارة ، وبالخزي والعار طوراً ، توافد الناس على عقيلة بني هاشم ، فكانت تتكلم لتجلي الضباب عن البصائر ، ويبقى كلامها يدوي في آذانهم ليخترق الضمائر مذكراً بالجريمة النكراء ، والفعلة الشنعاء قتل الحسين وأهل بيته وأصحابه الأبرياء .
  يتكهرب جو المدينة ... ويلتهب ... تلهبة الثائرة المطالبة بدم الشهداء الأبرار ، تلهبه شعلة الثائر وعنوان البطولة ، التي كانت المعول الأول في هدم عرش بني امية وأمثالهم من الطغاة المستبدين .
  ( زينب ) تلك التي أعطت البشرية درساً في الصمود ، والإباء والشرف ، والوقوف بوجه الجور والتعسف والطغيان تتناقله الأجيال ، يمضي الوالي عمرو بن سعيد الأموي ، فيرسل الى يزيد أن أهل المدينة في هياج ، ثم يقول : ( إن كان لك بالمدينة شغل فأخرج بنت علي منها فإنها ألّبت الناس عليك ) .
  ويأتي الفصل الأخير من حياة المجاهدة البطلة ، عندما يطلب منها الوالي عمرو بن سعيد الأموي ، مغادرة المدينة ، بل الحجاز ، فتجيب عليها السلام قائلة : ويلكم أمن حرم جدنا تخرجوني ؟ ... لك الويل يا ابن سعيد ... الله أعلم بما صارت إليه حالنا بعد سيد الشهداء ... صبرنا على قتل خيرنا ... وحملنا على الأقتاب ، وساقونا كما تساق الأنعام ، فلست بخارجة من مدينة جدي ... فافعل ما أنت فاعل .

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 312 ـ

  واشتد الموقف بين الوالي ... وبين عقيلة بني هاشم ( زينب ) وهي لا تبالي ، ماضية في أداء رسالتها التي كلفها بها سيد الشهداء الحسين ( عليه السلام ) بالنهوض والمحافظة على رسالة جدها الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  والوالي عمرو بن سعيد ماض في تركيز دعائم ملك بني أمية ، وتنفيذ أوامر الطاغية يزيد ، ويأتي الإمام زين العابدين علي بن الحسين ( عليه السلام ) ليقنع عمته ( زينب ) بالخروج كي لا تتجد المأساة على أهل بيت الرسول .
  إن الأمويين لا يتورعون عن ارتكاب أفظع الجرائم في سبيل توطيد حكمهم ،   وينساب صوت الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) :
  ( عمتي يا زينب ... لقد صدقنا الله وعده ، وسيجزي الله الظالمين ... إرحلي الى بلد آخر ... والله حسبنا ونعم الوكيل ) .
  ولم تتمكن السيدة زينب إلا الأخذ برأي الإمام زين العابدين فقررت السفر لعل خوف الأمويين من وجودها بالمدينة يهدأ قليلاً .
  وقف موكب السيدة زينب عند مسجد الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ومن حوله بنو هاشم ، الرجال والنساء والبقية الصالحة من أهل المدينة المؤمنين .
  وكان المشهد مؤثراً ، والوداع حاراً ، فقد صاحت زينب ( عليه السلام ) بصوت ملتاع يتصدع له الصخر الأصم : يا جداه ... يا رسول الله ... ها أنا تاركة المدينة منفية ، كأني قد أتيت أمراً نكرا ، ثم تأوهت متحسرة ... وكما يقول الشاعر :

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 313 ـ

مشردون نفوا عن عقر دارهم      كأنهم  قد جنوا ما ليس iiيغتفر

  وسجل التاريخ على صفحاته ، موقف السيدة زينب الرائع المؤثر ، الذي تتجلى فيه العزة والإباء مع الاحزان ، والشجن الدامي والأسي العميق .
  ومن ذا الذي لا يهزه موقف زينب ، وقد تذكرت امها الزهراء (ع) وما لاقته من المتاعب والمصاعب ، وكما قيل :
عرفت الليالي قبل ما صنعت iiبنا      فـلما  دهتني لم تزدني بها iiعلما
أحن  الى الكأس الذي شربت iiبه      وأهوى لمثواها التراب وما ضما

  وقد اختلف أهل التاريخ والسير ، فمنهم من قال : انها ذهبت الى مصر ، ولها مقام مقدس وعظيم يؤمه الناس ، ومنهم من قال : انها في الشام ومقامها ايضاً معروف هناك يقصده الزوار ، من جميع الأقطار ، وهو القول المشهور .
  وعلى كل حال سواء كان مثوى السيدة زينب عليها السلام في الشام ... أم في مصر ... فقد هيجت الاحساس ، وأوقدت نيران الثورة على أنظمة الظلم والطغيان وشلت عرش الأمويين المستبدين في وقت قصير ، لم تخب تلك الشعلة الملتهبة ، بل ظل كلامها يتجاوب صداه في ابواق التاريخ ، يرن في الآذان وهي تخاطب الطاغية يزيد بقولها :
  ( فو الله لا تمحو ذكرنا ... ولا تميت وحينا ... ولا تدرك أمدنا ... )

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 314 ـ

  لقد عجز الطغاة عن طمس ذكر أبطال الحق ، وشهداء العدل ، ذكر زينب وآلها الكرام ... المشعل الذي يضيء الطريق أمام الهداة ، وأصحاب الضمائر الحرة ، والنبراس الذي يهتدي به كل من ثار من أجل العقيدة ، والدين والكرامة ، والانسانية ، والإباء .

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 315 ـ

السيدة سكينة بنت الحسين ( عليها السلام )
  ما عساني أن أكتب عن حفيدة الزهراء السيدة سكينة بنت الحسين ( عليها السلام ) بعد أن جال ابطال اهل التاريخ وأصحاب السير في أفكارهم وأقلامهم ، كلُّ في مجاله ، وحسب ميله وهواه .
  وما عساني أن أقول فيمن ولدت في حجر الإيمان ، وترعرعت في كنف معدن القداسة ، وعجنت طينتها بالعفة والنزاهة . فنشأت متأثرة بحسن التربية ، وكرم الأخلاق ، وعنوان المجد والسؤدد .
  جللها كرم الأصل بجلباب الشرف ، وألبسها مطارف الحياء والمعرفة والأدب ، ومما لا ريب فيه فقد بلغت حفيدة الزهراء ، وسليلة البيت النبوي الشريف ، الذروة العليا في الجمال والكمال ، والتقى والورع ، وسلكت السبيل الواضح في مجاهدة النفس ، والطريق الذي لا يشوبه أي انحراف أو ميل نحو ملذات الدنيا .
  لقد كانت السيدة سكينة سابحة بين امواج العبادة والزهد والقداسة ، ترشف العلم من معينه ،و تجني الأدب من مستقاه ، حتى انعكست في مرآة نفسها ملامح الجلال والمهابة ، وفازت بشهادة الإمام الحسين ( عليه السلام ) حيث قال : ( الغالب عليها الاستغراق مع الله ) .

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 216 ـ

  ذكر السيد عبد الرزاق الموسوي : أن الحسن المثنى بن الحسن بن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أتى عمه ابا عبد الله الحسين ( عليه السلام ) يخطب إحدى ابنتيه ( فاطمة ـ او سكينة ) فقال له أبو عبد الله ( عليه السلام ) :
  اختار لك فاطمة ، فهي أكثرهما شبهاً بامي فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أما في الدين ، فتقوم الليل كله ، وتصوم النهار ، وفي الجمال ... تشبه الحور العين .
  وأما سكينة : فغالب عليها الاستغراق مع الله تعالى فلا تصلح للرجل (1) .
  اجل لقد ذهبت السيدة سكينة بحب أبيها واعزازه لها ، وفازت بتلك المكانة العالية ، والعطف الفياض ، لذلك نراه ( عليه السلام ) يردد قائلاً :
لـعمرك انني لاحب iiداراً      تحل  بها سكينة iiوالرباب
احـبهما وابذل جل iiمالي      وليس لعاتب عندي عتاب

  إلى ان يقول :
ولست لهم وان عتبوا مطيعا      حـياتي  أو يغيبني iiالتراب

  يمضي الزمن وتدور الأيام ، والسيدة سكينة تبز نساء عصرها علماً وتقى وورعاً وزهادة .
  صحبت والدها الإمام ( عليه السلام ) إلى كربلاء ، وشاهدت تلك المجزرة العظيمة ، ومصرع أهلها الميامين .

********************************************************************************
(1) السيدة سكينة ـ للسيد عبد الرزاق الموسوي المقرم ص ـ 33 .

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 317 ـ

  وقفت بجانب عمتها العقيلة زينب ، تتلقى المصائب صابرة محتسبة ، وتكويها الأحزان بنار ملتهبة ، وتذوق مرارة فقد الاحبة ، فلا تزيدها كل هذه الآلام إلا عزوفاً عن ملذات الدنيا ، ويصفها والدها الحسين (ع) ( خيرة النسوان ) .
  في ساعة الوداع يوم ( طف كربلاء ) افتقد الحسين ابنته الحبيبة سكينة فوجدها منحازة عن النساء ، باكية العين ، كسيرة الفؤاد .
  اكب عليها يقبلها في لهفة وحنان ، ثم رفع رأسه وقال في شجاعة واشفاق : ( هلا ادخرت البكاء ليوم غد ؟ تجلدي يا حبيبتي واصبري ان الله مع الصابرين ) .
سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي      مـنك  البكاء إذا الحمام iiدهاني
لا تـحرقي قلبي بدمعك iiحسرة      ما  دام مني الروح في iiجثماني
فـإذا قـتلت فانت أولى iiبالذي      تـأتينه يـا خـيرة iiالـنسوان

  ها هي السيدة سكينة ، واقفه على أرض كربلاء ، بجانب جثة ابيها الإمام (ع) مهيضة الجناح ، حزينة القلب ، تتزاحم الدموع في مقلتيها في حين تطوي الألم والحسرات بين أضلعها وتردد :
ان  الـحسين غداة الطف iiيرشقه      ريب المنون فما ان يخطئ الحدقة
بـكف شـر عـباد الـلّه iiكـلهم      نسل  البغايا وجيش المرق iiالفسقة
أأمـة  السوء هاتوا ما iiاحتجاجكم      غـداً  وجـلكم بالسيف قد iiصفقه
الـويل حـل بـكم إلا بمن iiلحقه      صـيرتموه  لا رماح العدى iiدرقه
يـا عين فاحتفلي طول الحياة iiدماً      لا تـبك ولـداً ولا أهلاً ولا رفقه

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 318 ـ

لكن على ابن رسول الله فانسكبي      قـيحاً ودمـاً وفي اثريهما iiالعلقة

  ويختلط صوت سكينة مع صوت أمها الرباب ، الثكلى الوالهة ، تلك التي صغرت الدنيا في عينيها ، وكبرت المصيبة عليها ، فلم تقو على حملها لا تعرف غير البكاء والعويل ، ونسمعها تردد وتقول :
واحـسيناً  فـلا نسيت iiحسيناً      اقـصـدته  اسـنة iiالأعـداء
غـادروه بـكربلاء iiصـريعاً      لا سقى اللّه جانبي كربلاء (1)

  اجل : الرباب الزوجة الوفية المخلصة التي ترعى العهد والذمام فقد ذكرت الأخبار انها استغرقت في حزنها على الحسين ، نادبة حزينة ، لا يظللها سقف . وقد خطبها الكثير من الوجهاء والأشراف ، ولكنها رفضت باصرار وقالت : ما كنت لا تخذ حماً بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  ثم تشرق بدمعها وتقول نادبة :
ان الذي كان نوراً يستضاء iiبه      بـكربلاء  قـتيل غير iiمدفون
سبط  النبي جزاك اللًّه iiصالحة      عنا  وجنبت خسران iiالموازين
قد كنت لي جبلاً صعباً ألوذ به      وكنت  تصحبنا بالرحم iiوالدين
من لليتامى ومن للسائلين iiومن      يـغني وياوي اليه كل iiمسكين
واللّه لا ابتغي صهراً iiبصهركم      حتى اغيب بين الرمل iiوالطين


********************************************************************************
(1) والرباب هي زوجة الحسين ( عليه السلام ) ووالدة سكينة ، وهي التي طلبت رأس الحسين من ابن زياد ، فلما رأته أخذته ووضعته في حجرها وقالت هذه الأبيات .

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 319 ـ

شخصية السيدة سكينة الاجتماعية :
  لقد استطاعت السيدة سكينة ان تنفرد بمكانة اجتماعية مرموقة ، لم ترق اليها سيدة سواها في ذلك العصر ، فكانت الشخصية الاولى في المجتمع الحجازي ... بل الاسلامي من حيث التقى والزهد والورع والمعرفة والأدب .
  على أن السيدة سكينة كانت مشغولة البال ، تراعي حركات الوالد الشفوق في معركته الجبارة ضد الظلم ، إن الأحداث العنيفة التي جذبت سكينة الى دوامة الاعصار ، وشغلتها عن كل ملذات الحياة وبهارجها ، هي التي صنعت منها الزهد والاستغراق في العبادة ، كما فعلت الأحداث بعمتها العقيلة زينب التي عاشت في صميم المعركة وألهتها الفجيعة بأخيها الحسين عليه السلام عن ولديها اللذين استشهدا في الدفاع عن الحق .
  وكذلك كان حال الرباب والدة سكينة لم نسمع من المؤرخين أنها كانت تذكر ولدها عبد الله بل كانت تبكي الحسين وترثيه ، حتى ماتت حزناً وكمداً ... بعد وقعة كربلاء بعام واحد .
  وبعدما ذكرنا لمحة موجزة من سيرة السيدة سكينة لا بد لنا من ذكر بعض من كتب عنها وأغرق في كتابته ، ونسب إليها اموراً لم تكن بها ، كأبي الفرج الأصبهاني مثلاً قال : ( اجتمع نسوة من أهل المدينة ، من أهل الشرف ، فتذاكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه وحسن حديثه ، فتشوقن إليه وتمنينه ، فقالت سكينة بنت الحسين (ع) أنا لكنَّ به .

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 320 ـ

  فأرسلت إليه رسولاً وواعدته ( الصورين ) وسمت له الليلة والوقت ، وواعدت صواحباتها فوافاههن عمر على راحلته ، فحدثهن حتى أضاء الفجر وحان انصرافهن فقال لهن : والله إني لمحتاج لزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصلاة في مسجده ، ولكن لا أخلط بزيارتكن شيئاً .
  ثم انصرف الى مكة وقال :
قـالت سكينة والدموع ذوارف      مـنها  على الخدين iiوالجلباب
لـيت  المغيري الذي لم iiأجزه      فـيما  أطال تصيدي iiوطلابي
كـانت  تـرد لنا المنى iiأيامنا      إذ لا نلام على هوى iiوتصابي
خـبرت مـا قالت فبت iiكأنما      تـرمي الـحشا بنوافذ النشاب
أسـكين ما ماء الفرات iiوطيبه      مني  على ظمأ وطيب iiشراب
بـالذِّ مـنك وإن نـأيت وقلما      ترعى النساء امانة الغياب (1)

  وما رواه صاحب الأغاني ، البارع في وضع القصص والكثير من المفتريات وخصوصاً على البيت الهاشمي ، فشأنه معروف لأنه أموي النسب ( والعداء بين البيت الهاشمي النبيل والبيت الأموي متغلغل في النفوس ) .
  إن كل عاقل ومنصف يكاد يقطع أن المراد من سكينة في الأبيات التي قالها عمر بن ابي ربيعة ... هي في سكينة بنت خالد بن مصعب .
  والظاهر أن صاحب الأغاني الأموي ، أراد أن يبرئ ساحة سكينة بنت

********************************************************************************
(1) الاغاني لأبي الفرج الاصبهاني .

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 321 ـ

  خالد مما كانت عليه من الاستهتار والمجون ، فوجد من اسم سكينة بنت الحسين ( عليه السلام ) باباً واسعاً للتورية وتضليل البسطاء .
  عند ذلك نسب أفعال سكينة بنت خالد بن مصعب الى سكينة بنت الحسين ، جاء بعد ذلك بعض المؤرخين والكتاب ، فأخذوا عن ابي الفرج الأصبهاني من دون أي انتباه ... أو روية ... الى الأسباب التي حملت الأصبهاني على المواربة والتحريف والتورية .
  على أن قول عمر بن ابي ربيعة في شعره : ( أسكين ماماء فرات ) الخ ، ليس من الضروري أن يكون المراد سكينة بنت الحسين ، بالاضافة الى ذلك نرى أغلب الرواة يروون الشعر على النحو التالي :
قالت
( سعيدة ) والدموع ذوارف      منها على الخدين والجلباب

  إلى أن يقول :
( أسعيد ) ما ماء الفرات وطيبه      مـني  عـلى ظمأ وفقد iiشباب

  تقول الدكتورة بنت الشاطئ :
( قال ابو الفرج : وسعيدة ... هي سعدي بنت عبد الرحمن بن عوف ، كان عمر قد تعرض لها بعد طوافه فقالت له : ويحك يا ابن أبي ربيعة ، ما تزال سادراً في حرم الله متهتكاً ! تتناول بلسانك ربات الجمال من قريش ! ...
  المرأة في ظل الإسلام (21)

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 322 ـ

  آمرك بتقوى الله وترك ما أنت عليه ؟
  قال أبو الفرج : وإنما غيَّره المغنون ، فقالوا : ( سكينة ) .
  وقال أبو إسحاق الحصري ( ت413 هـ ) بعد أن أورد هذه الأبيات كرواية القالي : ( كذب من روى هذا الشعر في سكينة رضي الله عنها ) (1) .

********************************************************************************
(1) تراجم سيدات بيت النبوة ـ الدكتورة بنت الشاطئ .

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 323 ـ

عرض وتحليل
  إن السيدة سكينة سليلة بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ومهبط الوحي والتنزيل ، من الاسرة الهاشمية العريقة التي ضربت المثل الأعلى بالإباء والشمم والعزة والكرامة ، حتى صارت مناراً لكل من أراد أن يدفع الضيم عن نفسه ويموت عزيزاً كريماً .
  والدليل على ذلك ما فعله مصعب بن الزبير حينما أراد الخروج لحرب عبد الملك ابن مروان بعدما انفضَّ عنه أصحابه .
  جاء مودعاً زوجته السيدة سكينة فقالت له : لا تفجعني بك ... واحزناه عليك يا مصعب ... فالتفت إليها وقال لها : أو كل هذا لي في قلبك ؟ ثم قال : لو كنت اعلم ان هذا كله لي عندك ، لكانت لي ولك حال ، ولكن أباك لم يترك لحر عذراً ، وأنشد :
وإن الاولى بالطف من آل هاشم      تـأسوا فـسنوا للكرام ، iiالتأسيا

  لا أجافي الحق إذا قلت أن بني هاشم الكرام ، الذين وصفهم الفرزدق

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 324 ـ

  بقصيدته المشهورة التي منها :
ولكن إلى أهل الفضائل والنهى      وخير بني حواء والخير iiيطلب

  أقول : كيف يروق لبني هاشم ، أهل الفضائل والنهى ترك كريمتهم وابنة سيدهم الإمام الحسين ( عليه السلام ) تسرح وتمرح وتعقد مجالس اللهو والسمر ، وتساجل الشعراء ، وفي بني هاشم الغيرة والحمية والأنفة ؟ على أن السيدة سكينة عاشت جل حياتها في بيت أخيها علي بن الحسين زين العابدين ( عليه السلام ) .
  أجل زين العابدين الذي كان يواصل الليل بالنهار باكي العين حزناً على والده الحسين ( عليه السلام ) سيد شباب أهل الجنة .
  كان يقول لمن يطلب منه تخفيف البكاء والتصبر : ( إني ما نظرت إلى عماتي وأخواتي إلا تذكرت فرارهن من خيمة الى خيمة ... ) .
  في هذا الجو المفعم بالحزن والبكاء كانت السيدة سكينة مع اخيها السجاد وأهل بيتها الثكالي ، فكيف والحالة هذه أن يصدر منها ما يشين كرامتها وينافي الامور المتبعة في البيت الهاشمي الشريف .
  علاوة على ذلك ، كيف يترك الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وهو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ، شقيقته سكينة التي رافقته في مراحل المحنة القاسية ، من المدينة ... إلى كربلاء ... وإلى الشام سبايا ... ثم إلى المدينة .
  ألم يكن بإمكانه ( عليه السلام ) وعظها ؟ ... وإرشادها إلى جادة الصواب ، وحملها على العمل بسيرة السلف الصالح من الامهات ... والجدات .

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 325 ـ

  حاشا الإمام زين العابدين أن يرضى بذلك ... وحاشا السيدة سكينة من مقالة السوء ... ومن كل افتراء .
  جاء في كتاب الأغاني : ( ان إسحاق الموصلي غنى الرشيد بشعر عمر بن أبي ربيعة :
قالت سكينة والدموع ذوارف      منها  على الخدين iiوالجلباب

  فغضب الرشيد حتى سقط القدح من يده ... ونهره وقال : لعن الله الفاسق ، ولعنك معه !... فسقط في يد إسحاق ، فعرف الرشيد ما به .
  فسكن الرشيد ثم قال : ويحك أتغني بأحاديث الفاسق ابن أبي ربيعة في بنت عمي ، وبنت رسول الله ؟ ... إلا تتحفظ في غنائك ؟ ... أو تدري ما يخرج من رأسك ) ألا ترى معي أيها القارئ ، كيف غضب الرشيد على إسحاق الموصلي وأخذته حمية النسب لأنه هاشمي ؟... مع العلم أن، العباسيين كانوا أعداء العلويين ، آل ابي طالب في زمانهم .
  فكيف يسكت ... أو يرضى آل علي الكرام بما نسب للسيدة سكينة ؟... وعلى الأخص الإمام المعصوم زين العابدين ( عليه السلام ) ؟ وحاشا السيدة سكينة بنت الإمام من هذه المفتريات ، فهي أجل ... وأنقى ... وأطهر ... سليلة المقدسين الأطهار .
مـطـهرون نـقـيات iiثـيابهم      تجري الصلاة عليهم اينما ذكروا