البويهي ، والأيوبي الفاطمي ، وكيفية نشوء الحركات الشيعية في الأمصار ، وذلك فيه التجسيم الحقيقي للصراع بين الرفض والإذعان ، أو قل صراع الأصوليين الإسلاميين ضد الحكّام الأمويين أو العباسيين ومن حذا حذوهم .
لأنّ أصحاب النهج الحاكم ـ أمويّين وعباسيّين و غيرهم ـ كانوا يَدْعُون إلى اتّباع سيرة الشيخيين على نحو الخصوص .
أما الثوار والمعارضون من الطالبيين فكانوا يذهبون إلى شرعية خلافة الإمام عليّ وأولاده المعصومين ويَدْعون الناس إلى اتّباع نهج عليّ وولده .
وقد بدأ الخلاف بين النهجين أولاً في موضوع الخلافة ومن هو الأحّق بها ، وهل هناك تنصيب من الله ، أم أنّ الأمر شورى بين الأمة ـ أو أصحاب الحَلّ والعقد منهم ـ ؟ ثمّ انجرّ هذا الخلاف إلى الشريعة ، فوجدنا أحكاماً تُغيَّر وأخرى تُستحدَث ، إما دعماً لمواقف الخليفة ، أو للتعرف على رجال الطالبيين ، أو لغيرهما من العلل والأسباب .
وقد استفحل هذا الخلاف بعد مقتل عثمان بن عفان ، فانقسم المسلمون إلى فئتين كبيرتين :
فجلّ أهل البصرة وأهل الشام كانوا ذوي أهواء عثمانيّة في الانتماء الفكري والسياسي ، وأهل الكوفة والأنصار من أهل المدينة وعدد كبير من أهل الحجاز كانوا علويّي الفكرة والعقيدة .
وبعد استشهاد الإمام عليّ وصلح الإمام الحسن تم استيلاء معاوية بن أبي سفيان على الحكم ، فغلبت العثمانيّة على مجريات الأحداث وانحسر الطالبيّون فبدؤوا يعيشون حالة التقيّة .
وإنّما جئنا بهذا الكلام كي نوضح بأن عملنا في هذا الفصل سيكون في محورين لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر ، لانهما وجهان لعملة واحدة ،
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 348 ـ
هما :
1 ـ المحور السياسي .
2 ـ المحور التشريعي .
فقد نفرض أن يتغاضى الحاكم الأموي عن شعارية ( حيّ على خير العمل ) في بعض الأحيان ، لكن ذلك لا يعني رضاه وسكوته عن ذلك في كلّ الحالات ، لأنّ الحيعلة الثالثة كما علمت لها جانبان تشريعي صلاتيّ وعقائدي سياسي ، فإذا كان الإتيان بها منحصراً في حدّ المسألة التشريعية سكت الحكام عنها على مضض ، وإن اتّخذت طابعها العقائدي السياسي قامت قيامتهم واستبدّ بهم الغيظ ، لأنّ معناها العقائدي السياسي هو فرع لمعناها التشريعي الصلاتي الذي هو ( محمّد وآل محمّد خير البرية ) و ( الولاية ) و ( بِرّ فاطمة وولدها ) ، وهذا البعد التشريعي يتلوه البعد السياسي الذي يعني أنّهم أحقّ بالخلافة والحكم من الآخرين .
فلو دعا الإمام الباقر أو الصادق إلى جزئيتها في العهد الأموي ، أو أتى بها عليّ بن الحسين ، فقد يسكت الحاكم عنه على مضض ، لكن ليس معنى هذا سكوتهم كذلك عن الطالبيين الثوار لو أذّنوا ب ـ ( حيّ على خير العمل ) ، لأنّ الأمويّين لو أرادوا معارضة الإمامين الصادق والباقر وقبلهما الإمام عليّ بن الحسين ، لفتحت أمامهم جبهة جديدة هم في غنى عنها في تلك المرحلة من تاريخ المعارضة ، ولدخل الأمر في إطاره السياسي قبل أوانه .
ذلك أنّ الأمة الإسلامية بدأت تعي الأوضاع بعد شهادة الإمام الحسين سنة 61 هـ ، وأخذت تتّضح لها معالم الظلم والمكر الأموي وسعيه لهدم الإسلام ، لأنّ ما فعله يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بعترة رسول الله واستحلاله المدينة المنورة لثلاثة أيام وضربه مكّة وغير ذلك كان كلّ واحد منها كافياً لإحداث هذا
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 349 ـ
التحول الفكري لدى عامّة الناس .
نعم ، هاجت عواطف الشيعة وغيرهم بمقتل الإمام الحسين ، فتلاوموا وتنادموا لعدم إغاثتهم الإمام عليه السلام ، وقد كانت حصيلة هذا الهياج الجماهيري هو نشوء حركة شيعية باسم حركة التوّابين ( 61 ـ 64 هـ )
(1) ثمّ تلتها حركة المختار ابن أبي عبيد الثقفي ( 64 ـ 67 هـ ) ثمّ قيام زيد بن عليّ ( 122 هـ ) بالعراق ، وابنه يحيى ( 125 هـ ) بخراسان ، وعبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب الذي قاد حركته في سنة ( 128 هـ ) في إصفهان .
فالامويون والعباسيّون في حدود المسألة التشريعيّة لا يمكنهم الوقوف أمام تأذين عليّ بن الحسين ومحمّد الباقر وجعفر الصادق بـ ( حيّ على خير العمل ) ، لوجود أمثال عبدالله بن عمر وأبي أمامة بن سهل بن حنيف وغيرهما ممن أذّن بها .
على أنّه يمكن حمل سكوت الأمويين هذا على أنّهم استهدفوا من عملهم هذا هدفاً سياسياً ، وهو التعرّف على الطالبيين وتجمّعاتهم ، وقد وضحنا سابقاً في كتابنا ( وضوء النبيّ ) أنّ الطالبيين هم المعارضون الحقيقيون للحكومتين الأموية والعباسية .
واستقراراً على هدفهم هذا سعوا أن يجمعوا الأمة على فقه يخالف فقه الإمام عليّ بن أبي طالب ، الذي فيه الجهر بالبسملة ، والجمع بين الصلاتين ،
 |
(1) وصف الطبري في تاريخه 5 : 558 هذه الحركة بقوله ( فلم يَزَل القوم في جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال ، ودعاء الناس في السرّ من الشيعة وغيرها إلى الطلب بدم الحسين ، فكان يجيبهم القومُ بعد القوم ، والنّفرُ بعد النّفر ، فلم يزالوا كذلك وفي ذلك حتّى مات يزيد بن معاوية ) عام 64هـ ، فالثوار قدموا ثورتهم بموته في حين كان ضمن مخططهم الثورة على يزيد وعلى النظام الحاكم عام 65 هـ ، فلم يفلحوا في ذلك .
|
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 350 ـ
وعدم مسح الخفّين ، والمسح على الارجل ، والتكبير على الميت خمساً ، وغيرها من الأمور الشرعية ذات البُعد الشعاري التي استخدمها النهج الحاكم للتعرف على جماعات الطالبيين .
وفي هذه الظروف وهذا الخضمّ كان من الطبيعي أن تكون الحيعلة الثالثة من تلك المسائل الشرعية السياسية التي كان للحكام من وراء حذفها ومحاربتها هدف بل أهداف .
وفي قبالة ذلك التيار الجارف نجد أن الإمامين الباقر والصادق كانا يدعوان إلى الحيعلة الثالثة ، ويؤكّدان على شرعيتها بدون خوف واكتراث من السلطة ، لكن الأمر نفسه لم يكن عند الثوار في ظروف التعبئة السريّة ، بل كانوا يتّقون ويخافون من تعرف السلطة على مواقعهم العسكرية وتجمعاتهم الثورية ، فلم يقولوا ب ـ ( حيّ على خير العمل ) إلاّ في الصحراء وحين يأمنون مكر السلطة .
ومن المعلوم أنّ الدولة العباسية أُسست على شعار الرضا من آل محمّد
(1) وأنهم قد تذرعوا بطلب ثار الشهداء من أبناء فاطمة : الحسين بن عليّ ، زيد بن عليّ بن الحسين ، وولده يحيى وسواهم .
لكنّهم سرعان ما قلبوا للعلويين ظهر المجنّ فلم يَفُوا بما عاهدوا عليه الأمة ، ولم يحافظوا على الدلالة الصادقة لمقولة ( الرضا من آل محمّد ) ، بل نقضوا ما بايعوا عليه محمّد بن عبدالله بن الحسن ( النفس الزكية ) قبل الانتصار .
وبعد خيانة العباسيين لشعار الرضا من آل محمّد ، ادّعَوا أنّهم أولى بالخلافة من العلويين ، لمكان العبّاس عم الرسول ، وأنه أولى بالنبي من عليّ وفاطمة وأبنائها! وهنا كان من الطبيعي أن تغيظهم الحيعلة الثالثة المشيرة إلى أولوية
 |
(1) انظر : تاريخ الطبري 7 : 358 احداث سنة 129 و 7 : 390 احداث سنة 130 هـ وغيرهما .
|