3 ـ ومنها : إجارته أبا سلمة المخزومي ، وقد أسلم أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، فأرادت قريش أن تعذبه لتصرفه عن الإسلام فلجأ إلى ( خاله ) أبي طالب ، فخلصه من العذاب ، فجاء وفد من مخزوم إلى أبي طالب وقالوا له : يا أبا طالب ، هبك منعت منا ابن أخيك محمداً ، فما بالك ولصاحبنا تمنعه منا ؟ !
  فأجابهم : إنه استجارني وهو ابن أختي (1) ، وإن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي (2) .
  كما كان يوصي النجاشي بأبيات للذين لجأوا إليه من المؤمنين ومنهم ابنه جعفر ، بعد رجوع عمرو بن العاص خائبا منه . وقد ذكرنا ذلك في فصل شعره ، ولم يقف دفاعه عند هذا الحد حتى شمل الدعوة الإسلامية بكل أبعادها والتي اعتنقها عن عقيدة ويقين وبصيرة منها تصديق الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله ) ، فقد أقسم لقريش بقوله : والله ، ما كذب ابن أخي قط ، بل وصفه ب‍ ( الناصح والصادق الأمين ) في عدة مناسبات أخذتها من عدة قصائد نظمها في حينها .
   ومن أشعار أبي طالب الدالة على إيمانه وحثه أخاه حمزة لما أعلن إسلامه أمام طغاة قريش على مؤازرة ابن أخيه :

فـصبرا أبـا يـعلى عـلى دين iiأحمد      وكـن مـظهرا لـلدين وفـقت iiصابرا
نـبي  أتـى بـالدين مـن عـند iiربه      بـصدق  وحـق لا تـكن حمزة iiكافرا
فـقد  سـرني إذ قـلت " لبيك " iiمؤمنا      فـكن  لـرسول الله فـي الدين iiناصرا
ونــاد قـريـشاً بـالذي قـد iiأتـيته      جهاراً وقل : ما كان أحـمد ساحرا  (3)
ودعـوتـني وعـلمت أنـك iiصـادق      ولـقـد صـدقت وكـنت ثـم iiأمـينا
ولـقـد  عـلمت بـأن ديـن iiمـحمد      مــن خـيـر أديـان الـبرية iiديـنا
والله  لــن يـصلوا إلـيك iiبـجمعهم      حـتـى أوسـد فـي الـتراب iiدفـينا
---------------------------
(1) أخته برة بنت عبد المطلب شقيقة عبد الله والد الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وأبي طالب والزبير ، سلسلة آباء النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
(2) مؤمن قريش : 81 ، عن شيخ الأبطح : 92 ، والنهج الحديدي 3 : 306 و 307 ، والسيرة الهشامية : 1 ـ 2 ، والسيرة النبوية 1 : 652 ، وأعيان الشيعة : 31 ـ 39 .
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 : 315 ، وإيمان أبي طالب للشيخ المفيد : 80 .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 27 _

وقال :
ولـقد  عـهدتك iiصادقا      بـالـقول  لا iiتـتـزيد
ما زلت تنطق بالصواب      وأنــت طـفل أمـرد
وقال :
وإن كان أحمد قد جاءهم      بصدق ولم يأتهم iiبالكذب
فهل يصح أن تصدر هذه الأبيات من مشرك كافر ؟ وهل يصح أن يحمد النبي ( صلى الله عليه وآله ) الله عز وجل بقوله : " الحمد لله الذي هداك يا عم " لو كان أبو طالب مات كافراً ؟ وهل للهداية معنى غير موته على الشهادة بالوحدانية لله ، والتصديق بالنبوة المحمدية ؟

عطف النبي ( صلى الله عليه وآله ) على عمه أبي طالب
  أصابت قريش أزمة مهلكة ، وسنة مجدبة منهكة ، وكان أبو طالب ذا مال يسير ، وعيال كثير ، فأصابه ما أصاب قريشاً من العدم والإضاقة والجهد والفاقة ، فعند ذلك دعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عمه العباس ، فقال له : يا أبا الفضل ، إن أخاك ( أبو طالب ) كثير العيال مختل الحال ، ضعيف النهضة والعزمة وقد نزل به ما نزل من هذه الأزمة ، وذوو الأرحام أحق بالرفد ، وأولى بحمل الكل في ساعة الجهد ، فانطلق بنا إليه لنعينه على ما هو عليه ، فنحمل عنه بعض أثقاله ، ونخفف عنه من عياله ، يأخذ كل منا واحداً من بنيه ، ليسهل ذلك عليه بعض ما ينوء فيه .
   فقال العباس : نعم ما رأيت ، والصواب فيما أتيت ، هذا والله الفضل الكريم ، والوصل الرحيم ، فلقيا أبا طالب فصبراه ، ولفضل آبائه ذكراه وقالا له : إنا نريد أن نحمل عنك بعض المال ، فادفع إلينا من أولادك من يخف عنك به الأثقال .
   فقال أبو طالب : إذا تركتما لي عقيلاً ـ وفي رواية ـ إذا تركتما لي عقيلاً وطالباً ، فافعلا ما شئتما ، فأخذ العباس جعفراً ، وأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) علياً ، فانتخبه لنفسه ( فانتجبه ) ، واصطفاه لمهم أمره ، وعول عليه في سره وجهره ، وهو مسارع لمرضاته ، موفق للسداد في جميع حالاته .
  وقد روي من طريق آخر : أن العباس أخذ جعفرا ، وأخذ حمزة طالبا ، وأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) علياً .
   وروي عن طريق آخر : أن أبا طالب قال للنبي ( صلى الله عليه وآله ) والعباس حين سألاه ذلك : إذا خليتما لي عقيلا ، فخذا من شئتما ، ولم يذكر طالباً .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 28 _

استسقاء أبو طالب بالنبي ( صلى الله عليه وآله )
  بعد حذف السند ، عن عرفطة الجندعي ، قال : بينا أنا بالبقاع من نمرة (1) ، إذ أقبلت عير من أعلى نجد حتى حاذت الكعبة ، وإذا غلام قد رمى بنفسه من عجز بعير ، حتى أتى الكعبة ، وتعلق بأستارها ، ثم نادى : يا رب البيت أجرني ، فقام إليه شيخ جسيم وسيم ، عليه بهاء الملوك ووقار الحكماء ، فقال :
   ما خطبك يا غلام ؟ فقال : إن أبي مات وأنا صغير ، وإن هذا النجدي قد استعبدني ، وقد كنت أسمع أن لله بيتاً يمنع من الظلم ، فجاء النجدي فجعل يسحبه ويخلصه من أستار الكعبة ، فأجاره القرشي ومضى النجدي ، وقد تكنعت (2) يداه .
   قال عمرو بن خارجة : فلما سمعت الخبر قلت : إن لهذا الشيخ لشأناً ، فصوبت رجلي نحو تهامة حتى وردت الأبطح (3) وقد أجدبت الأنواء ، وأخلقت العواء ، وإذا قريش حلق قد ارتفعت لهم ضوضاء ، فقائل يقول : استجيروا باللات والعزى ، وقائل يقول : بل استجيروا بمناة الثالثة الأخرى ، فقام رجل من جملتهم يقال له ورقة بن نوفل ـ وهو ابن عم السيدة خديجة بنت خويلد ـ فقال : إني نوفلي وفيكم بقية إبراهيم وسلالة إسماعيل ، فقالوا : كأنك عنيت أبا طالب ؟ قال :
   هو ذاك ، فقاموا إليه بأجمعهم وقمت معهم ، فأتينا أبا طالب فخرج إلينا من داره ، فقالوا : يا أبا طالب قد أقحط الواد ، وأجدبت العباد ، فقم واستسق لنا ، فقال : رويدكم دلوك الشمس ، وهبوط الريح ، فلما زاغت الشمس ، أو كادت ، وإذا أبو طالب قد خرج وحوله أغيلمة (4) من بني عبد المطلب ،

---------------------------
(1) منطقة البقاع بطريق مكة بعد العقبة المتوجه إلى مكة .
(2) تكنعت يداه : تقيضت ويبست .
(3) البطحاء ـ الأرض المنبسطة بين الجبال ـ وهي مكة .
(4) جمع غلام شباب .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 29 _

وفي وسطهم غلام يافع كأنه شمس ضحى تجلت عن غمامة قتماء ، فجاء حتى أسند ظهره إلى الكعبة ، فاستجار بها ولاذ بإصبعه ، وبصبص الأغيلمة حوله ، وما في السماء قزعة ، فأقبل السحاب من ها هنا وها هنا حتى لت ولف ، وأسحم ، وأقتم ، وأرعد ، وأودق ، وانفجر به الوادي ، وافعوعم ( ونزل الغيث كأفواه القرب ) ، وبذلك قال أبو طالب شعراً يمدح به النبي ( صلى الله عليه وآله ) :
وأبيض يستسقى الغمام iiبوجهه      ثمال  اليتامى عصمة iiللأرامل
تطوف به الهلاك من آل هاشم      فـهم  عنده في نعمة وفواضل
بميزان صدق لا يخس iiشعيرة      ووزان حـق وزنه غير iiعائل
وجاء أعرابي إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو في المدينة بعد الهجرة فقال : يا رسول الله ، وليس لنا صبي يصطبح (1) ، ولا بعير يئط . ثم أنشد :
أتـيناك  والـعذراء يدمي iiلبانها      وقد ذهلت أم الرضيع عن iiالطفل
وألـقى  بـكفيه الصبي iiاستكانة      من الجوع حتى ما يمر ولا يحلي
ولا  شـئ مما يأكل الناس iiعندنا      سـوى  الحنظل العامي iiوالطهل
الفتل (2)
ولـيس  لـنـا إلا إليك iiفرارنا      وأين يـفر الناس إلا إلى الرسل
فقام النبي ( صلى الله عليه وآله ) يجر رداءه ، حتى رقى المنبر ،

---------------------------
(1) يصطبح : أي يتناول الصبوح - الفطور - ويئط : أي يصوت ، وهو كناية عن المجاعة التي أصابتهم .
(2) الطهل : وهو اليسير من الطلاء العشب ، والفتل : حبوب بعض الأعشاب .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 30 _

فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : اللهم اسقنا غيثاً مغيصاً ، مرياً مريعاً ، سبحاً سجالاً غدقاً ، طبقاً دائماً درراً تنبت به الزرع ، وتملأ به الضرع ، وتحيي به الأرض بعد موتها ، واجعله ( اللهم ) سقياً عاجلاً غير رائث ، فوالله ما رد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يده إلى نحره ، حتى ألقت السماء بأرواقها ، وجاء أهل البطانة يصيحون : يا رسول الله الغرق الغرق .
  فقال ( صلى الله عليه وآله ) : اللهم حوالينا ولا علينا . فانجاب السحاب عن المدينة حتى أحدق بها كالإكليل ، فضحك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى بدت نواجذه ، ثم قال : لله در أبي طالب لو كان حياً لقرت عيناه ، من ينشدنا قوله ؟ فقام علي ( عليه السلام ) فقال :
   يا رسول الله لعلك أردت قوله :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه      ثمال  اليتامى عصمة iiللأرامل

فقال ( صلى الله عليه وآله ) : أجل .
   ثم قام رجل من كنانة فأنشد :
لك الحمد والحمد ممن شكر      سـقينا  بوجه النبي المطر
دعـا  الله خـالقه iiدعـوة      إليه  وأشخص منه iiالبصر
فـما  كـان إلا كما iiساعة      وأسـرع حتى رأينا iiالدرر
دقـاق العزالي وجم iiالبعاق      أغـاث  به الله عليا iiمضر
فـكان كـما قـاله iiعـمه      أبـو طالب ذو رواء iiغرر
بـه يسر الله صوب iiالغمام      فـهذا  الـعيان لذاك iiالأثر
فمن  يشكر الله يلق iiالمزيد      ومـن  يكفر الله يلق iiالغير
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن يك شاعر أحسن فقد أحسنت .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 31 _

يوم الدار ودعوة النبي ( ص ) لقومه
  يوم الدار ودعوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) لقومه : لقد أجمع المؤرخون على أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما أمره تعالى أن ينذر الأقربين من عشيرته ، دعا علياً ( عليه السلام ) وقال له : اصنع طعاماً واجعل عليه رجل شاة ، واملأ لنا عسا من لبن واجمع لي بني هاشم وعبد المطلب حتى أكلمهم وأدعوهم إلى الإسلام وأبلغهم ما أمرت به ، ففعل علي ( عليه السلام ) ما أمره به ، ودعاهم وكانوا يوم ذاك أربعين رجلاً ، يزيدون رجلاً أو ينقصون ، فيهم أعمامه : أبو طالب ، وحمزة ، والعباس ، وأبو لهب ، وبنو عمومته ، فأحضر لهم علي ( عليه السلام ) الطعام فأكلوا حتى شبعوا . وجاء عن علي ( عليه السلام ) أنه قال : لقد كان الرجل الواحد منهم يأكل جميع ما شبعوا كلهم منه ، فلما فرغوا من الأكل وأراد النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يكلمهم ، بدره أبو لهب عمه إلى الكلام ، وقال : ما أشد ما سحركم صاحبكم ، فتفرق القوم ولم يكلمهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
   وبعد أيام قال لعلي ( عليه السلام ) : يا علي ، قد رأيت كيف سبقني هذا الرجل إلى الكلام ، فاصنع لنا في غد كما صنعت بالأمس ، واجمعهم لعلي أكلمهم بما أمرني الله فصنع علي ( عليه السلام ) لهم الطعام ، فلما أكلوا وشربوا قال لهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ما أعلم إنساناً في العرب جاء قومه بمثل ما جئتكم به ، لقد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني ربي أن أدعوكم إليه ، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي من بعدي ، فأحجم القوم إلا علي ( عليه السلام ) ، فقام وهو أحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأحمشهم ساقاً وقال : أنا يا نبي الله ، فأمره النبي بالجلوس ، وكرر عليهم مقالته ، فلم يستجب له أحد غير علي ( عليه السلام ) ،

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 32 _

ولما رأى النبي ( صلى الله عليه وآله ) إحجامهم وإصرار علي ( عليه السلام ) أخذ برقبته وقال : إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ( من بعدي ) ، فاسمعوا له وأطيعوا ، فقام القوم يضحكون ، ويقولون لأبي طالب : قد أمرك محمد أن تسمع لابنك وتطيعه .

أبو طالب يهدد قريشاً
كانت قريش يؤذون النبي ( صلى الله عليه وآله ) بشتى أنواع الأذى ، وكان أبو طالب ، ينهاهم ولا ينتهون ، فخشي أن يحاربهم ، ويدوسهم وهم سكان بيت الله ، وأهل حرمه ، فيكون سبباً إلى سبه ، " لأنه لم يكن يسل في مكة سيفاً إلا فاجر " ، وبذلك أمر الله تعالى رسوله ( صلى الله عليه وآله ) في سورة الجحد : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) إلى آخر السورة ، فهدد أبو طالب قريشاً بقوله :
ولـولا حـذاري أن أجـئ iiبسبة      تـنث عـلى أشياخنا في iiالمحافل
لـداسـتكم مـنا رجـال iiأعـزة      إذا جردوا أيمانهم بالمناصل رجال
كــرام غـيـر مـيل iiعـوارد      كـمثل السيوف في أكف الصياقل
وضـرب  ترى الفتيان فيه iiكأنهم      ضـواري  أسود عند لحم iiالأكايل
رددنـاهم حـتى تـبدد iiجـمعهم      ونـدفع عـنا كـل بـاغ وجاهل

ومنها :
ولـكننا نـسل كـرام iiلـسادة      بهم تعتزى الأقوام عند المحافل
ألـم  تعلموا أن ابننا لا iiمكذب      لـدينا  ولا يعبأ بقول iiالأباطل

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 33 _

ومنها :
وقـفنا لـهم حـتى تـبدد iiجمعهم      وحـسر  عـنا كـل باغ iiوجاهل
شـباب مـن الـمطلبين وهـاشم      كبيض السيوف بين أيدي الصياقل

وهناك أبيات كثيرة على هذه القافية والروية والمعنى ، نذكر منها هذه الأبيات :
لـعمري لقد كلفت وجدا iiبأحمد      وأحببته حب الحبيب iiالمواصل
وجـدت بـنفسي دونه iiوحميته      ودافعت  عنه بالذرى iiوالكلاكل
فلما زال في الدنيا جمالا iiلأهلها      وشينا لمن عادى وزين المحافل
حليما رشيدا حازما غير iiطائش      يـوالي  إله الخلق ليس iiبماحل
فـأيـده رب الـعباد iiبـنصره      وأظـهر ديـنا حقه غير iiباطل

ومن أنصف وتأمل هذه الأبيات في مدح النبي ( صلى الله عليه وآله ) قطع بصدق إسلام أبي طالب وولائه واعترافه برسالاته وإقراره بنبوته .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 34 _

إقرار أبي طالب بالتوحيد
  أما أشعار أبي طالب ، المتضمنة إقراره بالتوحيد لله وتمجيده وتقديسه ، فهي مسطورة في كتب العلماء ، وتعاليق أرباب الفن من الأدباء ، إليك بعضاً منها ، قوله :
مليك الناس ليس له شريك      هو الجبار والمبدي iiالمعيد
ومن  فوق السماء له iiبحق      ومن تحت السماء له iiعبيد

فانظر كيف أقر الله تعالى في هذين البيتين بالعبودية والتوحيد ، وخلع الأنداد له ، وقوله :
يا شاهد الله علي iiفاشهد      آمنت بالواحد رب أحمد

من ضل في الدين فإني مهتدي إلى غير ذلك من شعره الوافر ، الذي يقر فيه لله بالعبودية والوحدانية ، ولرسوله الكريم بالتأييد والطاعة .

سبب كتمان إسلام أبي طالب
  إن الذي دعا أبا طالب لكتمان إيمانه ، وخفاء إسلامه أنه كان سيد قريش غير مدافع ، ورئيسها غير منازع ، وكانوا ينقادون لأمره ويطيعون ، وهم بالله مشركون ، وللأصنام يعبدون ، فلما أظهر الله تعالى دينه ، وأرسل نبيه ( صلى الله عليه وآله ) ، شمر أبو طالب عن ساعد الجد في نصرته ، وإظهار دعوته ، وهو برسالته مؤمن وببعثه موقن سرا ،

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 35 _

كاتماً لإيمانه ، ساتراً لإسلامه ، لأنه لم يكن قادراً على القيام بنصرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وتمهيد الأمور له بنفسه خاصة من دون أهل بيته وأصحابه وعشيرته وأحلافه ، الذي كانوا على منهاج قريش في الشرك والكفر ظاهراً .
  وكان أبو طالب لا يأمن إذا أظهر إيمانه وأفشى إسلامه أن تتمالى عليه قريش ، ويخذله حليفه وناصره ، ويسلمه حميمه وصاحبه ، فيؤدي فعله ذلك إلى إفساد قاعدة الدفاع عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ورسالته ، والتغرير بهم ، فكتم إيمانه وإسلامه لاستدامة قريش على طاعته ، والانقياد لسيادته ، ليتمكن من نصرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ودوام حرمته ، والأخذ بحقه ، وإعزاز كلمته ، ولهذا السبب كان أبو طالب يخالط قريشاً ويعاشرهم ويحضر مجالسهم ، ويشهد مشاهدهم ، مثل أبي طالب كمثل أصحاب الكهف ، وكمؤمن آل فرعون ، وفي القرآن الكريم ، والسير والآثار ، أمثلة كثيرة حول من يكتم إيمانه ، وقصة أصحاب الكهف وكتمان إيمانهم مع قومهم مشهورة حتى تمكنوا من هدفهم .
  كما أخبر أبو الفضل بن شاذان ـ يرفعه إلى الشيخ الصدوق ابن بابويه القمي ( رحمهم الله ) ، مرفوعا عن الإمام الحسن بن علي العسكري ( عليه السلام ) في حديث طويل ـ يذكر فيه :
  أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إني قد أيدتك بشيعتين : شيعة تنصرك سراً ، وشيعة تنصرك علانية ، فأما التي تنصرك سرا فسيدهم وأفضلهم عمك أبو طالب ، وأما التي تنصرك علانية فسيدهم وأفضلهم ابنه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، ثم قال : وإن أبا طالب كمؤمن آل فرعون يكتم إيمانه .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 36 _

   ومن ذلك الحديث الذي أوردناه مسنداً فيما تقدم من هذا البحث ، من قول الإمام الصادق ( عليه السلام ) : إن جبرئيل ( عليه السلام ) أتى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا محمد ، إن ربك يقرئك السلام ، ويقول لك : إن أصحاب الكهف أسروا الإيمان وأظهروا الشرك ، فآتاهم الله أجرهم مرتين ، وإن أبا طالب أسر الإيمان وأظهر الشرك فآتاه الله أجره مرتين .

صحيفة المقاطعة ، وشعب أبي طالب
  لما رأت قريش عز النبي ( صلى الله عليه وآله ) بمن معه ، وانتشار الإسلام بين القبائل العربية ، وعز أصحابه الذين هاجروا إلى الحبشة ، بالإضافة إلى إعلان حمزة بن عبد المطلب الإسلام ، ووقوف علي بن أبي طالب بفتوته مدافعاً عن ابن عمه وعن دعوته الإسلامية ، ومناصرة بنو هاشم وبنو عبد المطلب ، وتيقن المشركون أن لا قدرة لهم على قتل محمد ( صلى الله عليه وآله ) وإن أبا طالب لا يسلم محمداً ( صلى الله عليه وآله ) إليهم ولا يخذله ، فأخذهم الفرق من اتساع الدعوة وانتشارها ، وأحسوا بالخطر المحدق بهم على زعامتهم ومصالحهم وأن جميع جهودهم وظلمهم ومقاومتهم للإسلام ولرسوله باءت بالفشل .
   لذا حاولت قريش أن تقوم بتجربة جديدة غير أسلوب الإرهاب والتعذيب والضغط ، فلجأت إلى الحصار الاقتصادي والاجتماعي ، ضد أبي طالب والهاشميين ، وهذا الحصار لا يخلو من ثلاث حالات :
  إما أن يرضخوا لمطالبها في تسليم محمد ( صلى الله عليه وآله ) لها لتقتله .
  وإما أن يتراجع محمداً ( صلى الله عليه وآله ) عن دعوته .
وإما أن يموتوا جوعاً وذلاً ، وهذا الإجراء يرفع المسؤولية عن الفرد المحدد ، فتكون مسؤولية جماعية عامة ، فقروا هذا الرأي بعد اجتماع مشيخة قريش في دار الندوة .
  اجتمعوا في دار الندوة ، وفي بعض الروايات : اجتمعوا في المخصب من الخيف في منى بعد أن أقنعوا كنانة ـ القريبين من مكة ـ بالاشتراك معهم في المقاطعة ،

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 37 _

وتداولوا الآراء مع شياطينهم وقلبوا الأمور ظهراً لبطن ، فاتخذوا قراراً بالإجماع أن يكتبوا صحيفة مقاطعة بني هاشم ويودعوها في الكعبة بشروط قاسية وملزمة لكل قريش ومن تباعهم ، وهي أن لا يبايعوا بني هاشم ولا يشاروهم ، ولا يحدثوهم ، ولا يجتمعوا معهم ، ولا يناكحوهم ولا يقضوا لهم حاجة ولا يعاملوهم حتى يدفع بنو هاشم إليهم محمداً فيقتلوه ، أو يخلوا بينهم وبينه ، أو ينتهي من تسفيه أحلامهم ، ووقع على هذه الصحيفة أربعون رجلاً من وجوه قريش ، وختموها بأختامهم ، وعلقت هذه الوثيقة في الكعبة ، وكان ذلك في سنة سبع من البعثة على أشهر الروايات .
  ولما علم أبو طالب بصحيفة المقاطعة ، قام إليهم يحذرهم الحرب ، وقطيعة الرحم ، وينهاهم عن اتباع السفهاء ، ويعلمهم استمراره على مؤازرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بكل ما يستطيع من قوة ويذكرهم على فضله وشرفه ، ويضرب لهم المثل بناقة صالح ، ويذكرهما بإلغاء أمر الصحيفة ، بقوله :
ألا أبـلغا عـني عـلى ذات iiبينها      لـؤيا  وخـصا من لؤي بني iiكعب
ألـم  تـعلموا أنـا وجـدنا iiمحمدا      نـبيا كـموسى خط في أول iiالكتب
وأن عـلـيه فـي الـعباد iiمـحبة      ولا  حـيف فيمن خصه الله iiبالحب
وأن الــذي لـفقتم فـي iiكـتابكم      يـكون لـكم يـوما كراغبة السقب
أفـيقوا  أفيقوا قبل أن يحفر iiالزبى      ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب
ولا  تـتبعوا أمـر الغواة iiوتقطعوا      أواصـرنا  بـعد الـمودة iiوالقرب

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 38 _

إلى آخر الأبيات المذكورة في كتاب ( إيمان أبي طالب ـ للإمام شمس الدين بن معد المتوفى سنة 630 ه‍ ) .
  ودخل بنو هاشم الشعب ـ شعب أبي طالب ـ ومعهم بنو المطلب بن عبد مناف باستثناء عبد العزى ( أبي لهب ) ، لعنه الله وأخزاه ، واستمروا فيه إلى السنة العاشرة ، وكانوا ينفقون من أموال السيدة خديجة بنت خويلد ، وأموال أبي طالب ( عليه السلام ) حتى نفدت ، ولقد اضطروا بعدها إلى أن يقتاتوا بورق الشجر ، وكان صبيتهم يتضوعون جوعاً ، وظل المسلمون في شعب أبي طالب يقاسون الجوع والحرمان لا يخرجون منه إلا في أيام الموسم ، موسم العمرة في رجب ، وموسم الحج في ذي الحجة ، فكانوا يشترون حينئذ ويبيعون ضمن ظروف صعبة جداً .
   وكان علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) يأتيهم بالطعام سراً من مكة ، من حيث تمكن ، وقد كان يأتيهم سراً من أناس كانوا مرغمين على مجاراة قريش كهشام بن عمرو أحد بني عامر ، الذي كان يأتي بالبعير بعد البعير ليلاً محملاً بأنواع الطعام والتمر إلى فم الشعب ، فإذا انتهى به إلى ذلك المكان نزع عنه خطامه وضربه على جبينه ، فيدخل الشعب بما عليه ، ولكن تلك الصلات البسيطة لم تكن لتكفيهم .
   وكان أبو طالب كثيراً ما يخاف على النبي ( صلى الله عليه وآله ) البيات في مكان معين ، فإذا أخذ الناس مضاجعهم ، واضطجع النبي ( صلى الله عليه وآله ) على فراشه ، ورآه جميع من في الشعب ، ونام الناس جاء وأقامه ، وأضجع ابنه علياً مكانه ، وقاية له ، ويقول له :
اصبرن يا بني فالصبر iiأحجى      كـل حـي مـصيره iiلشعوب
قـد بـذلناك والـبلاء iiشـديد      لـفداء الـحبيب وابن الحبيب
لفداء الأعز ذي الحسب الثاقب      والـباع ، والـكريم الـنجيب

إلى آخر أبياته . . .
فيجيبه ابنه علي ( عليه السلام ) :

أتأمرني بالصبر في نصر iiأحمد      ووالله  ما قلت الذي قلت iiجازعا
ولـكنني أحببت أن تر iiنصرتي      وتـعلم  أنـي لم أزل لك طائعا
وسعيي لوجه الله في نصر أحمد      نبي الهدى المحمود طفلاً iiويافعا

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 39 _

  واستمرت هذه المحنة ثلاث سنين ، من السنة السابعة إلى العاشرة من البعثة ، عند ذلك تلاوم رجال من بني عبد مناف ومن قصي وسواهم من قريش قد ولدتهم نساء من بني هاشم على هذا العمل المنكر ( حصار بني هاشم ) .
  وأول من سعى إلى نقض الصحيفة والاتفاق ، وفك الحصار عن الهاشميين ، هشام بن عمرو ، وزهير بن أبي أمية المخزومي ، والمطعم بن عدي ، وزمعة بن المطلب بن أسد ، والبختري بن هشام ، واتفقوا أن يفدوا إلى أنديتهم ، ويعلنوا رفض المقاطعة ، وإنهاء الحصار .
  وجاء في سيرة ابن هشام : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال لعمه أبي طالب : يا عم ، إن ربي الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش ، فلم يدع اسماً إلا ( هو الله ) .
   فقال : ربك أخبرك بهذا ؟
  قال : نعم ، خرج أبو طالب إلى أندية قريش قبل أن يثير النفر الخمسة اعتراضهم على الحصار والمقاطعة ، وقال : يا معشر قريش ، إن ابن أخي أخبرني بكذا وكذا ، فهلم إلى صحيفتكم ، فإن كان كما قال ابن أخي فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عما فيها ، وإن يكن كاذباً دفعت إليكم ابن أخي ، فقال القوم بأجمعهم : قد أنصفت ورضينا ، وتعاقدوا على ذلك .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 40 _

  وقام المطعم إلى الصحيفة وجاء بها وفتحت على مرأى من الجميع ، فإذا بها كما أخبرهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) على لسان عمه أبي طالب ، قد أكلت الأرضة جميع حروفها إلا " بسمك اللهم " ، ومزقت الصحيفة ، بعد موقف هؤلاء النفر الذين أبت نفوسهم الكريمة هذه القطيعة التي كادت أن تقضي على الهاشميين .
  وعندما تبين لقريش صدق ما نقله أبو طالب عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بأن الأرضة أكلت من صحيفتهم التي قاطعوا بها بني هاشم ولم يبق فيها إلا بسمك اللهم ( اسم الله تعالى ) قالوا : إن هذا سحر ابن أخيك ، رد عليهم بهتهم بقوله :

زعـمت قـريش أن أحمد iiساحر      كذبوا ورب الراقصات إلى iiالحرم
مـا  زلـت أعرفه بصدق iiحديثه      وهو الأمين على الحرائب والحرم
وقال :

إذا اجـتمعت يوما قريش iiلمفخر      فـعبد  مـناف سـرها iiوصميها
وإن حضرت أشراف عبد iiمنافها      فـفي  هـاشم أشـرافها وقديمها
وإن  فـخرت يـوما فإن iiمحمدا      هو المصطفى من سرها وكريمها
تـداعت  قـريش غثها iiوسمينها      علينا  فلم تظفر وطاشت iiحلومها

 وعاد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بمن معه من الشعب بعد تمزيق الصحيفة إلى استئناف دعوته في مكة ومن جاورها ، ومع القبائل التي تقصدها في المواسم ، وساء ذلك قريشا وأصبحوا يشيعون بأنه ساحر كذاب ، بعد ما كان الصادق الأمين .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 41 _

  وفي تلك السنة ، وقبل الهجرة بثلاث سنين ، مرض أبو طالب ثم توفي ، رضوان الله عليه ، وكان ذلك في شهر رمضان ، السنة العاشرة من البعثة النبوية ، وكان له من العمر ست وثمانون سنة ، وقيل : تسعون سنة ، ودفن بالحجون إلى جنب قبري جده وأبيه .
  وبعد أيام مرضت السيدة خديجة بنت خويلد ، فدخل عليها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهي تجود بنفسها ، فقال : بالكره مني ما أرى ، ولعل الله أن يجعل في الكره خيراً كثيراً .
   وبعد شهر وخمسة أيام من وفاة عمه أبي طالب ، توفيت السيدة خديجة ، وذلك في منتصف شهر شوال من تلك السنة ، ولها من العمر خمس وستون سنة .
  ويروى العكس ، فإن السيدة خديجة توفيت في شهر رمضان وأبو طالب توفي في شهر شوال من تلك السنة .
  وفي تأريخ اليعقوبي ، توفيت خديجة بعد وفاة أبي طالب بثلاثة أيام فجهزها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، " ولم تكن صلاة الجنائز مفروضة حينذاك " ودفنها في مقابر قريش بالحجون ، بالقرب من قبور أجداده هاشم ، وعبد المطلب ، وأبي طالب ، رضوان الله عليهم .
  وأصبحت السيدة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) وهي طفلة ، تتعلق بأبيها ، رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وهي تبكي وتقول : أبي أين أمي ؟ أين أمي ؟ فنزل جبرئيل فقال : يا محمد ، قل لفاطمة إن الله تعالى بنى لأمك بيتاً في الجنة من قصب ـ أي من لؤلؤ ـ لا نصب فيه ، ولا صخب " أي لا تعب فيه ولا ضوضاء " عزت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هذه الفاجعة ، وشقت عليه ، وقد اجتمعت عليه مصيبتان دفعة واحدة ، فقد عمه وحاميه أبي طالب وفقد زوجته وحبيبته خديجة بنت خويلد ،

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 42 _

فقال : والله لا أدري بأيهما أشد جزعاً ، وسمي ذلك العام بعام الأحزان .
   فلزم بيته ، وقل خروجه ، وطمعت فيه قريش ، إذ فقد حاميه ، ونالت منه ما لم تكن تنال ولا تطمع به من قبل ، فبلغ ذلك عمه أبا لهب ، وأخذته الحمية ، حمية الجاهلية ، فجاءه .
وقال : يا محمد ، امض لما أردت ، وما كنت صانعاً إذ كان أبو طالب حياً فاصنعه ، لا واللات لا يوصل إليك حتى أموت ! وذات يوم سب ابن الغيطلة النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأقبل عليه أبو لهب فنال منه ، فولى صارخاً وهو يصيح : يا معشر قريش ، صبأ أبو عتبة ! ! فأقبلت قريش حتى وقفوا على أبي لهب مستنكرين .
  فقال : ما فارقت دين عبد المطلب ، ولكني أمنع ابن أخي أن يضام ـ أي يظلم ـ حتى يمضي لما يريد ، قالوا جميعاً : قد أحسنت ، وأجملت ، ووصلت الرحم ، فمكث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أياماً يذهب ويأتي لا يتعرض له أحد من قريش ، وهابوا سطوة أبي لهب ، إلى أن جاء عقبة بن أبي معيط ، وأبو جهل بن هشام ، فاحتالا على أبي لهب حتى صرفاه عن عزمه ونصرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فاسترد جواره .

وصية أبي طالب بنصرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) على فراش الموت
  لما حضرت أبا طالب الوفاة ، دعا أولاده وإخوته وأحلافه وعشيرته ، وأكد عليهم في وصيته نصرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ومؤازرته ، وبذل النفوس دون مهجته ، وعرفهم ما لهم في ذلك من الشرف العاجل والثواب الآجل ، وأنشأ يقول :

أوصـي بنصر نبي الخير iiأربعة      ابـني  عـليا وشيخ القوم iiعباسا
وحـمزة  الأسـد الحامي iiحقيقته      وجـعفرا  أن تذودوا دونه iiالناسا
كـونوا  فدى لكم أمي وما iiولدت      في نصر أحمد دون الناس أتراسا

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 43 _

  فتأمل أيها المنصف اللبيب ، هل كل هذه تصدر من مشرك كافر في حق نبي الإسلام ودعوته ؟ قال العلامة الحلبي في سيرته (1) ما نصه : فذكر أن أبا طالب لما حضرته الوفاة جمع إليه وجهاء قريش ، ( وبني هاشم ) فأوصاهم ، وكان من وصيته أن قال :
   " يا معشر قريش ، أنتم صفوة الله من خلقه ، وقلب العرب ، فيكم المطاع ، وفيكم المقدام الشجاع ، والواسع الباع ، لم تتركوا للعرب في المآثر نصيباً إلا أحرزتموه ، ولا شرفاً إلا أدركتموه ، فلكم بذلك على الناس الفضيلة ، ولهم به إليكم الوسيلة ، أوصيكم بتعظيم هذه البنية ( أي الكعبة ) فإن فيها مرضاة للرب وقواماً للمعاش ، صلوا أرحامكم ، ولا تقطعوها ، فإن في صلة الرحم منسأة ( أي فسحة ) في الأجل وزيادة في العدد ، واتركوا البغي والعقوق ، ففيهما هلكت القرون قبلكم ، أجيبوا الداعي ، وأعطوا السائل ، فإن فيهما شرف الحياة والممات ، وعليكم بصدق الحديث ، وأداء الأمانة فإن فيهما محبة في الخاص ، ومكرمة في العام ، وإني أوصيكم بمحمد خيراً فإنه الأمين في قريش والصديق في العرب ، وهو الجامع لكل ما أوصيكم به ، وقد جاء بأمر قبله الجنان ، وأنكره اللسان مخافة الشنآن ، وأيم الله كأني أنظر إلى صعاليك العرب ، وأهل الوبر في الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته ، وصدقوا كلمته ، وعظموا أمره ، فخاض بهم غمرات الموت ، فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذناباً ، ودورها خراباً ، وضعفاؤها أرباباً ،

---------------------------
(1) السيرة الحلبية 1 : 375 ، طبعة مصر سنة 1308 .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 44 _

وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه ، وأبعدهم منه أحظاهم عنده ، قد محضته العرب ودادها ، وأعطته قيادها ، دونكم يا معشر قريش ، كونوا الولاة ، ولحزبه حماة ، والله لا يسلك أحد منكم سبيله إلا رشد ، ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد " .
  فانظر هذه الوصية وتمعن بها بعين الوجدان والإنصاف والروية ، تجدها لعمري من ألمع الحكم ، وجوامع الكلم ، تضمنت مكارم الأخلاق وتنبأت عن المستقبل الزاهر الذي يصير إليه الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) ، بالله عليك ، فهل ترى هذه الوصية تصدر من مشرك كافر بالرسول والرسالة ؟ أوكل ذلك إلى تقديرك أيها المنصف اللبيب ؟ وأبو سفيان بقي على شركه إلى أن مات يكون مسلماً ، وآية ذلك لما اجتمع بنوا أمية في دار عثمان بن عفان حينما تسنم عرش الحكم قائلاً لهم : تلاقفوها يا بني أمية تلاقف الأكرة بيد صبيانكم ، فوالذي يحلف به أبو سفيان لا جنة ولا نار وإنما هو الملك ، ثم أخذ إلى أحد وهو أعمى ووقف على قبر سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب وقال شامتاً بعد أن ركل قبره برجله : ذق عقق ، قالها ثلاثاً ، ثم قال : يا أبا عمارة ، إن الذي نازعناكم عليه بالأمس صار بيد صبياننا ، هذا يموت مسلماً وأبو طالب يموت مشركاً ؟ لاها لله .
  وبعد هذه الوصية أسلم روحه الطاهرة إلى بارئها والتحق بالرفيق الأعلى بعد أن أدى ما عليه تجاه الرسول والرسالة عند ذلك جاء الإمام علي ( عليه السلام ) إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) آذنه بموت أبيه أبي طالب ، فتوجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) توجعاً عظيماً ، وحزن عليه حزناً شديداً ، ثم قال لعلي ( عليه السلام ) : امض يا علي فتول أمره ، وتول غسله ، وتحنيطه ، وتكفينه ، فإذا رفعته على سريره فأعلمني .
   ففعل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ما أمره به ( صلى الله عليه وآله ) ، فلما رفعه على السرير ، اعترضه النبي ( صلى الله عليه وآله ) فرق وحزن ،

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 45 _

فأبنه بكلمة خالدة فيه ، وقال : وصلتك رحم ، وجزيت خيراً يا عم ، فلقد ربيت وكفلت صغيراً ، ونصرت وآزرت كبيراً ، ثم أقبل على الناس وقال : أم والله لأشفعن لعمي شفاعة يعجب بها أهل الثقلين .
  فهذا الحديث وحده يكفي للدلالة على إيمان أبي طالب رضوان الله عليه ، ومن وجهين : أحدهما : أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) علياً ( عليه السلام ) أن يفعل به ما يفعل بأموات المسلمين من الغسل والتحنيط والتكفين دون الجاحدين من أولاده ، إذ لم يكن حضر أحد منهم سوى علي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من المؤمنين ، وأما جعفر فكان يومئذ عند النجاشي ببلاد الحبشة ، وأما طالب وعقيل فكانا يومئذ حاضرين ، ولكنهما كانا مقيمين على خلاف الإسلام ، ولم يسلم واحد منهما بعد ، فخص بذلك علياً أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بتولية أمره وتجهيزه لمكان إيمانه ، ولم يتركه لهما على رغم أنهما أكبر من علي سناً لمباينتهما له في معتقده ، ولو كان أبو طالب مات كافراً ، لما أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) علياً بتولية أمره لانقطاع العصمة بين الكافر والمسلم ، ولتركه لهما كما ترك عمه الآخر أبا لهب ، ولم يعبأ بشأنه ، ولم يحفل بأمره ، وتولية علي تجهيزه من دون أخويه الذين هما أكبر منه ، شاهد قاطع على صدق إيمان أبي طالب وإسلامه .
  والوجه الآخر : تأبين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أبا طالب بهذه الكلمات الرائعة الخالدة ، والدعاء له ، وصلتك رحم وجزيت خيراً ، ووعد أصحابه بالشفاعة له التي يعجب بها أهل الثقلين ، وموالاته بين الدعاء له والثناء عليه .
  لدليل قاطع على إسلام أبي طالب وإيمانه ، ولم تكن الصلاة على أموات المسلمين مشرعة غير هذه الصلاة في صدر الإسلام ، حتى فرض الله سبحانه صلاة الجنائز فيما بعد ،

---------------------------
(1) وفي رواية : وزوجته فاطمة بنت أسد .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 46 _

ومثل ذلك صلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أوحى الله سبحانه : إني حرمت النار على صلب أنزلك ، وبطن حملك ، وحجر كفلك ، وأهل بيت آواك .
  عن العباس بن عبد المطلب ، أنه سأل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : ما ترجو لأبي طالب ؟ فقال : كل خير أرجوه من ربي عز وجل (1) .
  فلولا علم النبي ( صلى الله عليه وآله ) بإيمان عمه أبي طالب ما كان يرجو له كل خير من ربه تعالى ، بعد ما علم من خلود الكفار في النار .
   عن أبان بن محمد ، قال : كتبت إلى الإمام علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) : جعلت فداك ، إني شككت في إيمان أبي طالب ؟ قال : فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ومن ( يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى) (2) ، إنك إن لم تقر بإيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار (3) .
  وكتب السيد عبد العظيم الحسني المدفون بالري ـ وكان مريضا ـ إلى أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) : عرفني يا بن رسول الله عن الخبر المروي إن أبا طالب في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه ؟ فكتب إليه الرضا ( عليه السلام ) : بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد فإنك إن شككت في إيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار (4) .
  وسأل عبد الرحمن بن كثير الإمام الصادق ( عليه السلام ) : إن الناس يزعمون أن أبا طالب في ضحضاح من نار ؟ فقال : كذبوا ، ما بهذا نزل جبرئيل على النبي ( صلى الله عليه وآله ) .

---------------------------
(1) ابن أبي الحديد في شرح النهج 2 : 311 ، أورد الحديث عن أبان بن محمد .
(2) النساء : 115 .
(3) ابن أبي الحديد في شرح النهج 2 : 300 .
(4) أخرجه العلامة الأميني في الغدير 7 : 395 .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 47 _

  فقلت : وبما نزل ؟ قال : أتى جبرئيل في بعض ما كان عليه . فقال : يا محمد ، إن ربك يقرئك السلام ويقول لك : إن أصحاب الكهف أسروا الإيمان وأظهروا الشرك ، فآتاهم الله أجرهم مرتين ، وإن أبا طالب أسر الإيمان وأظهر الشرك ، فآتاه الله أجره مرتين ، وما خرج من الدنيا حتى أتته البشارة من الله تعالى بالجنة ، ثم قال : كيف يصفونه بهذا الملاعين ؟ وقد نزل جبرئيل ليلة مات أبو طالب ، فقال : ( يا محمد ، اخرج من مكة فما لك بها ناصر بعد أبي طالب ) ، بعد حذف السند .
  قال أبو طالب للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بمحضر من قريش ليريهم فضله ومعاجزه : يا بن أخي ، الله أرسلك ؟ قال : نعم . قال : إن للأنبياء معجزات ، وخرق عادة ، فأرنا آية .
  قال : ادع تلك الشجرة ، وقل لها : يقول لك محمد بن عبد الله أقبلي بإذن الله ، فدعاها فأقبلت حتى سجدت بين يديه ، ثم أمرها بالانصراف ، فانصرفت ، فقال أبو طالب : أشهد أنك صادق ، ثم قال لابنه علي ( عليه السلام ) : يا بني إلزم ابن عمك (1) .
  عن أبي بصير ، عن محمد بن علي الباقر ( عليه السلام ) أنه قال : مات أبو طالب بن عبد المطلب مسلماً مؤمناً ، وشعره في ديوانه يدل على إيمانه ، ثم محبته وتربيته ونصرته ، ومعاداة أعداء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وموالاة أوليائه ، وتصديقه إياه فيما جاء به من ربه ، وأمره لولديه على وجعفر بأن يسلما ويؤمنا بما يدعو إليه ، وأنه خير الخلق ،

---------------------------
(1) أورد الرواية شيخنا الصدوق في أماليه : 360 ، عن طريق الأعمش ، كما رواه الفتال النيسابوري في روضة الواعظين : 121 .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 48 _

وأنه يدعو إلى الحق والمنهاج المستقيم ، وأنه رسول رب العالمين ، وهناك أخبار مستفيضة نقلها فطاحل العلماء والمؤرخين تجدها في المسانيد متواترة ، ومن حب النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعقيل بن أبي طالب : " أنا أحبك يا عقيل حبين : حباً لك ، وحباً لأبي طالب ، لأنه كان يحبك " .
  عن الفقيه أبي الفضل بن شاذان ، بإسناده إلى العلامة الفقيه أبي الفتح الكراجكي حديث له مسلسل أسنده إلى أبي ضوء بن صلصال بن الدلهمس ، قال : كنت أنصر النبي ( صلى الله عليه وآله ) ـ أي كان حارساً له ـ مع أبي طالب قبل إسلامي ، فإني يوماً لجالس بالقرب من منزل أبي طالب في شدة القيض ، إذ خرج أبو طالب إلي شبيها بالملهوف ، فقال لي : يا أبا الغضنفر ، هل رأيت هذين الغلامين ـ يعني النبي وعلياً ( عليهما السلام ) ـ ؟
  فقلت : ما رأيتهما مذ جلست .
  فقال : قم بنا في الطلب لهما ، فلست آمن قريشاً أن تكون اغتالتهما .
  قال : فمضينا حتى خرجنا من أبيات مكة ، ثم صرنا إلى جبل من جبالها فاسترقيناه إلى قلته ، فإذا النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعلي عن يمينه ، وهما قائمان بإزاء عين الشمس يركعان ويسجدان .
  فقال أبو طالب بمحضر ابنه جعفر ـ وكان معنا ـ : صل جناح ابن عمك ، فقام جعفر إلى جنب أخيه علي ( عليه السلام ) ، فأحس بهما النبي ( صلى الله عليه وآله ) فتقدمهما ، وأقبلوا على أمرهم ( يصلون ) حتى فرغوا مما كانوا فيه ، ثم أقبلوا نحونا ، فرأيت السرور يتردد في وجه أبي طالب ، ثم انبعث يقول :
إن عـليا وجـعفرا iiثـقتي      عـند مـلم الزمان iiوالنوب
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما      أخـي لأمي من بينهم iiوأبي
والله  لا أخـذل الـنبي ولا      يـخذله  من بني ذو iiحسب

  قال أبو علي عبد الحميد بن النقي الحسيني ، بإسناده إلى الموضع يرفعه إلى عمران بن الحصين الخزاعي : كان والله إسلام جعفر ( عليه السلام ) بأمر من أبيه ، ولذلك لما قضى جعفر صلاته ، قال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : يا جعفر ، وصلت جناح ابن عمك ، إن الله يعوضك من ذلك جناحين تطير بهما في الجنة ، وهذه واحدة من تنبؤاته ( صلى الله عليه وآله ) .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 49 _

شذرات من كتاب الغدير
لما نزلت آية : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (1) ، خرج النبي ( صلى الله عليه وآله ) فصعد على الصفا فهتف : يا صباحاه ، فاجتمعوا إليه ، فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح الجبل أكنتم مصدقي ؟ قالوا : نعم ، ما جرينا عليك كذباً . قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد .
   قال أبو لهب : تباً لك ، ما جمعتنا إلا لهذا ؟ ثم دعاهم ثانية وقال : الحمد الله ، أحمده وأستعينه وأؤمن به وأتوكل عليه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .
  ثم قال : إن الرائد لا يكذب أهله ، والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة ، والله لتموتن كما تنامون ، ولتبعثن كما تستيقضون ، ولتحاسبن بما تعملون ، وإنها الجنة أبدا والنار أبدا .
   فقام أبو طالب وقال : ما أحب إلينا معاونتك وأقبلنا لنصيحتك ، وأشد تصديقنا لحديثك ، وهؤلاء بنو أبيك يجتمعون ، وإنما أنا أحدهم غير أني أسرعهم إلى ما تحب ، فامض لما أمرت به ، فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك ، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب (2) .
  قال الأميني معلقاً : لم يكن دين عبد المطلب ( عليه السلام ) إلا دين التوحيد والإيمان بالله ورسله وكتبه غير مشوب بشئ من الوثنية ، وهو الذي أراده أبو طالب ( عليه السلام ) بقوله : نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب .

---------------------------
(1) الشعراء : 214 .
(2) الكامل لابن الأثير 2 : 24 .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 50 _

  قال القرطبي (1) : روى أهل السير .
  قال : كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد خرج إلى الكعبة يوماً وأراد أن يصلي ، فلما دخل في الصلاة قال أبو جهل ـ لعنه الله ـ : من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته ، فقام ابن الزبعرى فأخذ فرثاً ودماً فلطخ به وجه النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فانفتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) من صلاته ، ثم أتى أبا طالب عمه فقال : يا عم ، ألا ترى إلى ما فعل بي ؟ فقال أبو طالب : من فعل هذا بك ؟
  فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : عبد الله بن الزبعرى ، فقام أبو طالب ووضع سيفه على عاتقه ومشى معه حتى أتى القوم ، فلما رأوا أبا طالب قد أقبل ، جعل القوم ينهضون .
  فقال أبو طالب : والله لئن قام رجل منكم لجللته بسيفي ، فقعدوا حتى دنا إليهم ،   فقال : يا بني ، من فعل بك هذا ؟
  فقال : عبد الله بن الزبعرى ، فأخذ أبو طالب فرثاً ودماً فلطخ به وجوههم ولحاهم وثيابهم وأساء لهم القول ، انتهى .
  ما روي عنهم من طرق العامة في إيمان أبي طالب : أما رجال آل هاشم ، وأبناء عبد المطلب ، وولد أبي طالب ، فلم يؤثر عنهم إلا الهتاف بإيمان أبي طالب الثابت ، وإن ما كان يؤثر في نصرة النبي الأقدس ( صلى الله عليه وآله ) كان منبعثا عن عقيدة وتدين بما صدع به ( صلى الله عليه وآله ) ، وأهل البيت أدرى بما فيه .
  قال ابن الأثير في جامع الأصول : وما أسلم من أعمام النبي ( صلى الله عليه وآله ) غير حمزة والعباس وأبي طالب عند أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فقد هتفوا بذلك في أجيالهم وأدوارهم يملأ الأفواه وبكل صراحة وجبهوا من خالفهم في ذلك ،
إذا قالت حذام فصدقوها      فإن القول ما قالت حذام
---------------------------
(1) تفسير القرطبي : 406 .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 51 _

  قال ابن أبي الحديد (1) : روي بأسانيد كثيرة عن العباس بن عبد المطلب ، وبعضها عن أبي بكر ، قال : إن أبا طالب ما مات حتى قال : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، والخبر مشهور ، إن أبا طالب عند الموت قال كلاماً خفياً فأصغى إليه أخوه العباس (2) .
  قال الأميني : ذكرنا هذا الحديث مجاراة للقوم ، وإلا فما كانت حاجة أبي طالب مسيسة عند الموت إلى التلفظ بتينك الكلمتين اللتين كرس حياته الثمينة بالهتاف بمفادها في شعره ونثره ، والدعوة إليهما ، والذب عن من صدق بها ، فمتى كفر هو ؟ ومتى ضل ؟ حتى يؤمن ويهتدي ، أليس من الشهادة قوله :

لـيعلم خـيار الناس أن iiمحمدا      وزير لموسى والمسيح بن مريم
أتـانا بـهدى مـثل ما أتيا iiبه      فـكل بـأمر الله يهدي iiويعصم
وإنـكم تـتلونه فـي iiكـتابكم      بصدق  حديث لا حديث مبرجم

وقال :
ألـم تـعلموا أنـا وجـدنا iiمحمدا      رسولا كموسى خط في أول الكتب

وقال :
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة      وابـشر  بـذاك وقر منك iiعيونا
ودعـوتني وعلمت أنك iiناصحي      ولـقد دعـوت وكـنت ثم iiأمينا
ولـقد عـلمت أن ديـن مـحمد      مـن  خـير أديـان البرية iiدينا

أخرج البيهقي عن ابن عباس ، وقال اليعقوبي (3) : لما قيل لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن أبا طالب قد مات ، عظم ذلك في قلبه ، واشتد له جزعه ، ثم دخل عليه فمسح جبينه الأيمن أربع مرات ، وجبينه الأيسر ثلاث مرات ، ثم قال : يا عم ، ربيت صغيراً ، وكفلت يتيماً ، ونصرت كبيراً ، فجزاك الله عني خيراً ، ومشى بين يدي سريره وجعل يعرضه ويقول : وصلتك رحم ، وجزيت خيراً .
(3) تأريخ اليعقوبي 2 : 26 .

---------------------------
(1) شرح النهج : 3 : 312 .
(2) سيرة ابن هشام 2 : 27 ، ودلائل النبوة للبيهقي ، وتأريخ ابن كثير 2 : 123 ، والإصابة 4 : 116 ، والسيرة الحلبية 1 : 372 ، والسيرة الدحلانية هامش الحلبية 1 : 89 ، وأسنى المطالب : 20 .
(3) تأريخ اليعقوبي 2 : 26 .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 52 _

  قال الأميني : إن شيئاً من مضامين هذه الأحاديث لا تتفق مع كفر أبي طالب ، فهو ( صلى الله عليه وآله ) لا يأمر خليفته الإمام علي ( عليه السلام ) بتكفين كافر ولا تغسيله ، ولا يستغفر له ولا يترحم عليه ، ولا يرجو له الخير ، ولا يستدر له الخير كما في حديث الاستسقاء ، إلى آخر ما ذكر (1) من المقطوع به أن الأئمة من ولد أبي طالب ( عليه السلام ) أبصر الناس بحال أبيهم وأنهم لم ينوهوا إلا بمحض الحقيقة ، فإن العصمة فيهم رادعة عن غير ذلك .
  روي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : إن أصحاب الكهف أسروا الإيمان وأظهروا الكفر ، فآتاهم الله أجرهم مرتين ، وإن أبا طالب أسر الإيمان وأظهر الشرك ، فآتاه الله أجره مرتين (2) .   ختاما : لقد أغرق القوم نزعاً في الوقيعة على بطل الإسلام ، والمسلم الأول بعد ولده البار ، وناصر دين الله الوحيد علي ( عليه السلام ) ، فلم يقنعهم ما اختلقوا من الأقاصيص حتى عمدوا إلى كتاب الله فحرفوا الكلم عن مواضعه .
   هذا ملخص ما اقتطفنا من الغدير في ترجمة حياة بطل المسلمين والمدافع الأول أبو طالب ( عليه السلام ) ، إلى آخر ما ذكر الأميني في غديره 8 : 3 .

من كتاب الدرجات الرفيعة
ويخرجه معه متى خرج .
   وذكر قصة الاستسقاء بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) حين أجدب الوادي وهلك الزرع والضرع ، بقوله في مدحه كما سبق ذكره :
وأبيض يستسقى الغمام iiبوجهه      ثمال  اليتامى عصمة iiللأرامل
تطوف به الهلاك من آل هاشم      فـهم  عنده في نعمة وفواضل

وذكر ، فلما أمر الله سبحانه رسوله أن يصدع بما أمر به من الرسالة بقوله تعالى : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) إلى آخر الفصل الذي ذكرناه .
   فقام بإظهار دين الله ، عظمت على قريش وأنكروه وأجمعوا على عداوته وخلافه وأرادوا السوء به ،

---------------------------
(1) الأميني في غديره 7 : 377 .
(2) شرح ابن أبي الحديد 3 : 311 .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 53 _

فقام أبو طالب بنصرته ومنعه منهم والذب عنه ، وعادا جبابرة قريش وطواغيتهم وهددهم أن يمسوا محمداً بأذى .
   ثم قال له ( صلى الله عليه وآله ) : اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت ، فوالله لا أسألك لشئ أبداً ، فأنشد يقول :
والله  لـن يصلوا إليك iiبجمعهم      حـتى أوسـد في التراب iiدفينا
فـانفذ لأمـرك ما عليك iiمخافة      وابـشر  وقر بذاك منك iiعيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي      ولـقد  صدقت وكنت قبل أمينا
وعـرضت دينا قد علمت iiبأنه      مـن خـير أديـان البرية iiدينا

وقد وثبت كل قبيلة من قريش على المؤمنين منهم يعذبونهم ويفتنونهم في دينهم ، ومنع الله سبحانه رسوله منهم ، بعمه أبي طالب ، وقام في بني هاشم ، وبني عبد المطلب ، حين رأى قريشاً تصنع ما تصنع فدعاهم وهو زعيمهم إلى ما هو عليه من منع النبي ( صلى الله عليه وآله ) والقيام دونه ، فأجابوه إلى ما دعاهم إليه من الدفاع عن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) إلا ما كان من عمه ( عبد العزى ) أبو لهب فإنه لم يجتمع معهم على ذلك .
  كما منع ابن أخته أبا سلمة بن عبد الأشهل المخزومي ، لما وثب عليه قومه يعذبونه ويفتنونه على الإسلام ، فهرب واستجار بخاله أبو طالب فأجاره .
  كما ذكرنا ذلك ، فلما رأت قريش إلى أنها لا تصل إلى محمد ( صلى الله عليه وآله ) لقيام أبي طالب بالدفاع عنه ( صلى الله عليه وآله ) ، أجمعت على أن تكتب فيما بينها كتاب المقاطعة وحصر بني هاشم في ( شعب أبي طالب ) ، حتى فرج الله عنهم بمعجزة ، كما ذكرنا ذلك .
  ونقل ابن الأثير في ( جامع الأصول ) إجماع أهل البيت ( عليهم السلام ) في إسلام أبي طالب وإيمانه ، وإجماعهم حجة ، ووافقنا على ذلك أكثر الزيدية ،

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 54 _

وبعض شيوخ المعتزلة ، منهم أبو القاسم البلخي ، وأبو جعفر الإسحاقي ، وغيرهما ، ولنا في إيمان أبي طالب ( رضي الله عنه ) روايات كثيرة (1) من الفريقين ، أربعة عشر رواية ودليلا : منها : ما رواه ابن بابويه القمي في ( أماليه ) بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير الهاشمي ، قال : سمعت أبا عبد الله الصادق ( عليه السلام ) يقول : نزل جبرئيل على النبي ( صلى الله عليه وآله )
فقال : يا محمد ، إن الله جل جلاله يقرئك السلام ويقول : إني قد حرمت النار على صلب أنزلك وبطن حملك وحجر كفلك .
   فقال ( صلى الله عليه وآله ) : يا جبرائيل ، بين لي ذلك ؟ فقال : أما الصلب الذي أنزلك فعبد الله بن عبد المطلب ، وأما البطن الذي حملك فآمنة بنت وهب ، وأما الحجر الذي كفلك فأبو طالب بن عبد المطلب وفاطمة بنت أسد .
  أقول : ولا غرو ، فإنهم أحناف موحدون ، ولم يشركوا بالله طرفة عين .
   وأضاف صاحب الدرجات الرفيعة : قالت الإمامية : ومما يدل على إيمان أبي طالب خطبته عند نكاح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خديجة بنت خويلد ( عليها السلام ) التي مطلعها : الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم ( عليه السلام ) وزرع إسماعيل ( عليه السلام ) . . . إلى آخر الخطبة التي سبق ذكرها (2) .
  وعلق صاحب الدرجات الرفيعة عفى الله عنه : إني لا أكاد أقضي العجب ممن ينكر إيمان أبي طالب ( عليه السلام ) أو يتوقف فيه ، وأشعاره التي يرويها المخالف والموالف صريحة في إعلان إسلامه ، وأي فرق بين المنظوم والمنثور إذا تضمناً الإقرار بالإسلام صريحة ،

---------------------------
(1) الدرجات الرفيعة : 48 .
(2) موسوعة المصطفى والعترة ـ المجلد الأول ، وأم المؤمنين خديجة ـ كراس 8 من هذه السيرة ، وغيرها من المصادر المعتبرة .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 55 _

لا سيما تشجيع أخاه حمزة بن عبد المطلب عندما تحدى المشركين وأعلن إسلامه ، في قصيدة مطلعها :

فـصبرا أبا يعلى على دين iiأحمد      وكن  مظهرا للدين وفقت iiصابرا
نـبي  أتـى بالحق من عند iiربه      بصدق وعزم لا تكن حمزة iiكافرا
فقد سرني إذ قلت " لبيك " iiمؤمنا      فكن لرسول الله في الدين iiناصرا
ونـاد  قـريشا بـالذي قد iiأتيته      جهارا وقل : ما كان أحمد ساحرا
ولما افتقد أبي طالب النبي وعلي في ظهيرة أحد الأيام الصائف ، خرج من داره مذعوراً يبحث عنهما ، وجاب أطراف مكة حتى خرج إلى شعابها فوجدهما على إحدى التلاع يصليان ، فاستقرت نفسه وكان معه ولده جعفر ، فأمره بالصلاة معهما حيث قال : صل جناح ابن عمك ، فلما أحس النبي به تقدم قليلاً ، فصلى جعفر إلى جنب أخيه علي ( عليه السلام ) .
  فأنشد أبو طالب هذه الأبيات التي تدل على إيمانه ويحثهما على مؤازرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) :

إن عـليا وجـعفرا iiثـقتي      عـند مـلم الزمان iiوالنوب
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما      أخـي لأمي من بينهم iiوأبي
والله  لا أخـذل الـنبي ولا      يـخذله  من بني ذو iiحسب
  قال أصحابنا : إنما لم يظهر أبو طالب ( عليه السلام ) إسلامه على رغم أنه حنيفي موحد ، أو يجاهر به ، لأنه لو أظهره لم يتهيأ له من نصرة النبي ما تهيأ له وكان كواحد من المسلمين الذين أظهروه ولم يتمكن من نصرته والقيام دونه حينئذ ،

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 56 _

وإنما تمكن من نصرته والمحاماة عنه ، بمظاهرته على دين قريش ، وإن أبطن الإيمان والإسلام ، وما أحسن قول السيد عبد الله بن حمزة الحسيني الزيدي من قصيدته :

حماه  أبونا أبو طالب      وأسلم والناس لم تسلم
وقـد كان يكتم iiإيمانه      وأمـا الولاء فلا يكتم
ولما اشتدت قريش على أبو طالب في الضغط على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليترك تسفيه آلهتهم وترك ما هو عليه وهددوه ، أجابهم بقوله :

حماه  أبونا أبو طالب      وأسلم والناس لم تسلم
وقـد كان يكتم iiإيمانه      وأمـا الولاء فلا يكتم
ولله در ابن أبي الحديد المعتزلي حيث يقول :

ولـولا أبـو طـالب iiوابنه      لـما مثل الدين شخصا iiفقاما
فـذاك  بـمكة آوى iiوحامى      وهـذا  بيثرب جس iiالحماما
تـكفل  عـبد مـناف iiبأمر      وأودى  فكان علي تماما iiفقل
فـي ثـبير مـضى بعد iiما      قضى  ما قضاه وأبقى شماما
فـلـله  ذا فـاتحا iiلـلهدى      ولـلـه ذا لـلمعالي خـتاما
ومـا ضـر مجد أبي طالب      جـهول لغا أو بصير iiتعامى
كـما لا يـضر أباة الصباح      من ظن ضوء النهار الظلاما

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 57 _

  قال الكلبي : لما حضرت أبا طالب الوفاة جمع إليه وجوه قريش وأوصاهم ، فقال : يا معشر قريش ، أنتم صفوة الله من خلقه ، وقلب العرب ، واعلموا أنكم لم تتركوا للعرب في المآثر نصيباً إلا أحرزتموه ، ولا شرفاً إلا أدركتموه ، فلكم به على الناس الفضيلة ، وله به إليكم الوسيلة ، والناس لكم حرب ، وعلى حربكم ألب ! وإني أوصيكم بتعظيم هذه البنية ( الكعبة ) فإن فيها مرضاة للرب وقواما للجأش ، وثباتا للوطأة ، صلوا أرحامكم ولا تقطعوها ، فإن صلة الرحم منسأة في الأجل وزيادة في العدد ، واتركوا البغي والعقوق ، ففيهما هلك القرون قبلكم ، لا تخيبوا الداعي ، وأعطوا السائل ، فإن فيها محبة في الخاص ومكرمة في العام ، وإني أوصيكم بمحمد ( صلى الله عليه وآله ) خيرا فإنه الأمين في قريش والصديق في العرب ، كأني أنظر إلى صعاليك العرب ، وأهل الوبر والأطراف المستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته ، وصدقوا كلمته ، وعظموا أمره ، فخاض بهم غمرات الموت ، فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا ، ودورها خرابا ، وضعافها أربابا ، وأعظمهم عليه أحوجهم إليه ، وأبعدهم منه أقربهم عنده ، قد محضته العرب ودادها ، وأعطته قيادها ، دونكم يا معشر قريش ، ابن أبيكم كونوا له ولاة ، ولحزبه حماة ، والله لا يسلك أحد منكم سبيله إلا سعد ، ولا يأخذ بهديه إلا رشد ، ولو كان لنفسي مدة ولأجلي تأخير ، لكففت عنه الهزاهز ، ولدفعت عنه الدواهي .
   ثم أنشد وهو يخاطب ابنيه علياً وجعفراً ، وأخويه حمزة والعباس بقوله :

أوصي بنصر النبي الخير iiمشهده      عـليا  ابـني وشيخ القوم iiعباسا
وحـمزة  الأسـد الحامي iiحنيفته      وجـعفرا  أن يذودوا دونه iiالناسا
كـونوا  فدى لكم أمي وما iiولدت      في نصر أحمد دون الناس أتراسا

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 58 _

  بالله عليكم هذا المحامي المؤمن حتى على فراش النزع يموت كافراً ، وصخر بن حرب ( أبو سفيان ) يموت مسلماً ، لقوله لبني أمية في دار عثمان عندما اعتلى عرش الحكم : تلاقفوها يا بني أمية ، تلاقف الكرة بيد صبيانكم ، فوالذي يحلف به أبو سفيان لا جنة ولا نار ، إنما هو الملك ، هذه وصيته ، وهذه وصية أبي طالب الطافحة بالإيمان والرشاد دلالة واضحة على أنه ( عليه السلام ) إنما أرجأ صريح قوله وتصديقه باللسان إلى ساعات اليأس فيها عن الحياة ، حذار شنآن قومه المستتبع لانثيالهم عنه .
  قال الواقدي : توفي أبو طالب ( عليه السلام ) في النصف من شوال في السنة العاشرة من البعثة ، وهو ابن بضع وثمانين سنة ، بعد ما خرج من حصار الشعب ، بثمانية أشهر وأحد عشرين يوما ، وقال ابن الجوزي : مات قبل الهجرة بثلاث سنين .
  وروي : لما مات جاء الإمام علي ( عليه السلام ) إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فآذنه بموته ، فتوجع عظيما وحزن شديدا ، ثم قال : امض فتول غسله ، فإذا رفعته على سريره فأعلمني ، ففعل فاعترضه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو محمول على رؤوس الرجال .
  فأبنه قبل دفنه ، بقوله ( صلى الله عليه وآله ) : وصلت رحم يا عم وجزيت خيراً ، لقد ربيت وكفلت صغيراً ، ونصرت وآزرت كبيراً ، ثم تبعه إلى حفرته فوقف عليه فقال : أما والله لأستغفرن لك ، ولأشفعن فيك شفاعة يتعجب لها الثقلان .
   ولم يصل عليه ( صلى الله عليه وآله ) لأن صلاة الجنائز لم تكن قد شرعت بعد ، ولا صلى ( صلى الله عليه وآله ) على خديجة كذلك ، إنما تلخص تشييعه لهما بالدعاء والاستغفار لهما سلام الله عليهما .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 59 _

  وفي الحديث الصحيح المشهور : إن جبرئيل ( عليه السلام ) قال لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليلة مات أبو طالب ( عليه السلام ) : اخرج منها ـ أي من مكة ـ فقد مات ناصرك .
  وكان لأبي طالب ( عليه السلام ) من البنين ستة ، أربع ذكور ، أحدهم طالب ، وهو أكبرهم وبه يكنى ، وكانت قريش أكرهته على النهوض معهم إلى بدر لقتال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ففقد ولم يعرف له خبر ، والثاني عقيل ، والثالث جعفر ، وأصغرهم الإمام علي ( عليه السلام ) ، وبنتان : أم هانئ وجمانة ، وأمهم جميعاً فاطمة بنت أسد الهاشمية ، هذا ما لخصناه من كتاب الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة .

شذرات من كتاب إيمان أبي طالب شيخ البطحاء أبو طالب الدرع الواقي لرسول الله ( صلى الله عليه وآله )
  منذ بزوغ شمس الرسالة إلى يوم قبضه الله إليه ، حيث وقف كالسد المنيع يحول بينه وبين الوثنية ـ وهي القوة العظمى التي كانت حينذاك تمسك بمقدرات الجزيرة العربية ـ وبين تحقيق أهدافها في وأد الرسالة السماوية ، والدعاة لها .
  وله في سبيل ذلك مواقف مشهورة تفوق الإحصاء ، وإجمالها يحتاج إلى كتاب مفرد ، ولكن هذا التأريخ بدفتيه مفتوح بين يديك ، ويكفيك أن تطالع فيه صفحات أيام الضغط على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وذويه والمقاطعة الشاملة لهم ، وحبسهم في ( شعب أبي طالب ) لترى أن أبا طالب كان الرجل الوحيد الذي تعهد حفظهم وحراستهم وتكفل أرزاقهم .
   وكفاك شاهداً على عظيم منزلته عند الله ورسوله ، أن الرسول لا ينطق عن الهوى ، اشتد وجده ، وهاج حزنه بعد وفاة عمه وناصره أبي طالب ، وسمي ذلك العام بعام الأحزان ، ولم يمكنه بعدها المقام بمكة فاضطر للهجرة إلى يثرب ( المدينة المنورة ) .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 60 _

  أما قول أبي طالب وأشعاره المثبتة في كتب السير والتأريخ والحديث ، والتي يرويها المخالف والمؤالف ، فهي صريحة في اعترافه برسالة محمد ( صلى الله عليه وآله ) ونبوته وأمانته وصدقه ، وأنه يوحى إليه من ربه ، وهو خاتم الأنبياء ، وتعرب عن كمال إيمانه وحقيقة إسلامه ، وإخلاصه لصاحب الشريعة وتفانيه في نصرة الإسلام وحماية بيضته .
  وكل أشعاره جاءت مجئ التواتر ، فإن لم تكن آحاداً متواترة مجموعها متواتراً يدل على أمر واحد لا غير وهو إيمانه وتصديقه برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . وأما ما يروى عن آله وذويه وولده ، فصريحة في إثبات إيمانه ، ولم يؤثر عنهم ما يخالفهم ، بل أكدوا أن " إيمان أبي طالب لو وضع في كفة ميزان ، وإيمان هذا الخلق في الكفة الأخرى ، لرجح إيمان أبي طالب " (1) .
  وكتبوا إلى بعض ثقاتهم وخاصتهم : إن شككت في إيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار ، ورغم كل ذلك فقد حاول بعض من في قلوبهم مرض ، وممن فاتهم إيذاء الرسول ( صلى الله عليه وآله ) في حياته ومحاربة دعوته ، أن يقوضوا دعامة من دعائم الإسلام المثبتة من خلال تشكيكهم في إيمان أبي طالب ، تلك المحاولة التي باءت بالفشل الذريع ، لأن نور الشمس لا يحجبه غربال ، ونتيجة لتصدي جماعة من كبار علماء الإسلام وأعلامه لهم ، وكشف دسائسهم ومكائدهم ، وفضح أهدافهم الخبيثة ، وقد ألف في ذلك 37 كتاباً فخماً ، فراجع المصدر .

---------------------------
(1) كنز الفوائد 1 : 183 .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 61 _

من كتاب الذريعة في تاريخ أبي الفداء ( 1 : 122 )
  رواية ابن عباس أنه سمع شهادة أبي طالب عند وفاته ، فأخبر به النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال : الحمد لله الذي هداك يا عم . . . إلى أن قال أبو الفداء : ومن شعره ما يدل على أنه كان مصدقا للرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو قوله :
ودعوتني وعلمت أنك صادق      ولـقد صدقت وكنت ثم iiأمينا
ولـقد  علمت بأن دين iiمحمد      مـن  خير أديان البرية iiدينا
والله  لن يصلوا إليك بجمعهم      حـتى أوسد في التراب دفينا

  وكتب العلامة السيوطي في كتابه ( بغية الطالب ) لإيمان أبي طالب وحسن خاتمته .
  كما كتب أحمد بن زيني دحلان ، مفتي الشافعية بمكة المشرفة كتاب ( أسنى المطالب في نجاة أبي طالب ) .
  وكتب في هذا الموضوع من أصحابنا جمع كثير في طي تصانيفهم ، ولا سيما في كتب الإمامية ، وعقد العلامة الكراجكي في ( كنز الفوائد ) فصلاً في ما يدل من أشعار أبي طالب على إيمانه ، وما ورد فيه من الأحاديث ، وتكلم الشيخ أبو الحسن الشريف الفتوني الغروي في كتابه ( ضياء العالمين ) في فصل يقرب من ثلاثين صفحة في موضوع ( إيمان أبي طالب ) ، وكتب جمع من الأصحاب كتباً مستقلة في هذا الموضوع بعناوين خاصة ، منها : شعر أبي طالب وذكر إسلامه ، والشهاب الثاقب ، وشيخ الأبطح ، وفصاحة أبي طالب ، وفضل أبي طالب ، والقول الواجب .
  وكتب في إيمان آباء النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مقصد الطالب ، ومنى الطالب ، ومنية الطالب ، ومواهب الواهب ، وهناك جملة من الكتب التي صدرت بعنوان إيمان أبي طالب ، وعددها عشرة كتب في فترات متفاوتة .
  هذا ملخص ما ذكره العلامة الشيخ آغا بزرك الطهراني في الذريعة ، وأخيراً إليك بعض الأشعار التي اعترف فيها بالإيمان والتوحيد واتباع الرسول وما جاء به من السماء .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 62 _

أشعار مؤمن قريش
وأما أشعاره التي يرويها أرباب السير والتأريخ في صحاحهم ومسانيدهم على اختلاف مللهم ونحلهم ونزعاتهم ، فهي واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار ، ومتواترة تواتراً لا يمكن الطعن فيه ، تدل على إيمان أبي طالب ويقينه برسالة السماء ومن جاء بها وصدقه وأمانته ، وأنه يوحى إليه من ربه وأنه خاتم الرسل والأنبياء ( صلى الله عليه وآله ) .
  وسيأتي ذكر القصيدة اللامية التي نقلها اللواء إبراهيم رفعت باشا ، أمير الحج المصري وقائد حرس حملة الكسوة الشريفة للكعبة قبل مئة عام تقريباً في كتابه ( مرآة الحرمين ) .
   وإليك هذه الشذرات من أشعاره ذكرها ونقلها بعض الكتاب والمؤلفين والعلماء من القدماء والمعاصرين على سبيل المثال لا الحصر .
  في كتاب الإفصاح (1) ، للعلامة الشيخ المفيد عليه الرحمة ، المتوفى عام 314 ه‍ ، وفي آخره رسالة ملحقة بعنوان ( إيمان أبي طالب ) : ومما يدل على إيمان أبي طالب وحسن إسلامه ونصرته في الدفاع عن الرسول ورسالته قصائدة ونظمه المؤيد لذلك ، وهي مشهورة ومتواترة على الإجماع .
   وإليك هذه الشذرات مما قاله :
ألا مـن لـهم آجز الليل مقتم      طواني وأخرى النجم لما تقحم (2)
إلى قوله :

تـرجون أن نـسخو بـقتل iiمحمد      ولم تختضب سمر العوالي من iiالدم
كـذبتم  وبـيت الله حـتى iiتفرقوا      جـماجم  تـلقى بـالحطيم iiوزمزم
وتـقطع أرحـام وتـنسى iiخـليلة      خـليلا  ويـغشى محرم بعد محرم
ويـنهض قـوم فـي الحديد iiإليكم      يـذودون عـن أحسابهم كل iiمجرم
عـلى  ما أتى من بغيكم iiوضلالكم      وعـصيانكم  فـي كل أمر iiومظلم
بـظلم نـبي جاء يدعو إلى iiالهدى      وأمر أتى من عند ذي العرش مبرم
فـلا  تـحسبونا مـسلميه iiومـثله      إذا  كـان فـي قـوم فليس iiبمسلم
---------------------------
(1) المطبوع في قم ، قسم الدراسات الإسلامية ، لمؤسسة البعثة .
(2) تقحم : غاب ( لسان العرب ـ فحم ـ 21 : 364 ) .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 63 _

  أفلا يرون الخصومة إلى هذا الحد من أبي طالب في نصرة نبي الله ( صلى الله عليه وآله ) ، والتصريح بنبوته ، والإقرار بها من عند الله عز وجل ، والشهادة بحقه ، فيتدبرون ذلك ، أم على قلوب أقفالها ؟ ! ومنه قوله ( رضي الله عنه ) :
تـطاول  لـيلي بهم نصب      ودمـع كسح السقاء السرب
لـلعب  قـصي بـأحلامها      وهل يرجع الحلم بعد اللعب

إلى قوله ( رضي الله عنه ) :

وقـالوا  لأحـمد أنـت iiامرؤ      خلوف الحديث ضعيف iiالنسب
ألا  إن أحـمـد قــد جـاءهم      بحق ، ولم يأتهم بالـكذب (1)
وفي هذا البيت صرح بالإيمان برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ومنه قوله ( رضي الله عنه ) :


أخـلتم بـأنا مـسلمون iiمحمدا      ولـما  نـقاذف دونه iiبالمراجم
أمـينا حـبيبا في البلاد iiمسوما      بـخاتم  رب قـاهر iiلـلخواتم
يرى  الناس برهانا عليه وهيبة      وما  جاهل في فضله مثل iiعالم
نـبيا  أتاه الوحي من عند iiربه      فـمن قال لا يقرع بها سن نادم
تـطيف  بـه جرثومة iiهاشمية      تذبب عنه كـل باغ وظالم (2)

---------------------------
(1) ديوان أبي طالب : 52 ، ومناقب ابن شهرآشوب 1 : 66 ، والحجة على الذاهب : 542 ، وشرح نهج البلاغة 41 : 16 .
(2) جرثومة كل شئ : أصله ومجتمعه ( لسان العرب ـ جرثم ـ 21 : 59 ) .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 64 _

ومنه قوله ( رضي الله عنه ) :
ألا أبـلـغا عـني عـلى ذات iiبـينها      لـؤيا  وخـصا مـن لـؤي بني iiكعب
ألــم  تـعلموا أنـا وجـدنا iiمـحمدا      نـبيا كـموسى خـط في أول الكتب ؟
وأن عـلـيه فــي الـعـباد iiمــحبة      ولا شك في من خصه الله بالحـب (1)

وفي هذا الشعر والذي قبله محض الإقرار برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبالنبوة وصريح بلا ارتياب .
  ومن ذلك قوله ( رضي الله عنه ) :

ألا مـن لـهم آخر الليل iiمنصب      وشعب العصا من قومك المتشعب
إلى قوله :
وقـد  كـان فـي أمـر الـصحيفة iiعبرة      مـتى  مـا تـخبر غائب القوم iiيعجب(2)
مـحـا الله مـنـها كـفـرهم iiوعـيوبهم      وما نقموا من باطل الحق مقرب فكذب (3)
مــا  قـالـوا مــن الأمــر iiبـاطلا      ومـن يـختلق مـا لـيس بـالحق iiيكذب
وأمـسـى ابـن عـبد الله فـينا مـصدقا      عـلى  سـخط مـن قـومنا غـير معتب
فــلا تـحـسبونا مـسـلمين iiمـحـمدا      لــذي  غـربـة مـنـا ولا مـتـغرب
سـتـمـنعه  مــنـا يــد iiهـاشـمية      مـركـبها  فـي الـناس خـير iiمـركب

---------------------------
(1) ديوان أبي طالب : 23 ، وشرح نهج البلاغة 41 : 37 .
(2) مناقب ابن شهرآشوب 1 : 36 ، وسيرة ابن هشام 1 : 772 ، وشرح النهج 41 : 27 ، والبداية والنهاية 3 : 48 ، وخزانة الأدب 1 : 162 .
(3) في الديوان : وأصبح .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 65 _

ومن ذلك قوله ( رضي الله عنه ) :
إذا قيل من خير هذا iiالورى      قـبيلا ، وأكـرمهم اسره ii؟
أنـاف  بعبـد مـناف iiأبي      أبــو نضلة هاشم الغره (1)
وقـد حـل مجد بني iiهاشم      مـكان  الـنعائم والـزهره
وخـير بـني هـاشم iiأحمد      رسـول الـمليك على iiفتره
فإن لم يكن في ذلك شهادة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بالنبوة ، فليس في ظاهر الآية شهادة ، وهذا ما لا يرتكبه عاقل له معرفة بأدنى معرفة أهل اللسان .
  ومنه قوله في ذكر الآيات للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ودلائله ، وقول بحيراء الراهب فيه ، وذاك أن أبا طالب ( رضي الله عنه ) لما أراد الخروج إلى الشام ترك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إشفاقاً عليه ، ولم يعمل على استصحابه ، فلما ركب أبو طالب ( رضي الله عنه ) بلغه ذلك ، فتعلق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالناقة وبكى ، وناشده الله في إخراجه معه ، فرق له أبو طالب وأجابه إلى استصحابه ، فلما خرج معه أظلته الغمامة ، ولقيه بحيراء الراهب ، فأخبره بنبوته ، وذكر له البشارة في الكتب الأولى ، فقال أبو طالب ( رضي الله عنه ) :
إن  الأمـين مـحمداً في iiقومه      عـندي  يـفوق منازل iiالأولاد
لـما تـعلق بـالزمان iiضممته      والـعيس  قـد قلصن iiبالأزواد
حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا      لاقوا  على شرف من iiالمرصاد
حـبرا فـأخبرهم حديثا iiصادقا      عـنـه ورد مـعاشر الـحساد
---------------------------
(1) أناف : ارتفع وأشرف ( لسان العرب ـ نوف ـ 9 : 243 ) ، أبو نضلة : كنية هاشم بن عبد مناف ( الصحاح ـ نضل ـ 5 : 1381 ) .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 66 _

  ومنه أيضاً قوله يحض النجاشي على نصر النبي ( صلى الله عليه وآله ) :

تـعلم  مـليك الحبش أن iiمحمدا      نـبي كموسى والمسيح بن iiمريم
أتـى بـهدى مـثل الذي أتيا به      فـكل  بـأمر الله يهدي iiويعصم
وإنـكـم تـتلونه فـي iiكـتابكم      بصدق  حديث لا حديث iiالمبرجم
وإنـك  مـا تـأتيك منا iiعصابة      بـفضلك إلا عـاودوا iiبـالتكرم
فـلا تـجعلوا لـله ندا iiوأسلموا      فإن طريق الحق ليس بمظلم (1)

وفي هذا الشعر من التوحيد والإسلام ما لا يمكن دفعه لمسلم .
   وهناك قصائد وأشعار كثيرة ذكرها أرباب السير والتأريخ ، منها ما ذكره العلامة الأميني في غديره الجزئين السابع والثامن ، وهذا ما عثرنا على بعض أشعار أبي طالب مؤمن قريش من دون تقص أو تتبع ذكره اللواء إبراهيم رفعت باشا قومندان حرس الحملة وأمير الحج المصري لسنين 1318 إلى 1325 ه‍ ـ 1901 إلى 1908 م في كتابه مرآة الحرمين .
  وهذه الأشعار تعتبر من عيون الشعر الجاهلي ، ومما يثبت إيمان أبي طالب وإسلامه البتة الذي لا ينازع فيه اثنان ، كما ذكره أصحاب السير في تأريخهم ، وإنه لم يشرك بالله طرفة عين أبداً وكان من الأحناف الذين يعبدون الله على ملة إبراهيم .

---------------------------
(1) متشابه القرآن 2 : 56 ، ومناقب ابن شهرآشوب 1 : 26 ، ومستدرك الحاكم 2 : 326 .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 67 _

  وهذه القصيدة مشهورة اشتهار الشمس في رابعة النهار له ، نظمها عندما حوصر هو وبنو هاشم في الشعب ( شعب أبي طالب ) .

القصيدة الشعبية
  القصيدة الشعبية لأبي طالب عم سيدنا ومولانا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، قالها في الشعب وهو شعب أبي طالب الذي أوى إليه بنو هاشم مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما تحالفت عليهم قريش وكتبوا الصحيفة .
  وأصل الشعب لعبد المطلب فقسمه بين بنيه وأخذ النبي ( صلى الله عليه وآله ) حظ أبيه وكان منزل بني هاشم ومساكنهم ، وفيه يقول أبو طالب :

جــزى  الله عـنـا عـبد شـمس iiونـوفلا      وتــيـمـا  ومــخـزومـا iiعــقـوقـا
ومـأثـما  بـتـفريقهم مـن بـعد ود iiوألـفة      جـمـاعـتنا  كـيـما يـنـالوا iiالـمـحرما
كـذبـتـم  وبـيـت الله نـبـزى مـحـمدا      ولما تروا يوما لدى الـشعب قائما القصيدة (1)
خـلـيـلي  مـــا أذنــي لأول iiعــاذل      بـصـغواء فــي حــق ولا عـند بـاطل
خـلـيـلي إن الــرأي لـيـس iiبـشـركة      ولا  نـهـنـة عـنـد الأمــور iiالـبـلابل
ولــمـا رأيــت الـقـوم لا ود عـنـدهم      وقــد قـطـعوا كــل الـعرى والـوسائل
وقـــد  صـارحـونـا بـالـعداوة iiوالأذى      وقــد طـاوعـوا أمــر الـعدو iiالـمزايل
وقــد حـالـفوا قـومـا عـلـينا iiأظـنـة      يـعـضـون غـيـظا خـلـفنا iiبـالأنـامل
صـبـرت لـهـم نـفسي بـسمراء iiسـمحة      وأبـيـض  عـضب مـن تـراث iiالـمقاول
وأحـضرت  عـند الـبيت رهـطي iiوإخوتي      وأمـسـكت  مــن أثـوابـه iiبـالـوصائل
قـيـامـا مــعـا مـسـتـقبلين iiرتـاجـه      لــدى  حـيث يـقضي خـلفه كـل iiنـافل
أعــوذ  بـرب الـناس مـن كـل iiطـاعن      عـلـيـنا  بــسـوء أو مـلـح iiبـبـاطل
---------------------------
(1) أشار بوضع هذه القصيدة وشرحها فضيلة الأديب الشاعر الشيخ محمد عبد الرحمن الجديلي الموظف بمجلس النواب المصري حينذاك

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 68_


ومـن  كـاشح يـسعى لـنا iiبمعيبة      ومـن  ملحق في الدين ما لم iiنحاول
وثـور  ومـن أرسـى ثبيرا iiمكانه      وراق لـبـر فـي حـراء ونـازل
وبـالبيت حـق البيت من بطن iiمكة      وبالله  : إن الله لــيـس بـغـافل
وبـالـحجر الـمسود إذ يـمسحونه      إذا اكـتنفوه بـالضحى iiوالأصـائل
ومـوطئ إبراهيم في الصخر iiرطبة      عـلى  قـدميه حـافيا غـير iiناعل
وأشـواط بـين المروتين إلى الصفا      ومـا فـيهما مـن صـورة iiوتماثل
ومـن حـج بيت الله من كل iiراكب      ومـن كـل ذي نذر ومن كل iiراجل
فـهل بـعد هـذا مـن مـعاذ iiلعائذ      وهـل مـمن مـعيذ يتقي الله iiعادل
يـطاع  بـنا الأعـدا وودوا لو iiأننا      تـسد بـنا أبـواب تـرك iiوكـابل
كـذبتم وبـيت الله نـبزى iiمـحمدا      ولـمـا نـطاعن دونـه iiونـناضل
ونـسـلمه حـتى نـصرع iiحـوله      ونـذهل  عـن أبـنائنا iiوالـحلائل
ويـنهض قـوم فـي الـحديد iiإليكم      نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل
وحتى  نرى ذا الضغن يركب iiردعه      مـن الـطعن فعل الأنكب iiالمتحامل
وإنـا لـعمر الله إن جـد مـا iiأرى      لـتـلتبسن  أسـيـافنا iiبـالأمـاثل
بـكفي فـتى مـثل الشهاب iiسميدع      أخـي ثـقة حـامي الـحقيقة iiباسل
ومـا  تـرك قـوم لا أبـا لك iiسيدا      يـحوط الـذمار غـير ذرب مواكل
وأبيــض (1) يستسقى الغمام بوجهه       ثـمال  الـيتامى عصمة iiللأرامل
---------------------------
(1) في روض السهيلي : قالت رقيقة : تتابعت على قريش سنو جدب قد أقحلت الظلف ، وأرقت العظم ، فبينا أنا راقدة مهمومة ومعي صنوي إذا أنا بهاتف صيت يصرخ بصوت صحل يقول : يا معشر قريش ، إن هذا النبي المبعوث منكم هذا أبان نجومه فحيهلا بالحياء والخصب ألا فانظروا منكم رجلا طوالا عظاما أبيض بضا أشم العرنين له فخر يكظم عليه ألا فليخلص هو وولده وليدلف إليه من كل بطن رجل ألا فليشنوا من الماء ، وليسموا من الطيب ، وليطوفوا بالبيت سبعا ، ألا فليستسق الرجل ، وليؤمن القوم .
قالت : فأصبحت مذعورة ، قد قف جلدي ، ووله عقلي ، فاقتصصت رؤياي فوالحرمة والحرم إن بقي أبطحي إلا وقال هذا شيبة الحمد ، وتتامت عنده قريش ، وانفض إليه الناس من كل بطن رجل فشنوا ، ومسوا ، واستسلموا ، واطوفوا ثم ارتقوا أبا قبيس وطفق القوم يدفون حوله ما أن يدرك سعيهم مهلة فقام عبد المطلب فاعتضد ابن ابنه محمدا فرفعه على عاتقه وهو يومئذ غلام قد أيفع أو كرب . ثم قال : اللهم ساد الخلة ، وكاشف الكربة ، أنت عالم غير معلم ، ومسؤول غير مبخل ، وهذه عبيدك وإماؤك بعذرات حرمك يشكون إليك سنتهم فاسمعن اللهم وأمطرن علينا غيثا مريعا مغدقا ، فما راموا والبيت حتى انفجرت السماء بمائها وكظ الوادي بثجيبه .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 69 _

يـلوذ  بـه الهلاك من آل iiهاشم      فـهم  عـنده في رحمة وفواضل
جزى  الله عنا عبد شمس iiونوفلا      عـقوبة شـر عـاجل غير iiآجل
بـميزان  قـسط لا يخس iiشعيرة      لـه  شـاهد من نفسه غير iiعائل
ونـحن  الصميم من ذؤابة iiهاشم      وآل  قصي في الخطوب iiالأوائل
وكـل  صـديق وابن أخت iiنعده      لـعمري وجـدنا غبه غير iiطائل
سوى أن رهطاً من كلاب بن مرة      بـراء إلـينا مـن مـعقة iiخاذل
ونعم  ابن أخت القوم غير iiمكذب      زهـير  حساماً مفرداً من iiحمائل
أشـم مـن الـشم البهاليل iiينتمي      إلى حسب في حومة المجد iiفاضل
لـعمري  لـقد كلفت وجدا بأحمد      وإخـوته  دأب المحب iiالمواصل
فـلا  زال في الدنيا جمالاً iiلأهلها      وزيـناً  لـمن ولاه ذب iiالمشاكل
فـمن مـثله في الناس أي iiمؤمل      إذا  قـاسه الـحكام عند التفاضل
حـليم رشـيد عادل غير iiطائش      يـوالي  إلـها لـيس عنه iiبغافل
فـأيـده رب الـعـباد iiبـنصره      وأظـهر  ديـناً حقه غير iiناصل

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _70_

فـوالله لـولا أن أجـئ بـسبة      تـجر  على أشياخنا في iiالقبائل
لـكنا  اتـبعناه عـلى كل iiحالة      من الدهر جدا غير قول التهازل
لـقد  عـلموا أن ابننا لا مكذب      لـدينا  ولا يغنى بقول iiالأباطل
فـأصبح فـينا أحمد في iiأرومة      يـقصر عـنها سورة iiالمتطاول
حـدبت  بـنفسي دونه iiوحميته      ودافـعت عنه بالذرى iiوالكلاكل
ختاماً
  هذا ملخص ما اقتطفنا من بعض المصادر المعتبرة ، وبعض ما دبجته يراعات أهل السير والتأريخ في إثبات إيمان أبي طالب ( عليه السلام ) وإسلامه ، ولو أن هناك بعض التكرار في الفصول المتعاقبة ، ذكرناها لسير البحث ، ولا يخلو ذلك من فائدة ، أسأله تعالى أن يتقبل منا هذا اليسير ويعفو عنا الكثير ، فإنه سميع بصير .
  وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين .
  تم الفراغ منه في دار الهجرة قم المقدسة في العاشر من ربيع الثاني سنة 1421 ه‍ .