تأليف
الحاج حسين الشاكري


مقدمة
  شيخ البطحاء أبو طالب مؤمن قريش كان عبد مناف بن عبد المطلب الدرع الواقي للرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) ابتداء من حياة أبيه عبد المطلب ، ولقد شمر عن ساعد الجد في الدفاع عن ابن أخيه منذ طفولته وحداثة سنه وبلوغه وحتى قبل بزوغ شمس الرسالة وبعدها إلى يوم وفاته ( عليه السلام ) حيث كان كالسد المنيع يحول بينه وبين المشركين ، تلك القوة الوثنية الهائلة التي كانت تحكم الجزيرة العربية بالحديد والنار ، وتمسك بمقدراتها ، وبين تحقيق أهدافها الضالة في وأد رسالة السماء ومن يؤمن بها في مهدها .
   ولأبي طالب مواقف مشهورة ومشهودة في تصديه للدفاع عن الرسالة فوق التصور ، وقفها مدافعا بكل ما يملك من قوة دون ابن أخيه ورسالته إلى آخر نفس . ولم يزل الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) ممنوعا من كل اعتداء ، حتى توفي أبو طالب ( عليه السلام ) ، فقد هاج المشركون في مكة ، وأجمع طواغيت قريش على الفتك به ، وعند ذلك جاء نداء ربه أن " اخرج من مكة فقد مات ناصرك " (1) ، على رغم كل التضحيات والدفاع عن بيضة الإسلام والمواقف المشهودة التي وقفها أبو طالب دون تبليغ الرسالة ، نجد تخرصات تصدر من أنفاس مبحوحة تقول إن أبا طالب مات كافرا ، فمتى كفر هو ؟ ومتى أشرك ؟ حتى يؤمن ويهتدي ، أليس هو من الموحدين وأقواله وأفعاله ، وأشعاره تدل على إيمانه وإسلامه ؟ سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم ،

---------------------------
(1) إيمان أبي طالب ، للمفيد : 74 ، والدرجات الرفيعة : 62 .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 2 _

   هذا المؤمن المدافع عن بيضة الإسلام ورسوله يقول رواة السوء ، وعبدة الأهواء والتعصب ، والكذابين والوضاعين أنه مات كافرا ؟ هذا وصخر بن حرب ما انفك من محاربة التوحيد ورسول الإسلام بكل ما أوتي من قوة يموت مسلما مؤمنا وهو من الطلقاء ؟ وأضحك ما أراك الدهر عجبا .
  ولما مات عبد المطلب ـ شيبة الحمد ـ أوصى ولده أبو طالب بمحمد النبي دون أولاده العشرة ، لعلمه بإيمانه وتوحيده ، ولأنه شقيق والده عبد الله من أمه وأبيه ، بقوله :
أوصيك يا عبد مناف بعدي      بـواحد بـعد أبـيه iiفـرد
فارقه  وهو ضجيع المهدي      فـكنت  كالأم له في الوجد
  فكفل أبو طالب النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأحسن الكفالة وأحاطه بكل ما يملك من عناية ، ودافع عنه وعن رسالته بكل ما أوتي من قوة ، حتى أظهر الله دينه ، وثبت أركانه ، وكان وهو في النزع الأخير وعلى فراش الموت يدافع عنه ويوصي أولاده وبني عبد المطلب به خيرا ، حتى خمدت أنفاسه . فسلام عليه يوم ولد ، ويوم جاهد ، ويوم مات مؤمنا موحدا ، ويوم يبعث حيا . حسين الشاكري الفاتح من ربيع الثاني 1421 ه‍ .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 3 _

قريش الموحدة وقريش المشركة
  كان شيبة الحمد عبد المطلب وأبيه عمرو العلى هاشم وأبيه عبد مناف وآبائهم من الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة إلى أن يصلوا إلى قصي وإسماعيل كانوا كلهم موحدون أحناف على دين أبيهم إبراهيم الخليل ، وكذلك أبناء عبد المطلب ولا سيما عبد مناف أبو طالب وحمزة والعباس إلا ما شذ منهم مثل عبد العزى ( أبو لهب ) فإنه تأثر ببني أمية وصار على شركهم عندما تزوج أم جميل بنت أبي سفيان ، كما في بيوتات سادة قريش مثل بني زهرة ، وبني أسد وغيرهم موحدون أحناف ، وكثير منهم مشركون لأن الشرك طغى في عهد الجاهلية وتنمر طغاتها وفرض عبادة الأوثان بالقوة على القبائل والناس على حد سواء .
  وفي وسط هذا الجو المظلم الذي اجتاحته هذه العاصفة الهوجاء ، فأبدلت الدين السماوي ، وملة إبراهيم الحنيف إلى عبادة الحجارة والأخشاب التي ينحتونها ، لتكون لهم آلهة يعبدونها من دون الله الواحد ، وهم يعلمون أنها لا تسمع ولا تعي ، ولا تنفع ولا تضر . في هذا الجو الحالك والغارق في ظلمات الجهل ، من تلك الأكداس البشرية ، المغمضة العين ، المغفلة القلب ، قد ارتفع منها بيت عريق بالإيمان والتوحيد المتمسك بالدين الحنيف الذي ما امتد إليه ظلام الشرك ولم تدنسه أوضار الجاهلية ، وبقي فيه شعاع النور الذي أشعله الخليل إبراهيم ( عليه السلام ) لم تعصف به العواصف ، ولم يجتاحه إعصار ، إلا ما تناول من بعض أطرافه ، فهو عميق الإيمان ، لم يفارق الحنيفية البيضاء .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 4 _

   فتح أبو طالب عينيه ، ودرج في الحياة ، فرأى في هذا البيت حياة غير الحياة التي يراها بين الناس ، ورأى في عميد البيت ـ أبيه عبد المطلب ـ رجلا ليس كالرجال ، ذلك الزعيم المطاع ، يقول فينفذ القول ، ويحكم فلا يرد له حكم ، وهو الجواد المعطاء ، والسخي الفذ ، يطعم فينال من طعامه حتى راكب البعير وهو على بعيره ، ومطعم طير السماء ، وإنه مجاب الدعوة ، يدعو الله فتلبى دعوته ، فهو مرضي عنه في السماء ، ومحمود في الأرض ، وإنه يرى في أبيه صفات لم تكن في غيره ، وهو الذي سن سننا ليست سوى الدليل على رفعة النفس ، ونقاء السريرة ، وعمق الإيمان ، بحيث تنهض بالبرهان على بقاء الحنيفية ، التي جاء بها أبوه إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) ، فإنه حرم الخمر على نفسه ، وحرم نكاح المحارم ، وحدد الطواف بالبيت سبعا ، ونهى أن يطوف بالبيت عريان ، ويقطع يد السارق ، ويحرم الزنا وينهى عن الفحشاء وعن الموؤدة ، وأن يستقسم بالأزلام ، وحرم أكل ما ذبح على النصب ، وسن الوفاء بالنذر (1) .
  ويجئ الإسلام فيقر كل هذه السنن ، التي سنها شيبة الحمد عبد المطلب ، فنشأ أبو طالب على ما سار عليه أبوه ، في البيت الذي ترعرع فيه ـ مسلما حنيفا وما كان من المشركين ـ .
  ويرى أبو طالب أباه ، يوم جاء أبرهة للكعبة ، فصودرت لعبد المطلب أنعام ، فراح يطلبها منه ، وكاد يصغر في عينه حيث لم يتعرض لأقدس المقدسات لديه ( الكعبة ) وقد جاء ليهدمها ، فما كان من عبد المطلب إلا أن أجابه بجواب المؤمن العارف بالله ، الثابت الإيمان : " أنا رب الإبل ، وللبيت رب يحميه " . وعاد إلى البيت فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وناجى ربه ،

---------------------------
(1) السيرة الحلبية 1 : 5 ، والنبوية 1 : 21 ، والبحار 6 : 38 ، وينابيع المودة : 112 .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 5 _

مناجاة المؤمن الموحد :

يــارب لا أرجــو لـهـم iiسـواكـا      يــا  رب فـامـنع مـنـهم iiحـمـاكا
إن  عــدو الـبـيت قــد iiعـاداكـا      امـنـعهم  أن يـخـربوا فـنـاكا  (1)
ثم عقب بقوله : يا معاشر قريش ، لا يصل إلى هدم هذا البيت ، فإن له ربا يحميه ويحفظه ، وقد فعل ، فأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل ، كما ذكر في كتابه المجيد . وإن أبا طالب ليسمع أباه في نجواه ، ويجيب الرب دعواه ، وقد نشأ على هذا الاعتقاد ، وعبد المطلب يلقي على أولاده خاصة دروسه القيمة ، ويأمرهم بعبادة الأحد وبالأوامر الإلهية ويحثهم على مكارم الأخلاق ، فهل تراه بعد ذلك يركن إلى عبادة الأوثان ؟ لاها الله لا يكون ذلك أبدا ، اللهم إن هذا لبهتان عظيم . فأبو طالب صورة واضحة المعالم ، بارزة الخطوط ، لماض مشرق ، وضاح السنى ، لامع النور ، ففيه من صفات أبيه عبد المطلب ، وجده هاشم ، وأجداده الأفذاذ ، ما جعلت منه تلك الصورة الواضحة الرائعة ، وقد أراد الله منه أن يكون كافلا لنبي الإسلام ، وهو الصورة الكاملة للإنسان المؤمن الموحد . فإيمان أبو طالب كإيمان حزقيل مؤمن آل فرعون ، كتم إيمانه ، فالإيمان بالتعريف الديني ، هو الاعتقاد بالقلب ، وتصديق باللسان ، بما أنزل الله على رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، والمؤمن الحقيقي الذي نجد فيه توافر الشرطين ، مع ما يترتب عليهما ، مما يتطلبه من القيام بالأركان .
   أما الاعتقاد بالقلب . . . فهذا شئ ليس من سبيل للعباد إلى معرفته ، فهو عائد للخالق العظيم ، إذ هو وحده يعلم السرائر وما تخفيه الصدور ،

---------------------------
(1) الكامل لابن الأثير 1 : 261 ، والبحار 6 : 23 ، ومروج الذهب 2 : 128 .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 6 _

ولكن الناس تحكم بالظواهر ، كما في الآية الشريفة : ( وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا ) (1) ، وبأقوال الشخص وأفعاله يتضح إيمان الشخص من كفره ، ويثبت إيمان أبي طالب بعدة أدلة :

أولاً : بأقواله وأشعاره .

وثانياً : بأفعاله الصحيحة ودفاعه المستميت وجهاده السافر عن الرسول ورسالته ، والأهم من هذا وذاك شهادات النبي ( صلى الله عليه وآله ) والأئمة الطاهرين بذلك ، وهم حجج الله على البرايا ، ومن نافلة القول أن نذكر أقواله وأشعاره في هذا المقام ، منها .
مليك الناس ليس له iiشريك      هو الوهاب والمبدي المعيد
ومن  فوق السماء له iiبحق      ومن تحت السماء له iiعبيد
فهذان البيتان شاهدا صدق على قائلهما أنه من الموحدين .
وفي أبياته :
يا  شاهد الله علي iiفاشهد      إني على دين النبي أحمد

من ضل في الدين فإني مهتدي فهو يشهد على نفسه أنه على دين ابن أخيه .
  فبربك قل لي : أليست هذه الأشعار والأقوال أعظم أداء من قولك إني مسلم ؟ ومن شعره :

لـقد أكـرم الله الـنبي iiمحمد      فأكرم خلق الله في الناس أحمد
وشـق لـه مـن اسمه iiليجله      فذو العرش محمود وهذا محمد
---------------------------
(1) النساء : 94 .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 7 _

  وكل أشعاره وأقواله وأفعاله تدل على إيمانه بالواحد الأحد ، والدفاع عن رسالة السماء . دلائل : إن في شعر أبي طالب دليلا على أنه كان يعرف بنبوة محمد ( صلى الله عليه وآله ) قبل أن يبعث ، لما أخبره به بحيرا الراهب وغيره ، ولمس من معاجزه ومناقبه ما يبهر العقول ، ولقد زاد على ذلك قوله : كان أبي ـ أي عبد المطلب ـ يقرأ الكتب جميعا ، ولقد قال دوماً : إن في صلبي لنبياً ، لوددت أني أدركت ذلك فآمنت به ، فمن أدركه من ولدي فليؤمن به (1) . ومن بين تلك الدلائل ، والبراهين الوافرة ، المحسوسة والملموسة ، فلنأخذ بعضا منها على سبيل المثال لا الحصر .
أ ـ روي من بين الإرهاصات التي سبقت البعثة ، أنه ( صلى الله عليه وآله ) كان مع عمه أبي طالب بذي المجاز (2) ، إذ عطش أبو طالب ، وليس عنده ماء يروي عطشه ، فذكر لابن أخيه ما ألم به من العطش ، فما كان منه ( صلى الله عليه وآله ) إلا أن ركل صخرة برجله فإذا بالماء يتدفق ، لم ير مثله أبو طالب ، فشرب وروي حتى أطفأ غليله ، وعاد فركلها ـ مرة أخرى ـ لتعود سيرتها الأولى (3) .
ب ـ إن رجل من ـ لهب ـ كان عائفا ـ عارفا ـ فإذا قدم مكة ، أتته رجال قريش بغلمانهم ، لينظر لهم ، وكان أبو طالب من بين الحاضرين ، وكان معه محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، فنظر العائف للرسول ( صلى الله عليه وآله ) وكان لديه شغل ، وما انتهى من شغله ، حتى قال : علي بالغلام ،

---------------------------
(1) شيخ الأبطح : 22 ، والغدير 7 : 348 ، والعباس : 18 و 21 .
(2) موضع على فرسخ من عرفة ، كان سوقا للجاهلية .
(3) السيرة النبوية 1 : 89 ، والسيرة الحلبية 1 : 139 ، وتذكرة الخواص : 9 ، وبحار الأنوار 6 : 129 .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 8 _

وما أن رأى أبو طالب ذلك ، حرص على العائف عليه ، فأحس منه خيفة ، فغيبه حتى لا تقع عليه تلك العينان النافذتا البصر ، البعيدتا النظر ، فصاح : ويلكم ردوا علي الغلام الذي رأيته آنفا ، ولم يأبه أبو طالب لصياحه ، فوالله ليكونن له شأن (1) ، ولم تكن هذه بالجديدة على مسمع أبي طالب ، وإنه لعليم بماهية الشأن .
ج ـ شاهد أبو طالب ظاهرة بارزة ، تنضح بالدليل الصارخ منذ أن انحاز الرسول ( صلى الله عليه وآله ) إلى عائلته ، بعد وفاة عبد المطلب من البركة في الطعام ، متى ضمت المائدة الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله ) ، ومع قلة الطعام وكثرة العيال ، تراهم يصدرون عنها وهم من الشبع على اكتناز ، وفي الطعام فضلة ، فكان أبو طالب يقول لهم ـ إذا حضر وقت الطعام ولم يجد ابن أخيه ـ : كما أنتم حتى يحضر ابني .
د ـ إلى الشام : بلغت عناية أبي طالب بابن أخيه حدا تجاوز الوصف ، فقد اتحدت الروحان حتى أصبح من الصعب فراقهما وقد شاهد ( صلى الله عليه وآله ) عمه مزمعا على سفرة قد تطول مدتها لم يستطع تحملها ، ولم يبق لديه حصن يلجأ إليه ، ويقيه الزعازع كما أن الشيخ الحدب فكر في نفسه ، فإن هو سافر بدونه فإلى من يلجأ ؟ وما أن خطى أبو طالب إلى راحلته ، فيرى حبيبه قد اغرورقت عيناه بالدموع ، فيخفق قلبه الرحيم ولم يستطع أن يسمع من ابن أخيه هذه الكلمات : " يا عم ، إلى من تكلني ؟ لا أب لي ولا أم " ، فكان جواب أبي طالب : والله لأخرجن به معي ، ولا يفارقني ، ولا أفارقه أبداً ، فأردفه على راحلته ، وراح الركب يطوي الصحراء ، حتى بلغ بصرى ـ من أرض الشام ـ .
   وهناك راهب يقال له ( بحيرى ) في صومعة له قد انتهى إليه علم ( النصرانية ) ،

---------------------------
(1) السيرة الهشامية 1 : 190 ، والسيرة النبوية 1 : 190 ، والسيرة الحلبية 1 : 139 ، وأبو طالب : 32 .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 9 _

ولقد أطل الراهب من صومعته فشاهد الركب ـ ولفت نظره ـ غمامة تظل على واحد من بين هؤلاء جميعا لتقيه لهب الشمس ، لهب الصحراء ، ولفت نظره الشجرة تهصرت فتظلل على ذلك المستظل بالغمامة من بين هؤلاء جميعا بفيئها وظلالها ، وقد أخذ منه العجب ، وعادت إليه ذاكرته إلى ما قرأه في الكتاب المقدس ، فنزل من صومعته ، وقال : إني صنعت لكم طعاماً ـ يا معشر قريش ـ فأنا أحب أن تحضروا كلكم ، صغيركم وكبيركم ، فانبرى إليه واحد منهم : والله .
   يا بحيرى ؟ إن لك لشأناً اليوم ، ما كنت تصنع هذا بنا ، وقد نمر بك كثيرا ! فما شأنك اليوم ؟ .
   قال بحيرى : صدقت ، قد كان ما تقولون ، ولكنكم اليوم ضيوف ، فأحببت أن أكرمكم ، وأصنع لكم طعاماً تأكلون منه كلكم ، فاجتمعوا لديه ، ولم يتخلف من بينهم غير النبي ( صلى الله عليه وآله ) لحداثة سنه ، فقد كان في الرحال ، تحت الشجرة ، فطافت من الراهب نظرة فاحصة ، فسألهم : هل تخلف منكم أحد ؟ .
   فأجيب : ما تخلف عنك أحد إلا غلاماً وهو أحدث القوم سناً ، فتخلف في رحالهم .
  قال : ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم ، فقام رجل من بينهم قد احتضنه وجاء به ، فعادت من بحيرى تلك النظرة الفاحصة . . . ثم نظر في أشياء في جسده وعلامات ، ليجد فيه صفات قرأها في الكتاب المقدس ، تخص هذا الغلام العظيم .
   وبعد أن تفرق القوم عن الطعام ، راح بحيرى يسأل النبي عن أشياء يهدف من ورائها كشف الحقيقة وتعميق حدسه .
  عاد الراهب يسأل أبي طالب سؤال اللهفان : ما هذا الغلام منك ؟ ـ ابني ـ ما هو بابنك ، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 10 _

  قال أبو طالب : فإنه ابن أخي .
فما فعل أبوه ؟
قال أبو طالب : مات ، وأمه حبلى به ، قال الراهب : صدقت ، فارجع بابن أخيك إلى بلده ، واحذر عليه من اليهود ، فوالله لإن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغينه شراً ، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم ، فأسرع به إلى بلاده (1) ، فعاد به وهو أشد ما يكون عليه حذراً ، وهذه واحدة من الصور التي لا تزايل مخيلة شيخ البطحاء .
  ثم استعرض زواجه ( صلى الله عليه وآله ) واقترانه بأم المؤمنين خديجة ، ومن قبل ذلك يوم الدار والإنذار ، وجهاده ، وشعب أبي طالب ، وغير ذلك من الأمور التي رسخت في ذاكرته ، وقد أمدت إلى شجرة أبي طالب الفارعة الذيول ، فهصرت منها الأغصان ، وقطعت عنها ينابيع الحياة ، فاصفرت منها الوريقات سريعا ، وسرت صفرة الموت في أجزائها جميعا ، لقد آن للشيخ المجاهد ، الذي بذل كل ما في وسعه من طاقته الجبارة في الدفاع عن رسالة الإسلام وعن ما جاء به ابن أخيه .
  ولقد آن الأوان أن يستريح ويستلذ بحلاوة ثمرة جهوده ، وينال جزاء عمله ، وحتى حين الاحتضار لم ينس أن يوصي بابن أخيه خيراً ، وقد ذكرنا وصيته مفصلة .
   كل هذا الجهد والدفاع عن بيضة الإسلام وإعلان إيمانه بالرسالة وبما جاء به ابن أخيه ، تتبعته بني أمية لا سيما معاوية رميماً ، والذين لم يسلموا وبقوا على شركهم يحاربون من دافع عن الرسالة أوان إعلانها ،

---------------------------
(1) السيرة الهشامية : 191 ـ 194 ، والسيرة النبوية : 90 ـ 93 ، والسيرة الحلبية 1 : 139 ـ 142 ، وتأريخ الطبري 2 : 22 ـ 24 ، والكامل لابن الأثير 2 : 23 ـ 24 ، والبحار 6 : 59 ـ 129 .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 11 _

لا سيما أبي طالب ، وأم المؤمنين خديجة ، كل ذلك حقداً على من دافع عن الإسلام ، أينما كان ، وخلقوا الأحاديث الكاذبة ، وبدلوا مقاصد الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية ، وإليك نتفاً منها .
  كان شيخ البطحاء ورجل الإسلام الأول ، قد أبقى بعده أثراً جميلاً ، وفضلاً باقياً ، ولكن شاءت السياسة الزمنية ، والأحقاد الجاهلية أن تزوى عنه العيون ، وتنظر إليه نظرة ظالمة ، فراحت تنال منه ، وتضع في حقه الأراجيف لتنال من جوهر الحق ، ورواء الفضيلة ، أحاديث وروايات كاذبة ما أنزل الله بها من سلطان .
  مر عصر الخلافة الأولى ، وهو يحفل بمآثر أبي طالب رجل الإسلام الفذ ، ويسجل مآثره الغرة ، وأياديه البيضاء ليوفيه بعض حقه على الإسلام ، وجاء عصر السياسة الفاسدة والسلطة الجائرة من بني أمية وهي لا تستقيم إلا بالنيل من بطل الإسلام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، لأنه قتل شيوخهم وجندل أبطالهم ، فكانت سيرة أبيه إحدى تلك الجوانب التي عملت السلطة فيها معاول الهدم ، وهي تظن زحزحته عن مقامه وصرف الأنظار عن اغتصابها حقه ، عند ذلك راحت تغري وعاظ السلاطين وتستأجر ذوي الضمائر الميتة والنفوس الخسيسة بالأموال الزائفة لبيع ذممهم ، لتقلب الحق باطلاً ، وتبيع دينها بالثمن الأوكس ، لترضي ضمير السافل ، وتحوز رضى السلطة الغاشمة ، وقامت الأهواء بدورها ، فغيرت الأمور عن رواسي الرسالة بوضع الأحاديث الكاذبة التي ما أنزل الله بها من سلطان ، وانتهز معاوية تلكم المطايا الذلول ، فحمل على ظهورهم تلك الأحمال الثقيلة ، فكانوا لما يريده مطيعين .
   كتب معاوية إلى عماله : أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته (1) .

---------------------------
(1) شرح النهج 3 : 15 .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 12 _

  وإذا بالخطباء لذلك مستجيبون ، يقوموا بلعن الإمام علي ( عليه السلام ) في كل كورة ، وعلى كل منبر ، ويتبرأون منه ، ويقعوا فيه وفي أهل بيته ، حتى أن المنابر التي يلعن فيها علياً ، لتربوا على السبعين ألفاً ، والعامة من الناس للخطباء مستجيبون ، ولهم مصدقون .
  ثم يعود معاوية ليكتب إلى عماله جميعا : " ألا تجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة " ، ليأخذ بخناق شيعة أهل البيت ، وينال من كرامتهم ، ويدعهم عرضة لمكاره أعدائهم وهدفاً لسهامهم ، ويعود معاوية ليكتب لعماله في جميع البلاد : " انظروا إلى من قامت عليه البينة : إنه يحب علياً وأهل بيته ، فامحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه " (1) .
  ولا يكتفي بهذه المطاردة العنيفة حتى يشفع كتابه بآخر : " من اتهموه بموالاة هؤلاء القوم ، فنكلوا به واهدموا داره " .
  ولا يكتفي بإصدار هذه الأوامر الجائرة ، بل يختار من يقوم بتطبيق هذا الجور ، فيولي على العراق صنيعته ، ولحيق نسبه ، زياد ابن أبيه ـ المجهول النسب ـ لتشتد الوطأة على شيعة علي خاصة ، وهو بهم خبير ، وبمكانتهم عليم ، حيث كان إليهم قريبا قبل أن يرتد ، وليس لمعاوية ثمة من دين ، أو خلق قويم ، أو إنسانية تقف في وجهه ، لتحد من طغيان شهوته ، بل أطلق لشهوته العنان ، وأسلس لها المقود ، فأخذت شوطها البعيد .
   دعا إليه سمرة بن جندب ، وسمرة أحد واضعي الحديث ـ الوضاعين ـ ، فبذل معاوية إليه مئة ألف درهم ،

---------------------------
(1) شرح النهج 3 : 15 .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 13 _

ليروي أن هذه الآية نزلت في علي ( عليه السلام ) : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ) ( وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ) (1) .
  وإن هذه الآية نزلت في ابن ملجم ، وهي : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ ) (2) .
  وقد رأى سمرة في هذا الثمن ما لا يكفي لتفسير منحرف لآية واحدة ، فكيف بآيتين ؟ وراح معاوية يساومه ، فزاده مئة ألف أخرى فلم يقبل ، وراحا يتساومان ، حتى تمت الصفقة بأربعمائة ألف درهم ، عند ذلك روى سمرة هذين الحديثين ، أو قل التفسيرين .
   وهكذا ، بمال الله ، يحارب أولياء الله ! وبمال الإسلام يجهز عليه به ، وبمال المسلمين يشوه قداسة مبدئهم الرفيع ، وهذه واحدة من آلاف الأحاديث شوهت وجه الإسلام ، ناهيك عما أحدثه كعب الأحبار ومن على شاكلته ليبثوا الإسرائيليات ، وحشوها ضمن أحاديث الرسول الصحيحة ، ليضيعوا معالم الإسلام الحقيقي ، والأنكى من ذلك حينما منع تدوين الحديث منذ صدر الخلافة الأولى إلى مئة عام ، حتى رفعها عمر بن عبد العزيز الأموي ، إبقاء على دولة بني أمية .
  شاء معاوية أن يستأجر قوماً من الحاقدين على شاكلته لوضع الأحاديث المنتقصة من علي ( عليه السلام ) ، فاختار بعض المنافقين ممن يدعي الإسلام ، ويحسب أنه من الصحابة والتابعين ، والذين تظن العامة من الناس بصلاحهم ، لتكون لهم عماداً يرفعون من واهي البناء ، وكان ممن عقد معه تلك الصفقات ـ الرابحة مادياً ، والخاسرة فيما عدا ذلك ـ قوم عد منهم وفي طليعتهم : أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والزاني المغيرة بن شعبة ، وعروة بن الزبير ، وأمثال هذه النكرات الذي عبدوا أهواءهم وباعوا دينهم بدنياهم بالأموال السحت ، وحاربوا الله ورسوله ، فاختلقوا الأخبار القباح التي تحمل بين طياتها الطعن في أصل الإسلام ، والطعن على علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) والبراءة منه ، إزاء ما يتقاضون من معاوية من أجر بخس ، فتفنن كل واحد منهم في وضع آلاف الأحاديث الكاذبة والافتراء على الله ورسوله .
   ناسين حديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " ألا من افترى علي حديثاً ، فليتبوأ مقعده من النار " . وفي رواية من كذب ، ومن الأحاديث المفتراة على شيخ البطحاء أبي طالب ، حديث " ضحضاح من نار " ، الذي افتراه أزنى ثقيف المغيرة بن شعبة ، وإن صحيح الحديث هو " ضحضاح من نور " .
  وإليك سرد بعض ما ورد وقد أخذه عنه الآخرون ، أو نسب إليهم ، وإن سبب إسلام المغيرة أنه كان في تجارة مع عدد من رفقائه الثقيفيين من أهل الطائف ، فغدر بهم وقتلهم جميعاً وسرق أموالهم ، وفر إلى المدينة ، وأسلم ، وهو معروف بغدره ودهائه وفساد أخلاقه وبغضه لعلي ( عليه السلام ) وبني هاشم ، وتأريخه مدون معروف .
   وقد أخذ تعبير " الضحضاح " من حديث ضحضاح النور الذي ورد في حق أهل البيت ( عليهم السلام ) فحوره وجعله ضحضاح نار لأبي طالب .
  فقد روى الشيخ الطوسي (3) ، قال : أخبرنا جماعة عن التلعكبري . . . عن . . . عن سلام قال : سمعت أبا سلمى راعي النبي ( صلى الله عليه وآله ) يقول : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : سمعت ليلة أسري بي إلى السماء ، قال العزيز جل ثناؤه : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه ، قلت : والمؤمنون ، قال : صدقت يا محمد . . . إني اطلعت على الأرض اطلاعة فاخترتك منها فشققت لك اسماً من أسمائي ،

---------------------------
(1) البقرة : 204 ـ 205 .
(2) البقرة : 207 .
(3) الغيبة : 147 .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 14 _

فلا أذكر في موضع إلا وذكرت معي ، فأنا المحمود وأنت محمد ، ثم اطلعت الثانية فاخترت منها علياً ، وشققت له اسماً من أسمائي ، فأنا الأعلى وهو علي ، يا محمد إني خلقتك وخلقت علياً وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ولده أشباح نور من نوري ، وعرضت ولايتكم على السماوات وأهلها ، وعلى الأرضين ومن فيهن ، فمن قبل ولايتكم كان عندي من المقربين ، ومن جحدها كان عندي من الكفار الضالين ، يا محمد ، لو أن عبداً عبدني حتى ينقطع أو يصير كالشن البالي ، ثم أتاني جاحداً لولايتكم ما غفرت له حتى يقر بولايتكم .
   يا محمد ، تحب أن تراهم ؟
   قلت : نعم يا رب .
  قال : التفت عن يمين العرش ، فالتفت فإذا بأشباح علي وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) والأئمة كلهم حتى بلغ المهدي ( عليه السلام ) في ضحضاح من نور قيام يصلون ، والمهدي في وسطهم كأنه كوكب دري .
   فقال لي : يا محمد ، هؤلاء الحجج ، وهو الثائر من عترتك ، فوعزتي وجلالي إنه حجة واجبة لأوليائي منتقم من أعدائي . انتهى .
  أرأيت كيف يبدلون الأحاديث النبوية ويحوروها ويعكسوا مفاهيمها ، وهي واحدة من آلاف الأحاديث الصحيحة (1) ، انتقاماً منه على دفاعه عن بيضة الإسلام في أول نهوضه وانتقاماً من ولده الإمام علي ( عليه السلام ) وسيفه الذي أباد صناديد المشركين من قريش في بدر وأحد وجميع حروبه ( صلى الله عليه وآله ) ضد الكفر والوثنية .

---------------------------
(1) راجع العقائد الإسلامية ، للسيد السيستاني 3 : 318 ، طبع قم ، مركز المصطفى للدراسات الإسلامية ، ومصادرها .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 15 _

   روى الزهري حديث عروة بن الزبير ، أنه قال : حدثتني عائشة ، قالت : كنت عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذ أقبل العباس ، وعلي ، فقال : يا عائشة ، إن هذين يموتان على غير ملتي ، أو قال : ديني .
  وحديث ثاني عنه : أن النبي قال لعائشة : إن سرك أن تنظري إلى رجلين من أهل النار ، فانظري إلى هذين قد طلعا ، فنظرت فإذا العباس وعلي بن أبي طالب (1) .
  روى عمرو بن العاص ـ وهو خدن معاوية وشريكه في أعماله ـ فيما روى : أنه سمع النبي ( صلى الله عليه وآله ) يقول : إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء ، وإنما وليي الله وصالح المؤمنين (2) .
  وعلى هذه الشاكلة تصاغ الأحاديث الموضوعة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، يمضي هؤلاء ويأتي بعدهم من يروي حديثهم ويعتبره من المسلمات ، وينقله على عواهنه ، ويأتي بعدهم ، فينقلون عنهم كما تنطق الببغاء ويثبته في صحاحهم ومسانيدهم دون التحقيق في صحة الحديث ، ولو أنه يعتبرون حديث كل فاسق وشاذ لا سيما إذا كان ضد أهل البيت صحيحاً ، مثل أحاديث عمر بن سعد ، وشمر بن ذي الجوشن قاتل الإمام الحسين ، وبعض الخوارج أمثال عمران بن حطان الخارجي ، الذي يمدح عبد الرحمن بن ملجم بقتله الإمام علي ( عليه السلام ) بقوله :
يـا  ضربة من تقي ما أراد iiبها      إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إلى آخر الأبيات .
  إلى هنا أنهي ما نقلت شذرات من كتاب إيمان أبي طالب ، للشيخ عبد الله الجنبري ، مع تغيير بعض العبارات دون المساس بالمعنى .

---------------------------
(1) تجد الحديثين في الشرح الحديدي 1 : 358 .
(2) المصدر ذاته : 358 ، و 3 : 15 ، وصحيح مسلم 1 : 136

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 16 _

سيرة المصطفى ( صلى الله عليه وآله )
  لقد لخصت من الصحيح في سيرة النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) للعلامة السيد جعفر مرتضى العاملي من الصفحة 89 فما بعد ، ومن سيرة المصطفى للمحقق السيد هاشم معروف ابتداء من الصفحة 47 ، بتغيير بعض العبارات دون المساس بالمعنى ، لتقريب معنى البحث إلى ذهن القارئ العزيز .
  لقد شاءت الإرادة الربانية ، أن يفقد محمد ( صلى الله عليه وآله ) أباه وهو لا يزال جنيناً في بطن أمه ، بعد ولادته المباركة ثم صارت حليمة السعدية مرضعة له وضئرا ، وظهرت منه البركات والمعاجز ، كما سبق تفصيله في المجلد الأول من موسوعتنا ( المصطفى والعترة ) .
  وفي الرابعة من عمره عاد محمد ( صلى الله عليه وآله ) من بني سعد إلى أحضان أمه آمنة بنت وهب ، لتقر عينها باحتضان صبيها .
  وفي السادسة من عمره صاحب أمه لزيارة قبر أبيه زوجها عبد الله بن عبد المطلب في يثرب ومعها بركة خادمتها ، وفي الطريق مرضت الأم وتوفت في ( الأبواء ) ودفنت فيه ، وعادت به أم أيمن بركة إلى مكة ، وحيداً وكان عمرها حين وفاتها حوالي ثلاثين عاماً .
  وروى مسلم في صحيحه أنه ( صلى الله عليه وآله ) قال : استأذنت ربي في زيارة أمي فأذن لي ، فزوروا القبور تذكركم الموت . انتهى .
  والدليل على أنها ماتت حنيفية موحدة إذن الله لرسوله ( صلى الله عليه وآله ) زيارة قبر أمه ، كما أن هذا الحديث هو حجة دامغة على من يدعي حرمة زيارة القبور ، وله مؤيدات كثيرة ، منها زيارة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) قبر عم أبيها سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ( عليه السلام ) في أحد ،

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 17 _

  ودوام زيارة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وجل أهل البيت والصحابة قبور موتاهم في البقيع وفي مقابر قريش بالحجون بمكة ، وغير ذلك ، فانصرف إليه جده العظيم يحيطه بعناية ويفضله على أولاده ، وكان يفرش له في ظل الكعبة نهاراً يستظل فيه ويحيط به ولده وأشراف مكة من قريش وغيرهم ، فيأتي محمد ( صلى الله عليه وآله ) وهو غلام صغير فيثب على فراش جده ، فيأخذه أعمامه ليصرفوه عنه ، فيقول لهم عبد المطلب : دعوه ، إن لابني هذا شأن عظيم ، ولقد عاش ( صلى الله عليه وآله ) في كنف جده عبد المطلب الذي كان يرعاه خير رعاية ، وكان عارفاً بنبوته من تلميحات الكهنة والأحبار ، وما سيكون من أمره ، لما وجدوه من أخبار الأنبياء في توراتهم وأناجيلهم ، بظهور نبي من بني إسماعيل في قريش ذلك العصر ، تتفق صفاته تماما مع الصفات التي تحلى بها محمد ( صلى الله عليه وآله ) وكانوا يخبرون من يثقون به ويطمئنون إليه أحياناً .
  ولما تغلب سيف بن ذي يزن ملك الحبشة على اليمن ، وفد عليه وجوه مكة من القرشيين بزعامة عبد المطلب للتهنئة على انتصاره ، فخلا به سيف بن ذي يزن ، وبشره بمولود لقريش في مكة ، يكون رسولاً من الله إلى الناس أجمعين ، ووصفه بصفات ، فوجد عبد المطلب أن تلك الصفات تتوفر في حفيده محمد ، فسجد لله شكراً ، هذا مما يدل على أن عبد المطلب وآباؤه أحناف موحدين ، وأحس سيف بن ذي يزن أن المولود الذي تحدث عنه ، موجود في بيت عبد المطلب ، فأوصاه به خيراً وحذره من غدر ومكائد اليهود وغيرهم ، على أن هذا الحنان الدافق الذي مسح به جده بعض جراحات اليتم لم يدم له طويلاً ، فما أن بلغ محمداً الثامنة من عمره الشريف ، حتى أحس عبد المطلب بالانهيار ، وأن الموت يسرع إليه بين عشية وضحاها ، وكان قد بلغ مئة عام أو يزيد ،

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 18 _

فجمع أولاده قبل موته ، وقسم عليهم المهمات التي كان يقوم بها ، من السقاية والرفادة وغيرها ، والخدمات التي كان يقدمها للمكيين والوافدين من الحجاج وغيرهم ، ولم يكن يفكر في شئ كتفكيره في حفيده ( صلى الله عليه وآله ) الذي سيمضي عنه ويتركه وحيداً في هذه الدنيا ، بلا مال ، ولا أب يرعاه ، ولا أم تحنو عليه ، فأوصى أولاده العشرة بمحمد ( صلى الله عليه وآله ) خيراً ، وأن يرعوه ، وخص من بينهم ولده عبد مناف ( أبو طالب ) فعهد إليه برعايته وأن يضمه إلى أولاده ، وكان شقيق والده الراحل عبد الله ، فقد ولدتهما أم واحدة ، ولوح لهم بما سيكون له شأن في مستقبل حياته ، ومما قال لهم : إني قد خلفت لكم الشرف العظيم الذي تطأون به رقاب الناس ـ على حد تعبير اليعقوبي في تأريخه ـ .
   وانتقل الغلام اليتيم بعد وفاة جده إلى بيت عمه أبي طالب بعد أن رحل جده عن هذه الدنيا ـ فحلت بالبيت البركة مع ضيق الحال وكثرة العيال ـ فأدى أبو طالب الإمامة وحفظ الوصية بكل أبعادها ، وكان خير كفيل له في صغره ، وخير ناصر له عند بلوغه عندما احتاج إلى الأنصار والدفاع عن رسالته ، وجعل حياة محمد ووجوده شغله الشاغل الذي شغله حتى عن أولاده ، في أشد الحالات ضيقاً وحرجاً حتى النفس الأخيرة من حياته كما سنعرض لذلك في الفصول الآتية .
  وجاء في تأريخ اليعقوبي وغيره : أن عبد الله بن عبد المطلب والد النبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وعبد مناف ( أبو طالب ) والزبير والمقدم المعروف ـ بعبد الكعبة ـ كانوا لأم واحدة وهي فاطمة بنت عائذ المخزومي ، وتكنى بأم حكيم البيضاء ، وبقية أولاد عبد المطلب لأمهات شتى ، وورث أبو طالب مع فقره مالياً زعامة أبيه عبد المطلب على قريش ، وخضع له القريب والبعيد .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 19 _

  وجاء عن علي ( عليه السلام ) أنه قال : إن أبي ساد الناس فقيراً وما ساد الناس وقريش فقير غيره من قبل ، وما كان يعنيه شئ كما تعنيه رعاية محمد قط من المحافظة عليه ، والحرص على حياته ، فإذا اضطر إلى سفر لخارج مكة أو الحجاز أخرجه معه ، وكانت أولى سفرات النبي ( صلى الله عليه وآله ) مع عمه إلى بصرى وله من العمر تسع سنين ، فلم تطب نفس أبي طالب يوم ذاك أن يتركه مع أولاده ويمضي في سفرته الطويلة هذه ، في حين أن زوجته الطاهرة فاطمة بنت أسد كانت تحرص عليه أكثر مما كانت تحرص على أولادها وصبيتها ، وترعاه في ليلها ونهارها .
  ويقول المؤرخون وأهل الأخبار أن الأحبار والرهبان ومن رآه من الكهان في تلك السفرة ، لا سيما راهب بصرى ( بحيرى ) ، الذي أخبر عمه أبو طالب أنه نبي هذه الأمة ، وكان يعلم مما شاهده من صفاته ومعاجزه ومما أكد له أبوه عبد المطلب ، وأصر عليه أن يرجعه إلى مكة حتى لا يغتاله اليهود ، الذين يرون العلامات التي في كتبهم متحققة فيه ، فقطع سفرته وعاد به إلى مكة كما أن بعض المخلصين من الأحبار والرهبان وكل من رآه قد نصحوا أبا طالب بالحرص عليه ، وخوفوه من غدر اليهود الذين كانوا ينتظرون مولودا من قريش يبعثه الله رسولاً إلى العرب والعجم .
  وقد أظهر الله سبحانه لنبيه ( صلى الله عليه وآله ) في تلك الرحلة من الكرامات والفضائل ما لا يدخل في حدود التصور ، وهو مع تلك القافلة التي ضمت أعيان المكيين والقرشيين ، وظل يتيم عبد الله في أحضان عمه أبي طالب وزوجته فاطمة بنت أسد الهاشمية ، لا يشعر بالغربة بين أولادهم ولا يحس بمرارة اليتم والحاجة ، ووجد منهما من الحرص والرعاية فوق ما يتصوره إنسان من أبوين مع وحيد عزيز عليهما ، وبلغ من حرص فاطمة بنت أسد عليه أنها كانت في سنين الجدب والقحط التي مات فيها الناس جوعاً وعطشاً ، تحرم أولادها من القوت الضروري وتطعمه إياه ،

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 20 _

وبمجرد أن يمد يده إلى الطعام تحل البركة فكلهم يأكلون ويشبعون والزاد كما هو ، واستمرت تعامله بهذه المعاملة الفدائية إلى أن شب وترعرع ، وأسرعت إلى تصديقه والإيمان برسالته والإخلاص له في السر والعلانية هي وزوجها وأولادهما منذ أن بدأ يدعو الناس لعبادة الواحد الأحد ، والاستخفاف بعبادة الأصنام والأوثان التي اتخذوها أربابا من دون الله ، لأنهم في الأصل كانوا أحناف موحدون على دين جدهم إبراهيم الخليل ، ولم يكن النبي محمد بن عبد الله ، وهو الوفي الكريم الذي علم أجيال الناس الوفاء والإحسان ، أن ينسى مواقفها الجليلة التي أنسته فقد أبيه وأمه وجده ، فلما ماتت بكاها بكاء الثكلى ، وقال والدموع تنهمر من عينيه : " اليوم ماتت أمي " ، وكفنها بقميصه ونزل في قبرها واضطجع فيه ، وصنع ما لم يصنعه مع غيرها من قبلها ، وقال لما سئل عن موقفه الذي لم يعهدوا منه مع أحد قبلها ، قال : إنها كانت بمثابة أمي ، تجيع أولادها وتطعمني ، وتشعثهم وتدهنني ، وما أحسست باليتم منذ أن التجأت إليها .
  وعلى أي حال كما كان عمه معه ، كانت زوجته الوفية ، حرصاً وعطفاً وإيماناً وتضحية في سبيل محمد ( صلى الله عليه وآله ) ورسالته ، ودفاعاً عنه وعنها في جميع المواقف والمشاهد .
   وامتاز هذا البيت عن غيره ، حتى من بني عمومته وبنيهم الأقربين ومن تناسل منهم في جميع المراحل التي مر بها ودعوته ( صلى الله عليه وآله ) .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 21 _

   ولما أعلن سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب إسلامه على رؤوس الأشهاد مدحه أخوه أبو طالب مشجعاً إسلامه ، بقوله :

فـصبراً ( أبـا يعلى ) على دين iiأحمد      وكـن مـظهرا لـلدين وفـقت iiصابرا
نـبي  أتـى بـالدين مـن عـند iiربه      بـصدق  وحـق لا تـكن حمزة iiكافرا
فـقد  سـرني إذ قـلت " لبيك " iiمؤمناً      فـكن  لـرسول الله فـي الدين iiناصرا
ونــاد قـريـشاً بـالذي قـد iiأتـيته      جهاراً وقل : مـا كان أحمد ساحرا (1)


فقد كان إسلام حمزة تطورا جديدا لم يكن داخلا في حسابات قريش ، حيث قلب الموازين رأسا على عقب ، وفت في عضد قريش ، وزاد في مخاوفها وكبح جماحها ، ومرغ كبريائها . الدرع الواقي للرسول الأعظم

أبو طالب مؤمن قريش
  كان شيخ البطحاء الدرع الواقي للرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) ، في حياة أبيه عبد المطلب وبعد وفاته . ولله در ابن أبي الحديد حينما أنشد هذه الأبيات :

ولـولا  أبـو طالب iiوابنه      لما  مثل الدين شخصاً iiفقاما
فـذاك بـمكة آوى iiوحامى      وهـذا بيثرب جس iiالحماما
تـكفل عـبد مـناف iiبأمر      وأودى فـكان عـلي iiتماما
فقل  في ثبير مضى بعد iiما      قضى ما قضاه وأبقى شماما
---------------------------
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 3 : 315 ، وإيمان أبي طالب للشيخ المفيد : 80 .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 22 _

فـلـلـه ذا فـاتـحـاً iiلـلـهدى      ولــلـه ذا لـلـمعالي iiخـتـاما
ومـا ضـر مـجد أبـي iiطـالب      جـهول لـغا أو بـصير iiتـعامى
كـمـا لا يـضر أبـاة iiالـصباح      مـن ظن ضوء النهار الظلاما  (1)
هكذا كان أبو طالب يتجاهر بالدفاع عن الرسول الأعظم ورسالة السماء ، وهو يحث أخاه حمزة بن عبد المطلب على اتباع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والصبر على طاعته ، والثبات على دينه ، وكذا يدفع ولده جعفر أن يقف إلى جنب أخيه علي ويصل جناح ابن عمه ، ولم يكن يدافع عن دعوة ابن أخيه محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه وآله ) فحسب ، بل جند كل طاقاته في سبيل نشر الدعوة ، ووقف منها موقف البطل المجاهد طيلة حياته ، وسجل له التأريخ كل تلكم المواقف المشرفة بكل إكبار وفخر .
  ولقد شمر عن ساعد الجد في الدفاع عن ابن أخيه منذ بزوغ شمس الرسالة ، إلى يوم وفاته ( عليه السلام ) ، حيث كان كالسد المنيع يحول بينه وبين المشركين ، تلك القوة الوثنية العظمى التي كانت تحكم الجزيرة العربية وتمسك بمقدراتها وبين تحقيق أهدافها الضالة في وأد الرسالة السماوية ودعاتها في مهدها . ولأبي طالب شيخ البطحاء مواقف مشهورة ومشهودة له في تصلبه في الدفاع عن الرسالة ، تفوق التصور والإحصاء وقفها دون ابن أخيه الرسول الأعظم ورسالته إلى آخر نفس من أنفاسه .
   ولم يزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عزيزا ، ممنوعا من الأذى ، ومعصوما من كل اعتداء ، حتى توفى الله أبا طالب ( عليه السلام ) ، فنبت به مكة ، ولم تستقر له دعوة ، وأجمع طواغيت قريش على الفتك به ،

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي 3 : 317 ، طبعة مصر .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 23 _

وعندها جاء نداء ربه : " أخرج من مكة فقد مات ناصرك " (1) ، هكذا كان أبو طالب سندا وكافلا وداعياً لابن أخيه محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه وآله ) .
  ومع ذلك كله فهناك تخرصات تدعي أن أبا طالب مات كافراً ، ولم يسلم برسالة محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وما المواقف المشهودة التي وقفها أبو طالب ( عليه السلام ) دون تبليغ الرسالة عنك ببعيد ، منها :
1 ـ موقفه من ابن الزبعرى لما تجاسر على الرسول ( صلى الله عليه وآله ) .
   عن السيد عبد الحميد بن النقي الحسيني ـ النسابة ـ بإسناده إلى الأصبغ بن نباتة ، قال : سمعت أمير المؤمنين علياً ( عليه السلام ) يقول : مر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بنفر من قريش ، وقد نحروا جزوراً ، وكانوا يسمونها الظهيرة ، ويذبحونها على النصب ، فلم يسلم عليهم ، فلما انتهى إلى دار الندوة قالوا : يمر بنا يتيم أبي طالب فلا يسلم علينا ؟ فأيكم يأتيه فيفسد عليه مصلاه ، فقال عبد الله بن الزبعرى السهمي : أنا أفعل ، فأخذ الفرث والدم فانتهى به إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو ساجد فملأ به ثيابه ومظاهره ، فانصرف النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى أتى عمه أبا طالب ، فقال : يا عم من أنا ؟ فقال : ولم يا بن أخ ؟ فقص عليه القصة ، فقال أبو طالب : وأين تركتهم ؟ فقال : بالأبطح ، فنادى في قومه : يا آل عبد المطلب ، يا آل هاشم ، يا آل عبد مناف ، فأقبلوا إليه من كل مكان ملبين ، فقال : كم أنتم ؟ قالوا : نحن أربعون ، قال : خذوا سلاحكم ، فأخذوا سلاحهم ، وانطلق بهم ، حتى انتهى إلى أولئك النفر ، فلما رأوه قاموا وأرادوا أن يتفرقوا ،

---------------------------
(1) إيمان أبي طالب للمفيد : 74 ، والدرجات الرفيعة للسيد علي خان : 62 .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 24 _

فقال لهم : ورب هذه البنية ـ الكعبة ـ لا يقومن منكم أحد إلا جللته بالسيف ، ثم أتى إلى صفاة (1) كانت بالأبطح فضربها ثلاث ضربات حتى قطعها ثلاثة أفهار (2) ثم قال : يا محمد سألتني من أنت ؟ ثم أنشأ يقول ، ويومي بيده إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) :
أنــت الـنبي iiمـحمد      قــرم  أعـز iiمـسود
لـمـسودين iiأطـائـب      كـرموا وطـاب iiالمولد
نـعم  الأرومـة iiأصلها      عـمرو  الخضم iiالأوحد
أنـى  تـضام ولم iiأمت      وأنـا  الـشجاع iiالعربد
وبـنـو أبـيك iiكـأنهم      أســد الـعرين تـوقد
ولـقد  عـهدتك iiصادقاً      فـي الـقول مـا iiتتفند
ما زلت تنطق بالصواب      وأنــت طـفل أمـرد
حتى أتى على الأبيات كاملة ثم قال أبو طالب : يا محمد ، أيهم الفاعل بك ؟ فأشار النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى عبد الله ابن الزبعرى ، فدعاه أبو طالب فوجأ أنفه حتى أدماه ، ثم أمر بالفرث والدم ، فأمره على رؤوس الملأ كلهم ، ثم قال : يا ابن أخ أرضيت ؟ ثم قال : سألتني من أنت ؟ أنت محمد بن عبد الله حتى نسبه إلى آدم ( عليه السلام ) ثم قال : أنت والله أشرفهم حسبا ، وأرفعهم منصبا ، يا معشر قريش ، من شاء منكم أن يتحرك فليفعل ، أنا الذي تعرفوني . روي هذا الحديث بطرق متعددة من مصادر الفريقين ، فراجع .
2 ـ موقفه من قضية عثمان بن مظعون . هو عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب الجمحي ، أبو السائب : وكان من حكماء العرب في الجاهلية ، أسلم بعد ثلاثة عشر رجلا ، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى ، شهد بدرا ، ومات بعدها في السنة الثانية من الهجرة ، وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين وأول من

---------------------------
(1) الصفاة : الحجر الصلد الضخم .
(2) الفهر : الحجر قدر ما يدق به الجوز .

شيخ البطحاء أبو طالب عليه السلام _ 25 _

وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين وأول من دفن بالبقيع (1) .
  كان عثمان بن مظعون يقف بباب الكعبة يعظ الناس أن لا يعبدوا الأصنام ، فوثب عليه فتية من قريش وضربوه فوقعت ضربة أحدهم على عينه ففقأتها ، وبلغ أبا طالب ذلك فغضب غضبا شديدا وقام في أمره حتى أخذ بثأره ، وكانوا قد اجتمعوا إلى أبي طالب وناشدوه أن يدعها ويؤدون له الدية ، فأقسم لهم : إني لا أرضى حتى أقلع عين الذي قلع عينه ، فكان ما أراد ، وقد ذكر هذه الحادثة في أبيات له ، منها :
أمـن  تـذكر أقـوام ذوي سـنة      يغشون بالظلم من يدعى إلى الدين
لا يـنتهون عن الفحشاء ما iiأمروا      والـعذر فـيهم سبيل غير iiمأمون
ألا  تــرون أذل الله iiجـمـعكم      أنـا غـضبنا لعثمان بن iiمظعون
إذ  يـلطمون ولا يـخشون iiمقلته      طـعنا دراكا وضربا غير موهون
فسوف  نجزيهم إن لم تمت iiعجلا      كـيلا  بـكيل جزاء غير iiمغبون
إلى أن قال :
أو يـؤمنوا بكتاب منـزل iiعجب      علـى نبي كموسى أو كذي النـون
يأتـي  بأمر جلي غير ذي iiعوج      كـما  تـبين فـي آيات ياسين (2)
---------------------------
(1) راجع الإصابة : 5453 ، وطبقات ابن سعد 6 : 682 ، ومعجم الشعراء : 98 ، وصفوة الصفوة 1 : 871 ، وحلية الأولياء 1 : 201 ، والأعلام 4 : 873 .
(2) مؤمن قريش : 871 ، عن شرح النهج 3 : 313 ، والحجة : 50 ، والغدير 7 : 533 ، وهاشم وأمية : 102 ، وشيخ البطحاء : 30 وفيه زيادة ، وديوان أبي طالب : 9 و 10 ، بزيادة أعيان الشيعة : 24 ـ 39 .