والثاني : ردع الانحراف الاجتماعي ، بابلاغ المنحرفين علنا بان انحرافهم لا يمر دون ثمن باهض يدفعونه لصالح الضحية وبالتالي لصالح النظام الاجتماعي ، وهذا الضمان ليس واضحاً في نظام العقوبات الرأسمالي ، حيث يترك القانون الرأسمالي للقاضي او لهيئة المحلفين تعيين قيمة ذلك الضمان عند اقراره ، واذا كان المنحرف لا يملك مالاً ضاع حق الضحية في التعويض المالي ، على عكس النظام الاسلامي الذي يتعهد فيه بيت المال بدفع الدية اذا عجز القاتل او عاقلته عن دفعها .
ثالثا : عامل الدقة في تشخيص العقوبات الخاصة بمختلف الانحرافات ، ففي الوقت الذي حددت فيه الشريعة القتل العمد وارجعته الى قصد القتل او الفعل القاتل ، والقتل شبيه العمد وارجعته الى العمد في فعله والخطأ في قصده ، والقتل الخطأ وارجعته الى ارادة الفرد شيئاً فاصاب غيره ، فانها وضعت طرقاً دقيقة للاثبات ، منها الاقرار مرة واحدة ، والبينة الشرعية وهي شهادة العدلين ، واللوث او القسامة وهو تحليف المدعي وعشيرته في حالة قيام القرينة مع عدم استجماع شرائط القبول خمسين حلفاً ، وبذلك وضع النظام الاسلامي المجتمع وجهاً لوجه امام الانحراف ، بالمشاركة الجماعية في اسستثصاله .
واضاف انه لا قصاص على المجنون ولا على الصبي ، ولكن دية انحرافهما تؤخذ من العاقلة ، لأن عمد الصبي والمجنون وخطأهما واحد ، في نفس الوقت الزم المكلف البالغ بمسؤوليته في دفع الانحراف الاجتماعي ، بحيث ان الفرد لو اعتدى على آخر بجرح او قطع او ذهاب منفعة مهما كنت يسيرة ألزمه بتحمل مسؤوليتها كاملة .
رابعاً : العامل الاجتماعي في دفع الدية ، وهو ما اصطلح عليه شرعاً بالعاقلة وهي عصبة القاتل وعشيرته التي تتحمل دية الخطأ كاملاً ، فاذا لم تكن له عاقلة .
تعين على المعتق دفع الدية ، فاذا لم يكن ، فضامن الجريرة ، وفي انعدامه يكون الامام (ع) او بيت المال مسؤولاً عن دفعها للمجنى عليه ، وتعتبر الدية في القتل العمد وشبه العمد في مال الجاني ، ولكنه اذا هرب اخذت من ماله ان كان له مال ، والا فمن قرابته الاقرب فالاقرب ، فان لم تكن له قرابة ، دفعها الامام (ع) مباشرة ، اما العامد المتمكن مالياً ، فانه يمهل في دفع الدية مدة سنة واحدة ، بينما تمهل العاقلة ثلاث سنين .
ولا شك ان اشراك العاقلة في دفع الدية واشراك القسامة في التحليف حالة اللوث ، تعتبر ان من اهم العوامل الرادعة للانحراف الاجتماعي ، لان الفرد ، لكونه كائناً اجتماعياً ، يرتبط بعشيرته ومحلته وقريته بروابط الزواج والاخوة والاسرية والمصلحة الاجتماعية ، وهذه الروابط تقلل من فرص زيغه عن النظام الاجتماعي العام ، وتجعل الجريمة التي يرتكبها فضيحة اجتماعية تجلب عليه وعلى اسرته وعشيرته وصمة لا تمحو آثارها السنون ، اما اذا كانت الجناية خطأ ، فن مشاركة العصبة او العشيرة في تسديد ثمنها المالي ، يعتبر بمثابه المشاركة الجماعية في مساعدة العائلة المفجوعة ، وتقويتها امام المحن والمصاعب الاقتصادية القادمة .
ويمكننا تلخيص اهمية العاقلة في المشاركة في دفع دية الخطأ بالنقاط التالية :
1 ـ ان مساهمة العاقلة في دفع دية الخطأ يخفف من تحمل الفرد كاهل دفع تلك الدية لوحده ، هو مبلغ هائل ، كما تبين لنا ذلك في الصفحات الماضية .
2 ـ ان مساهمة العاقلة في دفع الدية يساهم في تقوية العلاقات والاواصر الاجتماعية بين ابناء العشيرة الواحة ويجعلها تقف متحدة في المحن والمصائب التي يتعرض لها افرادها .
3 ـ ان جمع مبلغ الدية عن طريق العاقلة يخفف من العبء الذي تتحمله عائلة المجنى عليه ، خصوصاً اذا عجز الجاني عن تسديد ذلك المبلغ ، فتصبح العائلة المفجوعة ضحية لجريمة اقتصادية ومعايشة خارجة عن ارادتها ، فتكون العاقلة عندئذ وسيلة ضمان لاستلام الدية .
خامساً : ان القيمومة الشرعية على الاسرة هو المقياس في مقدار الدية ، وليس تفضيل جنس على جنس كما يدعيه اعداء النظرية الدينية ، فدية قتل الذكر المسلم عمداً الف دينار ذهب او نحوه ، ودية المرأة الحرة المسلمة على النصف من اصناف الديات الست ، سواء كانت الجناية عليها عمداً او خطأ او شبه عمد ، صغيرة كانت او كبيرة ، عاقلة كانت او مجنونة ، وكذلك الجراح والقطع والشجاج فانه يتساوى مع الرجل قصاصاً ودية الى حد الثلث ، فان زاد عن الثلث رجعت ديتها على النصف من الرجل .
وقد ذكرنا سابقاً ان مقادير هذه الديات لم توضع لتقدير قيمة المرأة ، فيكون مقدارها نصف قيمة الرجل ، بل ان الاسلام اراد منها معالجة وضع ما بعد الجريمة .
الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج
ـ 95 ـ
فالرجل المقتول الذي يفترض فيه ان يكون معيلاً لعائلة ما ، تذهب ديته الى عائلته التي افتقدت المعيل ، فيكون الدخل المقدر بالف دينار ذهب او نحوه ضمان لنفقات العائلة المعيشية ، اما المرأة المقتولة ، فان ديتها المقدرة بنصف دية الرجل تدخل وارد الرجل الذي يفترض فيه ان يكون قيماً على عائلته ، زوجة كانت المجنى عليها او اختا او بنتا ، ودليل آخر على مساواة الاسلام للمرأة والرجل في نظام العقوبات ، هو ان حد القذف وحد المسكر وهو ثمانون جلدة يتساوى فيه القاذف والشارب ، ذكراً كان أو أنثى
.
سادساً : ان عقوبة الاجهاض في النظام الاسلامي ، تعتبر من ادق العقوبات التي جاءت بها الشريعة السماوية ، فقسمت ديتها بحسب عمر الجنين ، ففي النطفة المستقرة في الرحم عشرون ديناراً ، وفي العلقة اربعون ، وفي المضغة ستون ، وفي العظم ثمانون ، وفي الجنين التام الذي لم تلجه الروح مائة دينار ، وفي الجنين الذي ولجته الروح دية كاملة .
وفي حين حل الاسلام مشكلة الاجهاض من الصميم قبل نشوء الثورة الصناعية بقرون ، الا ان قضاة النظام الرأسمالي يحاولون لحد اليوم الاجابة على السوال الذي يناقش أحقية المرأة في الاجهاض ، فمنذ تشريع المحكمة العليا الامريكية سنة 1973 م القاضي بشرعية الاجهاض في قضية ( جين رو ضد هنري ويد ) ، والقانون يتبدل بين شد وجذب ، ويمين ويسار ، وجواز وحرمة ، وكلما يتبدل عضو من اعضاء المحكمة العليا يتبدل القانون الخاص بالاجهاض ، وهذا الاضطراب دليل قوي على فشل النظام الرأسمالي في معالجة مشاكل قضائية خطيرة عالجها الاسلام بكل دقة قبل اربعة عشر قرناً من الزمان .
الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج
ـ 96 ـ
سابعاً : شرعية الدفاع عن النفس ، وهو حق مشروع اقره الاسلام وحث عليه ، بل اوجبه دفاعاً عن نفس ومال وعرض الفرد بكل الوسائل الممكنة كجرح المهاجم او قتله ، ولا يتحمل المدافع أية مسؤولية شرعية تجاه المهاجم ، ولكن لا يجوز للمدافع التعدي الى القتل مع امكان الدفع بالجرح مثلاً ، واذا تعدى الى القتل بلا لزوم ، ضمن الدية .
ثامناً : ومع ان الاصل في تشريع العقوبات معالجة الانحراف ، الا ان الاسلام لم يترك جانب مساعدة المحرومين وتثبيت اسس العدالة الاجتماعية ، فشرع كفارة القتل ، حيث اوجبها اضافة الى الدية في قتل المؤمن عمداً ، او شبه العمد ، او الخطأ المحض ، ففي قتل المؤمن عمداً وظلماً اوجب كفارة الجمع ، وفي قتل شبه العمد والخطأ المحض الكفارة المرتبة ، ولا شك ان هذا اللون من الكفارات يصب في مصلحة الفقراء ايضاً ، خصوصاً الاطعام ، تسليما كان او دعوة لهم لتناول وجبة غذائية كاملة .
لان كل انحراف او معصية تعالجها الكفارة الكبيرة الخاصة بالاطعام ، تشبع ستين مسكيناً ، حيث يتوجب اكتمال عدد الذين ينبغي اطعامهم ، فلا يجزي اشباع الفرد مرتين .
وهذه النظرة الانسانية في النظام الاسلامي ترفع الطبقة الفقيرة ، بجانب الموارد الحقوقية الاخرى ، الى مستوى الطبقة العامة من الناس .
الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج
ـ 97 ـ
2 ـ جرائم ضد الملكية :
وبطبيعة الحال ، فان النظرية الاسلامية الخاصة بالعقوبات الجنائية تنظر الى الجرائم المتعلقة بالملكية نظرة خاصة وترتب عليها عقوبات صارمة ، لان ضمان سلامة حقوق الناس من تعدي الآخرين تعتبر من أهم اسباب استقرار النظام الاجتماعي وتطوره الاقتصادي ، وتقسم النظرية الاسلامية ، الجرائم المتعلقة بالملكية الى قسمين ، الاول :
الانحرافات التي تؤدي الى سلب الملكية من مالكها قهراً وظلماً كالغصب ويتحقق بصدق الاستيلاء عرفاً على حق الغير ، والثاني : السرقة وهي سلب مال الغير المودع في حرز سراً وفيها شروط ، والسرقة اشد من الغصب ، ولذلك اوجب الشارع الحد فيها على السارق دون الغاصب ، وحتى نفهم احكام الاسلام في الغصب والسرقة ، لابد من دراسة معنى وضع اليد على الشيء .
أحكام اليد
المراد بوضع اليد على الشيء ان يستطيع صاحبها التصرف بذلك الشيء تصرف المالك في ملكه ، كمن ملك داراً فاحب أن يسكنها او يستاجرها او يوهبها ، فله مطلق الحرية في التصرف بملكه ، والاصل ، ان وضع اليد يدل على الملك ، والعبرة فيها هو الصدق العرفي .
ولا شك ان وضع اليد على الاموال يدل على الملكية ايضاً ، سواء كانت الاعيان منقولة او غير منقولة ، وقد اتفق الفقهاء على ان وضع اليد على الملك لا يثبت الا بشرطين ، الاول : جهل كيفية ابتدء وضع اليد على
الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج
ـ 98 ـ
العين ، والثاني : قابلية العين بطبيعتها للنقل والانتقال ، والتملك والتمليك ، فاذا كانت وقفاً تسقط اليد عن الدلالة على الملك .
وبالاجمال فان كان ما كان تحت استيلاء شخص وفي يده بشكل من الاشكال فهو محكوم بملكيته له ، سواء من الاعيان او المنافع او الحقوق او غيرها ، فلو كانت في يده ارض زراعية موقوفة مدعياً انه هو المتولي ، يحكم بكونه متولياً على تلك الارض ، ولو تنازع اثنان في عين مثلاً ، فان كانت تحت يد احدهما فالقول قوله بيمينه ، وعلى غيره البينة ، ولو تنازع الزوجان في متاع البيت سواء حال الزواج او بعد الطلاق فيكون المتاع المختص بالرجال كألبستهم ومقتضياتهم ملك للرجل ، وما يكون للنساء كألبسة
النساء ومقتضياتهن ملك للمرأة ، وما يكون للرجال والنساء ملك لهما معاً .
الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج
ـ 99 ـ
الغصب :
والمقصود به ، الاستيلاء على مال الغير دون اذن المالك ، عيناً كان او منفعة ، وبتعبير الفقهاء ( الاستقلال باثبات اليد على مال الغير عدواناً )
(1) .
وهو على انواع :
1 ـ غصب عين مع منفعة ، كغصب الدار من مالكها .
2 ـ غصب عين بلا منفعة ، كغصب المستأجر العين المستأجرة انتزاعاً من مالكها في مدة الاجارة .
3 ـ غصب منفعة مجردة ، كأخذ المؤجر العين المستأجرة انتزاعا من يد المستأجر والاستيلاء على منفعتها مدة الاجارة .
4 ـ غصب حق مالي متعلق بعين ، كالاستيلاء على عين مرهونة بالنسبة الى المرتهن الذي له فيها حق الرهانة .
وللغصب حكمان تكليفيان وحكم وضعي ، وللحكمان التكليفيان : هما الحرمة ووجوب الرد على مالكه ، او وليه وجوباً فورياً ، ويجري هذان الحكمان التكليفيان في جميع اقسام الغصب ، فالغاصب آثم فيها ويجب عليه الرد ، والحكم الوضعي ، وهو ضمان اليد بمعنى كون المغصوب على عهدة الغاصب ، فاذا تلف المغصوب وجب على الغاصب دفع بدله ، عيناً كان او منفعة .
ويتحقق الغصب بصدق الاستيلاء على الشيء ، كأن يقهر مالك الدار
**************************************************************
(1) شرائع الاسلام ج 3 ص 235 .
الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج
ـ 100 ـ
بمغدرتها ويأمر اهله بسكن تلك الدار ، او يطرد راع لقطيع من الغنم ويستولي بعدئذ على غنمه ، او يجبر مزارعاً على ترك مزرعته ليحتلها بعد ذلك ، الى غير ذلك من الحالات .
وقد شدد الاسلام على حرمة غصب اموال الناس ، وحرم التصرف بالمال مطلقاً الا مع العلم بالاذن الشرعي ، لقوله تعالى : ( ولا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل )
(1) وعوم قوله (ص) : ( لا يحل مال امرئ مسلم الا عن طيب نفس منه )
(2) وقول الامام : ( الحجر الغصب في الدار رهن على خرابها )
(3) وقوله (ص) : ( من غصب شبراً من الارض طوقه من سبع ارضين )
(4) .
**************************************************************
(1) البقرة : 188 .
(2) الكافي ج 7 ص 274 .
(3) الوسائل ج 17 ص 309 .
(4) كنز العمال ج 10 ص 639 .
الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج
ـ 101 ـ
موجبات ضمان الغصب :
واجمع الفقهاء على انه يحرم على الغاصب التصرف في الشيء المغصوب ، بل يجب عليه شرعاً رد العين المغصوبة ، او رد بدلها ان تلفت ، كما ذكرنا ذلك سابقاً ، وحصروا موجبات الضمان في مواضع :
1 ـ المباشرة ، سواء كان المتلف عيناً كحرق الثوب ، او منفعة كسكنى الدار .
2 ـ التسبيب ، وهو ( هو كل فعل يحصل التلف بسببه )
(1) ومصداقها قاعدة الغرر .
3 ـ اليد ، ومصاديقها العارية ، والمقبوض بالعقد الفاسد ، والمقبوض بالسوم .
4 ـ اجتماع المباشرة والتسبيب .
1 ـ المباشرة : وهو مباشرة الفرد اتلاف مال الغير بنفسه ، كأن يكسر اناءاً او يقطع شجرة ، او يهدم بيتاً ، قاصداً كان ام غافلاً ، عاقلاً كان ام مجنوناً ، بالغاً كان ام صبياً ، فعلى المباشر ، في هذه الحالات ، الضمان ، لان الخطابات الوضعية تشمل الجميع ، واذا اتلف الطفل او المجنون مال الغير ، يتحتم على الولي دفع البدل ان كان لهما مال ، والا انتظر المالك الميسرة ، ويعتبر المتلف الضامن غاصباً في كل الحالات ، فان كان عاقلاً اثم مع تحقق الضمان ، ان كان قاصراً او مجنوناً لم يأثم ولكن عليه او على وليه الضمان لان الخطابات الشرعية الوضعية غير مقيدة بالعلم او الجهل ، ولا العمد او
**************************************************************
(1) شرائع الاسلام ج 3 ص 237 .
الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج
ـ 102 ـ
الخطأ .
2 ـ التسبيب : وهو اتيان الفرد بفعل يوجب التلف ، ولو بضميمة فعل آخر معه ، كالحفر الذي يؤدي الى وقوع المارة في وجرحهم ، بمعنى انه لو لم يتم الحفر لما وقع التلف ، وفي حالة التسبيب يتوجب على الفاعل المسبب ان يدفع للمالك بدل التالف من المثل والقيمة ، لقول الامام الصادق (ع) : ( كل شيء يضر بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه ) .
وفي حالات معينة لا يضمن الفاعل المسبب ، التلف ، ومثالها : ( ان من ارسل في ملكه ماء او اجج ناراً لمصلحته فتعدى الماء او النار الى ملك غيره فافسده واضر به لا يضمن شيئاً ، بشرط ان لا يزيد على مقدار حاجته من الماء والنار اولاً ، وان لا يظن ان عمله مضر بغيره ثانياً ، لانه ماذون شرعاً بالتصرف ، وحديث ( الناس مسلطون على اموالهم ) لا يمنع من العمل به مانع )
(1) .
وعلى نفس الصعيد ، اذا منع الظالم ، مالكاً من التصرف في ملكه ، دون أن يستولي عليه ، كأن منعه من السكن في داره ، ثم تصدعت بعد ذلك ، ذهب المشهورين بين الفقهاء الى ( ان الظالم يأثم ولا يغرم ، لان يده لم تثبت على العين ، فلا يكون غاصباً )
(2) .
واذا منعه الظالم من بيع سلعته ، ثم تضررت قيمتها السوقية دون ان يصيب البضاعة ذاتها ضرر ، يأثم الظالم ولكنه لا يغرم ، لانه لم يفوت عليه العين ، بل فوت عليه الربح ، ولا ضمان في ذلك .
**************************************************************
(1) المسالك ـ باب الغصب .
(2) المسالك ـ باب الغصب .
الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج
ـ 103 ـ
ولكن في حالة حبس الفرد القادر على العمل والانتاج ، ظلماً وعدوانا ، قال بعض الفقهاء ( عليه ضمان عمله ، لان في عدم الضمان ضرراً عظيماً ، فانه يموت هو وعياله جوعاً ، مع كون الحابس ظالماً معتدياً ، وجزاء سيئة سيئة مثلها ، والقصاص ، ونحو ذلك )
(1) وفي حالة غصب الحيوان ، فعلى الغاصب ضمانه وضمان منافعه .
ومن مصاديق التسبيب ايضاً قاعدة الغرر ، ومثالها : بيع الفرد مال غيره بعنوان انه المالك ، وتصرف المشتري بينة صحة البيع ، ثم يتبين غش البائع وتدليسه .
3 ـ اليد : وهي من اسباب الضمان ، ويمكن توضيحها بالمثال التالي : اذا استولى فرد على مال الغير بلا اذن فقد دخل في عهدة الغاصب وعليه مسؤولية تلفه اذا تلف ، وعليه ارجاعه الى مالكه عيناً او ارجاع عوضه عن التلف ، ولا يفرق سواء تعمد الاستيلاء عليه كالسارق ، او استولى عليه خطأ ، كمن اشتبهت عليه حاجته مع حاجة غيره ، لعموم : ( على اليد ما اخذت حتى تؤدي )
(2) ، الا ما خرج بدليل خاص كالولي والوصي والوكيل ونحوهم .
ويلحق باسباب الضمان عن طريق اليد :
أ ـ العارية : وهي عارية الذهب والفضة وغيرهما مع شروط الضمان ، فيضمنها المستعير مع عدم التعدي والتفريط .
ب ـ المقبوض بالعقد المعاوضي الفاسد ، فالمبيع او المثمن الذي يأخذه
**************************************************************
(1) مفتاح الكرامة ـ باب الغصب .
(2) مستدرك الوسائل ج 3 ص 145 .
الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج
ـ 104 ـ
المشتري ، والثمن الذي اخذه البائع في البيع الفاسد يكون ضمانهما كالمغصوب ، سواء كانا عالمين بالفساد ، اولا ، كذلك الاجرة التي يأخذها المؤجر في الاجارة الفاسدة ، لعوم ( على اليد ما أخذت حتى تؤدي ) ، ولان ( كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ) .
ج ـ المقبوض بالسوم : وهو اخذ المشتري الحاجة من اجل شرائها ، فتتلف في يده قبل ان يتم الشراء ، فعلى المشتري الضمان .
4 ـ اجتماع المباشرة والتسبيب : وفيه حالتان :
الاولى : ان يكون المباشر اقوى من المسبب ، فعليه الضمان ، ومثالها : ان يحفر زيد حفرة ، فيأتي عمرو ويدفع خالداً نحوها فيقع فيها ويموت ، فالضمان هنا يثبت على الدافع دون الحافر ، لان مباشرته اقوى من السبب .
الثانية : ان يكون المسبب اقوى من المباشر ، فعليه الضمان ، ومثالها : التغرير وهو سرقة اموال الناس والتصدق بها بعنوان تملكه لها ، فيأخذها المحتاج ويتصرف بها معتقداً حلها ، فيكون المسبب ، وهو السارق ، ضامناً دون المباشر ، وهو المحتاج ، لانه لولا الغرر لما حصل التصرف في المال ، بناء على قاعدة تقول بان الضمان يستقر في النهاية على من تلف المال في يده الا اذا كان صاحب اليد مغرراً به ، ومثالها ايضاً : الاكراه على اتلاف المال ، فيكون المكره ضامناً دون المباشر ، لان المباشر ، في هذه الحالة ، اضعف من المسبب .
الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج
ـ 105 ـ
مسؤولية الغاصب :
وبطبيعة الحال ، فان من مسؤولية الغاصب الشرعية رد المادة المغصوبة فوراً الى صاحبها ، وعليه مؤنة الرد مهما بلغت ، فاذا غصب اخشابا وبنى عليها داره مثلاً ، هدم البناء اذا توقف رد الخشب على الهدم
(1) واذا غير الغاصب صفة الشيء المغصوب ، كمن غصب حديداً وعمل منه آلة معينة ، وجب على الغاصب رد المغصوب مع الارش ان نقصت قيمته السوقية ، اما اذا ازدادت قيمة المغصوب فلا شيء للغاصب ، واذا تلفت العين المغصوبة وجب على الغاصب رد بدلها مثلاً او قيمة المغصوب الى المالك ، حتى لو كن سبب التلف طبيعياً ، ويجب اولاً رد العين مع الامكان لان المالك صاحبها ، والا فالمثل مع الامكان لان المثل مساو للعين في الجنس والصفات ، وان لم يقدر فالقيمة لانها الطريق الوحيد لتخليص الذمة ، والمراد بالمثلي في كلام الفقهاء هو الذي له مثل ، بمعنى انه مساو له في جميع ما له مدخلية في ماليته من صفاته الذاتية لا العرضية ، وما عدا ذلك فهو قيمي ، ومع رده ( لا يرد زيادة القيمة السوقية وترد الزيادة لزيادة في العين او الصفة )
(2) وقيل ان على الغاصب دفع اعلى قيم المغصوب من حين الغصب الى حين التلف
(3) ( لان الغاصب مأخوذ باشق الاحوال لمكان تعديده فناسب عقوبته بضمان الزائد ، ولانه مضمون عليه في جميع حالاته فالزائد
**************************************************************
(1) شرائع الاسلام ج 3 ص 239 .
(2) شرائع الاسلام ج 3 ص 239 .
(3) السرائر لابن ادريس ص 276 .
الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج
ـ 106 ـ
مال تلف على المالك فيكون مضموناً على الغاصب ، ولان نقص الصفة انما ضمن بسبب نقص القيمة فيكون اولى بالضمان )
(1) .
وعل صعيد آخر ، يضمن الغاصب ، المنافع المباحة للمالك ، فاذا اغتصب داراً فعليه ارجاعها وارجاع منفعتها من تأخير او نحوه الى المالك ، واذا اغتصب شجرة ذابلة ، فسقاها حتى اينعت ، ثم عادت الى الهزالة مرة أخرى ، فعلى الغاصب ارجاعها الى المالك يانعة ، لان الصفات تتبع العين ، سواء حصلت عند المالك او الغاصب ، فاذا تخلفت او فاتت بعض الصفات في يد الغاصب ، ضمنها للمالك .
ولكن اذا اغتصب فرد ارضاً فزرعها ، يكون الزرع حنيئذ للغاصب ، الذي يصيبه الاثم فق على عمله ، وترجع الارض لمالكها ، لقوله (ع) عندما سئل عن فرد زرع ارض فرد آخر بغير اذنه ، حتى اذا بلغ الزرع جاء صاحب الارض فقال : زرعت بغير اذني ، فزرعك لي ، وعلي ما انفقت ، أله ذلك ام لا ؟ : ( للزارع زرعه ، ولصاحب الارض كراء ارضه )
(2) .
**************************************************************
(1) التنقيح الرائع ج 4 ص 70 .
(2) التهذيب ج 7 ص 206 .