مسكة ، ولذا قال النووي : ( وليس كذلك ) .
وأمّا الوجه الثاني فقد عرفت ما فيه من كلام النبي .
وأمّا الوجه الثالث فأظرف الوجوه ، فإنّه احتمال أن يكون فهم أبوبكر !! الإمامة العظمى!! وعلم ما في تحتّلها من الخطر ؟! علم قوة عمر على ذلك فاختاره!! ولم يعلم النبي بقوّة عمر على ذلك فلم يختره!! وإذا كان علم من عمر ذلك فعمر أفضل منه وأحقّ بالإمامة العظمى ! !
لكنّ الوجه الوجيه أنّه كان يعلم بأنّ الأمر لم يكن من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وعمر كان يعلم ـ أيضاً ـ بذلك ، ولذا قال له في الجواب : ( أنت أحقّ بذلك ) ، وقوله لعمر : ( صلّ بالناس ) يشبه قوله للناس في السقيفة : ( بايعوا أيّ الرجلين شئتم ) يعني : عمر وأبا عبيدة ...
7 ـ خروجه معتمداً على رجلين
إنّه وإن لم يتعرّض في بعض ألفاظ الحديث لخروج النبي إلى الصلاة أصلاً وفي بعضها إشارة إليه ولكن بلا ذكرٍ لكيفيّة الخروج ... إلاّ أنّ في اللفظ المفصّل ـ وهو خبر عبيدالله عن عائشة ، حيث طلب منها أن تحدّثه عن مرض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ جاء : ( ثمّ إنّ النبيّ صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم وجد من نفسه خفّةً ، فخرج بين رجلين أحدهما العبّاس ) .
وفي حديث آخر عنها : ( وخرج النبي يهادي بين رجلين ، كأنّي أنظر إليه يخطّ برجليه الأرض ) .
وفي ثالث : ( فلمّا دخل في الصلاة وجد رسول الله في نفسه خفّةً ، فقام يهادي بين رجلين ، ورجلاه تخطّان في الأرض حتّى دخل المسجد ) .
وفي رابع : ( فوجد رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم من نفسه خفّةً ، فخرج وإذا أبوبكر يؤمّ الناس ) .
وفي خامس : ( فخرج أبوبكر فصلّى بالناس ، فوجد رسول الله من نفسه
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 340 _
خفّةً ، فخرج يهادى بين رجلين ورجلاه تخطّان في الأرض ) .
أقول : هنا نقاط نلفت إليها الأنظار على ضوء هذه الأخبار :
1 ـ متى خرج أبوبكر إلى الصلاة ؟
إنّه خرج إليها والنبي في حال غشوةٍ ، لأنّه لمّا وجد في نفسه خفّةً خرج معتمداً على رجلين ...
2 ـ متى خرج رسول الله ؟
إنّه خرج عند دخول أبي بكر في الصلاة ، فهل كانت الخفّة التي وجدها في نفسه في تلك اللحظات صدفةً ، بأن رأى نفسه متمكّناً من الخروج فخرج على عادته أو أنّه خرج عندما علم بصلاة أبي بكر إمّا بإخبار مخبر ، أو بسماع صوت أبي بكر ؟ إنّه لا فرق بين الوجهين من حيث النتيجة ، فإنّه لو كان قد أمر أبابكر بالصلاة في مقامه لما بادر إلى الخروج وهو على الحال التي وصفتها الأخبار !
3 ـ كيف خرج رسول الله ؟
لم يكن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقادر على المشي بنفسه ، ولا كان يكفيه الرجل الواحد بل خرج معتمداً على رجلين ، بل إنّهما أيضاً لم يكفياه ، فرجلاه كانتا تخطّان في الأرض ، وإنّ خروجاً ـ كهذا ـ ليس إلاّ لأمرٍ يهمّ الإسلام والمسلمين ، وإلاّ فقد كان معذوراً عن الخروج للصلاة جماعةً ، كما هو واضح ... فإن كان خروج أبي بكر إلى الصلاة بأمرٍ منه فقد جاء ليعزله ، كما كان في قضيّة إبلاغ سورة التوبة حيث أمر أبابكر بذلك ثمّ أمر بعزله وذاك من القضايا الثابتة المتّفق عليها ، لكنّه لم يكن بأمرٍ منه للوجوه التي ذكرناها ...
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 341 _
4 ـ على من كان معتمداً ؟
واختلفت الألفاظ التي ذكرناها فيمن كان معتمداً عليه ـ مع الاتّفاق على كونهما أثنين ـ فمنها : ( رجلين أحدهما العبّاس ) ومنها : ( رجلين ) ومنها : ( فقال : انظروا لي من أتّكى عليه ، فجاءت بريرة ، ورجل آخر فاتّكأ عليهما ) ، وهناك روايات فيها أسماء أشخاص آخرين ... ومن هنا اضطربت كلمات الشرّاح ...
فقال النووي بشرح ( فخرج بين رجلين أحدهما العبّاس ) :
وفسّر ابن عبّاس الآخر بعليّ بن أبي طالب .
وفي الطريق الآخر : فخرج ويد له على رجلٍ آخر ، وجاء في غير مسلم : بين رجلين أحدهما أسامة بن زيد : وطريق الجمع بين هذا كلّه : إنّهم كانوا يتناوبون الأخذ بيده الكريمة تارةً هذا وتارةً ذاك وذاك ، ويتنافسون في ذلك .
وأكرموا العبّاس باختصاصه بيد واستمرارها له ، لما له من السنّ والعمومة وغيرها ، ولهذا ذكرته عائشة مسمّئ وأبهمت الرجل الآخر ، إذ لم يكن أحد الثلاثة الباقين ملازماً في جميع الطريق ولا معظمه ، بخلاف العبّاس ، والله أعلم )
(1) .
وفي خبر آخر عند ابن خزيمة عن سالم بن عبيد : ( فجاءوا ببريرة ورجل آخر فاعتمد علهيما ثم خرج إلى الصلاة )
(2) .
ترى أنّ ( الرجل الآخر ) في جميع هذه الطرق غير مذكور ، فاضطرّ النووي إلى ذكر توجيه لذلك ، بعد أن ذكر طريق الجمع بين ذلك كلّه ، لئلاً يسقط شيء منها عن الاعتبار !! بعد أن كانت القضيّة واحدة ...
وروى أبو حاتم أنّه خرج بين جاريتين ، فجمع بين الخبرين بأنّه ( خرج بين
---------------------------
(1) المنهاج شرح مسلم هامش إرشاد الساري 3 | 57 .
(2) عمدة القاري 5 | 187 .
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 342 _
الجاريتين إلى الباب ، ومن الباب ، ومن الباب أخذه العبّاس وعليّ ، حتّى دخلا به المسجد )
(1) .
لكنّ خبر خروجه بين جاريتين وهم صدر من الذهبي أيضاً
(2)
وذكر العيني الجمع الذي اختاره النووي قائلاً : ( وزعم بعض الناس ) ثمّ أشكل عليه بقوله : ( فإن قلت : ليس بين المسجد وبيته مسافة تقتضي التناوب ... ) فأجاب بقوله : ( قلت : يحتمل أن يكون ذلك لزيادةٍ في إكرامه أو لالتماس البركة من يده )
(3) .
وأنت تستشمّ من عبارته ( وزعم بعض الناس ) ثمّ من الإشكال والجواب عدم ارتضائه لما قاله النووي ، وكذلك ابن حجر ردّ ـ كما ستعلم ـ على ما ذكره النووي فيما جاء في رواية معمر : ( ولكنّ عائشة لا تطيب نفساً له بخير ) ورواية الزهري : ( ولكنّها لا تقدر على أن تذكره بخير ) .
والتحقيق : إنّ القضيّة واحدة ، و( الرجل الآخر ) هو عليّ عليه السلام ( ولكن عائشة ... ) أمّا ما ذكره النووي فقد عرفت ما فيه ، وقد أورد العيني ما في رواية معمر والزهري ثمّ قال : ( وقال بعضهم : وفي هذا ردّ على من زعم أنها أبهمت الثاني لكونه لم يتعيّن في جميع المسافة ولا معظمها ) قال العيني : ( أشار بهذا إلى الردّ على النووي ولكنّه ما صرّح باسمه لاعتنائه به ومحاماته له )
(4) .
قلت : والعيني أيضاً لم يذكر اسم القائل وهو ابن حجر ، ولا نصّ عبارته لشدّتها ، ولنذكرها كاملةً ، فإنّه كما لم يصرّح باسم النووي كذلك لم يصرّح باسم الكرماني الذي اكتفى هنا بأن قال : ( لم يكن تحقيراً أو عداوةً ، حاشاها من ذلك )
(5) وهي هذه بعد روايتي معمر والزهري :
---------------------------
(1) عمدة القاري 5 | 187 .
(2) عمدة القاري 5 | 190 .
(3) عمدة القاري 5 | 187 .
(4) عمدة القاري 5 | 191 .
(5) الكواكب الدراري 5 | 52 .
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 343 _
( وفي هذا ردّ على من تنطّع فقال : لا يجوز أن يظنّ ذلك بعائشة ، بعائشة ، وردّ من زعم أنّها أبهمت الثاني لكونه لم يتعيّن في جميع المسافة ... وفي جميع ذلك الرجل الآخر هوالعبّاس ، واختصّ بذلك إكراماً له ، وهذا توهّم ممّن قاله ، والواقع خلافه ، لأنّ ابن عبّاس في جميع الروايات الصحيحة جازم بأنّ المبهم عليّ فهو المعتمد )
(1) .
إلاّ أنّ من القوم من حملته العصبيّة لعائشة على أن ينكر ما جاء في رواية معمر والزهري ، وقد أجاب عن ذلك ابن حجر حاملاً الإنكار على الصحّة فقال : ( ولم يقف الكرماني على هذه الزيادة فعبّر عنها بعبارة شنيعة )
(2) .
8 ـ حديث صلاته خلف أبي بكر
وحديث أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أئتمّ في تلك الصلاة بأبي بكر ـ بالإضافة إلى أنّه في نفسه كذب كما سيأتي ـ دليل آخر على أنّ أصل القضية ـ أعني أمره أبابكر بالصلاة ـ كذب ... وبيان ذلك في الوجوه الآتية .
9 ـ وجوب تقديم الأقرأ
هذا ، وينافي حديث الأمر بالصلاة منه صلّى الله عليه وآله وسلّم ما ثبت عنه من وجوب تقديم الأقرأ في الإمامة إذا استووا في القراءة ، وفي الصحاح أحاديث متعدّدة دالّة على ذلك ، وقد عقد البخاري ( باب إذا استووا في القراءة فليؤمّهم أكبرهم )
(3) .
وذلك ، لأنّ أبابكر لم يكن الأقرأ بالإجماع ... وهذا أيضاً من المواضع
---------------------------
(1) فتح الباري 2 | 123 .
(2) فتح الباري 2 | 123 .
(3) صحيح البخاري بشرح العيني 5 | 212 .
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 344 _
المشكلة التي اضطربت فيها كلماتهم :
قال العيني : ( اختلف العلماء فيمن هو أولى بالإمامة فقالت طائفة : الأفقه ن وقال آخرون : الأقرأ ) فأجاب عن الإشكال بعدم التعارض : ( لأنّه لا يكاد يوجد إذ ذاك قارئ إلاّ وهو فقيه : ( وأجاب بعضهم بأنّ تقديم الأقرأ كان في صدر الإسلام )
(1) .
قال ابن حجر بشرح عنوان البخاري المذكور :
( هذه الترجمة متنزعة من حديث أخرجه مسلم من رواية أبي مسعود الأنصاري وقد نقل ابن أبي حاتم عن أبيه أنّ شعبة كان يتوقّف في صحّة هذا الحديث ، ولكن هو في الجملة يصلح للاحتجاج به عند البخاري ، قيل : المراد به الأفقه ، وقيل : هو على ظاهره .
وبحسب ذلك اختلف الفقهاء قال النووي قال أصحابنا : الأفقه مقدّم على الأقرأ ، ولهذا قدّم النبي أبابكر في الصلاة على الباقين ، مع أنّه صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم نصّ على أنّ غيره أقرأ منه ـ كأنّه عنى حديث : أقرؤكم أبي ـ قال : وأجابوا عن الحديث بأنّ الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه ) .
قال ابن حجر : ( قلت : وهذا الجواب يلزم منه أنّ من نصّ النبي على أنّه أقرأ من أبي بكر كان أفقه من أبي بكر ، فيفسد الاحتجاج بأنّ تقديم أبي بكر كان لأنّه الأفقه ) .
قال : ( ثمّ قال النووي بعد ذلك : إنّ قوله في حديث أبي مسعود : فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنّة ، فإن كانوا في السنّة سواء فأقدمهم في الهجرة ، يدلّ على تقديم الأقرأ مطلقاً ، إنتهى ) .
قال ابن حجر : ( وهو واضح للمغايرة )
(2) .
---------------------------
(1) عمدة القاري 5 | 203 .
(2) فتح الباري 2 | 135 .
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 345 _
أقول : فانظر إلى اضطراباتهم وتمحّلاتهم في الباب ، وما ذلك كلّه إلاّ دليلاً على عجزهم عن حلّ الإشكال ، وإلاّ فأيّ وجهٍ لحمل حديث تقديم الأقرأ على ( صدر الإسلام ) فقط ؟ أو حمله على أنّ المراد هو ( الأفقه )؟! وهل كان أبوبكر الأفقه حقّاً ؟ !
وأمّا الوجه الآخر الذي نسبه النووي إلى أصحابه فقد ردّ عليه ابن حجر ... وتراهم بالتالي يعترفون بوجوب تقديم الأقرأ أو يسكتون ! !
إنّ المتّفق عليه في كتابي البخاري ومسلم أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان هو الإمام في تلك الصلاة ، وكذا جاء في حديث غيرهما ... فهذه طائفة من الأخبار صريحة في ذلك ...
وطائفة أخرى فيها بعض الإجمال ... كالحديث عند النسائي : ( وكان النبي بين يدي أبي بكر ، فصلّى قاعداً ، وأبوبكر يصلّي بالناس ، والناس خلف أبي بكر ) ، والآخر عند ابن ماجة : ( ثمّ جاء رسول الله حتّى جلس إلى جنب أبي بكر حتّى قضى أبوبكر صلاته ) .
وطائفة ثالثة ظاهرة أو صريحة في صلاته خلف أبي بكر ، كالحديث عند النسائي وأحمد : ( إنّ أبابكر صلّى للناس ورسول الله في الصفّ ) والحديث عند أحمد : ( صلّى الله خلف أبي بكر قاعداً ) وعنده أيضاً ( وصلّى النبي خلفه قاعداً ) .
ومن هنا كان هذا الموضع من المواضع المشكلة عند الشرّاح ، حيث اضطربت كلماتهم واختلفت أقوالهم فيه ... قال ابن حجر : ( وهو اختلاف شديد )
(1) .
فابن الجوزي وجماعة اسقطوا ما أفاد صلاة رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم خلف أبي بكر عن الإعتبار ، بالنظر إلى ضعف سنده ، وإعراض البخاري
---------------------------
(1) فتح الباري 2 | 120 .
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 346 _
ومسلم عن إخراجه
(1) قال ابن عبدالبرّ : ( الآثار الصحاح على أنّ النبي هو الإمام )
(2) وقال النووي : ( كان بعض العلماء زعم أنّ أبابكر كان هو الإمام والنبي مقتدٍ به ، لكنّ الصواب أنّ النبي كان هو الإمام وقد ذكره مسلم )
(3) .
لكن فيه : أنّه إن كان دليل الردّ ضعف السند ، فقد عرفت أنّ جميع ما دلّ على أمره أبابكر بالصلاة ضعيف ، وإن كان دليل الردّ إعراض الشيخين فقد ثبت لدى المحقّقين أنّ إعراضهما عن حديث لا يوهنه ، كما أنّ إخراجهما لحديث لا يوجب قبوله ، نعم ، خصوم ابن الجوزي وجماعته ملتزمون بذلك .
وعبد المغيث بن زهير وجماعة قالوا : كان أبوبكر هوالإمام أخذاً بالأحاديث الصريحة في ذلك ، قال الضياء المقدسي وابن ناصر : ( صحّ وثبت أنّه صلّى خلفه مقتدياً به في مرضه الذي توفّي فيه ثلاث مرّات ، ولا ينكر ذلك إلاّ جاهل لا علم له بالرواية )
(4) .
لكن فيه : أنّها أحاديث ضعيفة جدّاً ، ومن عمدتها ما رواه شبابة بن سوار المدلّس المجروح عند المحقّقين ... على أنّ قولهما : ( ثلاث مرّات ) معارض بقول بعضهم ( كان مرّتين ) وبه جزم ابن حبّان
(5) وأمّا رمي المنكرين بالجهل فتعصّب ... والعيني وجماعة على الجمع بتعدّد الوقعة ، قال العيني : ( روي حديث عائشة بطرقٍ كثيرة في الصحيحين وغيرهما ، وفيه اضطراب غير قادح .
وقال البيهقي : لا تعارض في أحاديثها ، فإنّ الصلاة التي كان فيها النبي
---------------------------
(1) لابن الجوزي رسالة في هذا الباب أسماها ( آفة أصحاب الحديث ) نشرناها لأول مرّة بمقدّمة وتعاليق هامّة سنة 1398 هـ .
(2) عمدة القاري 5 | 191 .
(3) المنهاج ، شرح صحيح مسلم 3 | 52 .
(4) عمدة القاري 5 | 191 ، لعبد المغيث رسالة في هذا الباب ، ردّ عليها ابن الجوزي برسالته المذكورة .
(5) عمدة القاري 5 | 191 .
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 347 _
إماماً هي صلاة الظهر يوم السبت أو يوم الأحد ، والتي كان فيها مأموماً هي صلاة الصبح من يوم الاثنين وهي آخر صلاهٍ صلاّها حتّى خرج من الدنيا .
وقال نعيم بن أبي هند : الأخبار التي وردت في هذه القصة كلها صحيحة وليس فيها تعارض ، فإنّ النبي صلّى في مرضه الذي مات فيه صلاتين في المسجد ، في إحداهما كان إماماً وفي الأخرى كان مأموماً ) (1) .
قلت :
أوّلاً : إنّ كلام البيهقي في الجمع أيضاً مضطرب ، فهو لا يدري الصلاة التي كان فيها إماماً أهي صلاة الظهر يوم السبت أو يوم الأحد!؟ وكأنّ المهمّ عنده أن يجعل الصلاة الأخيرة ـ يوم الأثنين ـ صلاته مأموماً كي نثبت الإمامة العظمى لأبي بكر بالإمامة الصغرى ! !
وثانياً : إنّ نعيم بن أبي هند ـ الذي حكم بصحّة كلّ الأخبار ، وجمع كالبيهقي بالتعدّد لكن من غير تعيين ، لجهله بواقع الأمر! ـ رجل مقدوح مجروح لا يعتمد على كلامه كما تقدّم في محلّه .
وثالثاً : إنّه اعترف بوجود الاضطراب في حديث عائشة ، وكذا اعترف بذلك ابن حجر ، ثمّ ذكر الاختلاف ، وظاهره ترك المطلب على حاله من دون اختيار ، ثمّ أضاف أنّه ( اختلف النقل عن الصحابة غير عائشة ، فحديث ابن عبّاس فيه : أنّ أبابكر كان مأموماً وحديث أنس فيه : أنّ أبابكر كان إماماً ، أخرجه الترمذي وغيره ) (2) .
---------------------------
(1) عمدة القاري 5 | 191 .
(2) فتح الباري 2 | 120 .
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 348 _
والتحقيق :
إنّ القصّة واحدة لا متعدّدة ، فالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج في تلك الوقعة إلى المسجد ونحّى أبابكر عن المحراب ، وصلّى بالناس بنفسه وكان هو الإمام وصار أبوبكر ماموماً ... هذا هو التحقيق بالنظر إلى الوجوه المذكورة ، وفي متون الأخبار ، وفي تناقضات القوم ، وفي ملابسات القصّة ... ثمّ وجدنا إمام الشافعيّة يصرّح بهذا الذي انتهينا إليه ... قال ابن حجر :
( صرّح الشافعي بأنّه صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم لم يصل بالناس في مرض موته في المسجد إلاّ مرّة واحدة ، وهي هذه التي صلّى فيها قاعداً ، وكان أبوبكر فيها أوّلاً إماماً ثمّ صار مأموماً يسمع الناس التكبير ) (1) .
ثمّ إنّ هذا الذي صرّح به الشافعي من أنّ أبابكر ( صار مأموماً يسمع الناس التكبير ) ممّا شقّ على كثيرٍ من القوم التصريح به ، فجعلوا يتّبعون أهواءهم في رواية الخبر وحكاية الحال ، فانظر إلى الفرق بين عبارة الشافعي وما جاء مشابهاً لها في بعض الأخبار ، وعبارة من قال :
( فكان أبوبكر يصلّي بصلاة رسول الله وهو جالس ، وكان الناس يصلّون بصلاة أبي بكر ) .
ومن قال :
( فكان أبوبكر يصلّي قائماً ، وكان رسول الله يصلّي قاعداً ، يقتدي أبوبكر بصلاة رسول الله ، والناس مقتدون بصلاة أبي بكر ) .
ومن قال :
( فصلّى قاعداً وأبوبكر يصلّي بالناس ، والناس خلف أبي بكر ) .
---------------------------
(1) فتح الباري 2 | 138 .
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 349 _
ومن قال :
( فكان أبوبكر يأتمّ بالنبي والناس يأتمون بأبي بكر ) .
ومن قال :
( جاء رسول الله حتى جلس إلى جنب أبي بكر حتّى قضى أبوبكر صلاته ) .
إنّهم يقولون هكذا كي يوهموا ثبوت نوع إمامة لأبي بكر !! وتكون حينئذٍ كلماتهم مضطربة مشوّشة بطبيعة الحال!! وبالفعل فقد وقع التوهمّ ... واختلف الشرّاح في القضيّة وتوهّم بعضهم فروعاً فقهيّة ، كقولهم بصحّة الصلاة بإمامين ! ! :
فقد عقد البخاري : ( باب الرجل يأتمّ بالإمام ويأتمّ الناس بالمأموم ) وذكر فيه الحديث عن عائشة الذي فيه : ( وكان رسول الله يصلّي قاعداً ، ويقتدي أبوبكر بصلاة رسول الله ، والناس مقتدون بصلاة أبي بكر ) (1) .
وقال العيني بعد الحديث : ( قيل للأعمش : وكان النبي يصلّي وأبوبكر يصلي بصلاته والناس يصلّون بصلاة أبي بكر ؟ فقال برأسه : نعم ! ) .
قال : ( استدلّ به الشعبي على جواز ائتمام بعض المأمومين ببعضٍ وهو مختار الطبري أيضاً ، وأشار إليه البخاري ـ كما يأتي إن شاء الله تعالى ـ .
وردّ بأنّ أبابكر كان مبلّغاً ، وعلى هذا فمعنى الاقتداء اقتداؤه بصوته ، والدليل عليه أنّه صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم كان جالساً وأبوبكر كان قائماً ، فكانت بعض أفعاله تخفى على بعض المأمومين ، فلأجل ذلك كان أبوبكر كالإمام في حقهم ) (2) .
أقول : ولذا شرح السيوطي الحديث في الموطّأ بقوله :
---------------------------
(1) صحيح البخاري ـ بشرح العيني ـ 5 | 250 .
(2) عمدة القاري 5 | 190 .
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 350 _
( أي يتعرّفون به ما كان النبيّ يفعله لضعف صوته عن أن يسمع الناس تكبير الانتقال ، فكان أبوبكر يسمعهم ذلك ) (1) .
ويشهد بذلك الحديث المتقدّم عن جابر : ( اشتكى رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم فصلّينا وراءه وهو قاعد ، وأبوبكر يسمع الناس تكبيره ) .
بل لقد عقد البخاري نفسه : ( باب من أسمع الناس تكبير الإمام ) أخرج الحديث تحته (2) !!
10 ـ لا يجوز لأحد التقدّم على النبيّ
هذا كلّه بغضّ النظر عن أنّه لا يجوز لأحد أن يتقدّم على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وأمّا بالنظر إلى هذه القاعدة المسلّمة كتاباً وسنّةً فجميع أحاديث المسألة باطلة ، ولقد نصّ على تلك القاعدة كبار الفقهاء ، منهم : إمام المالكية وأتباعه ، وعن القاضي عياض إنّه مشهور عن مالك وجماعة أصحابه ، قال : وهو أولى الأقاويل (3) وقال الحلبي بعد حديث تراجع أبي بكر عن مقامه : ( وهذا استدلّ به القاضي عياض على أنّه لا يجوز لأحدٍ أن يؤمّه صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ، لأنّه لا يصحّ التقدّم بين يديه ، في الصلاة ولا في غيرها ، لا لعذرٍ ولا لغيره ، ولقد نهى الله المؤمنين عن ذلك ، ولا يكون أحد شافعاً له ، وقد قال : أئمّتكم شفعاؤكم ، وحينئذٍ يحتاج للجواب عن صلاته خلف عبدالرحمن بن عوف ركعةً ، وسيأتي الجواب عن ذلك ) (4) .
قلت : يشير بقوله : ( وقد نهى الله المؤمنين عن ذلك ) إلى قوله عزّ وجلّ :
---------------------------
(1) تنوير الحوالك ـ شرح موطأ مالك 1 | 156 .
(2) فتح الباري 2 | 162 .
(3) نيل الأوطار 3 | 195 .
(4) السيرة الحلبية 3 | 365 .