قال : ولا تزنين ـ قالت : يا رسول الله هل تزني الحرة ؟! قال : ولا تقتلن أولادكن ؟ قالت : ربيناهم صغاراً ، وقتلتهم يوم بدر كباراً .
قال الرسول : ولا تأتين ببهتان تفترينه بين ايديكن وأرجلكن . قالت والله إن إتيان البهتان لقبيح ... ولبعض التجاوز امثل .
قال : ولا تعصينني في معروف ؟ قالت : ما جلسنا هذا المجلس ونحن نريد أن نعصيك في معروف ... الخ .
أقبل المساء بعد نهار حار ، مشحون بالتعب ، فرجع الرسول البطل الظافر الى قبته ، حيث كانت تنتظره ابنته الزهراء عليها السلام بفارغ الصبر .
احلام ... وتصورات ... وذكريات :
لقد تمثلت روح امها الطاهرة تطل من عُلاها ، ترعى زوجها الحبيب النبي العظيم في هذا اليوم المشهود ... يوم النصر .
التفت الزهراء عليها السلام ، فرأت أبيها النبي بابتسامته المشرقة وعطفه وحنانه ، فهبت تتلقاه مرحبة مهنئة ، ثم تنفست الصعداء وأردفت تقول :
ألا ليت أمي ( خديجة ) التي بذلت جميع أموالها ، وضحت بالنفس والنفيس لتقوية الإسلام ، ودعم محمد ... وإرساء قواعد الرسالة المقدسة .
ليتها بقيت الى هذا اليوم المشهود لتقر عينها بمرأى تحطيم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ، وجميع الاصنام التي كانت داخل الكعبة المشرفة وعلى سطحها ، وقد تكسرت تحت أقدام المسلمين ، وتحطمت بيد علي أمير المؤمنين .
وليت أمي ( خديجة ) بقيت الى هذا اليوم : لتشهد معي الفرحة الكبرى ،
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 198 ـ
وترى اولئك الطغاة ، وقد تركتهم قبل سنوات قليلة يلاحقون النبي العظيم وأصحابه المسلمين المؤمنين ، ويكيلون لهم أنواع الأذى والاستهزاء .
ليتها تراهم اليوم كيف ضرب الله عليهم الذلة ، يلوذون بالنبي عليه وآله الصلاة والسلام ، يتململون بين يديه بكل انكسار مخافة العقاب والقصاص .
ليتها بقيت الي هذا اليوم، لتسمع صوت (بلال) تتجاوب اصداؤه في شعاب مكة، و هو يهتف من علي سطح الكعبة المشرفة ... ( أشهد أن لا إله إلا اللّه ... و أشهد أن محمداً رسول اللّه ... ) .
ليت ( خديجة ) بقيت الى الآن ، حتى تسمع صوت بلال يؤذن لصلاة الصبح من فوق الحرم الأقدس فيخشع الكون لجلال الأذان وروعة الدعاء ... وهيبة المكان ... ويهب المؤمنون من مضاجعهم ، بكل نشاط ، ساعين الى المسجد الحرام بقلوب طافحة بالايمان ونفوس قوية بالعقيدة ، يسبحون للخالق الدَّيان وألسنتهم تلهج بالتهليل والتكبير ، ليؤدوا للمرة الأولى فريضة الإسلام في البيت العتيق والكعبة المشرفة المطهرة من الأوثان ... تجلت عظمة الخالق الديان .
لكن مشيئة الباري تعالى قضت على ( خديجة ) أن ترحل عن الدنيا الزائلة وفي قلبها حسرة ... وفي نفسها لوعة ، ولكنها رضي الله عنها لشدة إيمانها على ثقة بأن النصر في النهاية حليف الإسلام والنبي محمد ، وأن الناس سيدخلون في دين الله افواجاً .
وتحلو الأيام للزهراء عليها السلام ، لتقضي مع الرسول في ( مكة ) أياماً حافلة .
وتسعد لترى معاقل الشرك تنهار تحت اقدام ابيها الرسول وترى ايضاً فلول المشركين لا تجد بديلاً لها عن قبول الدعوة الإسلامية .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 199 ـ
جاء نساء الأنصار الى الزهراء يتساءلن ... هل سيقيم النبي بمسقط رأسه ( مكة ) وينسى المدينة وأهلها الأنصار ؟؟
إن ابتهاج الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالفتح وإسلام قريش وحرصه على تآلفهم وغبطته بالرجوع الى ( مكة ) بعد الهجرة والاغتراب مما يثير بالأنصار نوازع القلق والحيرة .
خصوصاً بعدما رأى رجال الأنصار عفو النبي العظيم عن طواغيت قريش ومن والاها .
فقال قائلهم :
( لقد لقي والله رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ... قومه !! )
عتب الانصار على الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :
أنشد الشاعر حسان بن ثابت الأنصاري ( يعاتب الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إيثاره قريشاً وغيرها من قبائل العرب ( بالعطاء والفيء ) دون الأنصار قال حسان ذلك في قصيدة منها :
وأت الرسول وقل يا خير مؤتمن لـلمؤمنين إذا مـا عُـدِّد البشر علام تدعى ( سليم ) وهي iiنازحة قدام قوم هموا آوو وهم iiنصروا سـماهم الـلّه أنـصاراً بنصرهم دين الهدى وعوان الحرب iiتستعر وسارعوا في سبيل اللّه واعترفوا للنائبات وما ضاقوا وما iiضجروا |
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 200 ـ
والناس ألب علينا فيك ، ليس iiلنا إلا الـسيوف وأطراف القنا iiوزر فما ونينا ، وما خنا ، وما iiخبروا منا عثاراً وكل الناس قد عثروا ! |
وبلغ سمع سيدة النساء ( فاطمة ) ما قاله حسان ... وما أشار إليه من الوجد الذي خامر نفوس الأنصار ... فقدرت أن لهذا العتاب الصريح تفاعلات ... له ما بعده ، وقفت واجمة حيري .
ولكنها عليها السلام كانت مطمئنة إلى أن أباها الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سوف يجد له مخرجاً ولا يدع الأنصار إلا أن يجعلهم في اطمئنان قريري العين .
ذكر الطبري في تاريخه عن أبي سعيد الخدري قال :
( لما أعطى رسول الله ما أعطى من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب ، ولم يكن في الأنصار منها شيء ، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة
(1) وحتى قال قائلهم :
( لقي والله رسول الله قومه ) .
فدخل عليه سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله ، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم ، لما صنعت في الفيء الذي أصبت .
قسمت في قومك ، وأعطيت عطايا عظاماً من قبائل العرب ، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء .
قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فأين أنت من ذلك يا سعد ... ؟
***********************************************
(1) القالة : الكلام المتداول ـ السيء .