ثلاث مرات ، فجاء قبل طلوع الشمس ، فلما ان جاء عرفنا ان له اليه حاجة ، فخرجنا من البيت وكنا عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يومئذ في بيت عائشة ، وكنت في آخر من خرج من البيت ، ثم جلست من وراء الباب فكنت ادناهم الى الباب ، فاكب عليه علي رضي الله عنه فكان آخر الناس به عهدا فجعل يساره ويناجيه (1) .
  رجال اصبهان ومستدرك الحاكم : عن ام سلمة قالت : والذي احلف به أن كان علي لأقرب الناس عهدا لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، عدنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) غداة وهو يقول : جاء علي جاء علي مرارا ، فقالت فاطمة رضي الله عنها : كانك بعثته في حاجة ، قالت : فجاء بعد ، قالت ام سلمة : فظننت ان له اليه حاجة ، فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب وكنت من ادناهم الى الباب ، فاكب عليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وجعل يساره ويناجيه ، ثم قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من يومه ذلك ، فكان علي اقرب الناس عهدا (2) .

---------------------------
(1) خصائص النسائي ص 28 .
(2) رجال اصبهان ج 1 ص 50 ومستدرك الحاكم ج 3 ص 138 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 127 _

   ما تلخص مما سبق :
  وقد ذكرنا ما روى من الأحاديث التي وصلت الينا من رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حق اميرالمؤمنين علي ( عليه السلام ) . وقد صدرت هذه الأحاديث من لسان الوحي ، في احوال مختلفة وازمنة متفاوتة ، وبعبارات متغايرة ، وفي موارد كثيرة ، في طول حياة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  وقد أشرنا في الفصول السابقة الى نتائج ما يستفاد من الأحاديث ، ونشير هنا اجمالا الى الموارد التي استفيد منها مقام الامامة والخلافة لعلي ( عليه السلام ) .
  ولا نريد ان نجهد في اثبات هذا المدعى ، وانما غرضنا ارائة ما وصل الينا من الحقائق ، وانها تذكرة للمتقين ـ ان هذه تذكرة فيمن شاء اتخذ الى ربه سبيلا .
  1 ـ اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي .
  2 ـ واهل بيتي امان لامتي من الاختلاف .
  3 ـ مثل اهل بيتي مثل سفينة نوح .
  4 ـ علي مني وانا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي .
  5 ـ فانه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلالة .
  6 ـ اللهم ائتني باحب خلقك اليك .
  7 ـ من اطاع عليا فقد اطاعني .
  8 ـ يا علي من فارقك فقد فارقني .
  9 ـ افلا ترضى ان تكون مني بمنزلة هارون من موسى .
  10 ـ ألست أولى بالمؤمنين من انفسهم .
  11 ـ يقاتل الناس على تأويل القرآن .
  12 ـ أنا مدينة العلم وعلي بابها .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 128 _

  13 ـ أنت تُبين لامتي ما اختلفوا فيه بعدي .
  14 ـ علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يفترقا .
  فهذه اربعة عشر عنوانا ، كل واحد منها يكفي في الهداية الى ما هو الحق ، أفمن يهدي الى الحق أحق أن يُتّبع أم لا يهدي الا أن يُهدى .
  واذا كنت من هذه الأحاديث على خبرة ، فنشير بعون الله تعالى وتأييده على أحداث حدثت وعلى فتن ظهرت من آخر عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بين الامة الاسلامية ، فانحرف اكثر القوم ، وارتدوا عن سبيل الهدى ، وتركوا أهل بيت المصطفى ، واضلهم الشيطان وضلوا ضلالا مبينا ـ عليكم انفسكم لا يضركم من ضل اذا اهتديتم .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 129 _

فتنة وصية رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )
  الملل والنحل : فأول تنازع في مرضه عليه السلام فيما رواه محمد بن اسماعيل البخاري باسناده عن عبد الله بن عباس ، قال : لما اشتد بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مرضه الذي مات فيه ، قال : ائتوني بدواة وقرطاس اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي ، فقال عمر : قد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله ، وكثر اللغط ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : قوموا عني لا ينبغي عند التنازع .
  قال ابن عباس : الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله (1) .
  أقول : قال الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ، وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ). وقال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ) . وقال تعالى ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِين ) . وقال تعالى ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ).
  ولا يخفى ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما قال : أكتب كتابا لا تضلوا بعدي ، فهموا منه أن الوصية راجعة الى امر مهم يوجب تركه الضلال والانحراف للامة ، وليس هو الا تعيين الخليفة وتأمير الأمير ، وفهموا بالقرائن الماضية والموجودة ان وصيته راجعة الى اهل بيته الأطهار والى علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وكان هذا خلاف نظرهم ، فخالفوا اشد خلاف ، وقالوا ما لا يناسب مقام الرسالة .

---------------------------
(1) الملل والنحل ج 1 ص 13 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 130 _

  مسند أحمد : عن جابر ، ان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دعا عنه موته بصحيفة ليكتب فيها كتابا لا يضلون بعده ، قال : فخالف عليها عمر بن الخطاب حتى رفضها (1) .
  وفي امتاع الأسماع : واشتد به ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وجعه يوم الخميس ، فقال : ايتوني بدواة وصحيفة اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ابدا ، فتنازعوا ، فقال بعضهم : ما له أهجر ؟ استعيدوه ! وقالت زينب بنت جحش وصواحبُها ايتوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بحاجته ! فقال عمر : قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ، من لفلانة وفلانة ـ يعني مدائن الروم ـ ان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليس بميت حتى يفتحها ، ولو مات لانتظرته كما انتظرت بنو اسرائيل موسى ، فلما لغطوا عنده ، قال : دعوني فما أنا فيه خير مما تسألوني (2) .
  أقول : ان كان اعتذار عمر وتعليله في المنع والخلاف ، بقوله ان النبي « ص » ليس بميت حتى يفتحها ، لاعن غرض سياسي ، فهو أقبح من الخلاف والعصيان .   وعلى أي حال ، فالحق ما قال ابن عباس : الرزية كل الرزية للاسلام والمسلمين ما حال بين رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبين أن يكتب وصيته لئلا يضلوا بعده .
  البخاري : باسناده عن سعيد بن جبير سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول : يوم الخميس وما يوم الخميس ثم بكى حتى بل دمعه الحصى ، قلت : يا ابن عباس ما يوم الخميس ؟ قال : اشتد برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وجعه ، فقال : ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا ، فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا : ما له أهجر ؟ استفهموه ! فقال : ذروني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني اليه (3) .
   وفي البخاري ايضا : باسناده مثلها ، وفيها : استفهموه فذهبوا يردون عليه ، فقال :

---------------------------
(1) مسند أحمد ج 3 ص 146 .
(2) امتاع الأسماع ج 1 ص 545 .
(3) البخاري ج 2 ص 126 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 131 _

  دعوني ... الرواية (1) .
  ويروى ايضا : لما حضر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وفي البيت رجال ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ، فقال بعضهم : ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ، فاختلف اهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول قرّبوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ، ومنهم من يقول غير ذلك ، فلما اكثروا اللغو والاختلاف ، قال رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) : قوموا . قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة : فكان يقول ابن عباس ان الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم .
وقريب منها في مسند أحمد : وفيه : فقال عمر : ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد غلب عليه الوجع وعندنا القرآن (2) .
  ويروى : مثلها ، وفيها صرّح بأن القائل هو عمر بن الخطاب . فقال عمر : ان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد غلب عليه الوجع ... الرواية (3) .
  ويروى ايضا : وفيها : قال عمر أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) غلبه الوجع (4) .
  وفي مسلم : عن سعيد بن جبير (5) ، كما في البخاري ج 2 ص 126 .
  ويروى أيضا : قريبا منها بسند آخر (6) . وكذ في مسند أحمد (7) .
  ويروى : باسناده (8) : ، نظير ما في البخاري ج 4 ص 5 .
  ويقول في زاد المسلم : وعبيد الله الناقل لقول ابن عباس هو عبيد الله بن
---------------------------
(1) البخاري ج 3 ص 58 .
(2) مسند أحمد ج 1 ص 366 .
(3) البخاري ج 4 ص 5 .
(4) نفس المصدر ص 167 .
(5) مسلم ج 5 ص 57 .
(6) نفس المصدر ص 76 .
(7) مسند أحمد ج 1 ص 222 .
(8) مسلم ج 5 ص 76 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 132 _

  عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة السبعة ، فهو مذكور في اسناد هذا الحديث في الصحيحين . واللغط بفتحتين هو الصوت والجَلَبة ... وقوله في الحديث يهجر بضم الجيم أي يخلط ويهذي ، وهذا القول خطأ من قائله لأن وقوع ذلك من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مستحيل لأنه معصوم في صحته ومرضه لقوله تعالى ـ وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى ، ولقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : اني لا أقول في الرضا والغضب الا حقا (1) .
  ويقول : وأما قولهم في تفسير حسبنا كتاب الله انه قال تعالى : ما فرطنا في الكتاب من شيء ، وقال تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم : فكل منهما لا يفيد الأمن من الضلالة ودوام الهداية للناس حتى يتجه ترك السعي في تلك الكتابة ، كيف ولو كان كذلك لما وقع الضلال بعد ، مع أن الضلال والتفرق في الأمة قد وقع (2) .
   الطبقات : يقول ابن عباس : يوم الخميس وما يوم الخميس . اشتد بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وجعه ، فقال : ائتوني بدواة وصحيفة اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا ، قال : فقال بعض من كان عنده أن نبي الله ليهجر ! قال : فقيل له : ألا نأتيك بما طلبت ؟ قال : أو بعد ماذا ؟ قال فلم يدع به (3) .
  ويروى أيضا : عن جابر : لما كان في مرض رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي توفي فيه دعا بصحيفة ليكتب فيها لامته كتابا لا يضلون ولا يُضلون ، قال فكان في البيت لغط وكلام وتكلم عمر بن الخطاب ، قال فرفضه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (4) .
  ويروى ايضا : عن عمر بن الخطاب كنا عند النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبيننا وبين الناس حجاب ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : اغسلوني بسبع قرب ، وأئتوني بصحيفة ودواة أكتبلكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا ، فقال النسوة : ائتوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )

---------------------------
(1) زاد المسلم ج 4 ص 18 .
(2) نفس المصدر ص 20 .
(3) الطبقات ج 2 ص 242 .
(4) نفس المصدر ج 2 ص 243 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 133 _

  بحاجته قال عمر : فقلت اسكتن فانكن صواحبه ، اذا مرض عصرتن أعينكن واذا صح اخذتن بعنقه ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : هن خير منكم .
  ويروى أيضا : عن ابن عباس لما حضرت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الوفاة وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ـ كما في البخاري ج 4 ص 5 (1) .
  أقول : يستفاد من هذه الروايات امور :
  الأول ـ ان رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان متوجها الى اختلاف الأمة بعد رحلته وضلالتهم وانحرافهم عن الحقيقة .
  الثاني ـ انهم اختلفوا في محضر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وخالفوا كلامه ، وخالفوا أن يكتب لهم كتابا فيه هديهم ، مع ان الله سبحانه يقول : اطيعوا الله واطيعوا الرسول ، وما آتاكم الرسول فخذوه .
  الثالث ـ انهم قالوا ما لا يقوله الا عدو خصيم ، ونسبوا الى ساحة قدس رسول الله الأكرم ما لا ينسبه الا جاهل أثيم ، وقد قال سبحانه وما ينطق عن الهوى ان هو إلا وحي يوحى .
  الرابع ـ ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد انزجر وتألم بحيث اظهر شدة الإنزجار وقال : ذروني ، ودعوني ، وقوموا عنّي .
  الخامس ـ ان هذه المذاكرة قد وقعت يوم الخميس وقبل اربعة ايام من رحلته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهو يومئذ في اول مرضه ، وكان اشتداد مرضه يوم الأحد ، وفي هذا اليوم عقد لأسامة لواءا بيده ، ثم خرجوا ومنهم أبو بكر وعمر الى معسكر اسامة بالجُرف ، فكيف يجوز نسبة الهجر اليه في ذلك اليوم .
  السادس ـ ان من المخالفين عمر بن الخطاب وقد صرّح باسمه ، والظاهر بل المصرح انه هو القائل بكلمة ( ليهجر ) .
السابع ـ ان عمر بن الخطاب هو القائل ايضا بجملة ( كفانا كتاب الله) مع أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يقول كرارا : اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ما إن

---------------------------
(1) الطبقات ج 2 ص 244 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 134 _

  تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا .
  الثامن ـ ان الله تعالى يقول : ( أَطِيعُوا الرَّسُولَ ) ، ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) ، ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ) . وانهم خالفوا رسول الله ولم يطيعوه في اهم الأمور ، ثم ان عمر بن الخطاب قد خالف كتاب الله في موارد كثيرة ، منها في المعتين ، ومنها في ميراث الأنبياء ، وغيرهما .
  التاسع ـ ان المقصد الأسنى والهدف الأعلى في حياة كل امرىء انما يتحقق بتحقق الوصية وحفظها والعمل بها بعده ، وهذ مُنية كل من أسس اساسا ودوّن قانونا واوجد نظاما وتشكيلا ، واذا فقدت الوصية او لم يعمل بها بعده فقد بطل جميع عمله وانمحى كل آثار وجوده وبقى خاسرا خائبا .
  العاشر ـ يثبت من هذه الروايات ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد توفي وهو منزجر وساخط على عمر بن الخطاب ، وقد صرح به بقوله وعمله قوموا عني ، انهن خير منكم ، فرفضه النبي ، أو بعد ماذا .
  ونعم ما يقول ابن عمر في موضوع الاستخلاف :
  في الطبقات : ان ابن عمر قال لعمر بن الخطاب : لو استخلفت ! قال : من ؟ قال : تجتهد ، فإنك لست لهم برب تجتهد ، ارأيت لو أنك بعثت الى قيّم ارضك ألم تكن تحب أن يستخلف مكانه حتى يرجع الى الأرض ؟ قال : بلى ، قال : أرأيت لو بعثت الى راعي غنمك ألم تكن تحب أن يستخلف رجلا حتى يرجع (1) .
  أقول : هذا الكلام يؤيد ما ذكرناه آنفا في الأمر التاسع من أن الهدف الأعلى في حياة كل امرىء انما يتحقق بالوصاية ، وهذا أمر فطري ضروري لكل من كانت له جمعية أو رعيّة أو أسس اساسا اجتماعيا ، ولا يختص هذا بمورد معين بل يجري في جميع موارد الغيبة والسفر والبعد عنهم ، ولهذا ترى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يستخلف في مغازيه وفي كل موقع يخرج من المدينة ولو بأيام قلائل ، فكيف يمكن أن لا يستخلف بعد حياته وفي غيبته الدائمة .

---------------------------
(1) الطبقات ج 2 ص 343 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 135 _

  وعلى أي حال فهذا الخلاف اول فتنة ظهرت في الاسلام ، وأول تدبير من المخالفين على الوصية وعلى استخلاف اهل البيت ، ومن هذا الخلاف بدأت الفتن ، ومن هنا ظهر الانحراف ، فللمسلم الحر أن يتوقف في هذه المرحلة ، يحقق عن الحق وعما أراد الله عز وجل ورسوله ، ويبحث عن الصراط الذي يعرّفه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في طول ايام حياته ، ويراجع الأحاديث الواردة في الكتب المعتبرة من أهل السنة ، وقد أدرجنا في هذا الكتاب ما فيه كفاية للمعتبر وانها لهدى للمتقين .

فتنة بعث جيش اُسامة
   الملل والنحل : الخلاف الثاني في مرضه ، انه قال : جهّزو جيش اسامة ، لعن الله من تخلف عنها ، فقال قوم : يجب علينا امتثال امره ، واسامة قد برز من المدينة ، وقال قوم : قد اشتد مرض النبي عليه السلام فلا تسع قلوبنا لمفارقته والحالة هذه ، فنصبر حتى نبصر أي شيء يكون من أمره (1) .
  أقول : قال الله تعالى ـ وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى . وقال تعالى ـ قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم ان اتبع الا ما يوحى اليّ . فمخالفته قولا أو عملا تكشف عن ضعف الايمان بل عن النفاق ، ولا سيما مع هذا التأكيد الأكيد واللعن الصريح على المخالفة . ولا يبعد أن يكون هذا التجهيز المأمور به من جانب الله تعالى في هذا الموقع المخصوص لأميرين أو لأمور مهمة .
  منها ـ أن يتوجه المهاجرون والأنصار في آخر ساعة من حياة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلا أن الخلافة والإمارة الإلهية لا ربط لها بالعناوين الظاهرية ، من المال والمقام والكهولة ، وقد أمّر أسامة بن زيد وهو ابن عشرين سنة على جميع المهاجرين والأنصار ، ومنهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة .
  ومنها ـ أن يخرج رؤوس المهاجرين والأنصار من المدينة حين وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، حتى يمكن اجراء نظره واعمال وصيته في علي اميرالمؤمنين ، حبيب الله وحبيب رسوله ، ولكن تدبير المخالفين في هذه المرتبة الثانية أيضا قد

---------------------------
(1) الملل والنحل ج 1 ص 14 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 137 _

  منع عما يريده رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من اجراء نيته .
  تهذيب ابن عساكر : فقال رجال من المهاجرين ، وكان اشدهم في ذلك قولا عياش بن أبي ربيعة : يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين ، فكثرت القالة في ذلك فسمع عمر بن الخطاب بعض ذلك القول فرده على من تكلم به ، وجاء الى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأخبره بقول من قال ، فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) غضبا شديدا فخرج وقد عصب رأسه بعصابة وعليه قطيفة ، ثم صعد المنبر فحمد الله واثنى عليه ثم قال : أما بعد ، أيها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري اسامة ، فو الله لئن طعنتم في إمارتي اسامة لقد طعنتم في امارتي أباه من قبله ، وأيم الله ان كان للامارة لخليق وان ابنه من بعده لخليق بالإمارة ، وإن كان لأحب الناس اليّ ، وان هذا لمن أحب الناس اليّ ، وإنهما لمُخبآن لكل خير ، فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم ، ثم نزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فدخل بيته وذلك يوم السبت ... وجاء المسلمون الذين سيخرجون مع اسامة يودعون رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وفيهم عمر بن الخطاب ، ورسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : أنفذوا بعث أسامة (1) .
  أقول : اللهم العن من تخلف عن جيش اسامة كما لعنهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، اللهم إنا نتبرّأ ممن اعترضوا على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأغضبوه ، وطعنوا في تأميره وخالفوا أمره ، ولم يطيعوه ولم يسلموا إليه ولم يتجهّزوا ولم يسرعوا السير في حياته .
  البخاري ومسلم : باسناده عن ابن عمر : بعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعثا وأمّر عليهم اسامة بن زيد ، فطعن الناس في إمرته فقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : ان تطعنوا في إمرته فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل ، وأيم الله ان كان لخليقا للإمرة ، وإن كان لمن أحب الناس الي ، وإن هذا لمن أحب الناس اليّ بعده (2) .
  ويروى مسلم ايضا : قريبا منها بسند آخر ، وفيها : فاوصيكم به فإنه من صالحيكم .

---------------------------
(1) تهذيب ابن عساكر ج 1 ص 120 .
(2) البخاري ج 2 ص 187 ومسلم ج 7 ص 131 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 138 _

  ويروى مسند أحمد : قريبا منها (1) .
  الطبقات : فلما أصبح يوم الخميس عقد لاسامة لواءا بيده ، ثم قال : اُغزُ بسم الله وفي سبيل الله فقاتِل من كفر بالله ! فخرج بلوائه معقودا فدفعه الى بُريدة أبن الحُصيب الأسلمي وعسكر بالجُرف ، فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين الأولين والأنصار الا انتُدِب في تلك الغزوة ، فيهم ابوبكر الصديق وعمر بن الخطاب وابو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص ... فتكلم قوم وقالوا يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين ، فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) غضبا شديدا فخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة ، فصعد المنبر ... ثم نزل فدخل بيته ، وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول ، وجاء المسلمون الذين يخرجون مع اسامة يودّعون رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويمضون الى العسكر بالجُرف ، وثقل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فجعل يقول : أنفذوا بعث اسامة ، فلما كان يوم الأحد اشتد برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وجعه ، فدخل اسامة من معسكره والنبي مغمور ، وهو اليوم الذي لدّوه فيه ، فطأطأ اسامة فقبله ورسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يتكلم فجعل يرفع يديه الى السماء ثم يضعهما على اسامة ، قال : فعرفت انه يدعو لي ، ورجع اسامة الى معسكره ، ثم دخل يوم الأثنين وأصبح رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مفيقا صلوات الله عليه وبركاته ، فقال له : اغد على بركة الله فودّعه اسامة وخرج الى معسكره فأمر الناس بالرحيل ، فبينا هو يريد الركوب اذا رسول الله امه ـ أم ايمن قد جاءه يقول : ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يموت ! فأقبل واقبل معه ابو عبيدة فانتهوا الى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يموت فتوفى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حين زاغت الشمس يوم الاثنين لا ثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول ، ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجُرف الى المدينة ... الخ (2) .
ويروى أيضا : إن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعث سرية فيهم ابو بكر وعمر واستعمل عليهم

---------------------------
(1) مسند أحمد ج 2 ص 106 .
(2) الطبقات ج 2 ص 190 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 139 _

  اسامة بن زيد ، فكان الناس طعنوا فيه أي في صغره ... الخ (1) .
  ويروى أيضا : ثم قال : أيها الناس أنفذوا بعث اسامة فلعمري ان قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله ، وإنه لخليق للإمارة وان كان أبوه لخليقا لها ، قال : فخرج جيش اسامة حتى عسكروا بالجُرف وتتام الناس إليه فخرجوا ... الخ (2) .
  أقول : الجُرف بالضم على ثلاثة اميال من المدينة نحو الشام . ولدّ الدواء : صبّه في أحد شقّي الفم .
  ويروى أيضا : فخطب أبو بكر اناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : والله لأن تخطفني الطير أحب اليّ من أن ابدأ بشيء قبل أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، قال : فبعثه أبو بكر الى آبل واستأذن لعمر أن يتركه عنده ، قال : فأذن اسامة لعمر ... الخ (3) .
انساب الأشراف : وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد رأى توجيه اسامة بن زيد في سرية الى الذين حاربهم أبوه يوم مؤتة وأمره أن يوطئهم الخيل ، وعقد له لواء وضم اليه ابابكر وعمر فيمن ضم ، فمرض ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قبل أن ينفذ الجيش ، فأوصى بانفاذه فقال : أنفذوا جيش اسامة فلما استخلف أبوبكر أنفذه ، وكلّمه في عمر لحاجته إليه (4) .   أقول : إن كان مراده من قوله ( فأوصى بانفاذه ) الوصية بالانفاذ بعد رحلته وموته : فهذا خلاف ما ثبت ونقل في الكتب المعتبرة بل وغير المعتبرة أيضا ، وقد مر في الطبقات قوله : وأصبح رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مفيقا فقال له : اُغدُ على بركة الله فودّعه اسامة وخرج الى معسكره فأمر الناس بالرحيل . وان كان مراده من الوصية : الأمر بالأنفاذ وحركة الجيش بالفور ومن غير تأخير ، وهو الصريح من

---------------------------
(1) الطبقات ج 2 ص 249 .
(2) نفس المصدر ج 4 ص 68 .
(3) نفس المصدر ج 4 ص 67 .
(4) انساب الأشراف ج 1 ص 384 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 140 _

  التاريخ والرواية : فكيف يجوز للجيش التهاون والتراخي والتسامح ومخافة امر الرسول ، مع أنه لا ينطق عن الهوى ولا يجوز مخالفته وعصيانه .
  ويروى أيضا : عن ابن عباس خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر ، وكان الناس قد تكلموا في أمره حين أراد توجيههم الى مُؤتة ، فكان أشدهم قولا في ذلك عياش بن أبي ربيعة ، فقال : أيها الناس أنفذوا بعث أسامة ، فلعمري لئن قلتم في إمرته لقد قلتم في إمرة أبيه من قبله ولقد كان أبوه للإمارة خليقا ، وإنه لخليق بها . وكان في جيش اسامة أبو بكر وعمر ووجوده من المهاجرين والأنصار (رض الله عنه ) وخرج فعسكر بالجُرف . فلما قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واستخلف ابو بكر ، أتى أسامة فقال له : قد ترى موضعي من خلافة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأنا الى حضور عمر ورأيه محتاج ، فأنا أسألك تخليفه ! ففعل (1) .
  تهذيب ابن عساكر : فشقّ ذلك على كبار المهاجرين الأولين ودخل على ابي بكر عمر وعثمان وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد ، فقالوا : يا خليفة رسول الله ان العرب قد انتقضت عليك من كل جانب وأنك لا تصنع بتفريق هذا الجيش المنتشر شيئا ، اجعلهم عدة لأهل الردة ترمي بهم في نحورهم ، واخرى لا تأمن على أهل المدينة أن يغار عليها وفيها الذراري والنساء ، ولو تأخرت لغزو الروم ... فقال : والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تأكلني بالمدينة لأنفذت هذا البعث ، ولا بد أن يؤوب منه ، كيف ورسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ينزل عليه الوحي من السماء يقول : أنفذوا جيش أسامة ، ولكن خصلة أكلّم بها أسامة ، أكلمه في عمر يقيم عندنا فإنه لا غنى بنا عنه والله ما أدري يفعل أسامة أم لا (2) .
أقول : والعجب من قول أبي بكر حيث يعترف بأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ينزل عليه الوحي من السماء ، ومع هذا تخلف عن الجيش في زمان حياة رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم يكلم في عمر ايضا حتى يقوم عنده ويتخلف عن الجيش ، وقال الله تعالى ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ) ويقول ( وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ )

---------------------------
(1) نفس السابق ص 474 .
(2) تهذيب ابن عساكر ج 1 ص 122 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 141 _

  فقد فاز فوزا عظيما . ويقول ـ وان تُطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين . ويقول ـ ومن يُطع الرسول فقد ويقول ـ أن اتبع الا ما يوحى اليّ وما أنا إلا نذير مبين . ويقول ـ قل ما يكون لي أن ابدّله من تِلقاء نفسي أن أتبع الا ما يوحى اليّ إني أخاف ان عصيت ربي عذاب يوم عظيم . فياللعجب ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يخاف من العذاب الشديد اذا عصى الوحي ، فكيف ابوبكر وعمر وابوعبيدة وآخرون من المهاجرين ، لم يخافوا في خلافهم وعصيانهم وتساهلهم في الوظيفة المعينة والعمل المتعين المأمور به من الله ورسوله ! وكيف رضوا بالتألم الشديد والايذاء لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في آخر ايام من حياته !
  يقول في امتاع الأسماع : وعقد يوم الخميس لأسامة لواءا بيده وقال : يا اسامة اغزُ بسم الله وفي سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تعذروا ، ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا تمنّوا لقاء العدو ... فخرج اسامة فدفع لواءه الى بُريدة بن الحُصيب ، فخرج به الى بيت اسامة وعسكر بالجُرف ، وخرج الناس ولم يبق أحد من المهاجرين الأولين الا انتُدِب في تلك الغزوة ، كعمر بن الخطاب وأبي عبيدة وسعد بن أبي وقاص وأبي الأعور سعيد بن زيد ، في رجال آخرين ، ومن الأنصار عدة مثل قتادة بن النعمان وسلمة بن اسلم ، فقال رجال من المهاجرين وكان أشدهم في ذلك قولا عياش بن أبي ربيعة ... ثم نزل ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فدخل بيته ، وذلك يوم السبت ... الرواية (1) .

---------------------------
(1) امتاع الأسماع ج 1 ص 536 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 142 _

فتنة قول عمر أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مامات
  الملل والنحل : الخلاف الثالث في موته عليه السلام ، قال عمر بن الخطاب : من قال أن محمدا مات ، قتلته بسيفي هذا ، وإنما رُفع الى السماء كما رفع عيسى بن مريم عليه السلام ، وقال أبوبكر بن قحافة : من كان يعب محمدا فإن محمدا قد مات ومن يعبد إله محمد فإنه حي لا يموت ، وقرأ هذه الآية ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) فرجع القوم الى قوله ، وقال عمر : كإني ما سمعت هذه الآية حتى قرأها أبوبكر(1) .
  أقول : هذه فتنة اخرى ثالثة ، ظهرت حين رحلة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهل كان هذا القول تدبيرا آخر حتى يصرف الناس عن التوجه الى موته ، والإقبال الى أهل بيته الى أن يتعين الخليفة ؟ او كان منشأه الاشتباه والجهالة بموت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
  والظاهر أنه مستند الى علل اخرى ، فإن الحكم بأن عمر كان غافلا وجاهلا بهذا الموضوع في غاية البعد . واعجب منه قوله : من قال ان محمدا مات قتلته بسيفي هذا .
  مسند أحمد : عن انس ، فقام عمر فقال : ان رسول الله لم يمت ولكن ربه أرسل إليه كما أرسل إلى موسى ، فمكث عن قومه اربعين ليلة ، والله إني لأرجو أن يعيش رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى يقطع أيدي رجال من المنافقين وألسنتهم يزعمون ان رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد مات (2) .

---------------------------
(1) الملل والنحل ج 1 ص 15 .
(2) مسند أحمد ج 3 ص 196 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 143 _

  تاريخ الطبري والسيرة النبوية : لما توفي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قام عمر بن الخطاب فقال : ان رجالا من المنافقين يزعمون ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد توفى ، وان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مامات ولكنه ذهب الى ربه كما ذهب موسى بن عمران ، فقد غاب عن قومه اربعين ليلة ثم رجع اليهم بعد ان قيل قد مات ، ووالله ليرجعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كما رجع موسى ، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مات ، قال وأقبل ابوبكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر ... قال عمر : والله ما هو الا ان سمعت أبا بكر تلاها ، فعُقرت حتى وقعت الى الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد مات (1) .
  ويقول في السيرة : عن ابن عباس : والله إني لأمشي مع عمر في خلافته ... فقال يا ابن عباس هل تدري ما كان حملني على مقالتي التي قلت حين توفي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟ قال : قلت : لا أدري يا أميرالمؤمنين أنت أعلم ! قال : فإنه والله إن كان الذي حملني على ذلك الا اني كنت أقرأ هذه الآية ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) فوالله ان كنت لأظن ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سيبقى في امته حتى يشهد عليها بآخر اعمالها (2) .
  أقول : هذا الاعتذر أسوء وأقبح من الخطأ الأول لأنه يلزم أيضا على هذا التفسير : طول بقاء الأمة حتى يكونوا شهداء على الناس ، بل يجب كونهم موجودين من اول القرون الى آخرها ، مع أن الخطاب في قوله تعالى ( عَلَيْكُمْ ) لا يختص بالمشافهين الموجودين ، بل يعم جميع المسلمين الى يوم القيامة .
  والمراد من الشهادة الإحاطة والتوجه الرواحاني لا الجسماني .
  سنن الدارمي : فقام عمر فقال : ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يمت ولكن عرج بروحه كما عرج بروح موسى ، والله لا يموت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى يقطع أيدي أقوام وألسنتهم ، فلم يزل عمر يتكلم حتى أزبَد شِدقاه بما يوعد ويقول ، فقام العباس

---------------------------
(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 197 ، والسيرة النبوية ج 4 ص 305 .
(2) السيرة النبوية ج 4 ص 312 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 144 _

  فقال : أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد مات وأنه لبشر وإنه يأسن كما يأسن البشر ، أي قوم فادفنوا صاحبكم فإنه اكرم على الله من ان يُميته إماتتين ! أيُميت أحدكم أماته ويُميته اماتتين ! وهو أكرم على الله من ذلك ، أي قوم فادفنوا صاحبكم ، فإن يك كما تقولون فليس بعزيز على الله أن يبحث التراب ... الخ (1) .
  أقول : يعلم من ذلك أن من قام وخطب بعد عمر هو العباس لا أبوبكر .   الطبقات : ويروى قريبا من الدارمي (2) .
  ويروى أيضا : عن عائشة لما توفي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) استأذن عمر والمغيرة بن شعبة فدخلا عليه فكشفا الثوبعن وجهه ، فقال عمر : واغشيا ما أشد غشي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ثم قاما فلما انتهيا الى الباب قال المغيرة : يا عمر مات والله رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال عمر : كذبت ما مات رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولكنك رجل تحوشك فتنة ولن يموت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى يفني المنافقين ، ثم جاء أبوبكر وعمر يخطب الناس فقال له ابوبكر : اسكت ... الخ (3) . ( الحوش : الجمع والسوق ) .
  ويروى ايضا : عن أبي هريرة : دخل ابوبكر المسجد وعمر بن الخطاب يكلم الناس ، فمضى حتى دخل بيت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي توفي فيه وهو في بيت عائشة ، فكشف عن وجه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) برد حبرة كان مسجى به ، فنظر الى وجهه ثم اكبّ عليه فقبّله فقال : بأبي أنت والله لا يجمع الله عليك الموتتين ، لقدمت الموتة التي لا تموت بعدها ثم خرج ابوبكر الى الناس في المسجد وعمر يكلمهم فقال أبوبكر : اجلس يا عمر ، فأبى عمر أن يجلس ، فكلمه أبوبكر مرتين أو ثلاثا فلما أبى عمر أن يجلس قام أبوبكر فتشهد ، فأقبل الناس اليه وتركوا عمر ... الخ (4) .

---------------------------
(1) سنن الدارمي ج 1 ص 39 .
(2) الطبقات ج 2 ص 266 .
(3) الطبقات ج 2 ص 267 .
(4) نفس المصدر ص 268 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 145 _

  ويروى ايضا : عن عائشة ان النبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) مات وابوبكربالسُنح ، فقام عمر فجعل يقول : والله مامات رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ... الخ .
  أقول : يعلم من ذلك أن من قام وخطب بعد عمر هو العباس لا أبوبكر .
  الأول ـ من معارف بعضهم : أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مامات ، وأن من يعتقد موته فهو منافق ، ثم يرجع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )ويقطع يديه ورجليه .
  الثاني ـ ومن أحاطته بالقرآن الكريم وآياته : انه يقول والله ما هو الا أن سمعت ابابكر تلاها « أي تلى آية ـ أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم » ، ويقول ـ في حديث الطبقات عن أبي هريرة ـ والله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية انزلت .   الثالث ـ ومن علومه في التفسير : أنه يزعم أن مقتضى آية ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) هو ادامة حياة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليكون شهيدا على الأمة ، شهادة حسية خارجية .
  الرابع ـ ومن إطلاعاته التاريخية : انه يزعم أن موسى بن عمران عُرج بروحه وبقى جسده خاليا عن الروح مدة اربعين يوما ثم رجع روحه الى جسده ( وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً ) ... الآية .
   الخامس ـ ومن تشخيصاته الطبية المزاجية : أنه زعم بعد كشف الثوب عن وجه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه مامات بل غُشي عليه .
   السادس ـ ومن فتاويه الفقهية : أنه زعم أن رسول الله يرجع ويقطع أرجل وأيدي من يدّعي موته .
  السابع ـ ومن شدة محبته وعلاقته لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أنه بعد أن علم موته وأيقن رحلته ، أعرض عنه وعن تجهيزاته وتوجه مع أبي بكر والجراح الى سقيفة بني ساعدة لتعيين السلطان .
  الثامن ـ وليعلم أن هذه المراتب بعد أربعة ايام من قوله أن النبي ليهجر وكفانا كتاب الله .
  التاسع ـ يظهر منها أنه وكذلك ابوبكر ما كانا حاضرين عند

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 146 _

  رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حين ما حضر ثم جاءا بعد رحلته .
  وفي ذيل رواية الطبقات عن عائشة : فنشج الناس يبكون ( بعد كلام أبي بكر ) واجتمعت الأنصار الى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة ، فقالوا منا أمير ومنكم أمير ، فذهب اليهم ابوبكر وعمر وأبوعبيدة بن الجراح ، فذهب عمر يتكلم فاسكته ابوبكر ، فكان عمر يقول : والله ما اردت بذلك الا أني قد هيأت كلاما قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه ابوبكر ... الخ (1) .
  ويروى أيضا : عن انس أنه سمع عمر بن الخطاب حين بويع ابوبكر في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، واستوى ابوبكر على منبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، واستوى ابوبكر على منبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : تشهد قبل أبي بكر ثم قال : أما بعد فإني قلت لكم أمس مقالة لم تكن كما قلت ، وإني والله ما وجدتها في كتاب أنزله الله ولافي عهد عهده اليّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقال كلمة يريد حتى يكون آخرنا ، فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم ، وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسولكم فخذوا به تهتدوا لما هُدي له رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (2) .
  اقول : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول كرارا ـ إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ، ولكن عمر بن الخطاب لا يذكر اسما من العترة .
  أو لا يتذكر عمر بن الخطاب أن كتاب الله يحتاج الى مبيّن وعالم بحقائقه وظواهره وبواطنه ؟ أو لا يتذكر قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعلي : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ؟ أو لا يتذكر قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : من كنت أنا وليه فعلي وليه اللهم انصر من نصره واخذل من خذله ؟ أو لا يتذكر قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعلي : أنت ولي كل مؤمن بعدي وأنت مني وأنا منك ؟ أو لا يتذكر قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : مثل اهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجى ؟
  وسيجيء تفصيل الكلام في الفتن الآتية .

---------------------------
(1) الطبقات ج 2 ص 268 .
(2) نفس المصدر ص 271 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 147 _

فتنة سقيفة بني ساعدة
  الملل والنحل : الخلاف الخامس في الامامة واعظم خلاف بين الامة خلاف الامامة ، اذ ما سُلّ في السيف في الاسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الامامة في كل زمان ، وقد سهّل الله تعالى ذلك في صدر الأول ، فماختلف المهاجرون والأنصار فيها ، وقالت الأنصار منا أمير ومنكم أمير ، واتفقوا على رئيسهم سعد بن عبادة الأنصاري فاستدركه ابوبكر وعمر في الحال بأن حضرا سقيفة بني ساعدة ، وقال عمر : كنت ازوّر في نفسي كلاما في الطريق ، فلما وصلنا الى السقيفة اردت ان أتكلم ، فقال أبوبكر : مه يا عمر ! فحمد الله وأثنى عليه وذكر ما كنت اقدّره في نفسي كأنه يخبر عن غيب ، فقبل أن يشتغل الأنصار بالكلام مددت يدي اليه فبايعته وبايعه الناس ، وسكنت النائرة ، الا أن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها ، فمن عاد الى مثلها فاقتلوه ، فأيما رجل بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين تغرّة أن يُقتلا ، وإنما سكنت الأنصار عن دعواهم لرواية أبي بكر عن النبي عليه السلام ( الأئمة من قريش ) . وهذه البيعة هي التي جرت في السقيفة ، ثم لما عاد الى المسجد انثال الناس عليه وبايعوه عن رغبة ، سوى جماعة من بني هاشم وابي سفيان من بني امية ، واميرالمؤمنين عليّ كرم الله وجهه كان مشغولا بما أمره النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من تجهيزه ودفنه وملازمته قبره ، من غير منازعة ولا مدافعة (1) .
  أقول : في هذا الكلام موارد للنظر والتحقيق :

---------------------------
(1) الملل والنحل ج 1 ص 16 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 148 _

  1 ـ جريان السقيفة : من اتفاق الأنصار على سعد ، واستدراك أبي بكر وعمر في الحال ، وتزوير عمر في الكلام ، وذكر أبي بكر ما كان يُزوره ، ومد عمر يده للبيعة قبل كلام الأنصار ، وكون بيعته فلتة ومن عاد الى مثلها فيجب قتله ، ولزوم كون البيعة مع مشورة المسلمين .
  2 ـ استدلال أبي بكر في مقاله ودعواه : بحديث ( الأئمة من قريش ) وسكوت الأنصار في مقابل هذا الكلام . ويؤيده قول اميرالمؤمنين ( عليه السلام ) : استدلوا بالشجرة واضاعوا الثمرة .
  3 ـ قوله : وبايعوه عن رغبة ، اشارة الى أن بيعة السقيفة كانت لاعن رغبة بل بالاستدراك والتزوير ومد اليد وبالفلتة .
  4 ـ قوله : سوى جماعة من بني هاشم وأبي سفيان .
  5 ـ قوله وكان اميرالمؤمنين مشغولا بما أمره النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  الفائق : الحباب رضي الله عنه قال يوم سقيفة بني ساعدة حين اختلف الأنصار في البيعة ـ أنا جُذيلها ( بصيغة التصغير ) المحكك وعُذيقها المرجّب منا امير ومنكم امير (1) . الجِذل ( بالكسر ) : عود ينصب للابل الجَربى تَحتك به فتستشفى ، والمُحكك الذي كثر به الاحتكاك حتى صار مُملّسا ، والعَذق بالفتح النخلة ، والمرجب : المدعوم بالرجبة ، وهي خشبة ذات شعبتين وذلك اذا طال وكثر حمله . والمعنى اني ذو رأي يشفي بالاستضاءة به كثيرا في مثل هذه الحادثة وأنا في كثرة التجارب والعلم بموارد الأحوال فيها وفي امثالها ومصادرها كالنخلة الكثيرة الحمل .
  الفائق : قال عمر بن الخطاب لأبي عبيدة : ابسط يدك لاُبايعك ، فقال : ما رأيت منك ، أو ما سمعت منك فهّة في الاسلام قبلها ، أتُبايعني وفيكم الصديق ثاني اثنين (2) .
   قال الزمخشري : فهّ الرجل فهّة اذا جاءت منه سقطة أو جهلة .
  ويروى : قال ابوبكر يوم سقيفة بني ساعدة : منا الأمراء ومنكم الوزراء ،

---------------------------
(1) الفائق ج 1 ص 181 .
(2) الفائق ج 2 ص 305 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 149 _

  والأمر بيننا وبينكم كقد الأبلمة . فقال حباب بن المنذر : أما والله لا نفس أن يكون لكم هذا الأمر ، ولكننا نكره أن يلينا بعدكم قوم قتلنا آباءهم وابناءهم . وقال الحباب ايضا :

أنا  الذي لا يصطلى بناره      ولا ينام الناس من سُعاره (1)
  وقال الزمخشري : القد هو القطع طولا . والأبلمة خوصة المقل ، وهي اذا شقت تساوى شقاها . ولا يصطلي بناره : مثل فيمن لا يتعرض لحربه . والسعار حر السعير .
  أقول : هذا الكلام صريح في رضا أبي بكر بوزارة الأنصار وتقسيم الأمر بين المهاجرين والأنصار على التساوي كقدّ الأبلمة .
  تاريخ الطبري : ثم قال ابوبكر : إني قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر أو أبا عبيدة ، ... فقام عمر فقال : ايكم تطيب نفسه أن يخلف قدمين قدّمهما النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فبايعه عمر وبايعه الناس . فيقالت الأنصار أو بعض الأنصار : لا نبايع الا عليا (2).
  ويروى : فقال سعد : صدقت ، فنحن الوزراء وأنت الأمراء ، فقال عمر : ابسط يدك يا ابابكر فلاُبايعك ، فقال ابوبكر : بل أنت يا عمر فأنت أقوى لها مني ، وكان عمر أشد الرجلين ، قال ، وكان كل واحد منها يريد صاحبه يفتح يده يضرب عليها ، ففتح عمر يد أبي بكر وقال : أن لك قوّتي مع قوّتك ، فبايع الناس واستثبتوا للبيعة ، وتخلف عليّ والزبير واخترط الزبير سيفه وقال لا اغمُدُه حتى يبايع عليّ ، فبلغ ذلك ابابكر وعمر فقال عمر : خذوا سيف الزبير فاضربوا به الحجر ! قال : فانطلق اليهم عمر فجاء بهما تعبا وقال : لتُبايعان وأنتما طائعان أو لتبايعان وأنتما كارهان فبايعا (3) .
  ويروى : قام عمر فحمد الله وأثنى عليه وقال : أما بعد ، فإني أريد أن أقول

---------------------------
(1) الفائق ج 2 ص 321 .
(2) تاريخ الطبري ج 3 ص 198 .
(3) نفس المصدر ص 199 .

الحقائق في تاريخ الاسلام والفتن والاحداث _ 150 _

  مقالة قد قُدّر أن أقولها ... ثم أنه بلغني أن قائلا يقول : لو قد مات اميرالمؤمنين بايعت فلانا ، فلا يغرّن امرءا أن يقول أن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، فقد كانت كذلك غير أن الله وقى شرها وليس منكم من تقطّع اليه الأعناق مثل أبي بكر ، وأنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ان عليا والزبير ومن معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة ، وتخلفت عنا الأنصار بأسرها واجتمع المهاجرون الى ابي بكر ، فقلت لأبي بكر : انطلق بنا الى اخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نؤمّهم فلقينا رجلان صالحان قد شهدا بدرا ، فقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين ؟ فقلنا : نريد اخواننا هؤلاء من الأنصار ، قالا : فارجعوا فاقضوا أمركم بينكم ، فقلنا : والله لنأتينهم ، قال : فأتيناهم وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة ، قال واذا بين أظهرهم رجل مزّمل ، قال قلت : من هذا ؟ قالوا سعد بن عبادة ، فقلت ما شأنه ؟ قالوا : وجع ، فقام رجل منهم فحمد الله وقال : أما بعد فنحن الأنصار وكتيبة الاسلام وأنتم يا معشر قريش رهط نبينا وقد دفّت الينا من قومكم دافة ، قال : فلما رأيتهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ويغصبونا الأمر وقد كنت زوّرت في نفسي مقالة اقدّمها بين يدي أبي بكر ، وقد كنت أداري منه بعد الحد ، وكان هو أوقر مني وأحلم ، فلما أردت أن أتكلم قال : على رسلك ، فكرهت أن أعصيه ، فقام فحمد الله وأثنى عليه ، فما ترك شيئا كنت زورت في نفسي أن أتكلم به لو تكلمت الا قد جاء به أو بأحسن منه ، وقال : أما بعد يا معشر الأنصار فإنكم لا تذكرون منكم فضلا الا وأنتم له أهل ، وأن العرب لا تعرف هذا الأمر الا لهذا الحي من قريش وهم أوسط دارا ونسبا ولكن قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، فبايعوا أيهما شئتم ... فلما قضى أبو بكر كلامه قام منهم رجل فقال : أنا جُذيلها ... فارتفعت الأصواب وكثر اللغط ، فلما أشفقت الاختلاف قلت لأبي بكر : أبسط يدك أبايعك (1) .
  كذا في مسند أحمد باختلاف (2) .

---------------------------
(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 200 .
(2) مسند أحمد ج 1 ص 55 .