الفهرس العام

الفصل الثالث
حقيقة الروح والمـعاد

المبحث الأوّل : حقيقة الروح وتجرّدها
الروح في القرآن والحديث
تجرد الروح
أدلّة القائلين بالتجرّد
أولاً ـ الأدلة القرآنية
ثانياً : أدلة السّنة
ثالثاً : الأدلة العقلية
رابعاً : أدلة علمية تجريبية
المبحث الثاني : حقيقة المعاد
الأوّل ـ المعاد جسماني
حقيقة المعاد الجسماني
الثاني ـ المعاد روحاني
إنكار المعاد الجسماني
الشبهات المثارة حول المعاد الجسماني

المبحث الأوّل : حقيقة الروح وتجرّدها
حقيقة الروح غامضة
   من الحقائق المسلّمة أن روحك التي بين جنبيك هي أقرب الأشياء إليك وأشدّها لصوقاً بك ، إلاّ أن حقيقتها غيبية مجهولة ، لم يستطع العقل البشري أن يتوصل إلى معرفة أسرار كنهها واستجلاء ماهيتها .
   ومن هنا تعدّدت آراء الفلاسفة ونظريات المتكلمين في ماهية الروح ، وهل هي عرض أو جوهر(1) ، وفي نشأة الروح وهل هي قديمة أو حادثة ، وفي علاقة الروح بالبدن ومحلّها منه وتعلّقها به ، وفي خلودها بعد الموت ، وحقيقة سعادتها وشقاوتها ، وغيرها من المباحث الكثيرة(2).

---------------------------
(1) العرض : الموجود الذي يحتاج في وجوده إلى موضع يقوم به ، والجوهر : ما قام بنفسه ، راجع : تجريد الاعتقاد / نصير الدين الطوسي : 143 ـ مكتب الاعلام الإسلامي ، دستور العلماء / القاضي الأحمدنگري 1 : 198 و418 ـ مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ، المقابسات / أبو حيان : 259 ـ دار الأدب ـ بيروت .
(2) راجع : الروح / ابن القيم : 129 و158 و195 ـ دار القلم ـ بيروت ، تفسير الرازي 21 : 40 ـ 53 ، روح المعاني / الآلوسي 15 : 155 ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ، بحار الأنوار 61 : 1 ـ 150 ، دائرة معارف القرن العشرين / محمد فريد وجدي 4 : 340 ـ 346 ـ دار الفكر ـ بيروت .

الميعاد يوم القيامة _ 48 _

   وقد أعرضنا عن ذكر أقوالهم وآرائهم المختلفة مكتفين ببحث معاني الروح الواردة في التنزيل العزيز والسنة المطهرة ، وبذكر ما قيل في تجرد الروح عن ماهية المادة وصفاتها ، واستقلالها خالدةً بعد الموت رغم اضمحلال البدن وتلاشيه ، لما لهذا البحث من أثر في معرفة حقيقة المعاد.

الروح في القرآن والحديث

   غاية ما قيل في الروح : إنها ما يقوم به الجسد ، ويقوى على الإحساس والحركة والارادة ، ولفظها في اللغة يذكر ويؤنث(1). وقد تكرّر ذكرها بهذ المعنى وغيره في آيات كثيرة مكية ومدنية ، وفي ما يلي نذكر بعضها مرتّبةً حسب معانيها ، مع ما جاء فيها من الحديث والأثر :
  1 ـ الروح التي هي سبب الحياة : قال تعالى : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) (2)وللمفسرين في هذه الآية عدة أقوال(3) ، أظهرها أن المراد بها روح الحيوان التي بها قوام الجسد ، ويساعد على ذلك سبب النزول(4) ، وبعض الحديث الوارد عن

---------------------------
(1) راجع : لسان العرب / ابن منظور ـ روح ـ 2 : 463 ـ 464.
(2) سورة الاسراء : 17/85.
(3) راجع : تفسير الرازي 21 : 38 ، روح المعاني / الآلوسي 15 : 152. ، مجمع البيان / الطبرسي 6 : 675 ـ دار المعرفة ـ بيروت ، الميزان / الطباطبائي 13/199.
(4) راجع : مجمع البيان / الطبرسي 6 : 674 ، روح المعاني/ الآلوسي 15 : 152.

الميعاد يوم القيامة _ 49 _

   أهل البيت عليهم السلام .
   منه ما رواه أبو بصير عن أبي جعفر الباقر ، أو أبي عبدالله الصادق عليهما السلام قال : سألته عن قوله تعالى : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ... ) ما الروح ؟ قال : « التي في الدواب والناس » ، قلت : ما هي ؟ قال : « هي من الملكوت من القدرة »(1)‌.
   ويستفاد من أقوال المفسرين في معنى قوله تعالى : ( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) عدّة معانٍ ، أشهرها :
   الأول : أنه صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن ماهية الروح ، فأجابت الآية بكون الروح من سنخ الأمر ، ثمّ عرّف سبحانه أمره في قوله : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (2) فبيّن أن أمره تعالى من الملكوت ومن القدرة ، وهو قوله للشيء (كن) ، وهي كلمة الايجاد والحياة التي يلقيها إلى الأشياء فتكون ويحييها بمشيئته ، دون توسط الأسباب الكونية الأخرى بتأثيراتها التدريجية ، ومن غير اشتراط قيد الزمان والمكان ، ويدلّ عليه قوله تعالى : ( وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) (3)فاتضح أن الآية قد بينت أنّ ماهية الروح من سنخ الأمرالذي ذكرناه(4).
   الثاني : أنه صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن ماهية الروح ، فأجابت الآية : ( الرُّوحُ مِنْ

---------------------------
(1) تفسير العياشي 2 : 317/163 ـ المكتبة العلمية الإسلامية ـ طهران .
(2) سورة يس : 36/82 ـ 83.
(3) سورة القمر : 54/50.
(4) راجع : الميزان / الطباطبائي 1 : 351 و12 : 206 و13 : 196 ـ 198 .

الميعاد يوم القيامة _ 50 _

   أَمْرِ رَبِّي ) أي مما استأثر ربي بعلمه ، ولم يُطلع عليه أحداً(1).
   الثالث : أنه صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الروح ، أهي قديمة أو حادثة ، فأجابت الآية : ( الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) أي من فعله وخلقه ، فأراد أن الروح حادثة تحصل بفعل الله وتكوينه وإيجاده(2).
   ويساوق معنى الروح في الآية المتقدمة ، قوله تعالى في خلق آدم عليه السلام : ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ) (3) ، وقوله تعالى في خلق عيسى عليه السلام : ( فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (4) ، وقوله سبحانه : ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) (5) ، فالروح هنا تعبير عن القوة الخفية التي بها سرّ الحياة ، وعن سرّ الروح الالهي الذي يحوّل الجماد إلى كائن حيّ ، وقد خصّ تعالى روح آدم وعيسى عليهما السلام بالذكر ، لأن خلقهما على غير جري العادة في سائر الخلق ، وأضاف لفظ الروح إليه سبحانه إضافة تشريفية تعبّر عن الاختصاص بالإكرام والتبجيل والتعظيم ، كما أضاف البيت إليه في قوله : ( وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ) (6) .

---------------------------
(1) الكشاف / الزمخشري 2 : 690 ـ نشر أدب الحوزة ، مجمع البيان / الطبرسي 6 : 675.
(2) تفسير الرازي 21 : 38 ، مجمع البيان / الطبرسي 6 : 675.
(3) سورة الحجر : 15/29.
(4) سورة الأنبياء : 21/91.
(5) سورة النساء : 4/171.
(6) راجع : تصحيح الاعتقاد / المفيد : 32 ـ نشر مؤتمر الشيخ المفيد ـ قم ، =

الميعاد يوم القيامة _ 51 _

  2 ـ الروح بمعنى جبرئيل عليه السلام : قال تعالى : ( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً ) (1)والمراد به جبرئيل عليه السلام (2) ، ووصفه تعالى بالأمانة والطهارة في قوله تعالى :( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاََْمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ ) (3)وقوله تعالى : ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ ) (4)وجاء عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام في تفسيرها أنه قال : « هو جبرئيل ، والقدس الطاهر »(5)وإضافة الروح إليه سبحانه في الآية الاُولى للتشريف مع إشعار بالتعظيم(6).
  3 ـ الروح بمعنى مخلوق أعظم من الملائكة : يبدو من الآيات والروايات أنه مخلوق سماوي رفيع المكانة عند الله سبحانه ، وأنه تعالى يوكل إليه المهمات المرتبطة بالغيب والوحي ، بمفرده أو مع الملائكة ، في الدنيا أو في الآخرة ، قال تعالى : ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلأئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ ) (7) ، وقال : ( تَنَزَّلُ الْمَلأئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِن كُلِّ أَمْرٍ ) (8)ووصف هذا المخلوق في الروايات بأنّه خلق أعظم من الملائكة(9) ـ أو ملك أعظم

---------------------------
=
   مفردات الراغب ـ روح ـ : 205 ، روح المعاني / الآلوسي 15 : 156 والآية من سورة الحج : 22/26.
(1) سورة مريم : 19/17.
(2) تفسير القمي 2 : 48 ـ دار الكتاب ـ قم.
(3) سورة الشعراء : 26 / 193 ـ 194.
(4) سورة النحل : 16/102.
(5) تفسيرالقمي 1 : 390.
(6) الميزان / الطباطبائي 14 : 36.
(7) سورة النبأ : 78/38.
(8) سورة القدر : 97/4.
(9) بصائر الدرجات / الصفار : 484 / 4 ـ مؤسسة الأعلمي ـ طهران.

الميعاد يوم القيامة _ 52 _

   من جبرئيل وميكائيل ـ كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مع الأئمة عليهم السلام (1).
   عن أبي بصير ، عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام في قوله تعالى : ( وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا... ) (2)قال : « خلق من خلق الله ، أعظم من جبرئيل وميكائيل ، كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخبره ويسدّده ، وهو مع الأئمة من بعده »(3) .
  4 ـ الروح بمعنى الإيمان : قال تعالى : ( وَأَيَّدَهُم بِروحٍ مِنْهُ ) (4)وقد روي عن الإمام الباقر والصادق عليهما السلام أنّ المراد بالروح في هذه الآية الإيمان(5).
   وعن أبي بكير ، قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إذا زنا الزاني فارقه روح الايمان ؟ » قال عليه السلام : « هو قوله تعالى : ( وَأَيَّدَهُم بِروحٍ مِنْهُ ) ذلك الذي يفارقه »(6). وروي عن الإمام الصادق عليه السلام نحوه(7).
   وقيل : إن كلامه تعالى على ظاهره يفيد أن للمؤمنين وراء الروح البشرية التي يشترك فيها المؤمن والكافر روحاً اُخرى تفيض عليهم حياةً اُخرى ، وتصاحبها قدرة وشعور جديدان ، وإلى ذلك يشير قوله تعالى : ( أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَثَلُهُ فِي

---------------------------
(1) تفسير القمي 2 : 402.
(2) سورة الشورى 42 : 52.
(3) الكافي / الكليني 1 : 214/1.
(4) سورة المجادلة : 58/22.
(5) الكافي / الكليني 2 : 12/1 ، و13/5.
(6) الكافي / الكليني 2 : 213/11.
(7) قرب الاسناد / الحميري : 17 ـ مكتبة نينوى ـ طهران.

الميعاد يوم القيامة _ 53 _

   الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا )(1).
  5 ـ الروح بمعنى الكتاب والنبوة : قال تعالى : ( يُنَزِّلُ الْمَلأئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (2)وقال تعالى : ( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (3)روي عن الإمام الباقر عليه السلام في الآية الاُولى قال : « بالكتاب والنبوة »(4).
   وقيل : إنما اُطلق لفظ الروح هنا على النبوة والدين والوحي وغيرهما مما تحصل بها حياة الأرواح والعقول ، لأن بها تحصل معرفة الله تعالى ومعرفة ملائكته وكتبه ورسله ، والأرواح إنما تحيا بهذه المعارف(5).

تجرد الروح

   المراد بالروح ما يشير إليه الانسان بقوله أنا ، أو ما يسمى بالنفس الناطقة(6) ، والمراد بتجردها هو عدم كونها عنصراً مادياً ذا انقسام وزمان ومكان(7) ، وكون حكمها غير حكم البدن وسائر التركيبات الجسمية

---------------------------
(1) تفسير الميزان / الطباطبائي 19 : 197 ، والآية من سورة الأنعام : 6/122.
(2) سورة النحل : 16/2.
(3) سورة غافر : 40/15.
(4) تفسير القمي 1 : 382.
(5) تفسير الرازي 21 : 38 ، وراجع مصطلح الروح في : الإنباء بما في كلمات القرآن من أضواء/ الكرباسي 3 : 110 ـ 113 ـ مطبعة الآداب ـ النجف ، مفردات الراغب ـ روح ـ : 205 ، المصباح المنير / الفيومي ـ روح ـ 1 : 295 ، لسان العرب ـ روح ـ 2 : 455 ـ نفس ـ 6 : 233 .
(6) الأربعين / البهائي : 499 ـ جماعة المدرسين ـ قم.
(7) تفسيرالميزان /الطباطبائي 1 : 364 ، المعاد/المطهري :224 ـ مؤسسة أُمّ القرى.

الميعاد يوم القيامة _ 54 _

   الاُخرى(1).
   وتلك مسألة ذات علاقة بخلود الروح ، وهي من أكبر المسائل الفلسفية التي تنازعتها الفلسفات المتضاربة بالايجاب والسلب قروناً متمادية ، لأنها أعلق المسائل وأمسّها بقلب الانسان ، وأكثرها علاقة بشأنه ، إذ هي مُطْمَأنّ آماله عندما ينقطع عن عالم الحسّ ، وكان النزاع على أشدّه بين الماديين المنكرين لخلود الروح ، وبين القائلين بتجرد الروح وخلودها ، وفي ما يلي نذكر طرفاً من مقالات المذهبين وبعض أدلتهم :
  1 ـ الماديون : اختلفت أقوال الماديين في محل الروح من الجسد وفي أقسامها ، ولهم مذاهب مختلفة في ذلك(2) ، لكنهم جميعاً اعتبروا الانسان هو هذا الهيكل المحسوس ، وليس ثمة وجود مستقل عن المادة يسمّى بالروح ، بل هي من خواص الجسد ، وتخضع لجميع القوانين التي تحكمه ، ومجموع ظواهر الشعور والعقل والارادة والفكر ، ما هي إلاّ وظائف عضوية مثلها كمثل جميع الوضائف البدنية الاُخرى ، وكذا الآثار الفكرية والمعرفية عندهم ماهي إلاّ نتائج وآثار فيزيائية وكيميائية للخلايا العصبية والعقلية ، وجميع تلك الآثار والنشاطات الروحة تظهر بعد ظهور العقل والجهاز العصبي ، وتموت بموت الجسد ، فإذا مات الانسان بطلت شخصيته ، واندثر بدنه ، وزال معه كلّ ما بلغه من محصول عقلي وارتقاء نفسي وكمال روحي (3).

---------------------------
(1) تفسير الميزان / الطباطبائي 1 : 350.
(2) راجع : بحار الأنوار 61 : 73 ـ 77 عن شرح المواقف والصحائف الالهية.
(3) راجع : دائرة معارف القرن العشرين / وجدي 4 : 330 ، الأدلة الجلية في شرح الفصول النصيرية / عبدالله نعمة : 178.

الميعاد يوم القيامة _ 55 _

   وتجاهلت الفلسفة المادية الحديثة كل الخصائص والآثار الروحية التي لا تخضع لقانون المادّة ، وأعلنت أن الروح ومظاهرها من الشعور والعلم لا وجود لها كوحدة متميزة عن جسم الانسان المادي ، وإنّما هي في ذاتها وظيفة له ونتيجة لعلاقته بالعالم الخارجي ، وأن الأفكار والأماني لا توجد إلاّ من خلال عملية مادية ، كحصول الحرارة نتيجة احتكاك قطعتين من الحديد مثلاً ، وأن جميع الخصائص التي يتمتع بها الانسان ما هي الا نتيجة لردّة فعل للعالم الخارجي ، على نحو ما قاله ( بافلوف ) في نظريته حول ( الفعل المنعكس الشرطي ) ، وأن الوعي بمختلف مظاهره ليس إلاّ نتاج مادة عالية التنظيم ، أي نشاط الدماغ ووظيفته.
   وقالوا : إن المادية الجدلية ترفض تصوّر أن الروح شيء قائم في استقلال عن المادة ، فما هو روحي هو وظيفة المادة في أعلى أشكالها العضوية نتيجة النشاط العملي والاجتماعي(1).
   وتمسّك الماديون في الدلالة على مذهبهم القائم على إنكار الروح ، بجملة افتراضات غارقة في الغموض وتفسيرات واهية لا تملك أدنى رصيدٍ من الإثبات(2).
  2 ـ القائلون بالتجرد : كانت غالب الاُمم القديمة تعتقد بوجود الروح وخلودها ، كالهنود والمصريين وأهل الصين وفارس واليونان وفلاسفتهم

---------------------------
(1) الأدلة الجلية في شرح الفصول النصيرية / عبدالله نعمة : 184 ـ 185.
(2) راجع : تفسير الرازي 21 : 52 ـ 53 ، تفسير الميزان / الطباطبائي 1 : 365 ـ 370 ، دائرة معارف القرن العشرين / وجدي 4 : 332 ، التفسير الأمثل 9 : 105 ـ 107 ـ مؤسسة البعثة ـ بيروت.

الميعاد يوم القيامة _ 56 _

   وشعرائهم ، وكان سقراط وإفلاطون يعتقدان أنّ الروح جوهر خالد موجود منذ الأزل ، وعندما يكتمل الجنين في بطن اُمّه تتعلق به الروح ، ثمّ تعود بعد الموت إلى محلّها الأول ، ويرى إفلاطون أن هناك روحين : إحداهما الروح العاقلة وهي الخالدة ومحلها الدماغ ، والاُخرى غير خالدة ولا عاقلة ، وهي قسمان : غضبية ومستقرها الصدر ، وشهوية ومكانها البطن.
   وذهب أرسطو إلى الاعتقاد بحدوث الروح مع حدوث البدن ، فعندما يتكامل البدن توجد الروح دون أن تكون لها سابقة حياة قبل حدوثها ، وعدّ ثلاثة صنوف من الأرواح منبثّة في مجموع البدن ، وهي : الروح العاقلة ـ أو النفس الناطقة ـ وهو يقول بتجردها ، والروح الحاسة أو الحيوانية ، والروح الغاذية ، ولا يقول بتجرد الأخيرتين(1).
   واهتم ديكارت ( ت 1560 ) بتمييز الروح عن الجسم ، وتحديد خصائص كلّ منهما ، فاعتبر الروح جوهراً أخصّ صفاته الفكر ، ولا يتصوّر فيه إمكان التجزّي والانقسام وعدم التجانس في أجزائه ، واعتبر الجسم جوهراً أخص صفاته الامتداد ، ومن أحواله الصورة والحركة ، ويقبل الانقسام والتجزّي والتغير بطبيعته(2).
   وأقوال فلاسفة الغرب القدامى والمحدثين في الروح كثيرة ، نكتفي بما ذكرناه منها .

---------------------------
(1) راجع المعاد / مطهري : 168 ـ 169 ـ مؤسسة أُم القرى ، روح المعاني / الآلوسي 15 : 157 ، دائرة معارف القرن العشرين / وجدي 4 : 324 ـ 326.
(2) دائرة معارف القرن العشرين / وجدي 4 : 327.

الميعاد يوم القيامة _ 57 _

   أما علماء وفلاسفة المسلمين فقد قال الشيخ الصدوق : الاعتقاد في الروح أنّه ليس من جنس البدن ، وأنه خلق آخر لقوله تعالى : ( ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (1) ، وإذا فارقت الأبدان فهي باقية ، منها منعّمة ، ومنها معذّبة إلى أن يردّها الله تعالى بقدرته إلى أبدانها(2) .
   وقال نصير الدين الطوسي : النفس جوهر مجرد ، وقال العلاّمة الحلّي في شرحه : اختلف الناس في ماهية النفس ، وأنها هل هي جوهر أم لا ، والقائلون بأنها جوهر اختلفوا في أنها هل هي مجردة أم لا ، والمشهور عند الأوائل وجماعة من المتكلمين كبني نوبخت من الامامية ، والمفيد منهم ، والغزالي من الأشاعرة أنّها جوهر مجرد ليست بجسم ولا جسماني(3) ، متعلّقة بالجسم تعلّق التدبير والتصرّف...
   وذهب إلى هذا الرأي أيضاً الراغب الأصفهاني والفخر الرازي من الأشاعرة ، ومعمر بن عباد السلمي من المعتزلة ، ويؤيده العلامة الحلي والشيخ البهائي من الإمامية وغيرهم كثير(4) ، وادّعى بعض المتأخرين أنه

---------------------------
(1) الاعتقادات / الصدوق : 50 ، والآية من سورة المؤمنون : 23/14.
(2) الاعتقادات / الصدوق : 47.
(3) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد / العلامة : 195.
(4) انظر : المسائل السروية / الشيخ المفيد : 59 ـ مؤتمر الشيخ المفيد ـ قم ، الأربعين / البهائي : 499 ـ 500 ، بحار الأنوار / المجلسي 61 : 13 و75 ـ 76 ، تفسير الرازي 21 : 45 ، روح البيان / الآلوسي 15 : 156 ، دائرة معارف القرن العشرين / وجدي 4 : 338.

الميعاد يوم القيامة _ 58 _

   يستفاد التجرد من كثير من الأخبار(1).
   وكان ابن سينا يؤمن بتجرد القوة العاقلة فقط ، لكن صدر المتألهين الشيرازي يؤمن أن جميع القوى الحيوية للانسان لها وجهة مادية ووجهة تجردية ، وأن جميع القوى المادية للانسان ترافقها قوى مجرّدة بحيث إن الانسان عندما يموت لاينفصل عنه العقل لوحده ، بل العقل والخيال والذاكرة والباصرة والسامعة (2) .

أدلّة القائلين بالتجرّد

   استدل كثير من فلاسفة المسلمين ومتكلميهم على كون الروح مجردة عن صفات البدن وأعراضه ، ولا تفنى بالموت ، بل تبقى خالدة ، إما في نعيم وسعادة ، أو في جحيم وشقاوة ، بأدلة نقلية وعقلية كثيرة نذكر منها :

أولاً ـ الأدلة القرآنية
   وهي تشتمل على ما يلي :
  1 ـ الآيات القرآنية الدالة على أن أرواح الشهداء والصدّيقين لا تموت بموت البدن ولا تفنى بفنائه وتبدد أجزائه ، بل تبقى في عيش هنيء ونعيم مقيم ، كقوله تعالى : ( وَلأ تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لأ تَشْعُرُونَ ) (3) ، وقوله تعالى : ( وَلأ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ... ) (4) وقوله تعالى : ( يَا أَيَّتُهَا

---------------------------
(1) حق اليقين / عبدالله شبر 2 : 48.
(2) راجع : المعاد / مطهري : 169 ـ 170 ، فلسفتنا / الشهيد الصدر : 335 ـ دار التعارف ـ بيروت.
(3) سورة البقرة : 2/154.
(4) سورة آل عمران : 3/169.

الميعاد يوم القيامة _ 59 _

   النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي )(1)فثبت أن الإنسان قد يكون حياً بينما جسده في التراب ، وذلك يلزم كون حقيقة الانسان غير هذا البدن(2).
  2 ـ الآيات الدالة على أن الكفار يعذّبون في النار بينما أجسادهم في القبور ، كقوله تعالى : ( وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ... ) (3) ، وقوله تعالى : ( مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِن دُونِ اللهِ أَنصَاراً ) (4)فهم أحياء يعذّبون بعد موت أجسادهم ، وذلك يستلزم كون حقيقة الانسان شيئاً غير هذا الجسد(5).
  3 ـ الآيات التي ذكرت مراتب الخلقة الجسمانية ، كقوله تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاِِْنسَانَ مِن سُلألَةٍ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ) (6)فأفادت أن الإنسان لم يكن إلاّ جسماً تتوارد عليه صور مختلفة متبدلة ، ثمّ إنه تعالى لما أراد أن يذكر نفخ الروح قال : ( ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) أي أنشأ هذا الجسم الجامد الخامد

---------------------------
(1) سورة الفجر : 89/26 ـ 30.
(2) راجع : الميزان / الطباطبائي 1 : 350 ، تفسير الرازي 21 : 40 ـ 41.
(3) سورة غافر : 40/45 ـ 46.
(4) سورة نوح : 71/25.
(5) راجع : تفسير الرازي 21 : 42.
(6) سورة المؤمنون : 23 / 12 ـ 14.

الميعاد يوم القيامة _ 60 _

   خلقاً آخر ذا شعور وإرادة وفكر وتصرف وتدبير إلى غير ذلك من الخواص والأفعال التي لا تصدر من الأجسام والجسمانيات ، وهو تصريح بأنّ ما يتعلق بالروح جنس مغاير لما سبق ذكره من الصور الجسمية المتبدّلة الواقعة في الأحوال الجسمانية ، وذلك يدلّ على أن الروح شيء مغاير للبدن(1) .
   وكذلك قوله تعالى في خلق الإنسان : ( وَبَدَأَ خَلْقَ الاِِْنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلألَةٍ مِن مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ ) (2) وقوله تعالى في خلق آدم عليه السلام : ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ) (3) فلمّا ميّز تعالى بين التسوية ـ وهي خلق الأعضاء والأبعاض الجسمية ـ وبين نفخ الروح ، دلّ ذلك على أنّ جوهر الروح شيء مغاير لجوهر الجسد(4) .
  4 ـ الآيات التي ميّزت بين ما هو مادي مضمحلّ من الانسان ، وبين ما هو حقيقة باقية يتوفّاها الله إليه ، كقوله تعالى : ( اللهُ يَتَوَفَّى الاََْنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاَُْخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ) (5)وهي تدلّ على أن الإنسان روح وبدن ، وأن الروح هي التي تسيّر البدن وتدبّره بأمر الله تعالى ، والموت

---------------------------
(1) راجع : تفسير الرازي 21 : 51 ، تفسير الميزان / الطباطبائي 1 : 352.
(2) سورة السجدة : 32/7 ـ 9.
(3) سورة الحجر : 15/29 ، وسورة ص : 38/72.
(4) تفسير الرازي 21 : 51.
(5) سورة الزمر : 39/42.

الميعاد يوم القيامة _ 61 _

   عبارة عن قطع العلاقة بين الروح والبدن ، وأنها بعد ذلك تذهب إلى خالقها .
   فهو تعالى يقبض النفس عند موت الجسد وعند منامه ، فتبقى التي قضى عليها الموت عند بارئها إلى يوم القيامة ، ويردّ الاُخرى إلى الجسد حتى يحين أمدها المعيّن.
   وقيل : إن النَّفْس التي تتوفّى عند النوم هي النفس التي يكون بها العقل والتمييز ، وإذا زالت لا يزول معها النَّفَس ، والتي تتوفّى عند الموت هي نَفْس الحياة التي إذا زالت زال معها النَّفَس ، فقبض النوم يضادّ اليقظة وتكون الروح معه ، وقبض الموت يضادّ الحياة وتخرج الروح معه من البدن(1).
   فالإنسان حينما يموت على وفق المنطق القرآني ، فإن ما يقوّم ملاك شخصيته الحقيقية يظلّ باقياً ، وهو الروح ، التي تعدّ حقيقة إرادية واعية فيما يضمحل البدن ويتلاشى(2).
   وما تشتمل عليه هذه الآية من الأخذ والإمساك والإرسال ظاهرٌ في المغايرة بين النفس والبدن(3) ، لأنّ تلك الخواص قد تفرّدت بها الروح دون الجسد ، فإذا كانت حقيقة الإنسان مادية فلا معنى للأخذ والارسال والامساك.
  5 ـ قوله تعالى : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي )(4) ،

---------------------------
(1) مجمع البيان / الطبرسي 8 : 781.
(2) الكاشف / مغنية 6 : 419 ـ دار العلم للملايين ـ بيروت.
(3) الميزان / الطباطبائي 1 : 351.
(4) سورة الإسراء : 17/85.

الميعاد يوم القيامة _ 62 _

   والأمر هو ( كن ) المشار إليه في قوله تعالى : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (1)يعنى أن الأمر ومنه الروح دفعيّ الوجود غير تدريجيه ، فهو يوجد من غير اشتراط وجوده وتقييده بزمان أو مكان ، ومن هنا يتبين أن الأمر ومنه الروح شيء غير جسماني ولا مادي ، لأن الموجودات المادية الجسمانية من أحكامها العامة أنها تدريجية الوجود مقيدة بالزمان والمكان ، فالروح ليست بمادية جسمانية(2).

ثانياً : أدلة السّنة
   وهي كثيرة ، نذكر منها :
  1 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « من صلّى عليّ عند قبري سمعته ، ومن صلى عليَّ من بعيد بُلّغته » ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « من صلّى عليَّ مرة صليت عليه عشراً ، ومن صلّى عليَّ عشراً صلّيت عليه مائة ، فليكثر امرؤ منكم الصلاة عليَّ أو فليقلّ » ، فبيّن أنه صلى الله عليه وآله وسلم بعد خروجه من الدنيا يسمع الصلاة عليه ، ولا يكون كذلك إلاّ وهو حي عند الله تعالى ، وكذلك أئمة الهدى عليهم السلام يسمعون سلام المسلّم عليهم من قرب ، ويبلغهم سلامه من بعد ، وبذلك جاءت الأخبار الصادقة عنهم عليهم السلام (3).
   2 ـ روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه وقف على قليب بدر ، فقال للمشركين الذين قتلوا يومئذٍ وقد اُلقوا في القليب : « لقد كنتم جيران سوء لرسول الله ، اخرجتموه من منزله وطردتموه ، ثم اجتمعتم عليه فحاربتموه ، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً ، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً ؟ » فقيل له صلى الله عليه وآله وسلم :

---------------------------
(1) سورة يس : 36/82 . (2) تفسير الميزان / الطباطبائي 1 : 351 ـ 352.
(3) تصحيح الاعتقاد / المفيد : 91 ـ 92 ـ مؤتمر الشيخ المفيد.

الميعاد يوم القيامة _ 63 _

   ما خطابك لهامٍ قد صديت ؟! فقال صلى الله عليه وآله وسلم « فوالله ما أنتم بأسمع منهم ، وما بينهم وبين أن تأخذهم الملائكة بمقامع الحديد إلاّ أن أُعرض بوجهي هكذا عنهم »(1) .
   وفي رواية : « ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوني »(2) .
  3 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم من خطبة طويلة : « حتى إذا حمل الميت على نعشه ، رفرف روحه فوق النعش ويقول : يا أهلي ويا ولدي ، لا تلعبنّ بكم الدنيا كما لعبت بي ، جمعت المال من حلّه وغير حلّه ، فالغنى لغيري والتبعة عليَّ ، فاحذروا مثل ما حلّ بي »(3).
  4 ـ وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنه ركب بعد انفصال الأمر من حرب البصرة ، فصار يتخلّل الصفوف حتى مرّ على كعب بن سورة ... وهو صريع بين القتلى ، فقال : « اجلسوا كعب بن سورة » فاُجلس بين نفسين ، وقال له : « يا كعب بن سورة ، قد وجدت ما وعدني ربي حقاً ، فهل وجدت ما وعدك ربك حقاً ؟ » ثم قال : « أضجعوا كعباً » وفعل مثل ذلك بطلحة بن عبدالله ، فقال له رجل من أصحابه : يا أمير المؤمنين ، ما كلامك لقتيلين لايسمعان منك ؟! فقال عليه السلام : « مه يا رجل ، فوالله لقد سمعا كلامي كما سمع أهل القليب كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم »(4).

---------------------------
(1) تصحيح الاعتقاد / المفيد : 92.
(2) السيرة النبوية / ابن هشام 2 : 292 ـ مصطفى البابي الحلبي ـ مصر .
(3) تفسير الرازي 21 : 41.
(4) تصحيح الاعتقاد / المفيد : 93.

الميعاد يوم القيامة _ 64 _

  5 ـ وعن حبّه العرني ، قال : خرجت مع أمير المؤمنين عليه السلام إلى الظهر ، فوقف بوادي السلام ، كأنّه مخاطبٌ لأقوامٍ ... فقلت : يا أمير المؤمنين ، إني قد أشفقت عليك من طول القيام ، فراحة ساعة ...! فقال لي : « يا حبّة ، إن هو إلاّ محادثة مؤمن أو مؤانسته » قلت : يا أمير المؤمنين ، وإنهم لكذلك ؟! قال : « نعم ، ولو كشف لك لرأيتهم حلقاً حلقاً محتبين يتحادثون ... »(1).
  6 ـ وعن أبي بصير ، قال : سألت أبا عبدالله عليه السلام عن أرواح المؤمنين ، فقال : « في حجرات في الجنة ، يأكلون من طعامها ، ويشربون من شرابها ، ويقولون : ربنا أقم الساعة لنا ، وأنجز لنا ما وعدتنا ، وألحق آخرنا بأولنا »(2) .
  7 ـ وعن أبي بصير ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : سألته عن أرواح المشركين ، فقال : « في النار يعذّبون ، يقولون : ربنا لا تقم لنا الساعة ، ولا تنجز لنا ما وعدتنا ، ولا تلحق آخرنا بأولنا »(3).

ثالثاً : الأدلة العقلية
   استدلّ القائلون بتجرد النفس عن صفات المادة بعدّة أدلة عقلية نذكر منها :
  1 ـ بديهي أن معلومات الانسان مجردة عن المواد ، فالعلم المتعلق بها

---------------------------
(1) الكافي / الكليني 3 : 243/1.
(2) الكافي / الكليني 3 : 244/4.
(3) الكافي / الكليني 3 : 245/1.

الميعاد يوم القيامة _ 65 _

   يكون لا محالة مطابقاً لها ، فيكون مجرداً لتجردها ، فمحله ـ وهو النفس ـ يجب أن يكون كذلك ، لاستحالة حلول المجرد في المادي.
  2 ـ الماديات قابلة للقسمة ، وعارض النفس ـ وهو العلم ـ غير منقسم ، فمحلّه ـ وهو النفس ـ لا بد أن يكون كذلك ، ثمّ إن محلّ العلوم الكلية لو كان جسماً أو جسمانياً لانقسمت تلك العلوم ، لأن الحالّ في المنقسم منقسم ، وانقسام العلوم والمفاهيم الذهنية مستحيل.
  3 ـ إن النفوس البشرية تقوى على أفعال وإدراكات لا تتناهى ، كتعقّل الأعداد غير المتناهية ، والقوة الجسمانية لا تقوى على ما لا يتناهى ، فهي إذن غيرها.
  4 ـ لو كان وعاء العلم هو الدماغ أو غيره من آلات التعقّل ، لكانت كلّ معلومةٍ تضاف إليه تشغل حيزاً منه ، ولأصبحت القابلية العلمية للانسان متناهية ، لأن قابلية المادة على استيعاب المعلومات محدودة كالصحيفة التي تمتلئ بالكتابة ، أو القرص الذي يمتلئ بالصوت أو الصورة ، وذلك يعني أن الانسان لو سمح له عمره أن يستوفي كل وعائه العلمي ، فسيصل إلى مرحلة يفقد فيها استعداده للتعلم ، وذلك محال .
   قال أمير المؤمنين عليه السلام : « كل وعاء يضيق بما جُعل فيه ، إلاّ وعاء العلم فإنه يتّسع به »(1)فسعة وعاء العلم بمقدار العلم ذاته ، فوعاؤه إذن غير مادي .
  5 ـ العلم البديهي حاصله أن في ذات الانسان حقيقة ثابتة يشعر بها

---------------------------
(1) نهج البلاغة / تحقيق صبحي الصالح : 505 / الحكمة (205).

الميعاد يوم القيامة _ 66 _

   على طول العمر وحتى بعد النشور ، ويعبّر عنها بالأنا ، فلو كان الانسان هو هذا البدن المحسوس لأصبح عرضةً للتبدّل والتغيّر ، ولاُسدل الستار على جميع معلوماته وأفكاره ، ولكان شعوره بالأنا أمراً باطلاً وإحساساً خاطئاً ، لأنّ أجزاء البدن متبدّلة متغيّرة ، ففي كلّ يوم تموت ملايين الخلايا وتحلّ محلّها خلايا جديدة ، وقد حسب العلماء معدل هذا التجدّد ، فظهر أنه يحصل بصورة شاملة في البدن مرة كلّ عشر سنين ، أما بعد الموت فإن البدن يضمحلّ ويتلاشى ، والمتبدّل غير الثابت الباقي ، وعليه فإن ملاك وحدة شخصية الانسان والاساس في ثبات أفكاره ومعلوماته رغم حصول التغير في البناء الجسمي هو الروح.
  6 ـ إن القوى الجسمانية تضعف وتكلّ مع توارد الأفعال عليها ، فإنّ من نظر إلى قرص الشمس طويلاً لا يكاد يدرك في الحال غيره إدراكاً تاماً ، أما القوى النفسانية فإنها لا تضعف بسبب كثرة الأفعال ، بل عند كثرة التعقلات تقوى وتزداد نشاطاً ، فالحاصل لها عند كثرة الأفعال هو ضدّ ما يحصل للقوى الجسمانية عند كثرة الأفعال ، فوجب أن لا تكون جسمانية.
  7 ـ حصول الأضداد في القوى النفسانية وعدم حصولها في القوى الجسمانية ، فإذا حكمنا بأنّ السواد مضادّ للبياض ، وجب أن يحصل في الذهن ماهية السواد والبياض ، والبداهة حاكمة بأن اجتماع الأضداد في الأجسام محال ، فلمّا حصل اجتماعها في القوى النفسانية وجب أن لا تكون جسمانية .
  8 ـ إن المادة الجسمانية إذا حصلت فيها صور ونقوش مخصوصة ، فإن

الميعاد يوم القيامة _ 67 _

   وجود تلك الصور يمنع من حصول غيرها إلاّ بعد إزالة الاُولى ، بينما يستوعب التعقّل والتصوّر الذهني الصور المتعاقبة التي يستطيع الإنسان أن يستحضرها أو يتخيلها في لحظة ما بمقدار وجودها الخارجي دون حاجة إلى التدرّج أو مرور الزمان ودون أن يمتلئ المحلّ بها ، فلا بد أن يكون محلها غير ماديّ ولا متحيّز .

رابعاً : أدلة علمية تجريبية
   توصّل علماء الغرب إلى نتائج باهرة على صعيد إثبات عالم الروح وصحة خلودها وتجردها عن صفات المادة ، ليس على أساس فلسفي يقوم على النظر والاستدلال ، بل على أساس علمي تجريبي لا يتطرق إليه أدنى شكّ ، فنُسِفت على أيديهم صروح المذهب المادي ، وطُعِن طعنة نجلاء لايرجى له بعدها شفاء ، وذلك من خلال علمي استحضار الأرواح والتنويم المغناطيسي اللذين فتحا إلى عالم الروح آفاقاً جديدة ، غيّرت الكثير من العلماء الماديين الجاحدين لعالم الروح إلى مؤمنين بعالم الغيب موقنين بخلود النفس.
   وكلا العلمين المتقدمين كان معروفاً منذ القدم ، فقد كان يعرفه المصريون القدماء والآشوريون والهنود والرومان وغيرهم ، ولكنه كان لا يتعدّى المعابد ولا يشتغل به إلاّ رجال الدين ، وفي أواخر القرن التاسع عشر الميلادي شاع هذان العلمان في أمريكا واُوربا ، وانتشرا على نطاق واسع في أنحاء المعمورة ، وأصبحا من العلوم المعترف بها عند أساتذة الجامعات وأساطين الدراسات العالية ، وأضفوا عليهما روحاً علمية جديدة ، وفي ما يلي نذكر طرفاً من الجهود العلمية في كلا العلمين.

الميعاد يوم القيامة _ 68 _

   أولاً : استحضار الأرواح :
   وهو العلم الذي يتمّ بواسطته الارتباط بالموتى عن طريق استحضار أرواحهم من عالمها ، فتظهر أمام المستحضر وتُحدّثه وتُثبت له بكلّ وضوح أنها روح فلان ، وتجيب على أكثر الأسئلة التي توجه إليها بعقلٍ وحكمة إلى الحدّ الذي استعان بعض العلماء بالأرواح في حلّ ما يجهلونه من مسائل معقدة ، كما تجيب الروح عندما تُسأل عن حالها ومصيرها بعد الموت وماهي فيه من نعيم أو جحيم.
  وأثارت هذه الظاهرة دهشة كثير من علماء الطبيعة والطب والفلاسفة وغيرهم من كافة أرجاء المعمورة ، فتواصلت دراساتهم العلمية متلاحقةً ، وأوقفتهم على قضايا مثيرة للانتباه فيما يتعلق بعالم الروح وبقائها وحضورها بعد الموت عن طريق التحقيقات العلمية القائمة على البحث والتجربة والدراسات المستفيضة ، فأقروا هذا العلم ، واعترفوا بخوارق مشاهداته بعد أن قام لهم الدليل الذي لا يتطرق إليه الشك والبرهان الذي يستحيل دحضه ، وقد ذكر وجدي في ( دائرة المعارف ) جدولاً بأسماء مشاهير اُولئك العلماء(1).
   كما اُخضعت تلك الدراسات للرقابة العلمية حيث تأسست جمعية في بريطانيا وأمريكا برئاسة الاستاذ هيزلوب عن أمريكا ، والدكتور هودسن عن بريطانيا ، واستمرت تلك الجمعية بالفحص والبحث نحواً من اثني عشر عاماً ، ثمّ أعلنت سنة 1899 م أنّها قد اقتنعت بصحة تلك التحقيقات وبكون نتائجها هي من فعل أرواح الموتى.
   وتفرّغ كثير من العلماء الماديين من مختلف بلدان العالم للبحث في هذا

---------------------------
(1) دائرة معارف القرن العشرين / وجدي 4 : 377 ـ 378.

الميعاد يوم القيامة _ 69 _

   المضمار ، فاستنتجوا من مجموع التجارب التي أجروها أن للانسان قوة روحية مجردة عن صفات المادة ، ولا تفنى بموت الجسد ، تستطيع التحرك بنشاط وحيوية دون حاجة إلى الجسم الترابي ، فاعتقدوا بخلود الروح بعد أن كانوا جاحدين لها ، ومن هؤلاء : آلفرد روسل دلاس ، والاستاذ كروكس رئيس الجمعية العلمية الملكية البريطانية ، والسير أوليفر لودج عالم الطبيعة ورئيس جامعة برمنجهام ، والدكتور البريطاني جورج سكستون ، والدكتور شامبير ، والدكتور جيمس جللي ، والاستاذ الأمريكي هيزلوب ، والاستاذ البريطاني هودسن ، والفلكي المشهور كاميل فلامريون(1) ، والفيلسوف البريطاني سيرجون كوكس ، والاستاذ الجيولوجي باركس ، وغيرهم كثير ، ولا تزال جهود العلماء تتواصل إلى اليوم لتسجل الحقائق تلو الحقائق عن عالم الروح.
   ثانياً : التنويم المغناطيسي :
   وهو تنويم صناعي يحدثه المتخصّصون بهذا العلم ، فيغطّ المُنوَّم في نوم عميق تتوقّف فيه أعضاؤه عن الحركة والاحساس ، ولا يسمع إلاّ صوت مُنوّمه ، ويستسلم لإرادته متأثّراً بأفكاره ، مطيعاً لأوامره دون تردّد ، وتظهر منه نتيجة ذلك خوارق تُثبت أن له روحاً متميزة عن البدن ، فقد تنتقل روحه إلى مناطق بعيدة عن موضع النائم ، وتكشف أسراراً لايعرفها وهو في حال اليقظة ، وقد يتكلم بلغات لا يتقنها ، ويخبر عن أشياء ليس له أدنى إطلاع بها .

---------------------------
1 ـ له كتاب ( المجهول والمسائل الروحية ) توصل فيه إلى عدة نظريات ، منها :
  1 ـ الروح موجودة وجود كائن مستقل عن الجسم.
  2 ـ هي متمتعة بخصائص لم تزل إلى الآن مجهولة لدى العلم.
  3 ـ يمكن للروح أن تؤثر أو تتأثر دون مساعدة الحواس وغيرها.

الميعاد يوم القيامة _ 70 _

   وتوجه جملة من أقطاب الفلسفة إلى دراسة النوم مستنيرين بمشكاة العلوم النفسية الحديثة ، فسجّلوا حوادث روحية مدهشة وظواهر عجيبة توصلوا من خلالها إلى نتائج باهرة ، ومن هؤلاء الاستاذ البريطاني ميارس المدرس في جامعة كمبردج ، وصاحب كتاب ( الشخصية الإنسانية ) الذي ذكر فيه عدة مشاهد وتجارب من عالم التنويم المغناطيسي ، واعتبرها من المسائل التجريبية التي لا يمكن تعليلها بعلم وظائف الأعضاء ، بل هي تثبت أنّ الانسان مع تركّبه من جسم مادي يشتمل على سرٍّ روحي يستمدّ وجوده من العالم الروحاني ومن العالم الأرضي ، وتلك هي حقيقة الانسان الكريمة ، على حدّ تعبيره .
   وخطا هذا العلم خطوات واسعة في مجال عالم الروح الرحب على أيدي نخبة من العلماء الذين تخصصوا به وحققوا نتائج علمية فائقة تقوم على أساس البحث والتحقيق ، ومنهم العالم البريطاني جيمس برايد ، ونولز ، وشاركو ، وفيليب كارث وغيرهم(1).
   ومن مجموع الأدلة التي قدمناها تبين أن شخصية الانسان التي يشار إليها بالأنا ليست بجسم ولا أجزاء من هذا الجسم ، لأن هذه الشخصية تتصف بالعلم والادراك ، ولا تتبدل بتبدّل الجسم والأعضاء ، ولا تخضع لقوانين الزمان والمكان خضوع الجسم لها ، وتتميز بخصائص اُخرى ليست

---------------------------
(1) راجع : اُصول العقائد في الإسلام / اللاري 4 : 89 و92 ـ 94 ـ الدار الإسلامية ـ بيروت ، الحياة بعد الموت / رضا المطوّف السماوي : 297 ـ 315 ـ دار الزهراء ـ بيروت ، دائرة معارف القرن العشرين / وجدي 4 : 365 ـ 400 و10 : 400 ـ 409.

الميعاد يوم القيامة _ 71 _

   من خصائص الجسم والمادة في شيء على ما بيناه .
   أما علاقة الجسم والأعضاء بهذه الروح فهي علاقة أدوات وآلات لظهور حركتها وإبراز آثارها وأفعالها ، مع أنعكاس أثر كل منهما على الآخر ، فالخوف والرهبة والسرور والابتهاج تنعكس آثارها على أعضاء الجسم من حيث التقلص وتغيّر اللون وغيرهما ، كما أن ضعف الأدوات أو تلفها يؤثر على النشاط الفكري والعقلي ، وتستمر العلاقة بين الروح وأدواتها المادية في يوم النشور حيث تعاد الروح إلى البدن ، وتكون الجوارح شاهدة على فعل الروح ، كما دلّ عليه صريح القرآن الكريم في عدة آيات ، منها قوله تعالى : ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (1).
   على أنه لا يمكن الجزم في الأساس الذي تقوم عليه العلاقة المتبادلة بين الروح والجسد ، فهل تقوم على أساس الامتزاج بينهما ، أو على أنهما شيء واحد ، أو على أساس استقلال كل منهما عن الآخر بصورة موضوعية ؟ إنه من أمر ربي وهو العالم بجلية الحال.

المبحث الثاني : حقيقة المعاد

   اتفق المسلمون على حقية المعاد وثبوت النشأة الآخرة ، وشاطرهم المحققون من الفلاسفة الرأي في ذلك ، ولكن اختلفوا في كيفية المعاد على قولين :

---------------------------
(1) سورة النور : 24/24.

الميعاد يوم القيامة _ 72 _

الأوّل ـ المعاد جسماني

   ويعني أن الله سبحانه يحشر الناس يوم القيامة بهذا البدن المشهود بعد رجوعه إلى هيئته الاُولى ، والمعاد بهذا المعنى أصل عظيم من اُصول الدين ، وضرورياته الواجبة الاعتقاد ، وأركانه الثابتة ، وجاحده كافر بالاجماع ، والدليل على ثبوته أنه ممكن ، والصادق أخبر بثبوته ، فوجب الجزم به والمصير إليه.
   أما إمكانه فقد تقدّم بحثه في الفصل السابق ، وأما الإخبار بالثبوت فضروري من دين الأنبياء عليهم السلام ، كما أنّه معلومٌ بالضرورة في دين نبينا الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد نصّ عليه القرآن الكريم وأنكر على جاحديه في آيات صريحة كثيرة في ألفاظها واضحة في معانيها ، مؤكدة أن المعاد إنما يكون حينما يخرج الناس من أجداثهم مسرعين إلى الحساب ( يَوْمَ تُبَدُّلُ الاََْرْضُ غَيْرَ الاََْرْضِ وَالسَّماوَاتُ وَبَرَزُوا للهِِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ) (1)من خير وشرّ ، كما أنه ثبت بالتواتر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعترته المعصومين عليهم السلام قد نصّوا على ثبوت المعاد الجسماني وقالوا به في أحاديث صريحة بهذا المعنى ، فمن الآيات :
  1 ـ قوله تعالى : ( أَيَحْسَبُ الاِِْنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ) (2).
  2 ـ قوله تعالى : ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ

---------------------------
(1) سورة إبراهيم : 14/48 و51.
(2) سورة القيامة : 75 / 3 ـ 4.

الميعاد يوم القيامة _ 73 _

   وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) (1).
  3 ـ الآيات الدالة على إخراج الأموات من القبور ، كقوله تعالى : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِنَ الاََْجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لأ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلأ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (2) ، وقوله تعالى : ( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ) (3).
  4 ـ الآيات الدالة على أن الإنسان يحضر إلى الحساب بكامل جوارحه ، وتكون ضمن الشهود على أعماله ، كقوله تعالى :( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (4) ، وقوله تعالى : ( حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (5).
  5 ـ الآيات التي قدّمت أمثلة عينية على المعاد البدني(6) ، كما في بيان قصة إحياء العزير ، وقتيل بني إسرائيل ، وأصحاب الكهف ، وإحياء الطيور لإبراهيم عليه السلام ، وقد ذكرناها في أدلّة المعاد .

---------------------------
(1) سورة يس : 36/78 ـ 79.
(2) سورة يس : 36/51 ـ 54.
(3) سورة طه : 20/55.
(4) سورة يس : 36/65.
(5) سورة فصلت : 41/20.
(6) سورة البقرة : 2/73 و259 ـ 260 ، سورة الكهف : 18/21 ـ 25.

الميعاد يوم القيامة _ 74 _

  6 ـ الآيات الدالة على لذّات الجنة التي لا تدرك إلاّ بآلة جسمانية ، والآلام التي تقع على بعض أجزاء الجسم المعذّب في نار جهنم ، قال تعالى في وصف أهل الجنة : ( عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِن مَعِينٍ * لأ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلأ يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُوَِ الْمَكْنُونِ ) (1)وقال تعالى في وصف أهل النار : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ) (2).
   أما الأحاديث فكثيرة ، منها قول أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته الغرّاء : « حتى إذا تصرّمت الاُمور ، وتقضّت الدهور ، وأزف النشور ، أخرجهم من ضرائح القبور ، وأوكار الطيور ، وأوجرة السباع ، ومطارح المهالك ، سراعاً إلى أمره ، مهطعين إلى معاده ، رعيلاً صموتاً ، قياماً صفوفاً ... »(3).
   ومنها ما رواه علي بن إبراهيم والشيخ الصدوق في الصحيح عن الإمام الصادق عليه السلام ، قال : « إذا أراد الله أن يبعث الخلق ، أمطر السماء على الأرض أربعين صباحاً ، فاجتمعت الأوصال ، ونبتت اللحوم » (4).

---------------------------
(1) سورة الواقعة : 56/15 ـ 23.
(2) سورة النساء : 4/56.
(3) نهج البلاغة / صبحي الصالح : 108 ـ الخطبة (83).
(4) الأمالي / الصدوق : 243/258 ـ مؤسسة البعثة ـ قم ، حق اليقين / عبدالله شبر 2 : 54 ، بحار الأنوار / المجلسي 7 : 33/1 عن الأمالي و7 : 39/8 عن تفسير علي بن إبراهيم.

الميعاد يوم القيامة _ 75 _

حقيقة المعاد الجسماني

   القائلون بالمعاد الجسماني هم عامة أهل الإسلام من الفقهاء والمتكلمين وأهل الحديث والعرفان ، وقد اتفقت كلمتهم على إعادة الإنسان ببدنه يوم القيامة كما أخبر عنه الله تعالى في كتابه ، لكنهم اختلفوا في حقيقة الروح ، فمنهم من يرى أن الروح هي جسم سارٍ في البدن ، سريان النار في الفحم ، والماء في الورد ، وعليه فيكون المعاد عندهم بالنسبة للبدن والروح جسمانياً ، ولا يعني ذلك قولهم بعودة الأجسام ميتةً لا روح فيها ، بل تعود حية عاقلة ، وإنما الروح عندهم معدودة في عداد الأجسام.
   أما الذين قالوا بتجرّد الروح عن البدن ، فالمعاد عندهم سيكون للأجسام وللأرواح ، وذلك بعودة الروح إلى البدن عند البعث. والقائلون بهذا هم كثير من أكابر الحكماء ومشايخ العرفاء وجماعة من المتكلمين ، كالغزالي ، والكعبي ، والحليمي ، والراغب الأصفهاني ، وكثير من أصحابنا الإمامية ، كالشيخ المفيد ، وأبي جعفر الطوسي ، والسيد المرتضى ، والمحقق الطوسي ، والعلامة الحلي ( رضوان الله عليهم أجمعين ) ذهاباً إلى أن النفس المجردة تعود إلى البدن في يوم القيامة(1).
   وقد استفاض النقل بأن الروح جوهر لطيف نوراني مغاير للبدن ، وأنّها تبقى بعد خرابه مبتهجة مسرورة حيّة مرزوقة ، أو بالعكس(2) ، وقد تقدّم ذكر الكثير منها في المبحث الأول ، ونكتفي هنا بذكر الحديث الآتي

---------------------------
(1) الأسفار/ صدر المتألهين 9 : 165 ، المبدأ والمعاد / صدر المتألهين : 375.
(2) حق اليقين / عبدالله شبر 2 : 38 ـ 39.

الميعاد يوم القيامة _ 76 _

   عن الامام الصادق عليه السلام ، والذي يستوعب حقيقة المعاد بأكملها : سأل زنديق الامام الصادق عليه السلام مستنكراً البعث : وأنّى له بالبعث والبدن قد بلى ، والأعضاء قد تفرقت ، فعضو ببلدة يأكلها سباعها ، وعضو باُخرى تمزّقه هوامها ، وعضو صار تراباً بني مع الطين حائط ؟
   فقال عليه السلام : « إنّ الروح مقيمة في مكانها ، روح المحسن في ضياء وفُسحة ، وروح المسيء في ضيق وظلمة ، والبدن يصير تراباً كما منه خلق ، وما تقذف به السباع والهوام من أجوافها مما أكلته ومزقته ، كلّ ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الأرض ، ويعلم عدد الأشياء ووزنها ... فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور ، فتربو الأرض ، ثمّ تُمخَضوا مخض السقاء ، فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غُسِل بالماء ، والزبد من اللبن إذا مُخِض ، فيجتمع تراب كلّ قالب إلى قالبه ، فينتقل بإذن الله القادر إلى حيث الروح ، فتعود الصور بإذن المصوّر كهيئتها وتلج الروح فيها ، فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئاً »(1).

الثاني ـ المعاد روحاني

   ذهب جمهور الفلاسفة إلى أنّ المعاد روحاني ، لأنّهم لم يتمكّنوا من تعقّل عودة الأبدان على معاييرهم الفلسفية ، فقالوا : إنّ البدن ينعدم بصوره وأعراضه ، لقطع تعلّق النفس به ، فلا يعاد بشخصه تارة اُخرى ، إذ المعدوم لا يعاد ، والنفس جوهر باقٍ لا سبيل للفناء

---------------------------
(1) الاحتجاج / الطبرسي : 350.

الميعاد يوم القيامة _ 77 _

   إليه(1) ، وعليه جعلوا المعاد وما يتعلّق به من شأن الروح وحدها التي لا يعتريها الفناء.
   وهذا القول لا تساعده ظواهر آيات القرآن الكريم وصحيح سنة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم الدالّة على إعادة الإنسان ببدنه يوم القيامة ، والقائلون بالروحاني من بعض فلاسفة المسلمين ، اعتبروا الثواب والعقاب هو التذاذ النفس أو تألمها باللذات أو الآلام العقلية أو الروحية بعد مفارقتها البدن ، وحاولوا تأويل ظواهر الأدلّة الشرعية حتى تنطبق على أسسهم العقلية ، فتكلّفوا في تأويل الآيات القرآنية الكثيرة الدالة على النعيم والعذاب الحسّيين اللذين يتعرض لهما الإنسان في الجنة والنار ، حيث اعتبروهما من باب التمثيل الحسّي للنعيم والعذاب الروحاني أو العقلي ، تقريباً لأذهان عامة الناس الذين تستهويهم الاُمور الحسيّة دون المعاني العقلية ، ليكون ذلك باعثاً لهم على الانقياد والطاعة.
   وقد اشتهر عن الشيخ الرئيس ابن سينا أنه ينكر المعاد الجسماني ويقول بالمعاد الروحاني(2)حتى أن الغزالي كفّر ابن سينا وبعض الفلاسفة في (تهافت الفلاسفة) لانكارهم المعاد الجسماني(3).
   والحق أنه لم يتعرّض ابن سينا في كتبه المعروفة لإنكار البعث الجسماني صراحة ، بل نجده في (الشفاء) وهو أكبر كتبه ، يعترف بالبعث الجسماني

---------------------------
(1) الأسفار / صدر المتألهين 9 : 165 ، شرح المواقف / الجرجاني 8 : 298 ـ 300.
(2) راجع : الأضحوية في المعاد / ابن سينا : 126 ـ المؤسسة الجامعية ـ بيروت.
(3) تهافت الفلاسفة / الغزالي : 235 ـ 253 ـ بيروت ـ 1937.

الميعاد يوم القيامة _ 78 _

   ويرى أنه حق لا ريب فيه .
   قال المحقق الدواني في شرحه على ( العقائد العضدية ) : إن الرئيس أبا علي مع إنكاره للمعاد الجسماني على ما هو بسطه في كتاب ( المعاد ) وبالغ فيه ، وأقام الدليل بزعمه على نفيه ، قال في كتاب ( النجاة والشفاء ) : يجب أن يُعلم أن المعاد منه ما هو منقول من الشرع ، ولا سبيل إلى إثباته إلاّ من طرق الشريعة وتصديق خبر النبوة ، وهو الذي للبدن عند البعث ، وخيرات البدن وشروره معلومة لا يحتاج إلى أن تُعلم ، وقد بسطت الشريعة الحقّة التي أتانا بها نبينا وسيدنا ومولانا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حال السعادة والشقاوة التي بحسب البدن ، ومنه ما هو مُدرك بالعقل والقياس البرهاني ، وقد صدّقته النبوة ، وهو السعادة والشقاوة الثابتتان بالقياس اللتان للأنفس ، وإن كانت الأوهام هاهنا تقصر عن تصوّرهما الآن(1).
   وقد أثبت الأستاذ فتح الله خليفة في دراسته لمذهب ابن سينا في النفس أنه يقول بجسمانية المعاد بما لا يقبل الشكّ والترديد(2).
   كما توهّم البعض أن الغزالي يُنكر حشر الأجساد ، والحق بخلاف ذلك ، فقد قال شارح المقاصد : قد بالغ الإمام الغزالي في تحقيق المعاد الروحاني وبيان أنواع الثواب والعقاب بالنسبة إلى الروح حتى سبق إلى كثير من الأوهام ووقع في ألسنة بعض العوام أنه يُنكر حشر الأجساد افتراءً عليه ، كيف وقد صرّح به في مواضع من كتاب (الإحياء) وغيره ، وذهب إلى أن إنكاره كفرٌ؟ وإنما لم يشرحه في كتبه كثير شرحٍ لما قال : إنه

---------------------------
(1) الشفاء ـ الإلهيات / ابن سينا : 423 ـ القاهرة ، بحار الأنوار / المجلسي 7 : 50.
(2) ابن سينا ومذهبه في النفس / فتح الله خليفة : 117 ـ بيروت ـ 1974.

الميعاد يوم القيامة _ 79 _

   ظاهر لا يحتاج إلى زيادة بيان(1).

إنكار المعاد الجسماني

   لقد عانى الأنبياء والمرسلون عليهم السلام من إنكار أقوامهم لعقيدة المعاد ، وتحمّلوا في هذا السبيل مصاعب جمّة وافتراءات باطلة ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ ) (2)هذا مع أن المعاد من أوضح ما قامت عليه الحجج من طريق الوحي والعقل حتى وصفه تعالى في مواضع من كتابه ( لا ريب فيه ) وما إحياء الطيور لإبراهيم عليه السلام وإحياء قتيل بني إسرائيل والعزير وأصحاب الكهف وغيرها إلاّ أمثلة حية قدمتها يد القدرة الإلهية في فترات متفاوتة لترسيخ عقيدة المعاد في أذهان الناس ، وهي تدلّ على شدّة نكيرهم لهذه العقيدة الحقّة.
   وإنكار المعاد عند اُولئك الأقوام لا يقوم على شيءٍ من الدليل المطابق للواقع أو المؤيد بالبرهان ، بل يقوم على أساس الظنّ الذي لا يغني عن الحقّ شيئاً ، قال تعالى : ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ) (3)ويقوم على أساس الاستبعاد الذي لا يعدّ شبهة وفق الموازين العلمية ، بل هو دليل على العجز عن فهم الحجة وتأمّل البرهان للوصول إلى الحق ، والارتقاء

---------------------------
(1) بحار الأنوار / المجلسي 7 : 52.
(2) سورة سبأ : 34/7 ـ 8 .
(3) سورة الجاثية : 45/24.

الميعاد يوم القيامة _ 80 _

   إلى ما عند الله سبحانه من النعيم المقيم والملك العظيم.
   والباعث الأساس لانكار المعاد هو قصور الانسان في المقاصد الدنيوية والغايات المادية وعبادة الشهوات ، مما يدفعه إلى التحرر من قيود التقوى ، وعبور حواجز الإيمان التي تفرضها عليه عقيدة المعاد ، والانطلاق باتجاه عالم الجريمة والفساد والفجور ( بَلْ يُرِيدُ الاِِْنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ) (1).
   ولهذا نجد أن المستكبرين الذين ملأوا الدنيا فساداً وجوراً ، والمترفين الذين عبدوا شهواتهم وأهواءهم ، قد بالغوا في إنكار المعاد وتأكيد استبعاد حصوله علواً واستكباراً ، ومن هؤلاء قوم هود عليه السلام قال تعالى : ( قَالَ الْمَلأَُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الاَْخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ * أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُم مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ) (2). وأكّد تعالى على استكبارهم عن الخضوع للحقّ والانصياع لنور الحجة وإشراقة البرهان في قوله تعالى : ( فَالَّذِينَ لأيُؤْمِنُونَ بِالاَْخِرَةِ قُلُوبُهُم مُنكِرَةٌ وَهُم مُسْتَكْبِرُونَ ) (3).
   وأنكر الجاهليون المعاصرون للرسالة الخاتمة المعاد بناءً على نفس

---------------------------
(1) سورة القيامة : 75/5 ـ 6.
(2) سورة المؤمنون : 23/33 ـ 38.
(3) سورة النحل : 16/22.

الميعاد يوم القيامة _ 81 _

   المبدأ المتقدم ، أي الظنّ والاستبعاد ، ولم يكن لديهم أي دليل أو برهان ( بلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الاََْوَّلُونَ * قَالُوا أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هذَا مِن قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاََْوَّلِينَ ) (1).
   ومن هنا جاءت الآيات الكريمة لتردّ عليهم إنكارهم وتجيب عن شبهاتهم في ثلاثة اتجاهات :
   الأوّل : إقامة البراهين التي تناشد العقل والوجدان ، وتثبت ضرورة المعاد ، وحتمية تحقق الوعد الإلهي ، لازالة الاستبعاد عن أذهان المنكرين ، وإقامة الحجة الواضحة عليهم ، ومن تلك البراهين برهان المماثلة ، والقدرة ، والحكمة ، والعدالة ، وقد ذكرناها مع الأمثلة في أدلة المعاد.
   الثاني : بيان حقيقة الانسان ، ذلك لأن مشركي الجاهلية كانوا ينكرون المعاد الجسماني ، كما هو ظاهر من صور إنكارهم التي عرضها الكتاب الكريم ( يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرْدُودوُنَ فِي الْحَافِرَةِ * أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ) (2) ، ( وَقَالُوا أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ) (3) ، ( وَقَالُوا أَءِذَا ضَلَلْنَا في الاََْرْضِ أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (4) ، وقد اُجيب عنه في كلامه تعالى ببيان حقيقة الإنسان المتمثلة

---------------------------
(1) سورة المؤمنون : 23/81 ـ 83.
(2) سورة النازعات : 79/10 ـ 12.
(3) سورة الاسراء : 17/49 و98.
(4) سورة السجدة : 32/10.

الميعاد يوم القيامة _ 82 _

   بالروح التي يقبضها ملك الموت ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) (1)أي إنكم لا تضلون في الأرض ولا تنعدمون بسبب الموت ، لأن الملك الموكل بالموت يأخذ أرواحكم ، فتبقى في قبضته ولا تضلّ ، ثم إذا بُعثتم ترجعون إلى الله لفصل القضاء بلحوق أبدانكم إلى نفوسكم وتعلّقها بها وأنتم أنتم(2).
   الثالث : التنديد بظاهرة الإنكار ليوم المعاد وتهديد المنكرين بأشدّ العقاب ، قال تعالى : ( وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءِذَا كُنَّا تُرَاباً أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الاََْغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (3) ، وقال تعالى : ( وَأَنَّ الَّذِينَ لأ يُؤْمِنُونَ بِالاَْخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ) (4) ، وقال تعالى : ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ) (5) .

الشبهات المثارة حول المعاد الجسماني

   يبدو من خلال مجموع الشبهات التي تعلّق بها الفلاسفة القدامى والمتأخرون لانكار جسمانية المعاد ، أنّها ترجع إمّا إلى الجهل بصفات الحقّ

---------------------------
(1) سورة السجدة : 32/11.
(2) راجع تفسير الميزان / الطباطبائي 11 : 299.
(3) سورة الرعد : 13/5.
(4) سورة الإسراء : 17/10.
(5) سورة المطففين : 83/10 ـ 12.

الميعاد يوم القيامة _ 83 _

   القدسية ، سيما في مجال قدرة الخالق غير المتناهية ، وعلمه الذي أحاط بكلّ شيء ، وإمّا إلى الجهل بصفات عالم الآخرة وخصائص البدن المبعوث في النشأة الثانية ، حيث إنّهم قاسوا ذلك العالم وذلك البدن بالقوانين والنظريات التي تحكم عالمنا وأبداننا المادية ، وهو قياس في غير محلّه ، لأن عالم الآخرة يختلف عن عالمنا هذا بجميع أبعاده وخصائصه ، لأنه عالم يتبدّل فيه النظام الكوني ، وتطوى فيه المنظومة الشمسية ، وتبدل الأرض غير الأرض ، بل الانسان نفسه يعيش فيه حياةً لا فناء بعدها .
   وطالما دلّ الكتاب الكريم والسنة المطهرة على أن البدن لا يفنى ولا يعدم ، بل يبعث وتتعلق به الروح ، فيكون الإنسان هو هو ، لينال الجزاء يوم الفصل ، فالشبهة في مقابل ذلك كالجهل في مقابل العلم ، ومع ذلك فإننا سنذكر أهم الشبهات التي أثاروها في هذا المجال ، ونحاول الإجابة عليها.

   أولاً ـ شبهة الآكل والمأكول
   وهي شبهة قديمة ، ذكرها إفلاطون وغيره من الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين من المسلمين وغيرهم بتعابير وتقريرات مختلفة ، أهمها : لو أن إنساناً تغذّى على إنسانٍ آخر ، وأكل جميع أعضائه ، فالمحشور لايكون إلاّ أحدهما ، لأنه لا تبقى للآخر أجزاء تخلق منها أعضاؤه ، وعليه فالبدن المحشور بأيّ الروحين يتعلّق ؟ ولو تعلّق بروح الآكل وكان كافراً ، والمأكول مؤمناً ، للزم عقاب المؤمن ، ولو عكس الأمر للزم ثواب الكافـر.
   الجواب : يتضمن جواب هذه الشبهة عدّة وجوه :

الميعاد يوم القيامة _ 84 _

  1 ـ إن الله سبحانه بكلّ شيء عليم ، وهو بعلمه الواسع والمحيط بكلّ الممكنات ، يعلم كلّ ذرات الكون ، ومنها أجزاء الآكل والمأكول ، فيجمعها بحكمته الشاملة وقدرته الكاملة ، وينفخ فيها الروح ، مهما أصابها من التحوّل أو الفناء أو النقص ، قال تعالى : ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) (1) ، وقال تعالى في حكاية شبهة المنكرين وجوابهم : ( ءَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الاََْرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ) (2) ، وقال تعالى : ( قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاَُْولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلأ يَنسَى ) (3).
   وقال أمير المؤمنين عليه السلام في وصف النشور : « حتى إذا تصرّمت الاُمور ، وتقضّت الدهور ، وأزف النشور ، أخرجهم من ضرائح القبور ، وأوكار الطيور ، وأوجرة السباع ، ومطارح المهالك ، سراعاً إلى أمره ، مهطعين إلى معاده ... »(4) ، فدلّ على أنّهم سيُبعثون وإن افترستهم السباع أو أكلتهم الطيور.
  2 ـ جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال : « إنّ إبراهيم عليه السلام نظر إلى جيفةٍ على ساحل البحر تأكلها سباع البرّ وسباع البحر ، ثم تحمل السباع بعضها على بعضٍ ، فتأكل بعضها بعضاً ، فتعجب إبراهيم عليه السلام فقال : يا ( رَبَّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى ) ؟ فقال الله تعالى : ( أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ

---------------------------
(1) سورة يس : 36/79.
(2) سورة ق : 50/3 ـ 4.
(3) سورة طه : 20/51 ـ 52.
(4) نهج البلاغة / صبحي الصالح : 108 الخطبة (83).

الميعاد يوم القيامة _ 85 _

   بَلَى وَلكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ ) إلى آخر الآية(1) ، فأخذ إبراهيم عليه السلام الطاووس والديك والحمام والغراب ، فقال الله عزَّ وجلَّ : ( فصرهنّ إليك ) أي قطعهنّ ثمّ اخلط لحمهنّ ، وفرّقهن على عشرة جبال ، ثم خذ مناقيرهنّ ، وادعهنّ يأتينك سعياً ، ففعل إبراهيم عليه السلام ذلك ، وفرّقهن على عشرة جبال ، ثم دعاهنّ ... فكانت تجتمع ويتألف لحم كلّ واحد وعظمه إلى رأسه ، فطارت الى إبراهيم عليه السلام فعند ذلك قال إبراهيم عليه السلام : ( إن الله عزيز حكيم )(2)» .
   قيل : في هذا الحديث إشارة إلى أنّه تعالى يحفظ أجزاء المأكول في بدن الآكل ، ويعود في الحشر إلى بدن المأكول ، كما أخرج تلك الأجزاء المختلطة والأعضاء الممتزجة من تلك الطيور وميّز بينها(3).
  3 ـ وأجاب المتكلمون والفلاسفة عن هذه الشبهة بما خلاصته أن المعاد هو في الأجزاء الأصلية التي منها ابتداء الخلق ، وهي باقية من أول العمر إلى آخره ، لا جميع الأجزاء على الإطلاق ، والأجزاء الأصلية التي كانت للمأكول هي في الآكل فضلات ، فلا يجب إعادتها في الآكل ، بل تعاد في المأكول(4) ، لأنّ الله سبحانه يحفظها ولا يجعلها جزءاً لبدنٍ آخر.
   وارتضاه المحقق الطوسي حيث قال في (التجريد) : ولا يجب إعادة

---------------------------
(1) سورة البقرة 2 : 260.
(2) تفسير القمي 1 : 91.
(3) بحار الأنوار / المجلسي 7 : 37.
(4) شرح المواقف / الجرجاني 8 : 296 ـ مطبعة السعادة ـ مصر ، المبدأ والمعاد / صدر الدين الشيرازي : 376.

الميعاد يوم القيامة _ 86 _

   فواضل المكلف ، وذكر العلامة في شرحه : أنه اختلف الناس في المكلف ما هو على مذاهب ... منها قول من يعتقد أن المكلف هو النفس المجردة ... ومنها قول جماعة من المحققين أن المكلف هو أجزاء أصلية في هذا البدن لا يتطرق إليها الزيادة والنقصان ، وإنّما يقعان في الأجزاء المضافة إليها ، والواجب في المعاد هو إعادة تلك الأجزاء الأصلية ، أو النفس المجردة مع الأجزاء الأصلية ، أما الأجزاء المتصلة بتلك الأجزاء ، فلا يجب إعادتها بعينها(1).

   ثانياً : استحالة إعادة المعدوم
   قالوا : إنّ إعادة المعدوم محال ، لأنها تستلزم تخلّل العدم في وجود واحد ، أي بين الشيء الواحد ونفسه ، فيكون الواحد اثنين ، وبعبارة اُخرى أن الموت فناءٌ للإنسان ، فإذا رُدّت إليه الحياة ثانية ، فهو إنسان آخر غير الأول ، وذلك خلق جديد بعد العدم لا إعادة فيه ولا رابط بين المبدأ والمعاد.
   الجواب :
  1 ـ المعاد وفق منطق الفلاسفة ، هو إما بمعنى الوجود بعد الفناء ، أو بمعنى رجوع الأجزاء بعد تفرّقها ، وقد قال الفلاسفة باستحالة المعنى الأول ، لكنّ قانون المادة المنسوب إلى لافوزيه (ت 1794 م) ينقض هذا القول من الأساس ، لأنه ينصّ على أن المادة لا تفنى ، بل هي ثابتة ولاتتغير إلاّ الصورة الطارئة عليها ، كما أنه في عرف الفلاسفة أن الوجود لا يتطرق إليه العدم ، وجوّز بعض الفلاسفة والمتكلمين إعادة المعدوم ،

---------------------------
(1) كشف المراد / العلامة : 431 ـ 432.

الميعاد يوم القيامة _ 87 _

   وقالوا : إنه لا يمتنع وجوده الثاني لا لذاته ولا للوازمه ، وإلاّ لم يوجد ابتداءً ، والإعادة أهون من الابتداء ، كما نصَّ المعتزلة على ثبوت الأحوال وذوات الأشياء ، وقالوا : إن المعدوم شيء ، فإذا عُدم الموجود بقيت ذاته المخصوصة ، فأمكن لذلك أن يُعاد ، لأن ذاته باقية حتى في حال عدمها ، وإنّما يتعاقب عليها الوجود والعدم .
   أما المعاد بالمعنى الآخر ، فقد قال بعض فلاسفة المسلمين المؤمنين بالمعاد الجسماني : إنّ المعاد الجسماني ليس هو إعادة المعدوم ، بل هو جمع الأجزاء المتفرقة ، وإن فناء الأجسام ليس إعدامها بل تفرّق أجزائها واختلاطها.
   وجمع الأجزاء أمر ممكن ، لأنّ الله تعالى عالم بتلك الأجزاء وقادر على جمعها وتأليفها ، لعموم علمه وقدرته على جميع الممكنات(1).
  2 ـ ذكرنا في جواب الشبهة المتقدمة نصّ بعض المتكلمين والفلاسفة على أنّ في البدن أجزاء أصلية لا يتطرق إليها الزيادة والنقصان والفناء ، وروي عن الإمام الصادق عليه السلام ما يدلّ على ذلك ، ففي (الكافي) عن عمار بن موسى ، عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام قال : سُئل عن الميت يبلى جسده ؟ فقال : « نعم حتى لا يبقى لحم ولا عظم إلاّ طينته التي خلق منها ، فإنها لا تبلى ، تبقى في القبر مستديرة حتى يخلق منها كما خلق أول مرة » (2).
  3 ـ لو سلّمنا بقانون استحالة إعادة المعدوم ، فإنّ الله سبحانه الذي خلق الانسان أولاً ولم يكن شيئاً مذكوراً ، قادر على إعادته وإن لم يكن

---------------------------
(1) راجع : شرح المواقف / الجرجاني 8 : 289 ـ 294 ـ مطبعة السعادة ـ مصر ، الأدلة الجلية في شرح الفصول النصيرية / عبدالله نعمة : 212 ـ 213.
(2) الكافي / الكليني 3 : 251/7 ، بحار الأنوار 7 : 43/21.

الميعاد يوم القيامة _ 88 _

   شيئاً مذكوراً ، وقد ذكرنا ذلك في برهان القدرة من أدلة المعاد العقلية.
  4 ـ إن الحافظ لوحدة شخصية الانسان هو الروح ، وهي موجودة عند الله غير باطلة ولا معدومة ، والوجود الثاني هو خلق البدن وتعلق الروح به ، فيكون هو هو لامثله ولاغيره ، لوجود الماهية المشتركة بينهما.

   ثالثاً : تعدّد الأبدان
   قالوا : إنّ خلايا بدن الإنسان في الدنيا عرضة للتبدل والتغير ، وقد قرر العلم أن الانسان يتغيّر كل تركيبه المادي في نحو عشرة أعوام ، فلو مات في الستين ، فإن له ستة تراكيب بدنية مختلفة ، فإن كان المحشور في المعاد جميع التراكيب التي مرّ بها البدن ، استلزم حشر أكثر من بدن لانسان واحد ، وان كان المحشور منها بدناً واحداً ، فهو يستلزم مخالفة قانون العدل الإلهي ، لإن ذلك البدن سيتحمل ثواب أو عقاب جميع الأعمال التي قام بها الإنسان على امتداد فترة العمر.
   الجواب :
   إن حال الإنسان في الدنيا يدلُ على نقض هذه الشبهة ، فهو على الرغم من تبدّل تركيبه على ما قرره العلم ، لكنه محافظ على وحدة شخصيته مهما امتدّ به العمر وتبدلت هيئته أو صورته ، ولو أن جانياً ارتكب جريمة في الشباب ، وعوقب في المشيب ، فلا يقال إن ذلك خلاف العدل ، أو أن تلك العقوبة هي لغير الجاني ، وهكذا الأمر في يوم الحساب ، فالبدن هو بعينه إذا تعلقت به الروح سواء بُعِث شاباً أو شيخاً أو كهلاً.
   قال الملا صدرا : الحق أن المُعاد في المَعاد هو بعينه بدن الإنسان

الميعاد يوم القيامة _ 89 _

   المتشخّص الذي مات بأجزائه بعينها ، لا مثله ، بحيث لو رآه أحد يقول : إنه بعينه فلان الذي كان في الدنيا ، ومن أنكر هذا فقد أنكر الشريعة ، ومن أنكر الشريعة كافر عقلاً وشرعاً ، (1) وعليه فإنّ القدر الذي يجب على كلّ مسلم مكلّف الاعتقاد به هو أنّ الله تعالى يعيد في الآخرة الأشخاص وخصوص المكلفين من أجل الحساب فالثواب والعقاب ، وأمّا الخصوصيات ، من كيفية الاعادة وكيفية الحساب وكيفية الجنة والنار وسائر متعلّقات عالم القيامة ... فقد قالوا بعدم وجوب العلم والاعتقاد التفصيلي بها ، بل يكفي الاعتقاد الاجمالي.
   ونحن إنما ذكرنا الأقوال والأدلّة من مختلف الكتب لتساعد القارئ الكريم على التأمّل والتفكّر وليكون ما أوردناه منطلقاً للبحث والتحقيق.

---------------------------
(1) المبدأ والمعاد / ملا صدرا : 376 .