وإن وصف بن الثوري والأعمش فلا اعتذار ...
(1) .
قال الخطيب : ( التدليس للحديث مكروه عند أهل العلم ، وقد عظّم بعضهم الشأن في ذمّه ، وتبجّج بعضهم بالبراءة منه )
(2) .
ثمّ روى عن شعبة بن الحجّاج قوله : ( التدليس أخو الكذب ) .
وعنه : ( التدليس في الحديث أشدّ من الزنا ) .
وعنه : ( لإن أسقط من السماء أحبّ إليّ من أن أدلّس ) .
وعن أبي أسامة : ( خرّب الله بيوت المدلّسين ، ما هم عندي إلاّ كذّابون ) .
وعن ابن المبارك : لأن نخرّ من السماء أحبّ إليّ من أن ندلّس حديثاً ).
وعن وكيع : ( نحن لا نستحلّ التدليس في الثياب فكيف في الحديث! ).
فإذن : يسقط هذا الحديث ، بهذا السند ، الذي اتّفقوا في الرواية به ، فلا حاجة إلى النظر في حال من قبل الأعمش من الرواة.
لكن مع ذلك نلاحظ أنّ الراوي عن الأعمش عند البخاري وأحمد ـ في إحدى طرقهما ـ وعند مسلم والنسائي هو ( أبو معاوية ) وهذا الرجل أيضاً من المدلّسين :
قال السيوطي : ( قائدة : أردت أن أسرد أسماء من رمي ببدعةٍ ممّن أخرج لهم البخاري ومسلم أو أحدهما :
وهم : إبراهيم بن طهمان ، أيّوب بن عائذ الطائي ، ذرّ بن عبدالله المرهبي ، شبابة بن سوار ، عبدالحميد بن عبدالرحمن ... محمّد بن حازم أبو معاوية الضرير ورقاء بن عمر اليشكري ... هؤلاء رموا بالأرجاء ، وهو تأخير القول في الحكم على مرتكب الكبائر بالنار ... )
(3) .
---------------------------
(1) تدريب الراوي 1 : 226.
(2) الكفاية في علم الرواية 1 | 188.
(3) تدريب الراوي 1 | 278 ، وفي طبعة 1 | 328.
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 319 _
وذكر ابن حجر عن غير واحد أنّه كان مرجئاً حبيثاً ، وأنّه كان يدعو إليه
(1) .
والراوي عن ( الأعمش ) عند ابن ماجة وأحمد في طريقه الأخرى هو : وكيع ابن الجّراح ، وفيه : أنّه كان يشرب المسكر وكان ملازماً له
(2) .
ثمّ إنّ الراوي عن أبي معاوية في إحدى طرق البخاري هو : حفص بن عياث ، وهو أيضاً من المدلّسين
(3) .
مضافاً إلى أنّه كان قاضي الكوفة من قبل هارون ، وقد ذكروا عن أحمد أنّه : ( كان وكيع صديقاً لحفص بن غياث فلمّا ولّي القضاء هجره )
(4) .
وأمّا الحديث عن عروة بن الزبير :
فإنّ عروة بن الزبير ولد في خلافة عمر ، فالحديث مرسل ، ولابدّ أنّه يرويه عن عائشة .
وكان عروة من المشهورين بالبغض والعداء لأمير المؤمنين عليه السلام ـ كما عرفت من خبره مع الزهري ، والخبر عن ابنه ـ وحتّى حضر يوم الجمل على صغر سنّه
(5) ، وقد كان هو والزهري يضعان الحديث في تنقيص الإمام والزهراء الطاهرة عليهما السلام ، فقد روى الهيثمي عنه حديثاً ـ وصحّحه ـ في فضل زينب بنت رسول الله جاء فيه أنّه كان يقول : ( هي خير بناتي ) قال : ( فبلغ ذلك عليّ بن حسين ، فانطلق إليه فقال : ما حديث بلغني عنك أنّك تحدّثه تنقص حقّ فاطمة ؟ ! فقال : لا أحدّث به أبداً )
(6) .
---------------------------
(1) تهذيب التهذيب 9 | 121.
(2) تذكرة الحفّاظ 1 | 308 ، ميزان الاعتدال 1 : 336.
(3) تهذيب التهذيب 2 | 358.
(4) تهذيب التهذيب 11 | 111.
(5) تهذيب التهذيب 7 | 166.
(6) مجمع الزوائد 9 | 213.
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 320 _
والراوي عنه ولده ( هشام ) في رواية البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة ... وهو أيضاً من المدلّسين ، فقد قالوا : ( كان ينسب إلى أبيه ما كان يسمعه من غيره ، وقد ذكروا أنّ مالكاً كان لا يرضاه ، قال ابن خراش : بلغني أنّ مالكاً نقم عليه حديثه لأهل العراق ، قدم الكوفة ثلاث مرّات ، قدمةً كان يقول : حدّثني أبي ، قال : سمعت عائشة .
وقدم الثانية فكان يقول : أخبرني أبي ، عن عائشة .
وقدم الثالثة فكان يقول : أبي ، عن عائشة )
(1) وهذا الحديث من تلك الأحاديث.
وأمّا الحديث عن عبيدالله بن عبدالله عن عائشة :
فإنّ الرّاوي عن ( عبيدالله ) عند البخاري ومسلم والنسائي هو ( موسى بن أبي عائشة ) وقد قال ابن أبي حاتم سمعت أبي
(2) يقول : ( تريبني رواية موسى بن أبي عائشة حديث عبيدالله بن عبدالله في مرض النبي صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم )
(3) .
وعند أبي داود وأحمد هو : الزهري ـ لكن عند الأول يرويه عن عبيدالله ، عن عبدالله بن زمعة ـ والزهري من قد عرفته سابقاً .
هذا مضافاً إلى ما في عبيدالله بن عبدالله نفسه ... فقد روى ابن سعد ، عن مالك بن أنس ، قال : ( جاء عليّ بن حسين بن عليّ بن أبي طالب إلى عبيدالله ابن عبدالله بن عتبة بن مسعود يسأله عن بعض الشيء !! وأصحابه عنده وهو يصلّي ، فجلس حتّى فرغ من صلاته ثمّ أقبل عليه عبيدالله .
فقال أصحابه : أمتع الله بك ، جاءك هذا الرجل وهو ابن ابنة رسول الله
---------------------------
(1) تهذيب التهذيب 11 | 44.
(2) هو : محمّد بن إدريس الرازي ، أحد كبار الأئمّة الحفّاظ المعتمدين في الجرح والتعديل ، توفّي سنة 207 هـ تقريباً ، توجد ترجمته في : تذكره الحفّاظ 2 | 567 ، تاريخ بغداد 3 | 73 وغيرهما من المصادر الرجالية.
(3) تهذيب التهذيب 10 | 314.
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 321 _
صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم وفي موضعه ، يسألك عن بعض الشيء!! فلو أقبلت عليه فقضيت حاجته ثمّ أقبلت على ما أنت فيه !
فقال عبيدالله لهم : أيهات! لابدّ لمن طلب هذا الشأن من أن يتعنّى ! ! )
(1) .
وأمّا الحديث عن مسروق بن الأجدع عن عائشة :
ففيه :
1 ـ ( أبو وائل ) وهو ( شقيق بن سلمة ) يرويه عن ( مسروق ) وقد قال عاصم ابن بهدلة : ( قيل لأبي وائل : أيّهما أحبّ إليك : عليّ أو عثمان ؟ قال : كان عليّ أحبّ إليّ ثم صار عثمان!! )
(2) .
2 ـ ( نعيم بن أبي هند ) يرويه عن ( أبي وائل ) عند النسائي وأحمد بن حنبل ، و( نعيم ) قد عرفته سابقاً .
ثمّ إنّ في أحدى طريقي أحمد عن ( نعيم ) المذكور : ( شبابة بن سوار ) وقد ذكروا بترجمة أنّه كان يرى الإرجاء ويدعو إليه ، فتركه أحمد وكان يحمل عليه ، وقال : أبو حاتم : لا يحتجّ بحديثه
(3) وقد أورده السيوطي في الفائدة المذكورة ، وحكى ابن حجر في ترجمته ما يدلّ على بغضه لأهل بيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم
(4) .
هذا ، ويبقى الكلام في عائشة نفسها ...
فقد وجدناها تريد كلّ شأن وفضيلةٍ لنفسها وأبيها ومن تحبّ من قرابتها وذويها ... فكانت إذا رأت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يلاقي المحبّة من إحدى زوجاته ويمكث عندها تارث عليها ... كما فعلت مع زينب بنت
---------------------------
(1) طبقات ابن سعد 5 | 215 .
(2) تهذيب التهذيب 4 | 317 .
(3) تهذيب التهذيب 4 | 264 ، تاريخ بغداد 9 | 295 .
(4) تهذيب التهذيب 4 | 265 .
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 322 _
جحش ، إذ تواطأت مع حفصة أن أيتهما دخل عليها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فلتقل : ( إنّي لأجد منك ريح مغافير حتّى يمتنع عن أن يمكث عند زينب ويشرب عندها عسلاً ) (1) .
وإذا رأته يذكر خديجة عليها السلام بخير ويثني عليها قالت : ( ما أكثر ما تذكر حمراء الشدق ؟! قد أبدلك الله عزّ وجلّ بها خيراً منها ) (2) .
وإذا رأته مقدماً على الزواج من إمرأةٍ حالت دون ذلك بالكذب والخيانة ، فقد حدّثت أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أرسلها لتطلّع على امرأةٍ من كلب قد خطبها فقال لعائشة : ( كيف رأيت؟ قالت : ما رأيت طائلاً ! فقال : لقد رأيت خالاً بخدّها اقشعرّ كلّ شعرةٍ من على حدة فقالت : ما دونك من سرّ ) (3) .
ولقد ارتكبت ذلك حتّى بتوهّم زواجه صلّى الله عليه وآله وسلّم ... فقد ذكرت : أنّ عثمان جاء النبي في نحر الظهيرة .
قالت : ( فظننت أنّه جاءه في أمر النساء ، فحملتني الغيرة على أن أصغيت إليه ) (4) .
أمّا بالنسبة إلى من تكرهه ... فكانت حرباً شعواء ... من تلك مواقفها من الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ... فقد ( جاء رجل فوقع في عليّ وفي عمّار رضي الله تعالى عنهما عند عائشة .
فقالت : أمّا عليّ فلست قائلةً لك فيه شيئاً.
وأمّا عمّار فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم يقول : لا يخيّر بين أمرين إلاّ اختار أرشدهما ) (5) .
بل كانت تضع الحديث تأييداً ودعماً لجانب المناوئين له عليه السلام ... فقد قال النعمان بن بشير : ( كتب معي معاوية إلى عائشة قال : فقدمت على عائشة
---------------------------
(1) هذه من القضايا المشهورة فراجع كتب الحديث والتفسير بتفسير سورة التحريم .
(2) مسند أحمد 6 | 117 .
(3) طبقات ابن سعد 8 | 115 ، كنز العمّال 6 | 264.
(4) مسند أحمد 6 | 114 .
(5) مسند أحمد 6 | 113 .
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 323 _
فدفعت إليها كتاب معاوية .
فقالت : يا بني ألا أحدّثك بشيء سمعته من رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ؟
قلت : بلى .
قالت : فإنّي كنت وحفصة يوماً من ذاك عند رسول الله.
فقال : لو كان عندنا رجل يحدّثنا .
فقلت : يا رسول الله ، ألا أبعث لك إلى أبي بكر ؟ فسكت .
ثمّ قال : لو كان عندنا رجل يحدّث .
فقالت : حفصة : ألا أرسل لك إلى عمر ؟ فسكت .
ثمّ قال : لا .
ثم دعا رجلاً فسارّه بشيء ، فما كان إلاّ أقبل عثمان ، فأقبل بوجهه وحديثه فسمعته يقول له : يا عثمان ، إنّ الله عزّ وجلّ لعلّه أن يقمصك قميصاً ، فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه ، ثلاث مرار .
فقلت : يأ أمّ المؤمنين ، فأين كنت عن هذا الحديث ؟ !
فقالت : يا بني ، والله لقد أنسيته حتّى ما ظننت أنّي سمعته ) (1) .
قال النعمان بن بشير : ( فأخبرته معاوية بن أبي سفيان ، فلم يرض بالذي أخرته ، حتّى كتب إلى أمّ المؤمنين أن اكتبي إليّ به ، فكتبت إليه به كتاباً ) (2) .
فانظر كيف أيّدت ـ في تلك الأيّام ـ معاوية على مطالبته الكاذبة بدم عثمان ! وكيف اعتذرت عن تحريضها الناس على قتل عثمان ؟ولا تغفل عن كتمها اسم الرجل الذي دعاه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بعد أن أبي عن الإرسال خلف أبي بكر وعمر ـ وهو ليس إلاّ أمير المؤمنين عليه السلام ... ولكنّها لا تطيب نفساً بعليّ كما قال ابن عبّاس ، وسيأتي .
فإذا كان هذه حالها وحال رواياتها في الأيّام العادية ... فإنّ من الطبيعي أن تصل هذه الحالة فيها إلى أعلى درجاتها في الأيام والساعات الأخيرة من حياة
---------------------------
(1) مسند أحمد 6 | 149 .
(2) مسند أحمد 6 | 87 .
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 324 _
رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأن تكون أخبارها عن أحواله في تلك الظروف أكثر حسّاسية ... فتراها تقول :
( لمّا ثقل رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم قال رسول الله لعبد الرحمن ابن أبي بكر : إيتني بكتف ولوحٍ حتّى أكتب لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه .
فلمّا ذهب عبدالرحمن ليقوم قال : أبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبابكر ) (1).
وتقول :
( لمّا ثقل رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم جاء بلال يؤذنه بالصلاة.
فقال : مروا أبابكر فليصلّ بالناس ).
وتقول :
( قبض رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ورأسه بين سحري ونحري ) (2).
تقول هذا وأمثاله ...
لكن عندما يأمر صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم بأن يدعى له عليّ لا يمتثل أمره ، بل يقترح عليه أن يدعى أبوبكر وعمر! يقول ابن عبّاس :
( لمّا مرض رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم مرضه الذي مات فيه كان في بيت عائشة ، فقال : ادعوالي عليّاً .
قالت عائشة : ندعو لك أبابكر ؟ قال : ادعوا قالت حفصة : يا رسول الله ، ندعو الك عمر ؟ قال ادعوه .
قالت أمّ الفضلّ : يا رسول الله ، ندعو لك العبّاس ؟ قال : ادعوه ، فلمّا اجتمعوا رفع رأسه فلم ير عليّاً فسكت ، فقال عمر : قوموا عن رسول الله ... ) (3).
وعندما يخرج إلى الصلاة ـ وهو يتهادى بين رجلين ـ تقول عائشة : ( خرج
---------------------------
(1) مسند أحمد 6 | 47.
(2) مسند أحمد 6 | 121.
(3) مسند أحمد 1 | 356.
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 325 _
يتهادى بين رجلين أحدهما العبّاس ) فلا تذكر الآخر.
فيقول ابن عبّاس :
( هو عليّ ولكن عائشة لا تقدر على أن تذكره بخير ) (1) .
فإذا عرفناها تبغض عليّاً إلى حدٍ لا تقدر أن تذكره بخير ، ولا تطيب نفسها به ... وتحاول إبعاده عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ... وتدّعي لأبيها ولنفسها ما لا أصل له ... بل لقد حدّثت أمّ سلمة بالأمر الواقع فقالت :
( والذي أحلف به ، إن كان عليّ لأقرب الناس عهداً برسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم .
قالت : عدنا رسول الله غداة بعد غداة فكان يقول : جاء علي؟ ! ! ـ مراراً ـ قالت : أظنّه كان بعثه في حاجة قالت : فجاء بعد ، فظننت أنّ له إليه حاجة ، فخرجنا من البيت ، فقعدنا عند الباب ، فكنت أدناهم إلى الباب ، فأكبّ عليه عليّ فجعل يسارّه ويناجيه ، ثمّ قبض رسول الله ... (2) .
إذا عرفنا هذا كلّه ـ وهو قليل من كثير ـ استيقنّا أنّ خبرها في أنّ صلاة أبيها كان بأمر من النبي صلّى الله عليه وآله ، وأنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج فصلّى خلفه ـ كما في بعض الأخبار عنها ـ ... من هذا القبيل ... وممّا يؤكّد ذلك اختلاف النقل عنها في القضية وهي واحدة ... كما سنرى عن قريب ...
---------------------------
(1) عمدة القاري 5 | 191.
(2) مسند أحمد 6 | 300 ، المستدرك على الصحيحين 3 | 138 ، ابن عساكر 3 | 16 ، الخصائص : 130 وغيرها.