فتنة الأحداث في عهد عثمان

  الملل والنحل : ان أقاربه قد ركبوا نهابر فركبته وجاروا فجير عليه ، ووقعت اختلافات كثيرة وأخذوا عليه أحداثا كلها محالة على بني أمية : منها ردة الحكم بن أمية الى المدينة بعد أن طرده النبي عليه السلام وكان يسمى طريد رسول الله وبعد أن تشفع إلى ابي بكر وعمر أيام خلافتهما فما أجابا الى ذلك ، ونغاه عمر من مقامه باليمن اربعين فرسخا . ومنها : نفيه أبا ذرّ إلى الربذة . وتزويجه مروان بن الحكم بنته وتسليمه خُمس غنائم افريقيّة له وقد بلغت مأتي الف دينار . ومنها : ايواؤه عبدالله بن سعد بن أبي سرح بعد أن أهدر النبي عليه السلام دمه . وتوليته عبدالله بن عامر البصرة حتى أحدث فيها ما أحدث . الى غير ذلك مما نقموا عليه . وكان امراء جنوده معاوية بن أبي سفيان عامل الشام ، وسعد بن أبي وقاص عامل الكوفة ، وبعده الوليد بن عقبة ، وعبدالله بن عامر عامل البصرة ، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح عامل مصر ، وكلهم خذلوه ورفضوه حتى أتى قدره عليه (1) .
  الفائق : عثمان أرسلت اليه أم سلمة يا بُني ما لي أرى رعيتك عنك مزوّرين وعن جنابك نافرين ، لا تُعفّ سبيلا كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لحبها ، ولا تقدح بزند كان أكباها ، توخّ حيث توخّى صاحباك ، فإنهما ثكما الأمر ثكما ولم يظلماه (2) .
  قال الزمخشري : ازورّ عنه اذا عدل وأعرض . والتعفية : الطمس . ولحبها : نفى

---------------------------
(1) الملل والنحل ج 1 ص 18 .
(2) الفائق ج 1 ص 549 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 277 _

  عنها كل لبس وكشف كل عماية . وأكباها : عطلها من القدح بها . ثكمتُ الطريق لزمته . ولم يظلماه : لم ينقصاه ولا زادا عليه .
  ويروى أيضا : ان سعدا وعمارا أرسلا إلى عثمان أن ائتنا فإنا نريد أن نذاكرك أشيا أحدثتها ، فأرسل اليهما : ميعادكم يوم كذا حتى أتشزن ثم اجتمعوا للميعاد ، فقالوا : ننقم عليك ضربك عمارا ، فقال : تناوله رسولي من غير امري ، فهذه يدي لعمار فليصطبر ، وذكروا بعد ذلك اشياء نقموها ، فأجابهم وانصرفوا راضين ، فأصابوا كتابا منه الى عامله أن خذ فلانا وفلانا وفلانا فضرّب أعناقهم ، فرجعوا فبدؤوا بعلي عليه السلام فجاؤوا به معهم فقالوا : هذا كتابك ؟ فقال عثمان : والله ما كتبت ولا أمرت ، قالوا : فمن تضنّ ؟ قال أظن كاتبي ، وأظن به يا فلان (1) .
  قال الزمخشري : التشزن هو الاستعداد . فهذه يدي لعمار : يريد الإنقياد والصبر : القصاص .
  تاريخ الطبري : فدخل عليّ بن أبي طالب على عثمان ، فقال : الناس ورائي وقد كلموني فيك والله ما أدري ما أقول لك وما أعرف شيئا تجهله ولا أدلك على امر لا تعرفه ، أنك لتعلم ما نعلم ما سبقناك الى شيء فنُخبرك عنه ... وان شر الناس عند الله امام جائر ضل وضُل به فأمات سنذة معلومة وأحيا بدعة متروكة ، وإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : يؤتى يوم القيامة بالامام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى في جهنم فيدور في جهنم كما تدور الرحى ثم يرتطم في غمرة جهنم ، وإني أحذّرك الله وأحذّرك سطوته ونقماته فإن عذابه شديد اليم ... قال علي ( عليه السلام ) : سأخبرك ان عمر بن الخطاب كان كل من ولّى فإنما يطأ على صماخة ان بلغه عنه حرف جلبه ثم بلغ به أقصى الغاية ، وأنت لا تفعل ضعفت ورفقت على أقربائك ، قال عثمان : هم أقرباؤك أيضا ! فقال عليّ : لعمرى أن رحمهم مني لقريبة ولكنّ الفضل في غيرهم . قال عثمان : هل تعلم أن عمر ولى معاوية خلافته كلها فقد وليته ! فقال علي : أنشدك الله هل تعلم أنّ

---------------------------
(1) الفائق ج 1 ص 656 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 278 _

 معاوية كان أخوف من عمر من يرفا غلام عمر منه ؟ قال : نعم . قال عليّ : فإن معاوية يقتطع الأمور دونك وأنت تعلمها فيقول للناس : هذا أمر عثمان فيبلغك ولا تُغير على معاوية (1) .
  أقول : يظهر من هذه الكلمات ن أمر عثمان قد شاع بين الناس ، وهم بين ناصح وشاتم ومبارز ، ولا يُرى من علي ( عليه السلام ) إلا أنه كان من الناصحين له والمدافعين عنه والناهين عن قتاله ، ومع هذا ترى جماعة من الشاتمين والمبارزين والمحركين ينسبون اليه القتل ويتّهمونه به ، وأكثر المخالفين في الجمل وصفين من هؤلاء الأفراد .
  ويروى الطبري : فقالت عائشة : يا ابن عباس أنشُدَك الله فإنك قد أعطيت لسانا إزعيلا أن تخذل عن هذا الرجل وأن تُشكك فيه الناس ، فقد بانت لهم بصائرهم وانهجت ورفعت لهم المنار وتحلّبوا من البلدان لأمر قدجم (2) .
  البدء والتاريخ : ان الناس نقموا عليه أشياء فمن ذلك كلفه بأقاربه كما قاله عمر ، فآوى الحكم بن أبي العاص طريد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكان سيّره الى بطن وج ولأنه كان يُفشي سرّ رسول الله ويُطلع الناس عليه . ومنها أنه أقطع الحارث بن الحكم مهرقته موضع شرقي المدينة ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما قدم الى المدينة ووصل الى ذلك الموضع ضرب برجله وقال : هذا مُصلانا ومُستمطرنا ومخرجنا لأضحانا وفطرنا فلا تنقضوها ولا تأخذوا عليها كِرى ، لعن الله من نقض من بعض سوقنا شيئا . ومنها انه أقطع مروان بن الحكم فدك قرية صدقة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأعطاه خُمس الغنائم من اقريقيّة . ومنها أنه أعطى عبدالله بن خالد بن أسيد أربعمائة الف درهم وأعطى الحكم بن أبي العاص مائة الف درهم . ومنها ان عبيدالله بن عمر قتل الهرمزان بأبيه عمر وقتل ابنين لأبي لؤلؤة فلم يُقدِه . ومنها أنه عزل عمال عمر وولى بني أمية وانتزع عمرو بن العاص عن مصر واستعمل عليها عبدالله بن سعد بن أبي سرح ، وانتزع سعد بن أبي وقاص

---------------------------
(1) تاريخ الطري ج 5 ص 33 .
(2) تاريخ الطبري ج 5 ص 140 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 279 _

 عن الكوفة واستعمل الفاسق الوليد وبن العقبة بن أبي معيط وهو أخوه لأمه ، فوقع في الخمر فشربها ، ويصلي الصلاة لغير وقتها ، فصلى بالناس يوما الفجر أربعا ، وهو ثَمِل !! فلما انصرف قال : أزيدكم فإني نشيط فشغب الناس وحصبوه ، فلما شكاه الناس عزله واستعمل عليهم شرا منه سعيد بن العاص ، فقدم رجل عظيم الكبر شديد العجب ، وهو أول من وضع العُشور على الجُسور والقناطر ، ومنها أن ابن أبي سرح قتل سبعمائة رجل بدم رجل واحد فأمر بعزله ولم يُنكر عليه ، ومنها أنه جعل الحروف كلها حرفا واحدا وأكره الناس على مصحفه ، ومنها أنه سيّر عام بن عبد قيس من البصرة الى الشام لتنزهه عن اعماله ، وسيّر اباذر الغفاري الى الربذة ، وذلك أن معاوية شكاه أنه يطعن عليه فدعاه واستعتبه ولم يُعتب فسيره الى الربذة وبها مات ، ومنها أنه تزوج نائلة بنت الفرافصة الكلبية فاعطاها مائة الف من بيت المال وأخذ سفطا فيه حلى فأعطاه بعض نسائه ، واستسلف من بيت المال خمسة آلاف درهم ، وكان اشترط عليه عند البيعة أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله وبسيرة الشيخين فسار بها ستّ سنين ثم تغيّر كما ذكر ... فتكلم الناس في ذلك وأظهروا الطعن ، فخطب عثمان وقال : هذا مال الله أعطيه من أشاء وأمنعه من أشاء فأرغم الله أنف من رغم أنفه !! فقام عمار بن ياسر فقال : أنا أول من رغم أنفه من ذلك ، فقال له عثمان : لقد اجترأت عليّ يا ابن سمية فوثب بنو امية على عمار فضربوه حتى غُشي عليه ، فقال : ما هذا بأول ما اوذيت في الله ، وضرب عبدالله بن مسعود في مخالفته قرائته (1) .
  أقول : يكفي واحد من هذه الأحداث في انصراف الناس عنه ومخالفتهم له ونقضهم بيعته ، فكيف بهذه الأعمال المختلفة والأحداث الكثيرة ، التي يتبرّأ منها كل مسلم حرّ .
  فاذا كان امير المسلمين يعمل بهذه الأعمال الجائرة فإلى أين ينتهي جريان

---------------------------
(1) البدء والتاريخ ج5 ص 199 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 280_

 أمور الملة وكيف تكون عواقب أمورهم ؟ ولا يبعد أن يقال : أن الحكومة الاموية والجنايات الواقعة في تلك الدولة ، نتيجة هذه الأحداث ! .
  فأول نتيجة أنتجت هذه الأحداث اختلاف الملة الاسلامية ونقضهم بيعة عثمان وقيامهم على خلافه .
  عقد الفريد : لما أنكر الناس على عثمان ما أنكروا من تأمير الأحداث من اهل بيته على الجُلة الأكابر من أصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قالوا لعبدالرحمن بن عوف : هذا عملك واختيارك لامة محمد ! قال : لم أظن هذا به ، ودخل على عثمان فقال له : إني إنما قدّمتك على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر وقد خالفتها ، فقال : عمر كان يقطع قرابته في الله وأنا أصل قرابتي في الله ! فقال له : لله عليّ أن لا أكلمك ابدا ، فمات عبدالرحمن وهو لا يكلم عثمان (1) .
  أقول : هذا أول من وافق خلافة عثمان وحكم بها ، وهو يقول : إنما قدمتك لتسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر .
  وقد سبق في فصل فتنة أمر الشورى ان عبدالرحمن قال له : عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده قال عثمان : نعم . فبايعه .
  فاتلزم عثمان وتعهد في الله أن يعمل بالكتاب والسنة وسيرة الخليفتين ، وأنت ترى هذه الأحداث المخالفة التي لا تطابق قرآنا ولا سنة .
  والعجب من قوله وأنا أصل قرابتي في الله ـ وهذا الكلام منه في غاية البعد ، وأنه نظير من يُنفق من مال مغصوب ويدّعي أنه من المنفقين المحسنين .
  عقد الفريد : ثم فك محمد الكتاب بمحضر منهم ، فاذا فيه : اذا جاءك محمد وفلان وفلان فاحتل لقتلهم وأبطل كتابهم وقِرّ على عملك حتى يأتيك رأيي ،

---------------------------
(1) عقد الفريد ج 4 ص 308 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 281_

 واحتبس من جاء يتظلم منك ليأتيك في ذلك رأيي ان شاء الله ز فلما قرؤوا الكتاب بخواتيم القوم الذين أرسلوا معه ودفعوا الكتاب إلى رجل منهم ، وقدموا المدينة فجمعوا عليا وطلحة والزبير وسعدا ومن كان من اصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ثم فكّوا الكتاب بمحضرمنهم وأخبروهم بقصة الغلام ، وأقرؤوهم الكتاب فلم يبق أحد في المدينة إلا حنق على عثمان ، وازداد من كان منهم غاضبا لابن مسعود وأبي ذر وعمار بن ياسر غضبا وحنقا ، وقام أصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلحقوا منازلهم ، ما منهم أحد إلا وهو مغتم بما قرؤوا في الكتاب وحاصر الناس عثمان ، واجلب عليه محمد بن أبي بكر بني تيم وغيرهم وأعانه طلحة بن عبيدالله على ذلك وكانت عائشة تُقرّضه كثيرا ، فلما رأى ذلك عليّ بعث الى طلحة والزبير وسعد وعمار ونفر من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كلهم بدريّ ، ثم دخل على عثمان ومعه الكتاب والغلام والبعير ... وسألوه أن يدفع اليهم مروان ، فأبى ، وكان مروان عنده في الدار ، فخرج اصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من عنده غضابا ، وشكوا في أمر عثمان ... الخ (1) .
  الطبقات : عن جابر ان المصريين لما أقبلوا من مصر يريدون عثمان ونزلوا بذي خُشب ، دعا عثمان محمد بن مسلمة فقال : إذهب اليهم فارددهم عني وأعطهم الرضى وأخبرهم إني فاعل بالامور التي طلبوا ونازع عن كذا بالامور التي تكلموا فيها ... فأتاهم محمد بن مسلمة فقال : ان اميرالمؤمنين يقول : كذا ويقول : كذا ، وأخبرهم بقوله فلم يزل بهم حتى رجعوا ، فلما كانوا بالبويب رأوا جملا عليه ميسم الصدقة فأخذوه فاذا غلام لعثمان فأخذوا متاعه ففتشوه فوجدوا فيه قصبة من رصاص فيها كتاب في جوف الادارة في الماء الى عبدالله بن سعد أن افعل بفلان كذا وبفلان كذا من القوم الذين شرعوا في عثمان ، فرجع القوم ثانية حتى نزلوا بذي خُشب ، فأرسل علثمان الى محمد بن مسلمة : اخرج فارددهم عنّي ، فقال : لا أفعل ، قال : فقدموا فحصروا عثمان (2) .

---------------------------
(1) عقد الفريد ج 4 ص 289 .
(2)الطبقات ج 3 ص 65 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 282_

  ويروى أيضا : عن سفيان ، قال أنكر عثمان أن يكون كتب الكتاب أو أرسل ذلك الرسول ، وقال فعل ذلك دوني .
  تاريخ الطبري : ثم رجع الوفد ـ المصريون ـ راضين ، فبيناهم في الطريق اذا هم براكب يتعرض لهم ثم يفارقهم ثم يرجع اليهم ثم يفارقهم ويشيئهم ، قال : قالوا له : مالك ان لك لأمر ما شأنك ؟ قال : فقال : أنا رسول أميرالمؤمنين الى عامله بمصر ففتّشوه فاذاهم بالكتاب على لسان عثمان عليه خاتمه الى عامله أن يصلّبهم أو يقتّلهم أو يَقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ! قال : فأقبلوا حتى قدموا المدينة ، قال : فأتوا عليا فقالوا : ألم تر الى عدو الله أنه كتب فينا بكذا وكذا ، وأن الله قد أحل دمه ، قم معنا اليه ، قال : والله لا أقوم معكم (1) .
  ويروى : ثم أنن عليا جاء عثمان بعد انصراف المصريين فقال له : تكلم كلاما يسمعه الناس ويشهدون عليه ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والانابة ، فإن البلاد قد تمخّضت عليك فلا آمن ركبا آخرين يقدمون من الكوفة فتقول : يا عليّ اركب اليهم ! ولا أقدر أن أركب اليهم ولا أسمع عذرا ، ويقدم ركب آخرون من البصرة فتقول : يا عليّ اركب اليهم فإن لم أفعل رأيتني قد قطعت رحمك واستخففت بحقك ! قال : فخرج عثمان فخطب الخطبة التي نزع فيها وأعطى الناس من نفسه التوبة ، فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس فوالله ما عاب من عاب منكم شيئا أجهله وما جئت شيئا إلا وأنا أعرفه ، ولكني منّتني نفسي وكذبتني وضل عني رشدي ، ولقد سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : من زلّ فليتب ومن أخطأ فليتب ولا يتمادى في الهلكة ، ان من تمادى في الجور كان أبعد من الطريق ، فأنا أول من اتّعطظ استغفر الله مما فعلت وأتوب اليه ، فمثلي نزع وتاب ، فاذا نزلت فليأتني اشرافكم وليُروني رأيهم ، فوالله لئن ردني الحق عبدال لأستننّ لسنة العبد ... فلما نزل عثمان وجد في منزله مروان وسعيدا ونفرا من بني أمية ولم يكونوا شهدو الخطبة ،

---------------------------
(1) تاريخ الطبري ج 5 ص 107 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 283_

 فلما جلس قال مروان : يا أميرالمؤمنين أتكلم أم أصمت ؟ فقالت نائلة ابنة الفرافصة امرأة عثمان الكلبية : لا بل أصمت ! فإنهم والله قاتلوه ومؤتّموه، انه قد قال مقالة لا ينبغي له أن ينزع عنها ، فأقبل عليها مروان فقال : ما أنت وذاك فوالله لقد مات ابوك وما يحسن يتوضأ ، فقالت له : مهلا يا مروان عن ذكر الآباء تخبر عن أبي وهو غائب تكذب عليه وان اباك لا يستطيع ان يدفع عنه ، أما والله لولا أنه عمه وأنه يناله غمّه أخبرتك عنه ما لن أكذب عليه ، قال : فأعرض عنها مروان .
  ثم قال : يا أميرالمؤمنين أتكلم أم أصمت ؟ قال : بل تكلم ! فقال مروان : بأبي أنت وأمي والله لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع منيع فكنت أول من رضي بها وأعان عليها ولكنك قلت ما قلت ... والله لإقامة على خطيئة تستغفر الله منها أجمل من توبة تخوف عليها وأنك إن شئت تقرّبت بالتوبة ولم تقرر بالخطيئة ، وقد اجتمع إليك على الباب مثل الجبال من الناس ، فقال عثمان : فاخرج اليهم فكلمهم فإني استحيي أن أكلمهم ، قال : فخرج مروان الى الباب والناس يركب بعضهم بعضا ، فقال : ما شأنكم قد اجتمعتم كأنكم قد جئتم لنهب شاهت الوجوه كل انسان آخذ بأذن صاحبه إلا من أريد ، جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا اخرجوا عنا أما والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم منا أمر لا يسركم ولا تُحمدوا غِبّ رأيكم ، ارجعوا الى منازلكم فإنا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا ، قال : فرجع الناس وخرج بعضهم حتى أتى عليا فأخبره الخبر ، فجاء علي عليه السلام مغضبا حتى دخل على عثمان فقال : أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحرّفك عن دينك وعن عقلك مثل جمل الظعينة يُقاد حيث يُسار به ، والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه ، وأيم الله إني لأراه سيوردك ثم لا يُصدرك ، وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك ، أذهبت شرفك وغُلبت على امرك ! فلما خرج عليّ دخلت عليه نائلة ابنة الفرافصة امرأته قالت : أتكلم أو أسكت ؟ فقال : تكلمي ، فقالت : قد سمعت قول عليّ لك وأنه ليس يعاودك ، وقد أطعت مروان يقودك حيث شاء ، قال :

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 284_

 فما أصنع ؟ قالت : تتقي الله وحده لا شريك له وتتبع سنّة صاحبيك من قبلك ، فإنك متى أطعت مروان قتلك ، ومروان ليس له عند الناس قدر ولا هيبة ولا محبة ، وإنما تركت الناس لمكان مروان ، فأرسِل إلى عليّ فاستصلحه فإن له قرابة منك وهو لا يعصى ، قال : فأرسل عثمان الى عليّ فأبى أن يأتيه ، وقال : قد أعلمته إني لست بعائد ، قال : فبلغ مروان مقالة نائلة فيه ، قال : فجاء إلى عثمان فجلس بين يديه فقال : أتكلم أو أسكت ؟ فقال : تكلم ، فقال : إن بنت الفرافصة ، فقال عثمان : لا تذكرنّها بحرف فأسوا لك وجهك فهي والله أنصح لي منك ، قال : فكفّ مروان (1) .
  ويروى : سمعت عبدالرحمن بن الأسود يذكر مروان بن الحكم قال : قبّح الله مروان ، خرج عثمان إلى الناس فأعطاهم الرضا وبكى على المنبر وبكى الناس حتى نظرت الى لحية عثمان مخضلّة من الدموع وهو يقول : اللهم إني أتوب إليك ... ودخل بيته ودخل عليه مروان فلم يزل يفتله في الذروة والغارب حتى فتله عن رأيه وأزاله عما كان يريد ، فلقد مكث عثمان ثلاثة أيام ما خرج استحياءا من الناس ، وخرج مروان الى الناس فقال : شاهت الوجوه إلا من أريد ... قال : فأقبل عليّ عليٌّ فقال : أحضرت خطبة عثمان ؟ قلت : نعم ، قال : أفحضرت مقالة مروان للناس ؟ قلت : نعم ، قال عليّ : عياذ الله يا للمسلمين إني ان قعدت في بيتي قال لي : تركتني وقرابتي وحقي ، وإني ان تكلمت فجاء ما يريد يلعب به مروان فصار سيقة له يسوقه حيث شاء بعد كبر السن وصحبة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (2) .
  أقول : في هذه الكلمات المنقولة من الطبري موارد للنظر :
  1 ـ اذا هم براكب ، فاذاهم بالكتاب : هذا الراكب ، وهذا الكتاب : أما أن كانا بأمر الخليفة ، أو بدون اطلاع منه ، والثاني أشد محذورا وأكثر اشكالا ، فكيف يليق بالإمارة من كان اختياره في أيدي آخرين ، يأمرون وينهون

---------------------------
(1) تاريخ الطبري ج 5 ص 111 .
(2) تاريخ الطبري ج 5 ص 112 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 285_

 ويصلبون ويقتلون ويكتبون ويفعلون ما يشاؤون .
  2 ـ ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والانابة ، أستغفر الله مما فعلت وأتوب اليه : قد أمره علي ( عليه السلام ) بالانابة والاستغفار من أعماله وهو أظهر على المنبر التوبة والاستغفار ، فيعترف بمعاصيه ويُثبت أنه كان مذنبا خاطئا .
  3 ـ فلا آمن ركبا آخرين يَقدمون من الكوفة ، ركب آخرون من البصرة : يظهر أن المسلمين الساكنين في مصر والكوفة والبصرة وحواليها وهي من أعظم البلاد الاسلامية يومئذ كانوا غير راضين عن الحكومة وأعمالها وعمّالها .
  4 ـ والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه ، وقد أطعت مروان يقودك حيث شاء ، قبّح الله مروان ، يلعب به مروان : هذه الجملات دالة على غاية ضعف مقام مروان عند الناس ، ومع ذلك فله تأثير عميق في أفكار عثمان وأعماله ، يلعب به ويسوقه حيث يشاء بعد كبر السن وصحبة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  5 ـ يستكشف من هذه الجملات المنقولة أن عثمان غير مأمون ولا معصوم من الخطأ والزلل والذنب والعصيان ، بل هو معترف بها حيث يقول : بل منّتني نفسي وكذبتني وضلّ عني رشدي فأنا أول من اتّعظ ، ومع ذلك فهو مغلوب على أمره من مروان وأقرانه ، يلعب به مروان وأمثاله من بني أمية ، فكيف يصلح من شأنه كذلك أن يكون خليفة لله ولرسوله في دينه ، وكيف يجب بل كيف يجوز للمسلمين أن يتبغوه ويسلكو طريقه .
  الطبقات : فلم يزل مروان مع ابن عمه عثمان ، وكان كاتبا له وأمر له عثمان بأموال وكان يتأوّل في ذلك صلة قرابته ، وكان الناس ينقمون على عثمان تقريبه مروان وطاعته له ، ويرون أن كثيرا مما ينسب الى عثمان لم يأمر به وان ذلك عن رأي مروان دون عثمان (1) .
 البدء والتاريخ : ولما أعطى عثمان القوم ما أرادوا ، قال مروان بن الحكم لحمران بن أبان كاتب عثمان فكان خاتم عثمان مع مروان بن الحكم : ان هذا

---------------------------
(1) الطبقات ج 5 ص 36 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 286_

 الشيخ قد وهن وخرف ، وقم فاكتب الى ابن أبي سرح أن يضرب أعناق من ألبّ على عثمان ، ففعلا وبعث الكتاب مع غلام لعثمان يقال له مدس على ناقة من نوقه ، فمر بالقوم (1) .
 اقول : يستفاد من الروايتين أمور :
  1 ـ أن مروان كان كاتبه ، وكان خاتمه عنده .
  2 ـ أمر له بأموال وكان يتأول في ذلك صلة قرابته .
  3 ـ كان الناس ينقمون على عثمان تقريبه مروان وطاعته له .
  4 ـ كان مروان يقول في غيابه أنه قد وهن وخرف .
  5 ـ كان لمروان اختيار تام في التصرف في الأمو الحكم في المملكة والنصب والعزل وغيرها .

---------------------------
(1) البدء والتاريخ ج 5 ص 204 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 287_

فتنة قتل عثمان
  الفائق : عليّ رضي الله تعالى عنه ـ ان قوما أتوه فاستأمروه في قتل عثمان ، فنهاهم وقال : ان تفعلوا فبيضا فلتفرخنّه .
  قال الزمخشري : اراد أن تقتلوه تُهيّجوا فتنة يتولد منها شر كثير . كما قال بعضهم :
أرى فتنة هاجت وباضت وفرّخت ولو تُركت طـارت اليك فراخهــا
  ويروى أيضا : ومنه حديث عليّ رضي الله تعالى عنه . لوددت ان بني أمية رضوا ونفّلناهم خمسين رجلا من بني هاشم يحلفون ما قتلنا عثمان ولا نعلم له قاتلا (2) .
  قال الزمخشري : نفّلته : أي حلفته . يريد نفّلنا لهم .
  تاريخ الطبري : كان أول من اجترأ على عثمان بالمنطق السيّء جبلة بن عمرو الساعدي مر به عثمان وهو جالس في نديّ قومه ، وفي يد جبلة بن عمرو جامعة ، فلما مر عثمان سلم ، فرد القوم ، فقال جبلة : لم تردون على رجل فعل كذا وكذا ، قال : ثم أقبل على عثمان فقال : والله لأطرحن هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه ! قال عثمان : أيّ بطانة فوالله إني لأتخير الناس ، فقال : مروان تخيّرته ومعاوية تخيّرته وعبدالله بن عامر تخيرته ، وعبدالله بن سعد تخيرته ، منهم من نزل القرآن بذمّه وأباح رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دمه ، قال : فانصرف عثمان فما زال الناس مجترئين عليه الى هذ اليوم (3) .

---------------------------
(1) الفائق ج 2 ص 269 .
(2) نفس المصدر ج 3 ص 116 .
(3) تاريخ الطبري ج 5 ص 114 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 288_

  ويروى : لما رأى الناس ما صنع عثمان كتب من بالمدينة من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الى من بالآفاق منهم ، وكانوا قد تفرّقوا في الثغور ، إنكم خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عز وجل تطلبون دين محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فإن دين محمد قد أُفسد من خلفكم وتُرك ، فهلمّوا فأقيموا دين محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ! فأقبلوا من كل افق حتى قتلوه (1) .
  أقول : الشاهد يرى ما لا يراه الغائب ، وهؤلاء أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المقيمون بالمدينة يكتبون الى من بالآفاق فهلموا فأقيموا دين محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فإنه قد أقسد وترك ، وكفى في هذه القضية نفوذ مروان بن الحكم وسلطانه على عثمان ، وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيه : انه الملعون ابن الملعون ، وقال أيضا : ويل لأمتي من هذا وولد هذا .
  ويروى أيضا : إنما رد أهل مصر الى عثمان بعد انصرافهم عنه أنه أدركهم غلام لعثمان على جمل له بصحيفة الى أمير مصر أن يقتل بعضهم وأن يصلّب بعضهم ، فلما أتوا عثمان قالوا : هذا غلامك ؟ قال : غلامي انطلق بغير علمي ، قالوا : جملك ؟ قال : أخذه من الدار بغير أمري ، قالوا : خاتمك ؟ قال : نقش عليه ... فلما رأى عثمان ما قد نزل وما قد انبعث عليه من الناس ، كتب الى معاوية بن أبي سفيان وهو بالشام ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، أما بعد ، فإن أهل المدينة قد كفروا وأخلفوا الطاعة ونكثوا البيعة فابعث اليّ من قبلك من مُقاتلة أهل الشام على كل صعب وذلول ، فلما جاء معاوية الكتاب : تربص به وكره اظهار مخالفة أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد علم اجتماعهم ، فلما أبطأ أمره على عثمان : كتب الى يزيد بن أسد بن كرز والي أهل الشام يستنفرهم ويعظم حقه عليهم ويذكر الخلفاء وما أمر الله عزوجل به من طاعتهم ومناصحتهم ووعدهم أن يُنجدهم جند أو بطانة دون الناس وذكّرهم بلاءه عندهم وصنيعه اليهم فإن كان عندكم غياث فالعجل العجل فإن القوم مُعاجلي .

---------------------------
(1) نفس المصدر السابق ص 115 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 289_

  أقول : في هذه العبارات المنقولة موارد للنظر :
  1 ـ من أعجب الامور نهي علي ( عليه السلام ) ومنعه عن قتل عثمان ، بل وبعثه الحسنين لنصرته وحفظه ، ورده لوفد المصريين ، ومع هذا فقد أظهر وأشاع معاوية في الخارج أن عليا هو قاتل عثمان ! وبهذا العنوان تخلف عن بيعته وادّعى أنه طالب لدم عثمان وقد رأيت الطبري يروي أن معاوية تربص به وكره اظهار مخالفة الأصحاب ! وأبطأ في بعث مقاتلي أهل الشام لنصرة عثمان ، حتى كتب عثمان الى يزيد بن أسد والي الشام يستنصره .
 2 ـ ومن عجايب أمر عثمان أنّ غلامه على جمله بصحيفة مختومة بخاتمه ! ويبعث الى مصر أن يُقتل بعض ، ويُصلّب بعض آخر من المخالفين ! وهو يدّعي أن غلامه سار وانطلق بغير علمه ، وأخذ جمله من داره بغير أمره ، ونُقش خاتمه بغير اطلاعه . ومع هذا يكتب الى معاوية أن أهل المدينة قد كفروا وأخلفوا الطاعة .
 3 ـ فهل حكومة عثمان كانت أصلا من اصول الديانة الاسلامية حتى يكون المتخلف كافرا ! ومستوجبا للقتل والصلب !؟ وهل كان عثمان منصوبا من جانب الله ورسوله ، حتى يجب اتباعه وطاعته !؟ وهل كانت أعماله وأوامره بالهام الله وبنظر الحق ! فكيف يتخير من نزل القرآن بذمة وأباح رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دمه !؟.
 ويروي الطبري : ان المصريين بعد أن لم يُغير عثمان شيئا مما كرهوا ، ولم يعزل عاملا ولم يعمل بما أعطاهم عهد الله وميثاقه عليه ، قالوا : فإنا لاُنعجّل عليك وان كنا قد اتّهمناك ، أعزل عنا عُمالك الفسّاق واستعمل علينا من لا يتهم على دمائنا وأموالنا وأردد علينا مظالمنا ! قال عثمان : ما أراني اذا في شيء ان كنت أستعمل من هويتم وأعزل من كرهتم ، الأمر اذا أمركم (1) .
 أقول : فليقض في هذا الجواب الاستبدادي والكلام الموهون كل قاريء

---------------------------
(1) تاريخ الطبري ج 5 ص 117 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 290_

 كريم ، ويا ليت ! ان لو كان هذا الاستبداد والنظر الموهون منبعثا من ارادة الخليفة نفسه ، لا من تدبير مروان وغيره .
 كما يروى الطبري : فقال مروان : يا اميرالمؤمنين مقاربتُهم حتى تقوى أمثل من مكاثرتهم على القرب ! فأعطهم ما سألوك وطاولهم ما طاولوك فإن هم بغوا عليك فلا عهد لهم (1) .
  ولنعم ما قال بعض المصريين لعثمان كما في الطبري قالوا : فالكتاب كتاب كاتبك ؟ قال : أجل ولكنه كتبه بغير أمري ، قالوا فإن الرسول الذي وجدنا معه الكتاب غلام ؟ قال : أجل ولكنه خرج بغير أذني ، قالوا فالجمل جملك ؟ قال : أجل ولكنه أخذ بغير علمي ، قالوا : ما أنت إلا صادق أو كاذب ، فإن كنت كاذبا فقد استحققت الخلع لما أمرت به من سفك دمائنا بغير حقها ، وإن كنت صادقا فقد استحققت أن تُخلع لضعفك وغفلتك وخبث بطانتك لأنه لا ينبغي لنا أن نترك على رقابنا من يُقتطع مثل الامر دونه لضعفه وغفلته ، وقالوا له : أنك ضربت رجالا من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وغيرهم حين يعظونك ويأمرونك بمراجعة الحق عند ما يستنكرون من أعمالك ، فأقد من نفسك من ضربته وأنت ظالم له ، فقال : الإمام يُخطيء ويُصيب فلا أقيد من نفسي لأني لو أقدت كل من أصبتُه بخطأ أتى على نفسي ، قالوا : أنك قد أحدثت أحداثا عظاما فاستحققت بها الخلع فاذا كلّمت فيها أعطيت التوبة ثم عُدت اليها والى مثلها ، ثم قدمنا عليك فاعطيتنا التوبة والرجوع الى الحق ، ولا منافيك محمد بن مسلمة وضمن لنا ما حدث من أمر ، فأخفرته فتبرأ منك وقال : لا أدخل في أمره ، فرجعنا أول مرة لنقطع حجتك ونبلغ أقصى الأعذار اليك نستظهر بالله عزوجل عليك ، فلحقنا كتاب منك الى عاملك علينا تأمره فينا بالقتل والقطع والصلب ، وزعمت أنه كُتب بغير علمك وهو مع غلامك وعلى جملك وبخطّ كاتبك وعليه خاتمك ، فقد وقعت عليك بذلك التهمة القبيحة مع ما بلونا منك

---------------------------
(1) تاريخ الطبري ج 5 ص 116 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 291_

 قبل ذلك من الجور في الحكم والأثرة في القسم والعقوبة للأمر بالتبسط من الناس والاظهار للتوبة ... فقال عثمان :... أما قولك تخلع نفسك : فلا أنزع قميصا قمصنيه الله عزوجل وأكرمني به وخصّني به على غيري ولكني أتوب وأنزع ولا أعود بشيء عابه المسلمون فأني والله الفقير الى الله ... قالوا : إن هذا لو كان أول حدث أحدثته ثم تبت منه ولم تُقم عليه لكان علينا أن نقبل منك وأن ننصرف عنك (1) .
  أقول : وفي هذه المكالمة دقائق تاريخية للمعتبر .
  1 ـ الامام يُخطيء ويصيب : عقيدتنا ان الامام اذا كان منصوبا من الله ورسوله فهو خليفة الله وخليفة رسوله ولا يُخطيء ، فإن قول الامام وفعله حجتان للناس ، وللناس أن يُطيعوا الامام ويتبعوه ، واذا جاز له الخطأ والعمل بخلاف ما جاء به الرسول فكيف يكون حجة بين الله وبين الناس !؟.
  2 ـ فلا أقيد من نفسي : فاذا كان عثمان مُخطأ فهو كأحد من الناس ، مضافا الى أن احكام الديات والقصاص كسائر الاحكام الدينية غير مخصوصة بجماعة دون آخرين ، حتى أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال في آخر ايامه : من كان له عليّ حق أو قصاص فليأخذه .
  3 ـ فلا أنزع قميصا قمّصنيه الله : هذه دعوى يدّعيها كل من له مقام أو عنوان دنيوي ، فهل يصح هذا القول ممن يُنتخب من جانب الرعية لمقام من انواع الرياسات والحكومات ؟ أو يُنتخب من جانب هيئة الوكلاء أو الوزراء ؟ فهل كان حيازة عثمان لهذا المقام من طريق آخر سماوّي ؟
  4 ـ ولكني أتوب وأنزع ولا أعود : هذا ينافي ما ادعاه من أن مقامه قميص قمّصه الله ، فكيف يجوز التوبة من آثار ذلك القميص والأعمال اللاحقة به والمنتزعة منه !؟.

---------------------------
(1) نفس المصدر السابق ص 120 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 292_

ما قيل في عثمان
  مسند أحمد : لقي عبدالرحمن بن عوف الوليد بن عقبة ، فقال له الوليد : ما لي أراك قد جفوت اميرالمؤمنين عثمان ؟ فقال له عبدالرحمن : أبلغه أني لم أفرّ يوم أحد ولم أتخلف يوم بدر ولم أترك سنة عمر ! قال : فخبر ذلك عثمان قال ، فقال : أما قوله اني لم أفر يوم أحد فكيف يُعيّرني بذنب وقد عفا الله عنه فقال ( ان الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان انما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا وقد عفا الله عنهم ) . وأما قوله إني تخلّفت يوم بدر فإني كنت أمرض رقيّة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حين ماتت وقد ضرب لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بسهمي ، ومن ضرب له رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بسهمه فقد شهد . وأما قوله إني لم أترك سنة عمر ، فإني لا أطليقها ولا هو . فحدِّثه (1) .
  الاستيعاب : عبدالرحمن بن حنبل اخو كلدة وهو القائل في عثمان لما أعطى مروان خمسمائة الف من خُمس افريقية .

وأحلف   بالله   جهد   iiاليمين      ولكن     جُعلت    لنا    iiفتنة
دعوت      الطريد     iiفأدنيته      وولّيت    قرباك   أمر   العباد
واعطيت مروان خمس الغنيمة      ومالا    أتاك   به   iiالأشعري
ما   ترك   الله   امرا   iiسُدى      لكي   نبتلي   بك   أو   iiتُبتلى
خلافا   لما   سنة   المصطفى      خلافا   لسنة  من  قد  iiمضى
آثرته      وحميت     iiالحمى      من  الفييء  أعطيته  من iiدنى
(2) .
 عقد الفريد : وفي خطبة لعبد الملك بن مروان اني والله ما أنا بالخليفة

---------------------------
(1) مسند أحمد ج 1 ص 68 .
(2) الاستيعاب ج 2 ص 828 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 293_

  المستضعف يعني عثمان ، ولا بالخليفة المُداهن يعني معاوية ، ولا بالخليفة المأفون يعني يزيد (1) .
  ويروى : ومما نقمالناس على عثمان أنه آوى طريد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الحكم بن العاص ولم يؤوه ابوبكر ولا عمر وأعطاه مائة ألف ، وسيّر أباذر الى الربذة وسيّر عامر بنعبدقيس من البصرة الى الشام ، وطلب منه عبيدالله بن خالد بن اسيد صلة فأعطاه اربعمائة ألف ، وتصدّق رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بمهزور موضع سوق المدينة على المسلمين فأقطعها الحارث بن الحكم أخا مروان ، وأقطع فدك مروان وهي صدقة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وافتتح افريقية وأخذ خُمسه فوهبه لمروان ، فقال عبدالرحمن بن حنبل الجمحي :
 فإني الأمينيـن قـد بيّنــا فما أخذا درهمــا غيلــة وأعطيت مروان خُمس العبا منــارا لحـق عليه الهدى وما تركــا درهما في هوى د هيهات شأوك مما شأى (2) .
  ويروى : واستعمل عبدالملك بن مروان نافع بن علقمة على مكة فخطب ذات يوم وأبان بن عثمان قاعد عن أصل المنبر ، فنال من طلحة والزبير ، فلما نزل قال لأبان أرضيتُك من المدهنين في اميرالمؤمنين ؟ قال : لا ، ولكنك سُؤتني ، حسبي أن يكونا برئين من أمره . وعلى هذا المعنى قال اسحاق بن عيسى : أعيد عليا بالله أن يكون قتل عثمان ، وأعيذ عثمان أن يكون قتله عليّ (3) .
  عقد الفريد : فجاء أهل مصر يشكون من ابن أبي سرح ، فكتب إليه عثمان كتابا يهدّده ، فأبى ابن أبي سرح أن يقبل ، وضرب رجلا ممن أتى عثمان فقتله ، فخرج أهل مصر في سبعمائة رجل الى المدينة فنزلوا المسجد ، وشكوا الى أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مواقيت الصلوة ما صنع ابن أبي سرح ، فقام طلحة بن عبيدالله فكلّم عثمان بكلام شديد . وأرسلت اليه عائشة : قد تقدّم اليك

---------------------------
(1) عقد الفريد ج 4 ص 90 .
(2) عقد الفريد ج 4 ص 283 .
(3) نفس المصدر ص 304 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 294_

 أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسألوك عزل هذا الرجل فأبيت أن تعزله ، فهذا قد قتل منهم رجلا فأنصفهم من عاملك ، ودخل عليه عليّ وكان متكلم القوم فقال : إنما سألوك رجلا مكان رجل ، وقد ادّعوا قبله دما فاعزله عنهم واقض بينهم (1) .
 نهج البلاغة ( الخطبة الشقشقية ) : فيالله وللشورى متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم حتى صرتُ أقرن الى هذه النظائر ! لكني أسففت اذ أسفّوا وطرت اذا طاروا ، فصغا رجل منهم لضغنه ومال الآخر لصهره . مع هن وهن ، الى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الابل نبتة الربيع ، الى أن انتكث فتلُه ، وأجهز عليه عمله ، وكبَت به بطنته .
  سنن الترمذي : ان رجلا من أهل مصر حج البيت فرأى قوما جلوسا فقال : من هؤلاء ؟ قالوا : قريش . قال : فمن هذا الشيخ ؟ قالوا ابن عمر . فأتاه فقال : إني سائلك عن شيء فحدثني ! أنشدك بحرمة هذا البيت أتعلم ان عثمان فرّ يوم أحد ؟ قال : نعم ، قال : أتعلم أنه تغيّب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها ؟ قال : نعم ، قال : أتعلم أنه تغيّب يوم بدر فلم يشهده ؟ قال : نعم ، فقال : الله أكبر . فقال له ابن عمر : تعال حتى أبين لك ما سألت عنه ! أما فراره يوم أحد : فأشهد الله قد عفا عنه وغفر له ، وأما تغيّبه يوم بدر : فإنه كانت عنده أو تحته ابنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لك اجر رجل شهد بدرا وسهمه . أما تغيبه عن بيعة الرضوان : فلو كان أحد أعزّ ببطن مكة من عثمان لبعثه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ... الخ (2) .
  وفي حاشية الكتبا : قوله قد عفا عنه يعني بقوله تعالى : ( ان الذين تولّوا منكم يوم التقى الجمعان انما استزلهم الشيطان ببعضما كسبوا ولقد عفا الله عنهم ان الله غفور حليم ) .
  خصائص النسائي عن عرار : قال : سألت عبدالله بن عمر قلت : ألا تحدثني

---------------------------
(1) نفس المصدر السابق ص 288 .
(2) سنن الترمذي ص 532 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 295_

 عن عليّ وعثمان ؟ قال : أما علي فهذا بيته من بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولا أحدثك عنه بغيره ، وأما عثمان فأنه أذنب يوم أحد ذنبا عظيما عفى الله عنه ، وأذنب فيكم ذنبا صغيرا ففتلتموه (1) .
  ويروى روايات قريبة منها .

---------------------------
(1) خصائص النسائي ص 20 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 296_

جريان إمرة أميرالمؤمنين
  يراد إمارته وخلافته الظاهرية الحقة ، وأما الإمارة الحقيقية والإمامة والخلافة الالهية المنصوصة فهي ثابتة له ( عليه السلام ) من أول يوم ارتحل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سواء أقبل الناس اليه أم أدبروا .
  المحاسن للبيهقي : عن عبدالله بن معاوية : كان اياس بن معاوية لي صديقا فدخلنا على عبدالرحمن بن القاسم بن أبي بكر الصديق ، وعنده جماعة من قريش يتذاكرون السلف ، ففضّل قوم ابابكر وقوم عمر وآخرون عليا ، فقال أياس : ان عليا رحمه الله كان يرى أنه أحق الناس بالأمر ! فلما بايع الناس ابابكر ورأى أنهم قد اجتمعوا عليه وأن ذلك قد أصلح العامة اشترى صلاح العامة بنقض رأي الخاصة ، يعني بني هاشم . ثم وُلّي عمر ، ففعل مثل ذلك به وبعثمان ، فلما قتل عثمان واختلف الناس وفسدت الخاصة والعامة : وجد أعوانا فقام بالحق ودعا اليه (1) .
 نهج البلاغة : فنظرتُ فاذا ليس لي معين إلا أهل بيتي ، فضننت بهم عن الموت ، واغضيت عن القذى ، وشربت على الشجى ، وصبرت على أخذ الكظم وعلى أمرّ من طعم العلقم (2) .
  ويقول في الخطبة الشقشقية : فما راعني إلا والناس كعُرف الضبع اليّ ، ينثالون عليّ من كل جانب ، حتى لقد وُطيء الحسنان ، وشُقّ عِطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم ، فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ، ومرقت أخلى ، وقسط آخرون .

---------------------------
(1) المحاسن للبيهقي ص 48 .
(2) نهج البلاغة خطبة 25 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 297_

 وفي تاريخ الطبري : فخرج قيس بن سعد في سبعة نفر من أصحابه حتى دخل مصر ، فصعد المنبر فجلس عليه وامر بكتاب معه من أميرالمؤمنين فقريء على أهل مصر ـ بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبدالله عليّ اميرالمؤمنين الى من بلغه ... فلما قضى من ذلك ما عليه قبضه الله عزوجل صلوات الله عليه ورحمته وبركاته ، ثم ان المسلمين استخلفوا به اميرين صالحين عملا بالكتاب والسنة وأحسنا السيرة ولم يعدوا السنة ثم توفاهما الله عزوجل رضي الله عنهما ، ثم ولى بعدهما وال فأحدث احداثا فوجدت الامة عليه مقالا فقالوا ثم نقموا عليه فغيّروا ثم جاؤوني فبايعوني ، فأستهدي الله عزوجل بالهدى وأستعينه على التقوى ، ألا وان لكم علينا العمل بكتاب الله وسنة رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والقيام عليكم بحقه والتنفيذ لسنته (1) .
  أقول : اشارة الى الحكومة الظاهرية والخلافة الدنيوية التي لا تتحصّل إلا بانتخاب الناس وانقيادهم واطاعتهم ، ثم أشار الى أن الحاكمين الأولين كانا مقيّدين بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بخلاف الثالث فإنه أحدث أحداثا ، ثم صرّح بأن اللازم للامام والرعية العمل بالكتاب وسنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، خلافا لما قال ابوعبيدة في الشورى بأن اللازم العمل بهما وبسنة الخلفاء ، فإن الخليفة اذا لم يكن منتخبا من جانب الله تعالى لا يجب العمل بسنته .   عقد الفريد : وفي خطبته بالكوفة : ثم ولي عثمان فنال منكم ونِلتم منه ،حتى اذا كان من أمره ما كان ، أتيتموه فقتلتموه ، ثم أتيتموني فقلتم لي بايعنا ، فقلت لكم : لا أفعل ، وقبضت يدي فبسطتموها ونازعتم كفّي فجذبتموها وقلتم لا نرضى إلا بك ، ولا نجتمع إلا عليك ، وتداككتم عليّ تداكّ الابل الهيم على حياضها يوم وردها ، حتى ظننت أنكم قاتلي وان بعضكم قاتل بعض ، فبايعتموني وبايعني طلحة والزبير ، ثم ما لبثا ان استأذناني للعمرة ، فسارا الى البصرة (2) .

---------------------------
(1) تاريخ الطبري ج 5 ص 227 .
(2) عقد الفريد ج 4 ص 72 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 298_

  الامامة والسياسة : ثم قام الزبير فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إن الله قد رضي لكم الشورى فأذهب بها الهوى ، وقد تشاورنا فرضينا عليا فبايعوه ! وأما قتل عثمان فإنا نقول فيه : ان امره الى الله وقد أحدث أحداثا والله وليه فيما كان . فقام الناس فأتوا عليا في داره فقالوا : نبايعك فمُدّ يدك ، لابد من أمير فأنت أحقّ بها . فقال : ليس ذلك اليكم إنما هو لأهل الشورى وأهل بدر فمن رضي به أهل الشورى وأهل بدر فهو الخليفة ، فنجتمع وننظر في هذا الأمر ، فأبى أن يبايعهم ، فانصرفوا عنه وكلّم بعضهم بعضا ، فقالوا : يمضي قتل عثمان في الآفاق والبلاد فيسمعون بقتله ولا يسمعون أنه بويع لأحد بعده ، فيثور كل رجل منهم في ناحية فلا نأمن أن يكون في ذلك إفساد ، فارجعوا الى عليّ فلا تتركوه حتى يبايع (1) .
  أقول : فظهر أن مبايعة أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) كان أقوى من مبايعة ابي بكر وعمر وعثمان ، فإنها وقعت من اتفاق اهل المدينة ومن مشاورة أهل الشورى وأهل بدر ومن دون أن يظهر خلاف منهم ، فكيف يجوز القيام عليه ؟.

---------------------------
(1) الامامة والسياسة ج 1 ص 41 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 299_

القعود والخروج والقتال
  الشريعة : عن أبي هريرة ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : تكون فتنة . القاعد فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي ، من يستشرف لها تستشرف له ، ومن وجد منها ملجأ أو معاذا فَلَيُعذبه (1) .
  أقول : القعود لازم في الأمور المشتبهة وموارد الفتن ، لافي مقام يجب الطاعة والتسليم ، كالطاعة لمن وليى المسلمين ، فالتحذير في الحديث يتوجه الى الماشين والساعين الى قتال اميرالمؤمنين علي ( عليه السلام ) في حرب الجمل وصفين والخوارج ، الذين نقضوا عهدهم ونكثوا بيعتهم وخرجوا عليه .
  وقد صرّح في الحديث بأن هذا الحكم مخصوص بمورد الفتنة وفي وجاهها ، أي في مورد يشتبه التكليف وأن تكون الوظيفة الدينية من جهة القعود أو القتال مجهولة .
  فالتكليف الدينيّ الالهي للخليفة الحق هو القيام والقتال في مقابل المخالفين ودفع شرهم ورفع فتنتهم ، ويجب للمسلمين أن يكونوا مع الامام وينصروه ويجاهدوا معه على اعدائه . وأما إذا لم يكونوا مع امام الهيّ واشتبه الأمر ولم يُعرف الحق . فالتكليف يومئذ هو القعود والاحتياط .
  فالقاعد في زمان الامام الالهي كالقاعد في زمان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . قال تعالى : ( انكم رضيتم بالقعود أور مرة فاقعدوا مع القاعدين . وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ) .
  مستدرك الحاكم : عن أبي أيوب قال : سمعت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول لعليّ بن أبي

---------------------------
(1) الشريعة ص 42 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _300_

 طالب : تُقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين بالطرقات والنهروانات والشعفات ، قال ابوايوب : قلت يا رسول الله : مع من نُقاتل هؤلاء الأقوام ؟ قال مع علي بن أبي طالب (1) .
  أقول : ففي هذه الرواية الشريفة قد صرح رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأن تكليف الامام الحق هو القتال والمجاهدة في مقابل الناكثين والقاسطين والمارقين . وبأن تكليف الرعية والمسلمين أيضا هو اطاعته واتّباعه والقتال معه للمخالفين .
  فتبيّن أن قعود بعض المتنسّكين والمتورّعين عن نصرة اميرالمؤمنين علي ( عليه السلام ) ليس إلا على الباطل .
  ومن هؤلاء المتنسكين القاعدين ابو موسى الأشعري وأتباعه وأشباهه ، الجاهلون بوظائفهم ، والقاصرون عن معرفة إمامهم . والمقصّرون في العمل بما يجب عليهم .  وقد يُصرّح رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ايضا بهذه الوظائف ويُبينها ويوضحها حتى يرتفع الاشكال ويتبيّن الحق .
  مسند أحمد : عن أبي سعيد ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أن منكم من يقاتل على تأويله كما قاتلت على تنزيله ، قال ، فقام ابوبكر وعمر ، فقال : لا ولكن خاصف النعل ، وعليّ يخصف النعل (2) .
  ويروى عنه ، قال : كنا جلوسا ننتظر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فخرج علينا من بعض بيوت نسائه ، قال : فقمنا معه فانقطعت نعله فتخلف عليها عليّ يخصفها ، فمضى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وضينا معه ، ثم قام ينتظره وقمنا معه ، فقال : أن منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن كما قتلت على تنيله ، فاستشرفنا وفينا ابوبكر وعمر ، فقال : لا ولكنه خاصف النعل ، قال : فجئنا نُبشره ، قال ، وكأنه قد سمعه (3) .

---------------------------
(1) مستدرك الحاكم ج 3 ص 140 .
(2)مسند أحمد ج 3 ص 33 .
(3) نفس المصدر ص 82 .