الفهرس العام

الفصل الرابع
مـنازل المـعاد

المبحث الأول : الموت وغمراته
المبحث الثاني : البرزخ وعذابه
المبحث الثالث : أشراط الساعة


   في سلّم حركة الإنسان من لدن موته حتى لقائه ببارئه ، يرتقي عدة مرتقيات صعبة ، ويمرّ في عقبات مهولة ، تبلغ من الشدّة والفظاعة بحيث لو قيست بالموت مع شدّة غمراته ، لكان إزاءها أمراً هيّناً يسيراً .
   قال الإمام الصادق عليه السلام : « إنّ بين الدنيا والآخرة ألف عقبةٍ ، أهونها وأيسرها الموت »(1).
   وفيما يلي نبيّن بايجاز المنازل التي يقطعها الانسان في طريقه إلى المعاد ضمن خمسة مباحث :

المبحث الأول : الموت وغمراته

   الموت هو أول منازل الطريق إلى المعاد ، وأول مشاهد النشأة الآخرة ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « الموت القيامة ، إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته ، يرى ما له من خيرٍ وشرّ »(2) ، وقال أمير المؤمنين عليه السلام : « الموت باب الآخرة »(3) .
   ويراد به قبض الروح وقطع تعلّقها بالبدن ، أو الانتقال من نشأة الحياة الدنيا إلى نشأة الحياة الآخرة ، وهو من فعل الله تعالى ، قال تعالى :

---------------------------
(1) من لا يحضره الفقيه / الصدوق 1 : 80/362 ـ دار الكتب الإسلامية ـ طهران.
(2) كنز العمال / المتقي الهندي 15 : 548/42123.
(3) غرر الحكم / الآمدي 1 : 23/371.

الميعاد يوم القيامة _ 92 _

   ( هُوَالَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (1) ، وقد أوكل تعالى مهمّة قبض الأرواح إلى ملك الموت ، فهو يقبضها بأمره سبحانه ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) (2).‌
   واصطفى له أعواناً من الملائكة يصدرون عن أمره ، وجعل فعلهم فعله ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لأيُفَرِّطُونَ ) (3) والله تعالى يتوفىّ الأنفس من ملك الموت ( اللهُ يَتَوَفَّى الاََْنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) (4).
   وإلى ذلك أشار الإمام الصادق عليه السلام في حديث قال : « إنّا لله جعل لملك الموت أعواناً من الملائكة ، يقبضون الأرواح ، بمنزلة صاحب الشرطة له أعوان من الإنس ، يبعثهم في حوائجه ، فتتوفّاهم الملائكة ، ويتوّفاهم ملك الموت منالملائكة مع مايقبضهو ،ويتوفاها اللهتعالى من ملك الموت »(5).
   غمرات الموت : الموت صورة مرعبة تجسّد نهاية مسيرة الكائن الإنساني في الحياة الدنيا ، وتعبّر عن مصيره المحتوم الذي لا بدّ من لقائه ( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلأقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (6).
   وقد جاء في وصف الموت وما يحيطه من أهوالٍ وما يكتنفه من غمراتٍ الكثير من الآيات والأحاديث ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : « وإنّ

---------------------------
(1) سورة غافر : 40/68.
(2) سورة السجدة : 32/11.
(3) سورة الأنعام : 6/61.
(4) سورة الزمر : 39/42.
(5) من لا يحضره الفقيه / الصدوق 1 : 82/371.
(6) سورة الجمعة : 62/8.

الميعاد يوم القيامة _ 93 _

   للموت لغمرات هي أفظع من أن تُستغرق بصفة ، أو تعتدل على عقول أهل الدنيا »(1) .
   وفيما يلي نورد وصفاً لبعض تلك الغمرات على ضوء آيات الذكر الحكيم والأحاديث الشريفة :
  1 ـ الاحتضار : ويراد به حضور ملك الموت أو أعوانه من ملائكة الرحمة أو العذاب ، لانتزاع روح المحتضر ، وهو من الأهوال المرعبة ، لما يدخل من الروع والخوف على قلب المحتضر حين مشاهدة الملائكة ، قال الامام زين العابدين عليه السلام : « أشدّ ساعات ابن آدم ثلاث ساعات : الساعة التي يعاين فيها ملك الموت ، والساعة التي يقوم فيها من قبره ، والساعة التي يقف فيها بين يدي الله تبارك وتعالى ، فإما إلى الجنّة ، وإمّا إلى النّار »(2).
   وأهوال الاحتضار ليست هي بدرجة واحدة لكلّ المحتضرين ، بل تتفاوت شدّة ورفقاً بحسب سلوك الانسان وعمله ، فالمتّقون لهم مناخ نفسي مريح تتلقّاهم به ملائكة الرحمة بالبشارة العظمى ، وهي الفوز بنعيم الأبد ، قال تعالى : ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلأئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلأمٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُم تَعْمَلُونَ ) (3)فليس بين وفاتهم والبشارة فاصل زمني ، لعدم العاطف بين الجملتين فهو موت عنده البشارة .
   وتتحدّث آيات اُخرى عمّا يعانيه الكافرون والظالمون من غمرات مفزعة وأهوال مرعبة ، فتُصوّر الضغط النفسي بسبب الوعيد القاتل وهول العذاب النازل ، قال تعالى : ( وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلأئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ

---------------------------
(1) نهج البلاغة / صبحي الصالح : 341 ـ الخطبة (221).
(2) الخصال / الصدوق : 119/108 ، بحار الأنوار 6 : 159/19.
(3) سورة النحل : 16/32 .

الميعاد يوم القيامة _ 94 _

   أَيْدِيكُمْ ) (1) .
  2 ـ سكرات الموت : قال تعالى : ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) (2)والمراد بسكرة الموت : الكرب الذي يتغشّى المحتضر عند الموت من هول المطلع ، وهي غصص الموت ، وغمرات الآلام ، وطوارق الأوجاع والأسقام ، وما يصحبها من « أنّةٍ موجعةٍ ، وجذبةٍ مكربةٍ ، وسوقة متعبةٍ »(3).
   قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « أدنى جَبَذات الموت بمنزلة مائة ضربةٍ بالسيف »(4) .
   وتتجلّى آثار تلك السكرات الملهثة والغمرات الكارثة في احتباس لسان المحتضر ، وشخوص بصره ، وترشّح جبينه ، وتقلّص شفتيه ، وارتفاع أضلاعه ، وعلو نَفَسه ، واصفرار لونه ، وموت أعضائه بالتدريج حيث تبرد قدماه ، ثم فخذاه ، وهكذا سكرة بعد سكرة ، وكربة بعد كربة ، حتى تبلغ الحلقوم ، فينقطع نظره عن الدنيا انقطاعاً لا رجعة فيه ( فَلَوْلأ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلكِن لأ تُبْصِرُونَ * فَلَوْلأ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (5) ، هذا مع ما يعاني المحتضر في أول احتضاره من حالات مدهشة

---------------------------
(1) سورة الأنفال : 8/50 ـ 51 ، وراجع سورة النحل : 16/28 ـ 29 ، وسورة محمد : 47/28.
(2) سورة ق : 50/19.
(3) نهج البلاغة / صبحي الصالح : 113 ـ الخطبة (83).
(4) كنز العمال / المتقي الهندي 15 : 569/42208.
(5) سورة الواقعة : 57/83 ـ 87.

الميعاد يوم القيامة _ 95 _

   يقول أمير المؤمنين عليه السلام في وصف تلك اللحظات : « اجتمعت عليهم سكرة الموت ، وحسرة الفوت ، ففترت لها أطرافهم ، وتغيّرت لها ألوانهم ، ثم ازداد الموت فيهم ولوجاً ، فحيل بين أحدهم وبين منطقه ، وإنه لبين أهله ، ينظر ببصره ، ويسمع باُذنه ، على صحّةٍ من عقله ، وبقاءٍ من لُبّه ، يفكّر فيم أفنى عمره ، فيم أذهب دهره ... فهو يعضّ يده ندامةً على ما أصحر له عند الموت من أمره ، ويزهد فيما كان يرغب فيه أيام عمره ... فلم يزل الموت يبالغ في جسده ، حتى خالط لسانه وسمعه ، فصار بين أهله لا ينطق بلسانه ، ولا يسمع بسمعه ، يردّد طرفه بالنظر في وجوههم ، يرى حركات ألسنتهم ، ولا يسمع رجع كلامهم ، ثم ازداد الموت التياطاً به ، فقُبِض بصره كما قُبض سمعه ، وخرجت الروح من جسده ، فصار جيفةً بين أهله ، قد أوحشوا من جانبه ، وتباعدوا من قُربه ، لا يُسعِدُ باكياً ، ولا يُجيب داعياً ، ثمّ حملوهإلى مخطّ في الأرض ، فأسلموه إلى عمله ، وانقطعوا عن زورته »(1) .
   وممّا يهوّن تلك السكرات بعض الاعمال الصالحة مثل صلة الأرحام وبرّ الوالدين ، لما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال : « من أحبّ أن يخفّف الله عزَّوجلَّ عنه سكرات الموت ، فليكن لقرابته وصولاً ، وبوالديه باراً ... »(2) .
  3 ـ انتزاع الروح : ورد في الحديث أن انتزاع الروح يتفاوت من حيث الشدة والرفق بحسب سلوك المرء وعمله ، فالمؤمنون الذين ترسّخ الإيمان

---------------------------
(1) نهج البلاغة / صبحي الصالح : 160 ـ الخطبة (107).
(2) أمالي الطوسي : 432/967.

الميعاد يوم القيامة _ 96 _

   في صدورهم ، وكفّوا جوارحهم عن السوء ، واستبشروا بلقاء ربّهم ، تقبض أرواحهم ملائكة الرحمة بكلّ تأنٍ ويُسر ، والكافرون الذين خدعتهم الدنيا بغرورها ، فغرقوا في خضمّ الفجور والإعراض عن لقاء الله سبحانه ، فتنتزع ملائكة العذاب أرواحهم بشدّة .
   قال الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام : « إنّ آية المؤمن إذا حضره الموت أن يبيضّ وجهه أشدّ من بياض لونه ، ويرشح جبينه ، ويسيل من عينيه كهيئة الدموع ، فيكون ذلك آية خروج روحه ، وإن الكافر تخرج روحه سلاًّ من شدقه كزبد البعير... » (1).
   ويبدو من الأخبار أنّ ذلك ليس قاعدة مطردة ، فليس كل ما كان من شدة النزع فهو عقوبة ، ولا كل ما كان من سهولة ورفق فهو ثواب ومكرمة ، إذ قد تكون الشدّة على المؤمن تمحيصاً لذنوبه ، وقد يكون الرفق بالكافر استيفاءً لأجر حسناته(2) ، وقد سئل الإمام الصادق عليه السلام : ما بالنا نرى كافراً يسهل عليه النزع ، فينطفئ وهو يتحدث ويضحك ويتكلم ، وفي المؤمنين من يكون أيضاً كذلك ، وفي المؤمنين والكافرين من يقاسي عند سكرات الموت هذه الشدائد ؟ فقال عليه السلام : « ما كان من راحةٍ للمؤمن هناك فهو عاجل ثوابه ، وما كان من شدّة فهو تمحيصه من ذنوبه ، ليرد الآخرة نقياً نظيفاً ، مستحقاً لثواب الأبد ، لا مانع له دونه ، وما كان من سهولة هناك على الكافر فليوفي أجر حسناته في الدنيا ، ليرد الآخرة وليس له إلاّ ما يوجب

---------------------------
(1) من لا يحضره الفقيه / الصدوق 1 : 81/366 ، الكافي / الكليني 3 : 134/11.
(2) انظر : تصحيح الاعتقاد / الشيخ المفيد : 95.

الميعاد يوم القيامة _ 97 _

   عليه العذاب ، وما كان من شدّةٍ على الكافر هناك فهو ابتداء عذاب الله له بعد نفاد حسناته ، ذلك بأنّ الله عدلٌ لا يجور » (1).
  4 ـ الدخول في النشأة الآخرة : حينما يتناول المسجّى كأس الموت غصّةً بعد غصّة ، وتستسلم الروح للخروج ، ينكشف له بالموت ما لم يكن مكشوفاً في الحياة ، كما ينكشف للمتيقظ ما لم يكن مكشوفاً في حال النوم ، و « الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا » فيرون ما لم يره الحاضرون ، قال تعالى : ( لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (2) ، ومن جملة الأمور التي يعاينها الإنسان عند الموت على ما ورد في الأخبار ما يلي :
  أ ـ منزلته من الجنة أو النار : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إذا مات أحدكم عُرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، ويقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة »(3) .
   وقال أمير المؤمنين عليه السلام في كتابه لمحمد بن أبي بكر لما ولاه مصر : « ليس أحد من الناس تفارق روحه جسده حتى يعلم أي المنزلتين يصل ، إلى الجنة ، أم إلى النار ، أعدوٌ هو لله أم وليّ ، فإن كان ولياً لله فُتِحت له أبواب الجنة ، وشرعت له طرقها ، ورأى ما أعدّ الله له فيها ، ففرغ من كلّ

---------------------------
(1) معاني الأخبار / الصدوق : 287/1 ، علل الشرائع / الصدوق 1 : 298 ـ باب (235) / ح2 ، العقائد / الصدوق : 54.
(2) سورة ق : 50/22.
(3) مسند أحمد 2 : 51 ـ دار الفكر ـ بيروت ، إحياء العلوم / الغزالي 5 : 316 ـ دار الوعي ـ حلب ، كنز العمال / المتقي الهندي 15 : 641/42529.

الميعاد يوم القيامة _ 98 _

   شغل ، ووضع عنه كلّ ثقل ، وإن كان عدوّاً لله فُتِحت له أبواب النار ، وشرعت له طرقها ، ونظر إلى ما أعدّ الله له فيها ، فاستقبل كل مكروه ، وترك كلّ سرور ، كلّ هذا يكون عند الموت ، وعنده يكون اليقين »(1).
  ب ـ تجسّد المال والولد والعمل : عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : « إنّ العبد إذا كان في آخر يومٍ من الدنيا ، وأول يومٍ من الآخرة ، مُثّل له ماله وولده وعمله ، فيلتفت إلى ماله ويقول : والله إني كنت عليك حريصاً شحيحاً ، فما لي عندك ؟ فيقول : خُذ منّي كفنك .
   قال : فيلتفت إلى ولده ، فيقول : والله إنّي كنت لكم محبّاً ، وإنّي كنت عليكم محامياً ، فماذا لي عندكم ؟ فيقولون : نؤديك إلى حفرتك ونواريك فيها .
   فيلتفت إلى عمله فيقول : والله إنك كنت عليّ لثقيلاً ، وإنّي كنت فيك لزاهداً ، فماذا عندك ؟
   فيقول : أنا قرينك في قبرك ، ويوم نشرك حتى اُعرض أنا وأنت على ربك »(2).
  ج ـ معاينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام : قال الشيخ المفيد رحمه الله : هذا باب قد أجمع عليه أهل الإمامة ، وتواتر الخبر به عن الصادقين من الأئمة عليه السلام (3)وجاء عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال للحارث الهمداني رحمه الله :
يا حارِ همدان من يمُت يرني      مـن  مـؤمنٍ أو منافقٍ iiقبلا
يـعرفني  طـرفه وأعـرفه      بـعينه  واسـمه ومـا iiفعلا

---------------------------
(1) الأمالي / المفيد : 263 ـ 264.
(2) من لا يحضره الفقيه / الصدوق 1 : 82 ـ 83/373 ، الكافي / الكليني 3 : 231/1 هذا بحسب هذه الرواية وأمثالها وهنا مباحث في الكتب المطوّلة لا نتعرّض لها .
(3) راجع الأخبار في : الكافي / الكليني 3 : 128 ـ 135 ـ باب ما يعاين المؤمن والكافر ، بحار الأنوار / المجلسي 6 : 173 ـ 202 باب (7).

الميعاد يوم القيامة _ 99 _

   في أبياتٍ مشهورةٍ ،(1) وأورد أبن أبي الحديد ستة أبيات منها عند قول أميرالمؤمنين عليه السلام : « فإنكم لو قد عاينتم ما قد عاين من مات منكم ، لجزعتم ووهلتم ، وسمعتم وأطعتم ، ولكن محجوبٌ عنكم ما قد عاينوا ، وقريب ما يُطرَح الحجاب ».
   قال ابن أبي الحديد : ويمكن أن يعني به ما كان عليه السلام يقوله عن نفسه إنه لا يموت ميت حتى يشاهده عليه السلام حاضراً عنده.
   ثم استدلّ على صحّة ذلك بقوله : وليس هذا بمنكر ، إن صحّ أنه عليه السلام قاله عن نفسه ، ففي الكتاب العزيز ما يدلّ على أن أهل الكتاب لايموت منهم ميت حتى يصدّق بعيسى بن مريم عليه السلام ، وذلك قوله : ( وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) (2)قال كثير من المفسرين :
   معنى ذلك أنّ كلّ ميت من اليهود وغيرهم من أهل الكتب السالفة ، إذا احتُضِر رأى المسيح عنده ، فيصدّق به من لم يكن في أوقات التكليف مصدّقاً به(3).
   أمّا كيفية الرؤية ، فلا يلزمنا معرفتها والتحقيق فيها ، بل يكفي فيها وفي أمثالها من اُمور الغيب ، التصديق بمجملها ، والإيمان بعمومها ، لورودها في النصوص الصحيحة الصادرة عنهم عليهم السلام .

---------------------------
(1) أوائل المقالات / الشيخ المفيد : 73 ـ 74 ـ نشر مؤتمر الشيخ المفيد ـ قم.
(2) سورة النساء : 5/159.
(3) شرح ابن أبي الحديد 1 : 299 ـ 300 (الخطبة رقم 20).

الميعاد يوم القيامة _ 100 _

المبحث الثاني : البرزخ وعذابه

   معنى البرزخ : البَرْزَخ في اللغة : الحاجز بين شيئين(1) ، وهو العالم المتوسط بين الموت والقيامة ، يُنعّم فيه الميت أو يعذّب حتّى تقوم الساعة(2) ، قال تعالى : ( وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (3) ، والآية ظاهرة الدلالة على أن هناك حياة متوسطة بين حياتهم الدنيوية وحياتهم بعد البعث.
   وقال الإمام الصادق عليه السلام في تفسيرها : « البرزخ : القبر ، وفيه الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة »(4).
   أهوال البرزخ : عرفنا أن الحياة في عالم الآخرة تبدأ من الموت ، فبالموت يولد الانسان في عالم الآخرة ، وبعد غمرات الموت يواجه أهوال القبر ، وهي كما يلي :
  1 ـ وحشة القبر وظلمته : القبر منزل موحش من منازل الطريق إلى المعاد ، حيث يودع الميت في حفرةٍ مظلمة ضيقة من غير أنيس إلاّ ملائكة الرحمة أو العذاب ، ومن غير قرين إلاّ العمل.
   قال أمير المؤمنين عليه السلام في كتابه إلى أهل مصر : « يا عباد الله ، ما بعد الموت لمن لا يُغْفَر له أشدّ من الموت القبر فاحذروا ضيقه وضنكه وظلمته

---------------------------
(1) لسان العرب / ابن منظور ـ برزخ ـ 3 : 8.
(2) تفسير الميزان / الطباطبائي 1 : 349.
(3) سورة المؤمنون : 23/100.
(4) تفسير القمي 1 : 19 ، بحار الأنوار / المجلسي 6 : 218/12.

الميعاد يوم القيامة _ 101 _

   وغربته ، إنّ القبر يقول كلّ يومٍ : أنا بيت الغربة ، أنا بيت التراب ، أنا بيت الوحشة ، أنا بيت الدود والهوامّ ... »(1).
   وهناك يستبدل الإنسان بظهر الأرض بطناً ، وبالأهل غربةً ، وبالنور ظلمةً ، وبسعة العيش ورفاهيته ضيق القبر ووحشته ، فينقطع الأثر ، ويُمحى الذكر ، وتتغير الصور ، وتبلى الأجساد ، وتنقطع الأوصال.
   يقول أمير المؤمنين عليه السلام : « فكم أكلت الأرض من عزيز جسدٍ ، وأنيق لونٍ ، كان في الدنيا غذيَّ تَرَفٍ ، وربيبَ شرفٍ ، يتعلّل بالسرور في ساعة حزنه ، ويفزع الى السلوة إن مصيبةٌ نزلت به ، ضنّاً بغضارة عيشه ، وشحاحةً بلهوه ولعبهظ... »(2).
  2 ـ ضغطة القبر أو ضمّته : ورد في الأخبار أنّ الميت يتعرّض إلى ضغطة القبر ، أو ضمّة الأرض ، إلى الحدّ الذي تُفري لحمه ، وتطحن دماغه ، وتذيب دهونه ، وتخلط أضلاعه ، وتكون بسبب النميمة وسوء الخلق مع الأهل ، وكثرة الكلام ، والتهاون في أمر الطهارة ، وقلّما يسلم منها أحد ، إلاّ من استوفى شرط الإيمان ، وبلغ درجات الكمال.
   قال أبو بصير : قلت لأبي عبدالله عليه السلام : أيفلت من ضغطة القبر أحد ؟ فقال : « نعوذ بالله منها ، ما أقلّ من يفلت من ضغطة القبر ...! »(3).
   وتعرّض لضغطة القبر الصحابي الجليل سعد بن معاذ رضي الله عنه ( ت 5 هـ ) حيث جاء في الروايات أنه لمّا حُمِل على سريره شيعته الملائكة ، وكان

---------------------------
(1) أمالي الطوسي : 28/31 ، بحار الأنوار 6 : 218/13.
(2) نهج البلاغة / صبحي الصالح : 340 / الخطبة (221).
(3) الكافي / الكليني 3 : 236/6.

الميعاد يوم القيامة _ 102 _

   رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد تبعه بلا حذاء ولا رداء ، حتى لحّده وسوّى اللبن عليه ، فقالت أمّ سعد : يا سعد ، هنيئاً لك الجنة .
   فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « يا أُمّ سعد مَه ، لا تجزمي على ربك ، فإنّ سعداً قد أصابته ضمّة » وحينما سُئل عن ذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم : « إنه كان في خُلقه مع أهله سوء »(1).
   وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « ضغطة القبر للمؤمن كفّارة لما كان منه من تضييع النعم »(2).
  3 ـ سؤال منكر ونكير : وفي عالم البرزخ ينزل الله سبحانه على الميت وهو في قبره ملكين ، وهما منكر ونكير ، فيقعدانه ويسألانه عن ربه الذي كان يعبده ، ودينه الذي كان يدين به ، ونبيه الذي أُرسل إليه ، وكتابه الذي كان يتلوه ، وإمامه الذي كان يتولاّه ، وعمره فيما أفناه ، وماله من أين اكتسبه ، وفيما أنفقه ، فإن أجاب بالحقّ استقبلته الملائكة بالروح والريحان ، وبشرته بالجنة والرضوان وفسحت له في قبره مدّ البصر ، وإن تلجلج لسانه وعيي عن الجواب ، أو أجاب بغير الحقّ ، أو لم يدرِ ما يقول ، استقبلته الملائكة بنُزلٍ من حميم وتصلية جحيم ، وبشّرته بالنار .
   وقد تظافرت بذلك الأخبار الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام واتفق عليه المسلمون(3) ، فهو ممّا يجري مجرى الضرورة من الدين.

---------------------------
(1) علل الشرائع : 309/4 ، أمالي الصدوق : 468/623 ، أمالي الطوسي : 427/955.
(2) ثواب الأعمال / الصدوق : 197 ـ منشورات الرضي ـ قم ، علل الشرائع / الصدوق : 309/3 ، أمالي الصدوق : 632/845.
(3) راجع : الكافي/الكليني 3 : 232/1 و 236/7 و 238/10 و 11 و 239/12 .
=

الميعاد يوم القيامة _ 103 _

   قال الإمام الصادق عليه السلام : « من أنكر ثلاثة أشياء ، فليس من شيعتنا : المعراج ، والمُساءلة في القبر ، والشفاعة » (1).
  4 ـ عذاب القبر وثوابه : وهو العذاب أو الثواب الحاصل في عالم البرزخ ، وهو واقع لا محالة ، لإمكانه ، ولتواتر السمع بوقوعه بدلالة القرآن الكريم والأخبار الصحيحة عن نبي الهدى صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته المعصومين عليهم السلام ، ولانعقاد الإجماع عليه ، واتفاق الاُمّة سلفاً وخلفاً على القول به(2).
   أدلته القرآنية : الآيات القرآنية التي أشارت إلى عذاب القبر وثوابه وأرشدت إليهما أو فُسّرت بهما كثيرة ، ذكرنا بعضها في أدلة التجرد ، وفيما يلي نذكر اثنتين منها :
  1 ـ قوله تعالى في آل فرعون : ( وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ )
(3)وهي نصّ في الباب ، لأنّ العطف بالواو يقتضي المغايرة لما قبله ، فقد ذكر أولاً أنهم يعرضون على النار غدوّاً وعشيّاً ، ثم عطف بعده بذكر ما يأتي يوم تقوم الساعة ، ولهذا عبّر عن الأول بالعرض ، وعن الثاني بالادخال(4).

---------------------------
   =
   الاعتقادات / الصدوق : 58 ، تصحيح الاعتقاد / المفيد : 99 ـ 100 ، شرح المواقف / الجرجاني 8 : 317 ـ 320 .
(1) أمالي الصدوق : 370/464.
(2) راجع : كشف المراد / العلاّمة الحلي : 452 ، المسائل السروية / المفيد : 62 ـ مسألة (5) ، الأربعين / البهائي : 283 و487 ، حق اليقين / عبدالله شبّر 2 : 68.
(3) سورة غافر : 40/45 ـ 46 .
(4) انظر : تفسير الميزان / الطباطبائي 17 : 335.

الميعاد يوم القيامة _ 104 _

   وروي عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسيرها أنه قال : « إن كانوا يعذّبون في النار غدوّاً وعشياً ، ففيما بين ذلك هم من السعداء.
   لا ولكن هذا في البرزخ قبل يوم القيامة ، ألم تسمع قوله عزَّ وجلَّ : ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) »(1).
  2 ـ قوله تعالى : ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) (2)قال كثير من المفسّرين : إنّ المراد بالمعيشة الضنك عذاب القبر وشقاء الحياة البرزخية ، بقرينة ذكر الحشر بعدها معطوفاً بالواو الذي يقتضي المغايرة ، ولا يجوز أن يراد به سوء الحال في الدنيا ، لأن كثيراً من الكفار في الدنيا هم أحسن حالاً من المؤمنين ، وفي معيشة طيبة لا ضنك فيها(3).
   قال أمير المؤمنين عليه السلام : « واعلموا أن المعيشة الضنك التي قالها تعالى : ( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ) هي عذاب القبر »(4).
   أدلته من السنة : تكاثرت الروايات الدالة على عذاب القبر وثوابه من طرق الفريقين(5) ، وتوسعت في بيان تفاصيله ، وقد ذكرنا بعضها في

---------------------------
(1) مجمع البيان / الطبرسي 8 : 818.
(2) سورة طه : 20/124.
(3) الأربعين / البهائي : 488.
(4) شرح ابن أبي الحديد 6 : 69 ـ دار إحياء الكتب العربية ـ مصر ، أمالي الطوسي : 28/31.
(5) راجع : الكافي/الكليني 3 :231 ـ 239 ، 244 ـ 245 و253/10 ، المحاسن/ البرقي :174 ـ 178 ـ دار الكتب الإسلامية ـ قم ، بحارالأنوار/المجلسي
   =

الميعاد يوم القيامة _ 105 _

   أدلة تجرد الروح ، ونقتصر هنا على ذكر ثلاث منها :
  1 ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « القبر إما حفرة من حفر النيران ، أو روضة من رياض الجنة »(1).
  2 ـ قال أمير المؤمنين عليه السلام : « يسلّط على الكافر في قبره تسعة وتسعين تِنِّيناً ، فينهشن لحمه ، ويكسرن عظمه ، ويتردّدن عليه كذلك إلى يوم يبعث ، لو أنّ تنِّيناً منها نفخ في الأرض لم تنبت زرعاً أبداً... »(2).
  3 ـ وعن علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام في قوله تعالى : ( وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (3)قال : « هو القبر ، وإن لهم فيه لمعيشة ضنكاً ، والله إن القبر لروضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النيران »(4).
   إثارات : هناك بعض الاثارات والشبهات حول عذاب القبر وثوابه ، وأغلبها يتعلّق ببيان كيفية العذاب أو الثواب ، والخوض في تفاصيلهما ، وهو أمر لم نكلّف به ، ولا يلزمنا إلاّ التصديق به على الجملة ، والاعتقاد بوجوده ، لإمكانه ، وثبوته عن طريق السمع من المعصوم ، وهذا شأن جميع اُمور الغيب ، لأنّها من عالم الملكوت الذي لا تدركه عقولنا ولا تبلغه حواسنا ... وفيما يلي نذكر أهمّ الشبهات المتعلقة بالحياة البرزخية ، ونجيب

---------------------------
=
   6 :202 باب ، سنن النسائي 4 : 97 ـ 108 ـ كتاب الجنائز ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت ، كنز العمال / المتقي الهندي 15 : 638 وغيرها.
(1) سنن الترمذي 4 : 640/2460 ـ كتاب صفة القيامة ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ، إحياء علوم الدين / الغزالي 5 : 316.
(2) أمالي الطوسي : 28/31.
(3) سورة المؤمنون : 23/100.
(4) الخصال / الصدوق : 120/108.

الميعاد يوم القيامة _ 106 _

   عنها على ضوء الآيات والأخبار :
  1 ـ إذا كان البدن هو وسيلة وصول العذاب إلى الروح ، فكيف تعذّب الروح أو تُثاب وقد فارقت البدن ، وتعرّض هو للانحلال والبلى ؟
   الجواب : دلّت الأخبار على أن الله تعالى يحيي العبد بعد موته للمساءلة ويديم حياته لنعيم إن كان يستحقه ، أو لعذاب إن كان يستحقه ، وذلك إمّا بإحياء بدنه الدنيوي ، أو بالحاق روحه في بدن مثالي ، وفيما يلي نبين كلا الأمرين مع أدلتهما من الحديث.
   أولاً : إحياء البدن الدنيوي : أي أن الله تعالى يعيد الروح إلى بدن الميت في قبره ، كما تدلّ عليه ظواهر كثير من الأخبار ، منها ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ في حديث ـ قال : « تعاد روحه في جسده ، ويأتيه ملكان فيجلسانه »(1) وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام : « فإذا دخل حفرته ، رُدّت الروح في جسده ، وجاءه ملكا القبر فامتحناه »(2).
   وعن أبي عبدالله الصادق عليه السلام : « ثم يدخل ملكا القبر ، وهما قعيدا القبر منكر ونكير ، فيقعدانه ويلقيان فيه الروح إلى حقويه »(3).
   ومن هنا قيل : إن الحياة في القبر حياة برزخية ناقصة ، ليس معها من آثار الحياة سوى الاحساس بالألم واللذة ، أي إن تعلّق الروح بالبدن تعلّقٌ ضعيف ، لأن الله سبحانه يعيد إلى الميت في القبر نوع حياة قدرما يتألم

---------------------------
(1) الدر المنثور / السيوطي 5 : 28.
(2) الكافي / الكليني 3 : 234/3.
(3) الكافي / الكليني 3 : 239/12.

الميعاد يوم القيامة _ 107 _

   ويلتذّ (1) .
   ثانياً : التعلّق بالجسد المثالي : ورد في الأخبار أن الله سبحانه يسكن الروح جسداً مثالياً لطيفاً في عالم البرزخ ، يشبه جسد الدنيا ، للمساءلة والثواب والعقاب ، فتتنعّم به أو تتألم إلى أن تقوم الساعة ، فتعود عند ذلك إلى بدنها كما كانت عليه(2).
   عن أبي بصير ، قال : سألت أبا عبدالله عليه السلام عن أرواح المؤمنين.
   فقال : « في الجنة على صور أبدانهم ، لو رأيته لقلت فلان »(3).
   وعن يونس بن ظبيان ، قال : كنت عند أبي عبدالله عليه السلام جالساً فقال : « ما يقول الناس في أرواح المؤمنين ؟ » قلت : يقولون تكون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش .
   فقال أبو عبدالله عليه السلام : « سبحان الله ! المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير ، يا يونس ، المؤمن إذا قبضه الله تعالى صيّر روحه في قالب كقالبه في الدنيا ، فيأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا »(4).
   وفي حديث آخر عنه عليه السلام : « المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير ، ولكن في أبدانٍ كأبدانهم »(5) ، وهناك أحاديث اُخرى

---------------------------
(1) راجع : الأربعين / البهائي : 492.
(2) راجع : أوائل المقالات / المفيد : 77 ، تصحيح الاعتقاد / المفيد : 88 ـ 89 ، المسائل السروية/ المفيد : 63 ـ 64 ـ المسألة (5) ، الأربعين / البهائي : 504.
(3) التهذيب / الطوسي 1 : 466/172.
(4) التهذيب / الطوسي 1 : 466/171 ، الكافي / الكليني 3 : 245/6.
(5) الكافي / الكليني 3 : 244/1.

الميعاد يوم القيامة _ 108 _

   تدلّ على ما ذكرناه(1).
   وعلى ضوء ما تقدّم ، فإنّ المراد بحياة القبر في أكثر الأخبار هو النشأة الثانية للإنسان في عالم البرزخ ، والذي تتعلّق فيه الروح ببدنها المثالي ، وبذلك يستقيم فهم جميع ماورد في آيات وأخبار دالة على تجرّد الروح وعلى ثواب القبر وعذابه ، واتساعه وضيقه وحركة الروح وطيرانها ، وزيارة الأموات لأهلهم وغيرها.
   العلم يؤيد وجود الجسد المثالي : وتقرر تجارب علماء استحضار الأرواح حقيقة الأجسام المثالية ، حيث يقول أشياع هذا المذهب : إن الموت في حدّ ذاته ليس إلاّ انتقالاً من حال مادي جسدي إلى حال مادي آخر ولكن أرقّ منه وألطف كثيراً ، وأنهم يعتقدون أن للروح جسماً مادياً شفافاً لطيفاً ألطف من هذه المادة جداً ، ولذلك لا تسري عليه قوانينها(2).
   هل إن ذلك من التناسخ الباطل ؟
   وقد يتوهّم أن القول بتعلق الأرواح بعد مفارقة أبدانها بأشباح اُخر هو ضرب من التناسخ الباطل ، وهو غير صحيح ، لأن العمدة في نفي التناسخ ضرورة الدين وإجماع المسلمين ، وقد قال بالأبدان المثالية كثير من المسلمين من المتكلمين والمحدثين ، ودلّت عليه أخبار الأئمة الطاهرين عليهم السلام ، والتناسخية إنما كفروا بانكارهم المعاد والثواب والعقاب ، وقولهم بقدم النفوس وتردّدها في أجسام هذا العالم ، وإنكارهم النشأة الاُخرى ، وإنكارهم الصانع والأنبياء ، وسقوط التكاليف ، ونحو ذلك من

---------------------------
(1) راجع : الكافي / الكليني 3 : 244/3 ، و245/7.
(2) دائرة معارف القرن العشرين / وجدي 4 : 375.

الميعاد يوم القيامة _ 109 _

   أقوالهم السخيفة(1).
  2 ـ والشبهة الثانية في هذا المقام ، هي كيف يكون عذاب القبر وثوابه وليس ثمّة جنة أو نار ؟
   الجواب : دلت الآيات والأخبار التي ذكرناها في أدلة عذاب القبر على وجود الجنة والنار وكونهما مخلوقتين ، ويدلّ على ذلك أيضاً ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام وقد سئل عن أرواح المؤمنين ، فقال « في حجرات في الجنة ، يأكلون من طعامها ، ويشربون من شرابها »(2).
   وقال عليه السلام : « إن أرواح الكفار في نار جهنم ، يُعرَضون عليها »(3).
   وقال الشيخ الصدوق رحمه الله : اعتقادنا في الجنة والنار أنهما مخلوقتان ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد دخل الجنة ، ورأى النار حين عُرج به ، وأنه لا يخرج أحد من الدنيا حتى يرى مكانه من الجنة أو النار(4).
   وقال النصير الطوسي : والسمع دلّ على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن ، والمعارضات متأولة .
   وبيّن العلامة في شرحه موضع الخلاف في ذلك حيث قال : اختلف الناس في أن الجنة والنار هل هما مخلوقتان الآن أم لا ، فذهب جماعة إلى الأول ، وهو قول أبي علي ، وذهب أبو هاشم والقاضي إلى أنهما غير مخلوقتين .
   احتجّ الأولون بقوله تعالى : ( أُعدت للمتقين ) (5) و ( اعدت

---------------------------
(1) حق اليقين / عبدالله شبر 2 : 50 ، الأربعين / البهائي : 505 ، بحار الأنوار 6 : 271 و278.
(2) الكافي / الكليني 3 : 244/4.
(3) الكافي / الكليني 3 : 245/2.
(4) الاعتقادات / الصدوق : 79.
(5) سورة آل عمران : 3/133.

الميعاد يوم القيامة _ 110 _

   للكافرين ) (1) و ( يا آدم اسكن انت وزوجك الجنة ) (2)و (عندها جنة المأوى)(3) وجنة المأوى هي دار الثواب ، فدلّ على أنها مخلوقة الآن في السماء.
   واحتج أبو هاشم بقوله تعالى : ( كل شيء هالك إلاّ وجهه ) (4)فلو كانت الجنة مخلوقة الآن ، لوجب هلاكها ، والتالي باطل ، لقوله تعالى : ( اُكلها دائم ) (5).
   وأجاب العلاّمة عن ذلك بقوله : إن دوام الأُكل إشارة إلى دوام المأكول بالنوع ، بمعنى دوام خلق أمثاله ، وأُكل الجنة يفنى بالأكل ، إلاّ أنه تعالى يخلق مثله ، والهلاك هو الخروج عن الانتفاع ، ولا ريب أنّ مع فناء المكلفين تخرج الجنة عن حدّ الانتفاع ، فتبقى هالكة بهذا المعنى(6).
المبحث الثالث : أشراط الساعة

   معناها اللغوي : الأشراط في اللغة : جمع شَرَط ، ويراد به العلامة ، وأشراط الساعة : أعلامها ، أو علاماتها الدالّة عليها ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : معالمها ، قال تعالى : ( َهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً

---------------------------
(1) سورة البقرة : 2/24 .
(2) سورة البقرة : 2/35.
(3) سورة النجم : 53/15.
(4) سورة القصص : 28/88.
(5) سورة الرعد : 13/35.
(6) كشف المراد / العلامة الحلي : 453 ، وراجع شرح المواقف / الجرجاني 8 : 301 ـ 303.

الميعاد يوم القيامة _ 111 _

   فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ) (1) ، وهذه الآية تدلّ على اثنتين من خصال القيامة :
   الاُولى : أنّها تأتي بَغْتةً ، أي فَجأةً ، كما في قوله تعالى : ( لأتأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ) (2) وهو يدلّ على أنّ وقت حدوثها مختص به تعالى ( قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لأ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ) (3).
   الثانية : إذا بدأت مقدمات القيامة وظهرت أشراطها لا تنفع عندها الذكرى ، كما قال تعالى : ( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لأ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً ) (4)فلا تُقبل عند حدوثها التوبة ، ولا ينفع الإيمان والطاعة لزوال التكليف.
   أنواعها : على ضوء ما ورد في القرآن الكريم والسنة الشريفة ، يمكن تقسيم أشراط الساعة إلى قسمين :
   الأول : ما يخصّ سلوك الناس في آخر الزمان ، وما يتّصل بذلك من فتن وحروب ، وقد أسهبت الأحاديث في وصف ذلك الزمان سواء على صعيد وصف تعامل الناس ، أم الأحداث التي تُلمّ بهم .
   منها ما رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : « من أشراط الساعة : إضاعة الصلوات ، واتباع الشهوات ، والميل إلى الأهواء ، وتعظيم

---------------------------
(1) لسان العرب / ابن منظور ـ شرط ـ 7 : 329 ـ 330 ، مجمع البيان / الطبرسي 9 : 154 ، تفسير الميزان / الطباطبائي 18 : 236 ، والآية من سورة محمد : 47/18.
(2) سورة الأعراف : 7/187 .
(3) سورة الأعراف : 7/187.
(4) سورة الأنعام : 6/158.

الميعاد يوم القيامة _ 112 _

   أصحاب المال ، وبيع الدين بالدنيا ، فعندها يُذاب قلب المؤمن في جوفه ، كما يُذاب الملح بالماء ، ممّا يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيّره »(1).
   وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « إذا عملت أمتي خمس عشرة خصلة حلّ بها البلاء » قيل : يا رسول الله وما هي ؟ قال : « إذا كانت المغانم دولاً ، والأمانة مغنماً ، والزكاة مغرماً ، وأطاع الرجل زوجته وعقّ اُمّه ، وبرّ صديقه ، وكان زعيم القوم أرذلهم ، وأكرمه القوم مخافة شرّه ، وارتفعت الأصوات في المساجد ، ولبسوا الحرير ، واتخذوا القينات ، وضربوا بالمعازف ، ولعن آخر هذه الاُمة أولها ، فليرتقب عند ذلك الريح الحمراء أو الخسف أو المسخ »(2).
   الثاني : ما يكون على شكل حوادث في الأرض والكواكب المحيطة بها ، وهي كما يلي :
  1 ـ إخراج الدابة ، قال تعالى : ( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الاََْرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لأ يُوقِنُونَ ) (3).
  2 ـ ظهور الإمام المهدي عليه السلام ، وفي قطعية ظهوره قبل قيام الساعة أحاديث يصعب حصرها ، من أشهرها قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من عترتي ( أو قال من أهل بيتي ) يملؤها قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وعدواناً »(4).

---------------------------
(1) تفسير القمي 2 : 303 ، بحار الأنوار 6 : 306/6.
(2) الخصال / الصدوق : 500/1 و2.
(3) سورة النمل : 27/82 ، وانظر تفاصيل الأقوال في كتاب الرجعة / مركز الرسالة : 27 ـ 32.
(4) مسند أحمد 3 : 36 ، صحيح ابن حبان 8 : 290 / 6284 ، المستدرك على الصحيحين 4 : 557.

الميعاد يوم القيامة _ 113 _

  3 ـ نزول عيسى بن مريم عليه السلام (1)وفُسّر به قوله تعالى : ( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلأ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) (2)فقد صرح الكثير من المفسّرين أن الآية بخصوص نزول عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان(3).
  4 ـ خروج يأجوج ومأجوج(4) ، قال تعالى : ( حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (5).
  5 ـ الدخان المبين ، قال تعالى : ( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (6)وجاء في الآثار أنه يملأ ما بين المشرق والمغرب ، ويمكث أربعين يوماً وليلة(7).
  6 ـ وهناك علامات اُخرى كثيرة ورد ذكرها في الحديث ، منها : نارٌ تخرج من قعر عدن ، تسوق الناس إلى المحشر ، ولا تدع خلفها أحداً ، تنزل معهم إذا نزلوا ، وتقيل معهم إذا قالوا ، وطلوع الشمس من مغربها ، وثلاثة خسوف في الأرض : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، وظهور الدجال (8) ، وأن يفشو الفالج وموت الفجأة (9) ، ويطلع الكوكب المذنب ، ويكون المطر في غير أوانه (10) ، وتظهر الريح السوداء (11) .

---------------------------
(1) راجع : الخصال / الصدوق : 449/52 ، جامع الاُصول / ابن الاثير 11 : 87 ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
(2) سورة الزخرف : 43/61.
(3) معالم التنزيل / البغوي 5 : 105 ـ دار الفكر ـ بيروت ، الكشاف / الزمخشري 4 : 26 ، تفسير الرازي 27 : 222 ، تفسير القرطبي 16 : 105 ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ، تفسير أبي السعود 8 : 52 ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
(4) راجع : الخصال / الصدوق : 431/13 ، الدر المنثور / السيوطي 6 : 380.
(5) سورة الأنبياء : 21/96 ـ 97.
(6) سورة الدخان : 44/10 ـ 11.
(7) تفسير الطبري 25 : 68 ـ دار المعرفة ـ بيروت.
(8) الخصال / الصدوق : 431 / 13 ، الدر المنثور / السيوطي 6 : 380 ، مسند أحمد 2 : 201 ، جامع الاصول / ابن الأثير 11 : 87 .
(9) الكافي / الكليني 3 : 261 / 39 .
(10) تفسير القمي 2 : 304 و 306 .
(11) بحار الأنوار 6 : 315 / 24 .