موجة عارمة من موجات العصر الحديث ، وتيار جارف من تيارات الحضارة والمدنية التي ينبغي أن نسايرها ، لأن الزمان ... والعصر ، يفرض طابعه على الجميع .
وعلى مر الأيام والليالي ، طورت عقلية الأكثرية الساحقة من الناس ، فلم تعد ترى في هذه المظاهر ما كانت تراه في بادئ الأمر ، من شناعة أو قبح ... أو خلاعة أو فضائح ، بل أصبحت تجدها اموراً عادية ، لا تختلف عن أي أمر عادي من مؤلوفات الحياة .
إن قواعد الاخلاق والفضيلة ، لم تتجاهلها إلا المجتمعات المنحلة ، التي كان ابتعادها عن عمود الدين والاخلاق سبب انحلالها .
لنتساءل ... هل نضرب نحن صفحاً عن جميع هذه الحقائق لننساق في غمرات النزوات ؟
وهل نتغاضى ونعمل ما تمليه عليه رغباتنا ؟ وما يزين الشيطان من سوء الاعمال ؟
ناهيك بمشاعر الشرف والغيرة لدى الانسان ، وهي المتصلة أوثق الاتصال بحسن الرجولة والكرامة .
فعندما يهون الشرف يهون العرض ، ويموت الإحساس بالرجولة والغيرة ، هناك الذلة والمهانة والعار .
فإلى متى هذا الاستهتار ؟ وما معنى الروايات الخلاعية المتزايدة الانتشار ؟ والصور الإباحية العارية ... ألن تحتل غلافات الكتب والمجلات ... ؟ ... وما معنى الفضائح المخجلة التي نقف عليها كل يوم ؟ والحوادث التي تدل على انهيار خلقي مريع لدى الشبان والفتيات ؟
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 118 ـ
كل هذا في بلاد الإسلام يحصل باسم الحرية التي يتغنى بها الجيل الجديد ، الذي يدَّعي التمدن والتطور .
ولكن ... ويا للأسف إذا تأملنا ورجعنا إلى حكم العقل ، نراها معكوسة ، إذ هي القيد والتقهقر .
إنها ليست حرية بالمعنى الصحيح ، بل هي حرية الفوضى ، حرية الشعب السائر على هواه ، دون أي ضابط أو قيد . دون أي رادع أو مانع ، حرية اللصوصية ... حرية القتل ... والسرقة التي انتشرت واستمرت حتى لم تعد حوادثها فردية ، بل غدت ذات طابع عام ، وخصوصاً حرية الفجور والخلاعة والاستهتار التي باتت تهدد مجتمعنا ... ووطننا الحبيب ،
فإلى أين نحن سائرون ... ومتى نعود إلى وعينا وإدراكنا ... وقانا الله من الزلات ، ورحم الله الشبيبي حيث يقول في قصيدته العصماء :
إلا لـيت شعري ما ترى روح iiاحمد إذا طـالعتنا مـن عـلٍ أو أطـلت وأكـبـرظني لــو أتـانا iiمـحمد لـلاقى الـذي لأقـاه من أهل iiمكةِ عـدلنا عـن الـنور الذي جاءنا به كـما عـدلت عـنه قريش iiفضلتِ إذن لقضى : لا منهج الناس منهجي ولا مـلة الـقوم الأواخـر مـلتي دعـوت إلى التوحيد يجمع iiشملكم ولـم أدع لـلشمل الـبديد iiالمشتت |
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 119 ـ
وجـئت رسـولاً للحياة ولا iiأرى بـكم غـير حي في مدارج iiميت ويـسرت شـرعاً ما تعنَّت iiنافعا وسـرعان مـا مـلتم به iiللتعنّتِ وحرمت في الإسلام من بعد حلها مساوئ عادت بعد حين فحلت (1) |
**************************************************************************************
(1) هذه الأبيات من قصيدة الشيخ الشبيبي العصماء ( روح الرسول )
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 120 ـ
المرأة في بدء الدعوة الاسلامية :
من الدستور الإلهي ، ومن التشريع الإسلامي ، ومن سنا الأنظمة الحكيمة ، والقوانين العادلة التي جاءت بها دعوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، تنسمت المرأة روح الحرية .
ما أروع هذا الكون في تنظيمه ، وأروع ما فيه هذا الناموس الإسلامي العظيم ، الذي جعل لكل فرد من عالم الأحياء القدرة على أن يبرز القوى المادية والمعنوية ، التي تستلزم بقاء الحياة ، فلا قيود ... ولا ظلم ولا تعسف .
استيقظت المرأة من سباتها العميق ، فهبت تنفض عن وجهها غبار السنين ، تسابق الرجال في شتى الميادين ، وتسرع إلى التوحيد والإيمان مصدقة بكلمة الرحمان .
هو الإسلام الذي جعل النساء أخوات الرجال ، كما قال تعالى : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى ... ) أكسب المرأة المسلمة صفات جديدة لا عهد لها بها في العصر الجاهلي ، فضلاً عن أنه أثار فيها عواطف التدين والإيمان ، والتطلع إلى حياة اخرى ، هي خير وأبقى .
أجل لقد أستيقظت المرأة ، وانبعثت مواهب النساء وبرزت كفا آتهن التي كانت مطمورة ترزح تحت أثقال فادحة من قوانين المجتمع الخاطئة ، وتصعدات
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 121 ـ
العادات الجاهلية والتقاليد الوثنية :
لقد هبت المرأة من رقادها ، وأجابت دعوة الإسلام بقلب ملؤه التقوى ، ونفس فياضة بالإيمان .
إن المرأة ما زالت في كل عصر ومصر تبزّ الرجال بالإخلاص لعقيدتها ومبادئها ، والاندفاع في سبيل إيمانها ، لذلك نرى أن النساء العربيات ، في عهد الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والخلفاء الراشدين وما بعدهم بقليل ، كن شريكات الرجال في وثبتهم الاجتماعية الدينية ، وجهادهم ضد المشركين .
ولا غرابة في هذا ، فإن اختلاف الغايات والحوافز التي تدعو إلى القتال لها الاثر الفعّال في تطوير المسائل .
فبينما كان الحافز في الجاهلية حب النصر والفخر أمام الملأ ، أصبح القتال في الإسلام ، هو المساهمة في نشر الدين ، وإدراك الأجر والثواب ، مما يضمن خير الدنيا والآخرة .
فأما النصر والفخر ... وأما الجنة والنعيم الدائم ... قال تعالى : ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )
(1) .
وما أن سطعت شمس الهداية ، وصدع محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة المقدسة داعياً ومبشراً ونذيراً ، حتى سارعت المرأة لتساهم بدورها في اعتناق الإسلام ونشره والتصديق برسوله والإيمان بمبادئه .
****************************************
(1) سورة التوبة ـ آية 111 .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 122 ـ
لقد تجلّت في بدء الدعوة الإسلامية ، البداوة في طلاقتها وما نحوية من ثقافة أدبية وعزة وإباء وأنفة وعفاف وكرم ومروءة وشجاعة ونجدة ووفاء للذمم . كل هذه المزايا الحميدة احتوتها أحضان شرع عظيم ، وقيادة رسول كريم ، يقيم الحدود ويعيِّن الواجبات والحقوق ويقوِّم العقائد والمبادئ بالعدل والإنصاف والحرية والمساواة .
وبما أن المرأة العربية كانت على جانب من المذلة والاحتقار كما أسلفنا ، فإنها كانت تحتفظ بمزايا فطرية بدوية محمودة ، على رغم تسلط الرجل عليها ، واستئثاره بكل النواحي الاجتماعية ، فقد خلق الإسلام في أوساط النساء التقى والورع وحب الجهاد في سبيل الله ، والتفاني في نصرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم .
وكان من دواعي نشاط المرأة المساهمة في أعباء الانقلاب الكبير الذي قام به الرسول العربي الكريم في الجزيرة العربية والعالم أجمع . قال الشاعر :
بدى من القفر نور للورى وهدى يـا للتمدن عم الكون من iiبدوي |
التفَّت النساء حول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعطفن عليه ، فوجد منهنَّ المؤمنات الصادقات الشجاعات اللواتي استعذبن العذاب في سبيله وسبيل دعوة الإسلام .
ولا بأس من إيراد بعض مناقب المرأة الصالحة ومواقفها في بدء الدعوة الإسلامية ليكون خير دليل ... وأحسن سبيل للإحاطة بما كان للإسلام من أثر فعّال عليها ، وعلى سير حياتها إذ نحن نتحدث عن المرأة في ظل الإسلام .
وأول امرأة أسلمت وأخلصت لعقيدتها ، وجاهدت وضحت بكل شجاعة وإخلاص هي أم المؤمنين السيدة خديجة ( عليها السلام ) .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 123 ـ
أم المؤمنين خديجة ( عليها السلام ):
خديجة ام المؤمنين زوجة الرسول الكريم ، تزوجها صلى الله عليه وآله وسلم وكان سنه خمسة وعشرين سنة ـ وخديجة يومئذٍ ابنة أربعين سنة ، وهي أول امرأة دخلت حياته ، ولم يتزوج عليها حتى ماتت .
لقد أجمع أهل السير والتاريخ أن خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى ابن قصي
(1) كانت امرأة تاجرة ، ذات شرف ومال ، تستأجر الرجال في مالها ، وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه ، وكانت قريش تجاراً ، فلما بلغها عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صدق الحديث وعظم الأمانة ، وكرم الأخلاق ، أرسلت إليه ليخرج في مالها إلى الشام تاجراً ، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره مع غلامها ميسرة ، فأجابها .
خرج معه ميسرة حتى قدم الشام ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ظل شجرة قريباً من صومعة راهب ، فاطلع الراهب رأسه إلى ميسرة ، فقال : من هذا ؟؟ فقال ميسرة : هذا رجل من قريش ، فقال الراهب : ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي .
ثم باع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واشترى وعاد فكان ميسرة إذا كانت الهاجرة ، يرى
**************************************************************************************************
(1) وعلى هذا فهي من أقرب النساء الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لأنه لم يتزوج من ذرية قصي غيرها سوى ام حبيبة وذلك بعد موت خديجة رضوان الله عليها ـ الكامل في التاريخ لابن الاثير .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 124 ـ
ملكين يظللانه من الشمس وهو على بعير ، فلما قدم مكة ربحت خديجة ربحاً كثيراً ، وحدثها ميسرة عن قول الراهب وما رأى من اظلال الملكين إياه .
كانت خديجة امرأة حازمة عاقلة شريفة مع ما أراد الله من كرامتها ، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعرضت عليه نفسها ، وكانت من أوسط نساء قريش نسباً
(1) وأكثرهن مالاً وشرفاً ، وكل رجل من قومها كان حريصاً على الزواج منها لو يقدر عليه .
فلما أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخبر أعمامه ، وخرج ومعه حمزة بن عبد المطلب وأبو طالب وغيرهما من عمومته ، حتى دخل على خويلد بن أسد ، فخطبها إليه .
فتزوجها فولدت له أولاده كلهم ما عدا ابراهيم .
قصة زواج الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من خديجة :
ذكر جميع أهل السير عن نفيسة بنت منية قالت : كانت خديجة بنت خويلد امرأة حازمة ضابطة جلدة ، قوية ، شريفة مع ما أراد الله تعالى لها من الكرامة والخير ، وهي يومئذ أوسط قريش نسباً ، وأعظمهم شرفاً ، وأكثرهم مالاً ، واحسنهم جمالاً وكانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة قد طلبها جل رجال قومها ، وذكروا لها الأموال ، فلم تقبل فأرسلتني دسيساً
(2) إلى محمد صلى الله
*************************************************************************************************************
(1) كان يقال لها : سيدة قريش ـ لأن الوسط في ذكر النسب ـ من أوصاف المدح والتفضيل : يقال : فلان أوسط القبيلة ـ أي أعرقها في نسبها .
(2) دسيساً أي خفية .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 125 ـ
عليه وآله وسلم . بعد أن رجع في عيرها من الشام فقلت : يا محمد ما يمنعك أن تتزوج ؟ ...
فقال : ما بيدي ما أتزوج به ...
قلت : فإن كفيت ذلك ... ودعيت إلى المال ... والجمال ... والشرف ... والكفاية ... ألا تجيب ؟
قال : فمن هي ؟ ... قلت : خديجة بنت خويلد ...
قال : وكيف لي بذلك يا نفيسة ؟؟ وأنا يتيم قريش ، وهي أيم قريش ذات الجاه العظيم والثروة الواسعة .
فقالت نفيسة : قلت بلى وأنا أفعل ، فذهبت فأخبرتها فأرسلت إليه أن يحضر إليها ، وأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها فحضر .
ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عمومته ـ وقد خطب عمه أبو طالب يومئذٍ خطبته المشهورة التي ذكرها أهل التاريخ وأصحاب السير .
خطبة أبو طالب يوم زواج الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :
قال أبو طالب :
الحمد لله الذي جعلنا من ذرية ابراهيم ، وزرع اسماعيل ، وضئضئ معد
(1)
*****************************************
(1) الضئضئ ـ الأصل والمعدن .