وبعد :
فإنّ الأئمّة الأثني عشر عليهم السلام كانوا كذلك ، وتلك خطب أمير المؤمنين عليه السلام الدالّة على إحاطة علمه موجودة في الكتب ، وقد أذعن بها القاضي العضد والشريف الجرجاني
(1) وبذلك تعرف ما في قول السّعد : ( وهذه جهالة تفرد بها بعضهم ) .
وأمّا كونهم أفضل أهل زمانهم ... فسيذكر بعض الأدلة على ذلك وتقديم المفضول قبيح عندنا وعند الأشعري وأتباعه ن بل جاء في الكتاب 290 : ( ذهب معظم أهل السنّه وكثير من الفرقّ إلى أنه يتعيّن للامامة أفضل أهل العصر ) .
ومن هذه العبارة يظهر ما في نسبة صاحب المواقف وشارحها القول بجواز تقديم المفضول إلى الأكثرين
(2) .
ومنها ومن قول ابن تيمية : ( تولية المفضول مع وجود الأفضل ظلم عظيم )
(3) يظهر أيضاً ما في ردّ بعضهم ( بالقدح في قاعدة القبح ) .
هذا ، وإنّ عمدة الصّفات المستلزمة للأفضلية هي ( الأعلميّة ) و ( التقوى ) فقد قال الله تعالى : (
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )
(4) وقال : (
هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ )
(5) وكذا دلّت الأحاديث النّبوية ، ودلّ عليه العقل وقام الإجماع كما نص في الكتاب 301 ... وسيذكر بعض الأدلة على أنّ عليّاً عليه السلام أعلم الأمة وأتقاها بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ...
وعلى الجملة فإنّ الإمام منصوب من العليم الحكيم ، كما أنّ النبي مبعوث منه ، وكما يدلّ اختياره للنبوة على الأفضلية قطعاً كما نص عليه في الكتاب 247
---------------------------
(1) شرح المواقف 8 | 370 .
(2) شرح المواقف 8 | 373 .
(3) منهاج السنة 3 | 277 .
(4) سورة الحجرات : 13 .
(5) سورة الزمر : 9 .
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 165 _
كذلك يدل اختياره للإمامة على الأفضلية ، ومن هنا أجاب في الكتاب عن وجوه القول بجواز تقديم المفضول بقوله 247 : بأنّها لا تصلح للاحتجاج على الشيعة ( فإن الإمام عندهم منصوب من قبل الحق لا من قبل الخلق ) .
وأمّا العصمة ... فلا حاجة إلى إقامة الدليل على اشتراطها في الامام ، بعد أن عرفت أنّ ( الامامة ) إنّما هي ( خلافة عن النبي ) فيعتبر في الامام كلّ ما يعتبر في ( النبّي ) إلاّ النبوة ، ومنه العصمة ، وأنّه لمّا كانت العصمة أمراً خفيّاً لا يطّلع عليه أحد كان النص من الله تعالى هو الطّريق إلى معرفة الإمام وتعيينه ، بل كان على الخصم إقامة الدّليل على عدم وجوب العصمة ، فلذا جاء في الكتاب 249 :
( إحتجّ أصحابنا على عدم وجوب العصمة بالاجماع على إمامة أبي بكر وعمر وعثمان مع الإجماع على أنهم لم تجب عصمتهم ...وقد يحتج كثير بأن العصمة ممّا لا سبيل للعباد إلى الإطّلاع عليه ، فإيجاب نصب إمامٍ معصوم يعود إلى تكليف ما ليس في الوسع ) .
أقول :
ولا يخفى سقوط الوجهين ، أمّا الأول فالاجماع على إقامة القوم غير واقع ، وأمّا الثاني ، فالأنّه موقوف على أن يكون النصب بيد الخلق وهوباطل ... ولذا اضطر السّعد إلى أن يقول 249 :
( وفي انتهاض الوجهين على الشيعة نظر ) .
ومع ذلك فقد استدل أصحابنا لا شتراط العصمة بوجوهٍ من الكتاب والسنة والعقل ... وقد ذكر بعضها :
قال (249) :
( احتجّوا بوجوه : الأوّل : القياس على النبّوة ... وردّ بأنّ النبّي مبعوث من الله ، مقرون دعواه بالمعجزات الباهرة الدالة على عصمته ... ولا كذلك الإمام فإنّ نصبه مفوّض إلى العباد الذين لا سيبل لهم إلى معرفة عصمته ... ) .
أقول :
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 166 _
ليس أمر الامامة مقيساً على النبوة ، بل هي من توابع النبوة وشئونها كما عرفت ، وكما أنّ النبي مبعوث من الله فكذلك الامام منصوب منه ، وكما أنّ دعوى النّبي مقرونة بالمعجزات ، فكذلك الامام تظهر المعجزة على يده متى اقتضت المصلحة ، ولذا كان ظهور المعجزة على يده قائماً مقام النص ، كما نص عليه علماؤنا
(1) ... والعجب من السّعد كيف يقول : ( فإنّ نصبه مفوّض إلى العباد الذين لا سبيل لهم إلى معرفة عصمته ) فانّه ليس إلاّ مصادرة ، مع أنّه يناقض كلامه السابق حيث اعترض على الاحتجاج بجواز تقديم المفضول بأنّ ( الأفضليّة أمر خفي ) قائلاً : بأنّ ( هذا وأمثاله لا يصلح للاحتجاج على الشيعة ، فإنّ الامام عندهم منصوب من قبل الحق لا من قبل الخلق ) !!
قال : (250) :
( الثّاني : إنّ الامام واجب الطاعة . قال الله :
( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (2) ... والجواب : إنّ وجوب طاعته إنّما هو فيما لا يخالف الشّرع ... ) .
أقول :
إن الأمر المطلق بالإطاعة المطلقة دليل العصمة ، لا سيّما في هذه الآية حيث عطف ( أولي الأمر ) على ( الرّسول ) ، ولذا اعترف إمامهم الفخر الرازي بدلالة الآية على العصمة
(3) وأمّا حمله ( أولي الأمر ) على غير ( الإمام ) فيردّه عدم إنكار السّعد الاستدلال من هذه الناحية .
قال : (250) :
( الثالث : إنّ غير المعصوم ظالم ... والجواب ... ) .
---------------------------
(1) تلخيص الشافي 1 | 274 ، الباب الحادي عشر : 48 .
(2) سورة النساء : 59 .
(3) تفسير الفخر الرازي 10 | 144 .
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 167 _
أقول :
قال تعالى :
(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (1) .
وإذا عرفنا ( الظالم ) و ( العهد ) ظهر وجه الاستدلال .
فأمّا ( الظالم ) فهو عند أهل اللغة وكثير من العلماء : واضح الشيء في غير موضعه
(2) وغيره المعصوم كذلك كما هو واضح .
وأمّا ( العهد ) فالمراد منه ـ كما ذكر المفسّرون ـ
(3) هو ( الامامة ) .
فمعنى الآية : إن غير المعصوم لايناله الإمامة .
هذا وجه الاستدلال ، ولا يخفى الإضطراب في كلمات السّعد لدى الجواب .
قال ( 251) :
( الرّابع : إنّ الأمة إنما يحتاجون إلى الإمام لجواز الخطأ عليهم في العلم والعمل ، ولذلك يكون الإمام لطفاً لهم ... والجواب : إنّ وجوب الإمام شرعي ، بمعنى أنه أوجب علينا نصبه ... ) .
أقول :
وفيه ، إنّه مصادرة ... وهذا أيضاً منه تناقض ظاهر .
قال : (251) :
( الخامس : إنه حافظ للشّريعة ، فلو جاز الخطأ عليه لكان ناقضاً لها ... والجواب : إنه ليس حافظاً لها بذاته ، بل بالكتاب والسنّة وإجماع الامة واجتهاده الصحيح ، فإن أخطأ في إجتهاده أو ارتكب معصية فالمجتهدون يردّون
---------------------------
(1) سورة البقرة : 118 .
(2) قاله الراغب في المفردات 315 .
(3) الرازي 3 | 40 ، البيضاوي 26 ، أبو السعود العمادي 1 | 156 .
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 168 _
والآمرون بالمعروف يصدّون ... ) .
أقول :
إنه حافظ للشريعة ـ أي ما في الكتاب والسنة ـ بذاته ، بأن يعلّمها المؤمنين بها ، ويدعو الآخرين إليها ، وينفي تحريفات المبطلين عنها ... كما أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كذلك ، وأمّا الكتاب والسنّة فلا يخفظان الشّريعة لأنّهما محتاجان إلى الإمام المبيّن لهما .
ثم إنّ الإمام ليس مجتهداً ، بل شأنه شأن النبي ووظيفته وظيفته كما ذكرنا ، فلا يجوز عليه الخطأ ألبتة فضلاً عن المعصية ... حتى يردّه المجتهدون ويصدّه الآمرون بالمعروف .
ثم من أين يؤمن المجتهدون ... والآمرون ... عن الخطأ والمعصية ؟ ومن يكون الرّاد والصادّ لهم عن ذلك ؟ وان كانوا لا يخطأون ولا يعصون كانوا هو الآئمّة ووجب على الإمام إطاعتهم !
قال (252) :
( السادس : إنه لو أقدم على المعصية فإمّا أن يجب الإنكار عليه ، وهو مضاد لوجوب إطاعته ... والجواب : إن وجوب الطاعة إنما هو فيما لا يخالف الشّرع ... ) .
أقول :
ومن المشخّص للمخالف للشّرع عن غير المخالف ؟ إن كان غير معصوم فهو كالأول ، وإن كان معصوماً فهو الإمام .
قال : (252) :
( السّابع : إنّه لابدّ للشرّيعة من ناقل ، ولا يوجد في كلّ حكمٍ حكم أهل التواتر معنعناً إلى إنقراض العصر ، فلم يبق إلاّ أن يكون إماماً معصوماً عن الخطأ ، والجواب : إنّ الظنّ كافٍ في البعض ...وأمّا القطعي فإلى أهل التواتر أو جميع الأمة ، وهم أهل عصمة عن الخطأ فلا حاجة إلى معصوم بالمعنى الذي
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 169 _
قصد . ثمّ ـ وليت شعري ـ بأيّ طريق نقلت الشّريعة إلى الشيعة من الإمام الذي لا يوجد منه إلاّ الاسم ) .
أقول :
لو سلّمنا كفاية الظن في البعض ، فالرجوع في القطعي إلى أهل التواتر مع احتمال السّهو عليهم لا يفيد ، سلّمنا أنه لا يجوز عليهم السّهو فما المانع من عدولهم من النقل تعمّداً لبعض الأغراض والدواعي ؟ وكذا الكلام في الرجوع إلى جميع الأمة ، ودعوى عصمتهم عن الخطأ ممنوعة ، لانّ ما جاز على آحاد الأمة جائز على جميعها .
وأمّا الشّريعة فقد انتقلت إلى الشّيعة عن الأئمّة السابقين على الغائب عليه السّلام ، وهو حي موجود ينتفع به كالانتفاع بالشمس السحاب .
هذا ، واعلم أنّ جميع هذه الشبهات التي طرحها السّعد حول هذه الأدلة إنّما هي مأخوذة من كتاب ( المغني في الإمامة ) للقاضي عبدالجبار بن أحمد المعتزلي ، فالقوم في الردّ على الشّيعة عيال على المعتزلة ، لكن أصحابنا أجابوا عنها بأجوبة كافية شافية ، كما لا يخفى على من راجع ( الشافي ) و ( تلخيصه ) وغيرهما .
ثم إنّه يدل على اعتبار العصمة في الإمام من السنّة أحاديث ، منها : حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين ، وحديث : ( على مع القرآن والقرآن مع علي ، لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض )
(1) فإنّه يفيد ثلاثة أمور : أحدها : معنى العصمة وهو عدم التخطّي عن القرآن ، والثاني : اشتراط هذا المعنى في الامام .
والثالث : وجوده في علي عليه السلام .
قال (252) :
( وأمّا اشتراط المعجزة والعلم بالمغيّبات ... فمن الخرافات ) .
أقول :
---------------------------
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك 3 | 124 والذهبي في تلخيصه وصحّحاه .
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 170 _
دعوى أنّ ذلك كله خرافات لا دليل عليها ، والأصل في إنكار ظهور المعجزة على يد الامام هو القاضي عبدالجبار المعتزلي أيضاً ، وقد أجاب عنه الشريف المرتضى الموسوي في كتاب ( الشّافي ) فليت السّعد لاحظ كلامه ...
وممّا قال رحمه الله : ( إنّ المعجزة هو الدال على صدق من يظهر على يده فيما يدّعيه ، أو يكون كالمدعي له ، لأنّه يقع موقع التصديق ، ويجري مجرى قول الله تعالى له : صدقت فيما تدّعيه عليّ ، وإذا كان هذا هو حكم المعجز لم يمتنع أن يظهره الله تعالى على يد م يدّعي الإمامة ليدّل به على عصمته ووجوب طاعته والانقياد له ، كما لا يمتنع على يد من يدّعي نبوّته ... )
(1) .
وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي : ( فصل في إيجاب النص على الامام أو ما يقوم مقامه من المعجز الدال على إمامته )
(2) .
وقال العلامة الحلّي : ( الامام يجب أن يكون منصوصاً عليه ، لأن العصمة من الأمور الباطنة التي لا يعلمها إلاّ الله تعالى ، فلابدّ من نصّ من يعلم عصمته عليه أو ظهور معجزة على يده تدل على صدقه )
(3) .
وأمّا أحاطة علمه فلم ينكره القاضي العضد والشريف الجرجاني .
وأمّا علمه باللّغات وغير ذلك ... فلا دليل على منعه ، بل الدليل على ثبوته كما هو الحال في النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم .
طريق ثبوت الإمامة
مذهب أصحابنا أن لا طريق إلى ثبوت الإمامة إلاّ النّص أو ما يقوم مقامه وهو ظهور المعجز على يد المدّعي لها ، وذهب القوم إلى ثبوتها بالنصّ والبيعة .
---------------------------
(1) الشافي في الإمامة 1 | 196 .
(2) تلخيص الشافي 1 | 275 .
(3) الباب الحادي عشر : 48 .
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 171 _
قال (255) :
( لنا على كون البيعة والاختيار طريقاً : إنّ الطريق إمّا النص وإما الاختيار ، والنص منتف في حق أبي بكر مع كونه إماماً بالاجماع ، وكذا في حق علي على التحقيق . وأيضاً : إشتغل الصّحابة بعد وفاة النبي ... فكان إجماعاً على كونه طريقاً ، ولا عبرة بمخالفة الشيعة بعد ذلك ) .
أقول :
لقد أقرّ بانتقاء النص في حق أبي بكر .
وكونه إماماً دعوى تحتاج إلى إثبات ، والاجماع غير متحقق .
ونفي النص في حق علي عليه السلام لا يسمع ، لأنّ المثبت مقدّم على النافي .
ولا يخفى إختلاف تعبيره بين النّفيين .
هذا في الوجه الأول .
وفي الثاني : إنّ اشتغال ( الصحابة ) بعد وفاته صلّى الله عليه وآله وسلّم غير حاصل ، بل المشتغلون بعضهم ، والاجماع بين هذا البعض غير حاصل فكيف بالكلّ ؟ وإذ لم يتحقق الإجماع فلا عبرة بقوله ( لا عبرة بمخالفة الشيعة بعد ذلك ) .
هذا كلّه بغضّ النّظر عن المفاسد المترتبة على الإختيار ، وبغض النظر عن عدم الدليل على اعتبار إجماع الصحابة بل الأمة ما لم يكن بينهم معصوم .
ومن العجب أنهم يقولون بتفويض أمر الإمامة إلى ( الأمّة ) ويزعمون أن إمامة أبي بكر كانت بالاجماع ، ثم يقولون بأنّه يتحقق ( باختيار أهل الحلّ والعقد وبيعتهم ) و ( من غير أن يشترط إجماعهم على ذلك ) 254 ، ثم يقولون بأنّه ( ينعقد بعقد واحد منهم ) 254 !
فانظر كيف نزلوا من ( الخلق ) و ( الأمة ) و ( الإجماع ) إلى ( أهل الحلّ والعقد ) إلى ( الواحد ) !
وكيف يحلّ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر إيجاب إتباع من لم ينص الله عليه ولا
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 172 _
رسوله ، ولا اجتمعت الأمة عليه ، على جميع الخلق ، في شرق الدّنيا وغربها ، لأجل مبايعة واحد ؟!
قال (255) :
( احتجت الشيعة بوجوه :
الأول : إنّ الإمام يجب أن يكون معصوماً أفضل من رعيّته ... وردّ بمنع المقدمتين ... ) .
أقول :
قد ثبت تماميّة المقدّمتين ، وتقدّم أنّه لولا العصمة والأفضلية بالأعلمية وأمثالها من الصّفات لم يبق فرق بين الإمام والمأموم ، فالأمران معتبران في الإمام ، ولا سبيل إلى معرفة ذلك بالاختيار ، فانحصر الطريق في النص .
قال (255) :
( الثاني : إنّ أهل البيعة لا يقدرون على تولية مثل القضاء ... وردّ بمنع الصغرى ... ولو سلّم فذلك لوجود من إليه التّولية وهو الإمام ... ) .
أقول :
أمّا ما ذكره أوّلاً فلا يخفى ما فيه ، إذ لا ولاية لقاضي التحكيم وللشاهد على القاضي ،
وأمّا ما ذكره ثانياً ـ ولعلّه إنّما ذكره لالتفاته إلى المغالطة في كلامه ـ ففيه : أنه خروج عن الكلام ، فإنّه في طريق تعيين الإمام ...
قال (255) :
( الثالث : إنّ الإمامة لإزالة الفتن ، وإثباتها بالبيعة مظنّة إثارة الفتن ، لاختلاف الآراء ... وردّ بأنّه لا فتنة عند الانقياد للحق ... ) .
أقول :
ولكنّ المشخّص للحق ما هو ؟ هل البيعة أو النصّ ؟ إن كان الأول ففيه المحذور ، فلا مناص من الثاني .
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 173 _
وقوله : ( نزاع معاوية لم يكن في إمامة علي بل في أنه هل يجب عليه بيعته قبل الاقتصاص من قتلة عثمان ؟ ) باطل جداً :
أمّا أوّلاً : فلأنّه أخذ البيعة من أهل الشام لنفسه بالامامة .
وأما ثانياً : فلأنّه وصف هو وأتباعه بالفئة الباغية ، فلو كان توقفه عن البيعة للإمام عليه السلام لما ذكره لما وصفوا بذلك .
وأمّا ثالثاً : فلأنّ الإمام عليه السلام بايعه فضلاء الصحابة وعظماء المسلمين من غير منازعة في شيء ، ومن معاوية لينفرد بمنازعة الامام عليه السلام بما ذكر ؟
لقد كان الأولى بالسّعد أن يجلّ نفسه عن الدفاع عن البغاة !!
وكذا قوله ( ولو سلّم فالكلام فيما إذا لم يوجد النص ... ) لأنّ الكلام في طريق ثبوت الإمامة ، وهو إمّا النص كما هو الحق وإمّا الاختيار كما يقولون ، وإذ كان الاختيار منشأ المفاسد فالرجوع إلى النصّ هو المتعيّن ، وفرض عدمه أوّل الكلام ...
قال (256) :
( الرابع : إنّ الإمامة خلافة الله ورسوله ... وردّ بأنّه لمّا قام الدليل الدليل من قبل الشارع ـ وهو الاجماع ـ على انّ من اختاره الأمة خليفة الله ورسوله كان خليفة سقط ما ذكرتم ... ) .
أقول :
أولاّ : إنّه لم تتحقّق صغرى هذا الإجماع .
وثانياً : لو سلّمنا تحقّقه ، فأين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم التام سنداً ودلالةً الكلّ على أنّ الأمّة إذا أجمعت على اختيار شخص خليفة لله ورسوله كان خليفة ؟
وثالثاً : لو سلّمنا وجود هكذا قول فقد عاد الأمر إلى النص .
ورابعاً : لو سلّمنا قيام الاجماع المذكور وكفايته عن النص فهو قائم ـ
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 174 _
بالفرض على أنّ من اختاره ( الأمة ) ... لا من اختاره ( الواحد ) .
وهذا من موارد تناقضاتهم ...
قال ( 256) :
( الخامس : إنّ القول بالاختيار يؤدّي إلى خلوّ الزمان عن الإمام ... وردّ بأنّه ... ) .
أقول :
نعم إنّ القول بالاختيار يؤدّى إلى خلوّ الزمان عن الامام ، فيتسلّط الجبابرة الأشرار ويستولي الظلمة والكفّار ... ولمّا كانت هذه المفسدة مترتبة على الاختيار فانّه يسقط عن الطريقية ويتعيّن النّص ، وهنا يلتجأ القوم إلى تقييد الاختيار بحال ( الاقتدار ) ويقولون بوجوب إطاعة الكفّار والفجّار ... عند ( العجز والاضطرار ) ولم يعبأ حينئذٍ بعدم العلم والعدالة وسائر الشرائط ... 245 ... !
وهذا كلّه للفرار عن الرجوع إلى النّص والإنكار له !!
قال (256) :
( السّادس : إنّ سيرة النبّي وطريقته على أنّه كان لا يترك الاستخلاف على المدينة ... فكيف يترك الاستخلاف في غيبة الوفاة ... ؟ والجواب : إنّ ذلك مجرّد استبعاد ، على أن التفويض إلى اختيار أهل الحلّ والعقد واجتهاد أرباب الألباب نوع استخلاف ... ) .
أقول :
هل إنّ ذلك مجرّد استبعاد حقاً ؟ ليته لم يقله واكتفى بما ادّعاه من التفويض ... لكن فيه :
أولاً : أين الدليل التام المقبول على هذا التفويض ؟
وثانياً : على فرض ثبوته فإنّه إلى ( إختيار أهل الحلّ والعقد ... ) كما ذكر ، لا إلى ( واحد ) منهم إن كان منهم .
وثالثاً : إنّ تفويض الأمر إلى الأصحاب محال ، لأنّه لا يخلو صلّى الله عليه
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 175 _
وآله وسلّم من أن يكون عالماً بما سيقع بين الأصحاب وسائر الأمة من الافتراق الاختلاف أو يكون جاهلاً بذلك ، فإن كان عالماً ففوّض الأمر إليهم مع ذلك فقد خان الله والاسلام والمسلمين ـ والعياذ بالله من ذلك ، وإن كان جاهلاً بما سيكون فهذا نقص كبير والعياذ بالله من نسبته إليه ... وإذا كان اللازم من الخيانة والجهل محالاً فالملزوم وهو التفويض محال .
قال ( 257) :
( السابع : إنّ النبي كان لأمّته بمنزلة الأب الشفيق لأولاده الصّغار وهو لا يترك الوصيّة في الأولاد إلى واحد يصلح لذلك ، فكذا النبي في حق الأمة .
الثامن : قوله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) (1) ، ولا خفاء في أنّ الإمامة من معظمات أمر الدين ، فيكون قد بيّنها وأكملها ... والجواب عنهما بمثل ما سبق ) .
أقول :
توضيح الوجه السّابع هو : إن نسبة عدم الوصيّة إلى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خطيئة كبيرة لا تغفر أبداً ، فالوصيّة ممّا ندب إليه الكتاب والسنة والعقل والاجماع ، قال الله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ ) (2) وقال رسول الله : ( ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلاّ ووصيّته مكتوبة عنده ) (3) .
وإذا كان هذا حكم الرّجل بالنسبة إلى أولاده ، وأمواله ، فالنّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي يريد مفارقة أمّته وهو بالنسبة إليهم كالأب الشفيق كذلك بل أولى .
وهل هذا مجرّد استبعاد ؟
---------------------------
(1) سورة المائدة : 3 .
(2) سورة البقرة : 176 .
(3) راجع صحيحي البخاري ومسلم في كتاب الوصايا .