ويقع الكلام في هذا الباب في أربعة فصول :
   الفصل الأوّل : الكلام في شرعيّة حيَّ على خير العمل ، وأنّها كانت جزءاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
   الفصل الثاني : في تحديد زمن حذف هذه الحَيعَلة ، وامتناع بلال عن التأذين .
   الفصل الثالث : في بيان معنى حيّ على خير العمل ، والأسباب التي دَعَتِ عمر بن الخطاب إلى حَذْفِها من الأذان .
   الفصل الرّابع : بيان تاريخ المسألة وكيف صارت شعاراً لنهج التعبّد المحض ، وحذفُها شعاراً سياسيّاً لخصومهم في العصور المتأخّرة بعد ثبوت شرعيّتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 178 ـ
الفصل الأوّل
في
جزئية حيَّ على خير العمل


الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 180 ـ
   ويتلّخص الكلام فيه في ثلاثة أقسام :
   القسم الأوّل : بيان اتّفاق الفريقين على أصل شرعيّة ( حيَّ على خير العمل ) وانفراد أهل السنة والجماعة بدعوى النَّسخ فيها من بعد .
   القسم الثاني : أسماء من أذّن بـ ( حيَّ على خير العمل ) من الصَّحابة والتّابعين وأهل البيت .
   القسـم الثالث : إجماع العترة .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 181 ـ
القسم الأوّل
اتّفاق الفريقين على أصل شرعيّتها

   من الثابت المسلّم الذي لا يقبل الشكّ هو ثبوت جزئيّة ( حيَّ على خير العمل ) في الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لأنّها مضافاً إلى وجودها في روايات الإمامية الاثني عشرية وفي روايات الزيّدية والإسماعيليّة ، رواها أهل السنة والجماعة بطرقهم ، وأنّ بلالاً كان يؤذّن بها في الصبح خاصّة ، بل كان جمّ غفير من الصحابة يؤذّنون بها .
   وحكي عن بعض أئمّة المذاهب الأربعة أنّهم قالوا بالتأذين بها ، لكنّ عامّتهم ادّعوا أنّ رسول الله أمر بلالاً بحذفها من الأذان ووضع مكانها جملة ( الصلاة خير من النوم ) .
   من هذا يتبيّن أنّهم لا ينكرون شرعيّتها في مبدأ الأمر ، لكنّهم يقولون بنسخها ، فما هو الناسخ إذاً ؟ ولِمَ تُنسخُ هذه الجملة بالخُصوص من الأذان ؟
   للإجابة عن هذا السؤال لابدّ من ملاحظة أنّ أهل السنّة والجماعة انقسموا ـ في هذه المسألة ـ إلى فريقين ، فمنهم من قال إنّ الناسخ هو قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبلال : ( اجعل مكانها الصلاة خير من النوم ) (1) ، في حين لم يَرَ الفريقُ

(1) انظر : مجمع الزوائد 1 : 330 ، ( وفيه : ( رواه الطبراني في الكبير ، وفيه عبدالرحمن بن عمّار بن سعد وقد ضعّفه ابن معين ) .
   والجدير بالذكر أن المتّقي الهندي ذكر رواية الطبراني في كنز العمال 8 : 342 ح 23174 بعد ذكر إسنادها قال : كان بلال يؤذّن بالصبح فيقول : حيَّ على خير العمل ، ولم يذكر فيه : ( اجعل مكانها الصلاة خير من النوم ) .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 182 ـ
  الآخر منهم بُدّاً من السُّكوت عن بيان الناسخ ، لضعف تلك الأخبار وعدم دلالتها على المقصود ، بل لاحتواء تلك الأسانيد على وقفات علميّة ، سَنَديّة ودلاليّة ، يجب بيانها إن اقتضى الحال .
   قال السيّد المرتضى في الانتصار : وقد روت العامّة أنّ ذلك [ أي ( حيّ على خير العمل ) ] مما كان يقال في بعض أيام النبيّ ، وإنّما ادّعي أن ذلك نُسخ ورُفع ، وعلى مَن ادّعى النسخ الدلالة له ، وما يجدها (1) .
  وقال ابن عربي في الفتوحات المكية : ... وأمّا من زاد في الأذان حيَّ على خير العمل فإن كان فُعل في زمان رسول الله ـ كما روي أنّ ذلك دعا به في غزوة الخندق ، إذ كان الناس يحفرون ، فجاء وقت الصلاة وهي خير موضوع كما ورد في الحديث ، فنادى المنادي أهل الخندق ( حيَّ على خير العمل ) ـ فما أخطأ مَن جعلها في الأذان ، بل اقتدى إن صحّ الخبر ، أو سنّ سنّة حسنة (2) .
  وجاء في الروض النضير عن كتاب السنام ما لفظه : الصحيح أنّ الأذان شرّع بحيّ على خير العمل ، لأنّه اتُّفِق على الأذان به يوم الخندق ، ولأنّه دعاءٌ إلى الصَّلاة ، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم ( خير أعمالكم الصلاة ) (3) .
   كما وردت روايات أخرى تفيد أنّ مؤذّني رسول

(1) الانتصار 137 ، باب ( وجوب قول حيّ على خير العمل في الأذان ) .
(2) الفتوحات المكية 1 : 400 .
(3) هذا ما حكاه عزّان محقّق كتاب ( الأذان بحيّ على خير العمل ) 12 عن الروض النضير 1 : 542 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 183 ـ
   الله صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم من الصحابة استمرّوا على التأذين بها حتّى ماتوا (1) .
   وعليه فالفريقان شيعةً وسنةً متّفقان على ثبوت حكمها في الصدر الأوّل وعلى كونها جزء الأذان في بدء التشريع ، لكنّ أهل السنة والجماعة انفردوا بدعوى النسخ ، وهو كلام قُرِّر في العهود اللاحقة لأسباب تقف عليها لاحقاً .
   فهذا الأمر يشير إلى أنّ شرعيتها وجزئيتها كانت ثابتة عند الفريقين من لدن عهد الرسول الأكرم ، ويضاف إلى ذلك أنّ الشيعة الإمامية والزيدية والإسماعيلية لهم طرقهم الخاصَّة والصَّحيحة وكُلُّها تُؤكّد ثبوتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعدم نَسْخها في حياته صلى الله عليه وآله وسلم ، ( وأنّ رسول الله أمَرَ بلالاً أنْ يُؤذّن بها فلم يَزَلْ يُؤَذِّنُ بها حتّى قَبَضَ اللهُ رَسولَهُ ) (2).
   وهذا نص صريح يدل على عدم نسخ ( حَيّ على خير العمل ) وعلى كونها جُزء الأذان حتّى قَبَضَ الله رسوله .
   ويؤيِّد هذا المروي عندنا عن بلال ما رواه الحافظ العلوي الزيدي (3)

(1) المصدر نفسه 50 ـ 56 ..
(2) انظر : من لا يحضره الفقيه 1 : 284/ ح 872 وعنه في وسائل الشيعة 5 : 416 ، والاستبصار 1 : 306 ح 1134 ، والأذان بحيّ على خير العمل للحافظ العلوي 91 .
(3) وهو أبو عبدالله محمد بن علي بن الحسن العلوي الشجري الكوفي ( الإمام المحدّث الثقة العالم الفقيه مسند الكوفة ) كما نصّ عليه الذهبي في العبر 3 : 212 وسير أعلام النبلاء 17 : 636 وابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب 3 : 274 ، مات بالكوفة في ربيع الأول سنة 445 هـ ، ومولده في رجب سنة 367 هـ ، قال ابن النرسي : ما رأيت من كان يفهم فقه الحديث مثلَه ، وقال : كان حافظاً خرّج عنه الحافظ الصوري وأفاد عنه وكان يفتخر به ( سير اعلام النبلاء 17 : 636 ) .
وفي

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 184 ـ


  ( طبقات الزيدية 2 : 292 ) : الثقة العابد مسند أهل الكوفة ، وقد ترجم له الطهراني في طبقات أعلام الشيعة ( أعلام القرن الخامس 170 ـ 172 ) .
  له كتاب ( فضل الكوفة ) و( فضل زيارة الحسين ) و( تسمية من روى عن الإمام زيد من التابعين ) ، و( التاريخ ) ، و( التعازي ) وكتاب ( الجامع الكافي ) وقد جمعه من بضع وثلاثين كتاباً من كتب الإمام محمد بن المنصور المرادي الزيدي ، وهو من أجلّ ما كتب في الفقه ونصوص الأئمّة الزيديّة ، وفيه بحث الأذان .
   وله كتاب على انفراد باسم ( الأذان بحيَّ على خير العمل ) له طرق متعدّدة عند الزيديّة ، وقد أشار محمد يحيى سالم عزّان إلى بعض طرقه إلى هذا الكتاب في مقدّمة تحقيقه ص ( 32 ) ، وكذا العلاّمة السيّد محمّد بن حسين بن عبدالله الجلال ، حيث قال في آخر نسخته : يقول الفقير إلى الله المعترف بالذنب والتقصير محمد بن حسين بن عبدالله الجلال :
  أروي كتاب ( الأذان بحيَّ على خير العمل ) من عدّة طرق عن مشايخي رحمهم الله بطريق الإجازة العامّة ، وأرويه عن سيّدي العلاّمة قاسم بن حسين أبو طالب بالسماع من فاتحته إلى خاتمته إلاّ اليسير منه فبالإجازة العامّة ، وهو يرويه عن عدد من مشايخه ذكرتهم في مؤلّفي المسمّى ( الأنوار السنيّة في إسناد علوم الأمة المحمديّة )منهم شيخه العلاّمة عليّ بن حسين المغربي عن شيخه السيّد العلاّمة عبدالكريم بن عبدالله أبو طالب عن شيخه العلاّمة بدر الال ... إلى آخر مشايخه ـ عن المؤلّف أبي عبدالله محمد بن عليّ بن الحسن بن عليّ بن الحسين بن عبدالرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليهم جميعاً .
  وقد طبع هذا الكتاب في اليمن في شهر صفر عام 1399 هـ ، السيّد يحيى عبدالكريم الفضل عن نسخة العلاّمة الجلال .
   قال المحقق في مقدّمته للكتاب : وقد روى التأذين بـ ( حي على خير العمل ) ، أكثر من عشرة من الصحابة ، وجاءت رواية الأذان من أكثرمن مائة طريق ، وكلّ منها بإسناد متصل ( انظر : المقدمة 5 ـ 6 ) .
  وقد نقل عن هذا الكتاب كثير من الأعلام أمثال الإمام القاسم بن محمّد في كتاب الاعتصام ، والشوكاني في نيل الأوطار ، وأخرج مسنده في كتابه ( إتحاف الأكابر ) ، ورواه وأخرج مسنده العلاّمة عبدالواسع الواسعي في كتابه ( درر الأسانيد ) ، وكذا العلامة مجد الدين المؤيد والعلامة الجلال وغيرهم .
  ومن المؤسف أن النسخة المطبوعة التي بأيدينا مغلوطة ، ولم تعرض وتقابل مع نسخ خطية أخرى للكتاب ، وإن كتب على المطبوع حققه السيد يحيى عبد الكريم الفضل .
   ولأجله استعنت في بعض الأحيان بنسخة أخرى من تحقيق محمد يحيى سالم عزان ، وفي أحيان أخرى بكتاب الاعتصام بحبل الله المطبوع فيه كتاب الأذان بكامله .
   وقد أراني المحقق الحجة السيد محمد رضا الجلالي نسخة من كتاب ( الأذان بحي على خير العمل ) بخط العلامة المحدث السيد محمد بن الحسين الجلال مجيزاً له رواية هذا الكتاب ، وقد أخبرني بأنه يعزم على تحقيقه وطبعه فسرني عزمه آملين له التوفيق والسداد .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 185 ـ
  مسنداً إلى أبي محذورة من أنَّ رسول الله علّمه الأذان ، وفيه التَّأذين بحيَّ على خير العمل (1).
   ومن المعلوم أنَّ أبا محذورة تَعَلَّمَ الأذان من رسول الله ـ حسبما يقولون ـ في أواخر السَّنَة الثامنة من الهجرة بعد رجوعه من حُنَين (2) ، ومعناه ثبوتُ حيّ على خير العمل وشرعيتُها حتّى ذلك التأريخ ، ولم يَأمر رسولُ الله بإبدالها بـ ( الصلاة خير من النوم ) .
   ويضاف إلى ذلك أنَّ رواية الحافظ العَلوي عن بلال تنفي الزيادة التي جاء بها الطبراني والبيهقي عنه رضوان الله تعالى عليه ، لأنَّ الحافظ العَلوي كان قد

(1) انظر : ( الأذان بحيّ على خير العمل ) للحافظ العلوي 26 ـ 27 ،29 .
وكذا : تحقيقعزّان 50 ـ 54 .
(2) سبل السلام 1 : 120 ، كتاب المسند للشافعي 31 ، مسند أحمد 3 : 408 ، سنن النسائي 2 : 5 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 186 ـ
  قال :
   حدّثنا عليّ بن محمّد بن إسحاق المقري الخزّاز ، أخبرنا أبو زرعة أحمد بن الحسين الرازي ، حدّثنا أبو بكر بن تومردا ، أخبرنا مسلم بن الحجّاج ، حدّثنا إبراهيم بن محمّد بن عرعرة ، حدّثنا معن بن عيسى ، حدّثنا عبدالرحمن بن سعد المؤذِّن ، عن محمّد بن عمّار بن حفص بن عمر ، عن جدّه حفص بن عمر بن سعد ، قال : كان بلال يؤذِّن في أذان الصبح بحيَّ على خير العمل (1).
   في حين نرى نفس هذا الحديث قد ورد في الطبراني والبيهقي (2) من طريق يعقوب بن حميد عن عبدالرحمن بن سعد [ المؤذّن ] عن عبدالله بن محمّد وعمر وعمّار ابنَي حفص ، عن آبائهم ، عن أجدادهم ، عن بلال : أنّه كان ينادي بالصبح فيقول : ( حيَّ على خير العمل ) ، إلاّ أنّ فيما أخرجه الطبراني والبيهقي زيادة :
   فأمره النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعل مكانها ( الصلاة خير من النوم ) وترك ( حيَّ على خير العمل ) .
   والمتأمِّل في رواية معن بن عيسى عن عبدالرحمن بن سعدٍ التي أوردها الحافظ العلوي يراها أوثق من رواية يعقوب بن حميد التي أوردها الطـبراني والبيهقي باتفاق الجميع ، لأنَّ معن بن عيسى ثقة ثبت وكذا غيره من رجال

(1) الأذان بحيّ على خير العمل 28 .
وبتحقيق عزّان 56 .
والاعتصام بحبل الله 1 : 290 .
(2) المعجم الكبير 1 : 353 والنصّ عنه ، وفي السنن الكبرى 1 : 425 وفيه قال الشيخ : هذه اللفظه لم تثبت عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيما علّم بلالاً وأبا محذورة ونحن نكره الزيادة فيه وبالله التوفيق .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 187 ـ
  السند .
   وممّا يحبذ هنا هو أنّ نقوم بتحقيق بسيط عن رجال الإسنادين وما رَوَوه عن بلال وأبي محذورة ، واختلاف النقل عنهما ، كي نتعرف على ملابسات مثل هذه الأمور في الشريعة والأحكام :
   وقفه مع الحديثَين (1)
   ذكرت كتب الحديث والتاريخ أسماء أربعة من الذين أذنوا على عهد رسول الله ، وهم :
   1 ـ بلال بن رباح الحبشي
   2 ـ أبو محذورة القرشي
   3 ـ عبدالله بن أمّ مكتوم
   4 ـ سعد القرظ
   وقد أذّن أبو محذورة بعد السنة الثامنة من الهجرة (2) ، وقيل بعد فتح

(1) أحدهما : الذي رواه الطبراني والبيهقي بإسنادهما عن عبدالرحمن بن سعد القرظ ، وفيه : كان بلال يؤذّن في أذان الصبح بحيّ على خير العمل ، وأنّ رسول الله أمره أن يجعل مكانها الصلاة خير من النوم ، وهو يخالف ما رواه الحافظ العلوي من طريق مسلم بن الحجّاج والذي يخلو من هذه الزيادة .
  الثانية : حديث أبي محذورة المختلف فيه ، والذي رواه رجال الصحاح والسنن ليس فيه ( حيّ على خير العمل ) ، أمّا الحافظ العلوي وأحمد بن محمّد بن السري فقد رَوَياه وفيه التأذين بحيّ على خير العمل ، وهو الذي يتّفق مع مرويّات أهل البيت ، وعليه إجماع العترة حسبما ستعرف بعد قليل .
(2) سبل السلام 1 : 120 ، كتاب المسند للشافعي 31 ، مسند أحمد 3 : 408 ، سنن النسائي 2 : 5 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 188 ـ
  مكّة (1) ، ونقل عن سعد القرظ أنّه كان يؤذّن بِقُبا (2).
   وربّما تكـون روايـات الأذان عند المـذاهب الأربعـة والاختلافات في فصوله وأعداده ، راجعة إلى اختلاف عمل هؤلاء الصـحابة في الأذان أو اختلاف النقل عنهم ، مضافاً إلى ما جاء عن عبدالله بن زيد بن ثعلبة بن عبدربه فيه .
   فالاختلاف أمر ملحوظ في الأحاديث ، وقد يُنقَل عن الصحابي الواحد نقلان متخالفان ، فالتكبيرتان والأربع في أوّل الأذان مثلاً ورد كلّ منهما عن عبدالله بن زيد ، والتثويب وعدمه جاءا عن أبي محذورة ، واختص خبر الترجيع (3) بأبي محذورة دون غيره من المؤذنين ، فما سبب كلّ هذا الاختلاف والكل ينسب فعله إلى الصحابه ؟
   ( فمالك والشافعي ذهبا إلى أنّ الأذان مثنى مثنى والإقامة مرّة مرّة ، إلاّ أنّ الشافعيّ يقول في أوّل الأذان ( الله أكبر ) أربع مرات ويرويها محفوظاً عن عبدالله بن زيد وأبي محذورة ، وهي زيادة مقبولة والعمل بها في مكّة ومن تبعهم من أهل الحجاز .
   لكن مالكاً وأصحابه ذهبا إلى تثنية التكبير ، وقد رووا ذلك من وجوهٍ صحاحٍ من أذان أبي محذورة ومن أذان عبدالله بن زيد وعليه عمل أهل المدينة من آل سعد القرظ ) (4).

(1) الطبقات الكبرى لابن سعد 5 : 450 .
(2) تلخيص الحبير 3 : 199 ، تهذيب الأسماء للنووي 1 : 55 .
(3) الترجيع في الأذان هو تكرير الشهادتين جهراً ، هكذا فسره الصاغاني ، انظر : تاج العروس 5 : 351 .
(4) انظر : فتح المالك 1 : 7 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 189 ـ
   واتفق مالك (1) والشافعي (2) على الترجيع في الأذان ، لكن الحنابلة (3) والأحناف (4) قالوا : لا ترجيع في الأذان .
وكل استند فيما ذهب إليه إلى نقله عن بعض الصحابة !!
   قال الأثرم : سمعت أبا عبدالله [ يعني أحمد بن حنبل ] يسأل : إلى أيّ الأذان يذهب ؟ قال : إلى أذان بلال ...
   قيل لأبي عبدالله : أليس حديث أبي محذورة بعد حديث عبدالله بن زيد ، لأنّ حديث أبي محذورة بعد فتح مكّة ؟
   فقال : أليس قد رجع النبيّ إلى المدينة فأقرّ بلالاً على أذان عبدالله بن زيد (5).
   بلى ، إنّ فِعل الصحابي كان هو الحجة رغم الاختلافات ، لكن لنا أنّ نتساءل عن هذا الاختلاف هل أنّه حصل بالفعل في زمن الصحابي ، أم أنّه من صنع المتأخرين ، وما هي ملابسات هذه الأحاديث المختلفة ؟ بل ما هي قيمة رجال إسنادها ؟!
   ونحن إيماناً بضرورة دراسة مثل هذه الأمور سلّطنا بعض الضوء على رجال خبري بلال وأبي محذورة .
   فقد ادّعي في طريق الطبراني والبيهقي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لبلال : ( اجعل مكانها الصلاة خير من النوم ) ، مع أنّ هذه الزيادة غير موجودة في طريق

(1) فتح المالك 1 : 8 .
(2) المجموع للنووي 3 : 90 .
(3) المغني لابن قدامّة 1 : 416 .
(4) المبسوط للسرخسي 1 : 128 ، الهداية شرح البداية 1 : 41 باب الأذان .
(5) المغني لابن قدامة 1 : 416 ـ 417 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 190 ـ
  الحافظ العلوي .
   وفي رواية أبي محذورة ( فاجعل في آخرها : الصلاة خير من النوم ) ، وهي أيضاً غير موجودة في طريق الحافظ العلوي .
   فأيّ النقلين هو الصواب إذن ؟!
   مع ما رواه الطبراني والبيهقي عن بلال
   قد مر عليك قبل قليل (1) ما رواه الطبراني عن شيخه محمّد بن عليّ الصائغ ، والبيهقي بإسناده عن أبي الشيخ الإصفهانيّ ـ في كتاب الأذان ـ عن محمّد بن عبدالله بن رسته ، كلاهما عن يعقوب بن حميد بن كاسب :
   حدّثنا عبدالرحمن بن سعد بن عمّار بن سعد القرظ ، عن عبدالله بن محمّد ، وعمر وعمّار ابنَي حفص ، عن آبائهم ، عن أجدادهم ، عن بلال ...
   وفي هذا الإسناد : يعقوب بن حميد بن كاسب ، فهو أبو يوسف ، مدنيّ الأصل ، مكيّ الدار ، هذا ما قاله ابن أبي حاتم الرازي ، ثمّ قال : سألت يحيى بن معين عن يعقوب بن كاسب ، فقال : ليس بشيء .
   وقال أبو بكر بن خيثمة : سمعت يحيى بن معين يقول وذكر ابن كاسب ، فقال : ليس بثقه ، قلت : من أين قلت ذلك ؟ قال : لأنّه محدود (2) .
   قلت : أليس في سماعه ثقة ؟ قال : بلى .
   أخبرنا عبدالرحمن ، قال : سمعت أبي يقول : ضعيف الحديث .

(1) مرّ في صفحة : 182 .
(2) المحدود : من أقيم عليه الحدّ .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 191 ـ
   أخبرنا عبدالرحمن قال : سألت أبا زرعة عن يعقوب بن كاسب ، فحرّك رأسه ، قلت : كان صدوقاً في الحديث ، قال : لهذا شروط .
وقال في حديث رواه يعقوب : قلبي لا يسكن إلى ابن كاسب (1).
   وقال أبو بكر : سمعت يحيى بن معين وذكر ابن كاسب يقول : ليس بثقة ، فقلت له : من أين قلت ذاك ؟ قال : لأنّه محدود ، قلت : أليس هو في سماعه ثقة ؟ فقال : بلى ، فقلت له : أنا أعطيك رجلاً تزعم أنّه وجب عليه حدٌّ وتزعم أنّه ثقة ، قال : من هو ؟ قلت : خلف بن سالم ، قال : ذلك إنما شتم بنت حاتم مرّة واحدة ، وما به بأس لولا أنّه سفيه .
   قلت لمصعب الزبيري : إنّ يحيى بن معين يقول في ابن كاسب : إنّ حديثه لايجوز لأنّه محدود ، فقال : ليس ما قال ، إنما حده الطالبيّون في التحامل وليس حدود الطالبيين عندنا بشيء لجورهم ، وابن كاسب ثقة مأمون صاحب حديث ، أبوه مولى للخيزران ، وكان من أمناء القضاة زماناً (2) .
   وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ : تفرّد بأشياء وله مناكير ، حدّث عنه البخاري وابن ماجة وعبدالله بن أحمد وإسماعيل القاضي ، وأبو بكر بن أبي عاصم وطائفة ، ذكره البخاري فقال : لم نرَ إلاّ خيراً ، وقال أبو حاتم : ضعيف (3).
   وفي ميزان الاعتدال : قال البخاري : لم نرَ إلاّ خيراً ، هو في الأصل صدوق وشذّ مضر بن محمّد الاسدي فروى عن ابن معين : ثقة ، وروى عبّاس عن يحيى : ليس بثقه (4) ، فقلت : لم ؟

(1) الجرح والتعديل 9 : 206 .
(2) التعديل والتجريح للباجي 3 : 1425 .
(3) تذكرة الحفّاظ 2 : 466 .
(4) في تهذيب الكمال 32 : 322 عن عباس الدوري عن ابن معين : ليس بشيء .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 192 ـ
   قال : لأنّه محدود ...
   والنسائي : ليس بشيء .
   وأبو حاتم : ضعيف .
   قال الذهبي : كان من علماء الحديث لكن له مناكير وغرائب ، وحديثه في صحيح البخاري في موضعين : في الصلح ، وفيمن شهد بدراً ...
   قال الحلواني : رأيت أبا داود السجستاني قد جعل حديث يعقوب بن كاسب وقايات على ظهور كتبه ، فسألته عنه ، فقال : رأينا في مسنده أحاديث أنكرناها ، فطالبناه بالأصول فدافعنا ، ثم أخرجها بَعدُ فوجدنا الأحاديث في الأصول مغيَّرة بخطِّ طَرِيّ ، كانت مراسيل فأسنَدَها وزادَ فيها (1) .
   وفي سير أعلام النبلاء :
   ( ... وكان من أئمّة الأثر على كثرة مناكير له ـ إلى أنّ يقول ـ : وقال ابن عدي : لا بأس به وبرواياته ، هو كثير الحديث ، كثير الغرائب ، كتبت مسنده عن القاسم بن عبدالله عنه ، صَنّفه على الأبواب ، وفيه من الغرائب والنسخ والأحاديث العزيزة ، وشيوخ أهل المدينة ممّن لا يروي عنهم غيره ... ) (2).
   وقال ابن حبّان في الثقات : مات سنة أربعين أو أحد وأربعين ومائتين ، كان ممّن يحفظ وممّن جمع وصنّف ، واعتمد على حفظه فربّما أخطأ في الشيء بعد الشيء ، وليس خطأ الإنسان في شيء يَهِمُ فيه ما لم يفحش ذلك منه بمُخْرِجِهِ عن الثقات إذا تقدّمت عدالته (3) .
   قلت : كيف يقول ابن حبّان هذا وهو يعلم بأن الخدشه فيه جاءت لكونه

(1) ميزان الاعتدال 7 : 276 ـ 277 .
وانظر : الضعفاء الكبير للعقيلي 4 : 446 .
(2) سير أعلام النبلاء 11 : 158 وانظر : كلام ابن عدي في الكامل 7 : 151 .
(3) الثقات لابن حبّان 9 : 285 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 193 ـ
  محدوداً لا من جهة حفظه ، لأنّ الثابت عدم قبول شهادة الفاسق وخصوصاً لو أفحش في التحامل على أهل البيت ، وخصوصاً الإمام عليّ بن أبي طالب ، وهذا يشير إلى نصبه بلا أدنى شك ، لأنّ الطالبيين حدّوه لنصبه ، وقد وقفت على سرّ الحد لقول الزبيري ( إنّما حده الطالبيون في التحامل ) وقول ابن معين في خلف بن سالم ( ... إنّما شتم بنت حاتم مرّة واحدة وما به بأس ) ، وهما يرشدان إلى أنّ الخدشة جاءت فيه من هذه الجهة ، وهي فسق بلا شك ، لا من جهة نسيانه ، وكيف لا يكون فاسقاً غير معتمد الرواية وهو يغير الأصول ويسند المراسيل ؟! أضف إلى كلّ ذلك أنّه كان ( أبوه مولى للخيزران وكان من أمناء القضاة زماناً ) ؟
   وأما عبدالرحمن بن سعد بن عمار بن سعد المؤذّن .
   فقد قال ابن أبي حاتم عنه : سئل يحيى بن معين عن عبدالرحمن المؤذّن ، فقال : مديني ضعيف ، روى عن أبي الزناد (1).
   وقال ابن حجر في تقريب التهذيب : ضعيف من السابعة (2).
   وقال الشوكاني في نيل الأوطار : وعبدالرحمن ضعيف (3).
   وقال ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني : ضعيف (4).
   وقال البخاري في تاريخه الكبير : عبدالرحمن بن سعد فيه نظر ، مولى بني مخزوم (5).

(1) الجرح والتعديل 5 : 238 .
(2) تحرير تقريب التهذيب 2 : 321 .
(3) نيل الاوطار 3 : 346 .
(4) الآحاد والمثاني 1 : 65 .
(5) تاريخ البخاري الكبير 5 : 287 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 194 ـ
   وقال المارديني الشهير بابن التركماني في الجوهر النقي : منكر الحديث (1).
   وضعّفه ابن أبي حاتم ، وقال ابن القطان : هو وأبوه وجدّه مجهولو الحال (2).
   وقال الألباني في إرواء الغليل : عبدالرحمن بن سعد ضعيف وأبوه وجده لايعرف حالهم (3).
   وأما عبدالله بن محمد فقد ضعفه ابن معين (4).
   وسئل يحيى بن معين عن عبدالله بن محمّد وعمّار وعمر ابني حفص بن عمر بن سعد عن آبائهم عن أجدادهم كيف حال هؤلاء ؟ قال : ليسوا بشيء (5).
   وأما عمر بن حفص بن عمر بن سعد القرظ .
   فقد قال ابن معين : ليس بشيء(6) .
   وقال ابن حجر في تقريب التهذيب : عمر بن حفص بن عمر بن سعد القرظ المدني المؤذن فيه لين ، من السابعة(7) .
   وأما عمار بن حفص بن عمر بن سعد القرظ ، فهو أخو عمر ، وهو والد محمّد ،

(1) الجوهر النقي 3 : 286 .
(2) الجوهر النقي 1 : 394 .
(3) إرواء الغليل 3 : 120 .
(4) الجوهر النقي 1 : 394 ،3 : 287 .
(5) انظر : تاريخ ابن معين ( الدارمي ) 169 ، الكامل في الضعفاء 5 : 73 ، الضعفاء للعقيلي 2 : 300 ـ 301 ، والجرح والتعديل 6 : 103 .
(6) الجوهر النقي 3 : 287 الجرح والتعديل 6 : 102 ، المغني في الضعفاء 2 : 464 ، تهذيب الكمال 21 : 302 ، تهذيب التهذيب 6 : 183 .
(7) تحرير تقريب التهذيب 3 : 68 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 195 ـ
  روى عنه عبدالرحمن بن سعد (1).
   قال البخاري : لم يصحّ حديثه (2).
   وقال يحيى بن معين : ليس بشيء (3).
   وأما حفص بن عمر بن سعد القرظ ، فلم يسمع من جدّه ولا غيره من الصحابة ، وربما نسب إلى جدّه فيتوهّمه الواهم أنّه تابعي (4) .
   وقد علّق ابن التركماني على أحد أحاديث حفص بن عمر في كتاب صلاة العيدين بقوله : إنّ حفصاً والد عمر المذكور في هذا السند إن كان حفص بن عمر المذكور في السند الأوّل فقد اضطربت روايته لهذا الحديث ، رواه ها هنا عن سعد القرظ ، وفي ذلك السند رواه عن أبيه وعمومته عن سعد القرظ ، فظهر من هذا أنّ الأحاديث التي ذكرها البيهقي في هذا الباب لا تسلم من الضعف .
   وكذا سائر الأحاديث الواردة في هذا الباب .. (5) وحكى الزيلعي عن ( الإمام ) : وأهل حفص غير مُسمَّين ، فهم مجهولون(6).
   كان هذا حال رجال هذا الإسناد .

(1) التاريخ الكبير 5 : 287 .
(2) ميزان الاعتدال 5 : 211 .
(3) لسان الميزان 4 : 271 ، الجرح والتعديل 6 : 392 .
(4) معرفة علوم الحديث : 70 النوع الخامس عشر .
(5) الجوهر النقي 3 : 287 .
(6) نصب الراية 1 : 265 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 196 ـ
   مع ما رواه الحافظ العلوي عن بلال .
   أمّا طريق الحافظ العلوي فهو أحسن من هذا بكثير ، وإن كان فيه بعض الملابسات ، لأنّ الحافظ خرّج حديثه من طريق مسلم بن الحجّاج ، وإن لم يكن في صحيحه :
   حدثنا إبراهيم بن محمّد بن عرعرة ، حدثنا معن بن عيسى ، حدثنا عبدالرحمن بن سعد المؤذّن ، عن محمّد بن عمّار بن حفص بن عمر .
   وهم خير من أولئك .
   فمسلم بن الحجّاج ، صاحب الصحيح ، فهو إمام عند القوم .
   وأما إبراهيم بن محمّد بن عرعرة بن البرند بن النعمان أبو إسحاق البصري فقال عنه بن أبي حاتم الرازي : سئل أبي عن إبراهيم بن أبي عرعره فقال : صدوق (1).
   وحكى عن عليّ بن الحسين بن حبّان أنّه قال : وجدت في كتاب أبي بخطّ يده قلت له ـ يعني يحيى بن معين ـ : أبو عرعرة ؟
   فقال : ثقة معروف الحديث ، كان يحيى بن سعيد يكرمه ، مشهور بالطلب ، كيّس الكتاب ، ولكنه يفسد نفسه ، يدخل في كلّ شيء (2) ، وجاء فيه بعض التليين .
   وأما معن بن عيسى بن يحيى بن دينار الأشجعي مولاهم القزّاز أبو يحيى

(1) الجرح والتعديل 2 : 130 .
(2) تاريخ بغداد 6 : 149 ـ 151 وفيه : سكن بغداد وحدّث بها عن يحيى بن سعيد القطّان وعبدالرحمن بن مهدي ومحمد بن جعفر و محمد بن بكر البرساني ومعن بن عيسى ...

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 197 ـ
  المدني ، فهو في طبقة يعقوب بن حميد بن كاسب ، فقد ترجم له المزّي في التهذيب (1)، قال أبو حاتم : أثبتُ أصحاب مالك وأوثقهُم معن بن عيسى ، وهو أحب اليَّ من عبدالله بن نافع الصائغ ومن ابن وهب (2).
   أما عبدالرحمن بن سعد المؤذن فضعيف حسبما عرفت .
   وأما محمّد بن عمّار بن حفص بن عمر ، فهو أبو عبدالله المدني مؤذّن مسجد الرسول ، ويقال له : كشاكش ، وهو مولى الانصار ويقال : مولى عمّار بن ياسر (3).
   قال عبدالله بن أحمد بن حنبل عن أبيه : ما أرى به بأس (4)، وقال الدوري عن يحيى بن معين : لم يكن به باس (5).
   وقال عليّ بن المديني : ثقة(6) .
   قال أبو حاتم : شيخ ليس به بأس ، يُكتب حديثه(7) .
   وقال ابن حجر : لا بأس به ، من السابعة(8) .
   وحفص بن عمر بن سعد القرظ قد عرفت حاله وهو مُتكلَّم فيه ، والخبر موقوف عليه وليس بحجة .
   ومع كلّ هذه الملابسات نرى هذا الإسناد أنظف ممّا رواه الطبراني في الكبير والبيهقي عن أبي الشيخ الإصفهاني عن محمّد بن عبدالله بن رُسته في

(1) تهذيب الكمال 28 : 336 .
(2) الجرح والتعديل 8 : 277 ـ 278 الترجمة 1271 .
(3) تهذيب الكمال 26 : 163 ، تهذيب التهذيب 9 : 358 ، التاريخ الصغير 2 : 183 .
(4) العلل لأحمد 2 : 485 ، بحر الدم فيمن مدحه أحمد أو ذمّ 141 .
(5) تاريخ بن معين برواية الدوري 1 : 147 .
(6) لسان الميزان 7 : 369 ـ 370 ، تهذيب الكمال 26 : 163 .
(7) الجرح والتعديل 8 : 43 .
(8) تحرير تقريب التهذيب 3 : 295 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 198 ـ
  السنن .
   مع ما رواه السري عن أبي محذورة ويعضد ثبوت الحيعلة الثالثة عن رسول الله ما رواه الحافظ العلوي بطرق متعددة ـ سيأتيك ذكرها تحت عنوان ( تأذين الصحابة وأهل البيت ) ـ عن أبي محذورة وأنّها اتفقت جميعاً على ثبوت الحيعلة الثالثة .
   وأمّا رواية الحافظ العلوي بإسناده الذي فيه أحمد بن محمّد بن السري فإليك نصّها :
   حدّثنا أبو القاسم عليّ بن الحسين العرزمي إملاءً من حفظه ، قال : حدّثنا أبو بكر أحمد بن محمّد بن السري التميمي ، حدّثنا أبو عمران موسى بن هارون بن عبدالله الجمال ، حدّثنا يحيى بن عبدالحميد الحماني ، حدّثنا أبو بكر بن عياش ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن أبي محذورة ، قال : كنتُ غلاماً صيّتاً ، فأذّنت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لصلاة الفجر ، فلما انتهيت إلى ( حيَّ على الفلاح ) قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : ألحق فيها ( حيَّ على خير العمل ) (1).
   وهذا النص ـ كما تـراه ـ واضـح لا مغمز في لفظه ولا معناه ، لكنّ المتأخّرين من علماء العامّة حرفوا النص عن وجهته فنقلوا الرواية بشكل آخر ، قالوا :
   زعم أحمد بن محمد بن السري أنّه سمع موسى بن هارون عن الحماني عن أبي بكر بن عياش عن عبدالعزيز بن رفيع

(1) الأذان بحيّ على خير العمل 15 ـ 16 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 199 ـ
   عن أبي محذورة ، قال : كنت غلاماً فقال النبيّ : اجعل في آخر أذانك ( حيّ على خير العمل ) (1).
   وبناء على هذا التلاعب قال الحافظ ابن حجر في خبر السري : ( وهذا حدثنا به جماعة عن الحضرمي عن يحيى الحماني وإنما هو : اجعل في آخر أذانك الصلاة خير من النوم ) (2).
   لكن كلامه باطل من عدة جهات :
   الأولى : أنّ مكان ( حيّ على خير العمل ) عند من يقول بها هي وسط الأذان لا في آخره ، وأنّها من أصل الأذان لا زيادة فيه كالصلاة خير من النوم ، وإنّما سوغ لهم هذا التلاعب تحريفهم نص السري عن وجهته ، حيث جعلوا الحيعلة الثالثة في آخر الأذان ، ليتسنى لهم ادعاء أن الرواية وردت بجعل ( الصلاة خير من النوم ) في آخره لا الحيعلة الثالثة .
   الثانية : أنّ زيادة ( الصلاة خير من النوم ) جاءت متأخّرة ، وقد قال مالك عنها أنّها ضلال (3)، ورجع الشافعي عن القول بها في الجديد (4)، لعدم ثبوت ذلك عن أبي محذورة ، وهو مؤشّر على عدم شرعيّتها في أصل الأذان ، فلو كان الأمر كذلك فالزيادة مشكوك فيها ولا يمكن الأخذ بها ، وقد جاء في

(1) ميزان الاعتدال 1 : 283 ـ 284 .
(2) لسان الميزان 1 : 268 .
(3) انظر : مواهب الجليل 2 : 83 كتاب الصلاة ، فضل الأذان والإقامة ، حيث صرّح بأن التثويب ضلال ، فتمحّل بعضهم وقالوا إن المراد بالتثويب ( حيّ على خير العمل ) وهو خنق للحقيقة ، خصوصاً وقد حكى عن مالك تجويزه الحيعلة الثالثة كما سيأتي في آخر القسم الثالث من هذا الفصل ( جزئية حي على خير العمل ) ، والباب الثاني من هذه الدراسة ( الصلاة خير من النوم شرعة أم بدعة ) .
(4) الأمّ 1 : 85 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 200 ـ
  مصنف ابن أبي شيبة عن الأسود بن يزيد قوله وقد سمع المؤذّن يقول ( الصلاة خير من النوم ) فقال : لا يزيدون في الأذان ما ليس سنّة (1).
   الثالثة : إنّ ما زعمه ابن حجر من وضع حديث : نار تلتقط مبغضي آل محمّد ، واتّهم به أحمد بن محمّد بن السريّ ، فباطل .
   إذ لا شاهد له على ذلك إلاّ استعظامه واستكباره أن يرد مثل هذا الحديث في فضل آل محمّد ، ولو أنصف لعلم أنّ مبغضي آل محمّد في النار وأنّه لا استكبار ولا استعظام .
   وهناك روايات كثيرة تشير إلى هذا المعنى ، فقد يكون أحمد بن محمّد بن السري نقل الحديث بالمعنى ، وهو جائز عند الفريقين ، ومحض الانفراد ـ لو صحّ ـ لا يدلّ على الوضع ، خصوصاً مع أنّ لحديثه هذا شواهد ومتابعات كثيرة ، وأحمد هذا ثقة بإجماعهم ، ولم يعيبوا عليه إلاّ شيئاً لا يصح به قدح .
   فأحمد بن محمّد بن السري المعروف بابن أبي دارم المتوفّى 351هـ قال عنه الحافظ محمّد بن أحمد بن حمّاد الكوفي ، بعد أنّ أرّخ وفاته : كان مستقيم الامر عامّة دهره ، ثمّ في آخر أيّامه كان أكثر ما يُقرأ عليه المثالب ، حضرته ورجل يقرأ عليه : إنّ عمر رفس فاطمة حتّى أسقطت بمحسن .
   وفي خبر آخر في قوله تعالى : ( وجاء فرعون ) عمر : ( ومن قبله ) أبو بكر ( والمؤتَفكات ) عائشة وحفصة ، فوافقته على ذلك ، ثمّ أنّه حين أذَّن الناس بهذا الأذان المُحدَث وضع حديثاً متنه : تخرج نار من عدن (2) ...
   وعليه فالخدشة في ابن أبي دارم جاءت لروايته المثالب لا لسوء حفظه

(1) مصنّف ابن أبي شيبة 1 : 189 .
(2) لسان الميزان 1 : 268 ، ودعوى ابن حجر وغيره انّ هذا من مختلقات السري لا يثبت أمام الحقيقة العلمية ، إذ روى هذا التأويل كثير من المحدثين ومن كتبوا في المثالب .