فيجب على الشيخ ـ الذي حكيت أيها الاخ عنه ـ أن يدين الله بكل ما تضمنته هذه الروايات ، ليخرج بذلك عن الغلو على ما ادعاه ، فان دان بها ، خرج عن التوحيد والشرع ، وإن ردها ناقض في اعتلاله ، وإن كان ممن لا يحسن المناقضة ، لضعف بصيرته ، والله نسأل التوفيق .
من جنس الخبر عن سهوه في الصلاة ، وإنه من أخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، ومن عمل عليه فعلى الظن يعتمد في ذلك دون اليقين ، وقد سلف قولنا في نظير ذلك بما يغني عن اعادته في هذا الباب . مع أنه يتضمن خلاف ما عليه عصابة الحق لانهم لا يختلفون في أنه من فاتته صلاة فريضة فعليه أن يقضيها أي وقت ذكرها ، من ليل أو نهار ما لم يكن الوقت مضيقا لصلاة فريضة حاضرة .
وإذا حرم على الانسان أن يؤدي فريضة قد دخل وقتها ليقضي فرضا قد فاته ، كان حظر النوافل عليه قبل قضاء ما فاته من الفرض أولى ، هذا مع الرواية عن النبي عليه السلام أنه قال : لا صلاة لمن عليه صلاة ،
(1) يريد أنه لا نافلة لمن عليه فريضة .
فصل : ولسنا ننكر بأن يغلب النوم الانبياء عليهم السلام في أوقات الصلوات حتى تخرج ، فيقضوها بعد ذلك ، وليس عليهم في ذلك عيب ولا نقص ، لانه ليس ينفك بشر من غلبة النوم ، ولان النائم لا عيب عليه وليس كذلك السهو ، لانه نقص عن الكمال في الانسان ، وهو عيب يختص به من اعتراه .
وقد يكون من فعل الساهي تارة ، كما يكون من فعل غيره ، والنوم لا يكون إلا من فعل الله تعالى ، وليس من مقدور العباد على حال ، ولو كان من مقدورهم لم يتعلق به نقص وعيب لصاحبه لعمومه جميع البشر ، وليس كذلك السهو ، لانه يمكن التحرز منه .
ولانا وجدنا الحكماء يجتنبون أن يودعوا أموالهم واسرارهم ذوى السهو والنسيان ، ولا يمتنعون من إيداع ذلك من يغلبه النوم أحيانا ، كما لا يمتنعون من إيداعه من يعتريه الامراض والاسقام .
ووجدنا الفقهاء يطرحون ما يرويه ذو والسهو من الحديث ، إلا أن يشركهم فيه غيرهم من ذوي التيقظ ، والفطنة ، والذكاء ، والحصافة ، فعلم فرق ما بين السهو والنوم بما ذكرناه .
---------------------------
(1) نصب الراية 2 : 166 ، ( * )
عدم سهو النبي ( ص )
_ 29 _
ولو جاز أن يسهو النبي عليه السلام في صلاته وهو قدوة فيها حتى يسلم قبل تمامها وينصرف عنها قبل كمالها ، ويشهد الناس ذلك فيه ويحيطوا به علما من جهته ، لجاز أن يسهو في الصيام حتى يأكل ويشرب نهارا في رمضان بين أصحابه وهم يشاهدونه ويستدركون عليه الغلط ، وينبهونه عليه ، بالتوقيف على ما جناه ولجاز أن يجامع النساء في شهر رمضان نهارا ولم يؤمن عليه السهو في مثل ذلك حتى يطأ المحرمات عليه من النساء وهو ساه في ذلك ظان انهم ازواجه ويتعدى من ذلك إلى وطي ذوات المحارم ساهيا .
ويسهو في الزكاة فيؤخرها عن وقتها ويؤديها إلى غير أهلها ساهيا ، ويخرج منها بعض المستحق عليه ناسيا .
ويسهو في الحج حتى يجامع في الاحرام ، ويسعى قبل الطواف ولا يحيط علما بكيفية رمي الجمار ، ويتعدى من ذلك إلى السهو في كل أعمال الشريعة حتى يقلبها عن حدودها ، ويضيعها في أوقاتها ، ويأتي بها على غير حقائقها ، ولم ينكر أن يسهو عن تحريم الخمر فيشر بها ناسيا أو يظنها شرابا حلالا ، ثم يتيقظ بعد ذلك لما هي عليه من صفتها ، ولم ينكر أن يسهو فيما يخبر به عن نفسه وعن غيره ممن ليس بربه بعد أن يكون مغصوبا في الاداء .
وتكون العلة في جواز ذلك كله أنها عبادة مشتركة بينه وبين أمته ، كما كانت الصلاة عبادة مشتركة بينهم ، حسب اعتلال الرجل ـ الذي ذكرت أيها الاخ عنه ما ذكرت من اعتلاله ـ ويكون أيضا ذلك لاعلام الخلق انه مخلوق ليس بقديم معبود .
وليكون حجة على الغلاة الذين اتخذوه ربا ، وهذا ـ أيضا ـ سببا لتعليم الخلق أحكام السهو في جميع ما عددناه من الشريعة كما كان سببا في تعليم الخلق حكم السهو في الصلاة ،
عدم سهو النبي ( ص )
_ 30 _
وهذا ما لا يذهب إليه مسلم ولا ملي ولا موحد ، ولا يجيزه على التقدير في النبوة ملحد ، وهو لازم لمن حكيت عنه ما حكيت ، فيما أفتى به من سهو النبي عليه السلام ، واعتل به ، ودال على ضعف عقله ، وسوء اختياره ، وفساد تخيله .
وينبغي أن يكون كل من منع السهو على النبي ( عليه السلام ) في جميع ما عددناه من الشرع ، غاليا كما زعم المتهور في مقاله : أن النافي عن النبي عليه السلام السهو غال ، خارج عن حد الاقتصاد ، وكفى بمن صار إلى هذا المقال خزيا .
فصل : ثم من العجب حكمه على أن سهو النبي ( عليه السلام ) من الله ، وسهو من سواه من أمته وكافة البشر من غيرهم من الشيطان بغير علم فيما ادعاه ، ولا حجة ولا شبهة يتعلق بها أحد من العقلاء ، اللهم إلا أن يدعى الوحي في ذلك ، ويبين به ضعف عقله لكافة الالباء .
ثم العجب من قوله : أن سهو النبي ( عليه السلام ) من الله دون الشيطان ، لانه ليس للشيطان على النبي عليه السلام سلطان ، وانما زعم أن سلطانه على الذين يتولونه ، والذين هم به مشركون ، وعلى من اتبعه من الغاوين .
ثم هو يقول : إن هذا السهو الذي من الشيطان يعم جميع البشر ـ سوى الانبياء والائمة ـ فكلهم أولياء الشيطان وإنهم غاوون ، إذ كان للشيطان عليهم سلطان ، وكان سهوهم منه دون الرحمن ، ومن لم يتيقظ لجهله في هذا الباب ، كان في عداد الاموات
عدم سهو النبي ( ص )
_ 28 _
فصل : فاما قول الرجل المذكور ان ذا اليدين معروف ، وأنه يقال له : أبو محمد ، عمير بن عبد عمرو ، وقد روى عنه الناس ، فليس الامر كما ذكر ، وقد عرفه بما يدفع معرفته من تكنيته وتسميته بغير معروف بذلك ، ولو أنه يعرف بذي اليدين ،لكان أولى من تعريفه بتسميته بعمير ، فان المنكر له يقول : من ذو اليدين ؟ ومن هو عمير ؟ ومن هو ابن عبد عمرو ؟ وهذا كله مجهول غير معروف .
ودعواه انه قد روى الناس عنه ، دعوى لا برهان عليها ، وما وجدنا في اصول الفقهاء ولا الرواة حديثا عن هذا الرجل ، ولا ذكرا له ، ولو كان معروفا كمعاذ بن جبل ، و عبد الله بن مسعود ، وأبي هريرة و أمثالهم ، لكان ما تفرد به غير معمول عليه ، لما ذكرناه من سقوط العمل باخبار الاحاد ، فكيف وقد بينا أن الرجل مجهول غير معروف ، والخبر متناقض باطل بما لا شبهة فيه عند العقلاء .
ومن العجب بعد هذا كله ، أن خبر ذي اليدين يتضمن أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سها فلم يشعر بسهوه أحد من المصلين معه من بني هاشم ، والمهاجرين ، والانصار ، ووجوه الصحابة ، وسراة الناس ، ولا فطن لذلك وعرفه إلا ذو اليدين المجهول ، الذي لا يعرفه أحد ، ولعله من بعض الاعراب ، أو شعر القوم به فلم ينبهه أحد منهم على غلطه ، ولا رأى صلاح
عدم سهو النبي ( ص )
_ 32 _
الدين والدنيا بذكر ذلك له الا المجهول من الناس ، ثم لم يستشهد على صحة قول ذي اليدين فيما خبره به من سهو إلا أبا بكر وعمر ، فانه سألهما عما ذكره ذو اليدين ، ليعتمد قولهما فيه ، ولم يثق بغير هما في ذلك ، ولا سكن إلى أحد سواهما في معناه .
وان شيعيا يعتمد على هذا الحديث في الحكم على النبي ( عليه السلام ) بالغلط ، والنقص ، وارتفاع العصمة عنه من العناد لناقص العقل ، ضيف الرأي ، قريب إلى ذوي الآفات المسقطة عنهم التكليف .
والله المستعان ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .