حي على خير العمل
الشرعية والشعارية
تأليف
علي الشهرستاني



الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 2 ـ
الاهداء :
  إلى من آمن بالله والناس مشركون .
  إلى من تحمّل كلّ شيء من أجل الرسول والرسالة .
  إلى من صبر على أذى قريش وهو يقول : أحد ، أحد .
  إلى من رفع نداء التوحيد وحطّم بتكبيره شوكة قريش .
  إلى من لم يؤذن لاحد بعد رسول الله إلاّ للزهراء والحسنين .
  إلى من أُبعد أو ابتعد عن مجريات الأحداث بعد رسول الله صلى الله عليه وآله .
  إلى من وقف أمام التحريف داعياً إلى الأصالة .
  إلى مؤذن رسول الله ومحبّ عترته وآل بيته .
  إلى الصحابي الجليل بلال الحبشيّ رضوان الله تعالى عليه .
  أهدي دراستي هذه .
المؤلف

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 3 ـ
مقدمة المؤلف :
   الحمد لله رب العالمين الذي انزل الكتاب الذي لا يأتعيه الكتاب من بين يديه ولا من خلفه على رسوله الامين وأوضح لنا سبيل معرفة احكامه ، والصلاة والسلام على خاتم النبيين والمرسلين وسيد الاولين والآخرين محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم الى يوم الدين .
   وبعد : فإن الفقه الاسلامي دستور الحياة المثلى ، وقوام المجتمع الفاضل ومن الاسس القويمة التي تبنى عليها الحضارة ويقوم النظام الاكمل وتسمو الامم الى الدرجة العليا .
   وقد جاءت الاحكام الشرعية في الفقه الاسلامي من الدقة والاتقان بشكل لم يدع صغيرةً ولا كبيرةً ، ولم تشذ عنه صادرة ولا واردة ، فما من حالة من الحالات التي تقتضيها الطبيعة البشرية ، او تتحدث لها بسبب مباشر أو غير مباشر إلا وتجد بياناً شافياً لما تتطلبه وتستدعيه مع ممماشاتها الى الظروف ومسايرتها للزمن ، فمهما تطورت حياة الانسان فوق هذه الارض وحدث ما لم يكن في الحسبان فأنه لم يكن بعيداً عن المشرع الاعظم ، فإنك ترى حكمه واضحاً وحله بيّناً وذلك من فضل الله تعالى على عباده حيث لم يتركهم سدى ولم يسلمهم للحيرة ، بل انار سبيل لكل من يبتغي طريق الهداية .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 8 ـ
  فالفقيه لو جمع إلى أدلّته القرآنيّة والحديثيّة شيئاً من تاريخ التشريع وملابسات الأحكام الشرعية لاتّضح للسامع والقارئ حقائق كثيرة في هذا السياق ، وكذا المؤرّخ عليه أن يدرس الأحداث دراسة تحليلية استنباطية كما يفعل الفقيه بالأحاديث ، وأن لا يكتفي بنقل البلاذري والطبري والواقدي وابن سعد وغيرهم من أعلام المؤرِّخين .
   وقد أوضحنا بعض معالم منهجنا في مقدمة كتابنا ( وضوء النبيّ ) وأكّدنا على ضرورة دراسة المتن والسند معاً ، مع بيان الجذور السياسية والاجتماعية والتاريخية والجغرافية للأحداث ، وأن لا يكتفي المؤرّخ أو الفقيه بواحد منها دون الآخر ؛ لأن اتّخاذ أحد الأسلوبين ( القديم أو الجديد ) ربما لا يقنع المطالع وخصوصاً في القضايا الخلافية ، فالبحوث الإسنادية مثلاً هي بحوث تخصّصية بحتة لا يستسيغها الأكاديمي ( الجامعي ) ، وقد تثقل على مسامع غير المتخصّصين .
  وكذلك الحال بالنسبة إلى البحوث التاريخية التشريعية ، فرّبما لا يرى الطالب الحوزوي والأزهري كثير فائدة في طرحها ، ومن هنا سَعَينا أن نجمع ـ في دراساتنا ـ بين الأسلوبين ، كي نخاطب أكبر عدد ممكن من القراء الأعزاء ، مبسطين العبارة والفكرة بقدر المستطاع ، وأشرنا إلى بعض أهدافنا صراحةً بالقول :   وقد انتهجنا هذا الأسلوب في دراستنا واتّبعناه لا لشيء إلاّ لتطوير وإشاعة مثل هذه الدراسات في معاهدنا العلمية وجامعاتنا الإسلامية ، على أمل تعاون المعنيّين معنا في ترسيخ هذه الفكرة وتطويرها ، وأن لا يدرسوا الفقه دراسة إسنادية متنية فقط دون معرفة ملابسات الحكم بكافة نواحيها ، ونرى في طرح مثل هذه الدراسات رُقيّاً للمستوى الفقهي

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 9 ـ
  والأُصولي لدى المذاهب الإسلامية ، وتقريباً لوجهات النظر بين المسلمين ، وترسيخاً لروح الانفتاح فيهم ، ومحاولة للقضاء على مختلف النزعات العاطفية وإبعادها عن مجالات البحث العلمي ، وعدم السماح لتحكّم الخلفيات الطائفية ، والرواسب الذهنية في هذه البحوث العلمية النظرية .
  ولو اتّبعنا مثل هذا الأُسلوب في جميع أبواب الفقه لوصلنا إلى حقيقة الفقه الإسلامي من أيسر طرقه وأسلمها ، ولوقفنا على تاريخ التشريع وملابساته ، ولاتّضحت لنا خلفيات صدور بعض الأحكام ، وعرفنا حكم الله الواحد الذي ينشده الجميع .
   وممّا يجب التأكيد عليه أنّ مشروعنا سيطبّق ـ إن شاء الله تعالى ـ في إطارين :
   1 ـ الإطار التأسيسي .
   2 ـ الإطار التطبيقي .
   ولنا دراسات عن السنّة النبوية ، والقراءات القرآنية ، والنسخ وأساسيّات نقاط الافتراق بين المذاهب الإسلامية كالعصمة ، والقياس ، والاستحسان وسواها .
  وقد قدّمنا سابقاً بعض النماذج التطبيقية للفكرة ، فكان ( وضوء النبيّ ) هو الأوّل ، ثمّ أردفناه بالأذان ، آملين أن نُلحق به الصلاة والحجّ والزكاة وغيرها بإذن الله تعالى .
  ولا نقصد من عملنا هذا إعطاء وجهة نظر فقهيه خاصّة بنا ، بل كانت تلك الدراسات بياناً لكليّاتٍ عقائدية تاريخية فقهية ينبغي أن يعرفها ويتعرّف عليها كلّ مسلم غير جامدٍ على منهجٍ خاصّ ونسق معروف عند طبقة خاصّة من

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 10 ـ
  الفقهاء والمؤرّخين والكتّاب .
   وقد عنيتُ في عملي هذا برفع الغامض وحلّ المبهم من المسائل ، وأردت أن أنتقل بالقارئ الكريم إلى واحات العلم ، وميادين المعرفة ، من غصن إلى غصن ، ومن فنن إلى فنن على شجرة المعرفة لنقتطف من الثمار أحلاها ... من الفقه ، إلى التفسير ، إلى التاريخ ، إلى الرجال ، إلى الحديث ، إلى اللغة ، وإلى كلّ شيء يمتّ للبحث بصلة .
   فالغاية من دراساتنا اذاً هي بيان كليّات وأمّهات المسائل لا جزئيّاتها وسننها ومستحباتها ، فلا تعني بحوثنا بمثل فضل الأذان والمؤذّن ، أو جواز أذان المرأة والصبيّ وعدمهما ، أو جواز إعطاء الأجرة على الأذان أم لا ، وغيرها من عشرات المسائل المطروحة .
   وكذلك مايتّصل بالوضوء ، فلم تكن الدراسة متجهة إلى البحث عن الأسباب والموجبات والنواقض والمستحبات ، بل متجهة إلى بيان حدود الأعضاء المغسولة والممسوحة ، وكيفيّة وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
   وهكذا الحال بالنسبة إلى دراساتنا اللاحقة ـ إن وفّق الله لإتمامها ـ فهي بحوث عن الكليّات والأمّهات لا عن التشعبّات والتفريعات وما يتعلّق بالآداب والسنن .
  هذا ، وقد جعلت دراستي عن الأذان عما هو الأصيل منه والمحرَّف ، فجاءت في ثلاثة أبواب .
  الباب الأول : ( حيّ على خير العمل ) الشرعية والشعارية .
  الباب الثاني : ( الصلاة خير من النوم ) شِرعة أم بِدعة ؟ .
  الباب الثالث : ( أشهد أن عليّاً ولي الله ) بين الشرعية والابتداع .
   وقدمت لهذه الأبواب ببعض البحوث التمهيدية ، كالأذان لغة واصطلاحاً ،

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 11 ـ
  وكَبيان ما قاله أهل السنّة والجماعة بمذاهبهم الأربعة ، والشيعة ـ بفرقها الثلاث ـ في بدء الأذان ، ثمّ كانت لنا وقفه مع أحاديث الرؤيا ، ثمّ تحقيق في ما وراء نظرية الرؤيا .
  منبهاً القارئ الكريم على أن هذه الدراسة هي مواضيع مترابط بعضها ببعض ترابطاً وثيقاً ، فلا يمكن فهم مكانة الشهادة الثالثة في الأذان إلاّ بعد قراءة ( حيّ على خير العمل ) .
   ونظير هذا ما يتعلق بالحَيعَلة الثالثة ( حيّ على خير العمل ) ، فإن معناها لايتّضح كاملاً إلاّ بعد قراءة الشهادة الثالثة ( أشهد أن عليّاً وليّ الله ) .
   أمّا ( الصلاة خير من النوم ) فهي الجدار الحائل بين البابَين ، والموضح لأسرار محاربة شرعية وشعارية الشهادة والحيعلة الثالثتين .
وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 13 ـ
بحوث تمهيدية :
   * الأذان لغة واصطلاحاً
  * تاريخ الأذان
  * بدء الأذان عند أهل السنّة والجماعة
  * أهل البيت وبدء الأذان
  * وقفة مع أحاديث الرؤيا
  * تحقيق فيما وراء نظرية الرؤيا
  * الأذان إعلام للصلاة أم بيان لأصول العقيدة ؟
  * الأذان وآثاره في الحياة الاجتماعية

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 15 ـ
   الأذان نغمة الوحي في سماء الدنيا ، يُرتّلها المؤذِّن آناء الليل وأطراف النهار ، داعياً عباد الله إلى عبادته جلّ شأنه ، ناطقاً بالحقيقة الخالدة ، معلناً حقائق الدين الحنيف بكلّ صراحة ووضوح ، مُذَكِّراً بحلول وقت مناجاة الربّ الكريم ، والدخول في حضرة الجليل .
   كلمات تهزّ المشاعر والعواطف وتشدّ الأرواح إلى مالكها الذي اليه الرُّجعى وإليه المصير .
   أسماء مباركة تردّدها شفاه المؤمنين ، فتزيد المؤمن إيماناً ، والكافر عناداً وخسراناً .
   إنّه دعوة الرحمن أولياءه إلى الطاعة والرحمة والمغفرة ، وهو نداء ملائكة السماء ، وأُنشودة المؤمنين إلى قيام يوم الدين .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 16 ـ
   وما أن يتمّ المؤذن نداءه للظهر ثم العصر ، حتّى يحلّ الغروب وظلام الليل ، وإذا بتراتيل الإسلام :
   أشهدُ أن لا إله الاَّ الله ، أشهدُ أن لا إله الاَّ الله .
   أشهدُ أن محمّداً رسول الله ، أشهدُ أن محمّداً رسول الله تعلو من المآذن .
   فالأذان حينذاك إعلام لإقامة الصلاة في غسق الليل ، وما أن يتمّ المؤمن صلاته ومناجاته مع ربّه حتّى ينصرف إلى الرقاد ، وإذا بالصبح يطلع عليه بفجره الصادق هاتفاً المؤذن فيه باسم الربّ الجليل وباسم الرسول الأمين تارة أُخرى :
   أشهد أن لا إله الاَّ الله ، أشهد أن لا إله الاَّ الله .
   أشهد أنّ محمداً رسول الله ، أشهد أنّ محمداً رسول الله .
   ليقيم ما أمر به الله في كتابه ( أقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشَّمسِ إلى غَسَقِ الليلِ وقرآن الفجرِ إن قرآنَ الفجرِ كانَ مَشهوداً ) (1) .
   والأذان من السنن المؤكّدة التي حثّ عليها الشارع المقدّس ، وهي دعوة الخالق لعباده إلى الدخول في أجواء رحابه المباركة اللامتناهية فُرادى أو مجتمعين ، متراصّين متحابّين ، مؤمنين ، في زمان معيّن ومكان واحد ، وباتّجاه محور وقبلة واحدة ، يرهبون باجتماعهم أعداء الله وجند إبليس .
   إنّه إذاً من أعظم الشعائر الإسلاميّة ؛ لكونه دعوة الحيّ القيّوم لتنبيه الغافلين وإيقاظ النائمين وتذكير الناسين ، بل هو من مصاديق قوله جلّ شأنه :
   ( ومن أحسنُ قَولاً ممّن دعا إلى الله وعَمِلَ صال ـ حاً وقالَ إنّ ـ ني من المسلمين ) (2) .
   ولعلّ من الغرابة بمكان أن نرى وقوع الاختلاف في أمر بديهيّ وإعلاميّ

(1) الإسراء : 78 .
(2) فصّلت : 23 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 17 ـ
  الأذان الذي ينادي به مؤذّنو المسلمين في كلّ يوم وليلة عدّة مرات ـ على اختلاف ألسنة الناس ـ بلسان عربي مبين ، ومن على المآذن وبصوت عال يسمعه الجميع .
   فنتساءل عن سبب الاختلاف والتنازع في فصول هذه الشَّعيرة الإسلاميّة ؟ ولماذا يكون اختلاف في مثل هذه المسألة بين المذاهب الإسلاميّة ؟
   بل لماذا تذهب الشافعيّة إلى تربيع التكبير بخلاف المالكيّة القائلة بتثنيته ؟
   وهل هناك أُمور خفيّة وراء اختلافهم في إفراد أو تثنية الإقامة ؟!
   وهل حقاً أنّ هناك تثويباً (1) أوَّلا وتثويباً ثانياً ؟
   وهل يجب أن يؤتى بالتثويب في أثناء فصول الأذان ، أم بعدها قبل الإقامة ؟ بل ما هو المعني بالتثويب ؟ هل هو : ( الصلاة خير من النوم ) أو ( قد قامت الصلاة ) أو : ( حيّ على خير العمل ) أو هو شيء آخر ؟
   ثُمَّ لماذا اختلفت رواية عبدالله بن زيد بن عبدربّه بن ثعلبة الأنصاري في الأذان (2) ة عن رواية أبي محذورة القرشي ؟
   ولماذا تجيز المذاهب الأربعة الأذان قبل الوقت لصلاة الفجر خاصّة ، مع تأكيدهم المبرم على عدم جواز ذلك في سائر الأوقات المعيّنة ؟

(1) التثويب من ثاب يثوب ، ومعناه : العَود إلى الإعلام بعد الإعلام ، كقول المؤذّن ( حيّ على الصلاة ) ، فإنّه يعود ويرجع إلى دعوته تارة أخرى فيقول ( قد قامت الصلاة ) أو( الصلاة خير من النوم ) أو ( الصلاة الصلاة يرحمك الله ) أو أيّ شيء آخر .
   وقالوا عن ( الصلاة خير من النوم ) إنّه التثويب الأوّل ، وما يقوله المؤذّن بعد الأذان مثل ( السّلام عليك أيّها الأمير ، حيّ على الصلاة ) وأمثاله إنّه التثويب الثاني .
(2) كما سيأتي في صفحه 30 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 18 ـ
   و كيف يمكن تصحيح خبر تأذين ابن أُمّ مكتوم الأعمى للفجر ، وتضعيفهم لروايات صحيحة أخرى تطابق العقل والشرع في أنه كان يؤذّن بالليل وفي شهر رمضان خاصة ؟
   بل كيف يقولون بتأذين ابن أُم مكتوم مع قولهم بكراهة تأذين الأعمى ؟
   أضف إلى ذلك كله أنّه ما الداعي إلى اختلاف أذان أهل مكّة عن أذان أهل المدينة ، واختلاف الأذانين عن أذاني أهل الكوفة وأهل البصرة ؟
   ولماذا يختلفون فيما هو ـ واللفظ لابن حزم ـ ( منقول نقل الكافّة بمكّة وبالمدينة وبالكوفة ، لأنّه لم يمرّ بأهل الإسلام يوم إلاّ وهم يؤذّنون فيه في كلّ مسجد من مساجدهم خمس مرّات فأكثر ، فمثل هذا لا يجوز أن يُنسى ولا أن يُحرّف ) (1) .
   فلماذا نُسي أو حُرّف هذا الأذان واختُلف فيه بين مصر وآخر ؟
   ولو صحّ ما قاله ابن حزم ـ من صحّة جميع منقولات الأذان على اختلافها ـ عند جمعه بين الوجوه في الأذان ؛ فكيف يمكننا أن نوفّق بين وحدة الشريعة وبين تعدّدية الأذان ؟ فهل كان رسول الله قد صحّح الجميع ؟ أم وقع في الأذان تغيير يشهد به إحداث عثمان بن عفان للأذان الثالث يوم الجمعة (2) ؟ .
   قال ابن حزم جامعاً بين كلّ تلك الوجوه :
   ( ... كلّ هذه الوجوه قد كان يُؤذّن بها على عهد رسول الله بلا شكّ ، وكان الأذان بمكّة على عهد رسول الله يسمعه عليه السلام إذا حجّ ، ثمّ يسمعه أبو بكر وعمر ، ثم عثمان بعده عليه السلام ... فمن

(1) المحلَّى لابن حزم 3 : 153 .
(2) انظر : تحفة الأحوذي 3 : 41 / أبواب الجمعة ـ باب ما جاء في أذان الجمعة ؛ عون المعبود 3 : 302 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 19 ـ
   الباطل الممتنع المحال الذي لا يحلّ أن يظنّ بهم أنّ أهل مكّة بدّلوا الأذان وسمعه أحد هؤلاء الخلفاء رضي الله عنهم ، أو بلغه والخلافة بيده فلم يغيّر ... وكذلك فُتحت الكوفة ونزل بها طوائف من الصحابة رضي الله عنهم ، وتداولها عمّال عمر بن الخطاب ، وعمّال عثمان رضي الله عنهما ، كأبي موسى الأشعري ، وابن مسعود ، وعمّار ، والمغيرة ، وسعد بن أبي وقّاص ، ولم يَزَل الصحابة الخارجون عن الكوفة يؤذّنون في كلّ يوم سفرهم خمس مرات ، إلى أن بَنَوها وسكنوها ، فمن الباطل المحال أن يُحال الأذان بحضرة من ذكرنا ويخفى ذلك على عمر وعثمان أو يعلمه أحدهما فيقرّه ولا ينكره .
  ثم سكن الكوفة عليّ بن أبي طالب إلى أن مات ، وأنفذ العمّال من قِبله إلى مكّة والمدينة ، ثمّ الحسن ابنهُ رضي الله عنه إلى أن سلّم الأمر لمعاوية ، فمن المحال أن يُغيَّر الأذان ولا ينكر تغييره عليّ ولا الحسن ، ولو جاز ذلك على عليّ لجاز مثله على أبي بكر وعمر وعثمان ، وحاشا لهم من هذا فما يَظنُّ هذا بهم ولا بأحد منهم مسلمٌ أصلاً .
  فإن قالوا : ليس أذان مكّة ولا أذان الكوفة نقل كافّة .
  قيل لهم : فإن قالوا لكم : بل أذان أهل المدينة ليس هو نقل كافة ، فما الفرق ؟
  فإنِ ادّعوا في هذا محالاً ادُّعي عليهم مثله .
  فإن قالوا : إن أذان أهل مكّة وأهل الكوفة يرجع إلى قوم

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 20 ـ
   محصور عددهم .
  قيل لهم : وأذان أهل المدينة يرجع إلى ثلاثة رجال لا أكثر ، مالك وابن الماجشون وابن أبي ذئب فقط ، وإنّما أخذه أصحاب هؤلاء عن هؤلاء فقط .
فإن قالوا : لم يختلف في .. ) (1) .
   إلى غيرها من عشرات الأسئلة التي طرحها ابن حزم وسعى لرفعها ، لكن المشكلة بقيت كما هي ، فما الذي تكتنفه هذه المسألة من الملابسات إذاً ؟
   وهل يُعدّ هذا الاختلاف حقاً من الاختلاف المسموح به في الشريعة ، أم أنّه شيء آخر ؟ .
   بل لِم اشتدّ أُوار النزاع بين المسلمين في أمور بديهية ، كالوضوء والأذان ـ مثلاً ـ وهما من الأمور العبادية التي يؤدّيها كلّ مسلم عدّة مرّات في اليوم والليلة ؟
   قال ابن حزم : ( أربعة أشياء تَنازَع الناسُ فيها : الوضوء ، والأذان ، والإقامة ، والطواف بالبيت ) (2) .
   وهل يمكن جعل معيار الاختلاف في الأذان بمثابة الاختلاف في تعيين المُدِّ والصاع والوسق الذي يُختلف فيه بين منطقة وأُخرى ، أو يُغيَّر ـ أي يُحدَثُ فيه من قبل الأمير والخليفة لحاجةٍ له فيه ؟
   كلا ( ليس هذا من المدّ والصاع والوسق في شيء ، لأنّ كل مدّ أو قفيز أُحدث بالمدينة وبالكوفة قد عُرف ، كما عُرف

(1) المحلّى لابن حزم 3 : 154 ـ 155 .
(2) المحلّى لابن حزم 3 : 161 ضمن بحثه عن جواز التقديم والتأخير في الأذان والإقامة وعدمه .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 21 ـ
   بالمدينة مُدّ هشام الذي أُحدِث ، والمدّ الذي ذكره مالك في مُوطّئه : أن الصاع هو مدّ وثلث بالمدّ الآخر ، وكمدّ أهل الكوفة الحجّاجي ، وكصاع عمر بن الخطّاب ، ولا حرج في إحداث الأمير أو غيره مدّاً أو صاعاً لبعض حاجته ، وبقي مُدُّ النبيّ وصاعه ووسقه منقولاً إليه نقل الكافّة إليه ) (1) !
   فكيف يختلفون في الأذان إذاً ، فيذهب بعضهم إلى أنّه شُرّع في السماء ، ويقول الآخر إنّه شُرّع بعد رؤيا رآها صحابيٌّ أو عدد من الصحابة ؟
   وهل يصحّ تشريع العبادة بمنام يراه أحد الناس ، أم أنّ تشريعها يجب أن يكون بوحي من الله ؟
   وكيف يسوغ تشريع الأذان أستناداً إلى رؤيا رآها عبدالله بن زيد بن عبد ربه في منامه ، أو ركوناً إلى اقتراح الصحابة (2) ، ويرجح هذا الفهم وهذه الرؤية على أن يكون تشريع الأذان من الحكيم العليم ؟
   ألا تحمل هذه الرؤية نَيْلاً من قدسية الأمور العبادية الإلهيّة ، وتقلل من منزلتها المعنويّة ؟!
   ثمّ مَن هو الذي رأى في المنام ،هل هو : عبدالله بن زيد (3) ؟ أو : عمر

(1) المحلّى لابن حزم 3 : 156 ـ 157 .
(2) سنن أبي داود 1 : 134 كتاب الصلاة باب بدء الأذان ح 498 ، مصنف عبدالرزاق 1 : 456/1775 كتاب الصلاة باب بدء الأذان .
(3) هو المشهور عند أهل السنّة والجماعة ، وفيه روايات كثيرة .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 22 ـ
  ابن الخطّاب (1) ؟ أو : أبو بكر (2) ؟ أو : أُبَي بن كعب (3) ؟ أو : سبعة من الصحابة (4) أو : أربعة عشر منهم (5) ؟ أو أكثر من هذا العدد أو أقلّ ؟
   وكيف يراه هؤلاء ولا يراه النبيّ المرسل الصادق الرؤيا بلا شكّ وريب ؟
   وماذا نقول عن : ( الصلاة خير من النوم ) و : ( حيّ على خير العمل ) ؟ وهل ثمّةَ ترابط بين رفع ( حيّ على خير العمل ) ووضع ( الصلاة خير من النوم ) ؟ أم أنّ الأمر جاء بشكل عفوي دون تدبير ؟!
   وإذا كان الأمر عفويّاً ، فلماذا نرى أنّ من يقول بشرعيّة ( حيّ على خير العمل ) لا يقول بشرعيّة ( الصلاة خير من النوم ) ، ومن يقول بشرعيّة ( الصلاة خير من النوم ) يرفع ( حيّ على خير العمل ) من الأذان ؟
   وهل أنّهما شرعيان ؟ أم أنّ أحدهما شرعيّ والاخر بِدْعيّ ؟ فأيّهما الشرعي وأيّهما البدعي إذاً ؟
   وما هو حكم الشهادة الثالثة التي تقول بها الشيعة الإمامية ( أشهدُ أنّ عليّاً وليُّ الله ) ، فهل هي من الشرع أم أنّها بدعة ؟
   وما هو عدد التكبيرات في أوّل الأذان ، أهي أربع تكبيرات أو تكبيرتان ؟
   ثمّ ما هي خاتمة الأذان ، هل هي ( الله أكبر ) أو ( لا إله إلاَّ الله ) ؟
   وهل أن الأذان بيان لأصول العقيدة وكلّيّات الإسلام من : التوحيد ، والنبوة

(1) سنن أبي داود 1 : 134 كتاب الصلاة باب بدء الأذان ح 498 .
(2) مجمع الزوائد 1 : 329 كتاب الصلاة باب بدء الأذان ، جامع المسانيد 1 : 299 ،تفسير القرطبي 6 : 225 المائدة الآية 58 .
(3) علل الشرائع : 312 ح 1 وعنه في بحار الأنوار 81 : 354 .
(4) المبسوط للسرخسي 1 : 128 كتاب الصلاة باب بدء الأذان .
(5) السيرة الحلبية 2 : 300 باب بدء الأذان ومشروعيّتة .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 23 ـ
  و ... ، أم أنّه مجرّد إعلام لوقت الصلاة خاصّة ؟
   ولماذا الاختلاف في أمر بديهيّ وإعلاميّ كهذا ؟
   تُرى ، هل نشأ هذا الخلاف في عصر الصحابة الذين يقال عن قرنهم إنّه خير القرون ، أو حدث في عهد التابعين وتابعي التابعين ومَن تَلاهُم ؟ وهل ثمة ملابسات لهذه الأمور في الصدر الأوّل ؟ أم أنّها جاءت في العصور اللاحقة ؟!
   لقد نقل الصنعاني كلام بعض المتأخّرين ـ وهو يسعى لرفع الخلاف في أَلفاظ الأذان ـ بقوله :
   ( هذه المسألة من غرائب الواقعات يقلّ نظيرها في الشريعة ، بل وفي العبادات ؛ وذلك أنّ هذه الألفاظ في الأذان والإقامة قليلة محصورة معيّنة يُصاح بها في كلّ يوم وليلة خمس مرّات في أعلى مكان ، وقد أُمر كلّ سامع أن يقول كما يقول المؤذّن ، وهم خير القرون ، في غرّة الإسلام ، شديدو المحافظة على الفضائل ، ومع هذا كلّه لم يذكر خوض الصحابة ولا التابعين واختلافهم فيها ، ثمّ جاء الخلاف الشديد من المتأخّرين ، ثمّ كلّ من المتفرّقين أدلى بشيء صالح في الجملة وإن تَفاوَت ) (1) .
   ترى ما مدى مصداقية هذا الكلام وقربه من الواقع ؟ وهل من الصحيح أنّ الصحابة لم يختلفوا في الأذان كما ادّعى هذا القائل من المتأخرين ؟! بل هل يصحّ ما قاله ابن حزم عن الصحابة ، كما مرّ بنا قبل قليل (2) ؟ .
   للإجابة عن أهمّ الملابسات والتساؤلات ، لابُدّ من البحث وتنقيح المطالب ووضع النقاط على الحروف ، فنقول مستعينين بالله :

(1) سبل السلام 1 : 122 .
(2) مر في صفحة 18 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 24 ـ
الأذان لغة واصطلاحاً

   من المفيد قبل البدء في تفاصيل هذه الدراسة أن نتعرّف على المعنى اللغويّ والمفهوم الاصطلاحي للأذان ، وبيان تاريخ تشريعه وما قيل في الملابسات الدائرة حوله .
   الأذان في اللغة ، هو : مطلق الإعلام .
   وفي الشرع : الإعلام والنداء للفريضة الواجبة ـ الصلاة ـ بفصول معهودة في أوقات مخصوصة ، قال تعالى : ( وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُون ) (1) .
   وقال جلّ جلاله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) (2) .
  وقال عزَّ مِن قائل : ( رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ) (3) .
   وقد وردت لفظة الأذان بمعناها اللغوي في الذكر الحكيم ، كما في قوله تعالى : ( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا ... ) (4) ، وقوله : ( وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ ... ) (5) وغيرها من الاستعمالات الكثيرة الدالَّة على معنى الإعلام والنداء .
   منبهين القارئ الكريم على أن الأذان وإن كان إعلاماً للفريضة الواجبة ، إلاّ

(1) المائدة : 58 .
(2) الجمعة : 9 .
(3) آل عمران : 193 .
(4) الحجّ : 27 .
(5) التوبة : 3 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 25 ـ
  أنّه يحمل في طيّاته جوانب أُخرى وفوائد كثيرة للمرء المسلم ، سنذكر بعضاً منها ، ممّا يؤكد لنا أنَّ الأذان ليس إعلاماً محضاً للصلاة ، بل هو فصول لها أكثر من واقع في الحياة الإسلاميّة ، تَجمَع تحت ألفاظها معانيَ الإسلام وأصولَه وعقيدته .

تاريخ الأذان
   هناك أقوال متعدِّدة ومتفاوتة في تاريخ تشريع الأذان من حيث الزمان والمكان :
   أحدها : تشريعه في الإسراء والمعراج ، حيث أذَّن جبرئيل وأقام ، ثمّ صلَّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالأنبياء (1) .
   ثانيها : تشريعه بمكّة قبل الهجرة (2) .
   ثالثها : تشريعه في المدينة المنورة في السنة الأُولى للهجرة (3) ، وذلك بعد بناء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مسجده المبارك ، وهذا القول هو المشهور عند أهل السنة والجماعة .

(1) مجمع الزوائد 1 : 328 ، الأوسط للطبراني 10 : 114 ح 9243 ، نصب الراية 1 : 260 ، السيرة الحلبية 2 : 93 .
(2) قال ابن عابدين في حاشية ردّ المحتار 1 : 413 : في حاشية الشبراملسي على شرح المنهاج للرملي عن شرح البخاري لابن حجر إنّه وردت أحاديث تدلّ على أنّ الأذان شرّع بمكة قبل الهجرة : منها للطبراني أنّه لما أُسري بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم اُوحي إليه الأذان فنزل به فعلّمه بلالاً ، وللدار قطني في الإفراد من حديث أنس أنّ جبرئيل أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالأذان حين فُرضت الصلاة ... الخ .
(3) صحيح ابن خزيمة 1 : 190 ، السيرة الحلبية 2 : 93 .