( الجريمة ) في المجتمع الرأسمالي الامريكي :
وبطبيعة الحال ، فان النظرية الرأسمالية تعتقد بان الجريمة وهي مخالفة قانونية او انتهاك حرمة يقوم بها الفرد ، يجب ان تخضع لمتغيرين عمليين حتى ينطبق عليها مفهوم الانحراف :
الأول : ان يكون العمل الجرمي عملاً يربك النظام الاجتماعي .
الثاني : ان تفشل السيطرة على الجريمة باستخدام اسلوب المقاطعة الاجتماعية فقط ضد المنحرف ، بمعنى آخر ، انه اذا كان الانحراف اكبر من المقاطعة الاجتماعية المجردة ، اصبح ذلك الانحراف عملاًُ جرمياً يستدعي تدخل القانون والدولة لحماية المجني عليه ضد الجاني .
واذا ثبت الجريمة ثبت العقاب الذي تتناسب شدته مع درجة عنفها ووحشيتها ، وعلى ضوء درجة عنف الانحراف وتأثيره على الافراد في النظام الاجتماعي ، تقسم النظرية الاجتماعية الجرائم الى اربعة اقسام وهي : جرائم العنف ، وجرائم بدون ضحايا ، وجرائم الممتلكات ، وجرائم الطبقة العليا المسيطرة على النظام الاجتماعي .
وتختلف الجرائم في النظام الاجتماعي الرأسمالي من اقليم لآخر ، الا ان القاسم المشترك والقدر المتعين فيها هو ان الانحراف مرآة لجشع الرأسمالية ونتيجة طبيعية لانعدام العدالة الاجتماعية ، ففي نظام جنوب افريقيا مثلاً يعتبر القانون انظمام الطالب ذو البشرة السوداء الى جامعة خاصة بالطلبة البيض جريمة تستحق العقاب ، وفي بريطانيا يعتبر النقد اللفظي القريب من الاهانة لرئيس الدولة الرمزي ( الملك او الملكة ) جريمة جنائية ، بينما لا يعتبر
الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج
ـ 24 ـ
ذلك في الولايات المتحدة ، وتتدخل الشركات الراسمالية ، من الناحية القانونية ، بشؤون النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة عن طريق لجان المنفعة التجارية ، بينما يعتبر ذلك جرما في بلدان اخرى ، والاصل الذي تقوم عليه النظرية الاجتماعية الرأسمالية هو ان الجريمة مرتبطة بالنظام الاجتماعي الطبقي ، فاصل واساس الانحراف ، يزعمها ، انما ينشأ عن طريق الطبقة الفقيرة وعليه يترتب انزال العقوبات الرادعة بحق المنحرفين ، وفي الوقت الذي تؤكد فيه النظرية الرأسمالية على مسألة ارتباط الفقر بالجريمة ، تغض النظر عن الانحرافات التي تمارسها الطبقة الرأسمالية المسيطرة ، وتحاول سترها بشتى الوسائل القانونية ، وهذا الاسلوب الرأسمالي المسيطرة ، وتحاول سترها بشتى الوسائل القانونية ، وهذا الاسلوب الرأسمالي هو الذي اعطى نظرة الصراع الاجتماعي زخماً وقوة في ادعائها الزاعم بان القانون انما وضع اصلاً لخدمة الطبقة الراسمالية .
جرائم العنف :
وهي جرائم القتل والاغتصاب والسطو المسلح التي تقع في المجتمع الرأسمالي وخصوصاً المجتمع الامريكي دون رحمة ، ويزيد من وحشية هذه الجرائم ان نصف عددها يرتكب من قبل اقارب المجنى عليهم ، وان نصف عددها ايضاً يقع بين الافراد من البشرة السوداء ، الذين تتجاوز نسبتهم عشرة بالمائة من اجمالي نسبة السكان ، ويرجع السبب في انتشار الجريمة بين الطبقات الفقيرة الى التفاوت الطبقي في النظام الرأسمالي ، فاغلبية هؤلاء الافراد ينشأون ضمن عوائل ممزقة ، مدمنة على الكحول والمخدرات والامية والبطالة ، فلا تحمل الحياة لديهم اية قيمة اجتماعية ، او سياسية ، فاذا فقد المرء حياته فلا يخسر الا الفقر والحرمان ، وكأني بلسانه يقول مرحباً
الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج
ـ 25 ـ
بالموت ، فتراب الحرية اشرف لي من هواء الظلم والاستعباد ، وبذلك يعتبر النظام الاجتماعي للولايات المتحدة من أكثر الانظمة الصناعية الرأسمالية عنفاً واجراماً .
فالجرائم التي تقع في مدينة نيويورك وحدها مثلاً ، قد تعادل نسبة الجرائم الواقعة في عدة دول افريقية او اوروبية مجتمعة ، ومن ملاحة عدد الاسلحة النارية التي يحملها الافراد دفاعاً عن انفسهم يتبين لنا حجم المشكلة الاجرامية في المجتمع الامريكي ، ففي نهاية القرن العشرين يحمل افراد هذا المجتمع البالغ عددهم مائتين وخمسين مليون نسمة حوال ستين مليون قطعة سلاح ناري ، ومرجع انتشار السلاح بهذا الشكل الواسع امرين ، الاول : نص الدستور على ان تملك السلاح حق شخصي لا يجوز للنظام القضائي او السياسي منعه او تحريمه ، والثاني : الدفاع عن النفس باعتبار ان النظام القضائي وجهاز الشرطة لا يستطيعان حماية كل فرد من اعتداءات المنحرفين .
جرائم ضد الممتلكات :
وهي على انواع ، منها : جرائم الغصب ، وهي السيطرة على ممتلكات الآخرين بالقوة وادعاء ملكيتها ، ومنها : ارتكاب اعمال تؤدي الى تلف هذه الممتلكات كالحريق المتعمد للبيوت والبنايات لاستلام تعويضات التأمين .
ومنها : استخدام الاجهزة بشكل ينافي مصلحة المالك كسرقة سيارة لقضاء حاجة معينة ثم تركها على الطريق .
وهذه الجرائم اكثر انتشارا من غيرها لانها ايسر اولا ، من جرائم العنف ، وثانياً : ان اغلب هذه الجرائم وليدة حاجة انسانية لم يشبعها المجتمع ، وثالثاً : انها وليدة الرغبة في الانتقام من النظام الاقتصادي الذي يشبع طرفاً ويحرم طرفاً آخر ، فالفقر عامل رئيسي
الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج
ـ 26 ـ
في انتشار هذا اللون من الجرائم بين افراد النظام ، لان انعدام العدالة يدفع الافراد الى البحث عن مصادر للعيش قد لا تنسجم مع العرف القانوني للمجتمع الرأسمالي ، واذا اضفنا امراض الفقراء في الرأسمالية كالادمان على الكحول والمخدرات ، تبين لنا ان هذه العوامل قلبت مفاهيم الفرد ونظرته الانسانية نحو الاعتدال وجعلته فردا يعيش على هامش الحياة البشرية دون امل .
جرائم بدون ضحايا :
وينظر مناصرو النظرية الراسمالية الى جرائم المقامرة والبغاء والانحراف الخلقي باعتبار انها جرائم لا تنتج ضحايا فالمقامر لا يضر الا نفسه اذا خسر ، والمرأة التي تمتهن الفاحشة لا تخسر الا سمعتها ، والشاذ خلقيا يشذ عن المجرى الاجتماعي العام فحسب ، وكل هؤلاء لا يضرون المجتمع كنظام ، بل يضرون انفسهم على الصعيد الشخصي ، ولذلك فان جرائمهم تعتبر في العرف الاجتماعي بدون ضحايا ، وبعد ان تتنكر النظرية الرأسمالية لخطورة هذه الجرائم ، تعود وتعترف بمشقة السيطرة على هذا اللون من الانحراف .
لان الجريمة هنا ليست نزاعا بين متخاصمين ، ولا دعوى مقامة من قبل مدعي ضد مدعى عليه ، فالمقامر الخاسر لا يستطيع ان يقيم دعوى قضائية ضد
المقامر الرابح ، لانهما سلكا هذا السلوك بمل ارادتهما ، والمرأة الفاحش لا تستطيع اقامة دعوى قضائية ضد زبائنها ، لانها اختارت لنفسها ان ترتزق من هذا السبيل ، والشاذ خلقياً سلك هذا المسلك لاشباع انحرافه وشذوذه ، وحتى التفكير باعتبار هذه الاعمال جرائم ، له من يعارضه في المجتمع الرأسمالي لسببين ، الاول : ان هذه
الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج
ـ 27 ـ
الممارسات جميعاً لو اعتبرت جرائم يعاقب عليها القانون ، لاستدعى ذلك ايجاد قوة كبيرة من جهاز الشرطة ، واستلزم التهيؤ لبناء سجون واسعة لاعتقال كل فرد يمارس هذ الاعمال ، وهذا الامر مستحيل من الناحية الاقتصادية الرأسمالية ، لان المجتمع الراسمالي مبني على اساس المنفعة التجارية ، والعقوبة الاخلاقية لا تدر ربحاً ولا تجلب رزقاً .
والثاني : لو افترضنا ان هذا الاعمال اعبرت جرماً فان عدم قانونيتها سيدفع الافراد المتنفذين في النظام الاجتماعي الى تنشيط دوائر الجريمة المنظمة بمعنى ان منع الافراد من ممارسة شهواتهم بشكل علني وقانوني ، يؤدي الى ممارستها بشكل سري ولكن بكلفة باهضة .
ومع ان بعض الانظمة الراسمالية تحرم القمار والبغاء وتحصره في اماكن خاصة الا ان اصل الفكرة الراسمالية تنادي بعدم معاقبة الافراد الذين يرتكبون هذه الجرائم بدعوى انها جرائم بدون ضحايا .
جرائم الطبقة العليا :
وهي جرائم يرتكبها افراد الطبقة الرأسمالية العليا ويفلتون من العقوبات المترتبة على ممارستها ، امثال : التحايل على دفع الضريبة الحكومية وتلويث الانهار والهواء بمواد كيميائية تنتجها شركات كبيرة يمتلكها الرأسماليون ، والتلاعب بالاسعار ، ودفع الرشاوي لكبار السياسيين ، وترتكب هذه الجرائم تحت مظلة النشاط التجاري ، فيستطيع هؤلاء الافراد من الطبقة المسيطرة من لوي عنق القانون لمصلحتهم الشخصية ومصلحة شركاتهم ، فالقانون الرأسمالي لا يدين الافراد ، الذين يرتكبون هذه الجرائم ، بصفتهم
الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج
ـ 28 ـ
الشخصية ، بل يدين الشركات والمصانع المنحرفة بصفتها المؤسسية ، بمعنى ان اقصى ما يستطيع ان يفعله القانون في النظام الرأسمالي تجاه الشركات المداننة في ارتكاب اعمال اجرامية هو فرض غرامات مالية معينة عليها وقت التجريم ، او غلقها كعقوبة قصوى ، بينما لا يمس القانون موظفيها ومدراءها ومالكيها باي اذى ، ولو تم تجريم هذه المصالح التجارية فهي لا تجبر على المثول امام المحاكم الجنائية بل تمثل امام هيئات خاصة يشكلها مجلس النواب او الشيوخ ، وبمعن آخر ان هذه المؤسسات التي مارست انحرافاً لا تحاكم بالقسوة التي يحاكم بها الافراد من الطبقات الاخرى ، وهذا اللون من الانحراف قد يكلف النظام الاجتماعي اموالاً تقدر بحوالي عشرين ضعف الاموال المسروقة جراء جرائم العنف وجرائم الملكية ، وعلى ضوء هذه المعلومات فان المرء يستطيع ان يقول باطمئنان ان الاغنياء المنحرفين في النظام الرأسمالي يسرقون عشرين مرة اكثر من الفقراء المنحرفين ، وفي اغلب الاحيان لا يعاقبهم القانون كما يعاقب المجرمين من الطبقة الفقيرة .
الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج
ـ 29 ـ
( المجرم ) في النظام الرأسمالي :
ويلعب المركز الاجتماعي في النظام الرأسمالي دوراً اساسياً في تشخيص المنحرف وتحديد عقوبة انحرافه ، فاذا ثبتت الجريمة ضد الجاني من الطبقة الرأسمالية العليا ، فان مركزه الاجتماعي ونشاطه السياسي وعلاقاته مع اقطاب النظام ، تلعب دوراً رئيسياً في تحديد العقوبة الصادرة بحقه ، حيث تستطيع كل هذه العوامل توظيف القانون لصالح الجاني ، فالقوانين الرأسمالية المتمثلة بتعليق العقوبة ، وبدائل العلاج وخدمة الادارة المحلية بدل الخدمة في السجن ، والكفالة المالية ، انما وضعت اساسا لمعالجة الجنايات التي يرتكبها الجناة من افراد الطبقة الرأسمالية العليا ، فانحراف اصحاب مؤسسات التأمين العملاقة ، وملاك المؤسسات الصحية الكبيرة ، وفحول المؤسسات العسكرية عن الالتزام بالقوانين المتفق عليها ، او تحايلهم في دفع الضرائب ونهبهم اموال المستهلكين ، يجعلهم عرضة للملاحقات القضائية ، ولكن تأثير هده المؤسسات الرأسمالية العملاقة على المؤسسة السياسية والقضائية والتشريعية يساهم في الالتفاف حول القانون المدني والجنائي المتفق عليه اجتماعياً ، ولما كان التفاوت في شدة العقوبة الجنائية والمدنية واسعاً ، اصبح استرجاع الحق موكولاً لمحامي الدفاع ، والنائب العام ، وهيئة المحلفين ، والقاضي . بمعنى ان القضية الحقوقية خرجت من يد المدعي والمدعى عليه والقاضي ، ودخلت في مناورات محامي الدفاع والنائب العام ، حيث يصبح المال والوجاهة السياسية والمنزلة الاجتماعية محط انظار رجال المحكمة والقضاء ، خلافاً لما تستدعيه العدالة القضائية من تجرد وحياد مطلق