ويانعة ، م ان تعيينه عليا من عداد الستة ينافي تأويله هذا .
مستدرك الحاكم : عن ثابت قال : بلغني ان عمر بن الخطاب قال : لو أدركت ابا عبيدة بن الجراح لا ستخلفته وما شاورت ، فإن سُئلت عنه قلت : استخلفت امين الله وامين رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )
(1) .
اقول : هذا أشتباه من عمر ، فإن اللازم من صفات الخليفة أن يكون عالما بالأحكام عارفا بالحقائق الإلهية مدبرا لأمور المسلمين ، وأما صفة الأمانة المنفردة فقط فلا تكفي في هذا المقام .
عقد الفريد وتاريخ الطبري : قال عمر : لو كان ابو عبيدة بن الجراح حيا استخلفته ، فإن سألني ربي قلت سمعت نبيك يقول : أنه أمين هذه الأمة ، ولو كان سالم مولى أبي حُذيفة حيا استخلفته ، فإن سألني ربي قلت : سمعت نبيك يقول : أن سالما شديد الحب لله
(2) .
أقول : كأنه ما سمع الأحاديث المتواترة في فضل علي ( عليه السلام ) عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أو انه كان مخالفا لخلافته .
وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : من أطاع عليا فقد أطاعني ومن عصى عليا فقد عصاني . وقال : أنا من علي وعلي مني . وقال : أنت أخي في الدنيا والآخرة . وقال : من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه . وقال : أفلا ترضى يا عليّ أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، وغيرها ، وقد سبق من قوله في عليّ ( عليه السلام ) : هو أحراكم أن يحملكم على الحق . وفي الاستيعاب : وقوله في علي : ان ولوها الأجلح سلك بهم الطريق المستقيم . الأجلح ـ يعني عليا
(3) .
البخاري : باسناده ، قيل لعمر ألا تَستخلف ؟ قال : ان أستخلف فقد استخلف من هو خير مني ، ابوبكر ، وأن أترك فقد ترك من هو خير مني ، رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فأثنوا عليه ، فقال : راغب وراهب ، إني وددتُ اني نجوت منها
---------------------------
(1) مستدرك الحاكم ج 3 ص 268 .
(2) عقد الفريد ج 4 ص 274 وتاريخ الطبري ج 5 ص 34 .
(3) الاستيعاب ج 3 ص 1154 .
الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث
_ 252 _
كفافا لالي ولا عليّ لا أتحملها حيا وميتا
(1) .
مسلم : عن ابن عمر قال : حضرت أبي حين أصيب ، فأثنوا عليه وقالوا : جزاك الله خيرا ، فقال : راغب وراهب ، قالوا : استخلف ! فقال أتحمّل أمركم حيا وميتا ! لوددت أن حظي منها الكفاف لا عليّ ولالي ، فإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني ابابكر وأن أترككم فقد ترككم من هو خير مني رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )
(2) .
.
أقول : يستفاد من هذه الجملات امور :
الأول ـ أنه استبصر في آخر ساعة من حياته بأن تحمّله للخلافة قد وقع في غير محله وعلى خلاف صلاحه ، وان الكفاف والنجاة منها كان أصلح وأوقع له .
الثاني ـ أنه مع هذا القول ( بأن عدم التحمل حيا وميتا أوقع له ، وأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ما استخلف ويلزم اتباع الرسول ) خالف قوله ، وخالف سيرة الرسول ، واستخلف بطريق الشورى بين ستة على شرايط ومقررات معلومة أنتجت خلافة عثمان .
ويروى مسلم أيضا : عن ابن عمر : قال : دخلت على حفصة ، فقالت : أعلمت أن أباك غير مستخلف ؟ قال : قلت ما كان ليفعل ، قالت : أنه فاعل ، قال : فحلفتُ اني أكلّمه في ذلك ، فسكتّ حتى غدوتُ ولم أكلمه ، قال : فكنت كأنما أحمل بيميني جَبلا ، حتى رجعت فدخلت عليه ، فسألني عن حال الناس وأنا أخبره ، قال : ثم قلت له : إني سمعت الناس يقولون مقالة فآليت ان أقولها لك : زعموا أنك غير مستخلف وأنه لو كان لك راعي ابل أوراعي غنم ثم جاك وتركها رأيت أن قد ضيّع ؟ فرعاية الناس أشد ، قال : فوافقه قولي فوضع رأسه ساعة ثم رفعه إليّ ، فقال أن الله عزوجل يحفظ دينه ، وإني لئن لا استخلف فإن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يستخلف ، وان استخلف فإن أبابكر قد استخلف . قال : فوالله ما هو إلا أن ذكر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وابابكر ، فعلمت
---------------------------
(1) البخاري ج 4 ص 152 .
(2) مسلم ج 6 ص 4 .
الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث
_ 253 _
أنه لم يكن ليعدل برسول الله أحدا وأنه غير مستخلف
(1) .
أقول : قول ابن عمر ( لو كان لك راعي ابل ) كلام فطريّ عقليّ وجدانيّ لا يُنكره من كان له أدنى تدبر ، وعلى هذا ترى أن عمر وافقه ولم ينكره ، وهذا رأينا في رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأنه قد أوصى واستخلف .
الثاني ـ أن ابابكر على قولهم خالف عمل الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صريحا ، واعتذاره غير مقبول ، ولا سيما في هذا الأمر المهم .
الثالث ـ أن عمر قد استخلف أيضا ، فإن تعيين شخص على نحو التفصيل أو الاجمال لا فرق بينهما من جهة أصل التعيين ، مضافا الى أن التعيين الاجمالي يدل على تحقق الضعف والعجز اما من ناحية العلم والمعرفة ، وإما من جانب رعاية التقية وملاحظة الأحوال وعدم التمكن والاستطاعة من التعيين التفصيلي .
فاذا كان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يستخلف على اعتقادهم ، وجعل الأمة بعد ، حيارى وتركهم لا يهتدون سبيلا : فكيف خالفوا هذه الطريقة وحكموا بلزوم تعيين الخليفة .
هل كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يدري ما وظيفته ؟ أو لم يعمل بما علم وسامح في العمل برسالته ؟ أو أن اللهتعالى قد أهمل عباده وأظلهم بعد أن أرسل إليهم رسولا ؟ .
ثم إذا كان هذا الإهمال وترك الأمة صلاحا فكيف لم يعمل به آخرون ، ولم يتمكّنوا من اتباع هذه المصلحة وسلوك هذه الطريقة ، حتى أن عمر التزم أن يستخلف بهذه الكيفية المخصوصة .
وما هذا إلا لأن الاستخلاف أمر طبيعي يحكم به العقل والوجدان ، وقد استخلف رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وصرّح باستخلافه في موارد كثيرة ، وأعلن وصيّتها بالفاظ مختلفة ، ويكفي لنا قوله : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا .
---------------------------
(1) مسلم ج 6 ص 5 .
الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث
_ 254 _
فنحن نتمسك بالقرآن الحكيم وأهل البيت الطاهرين ، ونتبع الثقلين الذين أوصى بهما رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وعلم أنه ما ينطق عن الهوى ان هو إلا وحي يوحى . وهذه حجتنا فيما بيننا وبين الله تعالى . فأتوا بكتاب من عنده ان كنتم صادقين .
فتنة امر الشورى واختلاف الآراء
الملل والنحل : الخلاف التاسع في امر الشورى واختلاف اللآراء فيها ، حتى اتفقوا كلهم على بيعة عثمان وانتظم الملك
(1) .
البدء والتاريخ : وكان قال لعبدالله بن عباس : اذكر لي من أعهد إليه ؟ فقال : عثمان ! فقال : ذك كلف بأقاربه يَحمل بني ابن أبي معيط على رقاب الناس . قال : فعبد الرحمن بن عوف ! قال : مسلم ضعيف وأميرته امرأته . قال : فسعد ! قال : ذاك فارس يكون في مقنب من مقانبكم . قال : فالزبير ! قال : مؤمن الرضا كافر الغضب . قال : فطلحة ! قال : فيه باء وعجب . قال فعليّ ! قال : فيه دعابة وأنه لأخلقهم أن يحملهم على المحجة . ثم جعل الأمر في هؤلاء الستة باختيارهم ، وقال : ان بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها فمن عاد الى مثلها من غير مشورة فاقتلوه
(2) .
أقول : اذا اعترف بأن عليا ( عليه السلام ) لأخلقهم أن يحملهم على المحجة ـ فكيف عدل عنه وجعله في عدادهم ، مع اقراره بضعف اسلام عبدالرحمن ومقهريته ، وبأن عثمان كلف بأقاربه يحملهم على رقاب الناس ، وهكذا الآخرون .
ثم أن بيعة أبي بكر على ما وقعت ، ان كانت صحيحة ومشروعة شرعا وعقلا : فكيف يحكم بقتل من عاد الى مثلها . وان كانت باطلة : فكيف أعان عليها وحكم بقتل من خالفها ، وحضر لاحراق باب أهل البيت ، ألم يمكن لهم أن يتذكروا ويذكروا ما وصى لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) .
---------------------------
(1) الملل والنحل ج 1 ص 18 .
(2) البدء والتاريخ ج 5 ص 190 .
الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث
_ 256 _
البخاري : فقالوا : أوص يا أمير المؤمنين استخلف ! قال ( عمر بن الخطاب ) : ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين تُوفى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو عنهم راض ، فسمى عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبدالرحمن ، وقال : يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء كثيئة التعزية ، فإن أصابت الإمرة سعدا فهو ذاك ، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة ... فلما فُرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط ، فقال عبد الرحمن اجعلوا امركم الى ثلاثة منكم ! فقال الزبير : قد جعلت امري الى علي ، فقال طلحة قد جعلت امري الى عثمان ، وقال سعد قد جعلت أمري الى عبد الرحمن بن عوف ، فقال عبدالرحمن أيكما تبرّأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه والاسلام لينظرن افضلهم في نفسه ! فاسكت الشيخان ، فقال عبدالرحمن : أفتجعلونه إليّ والله علي أن لا آلوا عن أفضلكم ! قالا : نعم ، فأخذ بيد أحدهما فقال لك قرابة من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والقِدم في الاسلام ما قد علمت ، فالله عليك لئن امّرتك لتعدلن ولئن امرت عثمان لتسمعن ولتُطيعن ! ثم خلا بالآخر ( عثمان ) فقال له مثل ذلك فلما أخذ الميثاق قال : إرفع يدك يا عثمان فبايعه
(1) .
أقول : يستفاد من صريح هذا الكلام امور :
1 ـ أن عمر بن الخطاب ما قدر أن يَعرف أفضلهم وأولاهم .
2 ـ أنه جعل مَدار الإمرة كون النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) راضيا عنه ، ولم يُراع شرائط اخرى ، ولم يتوجه الى أحوالهم وأعمالهم بعد الإمرة .
3 ـ فاذا كان عمر بن الخطاب لم يتكلم بالوحي وعن الله وبتعيين الله ، ولم يقدر أن يُميز الأفضل والأولى : فكيف يوصي بهذه الوصية المخصوصة .
4 ـ فاذا ادّعى عبد الرحمن أن لا يألو عن أفضلهم فهل كان عثمان أفضل من عليّ علما وعملا وسابقة ومقاما ؟ .
ويقول البخاري : إن المِسور بن مَخرمة أخبره أن الرهم الذين ولاهم عمر
---------------------------
(1) البخاري ج 2 ص 184 .
الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث
_ 257 _
اجتمعوا فتشاوروا ، قال لهم عبدالرحمن : لست بالذي أنافسكم على هذا الأمر ، ولكنكم ان شئتم اخترت لكم منكم ! فجعلوا ذلك الى عبدالرحمن ، فلما ولوا عبدالرحمن امرهم : فمال الناس على عبدالرحمن حتى ما أرى أحدا من الناس يتبع اولئك الرهط ولا يطأ عقبه ، ومال الناس على عبدالرحمن يشاورونه تلك الليالي ، حتى اذا كانت الليلة التي أصبحنا منها فبايعنا عثمان . قال المِسور : طرقني عبدالرحمن بعد هجع من الليل فضرب الباب حتى استيقظت ، فقال : أراك نائما ! فوالله ما اكتحلتُ هذه الليلة بكبير نوم ، انطلق فادعُ الزبير وسعدا ! فدعوتهما له فشاورهما ، ثم دعاني فقال : ادع ليّ عليا ! فدعوته فناجاه حتى ابهارّ الليل ، ثم قام عليّ من عنده وهو على طمع ، وقد كان عبدالرحمن يخشى من عليّ شيئا ، ثم قال : ادع لي عثمان فدعوته فناجاه حتى فرّق بينهما المؤذن بالصبح ، فلما صلى للناس الصبح واجتمع اولئك الرهط عند المنبر فأرسل إلى من كان حاضرا من المهاجرين والأنصار وأرسل الى امراء الأجناد وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر ، فلما اجتمعوا تشهّد عبدالرحمن ثم قال : أما بعد : يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان فلا تجعلن على نفسك سبيلا ، فقال : أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس ، المهاجرون الأنصار وامراء الأجناد والمسلمون
(1) .
أقول : هذا الكلام ( قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان ) في وجه ترجيح عثمان وانتخابه : يخالف كلامه السابق وعهده بأن لا يألو عن أفضلهم ، فهل يكون تمايل الناس موجبا للأفضلية ؟ مع أن أكثر الناس لا يعقلون .
نعم تشكيل الحكومة الظاهرية يعتبر فيها أكثرية الآراء والأفكار ، وهذا غير مقام الحقيقة والخلافة المعنوية والمرجعية للامور الدنيوية والدينية والوصاية عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
---------------------------
(1) البخاري ج 4 ص 151 .
الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث
_ 258 _
مسلم : باسناده فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين تُوفي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو عنهم راض ، وإني قد علمت أن أقواما يطعنون في هذا الأمر أنا ضربتُهم بيدي هذه على الإسلام ، فإن فعلوا ذلك فاولئك اعداء الله الكفرة الضلال
(1) .
أقول : يستفاد من هذا الكلام امور :
1 ـ يستفاد من هذا الكلام ان جمعا ممن أسلموا بعد غلبة الاسلام وفتح مكة من الذين حملوا السلاح على رسول الله ، كانوا يطعنون في الخلافة ويجهدون ان تكون الإمرة فيهم ، وقد عبّر عنهم بقوله : فإن فعلوا ذلك فاولئك اعداء الله الكفرة الضلال . وهذا الكلام يشمل معاوية بل وينطبق عليه ، ولا سيما بعد خلافة علي ( عليه السلام ) اذ هو من هؤلاء الستة وقد أجمع المهاجرون والأنصار عليه ، وقد طعن معاوية في خلافته وحمل السلاح عليه .
2 ـ المناط في الإمرة ان كان رضى الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عنه ! فأغلب اصحاب الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كانوا بهذه الصفة ، وان كان لهؤلاء الستة امتياز وخصوصية ، فهل كانوا متساوين من جميع الجهات حتى يكون الناس مختارين في اختيار أيهم شاؤوا ، أو ان لبعض منهم فضيلة وتفوّقا على بعض آخر ؟ وعلى كل فرض يبقى محذور واشكال لا يخفى على من له أدنى تدبر .
الطبقات : عن أبي جعفر قال عمر بن الخطاب لأصحاب الشورى : تشاوروا في أمركم فإن كان اثنان واثنان فارجعوا في الشورى وان كان أربعة واثنان فخذوا صنف الأكثر
(2) .
ويروى أيضا : عن ابنعمر قال عمر : وان اجتمع رأي ثلاثة وثلاثة فاتبعوا صنف عبد الرحمن بن عوف واسمعوا وأطيعوا .
ويروى أيضا : عن سعيد قال عمر . ليُصل لكم صهيب ثلاثا وتشاوروا في أمركم ، والأمر الى هؤلاء الستة ، فمن بَعل أمركم فاضربوا عنقه ، يعني من خالفكم .
---------------------------
(1) مسلم ج 2 ص 81 .
(2) الطبقات ج 3 ص 61 .
الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث
_ 259 _
ويروى أيضا : عن أنس قال : أرسل عمر بن الخطاب الى أبي طلحة قبل أن يموت بساعة ، فقال : يا اباطلحة كن في خمسين من قومك من الأنصار مع هؤلاء النفر أصحاب الشورى فلا تتركهم يَمضي اليوم الثالث حتى يُؤمّروا أحدهم .
ويروى أيضا : عن سماك ان عمر بن الخطاب لما حُضر قال : ان أستخلف فسنة وإلا أستخلف فسنة ، تُوفي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولم يستخلف وتوفي ابوبكر فاستخلف ... وقال للأنصار أدخلوهم بيتا ثلاثة أيام فإن استقاموا وإلا فادخلوا عليهم فاضربوا أعناقهم
(1) .
عقد الفريد وتاريخ الطبري : فقال العباس لعلي : لا تدخل معهم ! قال : أكره الخلاف ، قال : إذا ترى ما تكره . فلما أصبح عمر دعا عليا وعثمان وسعدا وعبدالرحمن بن عوف والزبير بن عوام ، فقال : إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم ، وقد قُبِض رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو عنكم راض ، إني لا أخاف الناس عليكم أن استقمتم ولكني أخاف عليكم اختلافكم فيما بينكم فيختلف الناس ، فانهضوا الى حجرة عائشة بإذن منها فتشاوروا واختاروا رجلا منكم ، ثم قال : لا تدخلوا حجرة عائشة ولكن كونوا قريبا ، ووضع رأسه وقد نزفه الدم ، فدخلوا فتناجوا ثم ارتفعت أصواتهم ، فقال عبدالله بن عمر : سبحان الله أن اميرالمؤمنين لم يمت بعد ، فأسمعه ، فانتبه فثقال : ألا أعرضوا عن هذا أجمعون فاذا مت فتشاوروا ثلاثة أيام وليُصل بالناس صُهيب ، ولا يأتينّ اليوم الرابع إلا وعليكم امير عنكم ، ويحضر عبدالله بن عمر مشيرا ولا شيء له من الأمر ، وطلحة شريككم في الأمر فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فاقضوا أمركم ، ومن لي طلحة ! فقال عمر : أرجوا أن لا يخالف إن شاء الله ، وما أظن ان يلي إلا أحد هذين الرجلين عليّ أو عثمان ، فإن ولي عثمان فرجل فيه لين ، وإن ولي عليّ ففيه دعابة وأحربه أن يحملهم على طريق الحق ... فإن اجتمع خمسة
---------------------------
(1) نفس المصدر السابق ص 342 .
الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث
_ 260 _
ورضوا رجلا وأبى واحدج فاشدخ رأسه أو اضرب رأسه بالسيف ، وإن اتفق اربعة فرضوا رجلا منهم وابى اثنان فاضرب رؤوسهما ، فإن رضي ثلاثة رجلا منهم وثلاثة رجلا منه فحكّموا عبدالله بن عمر فإي الفريقين حكم له فليختاروا رجلا منهم ، فإن لم يرضوا بحكم عبدالله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف واقتلوا الباقين ان رغبوا عما اجتمع عليه الناس ... وتلقّاه العباس فقال : عدلت عنا ، فقال : وما علّمك ؟ قال : قرن بي عثمان وقال : كونوا مع الأكثر فإن رضي رجلان رجلا وجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف ، فسعد لا يخالف ابن عمه عبدالرحمن ، وعبدالرحمن صهر عثمان لا يختلفون ، فيولّيها عبدالرحمن عثمان أو يوليها عثمان عبدالرحمن ، فول كان الآخران معي لم ينفعاني ! بله إني لا أرجوا إلا أحدهما ... فقال العباس : احفظ عني واحدة كلما عرض عليك القوم فقل لا ، إلا ان يُولوك ، واحذر هؤلاء الرهط فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم لنا به غيرنا وأيم الله لا يناله إلا بشرّ لا ينفع معه خير ، فقال علي : أما لئن بقي عثمان لأذكرنّه ما أتى ، ولئن مات ليتداولنّها بينهم ولئن فعلوا ليجدنّي حيث يكرهون
(1) .
أقول : في هذا الكلام مواقع للاعتبار :
1 ـ قال علي ( عليه السلام ) أكره الخلاف : اشارة الى أهمية الاتفاق والاتحاد بين المسلمين والحذر من الخلاف في أيّ مورد كان ، وأما مقام الولاية والامامة الحقيقية الثابتة الالهية فهي غير متوقفة الى أمر آخر ولا تلازم بينها وبين الحكومة الظاهرية .
2 ـ قال عمر : فتشاوروا واختاروا رجلا ـ يدل على أن هذا الأمر مقام اجتماعي ظاهري عرفي متحصل باختيار الناس ، ولا ربط له بالأحكام الالهية والاصول والفروع الدينية المنزّلة .
3 ـ قال عمر : وليُصلّ بالناس صُهيب ـ يدل على أن الامامة في الصلاة
---------------------------
(1) عقد الفريد ج 4 ص 277 وتاريخ الطبري ج 5 ص 3 .
الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث
_ 261 _
لا تُلازم الامامة والولاية المطلقة العامة ، فاستدلال بعضهم بصلاة أبي بكر على خلافته ضعيف ناقص .
4 ـ قول عمر ـ واحر بعلي أن يحملهم على طريق الحق ؛ هذه الصفة والخصيصة تدل على أن الدعابة وعدم كونه لينا ، واقعتان في طريق الحق والصدق ، فكيف يجوز الاعراض وصرف النظر عنه مع الاعتراف بهذا الاتصاف .
5 ـ قول عمر ـ وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف ، فاضرب رؤسهما ، واقتلوا الباقين : هذا الحكم المنجر . المقطوع من جانبه إن كان له حقيقة فكيف لم يُجرّ في زمان أبي بكر وزمان علي ، بل وكيف يقولون : إن خلاف أهل الجمل وصفين مستند الى اجتهادهم . وأيضا ان الاباء المطلق اذا كان عن فكر صائب ورأي خالص كيف يوجب ضرب الرأس والقتل ولا سيما إذا خلا عن التحريك والتّشتيت .
6 ـ قوله أيضا فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن : حقيقة هذا الحكم وسره ما أشار اليه علي ( عليه السلام ) في آخر الكلام من الطبري . وكما قال العباس : فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر .
عقد الفريد وتاريخ الطبري : فتنافس القوم في الأمر وكثر بينهم الكلام ... فقال عبدالرحمن : أيكم يُخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يُوليَها أفضلكم ، فلم يُجبه أحد ، فقال : أنا أنخلع منها ، فقال عثمان : أنا أول من رضي فإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول أمين في الأرض أمين في السماء ، قال القوم : قد رضينا ، وعليّ ساكت ، فقال : ما تقول يا أبا الحسن ؟ قال : أعطني موثقا لتُؤثرن الحق ولا تتبع الهوى ولا تخص ذا رحمولا تألو الأمة ! فقال : أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدلّ وغيّر وأن ترضوا من اخترت لكم ، على ميثاق الله أن لا أخصّ ذا رحم لرحمه ولا آلو المسلمين ، فأخذ منهم ميثاقا وأعطاهم مثله . فقال لعليّ : أنك تقول : إني أحق من حضر بالأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين ولم تُبعد ، ولكن أرأيت لو صُرف هذا الأمر عنك فلم تحضر ، من
الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث
_ 262 _
كنت ترى من هؤلاء الرهط أحق بالأمر ؟ قال : عثمان . وخلا بعثمان فقال : تقول شيخ من بني عبد مناف وصهر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وابن عمه لي سابقة وفضل فلم تُبعد فلم تُصرف هذا الأمر عنّي ، ولكن لو لم تحضر فأيّ هؤلاء الرهط تراه أحق به ؟ قال علي . ثم خلا بالزبير فكلمه بمثل ما كلّم به عليا وعثمان فقال : عثمان . ثم خلا بسعد فكلمه ، فقال : عثمان . فلقى علي سعدا فقال : اتقوا الله الذي تسألون به والأرحام ان الله كان عليكم رقيبا ، أسألك برحم ابني هذا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبرحم عمي حمزة منك أن لا تكون مع عبدالرحمن لعثمان ظهيرا عليّ ، فإني أدلي بما لا يُدلي به عثمان . ودار عبدالرحمن لياليه يلقى اصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومن وافى المدينة من امراء الأجناد واشراف الناس يُشاورهم ولا يخلو برجل إلا امره بعثمان ، حتى اذا كانت الليلة التي يستكمل في صبيحتها الأجل أتى منزل المسور بن مخرمة بعد ابهيرار من الليل فأيقظه ، فقال : ألا أراك نائما ولم أذق في هذه الليلة كثير غُمض ، انطلق فادع الزبير وسعدا فدعاهما ، فبدأ بالزبير في مؤخر المسجد في الصفة التي تلى دار مروان ، فقال له : خلّ ابني عبد مناف وهذا الأمر ، قال : نصيبي لعلي . وقال لسعد : أنا وأنت كلالة ( وفي العقد : كالآلة ) فاجعل نصيبك لي فأختار ؟ قال : ان اخترت نفسك فنعم ! وان اخترت عثمان فعلي أحب إليّ ، أيها الرجل بايع لنفسك وأرحنا وارفع رؤوسنا ! قال : يا أبا إسحاق : إني قد خلعت نفسي منها على أن أختار ، ولو لم أفعل وجُعل الخيار اليّ لم أردّها ... قال قال سعد : فإني أخاف أن يكون الضعف قد أدركك فامض لرأيك فقد عرفت عهد عمر ! وانصرف الزبير وسعد ، وأرسل المسور بن مخرمة الى عليّ فناجاه طويلا وهو لا يشك أنه صاحب الأمر ثم نهض ، وأرسل المسور الى عثمان فكان في نجيّهما حتى فرّق بينهما اذان الصبح ... فلما صلوا الصبح جمع الرهط ... فقال عمار : ان اردت ان لا يختلف المسلمون فبايع عليا ، فقال المقداد بن الأسود صدق عمار ان بايعت عليا قلنا سمعنا وأطعنا . قال ابن أبي سرح : ان أردت ان لا تختلف قريش فبايع عثمان ، فقال عبدالله بن أبي ربيعة : صدق ان بايعت عثمان قلنا سمعنا وأطعنا . فشتم
الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث
_ 263 _
عمار ابن أبي سرح وقال : متى كنت تنصح المسلمين ، فتكلم بنو هاشم وبنوامية ، فقال عمار : أيها الناس ان الله عز وجل أكرمنا بنبيه وأعزنا بدينه فإنى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم ! فقال رجل من بني مخزوم : لقد عدوت طورك يا ابن سُمية وما أنت وتأمير قريش لأنفسها ، فقال سعد بن أبي وقاص : يا عبدالرحمن افرغ قبل أن يفتتن الناس ! .
فقال عبدالرحمن : اني قد نظرت وشاورت فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلا ودعا عليا فقال عليك عهد الله وميثاقه لتعملنّ بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده ! قال : أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي . ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي ، قال : نعم . فبايعه ، فقال عليّ : حبوته دهر ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ، والله ما ولّيت عثمان إلا ليرد الأمر إليك والله كل يوم هو في شأن . فقال عبدالرحمن : يا عليّ لا تجعل على نفسك سبيلا فإني قد نظرت وشاورت الناس فاذا هم لا يعدلون بعثمان ، فخرج عليّ وهو يقول سيبلغ الكتاب اجله ، فقال المقداد يا عبدالرحمن أما والله لقد تركته من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون ، فقال : يا مقداد والله لقد اجتهدتُ للمسلمين ! قال : إن كنت اردت بذلك الله فأثابك الله ثواب المحسنين ، فقال المقداد : ما رأيت مثل ما اوتي إلى اهل هذا البيت بعد نبيهم اني لأعجب من قريش انهم تركوا رجلا ما أقول أن أحدا أعلم ولا أقضى منه بالعدل ، أما والله لواجد عليه أعوانا
(1) .
أقول في هذا الكلام موارد للاعتبار :
1 ـ فتنافس القوم : هذا كما تنافسوا في السقيفة ثم وقعت اخذ الآراء بالتزوير الذي لا يخفى على المحقق المنصف .
2 ـ أيكم يُخرج نفسه : بعد أن رأى عبدالرحمن أن لانصيب له في هذا الأمر ، استمسك بهذا التزوير الدقيق ، لحفظ مقامه ولاعمال غرضه في امر
---------------------------
(1) عقد الفريد ج 4 ص277 وتاريخ الطبري ج 5 ص 36 .
الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث
_ 264 _
الخلافة لعثمان .
3 ـ أنا أول من رضي : هذا القول يدل على أن الاختيار التام المفوّض لعبدالرحمن أنما يتم لتأييد عثمان ، ويدلّ عليه سكوت علي ( عليه السلام ) .
4 ـ أعطني موثقا : يكشف عن أن عليا ( عليه السلام ) ما صح عنده الحديث المرويّ ( أمين في الأرض أمين في السماء ) ، مضافا الى أن في متن الحديث ضعفا ، حيث أن كونه أمينا في السماء لا معنى له ، وان أريد كونه أمينا عند أهل الأرض وأهل السماء ينقضه أن من خير أهل الأرض علي ( عليه السلام ) وهو يطلب منه موثقا .
5 ـ ولا تتبع الهوى ولا تخص ذا رحم : شرط هذه القيود يثبت اتباع الهوى والعمل بغرض .
6 ـ إني أحق من حضر بالأمر : هذه الدعوى من علي ( عليه السلام ) مستمرة من يوم ارتحل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الى آخر عمره الشريف ، وقد ثبت أنه صادق ومع الحق ويحبه الله ورسوله .
7 ـ بمبلغ علمي وطاقتي : هذا هو الحق الصريح ، فإن عليا ( عليه السلام ) لا أقل أنه مجتهد ولا يجوز له لمجتهد آخر ، مع أنه أعلم الأمة وأقضاها وأفضلها وأتقاها ، بل نعتقد بأنه خليفة الله ووليه والمنصوب منه والمعلم من لدنه .
8 ـ ليس هذا أول يوم تظاهرتم : فليعتبر من هذا الكلام كل معتبر .
ويروى الطبري : بعد نقل كلمات الأربعةمن أهل الشورى وخطبتهم ، ثم تكلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقال ـ الحمد لله الذي بعث محمدا منا نبيا وبعثه الينا رسولا ، فنحن بيت النبوة ومعدن الحكمة وأمان أهل الأرض ونجاة لمن طلب ، لنا حق أن نُعطه نأخذه وان نُمنعه نركب أعجاز الأبل ولو طال السُرى ، لو عهد الينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأنفذنا عهده ، ولو قال لنا قولا لجادلنا عليه حتى نموت ... الخ
(1) .
أقول : في هذه الكلمات العالية من علي ( عليه السلام ) اثبات لمقامه وعلوّ منزلته
الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث
_ 265 _
وحقيقة ولايته وخلافته من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، حيث أنه أظهر في مجلس الشورى بكونه من بيت النبوة وأنه معدن الحكمة وأمان أهل الأرض ونجاة لمن طلب ، ولم ينكر هذه المقامات له أحد من الحاضرين ، مع أنه لا يمكن دعوى هذه المراتب من أد من سائر الناس .
يروى في عقد الفريد : في كلام لعمر : أما والله لولا دُعابة فيه ما شككتُ في ولايته وان نزلت على رغم أنف قريش
(1) .
الفائق : عليّ ( رضي الله عنه ) قال يوم الشورى لنا حق ان نُعطه نأخذه ، وان نُمنَعه نركب أعجاز الابل وان طال السُرى
(2) .
قال الزمخشري : هذا مثل لركوبه الذلّ والمَشقة وصبره عليه وان تطاول ذلك ، وأراد بركوب اعجاز الابل كونه ردفا وتابعا .
أقول : يقول أن الولاية الظاهرية من آثار الولاية الحقيقية ، ولما كانت حقيقة الولاية لأهل البيت ولامير المؤمنين علي ( عليه السلام ) : فتكون الخلافة الظاهرية والولاية والحكومة العرفية أيضا من حقوقهم وشئونهم .
أما الولاية الحقيقية : فهي ثابتة لهم ، ومن آثارها النورانية والمعرفة والعلم والاحاطة الملكوتية والارتباط الغيبي ، ويشير اليها بقوله ( فنحن بيت النبوة ومعدن الحكمة وأمان أهل الأرض ونجاة لمن طلب ) .
وأما الولاية الظاهرية : فهي متوقفة على اقبال الرعية وخضوعها وانقيادها ، فإن أطاعوا وسلموا وخضعوا لهم : يَقبلون طاعتهم ويهدونهم الى مصالحهم ويُرشدونهم الى سعادتهم ويُجروان قوانين العدل فيما بينهم . ويشير اليها بقوله ـ إن نعطه نأخذه .
واذا امتنعوا من الطاعة ولم يخضعوا ولم يستقرّوا تحت لواء ولايتهم فلا يُظهرون من أنفسهم الحرص والميل الشديد الى حيازتها وتحصيلها وأخذها ، بل يجعلون أنفسهم في إثر الحكومة ويعيشون مع الناس ويُفيضون ويُرشدون على
---------------------------
(1) عقد الفريدج 4 ص 282 .
(2) الفائق ج 2 ص 119 .
الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث
_ 266 _
حسب طلب الناس واقبالهم واقتضاء أحوالهم .
من الوقائع في زمانه فتنة امر ( تبعيد أبي ذرّ)
الطبقات : عن زيد بن وهب ، قال مررت بالربذة فاذا أنا بأبي ذرّ فقلت ما أنزلك منزلك هذا ؟ قال : كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ ) وقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب ، فقلت نزلت فينا وفيهم ، فكان بيني وبينه في ذلك كلام ، فكتب يشكوني الى عثمان ، فكتب إليّ عثمان أن أقدِم المدينة ، فقدمت المدينة وكثر الناس عليّ كأنهم لم يروني قبل ذلك ، فذكر ذلك لعثمان ، فقال لي : ان شئت تنحّيت فكنت قريبا ، فذاك أنزلني هذا المنزل
(1) .
البدء والتاريخ : ومنها قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأبي ذر الغفاري وقد تخلف في بعض مراحل تبوك تعيش وحدك وتموت وحدك ، فكيف بك إذا أخرجت من المدينة لقولك الحق . فنُفي في أيام عثمان الى الربذة ومات بها وحده
(2) .
أقول : نفى أبي ذر من الشام لقوله الحق ، وعملا بشكاية معاوية عنه ، ونُفي ثانيا من المدينة لصدق لهجته وصراحة بيانه ، وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حقه :
الاستيعاب : سئل علي ( رضي الله عنه ) عن أبي ذر ، فقال : ذلك رجل وعى علما عجز عنه الناس .
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ابو ذرّ في أمتي شبيه عيسى بن مريم في زهده . وبعضهم يرويه : من سره أن ينظر الى تواضع عيسى بن مريم فلينظر الى أبي ذرّ
(3) .
ابن ماجة : عن عبدالله بن عمر ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ما أقلّت الغبراء
---------------------------
(1) الطبقات ج 4 ص 226 .
(2) البدء والتاريخ ج 5 ص 40 .
(3) الاستيعاب ج 1 ص 255 .
الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث
_ 267 _
ولا أظلت الخَضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر
(1) .
الكنى للبخاري : يروى بعدة اسناد ، نظيرها
(2) .
سنن الترمذي : مثلها
(3) .
ويروى أيضا : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما أظلت الخضراءُ ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذرّ شبه عيسى بن مريم ، فقال عمر بن الخطاب كالحاسد ؛ يا رسول الله أفتُعرّف ذلك له ؟ قال : نعم فاعرفوه . وقد روى بعضهم هذا الحديث فقال : أبوذر يمشي في الأرض بزهد عيسى بن مريم .
الطبقات : سئل علي رضي الله عنه عن أبي ذرّ ، فقال : وعى علما عجز فيه وكان شحيحا حريصا ، شحيحا على دينه حريصا على العلم
(4) .
ويروى أيضا روايات : كما في ابن ماجة والترمذي
(5) .
الكنى للدولابي : كما في ابن ماجة
(6) .
أقول : انظر الى ما ورد في حق هذا الرجل وهو من خواصّ أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهو يُنفى من المدينة الى وادي الرّبذة ، ويموت فيها وحده .
ومن الوقائع الاخرى في زمانه
تبرأة عُبيدالله بن عمر بعد ثبوت أنه قتل نفسا محرمة
الطبقات : رأيت عبيدالله يومئذ وانه ليناصي عثمان ، وان عثمان ليقول قاتلك الله قتلت رجلا يصلي وصبية صغيرة وآخر من ذمة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ما في الحق تركُك . قال : فعجبت لعثمان حين وُلّي كيف تركه
(7).
---------------------------
(1) ابن ماجة ج 1 ص 68 .
(2) الكنى للبخاري ص 23 .
(3) سنن الترمذي ص 543 .
(4) الطبقات ج 2 ص 354 .
(5) نفس المصدر ج 4 ص 228 .
(6) الكنى للدولابي ج 1 ص 146 .
(7) الطبقات ج 5 ص 16 .
الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث
_ 268 _
ويروى أيضا : قال عليّ لعبيدالله بن عمر : ما ذنبُ بنت أبي لؤلؤة حين قتلتها فكان رأي عليّ حين استشاره عثمان ورأيُ الأكابر من أصحاب رسول الله على قتله ، لكن عمرو بن العاص كلم عثمان حتى تركه .
ويروى عن ابن جريح : ان عثمان استشار المسلمين فأجمعوا على ديتهما ولا يُقتل بهما عبيدالله بن عمر ، وكانا قد أسلما وفرض لهما عمر ، وكان علي بن أبي طالب لما بويع له أراد قتل عبيدالله بن عمر فهرب منه الى معاوية ، فلم يزل معه فقتل بصفين
(1) .
الاستيعاب : ان عبيدالله قتل الهُرمزان بعد أن أسلم ، وعفا عنه عثمان ، فلما وليّ عليّ خشي على نفسه فهرب الى معاوية فقتل بصفين
(2) .
أقول : قال الله تعالى ( أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) ولا يجوز لحاكم أن يعفو عن قصاص وأن يترك قاتلا ، مع أن عليا ( عليه السلام ) حكم بقتله وهو مع الحق أين ما دار ، وهو أقضى الأمة .
صلته لأقربائه وتوانيه في أمورهم وبذل الأموال لهم
الطبقات : عن الزهري : فلما وليهم عثمان لأن لهم ووصلهم ثم توانى في أمرهم واستعمل أقرباءه وأهل بيته في السّت الأواخر ، وكتب لمروان بخُمس مصر ، وأعطى أقرباءه المال ، وتأوّل في ذلك الصلة التي أمر بها ، واتخذ الأموال واستسلف من بيت المال ، وقال : أن ابابكر وعمر تركا من ذلك ما هو لهما واني أخذته فقسّمته في اقربائي ، فأنكر الناس عليه ذلك
(3) .
ويروى أيضا عن المسور : سمعت عثمان يقول : أيها الناس ان ابابكر وعمر كانا يتأولان في هذا المال ظلف أنفسهما وذوي أرحامهما ، وإني تأولت فيه صلة رحمي .
---------------------------
(1) الطبقات ج 5 ص 17 .
(2) الاستيعاب ج 3 ص 1012 .
(3) الطبقات ج 3 ص 64 .
الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث
_ 269 _
أقول : الأموال التي تدّخر في بيت المال يجب أن تصرف في الله وفي فقراء المسلمين وفي حفظ نظامهم ، وليس للحاكم أن يصرفها كيف يشاء وفيما يشاء !
مسند أحمد : عن سالم قال : دعا عثمان ناسا من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيهم عمار بن ياسر ، فقال : إني سائلكم وإني أحب أن تصدقوني ، نشدتكم الله أتعلمون أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يُؤثر قريشا على سائرالناس ويُؤثر بني هاشم على سائر قريش ؟ فسكت القوم . فقال عثمان : لو أن بيدي مفاتيح الجنة لأعطيتها بني أمية حتى يدخلوا من عند آخرهم
(1) .
أقول : ان لأقرباء الرسول وذريته احكام وحقوق خاصة في القرآن ليست لغيرهم ، ولايقاس بهم أحد .
انصراف المهاجرين والأنصار عنه ، وطعنهم فيه
الاستيعاب : كان اجتماع بني مخزوم الى عثمان حين نال من عمار غلمان عثمان ما نالوا من الضرب ، حتى انفتق له فتق في بطنه ، ورغموا وكسروا ضلعا من أضلاعه ، فاجتمعت بنو مخزوم وقالوا : والله لئن مات ، لاقتلنا به أحدا غير عثمان
(2) .
البدء والتاريخ : فحنق بنو مخزوم لضربه عمار ، وحنق بنو زهرة لحال عبدالله بن مسعود وحنق بنوغفار لمكان أبي ذر الغفاري ، وكان أشد الناس طلحة والزبير ومحمد بن أبي بكر وعائشة ، وخذلته المهاجرون والأنصار ، وتكلّمت عائشة في أمره وأطلعت شعرة من شعر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ونعله وثيابه وقالت : ما أسرع ما تركتم سنة نبيكم ؟ فقال عثمان في آل أبي قحافة ما قال وغضب حتى ما كاد يدري ما يقول ، فقال عمرو بن العاص : سبحان الله ! وهو يريد أن يحقق طعن الناس على عثمان ، فقال الناس : سبحان الله !
(3) .
---------------------------
(1) مسند أحمد ج 1 ص 62 .
(2) الاستيعاب ج 3 ص1136 .
(3) البدء والتاريخ ج 5 ص 205 .
الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث
_ 270 _
اقول : ومن العجب قيام طرحة والزبير وعائشة في البصرة ، قيام عمرو بن العاص في الشام ، يريدون ثار لعثمان من أميرالمؤمنين علي ( عليه السلام ) .
انظر عدة روايات في قول عمرو بن العاص فيه :
الاستيعاب : فلما ولّى عثمان عبدالله بن سعد مصر وعزل عنها عمرو بن العاص جعل عمرو يطعن على عثمان أيضا ويُؤلّب عليه ويسعى في إفساد امره فلما بلغه قتل عثمان وكان معتزلا بفلسطين قال : إني اذا نكأتُ قرحة أدميتُها
(1) .
الطبقات : عن علقمة قال عمرو بن العاص لعثمان وهوعلى المنبر : يا عثمان ! انك قد ركبت بهذه الأمة نهابير من الأمر فتُب وليتوبوا معك ، قال فحوّل وجهه الى القبلة فرفع يديه فقال : اللهم اني استغفرك وأتوب اليك ، ورفع الناس أيديهم
(2) .
ويروى أيضا عن سعد قريبا منها .
تاريخ الطبري : فخرج عمرو من عند عثمان وهو محتقد عليه يأتي عليا مرة فيُؤلبه على عثمان ويأتي الزبير مرة فيُؤلبه على عثمان ويأتي طلحة مرة فيُؤلبه على عثمان ، ويعترض الحاج فيُخبرهم بما أحدث عثمان ، فلما كان حضر عثمان ؛ الأول خرج من المدينة حتى انتهى الى ارض له بفلسطين ... حتى مرّ به راكب آخر فناداه عمرو ما فُعل بالرجل يعني عثمان ؟ قال : قتل . قال : أنا ابوعبدالله اذا حككتُ قرحة نكأتها ان كنت لأحرض عليه حتى اني لاحرّض الراعي في غنمه في رأس الجبل ، فقال له سلامة بن روح : يا معشر قريش أنه كان بينكم وبين العرب باب وثيق فكسرتموه فما حملكم على ذلك ؟ فقال : اردنا أن نُخرج الحق من حافرة الباطل وأن يكون الناس في الحق شرعا سواء
(3) .
---------------------------
(1) الاستيعاب ج 3 ص 919 .
(2) الطبقات ج 3 ص 69 .
(3) تاريخ الطبري ج 5 ص 108 .
الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث
_ 271 _
البدء والتاريخ : وانتقضت الاسكندرية في أيام عثمان فافتتحها عمرو بن العاص وبعث بسبيها الى المدينة ، فردّهم عثمان الى ذمتهم لأنهم كانوا صلحا ولأن الذريّة لم تنقض العهد ، فهذا بدؤ الشر بين عثمان وعمرو ، فانتزعه من مصر ، وأمّر عليها عبدالله بن سعد بن أبي سرح أخاه لأمة
(1) .
احتقد عليه : أمسك عداوته ، يتربّص الفرصة . والتأليب : التجمع والفساد .
وأما معونة علي ( عليه السلام ) في قتل عثمان
الاستيعاب : عن ابي جعفر الأنصاري قال : دخلت المسجد فاذا رجل جالس في نحو عشرة عليه عمامة سوداء ، فقال : ويحك ما وراءك ؟ قلت قد والله فُرغ من الرجل ( يريد عثمان ) ! فقال : تبا لكم آخر الدهر ! فنظرت فاذا هو عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه
(2) .
عقد الفريد : وقال عليّ لابنيه : كيف قُتل اميرالمؤمنين وأنتما على الباب ؟ ورفع يده فلطم الحسين وضرب صدر الحسن وشتم محمد بن طلحة ولعن عبدالله بن الزبير ، ثم خرج علي وهو غضبان يرى أن طلحة أعان عليه ، فلقيه طلحة فقال : مالك يا اباالحسن ضربت الحسن والحسين ؟ فقال :عليك لعنة الله ، يُقتل اميرالمؤمنين ورجل من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بدّريّ ، ولم تقم بيّنة ولا حجّة فقال طلحة : لو دفع مروان لم يُقتل
(3) .
ويروى : قال عليّ بن أبي طالب على المنبر والله لئن لم يدخل الجنة إلا من قتل عثمان لادخلُتها أبدا ، ولئن لم يدخل النار إلا من قتل عثمان لادخلتها أبدا
(4) .
أقول : راجع في تأييد هذا الفصل الفصول الآتية .
الطبقات : عن عمرو بن الأصم قال : كنت فيمن أرسلوا من جيش ذي
---------------------------
(1) البدء والتاريخ ج 5 ص 198 .
(2) الاستيعاب ج 3 ص 1047 .
(3) عقد الفريد ج 4 ص 291 .
(4) عقد الفريد ص 302 ج 4 .
الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث
_ 272 _
خُشب ، قال : فقالوا لنا سلوا أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واجعلوا آخر من تسألون عليا ، أنُقدم ؟ قال فسألناهم فقالوا : أقدِموا ، إلا عليا قال لا آمركم ، فإن أبيتم فبيض فليُفرخ
(1) .
ويروى أيضا : بعث عثمان الى عليّ يدعوه وهو محصور في الدار ، فأراد أن يأتيه فتعلّقوا به ومنعوه ، قال : فحلّ عمامة سوداء على رأسه وقال : هذا ، أو قال : اللهم لا أرضى قتله ولا آمر به ، والله لا أرضى قتله ولا آمر به
(2) .
مستدرك الحاكم : عن قيس بن عباد قال : شهدت عليا ( رضي الله عنه ) يوم الجمل وانكرت نفسي ، وأرادوني على البيعة فقلت : والله إني لأستحيي من الله ان أبايع قوما قتلوا رجلا ... الحديث
(3) .
قال الحاكم : قد ذكرت الأخبار المسانيد في هذا الباب في كتاب مقتل عثمان ، فلم أستحسن ذكرها عن آخرها في هذا الموضع فإن في هذا القدر كفاية ، فأما الذي ادعته المبتدعة من معونة اميرالمؤمنين علي بن أبي طالب على قتله فإنه كذب وزور فقد تواترت الأخبار بخلافه .
ويروى : عن ميمون بن مهران : ان علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) قال : ما يسرّني أن اخذت سيفي في قتل عثمان وان لي الدنيا ما فيها
(4) .
أقول : ما يستفاد من هذه الروايات ونظائرها ـ وهو أن عليا لم يكن يرضى بقتل عثمان ، بل كان مخالفا ومانعا ومنكرا .
مشاورة عثمان مع عماله
تاريخ الطبري : فأرسل عثمان الى معاوية بن أبي سفيان والى عبدالله بن
---------------------------
(1) الطبقات ج 3 ص 65 .
(2) الطبقات ص 68 .
(3) مستدرك الحاكم ج 3 ص 103 .
(4) مستدرك الحاكم ج 3 ص 105 .
الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث
_ 273 _
سعد بن أبي سرح والى سعيد بن العاص بن وائل السهمي والى عبدالله بن عامر ( ولم يزل واليا لعثمان على البصرة وكانابن عمته ـ الاستيعاب ) ، فجمعهم ليشاورهم في أمره وما طُلب اليه وما بلغه عنهم ، فلما اجتمعوا عنده قال لهم : ان لكل امريء وزراء ونصحاء ، وانكم وزرائي ونصحائي واهل ثقتي ، وقد صنع الناس ما قد رأيتم وطلبوا اليّ ان أعزل عما لي وأن أرجع عن جميع ما يكرهون الى ما يحبون ، فاجتهدوا رأيكم وأشيروا عليّ ! فقال له عبدالله بن عامر : رأيي لك يا اميرالمؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عن وأن تجمرهم في المغازي حتى يذلوا لك فلا تكون همّة أحدهم إلا نفسه وما هو في من دبرة دابته وقمل فروه . ثم أقبل عثمان على سعيد بن العاص فقال : ما رأيك ؟ قال يا أميرالمؤمنين ان كنت تريد رأينا فاحسم عنك الداء وأقطع عنك الذي تخاف واعمل برأيي تُصيب ، قال : وما هو ؟ قال : ان لكل قوم قادة متى يهلك يتفرقوا ولا يجتمع لهم أمر ، فقال عثمان : ان هذا الرأي لولا ما فيه ثم أقب على معاوية فقال : ما رأيك ؟ قال : أرى لك يا أميرالمؤمنين أن تردّ عمالك على الكفاية لما قِبلهم وأنا ضامن لك قِبلي . ثم أقبل على عبدالله بن سعد فقال : ما رأيك ؟ قال : أرى يا أميرالمؤمنين ان الناس أهل طمع فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم . ثم أقبل على عمرو بن العاص فقال له : ما رأيك ؟ قال : أرى أنك قد ركبت الناس بما يكرهون فاعتزم أن تعتدل ، فإن أبيت فاعتزم ان تعتزل ، فأن أبيت فاعتزم عزما وامض قُدما . فقال عثمان : ما لك قمل فروك أهذا الجد منك ، فأسكت عنه دهرا حتى اذا تفرق القوم ، قال عمرو : لا والله يا أميرالمؤمنين لأنت أعز عليّ من ذلك ولكن قد علمت أن سيبلغ الناس قول كل رجل منّا ، فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي فأقود اليك خيرا أو أدفع عنك شرا
(1) .
ويروى : قريبا من هذه الأقوال ، وفيه فردّ عثمان عماله على أعمالهم وأمرهم
---------------------------
(1) تاريخ الطبري ج 5 ص 94 .
الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث
_ 274 _
بالتضييق على من قبلهم وأمرهم بتجمير الناس في البعوث وعزم على تحريم اعطياتهم ليطيعوه ويحتاجوا إليه ، ورد سعيد بن العاص اميرا على الكوفة ، فخرج أهل الكوفة عليه بالسلاح فتلقّوه فردّوه ، وقالوا : لا والله لا يلي علينا حكما ما حملنا سيوفنا
(1)( التجمير ـ الجمع ) .
أقول : وفي هذه الكلمات اعتبارات لمن اعتبر .
1 ـ ينبغي ان يُلفّت النظر الى وُلاته وعماله بل ووزرائه ونصحائه وأن يُحقق في سوابقهم ولواحق حالاتهم وأعمالهم .
2 ـ ارجاع البصر والنظر الى هذه الكلمات المتخالفة والأقوال السخيفة والآراء الباطلة المخالفة للحق والبعيدة عن الحقيقة في حق الرعية المسلمين من الصحابة والتابعين .
3 ـ اتباع الخليفة من آرائهم الباطلة وأمرهم بالتضييق والتجمير في البعوث وتحريم اعطياتهم حتى يطيعوه ويحتاجوا إليه ، فهل ينبغي ممن يدّ عي خلافة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يعمل هكذا .
4 ـ العجب من هؤلاء النصحاء ووزرائه المسلمين ، حيث لم يتكلموا بكلمة تُرضي الله ورسوله ، ولم ينصحوا بما هو خير وصلاح له وللمسلمين ، ولم يتوجهوا الى واجب وظيفتهم في مقام النصيحة ! ونتعجّب كثيرا من عثمان حيث شاور هؤلاء الخائنين الفسّاق ، وترك مشاورة أفاضل الصحابة وأتقيأهم الصالحين المؤتمنين .
الاستصحاب : عبدالله بن سعد بن أبي السرح أسلم قبل الفتح ثم ارتد مشركا وصار الى قريش بمكة ، فقال لهم : إني كنت أصرف محمدا حيث أريد ، فلما كان يوم الفتح أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بقتله ولو وُجد تحت أستار الكعبة ، ففرّ عبدالله الى عثمان وكان أخاه من الرضاعة ، فغيّبه عثمان حتى أتى به رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد ما اطمأنّ أهل مكة فاستأمنه له فصمت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) طويلا
---------------------------
(1) تاريخ الطبري ج 5 ص 95 .
الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث
_ 275 _
ثم قال : نعم . فلما انصرف عثمان قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لمن حوله : ما صمتُّ إلا ليقوم اله بعضكم فيضرب عنقه . ثم ولاه عثمان بعد ذلك مصر وعزل عنها عمرو بن العاص . وكان ذلك بدء الشر بين عثمان وعمرو بن العاص ... انتهى ملخصا
(1) .
---------------------------
(1) الاستيعاب ج 3 ص 918 .