إسماعيل قائماً بأعباء الإمامة الكبرى إلى أن توفّاه الله تعالى إلى رحمته سنة 1087 هـ
(1) .
نجد ( سنة 1224 هـ )
قال عبدالحي بن فخر الدين الحسيني ( المتوفى 1341 هـ ) في ( نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر ) : ... الزيدية بعد ما خالف الشريف حمود ابن محمّد على أهل نجد سنة أربع وعشرين ومائتين وألف أن يزيد أهلها قول ( حيّ على خير العمل ) في ندائهم للصلوات ويَدَعُوا ما توارثوه من السلف في أذان الفجر من قولهم ( الصلاة خير من النوم ) فإنه كان يراها بدعة إنّما أحدثها عمر رضي الله عنه في إمرته
(2) .
وأختم حديثي بما نقله القلقشندي في صبح الأعشى عن الزيدية فقال : ... وهم يقولون : إن نَصَّ الأذَانِ بَدَل الحَيْعَلَتينِ
(3) : ( حَيّ على خَيْر العَمَلِ ) يقولونها في أَذانِهم مرّتين بدل الحَيْعلَتَيْن ، وربَّما قالوا قبل ذلك : ( محمدٌ وعَلِيٌّ خَير البَشَر ، وعِتْرتُهما خير العِتَر ) ومن رأَى أنّ هذا بِدعةٌ فقد حاد عن الجَادَّة .
وهم يسوقون الإِمامة في أوْلاد عَلِيّ كَرَّم الله وَجْهَه من فاطمة عليها السلام ، ولا يُجوِّزونَ ثُبوتَ الإِمامة في غير بنيهما ، إلاّ أنَّهم جَوَّزُوا أن يكونَ كلُّ فاطميِّ عالِمٍ زَاهِدٍ شُجاعٍ خَرج لطَلَب الإِمامة إماماً مَعْصُوماً واجِبَ الطاعة ، سواء كان من ولد الحَسَنِ أو الحُسَينِ عليهما السلام ، ومَن خلع طاعتَه فقد ضَلَّ .
وهم يَرَوْن أن الإِمام المَهْدِيَّ المُنْتَظَر من ولَد الحُسَين دون ولد الحسَن رضي الله عنهما ، ومن
 |
(1) سمط النجوم العوالي 4 : 198 ـ 200 .
(2) نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر : 1646 .
(3) هذا غلط من القلقشندي فالزيدية تقول بالحيعلة الثالثة بعد الحيعلتين لا بدلهما .
|
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 417 ـ
خالف في ذلك فقد أخْطَأ .
ومن قال : إِنَّ الشيخين أبا بَكْرٍ وعُمَر أفضلُ من عَلِيٍّ وبَنِيه فقد أخْطأَ عندهم وخالَف زَيداً في مُعْتَقَدِه ، ويقولون : إنّ تَسْلِيم الحَسَنِ الأمْرَ لمعَاويةَ كان لمصْلَحةٍ آقتضاها الحال ، وإن كان الحقُّ له .
قال في ( التعريف ) : وأَيْمانُهم أَيْمانُ أهْلِ السُّنَّة ، يعني فيحلَّفون كما تقدّم ، ويزاد فيها : وإِلاَّ بَرِئْتُ من مُعْتَقَدِ زَيْد بن عَلِيّ ، ورأيتُ أنَّ قَوْلِي في الأذانِ : ( حَيَّ على خَيْرِ العَمَل ) بِدْعةٌ ، وخَلَعتُ طاعة الإِمام المعصوم الواجب الطَّاعة ، وآدّعَيْتُ أن المَهْدِيَّ المنتَظَر ليس من وَلَد الحُسَينِ بن عليّ ، وقلتُ بتَفْضِيل الشيخين على أمير المؤمنين عَلِيٍّ وبَنِيه ، وطعَنْتُ في رَأْي ابنِهِ الحسن لما اقتضته المَصْلَحةُ ، وطعَنتُ عليه فيه
(1) .
النتيجة
وعليه فشرعية ( حيّ على خير العمل ) ثابتة عند الشيعة بفرقها الثلاث : ـ الإمامية الاثني عشرية ، والزيدية ، والإسماعيلية ـ وعند بعض الصحابة ، وإنّ هذه الجملة هي أصل لما فُسّر في كلام الأئمّة عليهم السلام بـ ( محمّد وعليّ خير البشر ) و ( محمّد وآل محمّد خير البرية ) و ( أنّ عليّاً وليّ الله ) ، فتارة كانت الشيعة تصرح بهذا التفسير ، وأخرى لا تصرح به ، نتيجة للظروف القاسية التي كانت تمر بها .
ويؤكد التفسيرية التي قلناها ما أجاب به السيّد المرتضى رحمه الله ( ت 436 هـ ) فإنه سئل : هل يجب في الأذان بعد قول ( حيّ على خير العمل ) : ( محمّد وعليّ خير البشر ) ؟ فأجاب : إن قال ( محمّد وعليّ خير البشر ) على أنّ ذلك من قوله خارج من لفظ الأذان جاز ، فإنّ الشهادة بذلك صحيحة ، وإنّ لم
 |
(1) صبح الاعشى في صناعة الإنشاء للقلقشندي 13 : 231 .
|
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 418 ـ
يكن فلا شيء عليه
(1) .
وقال ابن البراج ( ت 481 هـ ) في مهذبه : ويستحب لمن أذّن أو أقام أن يقول في نفسه عند ( حيّ على خير العمل ) : ( آل محمّد خير البرية ) مرتين
(2) .
وكذا يُفهم من كلام الشيخ الصدوق ( ت 381 هـ ) أن الذين كانوا يأتون بهذه الصيغ الثلاث أو الأربع! كانوا يأتون بها على أنّها صادرة عن أئمّة أهل البيت ، لقوله رحمه الله : ( وفي بعض رواياتهم ... ومنهم من روى بدل ذلك ... )
(3).
فاختلاف الصيغ عند المؤذنين ، وإتيانها في بعض الأحيان بعد الحيعلة الثالثة وأخرى بعد الشهادة الثانية تشير إلى عدم جزئيتها وكونها تفسيرية .
إذاً عمل الشيعة وتفسيرهم هذا لم يكن عن هوى ورأي ، بل لما عرفوه ووقفوا عليه في مرويات ائمتهم الموجودة عندهم ، وهذا لو جمع إلى سيرة المتشرعة من الشيعة في كل الازمان والابقاع في ( حيّ على خير العمل ) وأنّ المعنيَّ به عندهم الولاية لوقفت على حقيقة أخرى لم تنكشف لك من ذي قبل
(4) .
وممّا يستأنس به لذلك أذان الشيعة بحلب سنة 367 هـ حيث إنّهم كانوا يقولون في أذانهم ( حيّ على خير العمل محمّد وعليّ خير البشر ) ، وكذلك في أذانهم باليمامة سنة 394 هـ ، ففيه ( يقولون في الإقامة : محمّد وعليّ خير البشر وحيّ على خير العمل ) .
 |
(1) رسائل الشريف المرتضى 1 : 279 . ومثله جواب القاضي ابن البراج في جواهر الفقه : 257 .
(2) المهذب 1 : 90 .
(3) من لا يحضره الفقيه 1 : 188 باب الأذان والإقامة وثواب المؤذنين ح 35 .
(4) سنفصل هذا الأمر بإذن الله تعالى في الباب الثالث من هذه الدراسة ( أشهد أن عليّاً ولي الله بين الشرعية والابتداع )
|
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 419 ـ
ومن هذا الباب ما ذُكر من أنّ الحسين بن عليّ بن محمّد ... بن علي بن أبي طالب ( المعروف بابن شكنبة ) كان أوّل من جهر في الأذان بـ ( محمّد وعليّ خير البشر ) في زمن سيف الدولة الحمداني سنة 347 هـ ، ولا يخفى عليك بأنّ هذا المؤذّن والحمدانيين شيعة اثنا عشرية ، وقد عرفت بأنّ الأذان بذلك في حلب كان قبل هذا التاريخ .
ويضاف إليه ما قلناه قبل قليل من أن الشيعة الاثني عشرية ( القطعية ) أذنوا في بغداد ( 290 ـ 356 هـ ) بـ ( أشهد أن عليّاً ولي الله ) ، وأعلوا هذا الإعلان على المآذن في القرن الثامن في القطيف كذلك وغير ذلك من النصوص ، فكلها تؤكد التفسيرية التي كان يبوح بها الشيعة أيّام قوتهم ، وأنّ كلّ ما كانوا يقولونه مأخوذ من كلمات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمّة أهل البيت عليهم السلام ، وأنّ ذلك كله تفسير وتوضيح للحيعلة الثالثة
(1) التي حذفها عمر وسار على نهجه الحذفيّ أتباعُهُ .
ولذلك عظم على الرافضة !! وأهل التشيع حذف الحيعلة الثالثة من الأذان في سنة 369 هـ من قبل نور الدين عم صلاح الدين الأيوبي .
وبهذا فقد تبيّن لنا من كلّ ما سبق أنّ لـ ( حيّ على خير العمل ) أصلاً شرعيّاً ثابتاً ، لكنَّ الظروف السياسيّة العصيبة ونهي عمر بن الخطّاب ، لعبا دوراً كبيراً في طرح شرعيّتها جانباً ـ وقد مرّت عليك بعض الروايات التي صُرّح فيها بحذف الحيعلة الثالثة للتقية من الرواة الذين كانوا يخافون على أرواحهم عند اشتداد سطوة الظالمين ـ ومع كلّ ذلك العسف ترى الصمود الشيعي في جانب آخر ، لذلك راح أتباع الحَذْفِ بعد أن لمسوا شدّة المتمسّكين بها يدّعون بأنّها منسوخة ، وعلى الرغم من شراسة الحملة الموجّهة ضدّ هذا الأصل الشرعيّ وعنف وقسوة رموزها ، إلاّ أنّ المنصفين لم يتمكّنوا من التجّرؤ والقول بأنّ ( حيّ
 |
(1) وقد تكون الشهادة الثالثة هي تفسير للشهادة الثانية كذلك وهذا ما سنوضحه لاحقاً في الباب الثالث ( أشهد أن عليّاً ولي الله بين الشرعية والابتداع ) .
|
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 420 ـ
على خير العمل ) بدعة ، وأكثر ما توصّلوا إليه أن يقولوا عنها : إنّ ذلك الأمر لم يثبت ، و : ما لم يثبت فمن الأولى تركه وعدم الإتيان به !
ولكن ، هل مال جميع المسلمين إلى ذلك ؟
أبداً ، فكثير من الصحابة وكل أهل البيت وعدّة من التابعين أصرّوا إصراراً شديداً على التمسّك بالإتيان بـ ( حيّ على خير العمل ) في أذانهم والتأكيد الحازم الجازم على شرعيّة الإتيان بها ، وأن ليس من عامل شرعيّ قطعيّ دعا إلى طرحها وإسقاطها .. وقد مرّت في مطاوي البحوث شواهد كثيرة تؤيِّد صحّة ذلك بموضوعية ، وقد كان هذا الفصل هو الموضّح لكيفية ( تحوّل هذا الأصل الشرعيّ ) إلى شعار يميّز الشيعة عن غيرهم ، وقد اتّضحت بين ثناياه الدوافع التي دعت أهل السنّة لأن يتّخذوا من ( الصلاة خير من النوم ) شعاراً لهم ، حيث كانت لهذه الجملة أبعادٌ متصلة باجتهاد الخليفة عمر!! لا سنة رسول الله .
لقد تجسدت شعاريّة هذا الموضوع بوضوح في العصور المتأخِّرة ، ويمكن القول بأنّها تجلّت واضحة في العصر العبّاسيّ الأوّل
(1)، وعلى الخصوص في زمن أبي جعفر المنصور الدوانيقيّ ، كما وتجسّدت معالم شعاريّة ( حيّ على خير العمل ) بوضوح أيضاً بعد وفاة المنصور بعد أن صار جلياً وجود تيّارين متباينين ، أحدهما يصرّ بإلحاح جادّ على الإتيان بـ ( حيّ على خير العمل ) ، بينما يحاول الآخر منع ذلك بشتى الطرق ولا يرضى بالإتيان بها .
 |
(1) هي الفترة السياسيّة لخلافة بني العبّاس ، من خلافة أبي العبّاس السفّاح إلى خلافة الواثق بالله ، أي خلافة : أبي العبّاس السفّاح ، والمنصور الدوانيقيّ ، والمهدي العبّاسيّ ، والهادي العباسيّ ، وهارون الرشيد ، والأمين ، والمأمون ، والمعتصم ، وآخرهم الواثق بالله ، ومن بعد وفاته إلى الغزو المغوليّ لبغداد ، اصطلح عليه بين المؤرّخين بالعصر العبّاسيّ الثاني .
|
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 421 ـ
وانطلاقاً من هذا الأساس المتشنّج كانت جميع الحركات الشيعيّة ودُولها في حال استلامها لزمام أُمور السياسة لا تتردّد في إعلاء ( حيّ على خير العمل ) من على المآذن في الأذان إعلاناً عن هويّتهم الحقيقيّة ، بل كان المدّ الجماهيري الشيعي في أحايين قوته يراهن على شرعيتها ، ولا يتنازل عن الهوية المحمدية العلوية .
نعم ، يمكن القول بذلك على أساس اتّخاذ الشيعة ( حيّ على خير العمل ) شعاراً لهم ، وإن كانت هذه الحيعلة الثالثة جزءاً من الأذان النبوي ، فشرعيتها أقدم من تاريخ شعاريتها بكثير ، حيث هي مسألة شرعيّة ثابتة منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد بيّنّا ذلك بما فيه الكفاية .
وأمّا فيما يخصّ ذِكر أذان الإمام زين العابدين عليه السلام الثابت للجميع وليس ثمّة منكر له ، فله ميزة خاصّة ، وذلك لمكانته بين المسلمين عموماً ، فالإماميّة والزيديّة ، بل مختلف فرق الشيعة ـ باستثناء الكيسانية المنقرضة ـ تذعن له وتستسلم لأوامره ونواهيه الشرعيّة ، ويقرّون له عليه السلام بأنّه إمام للمسلمين وحجّة لله على خلقه ، وبالنسبة لباقي الفرق فهم يتعاملون معه كأحد علماء المدينة على أقل ما يقال .. فإتيان الإمام زين العابدين عليه السلام بـ ( حيّ على خير العمل ) يمثِّل ـ بلا ريب ـ شرعيّتها وامتداد جذورها إلى عصر الرسالة الأوّل ، وخصوصاً بعد وقوفنا على قوله عليه السلام ( إنّه الأذان الأول ) والذي يوضّح بأنّ الأذان شرّع في الإسراء والمعراج ، وأن ( حيّ على خير العمل ) ، إشارة إلى ولاية الإمام عليّ وولده ، والذي كتب على ساق العرش .
وكذا الحال بالنسبة إلى فعل ابن عمر ، فإنّ إتيانه بها في أذانه ـ وهو فقيه أهل السنة والجماعة ـ ليؤكد شرعيتها ، ونحن لو أضفنا هذين الموردين إلى ما أورده الدسوقيّ في حاشيته عن الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام وأنّه كان يأتي بها ،
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 422 ـ
وإلى ما ذُكر عن الإمامين الباقر والصادق عليهم السلام ، لاتّضح لنا ولغيرنا بأنّ هذه المسألة لها أصل أصيل في الدين ، بل هناك أصل لما نقول به في كتب أهل السنة والجماعة مستقى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيقين .
فـ ( حيّ على خير العمل ) أصلٌ من الأُصول الثابتة ، ذو جذور عريقة وراسخة تعود إلى عهد رسول الله ، وقد أتى بها الصحابة أيضاً ، إلاّ أنَّه قد دبّ الخلاف فيها منذ عهد عمر بن الخطّاب ، وهذا هو ما تثبته الأدلة والشواهد التاريخيّة والروائيّة ، إلاّ أنَّ التعصّب الأعمى دفع بالبعض دفاعاً عن اجتهاد عمر قبال السنّة النبويّة المباركة لأن يدّعي أنَّ الشيعة هم الذين أدخلوا هذه الروايات في كتبهم ، بل ودفع ذلك التعصب المقيت بالبعض الآخر لأن يدّعي ويزعم أنَّ كتبهم المعتبرة خالية من مثل هذه الروايات ، ولا ندري ما نقول لمن يريد إخفاء عين الشمس بغربال !
ونحن لو دققنا النظر في مسألة نهي عمر بن الخطاب عن متعة الحج ومتعة النساء وحيّ على خير العمل ـ على ما أورده القوشجي في ( شرح التجريد ) ـ لانكشف لنا الترابط فيما بين هذه المسائل الثلاث ، وأنّ مسألة ( حيّ على خير العمل ) تعني ارتباطها بمسألة هامة ترتبط بصميم الخلافة والإمامة ، وهذا ما أثبتناه بالأرقام في الصفحات السابقة
(1) ، وقد عرفت كيف تحوّلت الحيعلة الثالثة إلى شعار للطالبيين ولشيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ومحبّي الزهراء البتول عليها السلام عبر القرون ، وأنّ ثبات الشيعة عليها وتمسّكهم بها يمثّل بحثا استراتيجيّاً بين الفريقين وحدّاً فاصلاً بينهما ، ولعلّ ما روي عن الإمام أبي الحسن الكاظم عليه السلام عن تبيان علّتي النهي الظاهرة والخفية ـ التي مرّ ذكرها ـ جاء للكشف عن النوايا والتوجّهات الحكومية التي أرادت أن تطمس أنَّ خير العمل
 |
(1) انظر : الفصل الثالث ( حيّ على خير العمل ، دعوة للولاية وبيان لاسباب حذفها ) .
|
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 423 ـ
هو : ( بر فاطمة وولدها ) .
وبعد أن بينا تعاريف ( خير العمل ) في روايات أهل البيت عليهم السلام سابقاً ، وانها تعني : ( الولاية ) و ( بر فاطمة وولدها ) ، نصل إلى أنّ نهي الخليفة يمثّل إعلاناً عن عدم الاعتناء ببر فاطمة ، وهو ما يعود بالنتيجة إلى الولاية والخلافة وأن عمر بن الخطاب لا يريد الإشارة إلى خلافة غيره ، بل إنه لا يريد الإشارة إلى كلّ ما يتعلق بها .
وممّا يدعم هذا المعنى ما تنطوي عليه العقوبة التي فرضها عمر بن الخطاب على القائل بها ، فقوله ( أنهى عنها ) أو ( أُعاقِبُ عليها ) بمثابة اعتراف مبدئيّ منه بشرعيّة ( حيّ على خير العمل ) ، واعتراف ضمني على ما يجول في دواخله ، ولذلك فقد ربط نهيه عن ( حيّ على خير العمل ) بنهييه عن متعتَي النساء والحجّ ، اللَّذَيْنِ أكد الإمام عليّ وابن عبّاس ورعيل من الصحابة على شرعيتها ، بخلاف عمر والنهج الحاكم اللذين دعيا إلى تركها ، فترك هذه الثلاث عُمَرِيٌّ ، وأمّا لزوم الإتيان بها أو جوازه فهو علوي ، إذاً الأمر لم يكن اعتباطاً ، بل جاء لوجود رابطة وعلاقة متينة بين كلّ الأمور المنهيّ عنها .
لقد ، بلغ النزاع حول المسألة المبحوثة أوجه في القرنين الرابع والخامس الهجريّين ، حيث إنّ الصراع الفكريّ والاعتقاديّ في تلك الفترة الزمنيّة قد اشتدّ كثيراً ، فسيطر على الشارع العامّ جوٌّ من الخلاف الحادّ بين الشيعة والسنّة ، كلٌّ يدّعي أنَّ الحقّ في جانبه ، ولم يصلا لقاسم مشترك يرضي الطرفين في محاولة للعودة إلى حالة الألفة وعدم التنازع ، فكلٌّ منهما متمسِّك بصلابة بما توصّل إليه ، هؤلاء بأئمتهم ، وأولئك بحكوماتهم .
ولو ألقينا نظرة فاحصة على النصوص التي مرت في حوادث سنة 350 ـ 443هـ ، ودرسنا وضع شدّة النعرة الطائفية واستفحالها ، لشاهدنا بوضوح دور
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 424 ـ
مسألة ( حيّ على خير العمل ) الذي تزامن طرحها مع مسائل اعتقاديّة أُخرى بشكل لا يمكنك التفكيك بينها ، مثل مسألة الغدير ، ولبس السواد وما إلى ذلك .
فلماذا يمنع أهل الكرخ وباب الطاق من النوح يوم عاشوراء ومن تعليق المسوح ؟ ولماذا تقع الفتنة يوم الغدير ؟
قال الذهبيّ في أحداث سنة 389 هـ : ( كانت قد جرت عادة الشيعة في الكرخ وباب الطاق بنصب القباب وإظهار الزينة يوم الغدير ، والوقيد
(1) في ليلته ، فأرادت السنّة أن تعمل في مقابلة هذا أشياء ، فادّعت أنَّ اليوم الثامن من يوم الغدير كان اليوم الذي حصل فيه النبيّ وأبو بكر في الغار ، فعملت فيه ما تعمل الشيعة في يوم الغدير ، وجعلت بإزاء يوم عاشوراء يوماً بعده بثمانية أيّام إلى مقتل مصعب ... )
(2) .
فانظر إلى الأصالة والتحريف معاً ، وكيف تُغيّر الوقائع والأحداث عن مجرياتها وتحرّف عن أصالتها وتوضع باسم الآخرين !
ومن الحوادث التاريخيّة التي برزت فيها شعاريّة ( حيّ على خير العمل ) كرمز للشيعة والتشيّع ما أورده ابن الجوزيّ في ( المنتظم ) في أحداث سنة 417 هـ ، وما جاء في ( مرآة الجنان ) في أحداث سنة 420 هـ ، حيث ذكرا بإنّ الصراع والصدامات بين الشيعة والسنّة في بغداد كانت على أشدّها ، وقد حاول السنّة بشتّى الأساليب التجرُّؤ على مكانة الإمام عليّ عليه السلام الرفيعة السامية ، وبذلوا كلّ ما باستطاعتهم من النيل منه ومحاولة إسقاط مقامه الشامخ أمام أنظار العوامّ ، وعلى هذا الغرار فقد بعث القادر العبّاسيّ ظاهراً ـ أحد وعّاظه ـ إلى مسجد
 |
(1) أي إيقاد الشموع والقناديل والإضاءة .
(2) تاريخ الاسلام : 25 حوادث سنة 381 ـ 400 هـ .
|
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 425 ـ
براثا
(1) ـ مسجد الشيعة ـ في أحد أيّام الجُمَع ، وراح ينال من شخصية الإمام عليّ عليه السلام بكلّ ما لا يليق به لا من قريب ولا من بعيد ، الأمر الذي أثار الشيعة من الذين كانوا حاضرين في ذلك المسجد ، فلم يسكتوا على قباحة ذلك الخطيب ، وحدث لغط وثارت الحميّة الدينيّة ، فلم يكتفوا بالاعتراض اللفظيّ ، بل رموا ذلك الخطيب بكلّ ما كان قريباً من أيديهم فأصابوه وكسروا له أنفه
(2) ، فكانت هذه الحادثة بمثابة الشرارة الاولى التي الهبت حالة الصـدامات فيما بين السـنّة والشيعة في بغداد في تلك السـنة ، وعلى أثر ذلك فقد كتب الشيعة على أبواب دورهم هذه العبارة : ( محمّد وعليّ خير البشر ، فَمَن رضى فقد شكر ، ومَن أبى فقد كفر ) .
ومن خلال هذه الحادثة ومثيلاتها التي حدثت في بغداد على مرّ الأيّام يظهر لنا أنَّ ( حيّ على خير العمل ) أصبحت تُمَثِّل شعاراً للشيعة ، لأنَّ ديدن الجميع هو التأكيد والتركيز عليها ، وعدم التنازل عنها وذلك للاعتقاد الجازم بجزئيّتها ، بخلاف الحكومات التي خافت منها ومن معناها ومغزاها فدأبت على حذفها ، ولهذا يقول صاحب السيرة الحلبيّة : ( إنَّ الرافضة لم يتركوا ( حيّ
 |
(1) ومسجد براثا من المساجد العريقة والقديمة جدّاً ، وكان يومذاك بمثابة معقل الشيعة وحصنهم الحصين ، وتخرّج منه الكثير من الرجال الذين دخلوا تاريخ عالَم التشيّع ، حتّى قال عنه ابن كثير في البداية والنهاية 11 : 271 حوادث سنة 354 هـ ، إنّه : ( عشّ الرافضة ) ، وكان ابن عقدة يعطي دروسه فيه ، ونقل عنه أنّه كان حافظاً لستمائة ألف حديث ، ثلاثمائة ألف حديث منها كانت في فضائل أهل البيت عليهم السلام ، هذا مضافاً إلى إيواء المسجد لعدد كبير من علماء الشيعة ، وكانوا على درجة عالية من الوعي والصلابة في الدين ، جعلت من أحد النواصب لأن يسمّيه بغضاً وتعنتاً بـ ( مسجد ضرار ) انظر البداية والنهاية 11 : 173 .
(2) البداية والنهاية 12 : 28 ـ 29 حوادث سنة 420 هـ .
|