وفي بعض الآثار أنّ أمّ هاني قالت : فقدتُه صلى الله عليه وآله وسلم ـ وكان نائماً عندي ـ فامتنع منّي النوم مخافةَ أن يكون عرض له بعض قريش .
  ويقال : أنّه تفرّقت بنو عبدالمطلّب يلتمسونه ، ووصل العبّاس إلى ذي طُوى وهو ينادي : يا محمّد ، يا محمّد ، فأجابه صلى الله عليه وآله وسلم .
   فقال : يا ابن أخي ، أعيَيْتَ قومك! أين كنت ؟     قال : ذهبتُ إلى بيت المقدس .
   قال : مِن ليلتك ؟!    قال : نعم .
   قال : هل أصابك إلاّ خير ؟    قال : ما أصابني إلاّ خير ، وقيل غير ذلك (1) .
   وفي روضة الكافي عن الصادق عليه السلام قال : لمّا أسري برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصبح فقعد فحدَّثهم بذلك ، فقالوا له : صِفْ لنا بيت المقدس .
قال : فوصف لهم ، وإنّما دخله ليلاً فاشتبه عليه النعت ، فأتاه جبرئيل فقال : انظر هاهنا ، فنظر إلى البيت فوصفه وهو ينظر إليه ، ثمّ نعت لهم ما كان من عِير لهم فيما بينهم وبين الشام ، ثمّ قال : هذه عير بني فلان تَقدِم مع طلوع الشمس يتقدّمها جملٌ أورَق أو أحمر .
   قال : وبعثت قريش رجلاً على فرس ليردّها ، قال : وبلغ مع طلوع الشمس ، قال قرطة بن عبد عمرو : يا لَهفا!! ألاّ أكون لك جذعاً حين تزعم أنّك أتيت بيت المقدس ورجعت من ليلتك! (2) وفي أمالي الصدوق بإسناده عن الإمام الصادق عليه السلام قال : لمّا أسري برسول

(1) تفسير روح المعاني 15 : 6 سورة بني إسرائيل الآية 1 ، الدر المنثور 4 : 149 سورة الإسراء الآية 1 .
(2) روضة الكافي 8 : 262 / الحديث 376 ، وانظر : الدرّ المنثور 4 : 148 ـ 149 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 77 ـ
  الله إلى بيت المقدس حمله جبرئيل على البُراق ، فأتَيا بيت المقدس وعرض عليه محاريب الأنبياء وصلّى بها وردّه ، فمرّ رسول الله في رجوعه بعِيرٍ لقريش ، وإذا لهم ماء في آنية وقد أضلّوا بعيراً لهم وكانوا يطلبونه ، فشرب رسول الله من ذلك الماء وأهرق باقيه .
   فلما أصبح رسول الله قال لقريش : إنّ الله جلّ جلاله قد أسرى بي إلى بيت المقدس وأراني آثار الأنبياء ومنازلهم ، وإنّي مررت بعِيرٍ لقريش في موضع كذا وكذا وقد أضلوا بعيراً لهم فشربتُ من مائهم وأهرقتُ باقي ذلك ، فقال أبو جهل : قد أمكنتكم الفرصة منه ، فاسألوه : كم الأساطينُ فيها والقناديل ؟
   فقالوا : يا محمّد ، إنّ ها هنا من قد دخل بيت المقدس ، فصِفْ لنا كم أساطينُه وقناديله ومحاريبه ؟
   فجاء جبرئيل فعلّق صورة بيت المقدس تجاه وجهه ، فجعل يخبرهم بما يسألونه عنه ، فلمّا أخبرهم ، قالوا : حتّى تجيء العير ونسألهم عمّا قلت ، فقال لهم رسول الله : تصديقُ ذلك أن العِير تطلع عليكم مع طلوع الشمس يقدمها جملٌ أورَق .
   فلما كان من الغد أقبلوا ينظرون إلى العَقَبة ويقولون : هذه الشمس تطلع [ علينا ] الساعة ، فبينما هم كذلك إذ طلعت عليهم العِير ، حتّى طلع القرص يقدمها جمل أورَق ، فسألوهم عمّا قال رسول الله فقالوا : لقد كان هذا ، ضلّ جمل لنا في موضع كذا وكذا ، ووضعنا ماءً فأصبحنا وقد أهريق الماء فلم يَزِدْهم ذلك إلاّ عُتوّاً (1) .
   وروى البغوي في تفسيره عن ابن عبّاس وعائشة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لمّا كانت ليلة أُسري بي أصبحت بمكّة فضِقتُ بأمري وعرفتُ أنّ الناس

(1) أمالي الصدوق : 363 ، المجلس 69 ـ الحديث 1 ، وانظر : الدرّ المنثور 4 : 148 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 78 ـ
  يكذّبوني ، فروي أنّه عليه الصلاة والسلام قعد معتزلاً حزيناً ، فمرّ به أبو جهل فجلس إليه ، فقال له كالمستهزئ : هل استفدتَ من شيء ؟
   قال : نعم ، إنِّي أُسري بي الليلة .
   قال : إلى أين ؟
   قال : إلى بيت المقدس .
   قال : ثمّ أصبحتَ بين ظَهرانينا ؟!
   قال : نعم .
   فلم يُرِهِ أبو جهل أنّه ينكر ذلك مخافة أن يجحده الحديث ، قال : أتُحدِّثُ قومك بما حدثتني به ؟
   قال : نعم .
   قال أبو جهل : يا معشر بني كعب بن لؤيّ ، هلمّوا .
  قال : فانقضّت إليه المجالس فجاؤُوا حتّى جلسوا إليهما ، قال : فحدِّثْ قومك بما حدّثتني ؟
   قال : نعم ، أنّه أُسري بي الليلة .
   قالوا : إلى أين ؟
   قال : إلى بيت المقدس .
   قالوا : ثمّ أصبحت بين ظهرانينا ؟
   قال : نعم .
   قال : فمِن بين مصفّق ، ومن بين واضعٍ يدَه على رأسه متعجّباً للكذب ، وارتدّ ناسٌ ممن كان آمن به وصدّقه ... (1).
   قال ابن إسحاق : وحدِّثتُ عن الحسن : ... .
فلمّا أصبح صلى الله عليه وآله وسلم غدا على قريش

(1) تفسير البغوي 3 : 79 .
وانظر : مختصر تاريخ دمشق 17 : 189 ترجمة عليّ بن أحمد ابن المبارك .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 79 ـ
  فأخبرهم الخبر ، فقال أكثر الناس : هذا والله الأمر البيِّن! والله إنّ العِير لتطرد شهراً من مكّة إلى الشام ، مُدبرةً شهراً ومُقبلةً شهراً ، فيذهب ذلك محمّد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكّة !
   قال : فارتدّ كثير ممن كان أسلم (1) ...
   كان هذا بعض الشيء عن الإسراء والمعراج وتكذيب قريش بهما ، وارتداد بعض المسلمين ، وقد سعت قريش وعن طريق حكّام بني أميّة وبعض علماء البلاط في العصور المتأخّرة إلى التشكيك في الإسراء والمعراج والتقليل من عظمة هذا الأمر الإلهيّ ومكانة الرسول بطرح تشكيكات ذات طابع جدلي ، كالقول باستحالة صعود الأجسام إلى العالم العلوي بهذه السرعة الخارقة للعادة بحيث يذهب في آخر الليل ويرجع إلى مكّة عند الفجر ، وعدم تطابق ما قيل في مقدمات هذا السفر الإلهي من شقّ الصدر وغسله بماء زمزم وركوبه صلى الله عليه وآله وسلم البراق و ... مع العقل .
   كلّ تلك التساؤلات بل قل التشكيكات جاءت مساوقة للتشكيك في مدلول قوله تعالى في الآية 60 من سورة الإسراء ، إذ قال سبحانه ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ ) حيث قالوا بأنّ الإسراء والمعراج كان بروحه صلى الله عليه وآله وسلم ـ لا بجسمه وروحه ـ كي يقللوا من واقع الإسراء ويعضّدوا القول بأنّه كان في المنام لا في اليقظة و ...
   فقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن عائشة رضى الله تعالى عنها ، قالت : ما فقدتُ جسدَ رسولِ الله ، ولكنّ الله أسرى بروحه (2) .

(1) أحكام القرآن للقرطبي 10 : 285 سورة بني إسرائيل الآية 60 .
(2) الدرّ المنثور 4 : 157 ، وفي تفسير الطبري 15 : 13 حدّثنا ابن حميد قال : حدّثنا سلمة عن محمد بن إسحاق ، قال : حدّثني بعض آل أبي بكر أنّ عائشة كانت تقول : مافُقد جسدُ رسول الله ولكنّ الله أسرى بروحه .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 80 ـ
   وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن معاوية بن أبي سفيان أنّه كان إذا سئل عن مسرى رسول الله قال : كانت رؤيا صادقة (1) .
  قال القرطبي في تفسيره : وقد احتُجَّ لعائشة بقوله تعالى : ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ ) فسمّاها رؤيا .
  وهذا يردّه قوله تعالى : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ) ، ولا يقال في النوم : ( أسرى ) ، وأيضاً فقد يقال لرؤية العين ( رؤيا ) ... وفي نصوص الأخبار الثابتة دلالة واضحة على أنّ الإسراء كان بالبدن ... (2) .
  وقال ابن عطيّة الأندلسي : ... والصحيح ما ذهب إليه الجمهور ، ولو كانت منامة ما أمكن قريشاً التشنيع ، ولا فضّل أبو بكر بالتصديق ، ولا قالت له أمّ هاني : لا تُحدِّث الناس بهذا فيكذبوك ، إلى غير هذا من الدلائل .
  واحتجّ لقول عائشة بقوله تعالى : ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ ) ويحتمل القول الآخر ، لأنّه يقال لرؤية العين ( رؤيا ) ، واحتجّ أيضاً بأنّ في بعض الأحاديث ( فاستيقظت وأنا

(1) الدرّ المنثور 4 : 157 .
وفي تفسير الطبري 15 : 13 حدّثنا ابن حميد ، قال : حدّثنا سلمة عن محمد بن إسحاق ، قال : حدّثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنّ معاوية بن أبي سفيان كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : كانت رؤيا من الله صادقة !
(2) تفسير القرطبي 10 : 209 سورة الاسراء الآية 1 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 81 ـ
  في المسجد الحرام ) ، وهذا محتمل أن يريد من الإسراء النوم .
  واعترض قول عائشة بأنّها كانت صغيرة لم تشاهد ولا حدّثت عن النبي عليه السلام ، وأمّا معاوية فكان كافراً في ذلك الوقت غير مشاهد للحال ، صغيراً ، ولم يحدّث عن النبيّ ... (1).
  وقال ابن كثير : ... فلو كان مناماً لم يكن فيه كبير شيء ، ولم يكن مستعظماً ، ولما بادرت قريش إلى تكذيبه ، ولما ارتدّت جماعة ممّن كان قد أسلم ، وأيضاً فإن ( العبد ) عبارة عن مجموع الروح والجسد وقد قال : ( اسرى بعبدِه ليلاً ) ... (2) .
 ويجري مجرى قوله تعالى : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ) ما في سورة النجم ، فقوله تعالى : ( مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) (3) لا يتّفق مع الرؤيا ، بل الآية في سياق الامتنان وبيان آيات ربّه الكبرى ، أمّا الرؤيا فهي نحو من التخيّل يتفق للصالح والطالح ولا منزلة للرسول في القول بهذا .
  هذا ويمكن إجابة كلّ التساؤلات والتشكيكات بأنّ الأمر كان معجزةً ، والمعجزةُ لا تدركها العقول البسيطة ، فهي من قبيل إحياء الأموات ، وتبديل العصى ثعباناً ، وكولادة عيسى من غير أَب ، وخروج ناقة صالح من الجبل الاصم ، وقوله تعالى : ( فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (4) ، وقوله تعالى :

(1) المحرر الوجيز 3 : 435 ، وانظر : تفسير الثعالبي 2 : 248 .
(2) تفسير ابن كثير 3 : 23 سورة الإسراء آية 1 .
(3) النجم : 17 ـ 18 .
(4) البقرة : 260 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 82 ـ
  ( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) (1) صريحٌ بإحضار ( من عنده علم من الكتاب ) لعرش بلقيس من اقصى اليمن إلى اقصى الشام في مقدار لمح البصر ، وهو يشبه ما قاله سبحانه عن الرياح وأنّها كانت تسير بسليمان ( غدوها شهرٌ ورَواحُها شَهر ) (2) في لحظة واحدة ، إلى غيرها من عشرات بل مئات الموارد .
   إذاً رسالة الإسلام هي رسالة الغيب والإيمان بما خلق الله من الجنِ والملك والروح و ... والمسلم هو الذي يؤمن بالغيب لقوله تعالى : ( الذين يومنون بالغيب ) (3) .
   فلو كان معراج النبيّ محمّد في ليلة واحدة ممتنعاً لكان القول بنزول آدم من الجنّة وإصعاد عيسى إلى السماء ممتنعاً ، بل لسرى الشك في المعجزات لأنّها في أصلها خرقٌ للقوانين المادية .
   وعليه فهذه الرؤية طرحت لبذر الشكّ في قلوب المؤمنين من قبل ( الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) (4) أو ( الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ) (5) في حين أنّ رسالة السماء معناها الغيب والماورائيات وهي تتفق مع الإسراء وما جاء فيه ، وهذا ما لا تدركه عقول هؤلاء من الامتحان الإلهيّ الذي سُنّ ليمحّص الله به المؤمنين ويميزهم عن الكافرين والمنافقين .
   هذا وقد أجاب العلاّمة الطباطبائي في ( الميزان ) عمّا قاله بعض المفسّرين

(1) النمل : 40 .
(2) سبأ : 12 .
(3) البقرة : 3 .
(4) المائدة : 52 ، التوبة : 125 ، الأنفال : 49 .
(5) النحل : 22 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 83 ـ
  من أنّ الشجرة الملعونة في القرآن تعني شجرة الزقّوم التي قال عنها الباري جلّ شأنه : ( أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ ) (1) ، بأنّ هذا الاحتمال بعيد جدّاً لأنّه جلّ شأنه لم يلعنها في موضع من القرآن الكريم ، ولو كان مجردّ كونها شجرةً تخرج من أصل الجحيم سبباً موجباً للعنها في القرآن الكريم لكانت النار وما أعدّ الله فيها من العذاب ملعونة وهذا ما لم يَقُله أحد ، ولكان ملائكةُ العذاب ـ الذين قال عنهم جل شأنه : ( وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا ) (2) ـ ملعونين ، في حين نراه سبحانه قد أثنى عليهم بقوله : ( عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) (3) .
   ولو صحّ هذا الاحتمال لكانت أيدي المؤمنين ملعونة كذلك ، لقوله : ( قاتِلوهُم يُعَذّبْهُمُ اللهُ بأيدِيكُم ) (4) .
   ومثله حال بقية المعاذير التي ذكرها مفسروا أهل السنة والجماعة للتخلّص من كيفية صحّة لعن الشجرة ، ومحاولتهم صرف الآية الكريمة عن لعن شجرة بني أميّة (5) .
   وإنكّ لو تدبّرتَ في تفسير قوله تعالى : ( وما جعلنا الرؤيا وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ ) لعرفت أنّ المقصود منها بنو أميّةِ ، لما فعلوه

(1) الصافّات : 62 ـ 63 .
(2) المدّثر : 31 .
(3) التحريم : 6 .
(4) التوبة : 14 .
(5) انظر : على سبيل المثال تفسير الميزان 13 : 141 ـ 143 ففيه جواب تلك المعاذيرالمطروحة .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 84 ـ
  من قبيح الأعمال ، ولا يصحّ ما قالوه بأنّ المعنيّ من الرؤيا هي الإسراء وغيرها من الأفكار الفاسدة .
   وبهذا فقد عرفت أنَّ جهلهم بالاُمور الغيبية ومكانة الرسول لم يكن عن قصور أو تقصير بَدْويَّينِ ، بل إنَّ جذوره ترجع إلى خلفيات هي أعمق ممّا قالوه بكثير .

مع الرسول ورؤياه

   قال الالوسي في تفسير آية الرؤيا : ...وأخرج ابن جرير ، عن سهل بن سعد ، قال : ( رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني أميّة يَنْزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك ، فما استجمع ضاحكاً حتّى مات عليه الصلاة والسلام ، وأنزل الله تعالى هذه الآية : ( وما جعلنا الرؤيا ) وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، وابن عساكر عن سعيد بن المسيب ، قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني أميّة على المنابر فساءه ذلك ، فأوحى الله إليه : إنّما هي دنيا أُعطُوها ، فقرّت عينه ، وذلك قوله تعالى : ( وما جعلنا ) ... الخ .
   وأخرج ابن أبي حاتم ، عن يعلى بن مرّة ، قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : رأيت بني أميّة على منابر الأرض وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء ، واهتمّ عليه الصلاة والسلام لذلك ، فأنزل الله سبحانه : ( وما جعلنا ) ... الآية ) .
   وأخرج عن ابن عمر : أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( رأيتُ ولد الحَكَم بن أبي العاص على المنابر كأنّهم القردة ، وأنزل الله تعالى في ذلك ( وما جعلنا ) ... الخ ، والشجرة الملعونة الحكم وولده ) وفي عبارة بعض المفسرين : هي بنو أميّة .
   وأخرج ابن مردويه ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها : أنّها قالت لمروان بن الحكم : ( سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لأبيك وجدّك : إنّكم الشجرة الملعونة في القرآن ) .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 85 ـ
   فعلى هذا معنى إحاطته تعالى بالناس إحاطة أقداره بهم ، والكلام على ما قيل على حذف مضاف ، أي ( وما جعلنا تعبير الرؤيا ) أو الرؤيا فيه مجاز عن تعبيرها ، ومعنى جعل ذلك فتنة للناس جعله بلاء لهم ومختبراً ، وبذلك فسره ابن المسيب .
   وكان هذا بالنسبة إلى خلفائهم الذين فعلوا ما فعلوا ، وعدلوا عن سنن الحقّ وما عدلوا ، وما بعده بالنسبة إلى ما عدا خلفاءهم منهم ، ممن كان عندهم عاملا وللخبائث عاملاً ، أو ممن كان من أعوانهم كيفما كان .
   ويحتمل أن يكون المراد ( ما جعلنا خلافتهم وما جعلناهم أنفسهم إلاّ فتنة ) ، وفيه من المبالغة في ذمهم ما فيه .
  وجعل ضمير ( نخوّفهم ) على هذا لما كان له أوّلاً ، أو للشجرة باعتبار أن المراد بها بنو أميّة ولعنهم لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة ، والفروج المحصنة ، وأخذ الأموال من غير حلها ومنع الحقوق عن أهلها ، وتبديل الأحكام ، والحكم بغير ما أنزل الله تعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام ، إلى غير ذلك من القبائح العظام والمخازي الجسام التي لا تكاد تُنسى ما دامت الليالي والأيام .
   وجاء لعنهم في القرآن ، إما على الخصوص كما زعمته الشيعة ، أو على العموم كما نقول ، فقد قال سبحانه وتعالى : ( إن الذين يؤذونَ اللهَ وَرسولَهُ لَعَنهُم الله في الدنيا والآخرة ) وقال عزّ وجلّ : ( فهل عسيتُم إن تَوَلَّيتُم أن تُفسِدوا في الأرضِ وتُقَطِّعوا أرحامَكُم أولئكَ الذينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فأصَمَّهُم وأعمى أبصارَهُم ) إلى آيات أخر ، ودخولهم في عموم ذلك يكاد يكون دخولا أوّليّاً (1) ، انتهى موضع الحاجة من كلام الآلوسي .

(1) تفسير روح المعاني 15 : 107 ـ 108 ، هذا ومن المفيد الرجوع إلى التفسير الكبير للرازي 20 : 236 ـ 237 لملاحظة سائر الأقوال في الآية المباركة .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 86 ـ
   وقال القرطبي في تفسيره : ( فنزلت الآية مخبرة أنّ ذلك من تملّكهم وصعودهم [ أي نَزْوِهِم على منبره نزو القردة ] يجعلها الله فتنة للناس وامتحاناً ، وقرأ الحسن بن عليّ في خطبته في شأن بيعته لمعاوية : ( وإن أدري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين ) .
  قال ابن عطية : وفي هذا التأويل نظر ، ولا يدخل في هذه الرؤيا ، عثمان ، ولا عمر بن عبدالعزيز ، ولا معاوية ) (1) .
   وعليه فلا يصحّ ما قالوه من تكلّفات في كلمة الرؤيا والشجرة الملعونة في الآية ، مع وضوح أنّ الملعونين في القرآن هم جند إبليس واليهود ، والمشركون ، والمنافقون ، والذين ماتوا وهم كفار ، والذين يكتمون ما أنزل الله ، والذين يؤذون الله ورسوله وغيرها لا شجرة الزقوم ولا غيرها من التأويلات التي صيغت بأخرة لإبعاد الآية الكريمة عن معناها الحقيقي (2) .

(1) تفسير القرطبي 10 : 283 سورة الاسراء .
(2) وللتاكيد انظر : كتاب المأمون العبّاسي في تاريخ الطبري 10 : 57 ـ 58 حتى تقف على الفهم السائد في القرون الأولى بالنسبة للشجرة الملعونة وأنّها تعني بني أميّه وأن أهل البيت هم العترة ـ والكتاب طويل نأخذ من قوله ـ : ... فجعلهم الله أهل بيت الرحمة وأهل بيت الدين ، أذهب الله عنهم الرجس وطهرّهم تطهيرا ، ومعدن الحكمة ، وورثة النبوة ، وموضع الخلافة ، وأوجب لهم الفضيلة ، وألزم العباد لهم الطاعة ، وكان ممن عانده ونابذه وكذّبه وحاربه من عشيرته العدد الأكثر ، والسواد الأعظم ، يتلقّونه بالتكذيب والتثريب ، ويقصدونه بالأذيّة والتخويف ، ويبادونه بالعداوة ، وينصبون له المحاربة ، ويصدّون عنه من قصده ، وينالون بالتعذيب مَن اتّبعه ، وأشدّهم في ذلك عداوة وأعظمهم له مخالفة ، وأوّلهم في كلّ حرب ومناصبة ، لا يرفع على الإسلام راية إلاّ كان صاحبها وقائدها ورئيسها في كلّ مواطن الحرب من بدر ، وأحد ، والخندق ، والفتح : أبو سفيان بن حرب ، وأشياعه من بني أميّة الملعونين في كتاب الله ، ثمّ الملعونين على لسان رسول الله في عدة مواطن وعدّة مواضع ، لماضي علم الله فيهم وفي أمرهم ، ونفاقهم ، وكفر أحلامهم ، فحارب مجاهداً ، ودافع مكابداً ، وأقام منابذاً حتّى قهره السيف ، وعلا أمر الله وهم كارهون ، فتقوَّل بالإسلام غير منطوٍ عليه ، وأسرَّ الكفر غير مقلعٍ عنه ، فعرفه بذلك رسول الله والمسلمون وميّز له المؤلفة قلوبهم فقبله ، وولده على علم منه ، ممّا لعنهم الله به على لسان نبيه وأنزل به كتاباً قوله : ( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا ) ولا اختلاف بين أحد أنّه أراد بها بني أميّة ، ومنه قول الرسول عليه السلام وقد رآه مقبلاً على حمار ، ومعاوية يقود به ، ويزيد ابنه يسوق به : لعن الله القائد ، والراكب ، والسائق ...

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 87 ـ
   المجتهدون الأوائل ودورهم في التشريع :
   أبانت دراساتنا السابقة عن ( وضوء النبيّ ) و ( منع تدوين الحديث ) و( تاريخ الحديث النبوي الشريف ) (1) بزور نهجين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا موجودَين في حياته :
   أحدهما : يتّخذ المواقف من خلال الأصول ، ويتّبع القرآن والسنّة ، ولا يرتضي الرأي والاجتهاد مع وجود النصّ .
   والآخر : يتّخذ الأصول من خلال مواقف الصحابة وإن خالفت النصوص ، فهؤلاء يشرّعون الرأي ويأخذون به مقابل النص ، ويتعاملون مع رسول الله كأنّه بشر غير كامل يصيب ويخطئ ويسبّ ويلعن ثمّ يطلب المغفرة للملعونين (2) ، أو أنّه صلى الله عليه وآله وسلم خفي عليه أمر الوحيٍ حتّى أخبره ورقة بن نوفل بذلك! وهذا يخالف ما ثبت من أنّ خاتم النبوة كان مكتوباً على كتفه .
   وبين هؤلاء من رفع صوته ـ في ممارساته اليومية ـ فوق صوت

(1) طبع سابقا في مجلة تراثنا ( الأعداد 53 ـ 60 ) تحت عنوان ( السنّة بعد الرسول ) .
(2) صحيح البخاري 8 : 435 / كتاب الدعوات ، باب 736 ، ح 1230 سورة الإسراء ، مسند أحمد 2 : 316 ـ 317 ، 419 ، و ج 3 : 40 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 88 ـ
  النبيّ ، واعترض على رسول الله في أعماله (1) ، وتعرّف المصلحة وهو بحضرته صلى الله عليه وآله وسلم ، وتنزّه في أمرٍ رخّص فيه ، أو تزهد في أمرٍ نهى عنه .
   فجاء في كتاب الآداب من صحيح البخاري أنّ النبيّ رخّص في أمر فتنزّه عنه ناس ، فبلغ النبيّ فغضب ثمّ قال : ما بال أقوام يتنزّهون عن الشيء أصنعه ، فوالله إنّي لأعلمُهم وأشدّهم خشية (2) .
   وفي خبر آخر : أخبر رسول الله أنّ عبدالله بن عمرو بن العاص يقول : والله لأصومنّ النهار ولأقومنّ الليل ، فقال له رسول الله : أنت الذي تقول : ( لأصومنّ النهار ولأقومنّ الليل ما عشت ) ؟!
   قال : قد قلت ذلك يا رسول الله .
   فقال رسول الله : إنّك لا تستطيع ذلك فصُمْ وأفطرِ ، ونَم وقُم ، وصُم من الشهر ثلاثة أيّام ، فإنّ الحسنة بعشر أمثالها ، وذلك مثل صيام الدهر .
   قال ، قلت : إنّي أُطيق أفضلَ من ذلك .
   فقال صلى الله عليه وآله وسلم : فصم يوماً وأفطِر يومين .
   قال : قلت : إنّي أطيق أفضل من ذلك .
   فقال : قال : فَصُم يوماً وأفطِر يوماً ، فذلك صيام داود عليه السلام وهو أفضل
(1) كاعتراض عمر بن الخطاب على رسول الله لمّا أراد أن يصلّي على المنافق ، وقوله له : أتصلّي عليه وهو منافق ؟! وإنكاره على رسول الله فعله في أخذ الفداء من أسرى بدر وغيرها .
   انظر : صحيح مسلم ، كتاب الفضائل ، باب فضائل عمر .
(2) انظر : صحيح البخاري 8 : 353 كتاب الدوب ، باب من لم يواجه الناس بالعتاب ، ح 979 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 89 ـ
  الصيام .
   فقلت : أطيق أفضل من ذلك .
   فقال النبيّ : لا أفضل من ذلك (1) .
   إن مثل هذا التحكيم للرأي الشخصي في مقابل قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحمل في طياته مخاطر عديدة ، ويفتح مسارات للتحريف والتبديل ، ومن شأنه أن يحوّل الدين الالهي إلى دين مشوب بآراء الناس ووجهات نظرهم الشخصية ، وهو يجرّ من ثمّ إلى تجزيء الدين والى النزعة التلفيقية في الشريعة ، ومن هنا ظهرت في الصدر الأوّل وما بعده الأحكام المبتدعة والأهواء المتّبعة التي ليست من دين الله في شيء ، و لا تمت إلى الحياة الإسلامية النزيهة بصلة ، وهو الذي كان رسول الله يتخوف على اُمته منه .
  وقد صرّح الإمام عليّ في خطبة له بأنّه لو أتيحت له الفرصة لأرجع بعض الأُمور إلى أصلها ، فقال : ( ... وإنّما بدءُ وقوع الفتن أهواء تتّبع وأحكام تبتدع ، يخالف فيها كتاب الله ، يتولّى فيها رجالٌ رجالاً ... إلى أن يقول : .. أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله ، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة ، ورددت صاع رسول الله كما كان ، وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأقوام لم تمض لهم ولم تنفذ ، ورددت دار جعفر إلى ورثته وهدمتها من المسجد (2) ، ورددت قضايا من الجور قضي بها (3) ، ونزعت نساء تحت رجال بغير حقّ فرددتهن إلى أزواجهن (4) واستقبلت بهنّ الحكم في الفروج والأحكام ، وسبيت ذراري

(1) انظر : صحيح البخاري 3 : 91 كتاب الصوم ، باب صوم الدهر ، ح 233 .
(2) كأنّهم غصبوها وأدخلوها في المسجد .
(3) كقضاء عمر بالعول والتعصيب في الإرث وسواهما .
(4) كمن طلّق زوجته بغير شهود وعلى غير طهر ، وقد يكون فيه إشارة إلى قوله بعد بيعته : ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان وكلّ مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال ، فإنّ الحقّ القديم لا يبطله شيء ، ولو وجدته قد تزوج به ، إلخ ، وانظر : نهج البلاغة 1 : 42 خ 14 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 90 ـ
  بني تغلب (1) ، ورددت ما قسّم من أرض خيبر ، ومحوت دواوين العطايا (2) وأعطيت كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطي بالسويّة ، ولم أجعلها دولة بين الأغنياء .
وألقيت المساحة (3) ، وسوّيت بين المناكح (4) ، وأنفذت خمس الرسول كما أنزل عزّ وجلّ وفرضه (5) ، ورددت مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما كان عليه(6) ، وسددت ما فُتح فيه من الأبواب(7) ، وفتحت ما سُدّ منه ، وحرّمت المسح على

(1) لأنّ عمر رفع الجزية عنهم فهم ليسوا بأهل ذمّة ، فيحلّ سبي ذراريهم ، قال محيي السنّة البغويّ : روي أنّ عمر بن الخطّاب رام نصارى العرب على الجزية ، فقالوا : نحن عرب لا نؤدّي ما يؤدّي العجم ، ولكن خذ منّا كما يأخذ بعضكم من بعض ، بعنوان الصدقة ، فقال عمر : هذا فرض الله على المسلمين ، قالوا : فزد ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية ، فراضاهم على أن ضعّف عليهم الصدقة .
(2) إشارة إلى ما ذهب إليه عمر من وضعه الخراج على أرباب الزراعة والصناعة والتجارة لأهل العلم والولاة والجند ، بمنزلة الزكاة المفروضة ، ودوّن دواوين فيها أسماء هؤلاء وأسماء هؤلاء .
(3) راجع تفصيل هذا الأمر في كتاب الشافي للسيّد المرتضى .
(4) ربّما كان إشارة إلى ما ذهب إليه عمر من منع غير القرشيّ الزواج من القرشيّة ، ومنعه العجم من التزوّج من العرب .
(5) إشارة إلى منع عمر أهل البيت خُمسَهم .
(6) يعني أخرجت منه ما زاده عليه غصباً .
(7) إشارة إلى ما نزل به جبرئيل من الله تعالى بسدّ الأبواب المفضية إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ باب عليّ .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 91 ـ
  الخفين (1) ، وحَدَدت على النبيذ ، وأمرت بإحلال المتعتين (2) ، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات (3) ، وألزمتُ الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم (4) ، وأخرجت من أُدخل بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسجده ممّن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخرجه ، وأدخلت من أُخرج بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ممّن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أدخله (5) ، وحملت الناس على حكم القرآن وعلى الطلاق على السنّة(6) ، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها (7) ، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها(8) ، ورددت أهل نجران

(1) إشارة إلى ما أجازه عمر في المسح على الخفّين ، ومخالفة عائشة وابن عبّاس وعليّ وغيرهم له في هذا الصدد .
(2) يعني متعة النساء ومتعة الحجّ .
(3) لِما كبّر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم خمساً في رواية حذيفة وزيد بن أرقم وغيرهما .
(4) والجهر بالبسملة ممّا ثبت قطعاً عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في صلاتهِ ، وروى الصحابة في ذلك آثاراً صحيحة مستفيضة متظافرة .
(5) يحتمل أن يكون المراد إشارة إلى الصحابة المخالفين الذين أُخرجوا بعد رسول الله من المسجد في حين كانوا مقرّبين عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذا إنّه عليه السلام يخرج من أخرجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كالحكم بن العاص وغيره .
(6) ينظر عليه السلام إلى الاجتهادات المخالفة للقرآن وما قالوه في الطلاق ثلاثاً .
(7) أي من أجناسها التسعة ، وهي : الدنانير والدراهم والحنطة والشعير والتمر والزبيب والإبل والغنم والبقر .
(8) وذلك لمخالفتهم هذه الأحكام .
وقد أوضّحنا حكم الوضوء منه في كتابنا ( وضوء النبيّ ) فراجع ، نأمل أن نوفّق في الكتابة عن الغسل والصلاة وغيرها من الأحكام الشرعية التي أشار الإمام علي بن أبي طالب إلى التحريف والابتداع فيها إنّ شاء الله تعالى .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 92 ـ
  إلى مواضعهم (1) ، ورددت سبايا فارس وسائر الأمم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم .. إذن لتفرّقوا عنّي (2) .
   وقد أعلن الأئمّة من آل البيت أنهم كانوا يتبعون النصوص ولا يرتضون الرأي ..
   فعن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال لجابر : والله يا جابر لو كنّا نُفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نُفتيهم بآثارٍ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأُصول علمٍ عندنا ، نتوارثها كابراً عن كابر ، نَكنِزُها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضّتهم (3) .
   وسأل رجلُ الإمام الصادق عليه السلام عن مسألةٍ فأجابه فيها ، فقال الرجل : أرأيتَ إن كان كذا وكذا ، ما يكون القول فيها ؟
   فقال له : مَه! ما أجبتك فيه شيء فهو عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لسنا من ( أرأيت ) في شيء (4) .
  وعن الإمام الباقر عليه السلام : ما أحدٌ أكذب على الله وعلى رسوله ممّن كذّبنا أهلَ البيت أو كذب علينا ، لأنّا إنّما نحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن الله .
فإذا كُذّبنا فقد كُذّب الله ورسوله (5) .
   وقال : لو أنّا حدّثنا برأينا ضللنا كما ضلّ من كان قبلنا ، ولكنّا حدّثنا ببيّنة من ربّنا بيّنها لنبيّه فبيّنها لنا(6) .

(1) وهم الذين أجلاهم عمر عن مواطنهم .
(2) الكافي 8 : 58 ، الروضة ح 21 .
(3) بصائر الدرجات : 300 ح 4 والنص عنه ، و 299 ح 1 .
(4) الكافي 1 : 58 ، كتاب فضل العلم باب البدع والرأي والمقاييس ح 21 .
(5) جامع أحاديث الشيعة 1 : 181 ، باب حجيّة فتوى الأئمّة المعصومين ، ح 114 .
(6) بصائر الدرجات : 299 ح 2 وانظر : 301 ح 1 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 93 ـ
   وعن أبي بصير ، قال : قلت للصادق : تَرد علينا أشياءُ ليس نعرفها في كتاب الله ولا سنّة ، فننظر فيها ؟ قال : لا ، أما إنّك إن أصبتَ لم تُؤجَر ، وإن أخطأتَ كذبتَ على الله عزّ وجلّ (1) .
   نعم ، إنّ نهج الاجتهاد كان له دعاة وأتباع استمدّوا جذورهم من مصدر غير التعبد والتسليم ، وهو أقرب إلى ما عرفوه في الجاهلية ممّا عرفوه في الإسلام وكان لهؤلاء وجود ملحوظ أيضاً في صدر الإسلام ، فقد اقترح بعض المشركين على رسول الله أن يبدل بعض الأحكام الشرعية وهو صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( ما يكونُ لي أن أُبدّله من تِلقاءِ نفسي إن أتّبعُ إلاّ ما يُوحى إلَيَّ ) (2) .
   وقد أثبتنا سابقاً أنّ عمر بن الخطّاب كان من المجتهدين الأوائل الذين تعرّفوا المصلحة وهم بحضرة الرسول المصطفى ، فأنكر عليه أخذَه الفداءَ من أسارى بدر (3) ، واعترض عليه صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته على المنافق (4) ، وواجه النبيّ بلسان حادّ في صلح الحديبية (5) ، وطالب النبيَّ أن يزداد علماً إلى علمه وأن يستفيد من مكتوبات اليهود في الشريعة(6) وقال لرسول الله في مرض موته :

(1) الكافي 1 : 56 .
كتاب فضل العلم باب البدع والرأي ح 11 .
(2) يونس : 15 .
(3) شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد 11 ـ 12 : 12 / 82 ، باب نكت من كلام عمرو سيرته وأخلاقه .
(4) صحيح مسلم 4 : 1865 كتاب فضائل الصحابة باب فضائل عمر ح 25 و 1 : 2141كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ح 3 .
(5) صحيح البخاري 4 / 381 كتاب الشروط ، باب الشروط في الجهاد والمصالحة ، ح 932 .
(6) المصنّف لعبد الرزاق 10 : 313 كتاب أهل الكتابين ، باب هل يسأل أهل اليهود بشيء / ح 19213 ، مجمع الزوائد 1 : 174 باب ليس لاحد قول مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 94 ـ
  ( إنه ليهجر ) أو غلبه الوجع (1) !
   المجتهدون الاوائل والأذان!
   والآن لنرى موقف عمر بن الخطاب وموقف غيره من المجتهدين في الأذان ، وهل لهؤلاء دور في هذا التغيير ، أم تقع تبعات التحريف على اللاحقين من بني أميّة وبني العبّاس ؟ وغيرهم من المتأخّرين حسب تعبير الصنعاني (2) .
   إنّ النّصوص السابقة أوقفتنا على وجود اتّجاه في الصحابة وموقف من الأذان يقترح على الرسول أن يتّخذ ناقوساً مثل ناقوس النصارى ، أو بُوقاً مثل بوق اليهود ، فيستاء رسول الله من هذا ويغتمّ لاقتراحات هذا الاتجّاه من الصحابة الذين وصل الأمر بهم إلى أن يقترحوا على الرسول المصطفى إدخال بعض أحكام وأفكار شريعتي موسى أو عيسى المحرَّفتين في منهج الإسلام ، وكأنّ اطروحة الإسلام غير قادرة على أن تفي بالأعباء ، فقد رووا عن عمر أنّه قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ( يا رسول الله إنّي مررتُ بأخٍ لي من يهود فكتب لي جوامع من التوراة ، أفلا أعرضها عليك ؟ فتغيّر وجه رسول الله .
   فقال عمر : رضيت بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمّد رسولاً ، فسُرّي عن النبيّ ، ثمّ قال صلى الله عليه وآله وسلم : والذي نفسي بيده ، لو أصبح فيكم موسى فاتّبعتموه وتركتموني لضللتم ، إنّكم حظّي من الأمم وأنا حظّكم من النبيّين ) (3) .

(1) صحيح البخاري 1 : 39 كتاب العلم ، باب 82 ، ح 112 ، صحيح مسلم3 : 1257 ،1259 ، كتاب الوصية باب ترك الوصية ...
(2) انظر : كلامه المتقدم في صفحه 23 من هذه الدراسة .
(3) المصنّف لعبدالرزّاق 10 : 313 رقم 19213 ، مجمع الزوائد 1 : 174 وفيه : يا رسول الله ، جوامع من التوراة أخذتها مع أخٍ لي من بني زُرَيق ، فتغيّر وجه رسول الله ...

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 95 ـ
  فهؤلاء المجتهدون في الصدر الأوّل كانوا يتعاملون مع الأحكام وفق ما عرفوه من الشرائع السابقة ، وكانوا يتصورون بأنّ الأمر بيدهم يفعلون ما يشاؤون ، فكانوا هم الذين اقترحوا على رسول الله البوق ، الناقوس ( فتقسوا أو كادوا أن ينقسوا ) حتى رأى عبد الله بن زيد أو غيره في المنام ...
   إذاً فكرة كون تشريع الأذان كان ب ـ ( رؤيا ) جاءت من قبل الصحابة المجتهدين ، ثمّ تطوّرت حتّى وصل بها الأمر إلى ما وصل لاحقاً ، وهذا ما يجب الوقوف عليه في مطاوي بحوثنا ..
   إذ جاء عن كثير بن مرة الحضرمي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أوّل من أذّن في السماء جبرئيل عليه السلام ، قال : فسمعه عمر وبلال ، فأقبل عمر فأخبر النبيّ بما سمع ، ثمّ أقبل بلال فأخبر النبيّ بما سمع ، فقال له رسول الله : سبقك عمر يا بلال ... .
   أو قول ابن عمر : إنّ بلالاً كان يقول أوّل ما أذّن : ( أشهد أن لا إله إلاّ الله ، حيّ على الصلاة ) ، فقال له عمر : قل في أثرها ( أشهد أنّ محمّداً رسول الله ) ...
   نعم إنّهم رفعوا بضبع الصحابة الحالمين الرائين للأذان إلى مرتبة النبوة والمعاينة الحقيقيّة حتّى قال عبدالله : ( يا رسول الله ، إنّي لَبينَ يقظان ونائم ) ، وفي آخر : ( لقلت : إني كنت يقظاناً غير نائم ) ، وبعكس ذلك نراهم يحطّون من منزلة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن المعاينة الحقيقية في المعراج ـ ( دنى فتدلى فكانَ قابَ قوسَينِ أو أدنى ) ـ إلى مرتبة التشكيك ، مستخدمين العبارة نفسها ( بين النائم واليقظان ) ، ورووا ذلك في الصحيح !!
   ففي صحيح مسلم بسنده عن قتادة ، عن أنس بن مالك ـ لعله قال : عن مالك بن صعصعة ( رجل من قومه ) ، قال ـ قال نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم : بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان ...
   ثمّ أتيت بدابة أبيض يقال له البُراق فوق الحمار ودون البغل يقع خطوه عند

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 96 ـ
  أقصى طرفه ، فحُمِلتُ عليه ، ثمّ انطلقنا حتّى أتَينا السماء الدنيا ... ثمّ سرد قصة المعراج (1) .
   بل في رواية شريك في حديثه عن أنس التصريح بأنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان نائماً .
  قال : ( وهو نائم بالمسجد الحرام ) وذكر القصة الواردة ليلة الإسراء ، ثمّ قال في آخرها : ( استيقظت ) ـ أي انتبهت ـ من منامي وأنا في المسجد الحرام (2) .
   قال الصالحي الشامي : وهذا المذهب يعزى إلى معاوية بن أبي سفيان ... ويُعزى أيضاً إلى عائشة (3) .
   بل صرّح إمام الشافعية القاضي أبو العبّاس بن سريج بوضع هذا الحديث على عائشة فقال : هذا حديث لا يصحّ وإنّما وُضِعَ ردّاً للحديث الصحيح (4) .
   ترى من هو الواضع ؟
   وما هو غرضه من التحريف في مقابل ما هو أصيل ؟
   ولماذا جَحْدُ منزلة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومحاولة جعل القضية مناماً عاديّاً ؟
   ولماذا يختص ذلك بمعاوية وعائشة ؟!
   وهل يكمن في ذلك إنكارٌ مُبَطَّن لرؤيا النبيّ بني أميّة ـ أو تيماً وعديّاً ـ

(1) صحيح مسلم 1 : 150 ، باب الإسراء من كتاب الإيمان ـ ح 264 ، وانظر : مثله في صحيح البخاري 4 : 549 ، كتاب بدء الخلق ، باب ذكر الملائكة صلوات الله عليهم ، ح 1371 .
(2) سبل الهدى والرشاد 3 : 69 والنص عنه ، وانظر : رواية شريك في صحيح البخاري 9 : 824 ـ 826 / كتاب التوحيد / باب قوله ( وكلم الله موسى تكليماً ) / ح 2316 ، وانظر : صحيح مسلم 1 : 148 ح 262 / كتاب الإيمان ـ باب الاسراء برسول الله .
(3) سبل الهدى والرشاد 3 : 69 .
(4) سبل الهدى والرشاد 3 : 70 ، نقلاً عن المعارج الصغير لابن الخطاب بن دحية .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 97 ـ
  يردون الناس عن الإسلام القهقرى ؟! (1) إذ ليس في الرؤيا الماميّة كبير أمر ولا كثير طائل ، وإذا كان المعراج رؤيا فلماذا لم يَرَها الآخرون كما رأى الأذان سبعة أو أربعة عشر أو عشرون شخصاً ؟! لكي لا يكذّب المشركون النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم أو لكي لا يرتدّ من أسلم من المسلمين ؟ ألم يقولوا مثل هذا التعليل في سرّ رؤى الصحابة للأذان ؟!
   فهذه النصوص ترفع هؤلاء إلى السماء وتجعلهم قرب الوحي ، وتحاول إنزال مقامات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المعراج إلى حدّ الرؤيا العادية ، فنحن لو لحظنا دور المجتهدين في الشريعة ووقفنا على اجتهادات الصحابة واقتراحاتهم على رسول الله في الأذان وغيرها ، وعرفنا الدواعي التي دفعت بعمر بن الخطّاب أن يرفع ( حيّ على خير العمل ) أو يضع ( الصلاة خير من النوم ) في الأذان لآمَنَّا بأن الشرارة الأولى لهذا التحريف جاءت من قبل هذا القسم من الصحابة ، وأن فكرة كون الأذان رؤيا تتّفق مع فكر هذا الصنف لا المتعبّدين ، وذلك لاجتهادهم وعدم تعبّدهم بالنصوص .
ونظرة هؤلاء تختلف عن نظرة أهل البيت إلى الشريعة والإسراء والمعراج وغيرها .

الأمويّون والأذان

   لقد تطوّرت فكرة الرؤيا وما جاء في تشريع الأذان في العهد الأموي وتأطّرت بإطارها الخاص ، إذ لو جمعنا القرائن والشواهد لعرفنا بأن معاوية ومن بعده هم الذين تبنوا هذه الفكرة وأنّهم كانوا قد سعوا لتثقيف الناس حسبما يريدونه ، وهذا ما نلاحظه في نصوص الأذان بعد الإمام عليّ ، إذ لم يشر عليّ عليه السلام إلى هذا التضاد في الأذان في ما رواه عن النبيّ ، بل لم يردنا خبرٌ

(1) الكافي 8 : 343 ـ 345 باب رؤيا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 98 ـ
  صريحٌ في تكذيب الروايات المدّعية لثبوت تشريع الأذان بالرؤيا قبل الإمام الحسن بن عليّ عليه السلام .
   فأوّل ما تطالعنا النصوص بهذا الصدد هو كلام سفيان بن الليل حينما قدم على الإمام الحسن بعد الصلح ، قال : فتذاكرنا عنده الأذان فقال بعضنا : إنّما كان بدء الأذان برؤيا عبدالله بن زيد .
   فقال له الحسن بن عليّ : إنّ شأن الأذان أعظم من ذلك ، أذَّن جبرئيل ..
   وهذا يرشدنا إلى تذاكر المسلمين في أمر الأذان بعد الصلح لقوله ( لما كان من أمر الحسن بن عليّ ومعاوية ما كان قدمت المدينة وهو جالس في أصحابه ) .
   فبعضهم في هذا الخبر يقول : ( إنّما كان بدء الأذان برؤيا عبدالله ) ، لكنّ الإمام الحسن صحّح رؤيتهم الخاطئة قائلاً : إن شأن الأذان أعظم من ذلك .
   ونحن لو واصلنا السير التاريخي وانتقلنا من خبر الإمام الحسن إلى ما جاء عن الإمام الحسين وأنه سئل عمّا يقول الناس ؟ فقال عليه السلام : ( الوحي ينزل على نبيكم ، وتزعمون أنّه أخذ الأذان عن عبدالله بن زيد ) ، لعرفنا استمرار هذا النزاع بين الناس وأهل البيت في كيفية نشوء وبدء تشريع الأذان .
   وقد مر عليك كلام أبي العلاء سابقاً حيث قال : قلت لمحمّد بن الحنفية : إنا لنتحدث أنّ بدء الأذان كان من رؤيا رآها رجل من الانصار في منامه .
   قال : ففزع لذلك محمّد ابن الحنفية فزعاً شديداً وقال : عمدتم إلى ما هو الاصل في شرائع الإسلام ومعالم دينكم فزعمتم أنّه إنّما كان رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه يحتمل الصدق والكذب وقد تكون أضغاث أحلام .
   قال : فقلت : هذا الحديث قد استفاض في الناس ؟
   قال : هذا والله هو الباطل ...

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 99 ـ
   فبدءُ النزاع العلني وانتشاره كان في زمن معاوية بعد صلح الإمام الحسن ، وفزعُ محمّد بن الحنفية الفزع الشديد ، وإخبارهم إياه باستفاضة هذا الحديث ، ليدلاّن على أنّ وضع تلك الأحاديث الأذانية أو بدء انتشارها كان في زمان معاوية بن أبي سفيان ، الّذي كان حسّاساً إلى درجة كبيرة من ذكر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ كيف يقرن اسم بشر ( محمد ) باسم رب العالمين ( الله ) ؟! (1) مع أن كل الأنبياء الذين جاؤوا بشرائع سابقة لم يقرن اسم أحدهم باسم رب العزة في إعلامهم للطقوس الدينية ، بل كان الناقوس والبوق والشبّور .
   إذن لم يكن معنىً ـ بنظر معاوية ـ لمقارنة اسم النبيّ لاسم الربّ في السماء وفي المعراج ، بل يكفي بذلك أن يكون مناماً ، أو اقتراحاً من عمر ، أو ... .
   وعلى ذلك فلا ضير إذن في الزيادة أو الحذف في الأذان ، فلَكَ أن تحذف ( حيّ على خير العمل ) كما فعل عمر وتضع موضعها ( الصلاة خير من النوم ) ، ولك أن تفرد الإقامة ولا تثنّيها ( لحاجة لَهُمْ ) ، ولك أن تزيد النداء الثالث يوم الجمعة ، ووو ... إلى آخر هذه الاجتهادات ، إن كان لها آخِر .
   ومن هذا الباب كان معاوية أوّل من أفشى مقولة التثويب الثاني ، وهي دعوة المؤذّن للخليفة أو الأمير ـ لكثرة مشاغله ـ إلى الصلاة بقوله ( السلام على أمير المؤمنين ، الصلاة الصلاة رحمك الله ) ، وسار المغيرة بن شعبة على نهج معاوية في هذا أيضاً ، بل قيل إنّه أوّل من فعل ذلك .
   ولكن صرّح الأعلام بأنّ معاوية كان أوّل من أحدث هذا ، وتبعه المغيرة بن شعبة ومَن حذا حذوه (2) .
   فشاع الأمر واستفاض ، وصار كأنّه حقيقة لا مناص عن الإذعان لها ـ مع أنّ

(1) سيأتي خبر معاوية لاحقاً في صفحة 106/108 .
(2) انظر : الوسائل إلى معرفة الاوائل ، للسيوطي : 26 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 100 ـ
  الحقيقة الإسلامية هي شيء آخر ـ وراحت أصداء هذا الحدث الأذاني تمتد وتمتد إلى العصر العباسي ، ومنه وصلت إلى يومنا الحاضر .
   روى عبدالصمد بن بشير ، قال : ذُكر عند أبي عبدالله [ الصادق ] بدء الأذان فقيل : إنّ رجلاً من الأنصار رأى في منامه الأذان ، فقصه على رسول الله فأمره رسول الله أن يعلّمه بلالاً ، فقال أبو عبدالله : كذبوا ، إنّ رسول الله كان نائماً في ظلّ الكعبة فأتاه جبرئيل ومعه طاس فيه ماء من الجنَّة (1) ... .
   ولو تدبرنا في هذه النصوص وما جاء في تاريخ بني أميّة لعرفنا إمكان تطابق هذه الرؤية معهم لما يحملون من أفكار أكثر من غيرهم ، خصوصاً بعد أن وقفنا على تاريخ النزاع وأنّه بدأ في عهدهم ، وإنّك لو تتبّعت مجريات الاحداث لعرفت تضاد بني أميّة مع رسالة الإسلام وعدم تطابق مفاهيمهم مع مفاهيم الوحي ورسول الله ، وأنّهم كانوا على طرفي نقيض مع بني هاشم في الجاهلية وفي الإسلام ، إذ التزم بنو أميّة جانب المشركين أمام بني هاشم الذين لم يفارقوا الرسول في جاهلية ولا إسلام .
   فقد قال رسول الله عن بني هاشم : ( أنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام ، وإنّما نحن وهم شيء واحد ) وشبك بين أصابعه (2).
   نعم كان الأمر كذلك ، فرسول الله كان لا يرتضيهم ، وهُم لم يدخلوا الإسلام إلاّ مكرهين .

(1) تفسير العيّاشي 1 : 157 ، ح 530 .
(2) سنن أبي داود 3 : 146 كتاب الخراج والامارة و .. ، باب في بيان مواضع قسم الخمس .. ، ح 2980 ، وانظر : سنن النسائي 7 : 131 كتاب قسم الفيء .