الفهرس العام

باب ذكر مجلس الرضا علي بن موسى عليهما السلام

    66 ـ باب ذكر مجلس الرضا عليه السلام مع سليمان المروزي متكلم خراسان عند المأمون في التوحيد
    67 ـ باب النهي عن الكلام والجدال والمراء في الله عزوجل



       مع أهل الأديان وأصحاب المقالات مثل الجاثليق
       ورأس الجالوت ورؤساء الصابئين والهربذ الأكبر
       وما كلم به عمران الصابئ في التوحيد عند المأمون
      1 ـ حدثنا أبو محمد جعفر بن علي بن أحمد الفقيه القمي ثم الإيلاقي رضي الله عنه ، قال : أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن علي بن صدقة القمي ، قال : حدثني أبو عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الأنصاري الكجي ، قال : حدثني من سمع الحسن بن محمد النوفلي ثم الهاشمي ، يقول : لما قدم علي بن موسى الرضا عليهما السلام ، إلى المأمون أمر الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات مثل الجاثليق و رأس الجالوت ورؤساء الصابئين والهربذ الأكبر وأصحاب زردهشت وقسطاس الرومي (1) والمتكلمين ليسمع كلامه وكلامهم ، فجمعهم الفضل بن سهل ، ثم أعلم

    ---------------------------
    (1) قد مضى تفسير الجاثليق في أول الباب السابع والثلاثين ص 270.
       ورأس الجالوت كأنه اسم لصاحب الرئاسة الدينية اليهودية ، وكونه علما للشخص محتمل .
       والأقوال في تفسير الصابئين كثيرة ، قال في مجمع البحرين : وفي حديث الصادق عليه السلام : سمى الصابئون لأنهم صبوا إلى تعطيل الأنبياء والرسل والشرائع وقالوا : كل ما جاؤوا به باطل ، فجحدوا توحيد الله ونبوة الأنبياء ورسالة المرسلين ووصية الأوصياء ، فهم بلا شريعة ولا كتاب ولا رسول.
       ويظهر من مقالات عمران الصابي الآتي احتجاجه مع الرضا عليه السلام هذا التفسير.
       والهربذ كالزبرج صاحب الرئاسة الدينية المجوسية ، قال في أقرب الموارد : الهربذة قومة بيت النار للهند وهم البراهمة ، وقيل : عظماء الهند ، وقيل : علماؤهم ، وقيل : خدم نار المجوس ، الواحد ( هربذ ) فارسية .
       وأصحاب زردهشت فرقه من المجوس ، وهو زردهشت بن يورشب ظهر في زمان كشتاسب بن لهراسب ، وأبوه كان من آذربيجان ، وأمه من الري ، واسمها دغدويه ، كذا في الملل والنحل للشهرستاني ، وأكثر المجوس اليوم بل كلهم ينتسبون إليه ، وفي بعض النسخ : ( زرهشت ) بحذف الدال ، وفي الملل والنحل وبعض المؤلفات : زردشت بحذف الهاء كما يتلفظ اليوم.
       وقسطاس بالقاف كما في الكتاب ، وفي البحار وحاشية نسخة ( ب ) ( نسطاس ) بالنون ، ونقل المجلسي ـ رحمه الله ـ عن الفيروزآبادي : نسطاس بكسر النون علم ، وبالرومية : العالم بالطب .

    التوحيد _ 418 _

       المأمون باجتماعهم ، فقال : أدخلهم علي ، ففعل ، فرحب بهم المأمون ، ثم قال لهم : إني إنما جمعتكم لخير ، وأحببت أن تناظروا ابن عمي هذا المدني القادم علي ، فإذا كان بكره فاغدوا علي ولا يتخلف منكم أحد ، فقالوا : السمع والطاعة يا أمير المؤمنين نحن مبكرون إن شاء الله.
       قال الحسن بن محمد النوفلي : فبينا نحن في حديث لنا عند أبي الحسن الرضا عليه السلام إذ دخل علينا ياسر الخادم وكان يتولى أمر أبي الحسن عليه السلام فقال : يا سيدي إن أمير المؤمنين يقرئك السلام فيقول : فداك أخوك إنه اجتمع إلي أصحاب المقالات وأهل الأديان والمتكلمون من جميع الملل فرأيك في البكور علينا إن أحببت كلامهم (1) وإن كرهت كلامهم فلا تتجشم (2) وإن أحببت أن نصير إليك خف ذلك علينا ، فقال أبو الحسن عليه السلام : أبلغه السلام وقل له : قد علمت ما أردت ، وأنا صائر إليك بكرة إن شاء الله.
       قال الحسن بن محمد النوفلي : فلما مضى ياسر التفت إلينا ، ثم قال لي : يا نوفلي أنت عراقي ورقة العراقي غير غليظة (3) فما عندك في جمع ابن عمك علينا

    ---------------------------
    (1) ( فرأيك ) مبتدء و ( في البكور علينا ) خبره ، أي أفرأيك يكون في البكور علينا ، أو خبره محذوف أي فما رأيك ـ الخ.
    (2) في نسخة ( ج ) ( وإن كرهت فلا تحتشم ) ، وفي نسخة ( و ) و ( ن ) ( وإن كرهت ذلك فلا تتجشم ).
    (3) الرقة في كل موضع يراد بها معنى ، فيقال مثلا : رقة القلب ويراد بها الرحمة ، ورقة الوجه ويراد بها الحياء ، ورقة الكلام ويراد عدم الفدفدة فيه ، والظاهر أن مراده عليه السلام حيث أضاف الرقة إلى الإنسان هو رقة الجهة الإنسانية ، وهي سرعة الفهم وجودته و إصابة الحدس وصفاء الذهن وعمق الفكر وحسن التفكر وكمال العقل ، وغير غليظة خبر في اللفظ ، وفي المعنى صفة مفيدة للكمال ، أي للعراقي رقه رقيقه ، كما يقال : ليل لائل أي كامل الاظلام ، ونور نير أي كامل في النورية ، وجمال جميل أي كامل في الجمالية ، ولا يبعد أن يراد بها الروح ، فإن للإنسان لطافة هي روحه وكثافة هي بدنه ، أي روح العراقي غير غليظة لا تقف دون ما يرد عليه من المسائل بل تلج فيه وتخرج منه بسهولة وتكشف حق الأمر وحقيقة الحال.

    التوحيد _ 419 _

       أهل الشرك وأصحاب المقالات ؟ فقلت : جعلت فداك يريد الامتحان ويحب أن يعرف ما عندك ، ولقد بنى على أساس غير وثيق البنيان وبئس والله ما بني ، فقال لي : وما بناؤه في هذا الباب ؟ قلت : إن أصحاب البدع والكلام خلاف العلماء ، وذلك أن العالم لا ينكر غير المنكر ، وأصحاب المقالات والمتكلمون وأهل الشرك أصحاب إنكار ومباهتة ، وإن احتججت عليهم أن الله واحد قالوا : صحح وحدانيته ، وإن قلت : إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله قالوا : أثبت رسالته ، ثم يباهتون الرجل وهو يبطل عليهم بحجته ، ويغالطونه حتى يترك قوله ، فاحذرهم جعلت فداك ، قال : فتبسم عليه السلام ثم قال : يا نوفلي أتخاف أن يقطعوا علي حجتي ؟ (1) قلت : لا والله ما خفت عليك قط وإني لأرجو أن يظفرك الله بهم إن شاء الله ، فقال لي : يا نوفلي أتحب أن تعلم متى يندم المأمون ، قلت : نعم ، قال : إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم وعلى أهل الزبور بزبورهم وعلى الصابئين بعبرانيتهم وعلى الهرابذة بفارسيتهم وعلى أهل الروم بروميتهم وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم ، فإذا قطعت كل صنف ودحضت حجته وترك مقالته ورجع إلى قولي علم المأمون أن الموضع الذي هو بسبيله ليس هو بمستحق له ، فعند ذلك تكون الندامة منه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
       فلما أصبحنا أتانا الفضل بن سهل فقال له : جعلت فداك ابن عمك ينتظرك ، وقد اجتمع القوم فما رأيك في إتيانه ، فقال له الرضا عليه السلام : تقدمني فإني صائر إلى ناحيتكم إن شاء الله ، ثم توضأ عليه السلام وضوء الصلاة وشرب شربة سويق وسقانا منه ، ثم خرج وخرجنا معه حتى دخلنا على المأمون ، فإذا المجلس غاص بأهله

    ---------------------------
    (1) في العيون ( أفتخاف أن يقطعوا علي حجتي ).

    التوحيد _ 420 _

       ومحمد بن جعفر في جماعة الطالبيين والهاشميين ، والقواد حضور ، فلما دخل الرضا عليه السلام قام المأمون وقام محمد بن جعفر وقام جميع بني هاشم ، فما زالوا وقوفا والرضا عليه السلام جالس مع المأمون حتى أمرهم بالجلوس ، فلم يزل المأمون مقبلا عليه يحدثه ساعة .
       ثم التفت إلى جاثليق ، فقال : يا جاثليق هذا ابن عمي علي بن موسى ـ ابن جعفر وهو من ولد فاطمة بنت نبينا ، وابن علي بن أبي طالب عليهم السلام فأحب أن تكلمه وتحاجه وتنصفه ، فقال الجاثليق ، يا أمير المؤمنين كيف أحاج رجلا يحتج علي بكتاب أنا منكره ونبي لا أو من به ، فقال له الرضا عليه السلام : يا نصراني فإن احتججت عليك بإنجيلك أتقر به ؟! قال الجاثليق : وهل أقدر على دفع ما نطق به الإنجيل ؟ نعم والله أقر به على رغم أنفي ، فقال له الرضا عليه السلام : سل عما بدا لك وافهم الجواب ، قال الجاثليق : ما تقول في نبوة عيسى عليه السلام وكتابه هل تنكر منهما شيئا ؟ قال الرضا عليه السلام : أنا مقر بنبوة عيسى وكتابه وما بشر به أمته وأقر به الحواريون ، وكافر بنبوة كل عيسى لم يقر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم و بكتابه ولم يبشر به أمته ، قال الجاثليق : أليس إنما تقطع الأحكام بشاهدي عدل ؟
       قال : بلى ، قال : فأقم شاهدين من غير أهل ملتك على نبوة محمد ممن لا تنكره النصرانية وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملتنا ، قال الرضا عليه السلام : الآن جئت بالنصفة يا نصراني ، ألا تقبل مني العدل المقدم عند المسيح عيسى بن مريم ، قال الجاثليق :
       ومن هذا العدل ؟ سمه لي ، قال : ما تقول في يوحنا الديلمي ؟ قال : بخ بخ ذكرت أحب الناس إلى المسيح ، قال : فأقسمت عليك هل نطق الإنجيل أن يوحنا قال : إن المسيح أخبرني بدين محمد العربي وبشرني به أنه يكون من بعده فبشرت به الحواريين فآمنوا به ؟! قال الجاثليق : قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح وبشر بنبوة رجل وبأهل بيته ووصيه ، ولم يلخص متى يكون ذلك ولم يسم لنا القوم فنعرفهم ، قال الرضا عليه السلام : فأن جئناك بمن يقرء الإنجيل فتلا عليك ذكر محمد وأهل بيته وأمته أتؤمن به ؟! قال : سديدا ، قال الرضا عليه السلام لقسطاس الرومي :

    التوحيد _ 421 _

       كيف حفظك للسفر الثالث من الإنجيل ؟ قال : ما أحفظني له ، ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال له : ألست تقرء الإنجيل ؟! قال : بلى لعمري قال : فخذ على السفر الثالث ، فإن كان فيه ذكر محمد وأهل بيته وأمته سلام الله عليهم فاشهدوا لي وإن لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي ، ثم قرأ عليه السلام السفر الثالث حتى إذا بلغ ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقف ، ثم قال : يا نصراني إني أسألك بحق المسيح وأمه أتعلم أني عالم بالإنجيل ؟!
       قال : نعم ، ثم تلا علينا ذكر محمد وأهل بيته وأمته ، ثم قال : ما تقول يا نصراني هذا قول عيسى بن مريم ؟! فإن كذبت ما ينطق به الإنجيل فقد كذبت عيسى و موسى عليهما السلام ، ومتى أنكرت هذا الذكر وجب عليك القتل لأنك تكون قد كفرت بربك ونبيك وبكتابك ، قال الجاثليق : لا أنكر ما قد بان لي في الإنجيل وإني لمقر به ، قال الرضا عليه السلام : اشهدوا على إقراره.
       ثم قال : يا جاثليق سل عما بدا لك ، قال الجاثليق : أخبرني عن حواري عيسى بن مريم كم كان عدتهم ؟ وعن علماء الإنجيل كم كانوا ؟ قال الرضا عليه السلام : على الخبير سقطت ، أما الحواريون فكانوا اثني عشر رجلا ، وكان أفضلهم وأعلمهم ألوقا (1) وأما علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال : يوحنا الأكبر بأج ، ويوحنا بقرقيسيا ، ويوحنا الديلمي بزجان (2) وعنده كان ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر أهل بيته وأمته وهو الذي بشر أمة عيسى وبني إسرائيل به .
       ثم قال عليه السلام : يا نصراني والله إنا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وما ننقم على عيسا كم شيئا إلا ضعفه وقلة صيامه وصلاته ، قال الجاثليق : أفسدت

    ---------------------------
    (1) في الإنجيل الموجود اليوم : لوقا بدون الألف في أوله.
    (2) ( اج ) بألف ثم جيم مجهول ، وفي نسخة ( ط ) و ( ج ) بألف وخاء ، وأخا بزيادة ألف في آخر ناحية من نواحي البصرة ، وقرقيسياء بقافين بينهما راء ساكنة ثم يائين بينهما سين مكسورة آخرها ألف مقصورة أو ممدودة بلد عند مصب الخابور في الفرات ، والخابور نهر يمر على أرض الجزيرة ، وزجان بالزاي المعجمة والجيم والألف آخره نون ، وفي البحار باب احتجاجات الرضا عليه السلام وفي نسخه ( ب ) و ( د ) بالراء المهملة مكان النون ، كلاهما مجهول .

    التوحيد _ 422 _

       والله علمك وضعفت أمرك ، وما كنت ظننت إلا أنك أعلم أهل الإسلام ، قال الرضا عليه السلام : وكيف ذلك ؟! قال الجاثليق : من قولك : إن عيسا كم كان ضعيفا قليل الصيام قليل الصلاة ، وما أفطر عيسى يوما قط ولا نام بليل قط .
       وما زال صائم الدهر ، قائم الليل ، قال الرضا عليه السلام : فلمن كان يصوم ويصلي ؟! قال : فخرس الجاثليق وانقطع.
       قال الرضا عليه السلام : يا نصراني إني أسألك عن مسألة ، قال : سل فإن كل عندي علمها أجبتك ، قال الرضا عليه السلام : ما أنكرت أن عيسى كان يحيى الموتى بإذن الله عزوجل ، قال الجاثليق : أنكرت ذلك من قبل أن من أحيى الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص فهو رب مستحق لأن يعبد (1) قال الرضا عليه السلام : فإن اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى (2) مشى على الماء وأحيى الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص فلم يتخذه أمته ربا ولم يعبده أحد من دون الله عزوجل ، ولقد صنع حزقيل النبي عليه السلام (3) مثل ما صنع عيسى بن مريم عليه السلام فأحيا خمسة وثلاثين ألف رجل من بعد موتهم بستين سنة ، ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال له : يا رأس الجالوت أتجد هؤلاء في شباب بني إسرائيل في التوراة ؟! اختارهم بخت نصر من سبي بني إسرائيل حين غزا بيت المقدس ثم انصرف بهم إلى بابل فأرسله الله عزوجل إليهم فأحياهم (4)

    ---------------------------
    (1) إنكاره يرجع إلى إذن الله ، وكان عيسى بزعمه ربا مستقلا في ذلك.
    (2) في بعض التفاسير أن اليسع كان ابن عم الياس النبي ونبيا بعده على نبينا وآله وعليهما السلام.
    (3) هو الملقب بذي الكفل المدفون بقرية في طريق الكوفة إلى الحلة ، وهي أرض بابل التي انصرف بخت نصر بسبايا بني إسرائيل إليها ، وفيما اليوم بأيدي الناس ، حزقيال .
    (4) حاصل القصة أن بخت نصر غزا بيت المقدس ، فقتل بني إسرائيل بعضهم وأسر بعضهم ، ثم اختار من الأسرى خمسة وثلاثين ألف رجل كلهم من الشباب ، وأمر هؤلاء مذكور في قصص شباب بني إسرائيل ، ثم نقلهم إلى بابل عاصمة مملكته ، ثم ماتوا أو قتلوا في زمنه أو بعده ، ثم أرسل الله عزوجل حزقيل إلى بابل فأحياهم بإذنه تعالى .

    التوحيد _ 423 _

       هذا في التوراة لا يدفعه إلا كافر منكم (1) قال رأس الجالوت : قد سمعنا به و عرفناه ، قال : صدقت ، ثم قال عليه السلام : يا يهودي خذ على هذا السفر من التوراة فتلا عليه السلام علينا من التوراة آيات ، فأقبل اليهودي يترجح لقراءته ويتعجب (2) ثم أقبل على النصراني فقال : يا نصراني أفهؤلاء كانوا قبل عيسى أم عيسى كان قبلهم ؟!
       قال : بل كانوا قبله ، قال الرضا عليه السلام : لقد اجتمعت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فسألوه أن يحيي لهم موتاهم ، فوجه معهم علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له : اذهب إلى الجبانة فناد بأسماء هؤلاء الرهط الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك يا فلان و يا فلان ويا فلان يقول لكم محمد رسول الله صلى الله عليه وآله : قوموا بإذن الله عزوجل ، فقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم ، فأقبلت قريش تسألهم عن أمورهم ، ثم أخبروهم أن محمد قد بعث نبيا ، وقالوا : وددنا أنا أدركناه فنؤمن به ولقد أبرأ الأكمه و الأبرص والمجانين وكلمه البهائم والطير والجن والشياطين ولم نتخذه ربا من دون الله عزوجل ، ولم ننكر لأحد من هؤلاء فضلهم ، فمتى اتخذتم عيسى ربا جاز لكم أن تتخذوا اليسع وحزقيل ربا لأنهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى من إحياء الموتى ، وغيره أن قوما من بني إسرائيل هربوا من بلادهم من الطاعون وهم ألوف حذر الموت فأماتهم الله في ساعة واحدة ، فعمد أهل تلك القرية فحظروا عليهم حظيرة فلم يزالوا فيها حتى نخرت عظامهم وصاروا رميما ، فمر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل فتعجب منهم ومن كثرة العظام البالية ، فأوحى الله إليه أتحب أن أحييهم لك فتنذرهم ؟ قال : نعم يا رب ، فأوحى الله عزوجل إليه أن نادهم ، فقال : أيتها العظام البالية قومي بإذن الله عزوجل فقاموا أحياء أجمعون ينفضون التراب

    ---------------------------
    (1) في كتاب حزقيال الموجود اليوم إشارة إلى ذلك ، وإطلاق التوراة عليه مجاز ، أو كان ذلك فيما أنزل على موسى إخبارا عما سيقع .
    (2) يترجح بالحاء المهملة في آخرها من الأرجوحة أي يميل يمينا وشمالا ، وفي نسخة ( ه‍ ) ـ بالجيمين ـ أي يضطرب .

    التوحيد _ 424 _

       عن رؤوسهم (1). ثم إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن حين أخذ الطيور وقطعهن قطعا ثم وضع على كل جبل منهن جزءا ثم ناديهن فأقبلن سعيا إليه ، ثم موسى بن عمران وأصحابه والسبعون الذين اختارهم صاروا معه إلى الجبل فقالوا له : إنك قد رأيت الله سبحانه فأرناه كما رأيته ، فقال لهم : إني لم أره ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم وبقي موسى وحيدا ، فقال : يا رب اخترت سبعين رجلا من بني إسرائيل فجئت بهم وأرجع وحدي ، فكيف يصدقني قومي بما أخبرهم به ، فلو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أفتهلكنا بما فعل السفهاء منا ، فأحياهم الله عزوجل من بعد موتهم ، وكل شيء ذكرته لك من هذا لا تقدر على دفعه لأن التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قد نطقت به ، فإن كان كل من أحيى الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص والمجانين يتخذ ربا من دون الله فاتخذ هؤلاء كلهم أربابا ، ما تقول يا نصراني ؟! قال الجاثليق : القول قولك ولا إله إلا الله.
       ثم التفت عليه السلام إلى رأس الجالوت فقال : يا يهودي أقبل علي أسألك بالعشر الآيات التي أنزلت على موسى بن عمران عليه السلام هل تجد في التوراة مكتوبا نبأ محمد وأمته : إذا جاءت الأمة الأخيرة أتباع راكب البعير يسبحون الرب جدا جدا تسبيحا جديدا في الكنائس الجدد ، فليفرغ بنوا إسرائيل إليهم وإلى ملكهم لتطمئن قلوبهم ، فإن بأيديهم سيوفا ينتقمون بها من الأمم الكافرة في أقطار الأرض ، هكذا هو في التوراة مكتوب ؟!
       قال رأس الجالوت : نعم إنا لنجده كذلك ، ثم قال : للجاثليق : يا نصراني كيف علمك بكتاب شعيا ؟ قال : أعرفه حرفا حرفا ، قال الرضا عليه السلام لهما : أتعرفان هذا من كلامه : ( يا قوم إني رأيت صورة راكب الحمار لابسا جلابيب النور ، ورأيت راكب البعير ضوؤه مثل ضوء القمر ) ؟ فقالا : قد قال ذلك شعيا ، قال الرضا عليه السلام : يا نصراني هل تعرف في الإنجيل قول عيسى : إني

    ---------------------------
    (1) المشهور بين المفسرين والمذكور في بعض الأخبار أن هذا النبي هو حزقيل ، ولا استبعاد في كون القصتين له .

    التوحيد _ 425 _

       ذاهب إلى ربي وربكم والفارقليطا جاء (1) هو الذي يشهد لي بالحق كما شهدت له ، وهو الذي يفسر لكم كل شيء ، وهو الذي يبدي فضائح الأمم ، وهو الذي يكسر عمود الكفر ؟ فقال الجاثليق : ما ذكرت شيئا مما في الإنجيل إلا ونحن مقرون به ، فقال : أتجد هذا في الإنجيل ثابتا يا جاثليق ؟! قال : نعم .
       قال الرضا عليه السلام : يا جاثليق ألا تخبرني عن الإنجيل الأول حين افتقدتموه عند من وجدتموه ومن وضع لكم هذا الإنجيل ؟ قال له : ما افتقدنا الإنجيل إلا يوما واحدا حتى وجدنا غضا طريا فأخرجه إلينا يوحنا ومتى ، فقال الرضا عليه السلام : ما أقل معرفتك بسر الإنجيل وعلمائه ، فإن كان كما تزعم فلم اختلفتم في الإنجيل (2) إنما وقع الاختلاف في هذا الإنجيل الذي في أيديكم اليوم (3) فلو كان على العهد الأول لم تختلفوا فيه ، ولكني مفيدك علم ذلك ، اعلم أنه لما افتقد الإنجيل الأول اجتمعت النصارى إلى علمائهم فقالوا لهم : قتل عيسى بن مريم عليه السلام وافتقدنا الإنجيل وأنتم العلماء فما عندكم ؟
       فقال لهم ألوقا ومر قابوس : إن الإنجيل في صدورنا ، ونحن نخرجه إليكم سفرا سفرا في كل أحد ، فلا تحزنوا عليه ولا تخلوا الكنائس ، فإنا سنتلوه عليكم في كل أحد سفرا سفرا حتى نجمعه لكم كله ، فقعد ألوقا ومر قابوس (4) ويوحنا ومتى ووضعوا لهم هذا الإنجيل بعد ما افتقدتم الإنجيل الأول ، وإنما كان هؤلاء الأربعة تلاميذ التلاميذ الأولين ، أعلمت ذلك ؟ قال الجاثليق : أما هذا فلم أعلمه وقد علمته الآن ، وقد بان لي من فضل علمك بالإنجيل (5) وسمعت أشياء مما علمته

    ---------------------------
    (1) في البحار وفي نسخة ( ب ) و ( ه‍ ) ( البارقليطا ) بالباء مكان الفاء.
    (2) في نسخة ( ط ) و ( ن ) ( فإن كان كما زعمتم ـ الخ ).
    (3) في نسخة ( ب ) و ( د ) ( إنما وقع فيه الاختلاف وفي هذا الإنجيل الذي في أيديكم اليوم ).
    (4) في الإنجيل الذي اليوم بأيدي الناس : لوقا ، مرقس.
    (5) في نسخة ( ب ) ( وقد بان لي من فضلك وفضل علمك بالإنجيل ) ، وفي نسخة ( ه‍ ) ( وقد بان لي من قصتك ورفع علمك بالإنجيل ) ، وفي نسخة ( ج ) ( وقد بان لي فضل علمك بالإنجيل ).
       وفي نسخة ( و ) والعيون ( وقد بان لي من فضلك علمك بالإنجيل ).
       وفي نسخة ( د ) ( وقد بان لي من فضلك ومن أفضل علمك بالإنجيل ).

    التوحيد _ 426 _

       شهد قلبي أنها حق فاستزدت كثيرا من الفهم.
       فقال له الرضا عليه السلام : فكيف شهادة هؤلاء عندك ؟ قال : جائزة ، هؤلاء علماء الإنجيل وكل ما شهدوا به فهو حق ، فقال الرضا عليه السلام للمأمون ومن حضره من أهل بيته ومن غيرهم : اشهدوا عليه ، قالوا : قد شهدنا ، ثم قال للجاثليق : بحق الابن وأمه هل تعلم أن متى قال : ( إن المسيح هو ابن داود بن إبراهيم بن إسحاق بن يعقوب بن يهودا بن حضرون (1) ) ، وقال مرقابوس في نسبة عيسى بن ـ مريم : ( إنه كلمة الله أحلها في جسد الآدمي فصارت إنسانا ) ، وقال ألوقا : ( إن عيسى ابن مريم وأمه كانا إنسانين من لحم ودم فدخل فيهما روح القدس ) ؟ (2) ثم إنك تقول من شهادة عيسى على نفسه : حقا أقول لكم يا معشر الحواريين : إنه لا يصعد إلى السماء إلا ما نزل منها (3) إلا راكب البعير خاتم الأنبياء فإنه يصعد إلى السماء وينزل ، فما تقول في هذا القول ؟ قال الجاثليق : هذا قول عيسى لا ننكره قال الرضا عليهما السلام ، : فما تقول في شهادة ألوقا ومر قابوس ومتى على عيسى وما نسبوه إليه ؟ (4) قال الجاثليق : كذبوا على عيسى ، قال الرضا عليه السلام : يا قوم أليس

    ---------------------------
    (1) بالحاء المهملة والضاد المعجمة ، وفي نسخة ( ب ) و ( ه‍ ) بالمعجمتين ، وفي أول إنجيل متى الموجود اليوم : حصرون ـ بالمهملتين ـ.
    (2) في نسخة ( و ) ( فدخل فيها روح القدس ) ، وفي نسخة ( د ) ( فدخل عليهما روح القدس ).
    (3) في البحار وفي نسخة ( ن ) ( إلا من نزل منها ).
    (4) ألزم عليه السلام الجاثليق بالتنافي بين قوله عليه عيسى من أنه نزل من السماء وصعد إليها وقولهم عليه من أنه إنسان فإن الإنسان لم ينزل من السماء بل تكون في الأرض.

    التوحيد _ 427 _

       قد زكاهم وشهد أنهم علماء الإنجيل وقولهم حق ؟! فقال الجاثليق : يا عالم المسلمين (1) أحب أن تعفيني من أمر هؤلاء ، قال الرضا عليه السلام : فإنا قد فعلنا ، سل يا نصراني عما بدا لك ، قال الجاثليق : ليسألك غيري ، فلا وحق المسيح ما ظننت أن في علماء المسلمين مثلك .
       فالتفت الرضا عليه السلام إلى رأس الجالوت فقال له : تسألني أو أسألك ؟ قال : بل أسألك ، ولست أقبل منك حجة إلا من التوراة أو من الإنجيل أو من زبور داود أو مما في صحف إبراهيم وموسى (2) فقال الرضا عليه السلام : تقبل مني حجة إلا بما تنطق به التوراة على لسان موسى بن عمران والإنجيل على لسان عيسى بن مريم و الزبور على لسان داود ، فقال رأس الجالوت : من أين تثبت نبوة محمد ؟ قال الرضا عليه السلام : شهد بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم موسى بن عمران وعيسى بن مريم وداود خليفة الله عزوجل في الأرض ، فقال له : أثبت قول موسى بن عمران ، قال الرضا عليه السلام : هل تعلم يا يهودي أن موسى أوصى بني إسرائيل فقال لهم : إنه سيأتيكم نبي هو من إخوتكم فبه فصدقوا ، ومنه فاسمعوا ، فهل تعلم أن لبني إسرائيل إخوة غير ولد إسماعيل إن كنت تعرف قرابه إسرائيل من إسماعيل والنسب الذي بينهما من قبل إبراهيم عليه السلام ؟ فقال رأس الجالوت : هذا قول موسى لا ندفعه ، فقال له الرضا عليه السلام : هل جاءكم من إخوة بني إسرائيل نبي غير محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟! قال : لا ، قال الرضا عليه السلام : أوليس قد صح هذا عندكم ؟! قال : نعم ، ولكني أحب أن تصححه لي من التوراة ، فقال له الرضا عليه السلام : هل تنكر أن التوراة تقول لكم : جاء النور من جبل طور سيناء ، وأضاء لنا من جبل ساعير (3) واستعلن علينا من جبل فاران ؟
       قال رأس الجالوت : أعرف هذه الكلمات وما أعرف تفسيرها ، قال الرضا عليه السلام :

    ---------------------------
    (1) في ( ط ) و ( ن ) ( يا أعلم المسلمين ).
    (2) قبوله من الإنجيل غريب لأن الرجل يهودي كما يأتي ما يصرح به ، لعله من اشتباه النساخ.
    (3) في نسخة ( ج ) و ( ه‍ ) ( وأضاء للناس من جبل ساعير ) وكذا ما يأتي في التفسير.

    التوحيد _ 428 _

       أنا أخبرك به ، أما قوله : جاء النور من جبل طور سيناء فذلك وحي الله تبارك وتعالى الذي أنزله على موسى عليه السلام على جبل طور سيناء ، وأما قوله : وأضاء لنا من جبل ساعير فهو الجبل الذي أوحى الله عزوجل إلى عيسى بن مريم عليه السلام وهو عليه ، و أما قوله : واستعلن علينا من جبل فاران فذلك جبل من جبال مكة بينه وبينها يوم ، وقال شعيا النبي عليه السلام فيما تقول أنت وأصحابك في التوراة (1) : رأيت راكبين أضاء لهما الأرض ، أحدهما راكب على حمار والآخر على جمل ، فمن راكب الحمار ومن راكب الجمل ؟!
       قال رأس الجالوت : لا أعرفهما فخبرني بهما ، قال عليه السلام : أما راكب الحمار فعيسى بن مريم ، وأما راكب الجمل فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ، أتنكر هذا من التوراة ؟! قال : لا ما أنكره ، ثم قال الرضا عليه السلام : هل تعرف حيقوق النبي (2) قال : نعم إني به لعارف ، قال عليه السلام : فإنه قال وكتابكم ينطق به : جاء الله بالبيان من جبل فاران ، وامتلئت السماوات من تسبيح أحمد وأمته ، يحمل خيله في البحر كما يحمل في البر ، يأتينا بكتاب جديد بعد خراب بيت المقدس ـ يعني بالكتاب القرآن ـ أتعرف هذا وتؤمن به ؟ قال رأس الجالوت : قد قال ذلك حيقوق عليه السلام ولا ننكر قوله ، قال الرضا عليه السلام : وقد قال داود في زبوره وأنت تقرء : اللهم ابعث مقيم السنة بعد الفترة ، فهل تعرف نبيا أقام السنة بعد الفترة غير محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
       قال رأس الجالوت : هذا قول داود نعرفه ولا ننكره ، ولكن عني بذلك عيسى ، و أيامه هي الفترة ، قال الرضا عليه السلام : جهلت ، إن عيسى لم يخالف السنة وقد كان موافقا لسنة التوراة حتى رفعه الله إليه ، وفي الإنجيل مكتوب : إن ابن البرة ذاهب والفارقليطا جاء من بعده (3) وهو الذي يخفف الآصار ، ويفسر لكم كل شيء ، ويشهد لي كما شهدت له ، أنا جئتكم بالأمثال ، وهو يأتيكم بالتأويل ،

    ---------------------------
    (1) فيما اليوم بأيدي الناس أشعيا بألف في أوله ، وقد مر احتمالان في التوراة في قصة حزقيل .
    (2) فيما اليوم بأيدي الناس ( حبقوق ) بالباء الموحدة بعد الحاء.
    (3) في البحار والعيون وفي نسخة ( ه‍ ) ( البارقلطا ) بالباء الموحدة مكان الفاء.

    التوحيد _ 429 _

       أتؤمن بهذا في الإنجيل ؟! قال نعم لا أنكره.
       فقال له الرضا عليه السلام : يا رأس الجالوت أسألك عن نبيك موسى بن عمران ، فقال : سل ، قال : ما الحجة على أن موسى ثبتت نبوته ؟ قال اليهودي أنه جاء بما لم يجئ به أحد من الأنبياء قبله ، قال له : مثل ماذا ؟ قال مثل فلق البحر ، وقلبه العصا حية تسعى ، وضربة الحجر فانفجرت منه العيون ، وإخراجه يده بيضاء للناظرين وعلامات لا يقدر الخلق على مثلها ، قال له الرضا عليه السلام : صدقت ، إذا كانت حجته على نبوته أنه جاء بما لا يقدر الخلق على مثله أفليس كل من ادعى أنه نبي ثم جاء بما لا يقدر الخلق على مثله وجب عليكم تصديقه ؟ قال لا لأن موسى لم يكن له نظير لمكانه من ربه وقربه منه ، ولا يجب علينا الاقرار بنبوة من ادعاها حتى يأتي من الأعلام بمثل ما جاء به ، قال الرضا عليه السلام : فكيف أقررتم بالأنبياء الذين كانوا قبل موسى عليه السلام ولم يفلقوا البحر ولم يفجروا من الحجر اثنتي عشر عينا ولم يخرجوا أيديهم بيضاء مثل إخراج موسى يده بيضاء ولم يقلبوا العصا حية تسعى ؟! قال له اليهودي : قد خبرتك أنه متى جاؤوا على دعوى نبوتهم من الآيات بما لا يقدر الخلق على مثله ولو جاؤوا بما لم يجئ به موسى أو كان على غير ما جاء به موسى وجب تصديقهم (1) قال الرضا عليه السلام : يا رأس الجالوت فما يمنعك من الاقرار بعيسى بن مريم وقد كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص و يخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ؟ قال رأس الجالوت :
       يقال : إنه فعل ذلك ولم نشهده ، قال له الرضا عليه السلام : أرأيت ما جاء به موسى من الآيات شاهدته ؟! أليس أنما جاء في الأخبار به من ثقات أصحاب موسى أنه فعل ذلك ؟! قال : بلى ، قال : فكذلك أتتكم الأخبار المتواترة بما فعل عيسى بن مريم فكيف صدقتم بموسى ولم تصدقوا بعيسى ؟! فلم يحر جوابا ، قال الرضا عليه السلام : و كذلك أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به وأمر كل نبي بعثة الله ، ومن آياته أنه كان يتيما فقيرا راعيا أجيرا لم يتعلم كتابا ولم يختلف إلى معلم ، ثم جاء بالقرآن الذي فيه

    ---------------------------
    (1) قوله : ( وجب تصديقهم ) جواب لمتى جاؤوا ، و ( لوا ) وصلية بين الشرط والجزاء .

    التوحيد _ 430 _

       قصص الأنبياء وأخبارهم حرفا حرفا وأخبار من مضى ومن بقي إلى يوم القيامة ، ثم كان يخبرهم بأسرارهم وما يعملون في بيوتهم ، وجاء بآيات كثيرة لا تحصى ، قال رأس الجالوت : لم يصح عندنا خبر عيسى ولا خبر محمد ، ولا يجوز لنا أن نقر لهما بما لم يصح ، قال الرضا عليه السلام : فالشاهد الذي شهد لعيسى ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم شاهد زور ؟! (1) فلم يحر جوابا .
       ثم دعا عليه السلام بالهربذ الأكبر فقال له الرضا عليه السلام : أخبرني عن زردهشت الذي تزعم أنه نبي ما حجتك على نبوته : قال : إنه أتى بما لم يأتنا به أحد قبله ولم نشهده ولكن الأخبار من أسلافنا وردت علينا بأنه أحل لنا ما لم يحله غيره فاتبعناه ، قال عليه السلام : أفليس إنما أتتكم الأخبار فاتبعتموه ؟! قال : بلى ، قال : فكذلك سائر الأمم السالفة أتتهم الأخبار بما أتى به النبيون وأتى به موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم فما عذركم في ترك الاقرار لهم إذا كنتم إنما أقررتم بزردهشت من قبل الأخبار المتواترة بأنه جاء بما لم يجئ به غيره ؟! فانقطع الهربذ مكانه .
       فقال الرضا عليه السلام : يا قوم إن كان فيكم أحد يخالف الإسلام وأراد أن يسأل فليسأل غير محتشم ، فقام إليه عمران الصابئ وكان واحدا في المتكلمين فقال : يا عالم الناس لولا أنك دعوت إلى مسألتك لم أقدم عليك بالمسائل ، ولقد دخلت الكوفة والبصرة والشام والجزيرة ولقيت المتكلمين فلم أقع على أحد يثبت لي واحدا ليس غيره قائما بوحدانيته ، أفتأذن لي أن أسألك ؟ قال الرضا عليه السلام : إن كان في الجماعة عمران الصابئ فأنت هو ، فقال : أنا هو ، فقال عليه السلام : سل يا عمران وعليك بالنصفة ، وإياك والخطل والجور ، قال : والله يا سيدي ما أريد إلا أن تثبت لي شيئا أتعلق به فلا أجوزه ، قال عليه السلام : سل عما بدا لك ، فازدحم عليه الناس و انضم بعضهم إلى بعض ، فقال عمران الصابئ : أخبرني عن الكائن الأول وعما خلق ، قال عليه السلام : سألت فافهم ، أما الواحد فلم يزل واحدا كائنا لا شيء معه بلا حدود ولا أعراض ولا يزال كذلك ، ثم خلق خلقا مبتدعا مختلفا بأعراض وحدود

    ---------------------------
    (1) المراد بالشاهد شعيا وحيقوق وداود الذين مرت شهادتهم.

    التوحيد _ 431 _

       مختلفة لا في شيء أقامه ولا في شيء حده ولا على شيء حذاه ولا مثله له (1) فجعل من بعد ذلك الخلق صفوة وغير صفوة واختلافا وائتلافا وألوانا وذوقا وطعما لا لحاجة كانت منه إلى ذلك ولا لفضل منزلة لم يبلغها إلا به ، ولا رأى لنفسه فيما خلق زيادة ولا نقصانا ، تعقل هذا يا عمران ؟ قال : نعم والله يا سيدي ، قال عليه السلام : واعلم يا عمران أنه لو كان خلق ما خلق لحاجة لم يخلق إلا من يستعين به على حاجته ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق لأن الأعوان كلما كثروا كان صاحبهم أقوى ، والحاجة يا عمران لا يسعها لأنه لم يحدث من الخلق شيئا إلا حدثت فيه حاجة أخرى (2) ولذلك أقول : لم يخلق الخلق لحاجة ، ولكن نقل بالخلق الحوائج بعضهم إلى بعض وفضل بعضهم على بعض بلا حاجة منه إلى من فضل ولا نقمة منه على من أذل ، فلهذا خلق (3).
       قال عمران : يا سيدي هل كان الكائن معلوما في نفسه عند نفسه ؟
       قال الرضا عليه السلام : إنما تكون المعلمة بالشيء لنفي خلافه وليكون الشيء نفسه بما نفى عنه موجودا ، ولم يكن هناك شيء يخالفه فتدعوه الحاجة إلى نفي ذلك الشيء عن نفسه بتحديد علم منها (4) أفهمت يا عمران ؟ قال : نعم والله يا سيدي ، فأخبرني بأي

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( د ) ( ولا مثله ).
    (2) أي لو كان خلق ما خلق لحاجة لا يسع الله الحاجة ولا يصل إلى نهاية في الحاجة لأنه كلما أحدث شيئا من الخلق لرفع حاجته حدثت في الله حاجة أخرى ، وذلك لأن المحتاج في أموره يحتاج في كل شيء بيده إلى أشياء غيره كما هو الشأن في الناس.
    (3) أي لحاجة بعض إلى بعض وتفضيل بعض على بعض حتى يقع المحنة التي أخبر عن كونها غاية بقوله : ( خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ ) ، وفي نسخة ( ط ) ( ولا نقمة منه على من أرذل ).
    (4) تفصيل سؤاله أنه تعالى لو كان لم يزل واحدا كائنا لا شيء معه بلا حدود ولا أعراض لم يكن عالما بذاته لأن معلومية شيء عند العالم به يستلزم صورة حاصلة منه في نفس العالم وهذا ينافي وحدته المطلقة ، والجواب أن ذلك غير لازم في علم الشيء بنفسه لأن المعلمة أي الصورة الذهنية إنما يحتاج إليها ليتعين المعلوم عن غيره عند العالم وهو يحصل بنفي الغير عنه وتحديده بحدود نفسه ، ولم يكن في علم الشيء بنفسه معلوم يخالف نفس الشيء حتى يحتاج في تعينه إلى نفي ذلك الغير بتحديد المعلوم الذي هو نفسه ، و ( من ) في قوله : ( ما علم منها ) بيانية ، والضمير يرجع إلى نفسه .

    التوحيد _ 432 _

       شيء علم ما علم أبضمير أم بغير ذلك ؟ (1) قال الرضا عليه السلام : أرأيت إذا علم بضمير هل تجد بدا من أن تجعل لذلك الضمير حدا ينتهي إليه المعرفة ؟! قال عمران :
       لا بد من ذلك (2) ، قال الرضا عليه السلام : فما ذلك الضمير ؟ فانقطع ولم يحر جوابا ، قال الرضا عليه السلام : لا بأس ، وإن سألتك عن الضمير نفسه تعرفه بضمير آخر ؟! فقال الرضا عليه السلام : أفسدت عليك قولك ودعواك يا عمران ، أليس ينبغي أن تعلم أن الواحد ليس يوصف بضمير ، وليس يقال له أكثر من فعل وعمل وصنع وليس يتوهم منه مذاهب وتجزئة كمذاهب المخلوقين وتجزئتهم (3) فاعقل ذلك وابن عليه ما علمت صوابا .

    ---------------------------
    (1) هذا سؤال عن علمه تعالى بغيره ، والمراد بالضمير هو الصورة الحاصلة من ذات المعلوم في نفس العالم ، فأفحمه عليه السلام أولا بأن لا بد في الحكم بكون علمه تعالى بالضمير من أن تعرف الضمير وتحدده ، فهل تقدر على ذلك ، فأظهر العجز ، ثم أغمض عليه السلام عن ذلك وتسلم أنك تقدر على التعريف ، فهل تعرفه بضمير آخر أم لا ، فقال : نعم أعرفه بضمير آخر ، فأثبت عليه السلام بذلك فساد دعواه وفرض كون علمه بضمير ، وبيان ذلك : أن كل علم بكل شيء لو كان بالضمير والصورة الذهنية لكان العلم بنفس الصورة أيضا بصورة ذهنية أخرى فيلزم التسلسل في الصور ولا يحصل العلم بشيء أبدا ، فالعلم بنفس الصورة الذهنية إنما هو بحضور الصورة نفسها ، فإذا أمكن أن يكون علمنا ببعض الأشياء بحضوره عند نفوسنا أمكن أن يكون علمه تعالى بالأشياء كلها بحضورها عنده ، فليكن ذلك لئلا يتوهم انثلام وحدته تعالى ، وإلى هذا أشار عليه السلام بقوله : ( يا عمران أليس ينبغي أن تعلم ـ الخ ) ، وفي نسخة ( و ) و ( ه‍ ) ( أن تعرف ـ الخ ).
    (2) في نسخة ( فقال : نعم ، قال الرضا ).
    (3) في البحار وفي نسخه ( ه‍ ) و ( ج ) و ( ب ) ( تجربة ) بالراء المهملة والباء الموحدة في الموضعين وما هنا أنسب بل المناسب ، وهذا لدفع دخل مقدر هو أنه لو كان واحدا ليس فيه جهة وجهة فكيف يصدر منه الكثير ، فأجاب عليه السلام بأن الصادر منه ليس إلا واحدا وهو فيضه الساري في الماهيات ، وليس يتصور منه جهات وأجزاء كما في الممكنات.

    التوحيد _ 433 _

       قال عمران : يا سيدي ألا تخبرني عن حدود خلقه كيف هي وما معانيها و على كم نوع يتكون ، قال عليه السلام : قد سألت فافهم ، إن حدود خلقه على ستة أنواع (1) ملموس وموزون ومنظور إليه ، وما لا وزن له (2) وهو الروح ، ومنها منظور إليه و ليس له وزن ولا لمس ولا حس ولا لون ولا ذوق ، والتقدير ، والأعراض ، والصور ، والعرض ، والطول ، ومنها العمل والحركات التي تصنع الأشياء وتعلمها (3) وتغيرها من حال إلى حال وتزيدها وتنقصها ، وأما الأعمال والحركات فإنها تنطلق لأنها لا وقت لها أكثر من قدر ما يحتاج إليه ، فإذا فرغ من الشيء انطلق بالحركة وبقي الأثر ، ويجري مجرى الكلام الذي يذهب ويبقى أثره.
       قال له عمران : يا سيدي ألا تخبرني عن الخالق إذا كان واحدا لا شيء غيره ولا شيء معه أليس قد تغير بخلقه الخلق ؟ قال الرضا عليه السلام : لم يتغير عزوجل بخلق الخلق ، ولكن الخلق يتغير بتغييره .
       قال عمران : فبأي شيء عرفناه ؟ قال عليه السلام : بغيره ، قال : فأي شيء غيره ؟
       قال الرضا عليه السلام : مشيته واسمه وصنفه وما أشبه ذلك ، وكل ذلك محدث مخلوق مدبر .
       قال عمران : يا سيدي فأي شيء هو ؟ قال عليه السلام : هو نور ، بمعنى أنه

    ---------------------------
    (1) يخطر بالبال عند اللفت إلى ستة أنواع سرد المدركات بالحواس الخمس وما لا يدرك بها كائنا ما كان ، ويمكن تطبيق المذكورات عليها ، وللعلامة المجلسي ـ رحمه الله ـ توزيع لتطبيق المذكورات على الستة.
    (2) في نسخة ( و ) و ( د ) ( وما لا ذوق له ).
    (3) بصيغة التفعيل أو الأفعال أو الثلاثي من العلامة ، وفي نسخة ( ن ) و ( ج ) ( تعملها ) فتكرير لتصنع .

    التوحيد _ 434 _

       هاد لخلقه من أهل السماء وأهل الأرض ، وليس لك علي أكثر من توحيدي إياه قال عمران : يا سيدي أليس قد كان ساكتا قبل الخلق لا ينطق ثم نطق ؟ قال الرضا عليه السلام : لا يكون السكوت إلا عن نطق قبله (1) والمثل في ذلك أنه لا يقال للسراج : هو ساكت لا ينطق ، ولا يقال : إن السراح ليضيئ فيما يريد أن يفعل بنا لأن الضوء من السراج ليس بفعل منه ولا كون ، وإنما هو ليس شيء غيره ، فلما استضاء لنا قلنا : قد أضاء لنا حتى استضأنا به ، فبهذا تستبصر أمرك (2).
       قال عمران : يا سيدي فإن الذي كان عندي أن الكائن قد تغير في فعله عن حاله بخلقه الخلق ، قال الرضا عليه السلام : أحلت يا عمران في قولك : إن الكائن يتغير في وجه من الوجوه حتى يصيب الذات منه ما يغيره ، يا عمران هل تجد النار يغيرها تغير نفسها ، أو هل تجد الحرارة تحرق نفسها ، أو هل رأيت بصيرا قط رأى بصره ؟ (3) قال عمران : لم أر هذا.
       ألا تخبرني يا سيدي أهو في الخلق أم الخلق فيه ؟ قال الرضا عليه السلام : جل يا عمران عن ذلك ، ليس هو في الخلق ولا الخلق فيه ، تعالى عن ذلك ، وسأعلمك ما تعرفه به ولا حول ولا قوة إلا بالله ، أخبرني عن المرآة أنت فيها أم هي فيك ؟!

    ---------------------------
    (1) لأنه عدم الملكة ولا يصح إلا فيما تصح ملكته ، فليس الله ساكتا ولا ناطقا بالمعنى الذي فينا حتى يلزم فيه التغير والتركيب ، كما لا يقال للسراج : أنه ساكت حين طفئه ولا أنه ناطق حين أضاءته ، وقوله : ( ولا يقال إن السراج ليضيئ فيما يريد ـ الخ ) كأنه تمثيل وبيان لقوله : ( هو نور ) حتى لا يتوهم السامع من تفسيره بالهادي أن النور كون وإحداث وراء ذاته تعالى ، بل هو هو وليس شيء غيره على ما صرح به في أحاديث الباب العاشر و ما بعده ، كما أن الضوء عين السراج لا أنه كون وإحداث وراء ذاته ، وللمجلسي ـ رحمه الله ـ في تفسير هذا الكلام غير ذلك .
    (2) في نسخة ( د ) ( يستقر أمرك ).
    (3) المراد بهذه الأمثلة بيان أن الشيء لا يتغير من قبل نفسه ولا من قبل فعله ، بل إنما يتغير بتأثير غيره ، فإذا امتنع تأثير الغير فيه امتنع تغيره .

    التوحيد _ 435 _

       فإن كان ليس واحد منكما في صاحبه فبأي شيء استدللت بها على نفسك ؟! قال عمران : بضوء بيني وبينها ، فقال الرضا عليه السلام : هل ترى من ذلك الضوء في المرآة أكثر مما تراه في عينك ؟ قال : نعم ، قال الرضا عليه السلام : فأرناه ، فلم يحر جوابا ، قال الرضا عليه السلام : فلا أرى النور إلا وقد دلك ودل المرآة على أنفسكما من غير أن يكون في واحد منكما ، ولهذا أمثال كثيرة غير هذا لا يجد الجاهل فيها مقالا ، ولله المثل الأعلى.
       ثم التفت عليه السلام إلى المأمون فقال : الصلاة قد حضرت ، فقال عمران : يا سيدي لا تقطع علي مسألتي فقد رق قلبي ، قال الرضا عليه السلام : نصلي ونعود ، فنهض ونهض المأمون : فصلى الرضا عليه السلام داخلا ، وصلى الناس خارجا خلف محمد ابن جعفر ، ثم خرجا ، فعاد الرضا عليه السلام إلى مجلسه ودعا بعمران فقال : سل يا عمران ، قال : يا سيدي ألا تخبرني عن الله عزوجل هل يوحد بحقيقة أو يوحد بوصف ؟ (1) قال الرضا عليه السلام : إن الله المبدئ الواحد الكائن الأول لم يزل واحدا لا شيء معه ، فردا لا ثاني معه ، لا معلوما ولا مجهولا ولا محكما ولا متشابها ولا مذكورا ولا منسيا ، ولا شيئا يقع عليه اسم شيء من الأشياء غيره ، ولا من وقت كان ولا إلى وقت يكون ، ولا بشيء قام ، ولا إلى شيء يقوم ، ولا إلى شيء استند ، ولا في شيء استكن وذلك كله قبل الخلق إذ لا شيء غيره (2) وما أوقعت عليه من الكل فهي صفات محدثة وترجمة يفهم بها من فهم (3).
       واعلم أن الابداع والمشية والإرادة معناها واحد وأسماؤها ثلاثة ، وكان أول إبداعه وإرادته ومشيته الحروف التي جعلها أصلا لكل شيء ودليلا على كل

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( ط ) ( هل يوجد بحقيقة أو يوجد بوصف ) من الوجدان أي هل يدرك ويعرف بها أو به ، وفي نسخه ( ج ) ( هل يوجد بحقيقة أو يوصف بوصف ).
    (2) في نسخة ( ج ) و ( ه‍ ) ( قبل خلقه الخلق ـ الخ ).
    (3) في هامش نسخة ( ط ) ( وما أوقع عليه من المثل ـ الخ ) وفي هامش نسخة ( ن ) ( وما أوقعت عليه من المثل ) وفي نسخة ( ج ) ( وما أوقعت عليه من الشكل

    التوحيد _ 436 _

       مدرك وفاصلا لكل مشكل ، وتلك الحروف تفريق كل شيء (1) من اسم حق وباطل أو فعل أو مفعول أو معنى أو غير معنى ، وعليها اجتمعت الأمور كلها ، ولم يجعل للحروف في إبداعه لها معنى غير أنفسها يتناهى ولا جود (2) لأنها مبدعة بالإبداع ، و النور في هذا الموضع أول فعل الله الذي هو نور السماوات والأرض ، والحروف هي المفعول بذلك الفعل ، وهي الحروف التي عليها الكلام والعبارات كلها من الله عزوجل ، علمها خلقه ، وهي ثلاثة وثلاثون حرفا ، فمنها ثمانية وعشرون حرفا تدل على اللغات العربية ، ومن الثمانية والعشرين اثنان وعشرون حرفا (3) تدل على اللغات السريانية والعبرانية. ومنها خمسة أحرف متحرفة في سائر اللغات من العجم لأقاليم اللغات كلها ، وهي خمسة أحرف تحرفت من الثمانية والعشرين الحرف من اللغات (4) فصارت الحروف ثلاثة وثلاثين حرفا ، فأما الخمسة المختلفة فبحجج (5) لا يجوز ذكرها أكثر مما ذكرناه ، ثم جعل الحروف بعد إحصائها (6) وإحكام عدتها فعلا منه كقوله عزوجل : ( كن فيكون ) وكن منه صنع ، وما يكون به المصنوع ، فالخلق الأول من الله عزوجل الابداع لا وزن له ولا حركة ولا سمع ولا لون ولا حس ، والخلق الثاني الحروف لا وزن لها ولا لون ، وهي مسموعة

    ---------------------------
    (1) في البحار وفي نسخة ( و ) ( وبتلك الحروف تفريق كل شيء ) وفي نسخة ( ج ) ( وتلك الحروف تفرق كل معنى ) وفي نسخة ( ط ) ( وتلك الحروف تفريق كل معين ) و في نسخة ( ه‍ ) ( وتلك الحروف تعريف كل شيء ) وفي هامشه : ( تعرف كل شيء ).
    (2) قوله : ( يتناهى ) صفه لمعنى ، وقوله : ( ولا وجود ) عطف على معنى ، وفي البحار : ( ولا وجود لها لأنها ـ الخ ).
    (3) حروف الهجاء قد تعد ثمانية وعشرين بعد الألف والهمزة واحدة كما هنا ، و قد تعد تسعه وعشرين بعدهما اثنتين كما في الباب الثاني والثلاثين.
    (4) في نسخة ( ج ) ( من الثمانية والعشرين حرفا )
    (5) في البحار وفي نسخة ( و ) ( فحجج ).
    (6) في نسخة ( د ) وحاشية نسخه ( ب ) ( بعد اختصاصها ).

    التوحيد _ 437 _

       موصوفة غير منظور إليها ، والخلق الثالث ما كان من الأنواع كلها محسوسا ملموسا ذا ذوق منظورا إليه ، والله تبارك وتعالى سابق للإبداع لأنه ليس قبله عزوجل شيء ولا كان معه شيء ، والإبداع سابق للحروف ، والحروف لا تدل على غير أنفسها قال المأمون : وكيف لا تدل على غير أنفسها ؟ قال الرضا عليه السلام : لأن الله تبارك و تعالى لا يجمع منها شيئا لغير معنى أبدا ، فإذا ألف منها أحرفا أربعة أو خمسه أو ستة أو أكثر من ذلك أو أقل لم يؤلفها لغير معنى ولم يك إلا لمعنى محدث لم يكن قبل ذلك شيئا. قال عمران : فكيف لنا بمعرفة ذلك ؟ قال الرضا عليه السلام : أما المعرفة فوجه ذلك وبابه أنك تذكر الحروف (1) إذا لم ترد بها غير أنفسها ذكرتها فردا فقلت : ا ب ت ث ج ح خ حتى تأتي على آخرها فلم تجد لها معنى غير أنفسها ، فإذا ألفتها وجمعت منها أحرفا وجعلتها اسما وصفة لمعنى ما طلبت ووجه ما عنيت كانت دليلة على معانيها داعية إلى الموصوف بها ، أفهمته ؟ قال : نعم.
       قال الرضا عليه السلام : واعلم أنه لا يكون صفة لغير موصوف ولا اسم لغير معنى ولا حد لغير محدود ، والصفات والأسماء كلها تدل على الكمال والوجود ، ولا تدل على الإحاطة كما تدل على الحدود التي هي التربيع والتثليث والتسديس لأن الله عزوجل وتقدس تدرك معرفته بالصفات والأسماء ، ولا تدرك بالتحديد بالطول و العرض والقلة والكثرة واللون والوزن وما أشبه ذلك ، وليس يحل بالله جل و تقدس شيء من ذلك حتى يعرفه خلقه بمعرفتهم أنفسهم بالضرورة التي ذكرنا (2) ولكن يدل على الله عزوجل بصفاته ويدرك بأسمائه ويستدل عليه بخلقه حتى لا يحتاج في ذلك الطالب المرتاد إلى رؤية عين ولا استماع أذن ولا لمس كف ولا إحاطة بقلب ، فلو كانت صفاته جل ثناؤه لا تدل عليه وأسماؤه لا تدعو إليه والمعلمة من الخلق لا تدركه لمعناه (3) كانت العبادة من الخلق لأسمائه وصفاته دون معناه ، فلولا

    ---------------------------
    (1) في البحار وفي نسخة ( ج ) و ( ه‍ ) ( وبيانه أنك تذكر الحروف ).
    (2) في نسخة ( ج ) ( بالصورة التي ذكرنا ).
    (3) في نسخه ( و ) ( لا تذكر بمعناه ).

    التوحيد _ 438 _

       أن ذلك كذلك لكان المعبود الموحد غير الله تعالى لأن صفاته وأسماءه غيره ، أفهمت ؟
       قال : نعم يا سيدي زدني.
       قال الرضا عليه السلام : إياك وقول الجهال أهل العمى والضلال الذين يزعمون أن الله عزوجل وتقدس موجود في الآخرة للحساب والثواب والعقاب ، وليس بموجود في الدنيا للطاعة والرجاء ، ولو كان في الوجود لله عزوجل نقص و اهتضام لم يوجد في الآخرة أبدا ، ولكن القوم تاهوا وعموا وصموا عن الحق من حيث لا يعلمون ، وذلك قوله عزوجل : ( وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ) (1) يعني أعمى عن الحقائق الموجودة ، وقد علم ذووا الألباب أن الاستدلال على ما هناك لا يكون إلا بما ههنا ، ومن أخذ علم ذلك برأيه وطلب وجوده وإدراكه عن نفسه دون غيرها لم يزدد من علم ذلك إلا بعدا لأن الله عزوجل جعل علم ذلك خاصة عند قوم يعقلون ويعلمون ويفهمون .
       قال عمران : يا سيدي ألا تخبرني عن الابداع خلق هو أم غير خلق ؟ قال الرضا عليه السلام : بل خلق ساكن لا يدرك بالسكون وإنما صار خلقا لأنه شيء محدث ، والله الذي أحدثه فصار خلقا له ، وإنما هو الله عزوجل وخلقه لا ثالث بينهما ولا ثالث غيرهما ، فما خلق الله عزوجل لم يعد أن يكون خلقه ، وقد يكون الخلق ساكنا ومتحركا ومختلفا ومؤتلفا ومعلوما ومتشابها ، وكل ما وقع عليه حد فهو خلق الله عزوجل .
       واعلم أن كل ما أوجدتك الحواس فهو معنى مدرك للحواس (2) وكل حاسة تدل على ما جعل الله عزوجل لها في إدراكها ، والفهم من القلب بجميع ذلك كله (3).
       واعلم أن الواحد الذي هو قائم بغير تقدير ولا تحديد خلق خلقا مقدرا بتحديد وتقدير ، وكان الذي خلق خلقين اثنين التقدير والمقدر ، فليس في كل

    ---------------------------
    (1) الإسراء : 72.
    (2) قوله : ( أوجدتك ) أي أفادتك.
    (3) في نسخة ( ط ) ( يجمع ذلك كله ).

    التوحيد _ 439 _

       واحد منهما لون ولا ذوق ولا وزن (1) فجعل أحدهما يدرك بالآخر ، وجعلهما مدركين بأنفسهما ، ولم يخلق شيئا فردا قائما بنفسه دون غيره للذي أراد من الدلالة على نفسه وإثبات وجوده (2) والله تبارك وتعالى (3) فرد واحد لا ثاني معه يقيمه ولا يعضده ولا يمسكه (4) والخلق يمسك بعضه بعضا بإذن الله ومشيته ، وإنما اختلف الناس في هذا الباب حتى تاهوا وتحيروا وطلبوا الخلاص من الظلمة بالظلمة في وصفهم الله بصفة أنفسهم فازدادوا من الحق بعدا ، ولو وصفوا الله عزوجل بصفاته ووصفوا المخلوقين بصفاتهم لقالوا بالفهم واليقين ولما اختلفوا ، فلما طلبوا من ذلك ما تحيروا فيه ارتبكوا (5) والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
       قال عمران : يا سيدي أشهد أنه كما وصفت ، ولكن بقيت لي مسألة ، قال : سل عما أردت ، قال : أسألك عن الحكيم في أي شيء هو ، وهل يحيط به شيء ، وهل يتحول من شيء إلى شيء ، أوبه حاجة إلى شيء ؟ قال الرضا عليه السلام : أخبرك يا عمران فاعقل ما سألت عنه فإنه من أغمض ما يرد على المخلوقين في مسائلهم ، وليس يفهمه المتفاوت عقله ، العازب علمه (6) ولا يعجز عن فهمه أولوا العقل المنصفون ، أما أول ذلك فلو كان خلق ما خلق لحاجة منه لجاز لقائل أن يقول : يتحول إلى ما خلق لحاجته إلى ذلك ولكنه عزوجل لم يخلق شيئا لحاجته (7) ولم يزل

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( ه‍ ) ( فليس في أحد منهما ـ الخ ) وفي نسخة ( ن ) ( وليس في كل واحد منهما ـ الخ ) وفي البحار : ( وليس في واحد منهما ـ الخ ).
    (2) في نسخة ( ب ) و ( د ) ( الذي أراد ـ الخ ).
    (3) في نسخة ( ن ) ( فالله تبارك وتعالى ).
    (4) في البحار وفي نسخة ( ه‍ ) و ( د ) و ( ب ) و ( و ) ( ولا يعضده ولا يكنه ).
    (5) ارتبك في الكلام : تتعتع ، والصيد في الحبالة : اضطرب فيها ، وفي الأمر : وقع فيه ولم يكد يتخلص منه ، وفي نسخة ( ن ) و ( د ) و ( ط ) و ( و ) ( ارتكبوا ) أي ارتكبوا ما ليس بحق .
    (6) في البحار وفي نسخة ( د ) و ( ب ) و ( و ) ( العازب حلمه ) وفي حاشية نسخة ( ط ) ( العازب حكمه ).
    (7) في البحار وفي نسخة ( و ) و ( ب ) و ( د ) ( لحاجة ).

    التوحيد _ 440 _

       ثابتا لا في شيء ولا على شيء إلا أن الخلق يمسك بعضه بعضا ويدخل بعضه في بعض ويخرج منه ، والله عزوجل وتقدس بقدرته يمسك ذلك كله يدخل في شيء ولا يخرج منه ولا يؤوده حفظه ولا يعجز عن إمساكه ، ولا يعرف أحد من الخلق كيف ذلك إلا الله عزوجل ومن أطلعه عليه من رسله وأهل سره والمستحفظين لأمره وخزانه القائمين بشريعته ، وإنما أمره كلمح البصر أو هو أقرب (1) إذا شاء شيئا فإنما يقول له : كن ، فيكون بمشيته وإرادته ، وليس شيء من خلقه أقرب إليه من شيء ، ولا شيء منه هو أبعد منه من شيء (2) أفهمت يا عمران ؟ قال : نعم يا سيدي قد فهمت وأشهد أن الله على ما وصفته ووحدته ، وأن محمدا عبده المبعوث بالهدى ودين الحق ، ثم خر ساجدا نحوا القبلة وأسلم.
       قال الحسن بن محمد النوفلي : فلما نظر المتكلمون إلى كلام عمران الصابئ وكان جدلا لم يقطعه عن حجته أحد قط لم يدن من الرضا عليه السلام أحد منهم ولم يسألوه عن شيء ، وأمسينا فنهض المأمون والرضا عليه السلام فدخلا وانصرف الناس ، و كنت مع جماعة من أصحابنا إذ بعث إلي محمد بن جعفر فأتيته ، فقال لي : يا نوفلي أما رأيت ما جاء به صديقك ، لا والله ما ظننت أن علي بن موسى خاض في شيء من هذا قط ، ولا عرفناه به أنه كان يتكلم بالمدينة أو يجتمع إلى أصحاب الكلام ، قلت ، قد كان الحاج يأتونه فيسألونه عن أشياء من حلالهم وحرامهم فيجيبهم ، و كلمه من يأتيه لحاجة (3) فقال محمد بن جعفر : يا أبا محمد إني أخاف عليه أن يحسده هذا الرجل فيسمه أو يفعل به بلية ، فشر عليه بالإمساك عن هذه الأشياء ، قلت :

    ---------------------------
    (1) في البحار وفي نسخة ( و ) و ( ب ) و ( ن ) ( كلمح بالبصر ـ الخ ).
    (2) في البحار وفي نسخة ( ج ) و ( ب ) و ( د ) ( ولا شيء أبعد منه من شيء ) ، وفي نسخة ( و ) و ( ه‍ ) ( ولا شيء هو أبعد منه من شيء ).
    (3) في نسخة ( ه‍ ) و ( ج ) ( بحاجة ) وفي نسخة ( و ) ( لحاجته ) وفي البحار : ( و ربما كلم من يأتيه يحاجه ) وفي نسخة ( ب ) و ( د ) ( وربما كلم من يأتيه لحاجة ).

    التوحيد _ 441 _

       إذا لا يقبل مني (1) وما أراد الرجل إلا امتحانه ليعلم هل عنده شيء من علوم آبائه عليهم السلام فقال لي : قل له : إن عمك قد كره هذا الباب وأحب أن تمسك عن هذه الأشياء لخصال شتى ، فلما انقلبت إلى منزل الرضا عليه السلام أخبرته بما كان من عمه محمد بن جعفر فتبسم ، ثم قال : حفظ الله عمي ما أعرفني به لم كره ذلك ، يا غلام صر إلى عمران الصابئ فأتني به ، فقلت : جعلت فداك أنا أعرف موضعه هو عند بعض إخواننا من الشيعة ، قال عليه السلام : فلا بأس قربوا إليه دابة ، فصرت إلى عمران فأتيته به فرحب به ودعا بكسوة فخلعها عليه وحمله (2) ودعا بعشرة آلاف درهم فوصله بها ، فقلت : جعلت فداك حكيت فعل جدك أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال :
       هكذا نحب (3) ثم دعا عليه السلام بالعشاء فأجلسني عن يمينه وأجلس عمران عن يساره حتى إذا فرغنا قال لعمران : انصرف مصاحبا وبكر علينا نطعمك طعام المدينة ، فكان عمران بعد ذلك يجتمع عليه المتكلمون من أصحاب المقالات فيبطل أمرهم حتى اجتنبوه ، ووصله المأمون بعشرة آلاف درهم ، وأعطاه الفضل مالا وحمله ، و ولاه الرضا عليه السلام صدقات بلخ فأصاب الرغائب.

    66 ـ باب ذكر مجلس الرضا عليه السلام مع سليمان المروزي متكلم خراسان عند المأمون في التوحيد

      1 ـ حدثنا أبو محمد جعفر بن علي بن أحمد الفقيه رضي الله عنه ، قال : أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن علي بن صدقة القمي ، قال : حدثني أبو عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الأنصاري الكجي ، قال : حدثني من سمع الحسن بن محمد النوفلي يقول : قدم سليمان المروزي متكلم خراسان على المأمون فأكرمه ووصله

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( د ) و ( ه‍ ) ( إذ لا يقبل مني ) أي إذ لا يقبل مني فما أصنع ؟ أو المعنى : لا أشير عليه بذلك إذ لا يقبل مني ، وعدم التصريح بالمعلول للتأدب.
    (2) في نسخة ( ب ) و ( د ) و ( ج ) و ( ن ) ( فجعلها عليه ـ الخ ).
    (3) في البحار وفي نسخة ( و ) و ( ج ) ( هكذا يجب ).

    التوحيد _ 442 _

       ثم قال له : إن ابن عمي علي بن موسى قدم علي من الحجاز (1) وهو يحب الكلام وأصحابه ، فلا عليك أن تصير إلينا يوم التروية لمناظرته ، فقال سليمان : يا أمير المؤمنين إني أكره أن أسأل مثله في مجلسك في جماعة من بني هاشم فينتقص عند القوم إذا كلمني (2) ولا يجوز الاستقصاء عليه ، قال المأمون : إنما وجهت إليك لمعرفتي بقوتك وليس مرادي إلا أن تقطعه عن حجة واحدة فقط : فقال سليمان : حسبك يا أمير المؤمنين.
       اجمع بيني وبينه وخلني وإياه وألزم (3) فوجه المأمون إلى الرضا عليه السلام فقال : إنه قدم علينا رجل من أهل مرو وهو واحد خراسان من أصحاب الكلام ، فإن خف عليك أن تتجشم المصير إلينا فعلت ، فنهض عليه السلام للوضوء وقال لنا : تقدموني وعمران الصابئ معنا فصرنا إلى الباب فأخذ ياسر وخالد بيدي فأدخلاني على المأمون ، فلما سلمت قال : أين أخي أبو الحسن أبقاه الله ، قلت : خلفته يلبس ثيابه وأمرنا أن نتقدم ، ثم قلت : يا أمير المؤمنين إن عمران مولاك .
       معي وهو بالباب ، فقال : من عمران ؟ قلت : الصابئ الذي أسلم على يديك (4) قال : فليدخل فدخل فرحب به المأمون ، ثم قال له : يا عمران لم تمت حتى صرت من بني هاشم ، قال : الحمد لله الذي شرفني بكم يا أمير المؤمنين ، فقال له المأمون : يا عمران هذا سليمان المروزي متكلم خراسان ، قال عمران : يا أمير المؤمنين إنه يزعم أنه واحد خراسان في النظر وينكر البداء ، قال : فلم لا تناظره ؟ قال عمران : ذلك إليه ، فدخل الرضا عليه السلام فقال : في أي شيء كنتم ؟ قال عمران : يا ابن رسول الله هذا سليمان المروزي ، فقال سليمان : أترضى بأبي الحسن وبقوله فيه ؟ قال عمران : قد رضيت بقول أبي الحسن في البداء على أن يأتيني فيه بحجة أحتج بها

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( ه‍ ) و ( ج ) ( قدم من الحجاز ).
    (2) في نسخة ( ج ) ( فينقص ) ـ الخ ) وفي نسخة ( د ) ( فينتقض ) بالمعجمة.
    (3) في البحار وفي نسخة ( ج ) ( وخلني والذم ) ، وفي نسخه ( د ) و ( ب ) ( وخلني وإياه ).
    (4) في نسخة ( ط ) و ( ن ) ( الذي كان أسلم ـ الخ ).

    التوحيد _ 443 _

       على نظرائي من أهل النظر.
       قال المأمون : يا أبا الحسن ما تقول فيما تشاجرا فيه ؟ قال : وما أنكرت من البداء يا سليمان ، والله عزوجل يقول : ( أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ) (1) ويقول عزوجل : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) (2) و يقول : ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (3) ويقول عزوجل : ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء ) (4) ويقول : ( وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ) (5) ويقول عزوجل : ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) (6) ويقول عزوجل : ( وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ ) (7) قال سليمان : هل رويت فيه شيئا عن آبائك ؟ قال : نعم ، رويت عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال : ( إن الله عزوجل علمين : علما مخزونا مكنونا لا يعلمه إلا هو ، من ذلك يكون البداء ، و علما علمه ملائكته ورسله ، فالعلماء من أهل بيت نبيه يعلمونه ) (8) قال سليمان : أحب أن تنزعه لي من كناب الله عزوجل ، قال عليه السلام : قول الله عزوجل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم : ( فتول عنهم فما أنت بملوم ) (9) أراد هلاكهم ثم بدا لله فقال : ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) (10) قال سليمان : زدني جعلت فداك ، قال الرضا عليه السلام : لقد أخبرني أبي عن آبائه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله عزوجل أوحى إلى نبي من أنبيائه : أن أخبر فلان الملك أني متوفيه إلى كذا وكذا ، فأتاه ذلك النبي فأخبره ، فدعا الله الملك وهو على سريره حتى سقط من السرير ، فقال : يا

    ---------------------------
    (1) مريم : 67.
    (2) الروم : 27.
    (3) البقرة : 117 ، والأنعام : 101.
    (4) فاطر : 1.
    (5) السجدة : 7.
    (6) التوبة : 106.
    (7) فاطر : 11.
    (8) في البحار وفي نسخه ( ب ) و ( د ) و ( و ) ( فالعلماء من أهل بيت نبيك يعلمونه ). وفي حاشية نسخه ( ب ) ( والعلماء من أهل ـ الخ ).
    (9) الذاريات : 54.
    (10) الذاريات : 55.

    التوحيد _ 444 _

       رب أجلني حتى يشب طفلي وأقضي أمري ، فأوحى الله عزوجل إلى ذلك النبي أن ائت فلان الملك (1) فأعلمه أني قد أنسيت في أجله وزدت في عمره خمس عشرة سنة ، فقال ذلك النبي : يا رب إنك لتعلم أني لم أكذب قط ، فأوحى الله عزوجل إليه : إنما أنت عبد مأمور فأبلغه ذلك ، والله لا يسأل عما يفعل (2).
       ثم التفت إلى سليمان فقال : أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب ، قال : أعوذ بالله من ذلك ، وما قالت اليهود ؟ قال : قالت : ( يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ) يعنون أن الله قد فرغ من الأمر فليس يحدث شيئا ، فقال الله عزوجل : ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ ) (3) ولقد سمعت قوما سألوا أبي موسى بن جعفر عليهما السلام ، عن البداء فقال : و ما ينكر الناس من البداء وأن يقف الله قوما يرجيهم لأمره (4) ؟ قال سليمان : ألا تخبرني عن ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) في أي شيء أنزلت ؟ قال الرضا : يا سليمان ليلة القدر يقدر الله عزوجل فيها ما يكون من السنة إلى السنة من حياة أو موت أو خير أو شر أو رزق ، فما قدره من تلك الليلة فهو من المحتوم ، قال سليمان : ألآن قد فهمت جعلت فداك فزدني ، قال عليه السلام : يا سليمان إن من الأمور أمورا موقوفة عند الله تبارك وتعالى يقدم منها ما يشاء ويؤخر ما يشاء ، يا سليمان إن عليا عليه السلام كان يقول : العلم علمان : فعلم علمه الله وملائكته ورسله ، فما علمه ملائكته ورسله فإنه يكون ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله ، وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه (5) يقدم منه ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ، قال سليمان للمأمون : يا أمير المؤمنين لا أنكر بعد يومي هذا

    ---------------------------
    (1) هكذا في النسخ في الموضعين ، ولا يبعد أن يكون بإضافة فلان إلى الملك.
    (2) في نسخة ( ب ) و ( د ) ( وأنه لا يسأل عما يفعل ).
    (3) المائدة : 64.
    (4) في نسخة ( ط ) و ( ن ) و ( ج ) ( وأن الله ليقف قوما ـ الخ ) وفي نسخة ( و ) ( و أن الله يصف ـ الخ ).
    (5) في نسخة ( ط ) و ( ن ) و ( ج ) و ( و ) ( لم يطلع عليه أحد من خلقه ).

    التوحيد _ 445 _

       البداء ولا كذب به إن شاء الله (1).
       فقال المأمون : يا سليمان سل أبا الحسن عما بدا لك وعليك بحسن الاستماع والإنصاف ، قال سليمان : يا سيدي أسألك ؟ قال الرضا عليه السلام : سل عما بدا لك قال : ما تقول فيمن جعل الإرادة اسما وصفة مثل حي وسميع وبصير وقدير ؟
       قال الرضا عليه السلام : إنما قلتم حدثت الأشياء واختلفت لأنه شاء وأراد ، ولم تقولوا حدثت واختلفت لأنه سميع بصير ، فهذا دليل على أنها ليست بمثل سميع بصير ولا قدير ، قال سليمان : فإنه لم يزل مريدا ، قال : يا سليمان فإرادته غيره ؟ قال : نعم ، قال : فقد أثبت معه شيئا غيره لم يزل ، قال سليمان : ما أثبت ، قال الرضا عليه السلام : أهي محدثة ؟ قال سليمان : لا ما هي محدثة ، فصاح به المأمون وقال : يا سليمان مثله يعايا أو يكابر ، عليك بالإنصاف أما ترى من حولك من أهل النظر ، ثم قال : كلمه يا أبا الحسن فإنه متكلم خراسان ، فأعاد عليه المسألة فقال : هي محدثة يا سليمان فإن الشيء إذا لم يكن أزليا كان محدثا وإذا لم يكن محدثا كان أزليا ، قال سليمان : إرادته منه كما أن سمعه منه وبصره منه وعلمه منه ، قال الرضا عليه السلام : فإرادته نفسه ؟! قال : لا ، قال عليه السلام : فليس المريد مثل السميع و البصير ، قال سليمان : إنما أراد نفسه كما سمع نفسه وأبصر نفسه وعلم نفسه ، قال الرضا عليه السلام : ما معنى أراد نفسه أراد أن يكون شيئا أو أراد أن يكون حيا أو سميعا أو بصيرا أو قديرا ؟!
       قال : نعم ، قال الرضا عليه السلام : أفبإرادته كان ذلك ؟!
       قال سليمان : لا ، قال الرضا عليه السلام : فليس لقولك : أراد أن يكون حيا سميعا بصيرا معنى إذا لم يكن ذلك بإرادته ، قال سليمان : بلى قد كان ذلك بإرادته ، فضحك المأمون ومن حوله وضحك الرضا عليه السلام ، ثم قال لهم : ارفقوا بمتكلم خراسان يا سليمان فقد حال عندكم عن حالة وتغير عنها (2) وهذا مما لا يوصف الله عزوجل

    ---------------------------
    (1) قد مر بعض الكلام في البداء في الباب الرابع والخمسين.
    (2) أي لو كان ذلك أي كونه سميعا بصيرا قديرا بإرادته لتحول وتغير في هذه الصفات لأن إرادته يمكن أن تتعلق بها كسائر الأمور ، وفي البحار وفي نسخة ( و ) و ( ن ) و ( د ) ( عن حاله وتغير عنها ).

    التوحيد _ 446 _

       به ، فانقطع.
       ثم قال الرضا عليه السلام : يا سليمان أسألك مسألة ، قال : سل جعلت فداك قال : أخبرني عنك وعن أصحابك تكلمون الناس بما يفقهون ويعرفون أو بما لا يفقهون ولا يعرفون ؟! قال : بل بما يفقهون ويعرفون (1) قال الرضا عليه السلام : فالذي يعلم الناس أن المريد غير الإرادة وأن المريد قبل الإرادة وأن الفاعل قبل المفعول وهذا يبطل قولكم : إن الإرادة والمريد شيء واحد ، قال : جعلت فداك ليس ذاك منه على ما يعرف الناس ولا على ما يفقهون ، قال عليه السلام : فأراكم ادعيتم علم ذلك بلا معرفة ، وقلتم : الإرادة كالسمع والبصر (2) إذا كان ذلك عندكم على ما لا يعرف ولا يعقل ، فلم يحر جوابا .
       ثم قال الرضا عليه السلام : يا سليمان هل يعلم الله عزوجل جميع ما في الجنة والنار ؟!
       قال سليمان : نعم ، قال : أفيكون ما علم الله عزوجل أنه يكون من ذلك ؟! (3) قال : نعم ، قال : فإذا كان حتى لا يبقى منه شيء إلا كان أيزيدهم أو يطويه عنهم ؟! قال سليمان : بل يزيدهم ، قال : فأراه في قولك : قد زادهم ما لم يكن في علمه أنه يكون (4) قال : جعلت فداك والمزيد لا غاية

    ---------------------------
    (1) في البحار وفي نسخة ( ج ) ( تكلمون الناس بما تفقهون وتعرفون أو بما لا تفقهون ولا تعرفون ، قال : بل بما نفقه ونعلم ). وفي نسخة ( ه ) ( تكلمون الناس بما يفقهون و يعرفون أو بما لا يفقهون ولا يعرفون ، قال : بل يفقهون ونفقه وما يعلمون ونعلم ).
       وفي نسخة ( ب ) و ( د ) و ( ط ) و ( ن ) وحاشية نسخة ( ه‍ ) بصيغة الغائب في السؤال وبصيغة المتكلم مع الغير فقط في الجواب.
    (2) في نسخة ( و ) و ( ه‍ ) ( وقلتم : الإرادة كالسميع والبصير ، أكان ذلك عندكم ـ الخ ) وفي نسخه ( ج ) ( وقلتم : الإرادة كالسمع والبصر ، كان ذلك عندكم ـ الخ ).
    (3) في البحار وفي نسخه ( ج ) ( قال : فيكون ما علم الله عزوجل ـ الخ ).
    (4) قوله عليه السلام : ( أنه يكون ) مبتدء مؤخر ، والضمير يرجع إلى ما لم يكن ، و ( في علمه ) خبر له مقدم ، والجملة مفعول ثان لقوله : ( فأراه ) أي فأراه أن ما لم يكن يكون في علمه على قولك : أنه يزيدهم ما لم يكن ، فعلمه المتعلق الآن بما لم يكن غير الإرادة لأنها لم تتعلق به بعد .

    التوحيد _ 447 _

       له (1) قال عليه السلام : فليس يحيط علمه عندكم بما يكون فيهما إذا لم يعرف غاية ذلك ، و إذا لم يحط علمه بما يكون فيهما لم يعلم ما يكون فيهما قبل أن يكون ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، قال سليمان : إنما قلت : لا يعلمه لأنه لا غاية لهذا لأن الله عزوجل وصفهما بالخلود وكرهنا أن نجعل لهما انقطاعا ، قال الرضا عليه السلام : ليس علمه بذلك بموجب لانقطاعه عنهم لأنه قد يعلم ذلك ثم يزيدهم ثم لا يقطعه عنهم ، و كذلك قال الله عزوجل في كتابه : ( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ ) (2) وقال عزوجل لأهل الجنة : ( عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) (3) وقال عزوجل : ( وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ ) (4) فهو عزوجل يعلم ذلك ولا يقطع عنهم الزيادة ، أرأيت ما أكل أهل الجنة وما شربوا أليس يخلف مكانه ؟!
       قال بلى ، قال : أفيكون يقطع ذلك عنهم وقد أخلف مكانه ؟! قال سليمان : لا ، قال : فكذلك كل ما يكون فيها (5) إذا أخلف مكانه فليس بمقطوع عنهم ، قال سليمان بل يقطعه عنهم فلا يزيدهم (6) قال الرضا عليه السلام : إذا يبيد ما فيهما ، و هذا يا سليمان إبطال الخلود وخلاف الكتاب لأن الله عزوجل يقول : ( لَهُم مَّا

    ---------------------------
    (1) في البحار وفي نسخة ( د ) و ( ب ) ( فالمزيد لا غاية له ) وهذا أنسب لإفادة التفريغ والتعليل ، كأنه على زعمه قال : كما أن إرادته لا تتعلق الآن بالمزيد في الدار الآخرة لا يتعلق علمه به لأن المزيد لا غاية له وغير المتناهي لا يكون معلوما ، فرد عليه بتنزيهه تعالى عن عدم العلم به وإن كان غير متناه .
    (2) النساء : 56.
    (3) هود : 108.
    (4) الواقعة. 33.
    (5) أي فكالجنة كل ما في النار.
    (6) في البحار وفي نسخة ( ب ) و ( ج ) ( ولا يزيدهم ) وفي نسخة ( و ) ( بلى يقطعه عنهم فلا يزيدهم ).

    التوحيد _ 448 _

       يشاؤون فيها ولدينا مزيد ) (1) ويقول عزوجل : ( عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) ويقول عزوجل : ( وما هم منها بمخرجين ) (2) ويقول عزوجل : ( خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ) (3) ويقول عزوجل : ( وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ ) فلم يحر جوابا .
       ثم قال الرضا عليه السلام : يا سليمان ألا تخبرني عن الإرادة فعل هي أم غير فعل ؟
       قال : بل هي فعل ، قال : فهي محدثة لأن الفعل كله محدث ، قال : ليست بفعل ، قال : فمعه غيره لم يزل ، قال سليمان : الإرادة هي الانشاء ، قال : يا سليمان هذا الذي ادعيتموه (4) على ضرار وأصحابه (5) من قولهم : إن كل ما خلق الله عزوجل في سماء أو أرض أو بحر أو بر من كلب أو خنزير أو قرد أو إنسان أو دابة إرادة الله عزوجل وإن إرادة الله عزوجل تحيي وتموت وتذهب وتأكل وتشرب وتنكح وتلد (6) وتظلم وتفعل الفواحش وتكفر ، وتشرك ، فتبراء منها وتعاديها و هذا حدها (7).
       قال سليمان : إنها كالسمع والبصر والعلم ، قال الرضا عليه السلام : قد رجعت إلى هذا ثانية ، فأخبرني عن السمع والبصر والعلم أمصنوع ؟ قال سليمان : لا ، قال الرضا عليه السلام : فكيف نفيتموه (8) فمرة قلتم لم يرد ومرة قلتم أراد ، وليست

    ---------------------------
    (1) ق : 35.
    (2) الحجر : 48.
    (3) في أحد عشر موضعا من القرآن.
    (4) في نسخة ( ه‍ ) ( عيبتموه ) وفي البحار : ( عبتموه ).
    (5) هو ضرار بن عمرو ، وهم من الجبرية ، لكن وافقوا المعتزلة في أشياء ، واختصموا بأشياء منكرة .
    (6) في نسخة ( و ) و ( ط ) و ( ن ) ( تلذ ) بالذال المعجمة المشددة.
    (7) أي فتبرء من الإرادة بالمعنى الذي ذهب إليه ضرار وتعاديها مع أن هذا الذي ذهبت إليه من أن الإرادة هي الانشاء حد الإرادة بالمعنى الذي ذهب إليه ضرار ، وفي البحار بصيغة المتكلم مع الغير في الفعلين ، وفي نسخة ( و ) و ( ط ) و ( ج ) ( تفارقها ) مكان ( تعاديها ).
    (8) في هامش نسخة ( و ) ( فكيف نعتموه ) والضمير المنصوب يرجع حينئذ إليه تعالى ، وهذا أصح ، وعلى سائر النسخ فالضمير يرجع إلى الإرادة وتذكيره باعتبار المعنى.

    التوحيد _ 449 _

       بمفعول له ؟! قال سليمان : إنما ذلك كقولنا مرة علم ومرة لم يعلم (1) قال الرضا عليه السلام : ليس ذلك سواء لأن نفي المعلوم ليس بنفي العلم ، ونفي المراد نفي الإرادة أن تكون ، لأن الشيء إذا لم يكن إرادة (2) وقد يكون العلم ثابتا وإن لم يكن المعلوم ، بمنزلة البصر فقد يكون الإنسان بصيرا وإن لم يكن المبصر ، ويكون العلم ثابتا وإن لم يكن المعلوم (3) ، قال سليمان : إنها مصنوعة ، قال عليه السلام : فهي محدثة ليست كالسمع والبصر لأن السمع والبصر ليسا بمصنوعين وهذه مصنوعة ، قال سليمان : إنها صفة من صفاته لم تزل ، قال : فينبغي أن يكون الإنسان لم يزل لأن صفته لم تزل ، قال سليمان : لا لأنه لم يفعلها ، قال الرضا عليه السلام : يا خراساني ما أكثر غلطك ، أفليس بإرادته وقوله تكون الأشياء ؟! (4)
       قال سليمان : لا ، قال : فإذا لم يكن بإرادته ولا مشيته ولا أمره ولا المباشرة فكيف يكون ذلك ؟! تعالى الله عن ذلك ، فلم يحر جوابا (5).
       ثم قال الرضا عليه السلام : ألا تخبرني عن قول الله عزوجل : ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ) (6) يعني بذلك أنه يحدث إرادة ؟! قال له :

    ---------------------------
    (1) أي مرة وقع علمه على المعلوم الموجود ، ومرة لم يقع علمه على المعلوم لكونه غير موجود ، ومر نظير هذا في الحديث الأول من الباب الحادي عشر.
    (2) في نسخة ( و ) و ( ب ) و ( د ) ( لم تكن الإرادة ).
    (3) ( لم يكن ) في المواضع الأربعة تامة ، وقوله : ( بمنزلة البصر ) خبر لمبتدأ محذوف ، أي العلم بمنزلة البصر.
    (4) في نسخة ( ه‍ ) ( أليس بإرادته وقوله تكوين الأشياء ).
    (5) إيضاح الكلام أنه عليه السلام ألزمه على كونه الإرادة أزلية كون الإنسان مثلا أزليا لأن صفته أي إرادته التي بها خلق الإنسان أزلية ، فأجاب سليمان بأنه لا يلزم ذلك لأنه فعل الإنسان فهو حادث ولم يفعل الإرادة فهي أزلية ، فرده عليه السلام بأن هذا غلط كسائر أغلاطك لأن تكون الأشياء إنما هو بإرادته ولا تتخلف عن المراد بشهادة العقل والآية ، فكابر سليمان فقال : لا يكون بإرادته ، فأفحمه بما قال عليه السلام.
       فلم يحر جوابا.
    (6) الإسراء : 16.

    التوحيد _ 450 _

       نعم ، قال : فإذا أحدث إرادة كان قولك إن الإرادة هي هو أم شيء منه باطلا لأنه لا يكون أن يحدث نفسه ولا يتغير عن حاله ، تعالى الله عن ذلك ، قال سليمان : إنه لم يكن عني بذلك أنه يحدث إرادة ، قال : فما عني به ؟ قال : عني فعل الشيء قال الرضا عليه السلام : ويلك كم تردد هذه المسألة ، وقد أخبرتك أن الإرادة محدثة لأن فعل الشيء محدث ، قال : فليس لها معنى ، قال : الرضا عليه السلام : قد وصف نفسه عندكم حتى وصفها بالإرادة بما لا معنى له ، فإذا لم يكن لها معنى قديم ولا حديث بطل قولكم : إن الله لم يزل مريدا .
       قال سليمان : إنما عنيت أنها فعل من الله لم يزل ، قال : ألا تعلم أن ما لم يزل لا يكون مفعولا وحديثا وقديما في حالة واحدة ؟
       فلم يحر جوابا .
       قال الرضا عليه السلام : لا بأس ، أتمم مسألتك ، قال سليمان : قلت : إن الإرادة صفة من صفاته ، قال الرضا عليه السلام : كم تردد علي أنها صفه من صفاته ، وصفته محدثة أو لم تزل ؟! قال سليمان : محدثة ، قال الرضا عليه السلام : الله أكبر فالإرادة محدثة وأن كانت صفة من صفاته لم تزل ، فلم يرد شيئا. (2) قال الرضا عليه السلام : إن ما لم يزل لا يكون مفعولا ، قال سليمان : ليس الأشياء إرادة ولم يرد شيئا ، (3) قال الرضا عليه السلام : وسوست يا سليمان فقد فعل وخلق ما لم يرد خلقه ولا فعله ، وهذه صفة من لا يدري ما فعل ، تعالى الله عن ذلك.
       قال سليمان : يا سيدي قد أخبرتك أنها كالسمع والبصر والعلم ، قال المأمون : ويلك يا سليمان كم هذا الغلط والتردد اقطع هذا وخذ في غيره إذ ليست تقوى على هذا الرد ، قال الرضا عليه السلام : دعه يا أمير المؤمنين ، لا تقطع عليه مسألته

    ---------------------------
    (1) في البحار وفي نسخة ( ه‍ ) ( فصفته ـ الخ ).
    (2) لأن العالم حادث والإرادة أزلية والتخلف ممتنع ، وقوله : ( إن ما لم يزل ـ الخ ) تعليل له باللازم.
    (3) أي لا أقول بقول ضرار ولا بقولكم ، بل إرادة غير متعلقة بشيء أو ليست له إرادة رأسا. ).

    التوحيد _ 451 _

       فيجعلها حجة ، تكلم يا سليمان ، قال : قد أخبرتك أنها كالسمع والبصر والعلم ، قال الرضا عليه السلام : لا بأس ، أخبرني عن معنى هذه أمعنى واحد أم معان مختلفة ؟!
       قال سليمان : بل معنى واحد ، الرضا عليه السلام : فمعنى الإرادات كلها معنى واحد ؟
       قال سليمان : نعم ، قال الرضا عليه السلام : فإن كان معناها معنى واحدا كانت إرادة القيام وإرادة العقود وإرادة الحياة وإرادة الموت إذا كانت إرادته واحدة (1) لم يتقدم بعضها بعضا ولم يخالف بعضها بعضا ، وكان شيئا واحدا (2) قال سليمان : إن معناها مختلف ، قال عليه السلام : فأخبرني عن المريد أهو الإرادة أو غيرها ؟!
       قال سليمان : بل هو الإرادة ، قال الرضا عليه السلام فالمريد عندكم يختلف إن كان هو الإرادة (3) ؟
       قال : يا سيدي ليس الإرادة المريد ، قال عليه السلام : فالإرادة محدثة ، وإلا فمعه غيره.
       افهم وزد في مسألتك .
       قال سليمان : فإنها اسم من أسمائه ، قال الرضا عليه السلام : هل سمى نفسه بذلك ؟
       قال سليمان : لا ، لم يسم نفسه بذلك ، قال الرضا عليه السلام : فليس لك أن تسميه بما لم يسم به نفسه ، قال : قد وصف نفسه بأنه مريد ، قال الرضا عليه السلام : ليس صفته نفسه أنه مريد إخبار عن أنه إرادة ولا إخبارا عن أن الإرادة اسم من أسمائه ، قال : سليمان : لأن إرادته علمه ، قال الرضا عليه السلام : يا جاهل فإذا علم الشيء فقد أراده ؟
       قال سليمان : أجل ، قال عليه السلام : فإذا لم يرده لم يعلمه ، قال سليمان : أجل ، قال عليه السلام : من أين قلت ذاك ، وما الدليل على أن إرادته علمه . وقد يعلم ما لا يريده

    ---------------------------
    (1) هذه الجملة تأكيد للشرط بلفظ آخر وقعت بين اسم كانت وخبرها : وفي نسخة ( ط ) و ( ن ) ( إذا كانت إرادة واحدة ) وفي نسخة ( و ) ( إذ كانت إرادته واحدة ) وفي البحار : ( فإن كان معناها معنى واحدا كانت إرادة القيام إرادة العقود ، وإرادة الحياة إرادة الموت ، إذ كانت إرادته واحدة لم يتقدم بعضها بعضا ـ الخ ) وهذا أحسن.
    (2) أي كان المراد شيئا واحدا ، وفي نسخة ( و ) و ( ط ) و ( ن ) ( وكانت شيئا واحدا ).
    (3) في البحار : ( مختلف إذ كان ـ الخ ) وفي نسخة ( د ) و ( ج ) ( يختلف إذا كان ـ الخ ) وفي نسخة ( ب ) ( يختلف إذ كان ـ الخ ).

    التوحيد _ 452 _

       أبدا ، وذلك قوله عزوجل : ( وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) (1) فهو يعلم كيف يذهب به وهو لا يذهب به أبدا ، قال سليمان : لأنه قد فرغ من الأمر فليس يزيد فيه شيئا (2) قال الرضا عليه السلام : هذا قول اليهود ، فكيف قال عزوجل : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (3) قال سليمان : إنما عني بذلك أنه قادر عليه ، قال عليه السلام : أفيعد ما لا يفي به ؟! فكيف قال عزوجل : ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء ) (4) و قال عزوجل : ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (5) وقد فرغ من الأمر ، فلم يحر جوابا .
       قال الرضا عليه السلام : يا سليمان هل يعلم أن إنسانا يكون ولا يريد أن يخلق إنسانا أبدا ، وأن إنسانا يموت اليوم ولا يريد أن يموت اليوم ؟ قال سليمان : نعم قال الرضا عليه السلام : فيعلم أنه يكون ما يريد أن يكون أو يعلم أنه يكون ما لا يريد أن يكون ؟! قال : يعلم أنهما يكونان جميعا ، قال الرضا عليه السلام : إذن يعلم أن إنسانا حي ميت ، قائم قاعد ، أعمى بصير في حال واحدة ، وهذا هو المحال ، قال : جعلت فداك فإنه يعلم أنه يكون أحدهما دون الآخر ، قال عليه السلام : لا بأس ، فأيهما يكون ، الذي أراد أن يكون أو الذي لم يرد أن يكون ، قال سليمان : الذي أراد أن يكون ، فضحك الرضا عليه السلام والمأمون وأصحاب المقالات. قال الرضا عليه السلام : غلطت وتركت قولك : إنه يعلم أن إنسانا يموت اليوم وهو لا يريد أن يموت اليوم وأنه يخلق خلقا وهو لا يريد أن يخلقهم ، فإذا لم يجز العلم عندكم بما لم يرد أن يكون فإنما يعلم أن يكون ما أراد أن يكون (6).

    ---------------------------
    (1) الإسراء : 86.
    (2) في نسخة ( د ) و ( ب ) ( فليس يريد فيه شيئا ) وفي نسخة ( ط ) ( فليس يريد منه شيئا ).
    (3) المؤمن : 60.
    (4) فاطر : 1.
    (5) الرعد : 39.
    (6) حاصل الكلام من قوله عليه السلام : يا سليمان هل يعلم أن انسانا يكون إلى هنا أنه هل يتعلق علمه تعالى بنسبة قضية ولا يتعلق إرادته بها ، فأقر سليمان بذلك ، فثبت مطلوبه عليه السلام الذي هو عدم اتحادهما ، لكنه أقر بالحق في غير موضعه من حيث لا يشعر ( كأنه اختبط واختلط من كثرة الحجاج في المجلس ) لأن المثالين مجمعهما ، إذ علمه تعالى بموت إنسان يستلزم إرادته ، وبكون إنسان يستلزم إرادة خلقه ، ومورد التخلف الأمثلة التي ذكرها عليه السلام من قبل ، ثم أراد عليه السلام أن ينبهه على غلطه فقال : فيعلم أنه يكون ما يريد ـ الخ ، والقسمة لعلمه بكون ما يريد وما لا يريد تقتضي صورا أربعا : يعلم أنه يكون ما يريد أن يكون فقط ، يعلم أنه يكون ما لا يريد أن يكون فقط ، يعلمهما جميعا ، لا يعلمهما ، والصورة الثانية هي ما ينطبق عليه المثالان ، والأخيرة محال ، والثالثة محال أيضا لما قال عليه السلام : إذن يعلم أن انسانا حي ميت ـ الخ ، ومنطبقة المثالين أيضا محال لما قلنا ، وسليمان بصرافة فطرته تركها واختار الصورة الأولى حيث قال : ( الذي أراد أن يكون ) بعد أن قال عليه السلام : ( لا بأس فيهما يكون ـ الخ ).

    التوحيد _ 453 _

       قال سليمان : فإنما قولي : إن الإرادة ليست هو ولا غيره ، قال الرضا عليه السلام : يا جاهل إذا قلت : ليست هو فقد جعلتها غيره ، وإذا قلت : ليست هي غيره فقد جعلتها هو ، قال سليمان : فهو يعلم كيف يصنع الشيء ؟ قال عليه السلام : نعم ، قال سليمان : فإن ذلك إثبات للشئ (1) قال الرضا عليه السلام : أحلت لأن الرجل قد يحسن البناء وإن لم يبن ويحسن الخياطة وإن لم يخط ويحسن صنعة الشيء وإن لم يصنعه أبدا ثم قال له : يا سليمان هل يعلم أنه واحد لا شيء معه ؟! قال : نعم ، قال : أفيكون ذلك إثباتا للشيء ؟!
       قال سليمان : ليس يعلم أنه واحد لا شيء معه .
       قال الرضا عليه السلام : أفتعلم أنت ذلك ؟! (2) قال : نعم ، قال : فأنت يا سليمان أعلم منه إذا ، قال سليمان : المسألة محال ، قال : محال عندك أنه واحد لا شيء معه وأنه سميع بصير حكيم عليم

    ---------------------------
    (1) المعنى : فإن ذلك إثبات للشئ معه في الأزل ، وذلك ظنا منه أن العلم بالمصنوع يستلزم وجوده ، فأجاب عليه السلام بالفرق بين العلم والإرادة بالأمثلة ، فإن العلم لا يستلزم المعلوم بخلاف الإرادة فإنها تستلزم المراد ، وقوله : ( يحسن ) في المواضع الثلاثة من الاحسان بمعنى العلم.
    (2) في نسخة ( ه‍ ) و ( و ) ( أفأنت تعلم بذلك ).

    التوحيد _ 454 _

       قادر ؟! قال : نعم ، قال عليه السلام : فكيف أخبر الله عزوجل أنه واحد حي سميع بصير عليم خبير وهو لا يعلم ذلك ؟! وهذا رد ما قال وتكذيبه ، تعالى الله عن ذلك ، ثم قال الرضا عليه السلام : فكيف يريد صنع ما لا يدري صنعه ولا ما هو ؟! وإذا كان الصانع لا يدري كيف يصنع الشيء قبل أن يصنعه فإنما هو متحير ، تعالى الله عن ذلك.
       قال سليمان : فإن الإرادة القدرة ، قال الرضا عليه السلام : وهو عزوجل يقدر على ما لا يريده أبدا ، ولا بد من ذلك لأنه قال تبارك وتعالى : ( ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ) (1) فلو كانت الإرادة هي القدرة كان قد أراد أن يذهب به لقدرته ، فانقطع سليمان ، قال المأمون عند ذلك : يا سليمان هذا أعلم هاشمي ، ثم تفرق القوم.
       قال مصنف هذا الكتاب : كان المأمون يجلب على الرضا عليه السلام من متكلمي الفرق والأهواء المضلة كل من سمع به حرصا على انقطاع الرضا عليه السلام عن الحجة مع واحد منهم ، وذلك حسدا منه له ولمنزلة من العلم ، فكان عليه السلام لا يكلم أحدا إلا أقر له بالفضل والتزم الحجة له عليه لأن الله تعالى ذكره أبى إلا أن يعلي كلمته ويتم نوره وينصر حجته ، وهكذا وعد تبارك وتعالى في كتابه فقال : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ) (2) يعني بالذين آمنوا : ( الأئمة الهداة عليهم السلام وأتباعهم والعارفين بهم والآخذين عنهم ، ينصرهم بالحجة على مخالفيهم ما داموا في الدنيا ، وكذلك يفعل بهم في الآخرة ، وإن الله لا يخلف وعده.

    67 ـ باب النهي عن الكلام والجدال والمراء في الله عزوجل

      1 ـ أبي رحمه الله قال : حدثنا سعد بن عبد الله ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن علي بن رئاب ، عن أبي بصير ، قال : قال أبو ـ جعفر عليه السلام : تكلموا في خلق الله ولا تكلموا في الله فإن الكلام في الله لا يزيد إلا تحيرا .

    ---------------------------
    (1) الإسراء : 86.
    (2) المؤمن : 51.

    التوحيد _ 455 _

      2 ـ وبهذا الإسناد ، عن الحسن بن محبوب ، عن أبي أيوب الخزاز ، عن أبي عبيدة ، عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال : تكلموا في كل شيء ولا تكلموا في الله. (1)
      3 ـ وبهذا الإسناد ، عن الحسن بن محبوب ، عن علي بن رئاب ، عن ضريس الكناسي ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : اذكروا من عظمة الله ما شئتم ولا تذكروا ذاته فإنكم لا تذكرون منه شيئا إلا وهو أعظم منه .
      4 ـ وبهذا الإسناد ، عن الحسن بن محبوب ، عن علي بن رئاب ، عن بريد العجلي ، قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه فقال : ما جمعكم ؟ قالوا : اجتمعنا نذكر ربنا ونتفكر في عظمته ، فقال : لن تدركوا التفكر في عظمته.
      5 ـ وبهذا الإسناد ، عن الحسن بن محبوب ، عن علي بن رئاب ، عن فضيل ابن يسار ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : يا ابن آدم لو أكل قلبك طائر لم يشبعه ، وبصرك لو وضع عليه خرق إبرة لغطاه ، تريد أن تعرف بهما ملكوت السماوات والأرض ، إن كنت صادقا فهذه الشمس خلق من خلق الله فإن قدرت أن تملأ عينيك منها فهو كما تقول .
      6 ـ وبهذا الإسناد ، عن الحسن بن محبوب ، عن العلاء بن رزين ، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عزوجل : ( وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ) (2) قال : من لم يدله خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ودوران الفلك والشمس والقمر والآيات العجيبات على أن وراء ذلك أمرا أعظم منه فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ، قال : فهو عما لم يعاين أعمى وأضل.
      7 ـ حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله قال : حدثنا محمد بن الحسن الصفار ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن علي بن فضال عن ثعلبة بن ميمون ، عن الحسن الصيقل ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : تكلموا في ما دون العرش ولا تكلموا في ما فوق العرش فإن قوما تكلموا في الله

    ---------------------------
    (1) أي في ذاته تعالى أنه ما هو ؟ وكيف هو ؟.
    (2) الإسراء : 72.

    التوحيد _ 456 _

       عزوجل فتاهو حتى كان الرجل ينادي من بين يديه فيجيب من خلفه وينادي من خلفه فيجيب من بين يديه .
      8 ـ أبي رحمه الله ، قال : حدثنا علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن محمد بن يحيى الخثعمي ، عن عبد الرحيم القصير ، قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن شيء من التوحيد ، فرفع يديه إلى السماء وقال : تعالى الله الجبار (1) إن من تعاطى ما ثم هلك .
      9 ـ وبهذا الإسناد ، عن ابن أبي عمير ، عن عبد الرحمن بن الحجاج ، عن سليمان بن خالد ، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل : ( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ) (2) قال : إذا انتهى الكلام إلى الله عزوجل فأمسكوا .
      10 ـ وبهذا الإسناد ، عن ابن أبي عمير ، عن أبي أيوب الخزاز ، عن محمد بن مسلم ، قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : يا محمد إن الناس لا يزال بهم المنطق حتى يتكلموا في الله ، فإذا سمعتم ذلك فقولوا : لا إله إلا الله الواحد الذي ليس كمثله شيء .
      11 ـ وبهذا الإسناد ، عن ابن أبي عمير ، عن محمد بن حمران ، عن أبي عبيدة الحذاء ، قال : قال لي أبو جعفر عليه السلام : يا زياد إياك والخصومات فإنها تورث الشك وتحبط العمل وتردي صاحبها ، وعسى أن تكلم بالشيء فلا يغفر له ، إنه كان فيما مضى قوم وتركوا علم ما وكلوا به وطلبوا علم ما كفوه حتى انتهى كلامهم إلى الله عزوجل فتحيروا ، فإن كان الرجل ليدعى من بين يديه فيجيب من خلفه ويدعى من خلفه فيجيب من بين يديه .
      12 ـ أبي رحمه الله قال : حدثنا سعد بن عبد الله ، قال : حدثنا أحمد بن محمد ابن عيسى ، عن عبد الله بن المغيرة ، عن أبي اليسع ، عن سليمان بن خالد ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : أنه قد كان فيمن كان قبلكم قوم تركوا علم ما وكلوا بعلمه و طلبوا علم ما لم يوكلوا بعلمه ، فلم يبرحوا حتى سألوا عما فوق السماء فتاهت

    ---------------------------
    (1) في النسخ الخطية : ( تعالى الجبار ).
    (2) النجم : 42.

    التوحيد _ 457 _

       قلوبهم ، فكان أحدهم يدعى من بين يديه فيجيب من خلفه ويدعى من خلفه فيجيب من بين يديه .
      13 ـ وبهذا الإسناد ، عن أبي اليسع ، عن أبي الجارود ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : دعوا التفكر في الله فإن التفكر في الله لا يزيد إلا تيها لأن الله تبارك وتعالى لا تدركه الأبصار ولا تبلغه الأخبار.
      14 ـ وبهذا الإسناد ، عن أبي اليسع ، عن سليمان بن خالد ، قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : إياكم والتفكر في الله فإن التفكر في الله لا يزيد إلا تيها لأن الله عزوجل لا تدركه الأبصار ولا يوصف بمقدار .
      15 ـ أبي رحمه الله ، قال : حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، قال : حدثنا محمد بن خالد ، عن علي بن النعمان وصفوان بن يحيى عن فضيل بن عثمان ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : دخل عليه قوم من هؤلاء الذين يتكلمون في الربوبية ، فقال : اتقوا الله وعظموا الله ولا تقولوا ما لا نقول فإنكم إن قلتم وقلنا متم ومتنا ثم بعثكم الله وبعثنا فكنتم حيث شاء الله وكنا .
      16 ـ حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رضي الله عنه قال : حدثنا عبد الله بن جعفر ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى ، قال : حدثنا الحسن بن محبوب ، عن عمرو بن أبي المقدام ، عن سالم بن أبي حفصة ، عن منذر الثوري ، عن محمد بن الحنفية ، قال : إن هذه الأمة لن تهلك حتى تتكلم في ربها.
      17 ـ وبهذا الإسناد ، عن الحسن بن محبوب ، عن علي بن رئاب ، عن ضريس ، الكناسي ، قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : إياكم والكلام في الله ، تكلموا في عظمته ولا تكلموا فيه فإن الكلام في الله لا يزداد إلا تيها (1).
      18 ـ حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رضي الله عنه ، قال : حدثنا أبو الحسين محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، قال : حدثنا محمد بن سليمان بن الحسن الكوفي ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن خالد ، عن علي بن حسان الواسطي ، عن

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( ج ) ( فإن الكلام فيه لا يزداد صاحبه إلا تيها ).

    التوحيد _ 458 _

       بعض أصحابنا ، عن زرارة ، قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام : إن الناس قبلنا قد أكثروا في الصفة فما تقول ؟ فقال : مكروه ، أما تسمع الله عزوجل يقول : ( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ) (1) تكلموا فيما دون ذلك.
      19 ـ أبي رحمه الله ، قال : حدثنا في بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عبد الله بن بكير ، عن زرارة ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : إن ملكا عظيم الشأن كان في مجلس له فتكلم في الرب تبارك وتعالى ففقد فما يدري أين هو.
      20 ـ أبي رحمه الله ، قال : حدثنا سعد بن عبد الله ، قال : حدثنا محمد بن عبد الحميد ، عن العلاء بن رزين ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : إياكم والتفكر في الله ، ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمة الله فانظروا إلى عظم خلقه .
      21 ـ أبي رضي الله عنه ، قال : حدثنا أحمد بن إدريس ، عن محمد بن أحمد ، عن علي بن السندي ، عن حماد بن عيسى ، عن الحسين بن المختار ، عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : سمعته يقول : الخصومة تمحق الدين وتحبط العمل وتورث الشك.
      22 ـ وبهذا الإسناد ، عن أبي بصير ، قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : يهلك أصحاب الكلام ، وينجو المسلمون إن المسلمين هم النجباء.
      23 ـ حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه ، قال : حدثنا محمد بن الحسن الصفار ، قال : حدثنا العباس بن معروف ، عن سعدان بن مسلم ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : سمعته يقول : لا يخاصم إلا رجل ليس له ورع أو رجل شاك .
      24 ـ أبي رحمه الله ، قال : حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري ، قال : حدثنا أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن فضيل ، عن أبي عبيدة ، عن أبي جعفر عليه السلام

    ---------------------------
    (1) النجم : 42.

    التوحيد _ 459 _

       قال : قال لي : يا أبا عبيدة إياك وأصحاب الخصومات والكذابين علينا فإنهم تركوا ما أمروا بعلمه وتكلفوا علم السماء ، يا أبا عبيدة خالقوا الناس بأخلاقهم وزايلوهم بأعمالهم ، إنا لا نعد الرجل فينا عاقلا (1) حتى يعرف لحن القول ثم قرأ هذه الآية ( ولتعرفنهم في لحن القول ) (2).
      25 ـ أبي رحمه الله ، قال : حدثنا سعد بن عبد الله قال : حدثنا يعقوب بن يزيد عن الغفاري ، عن جعفر بن إبراهيم ، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إياكم وجدال كل مفتون فإن كل مفتون ملقن حجته إلى انقضاء مدته (3) فإذا انقضت مدته أحرقته فتنته بالنار. وروي شغلته خطيئته فأحرقته .
      26 ـ أبي رحمه الله ، قال : حدثنا سعد بن عبد الله ، قال : حدثنا محمد بن عيسى قال : قرأت في كتاب علي بن بلال أنه سأل الرجل يعني أبا الحسن عليه السلام : أنه روي عن آبائك عليهم السلام أنهم نهوا عن الكلام في الدين.
       فتأول مواليك المتكلمون بأنه إنما نهى من لا يحسن أن يتكلم فيه فأما من يحسن أن يتكلم فيه فلم ينه ، فهل ذلك كما تأولوا أولا ؟ فكتب عليه السلام : المحسن وغير المحسن لا يتكلم فيه فإن إثمه أكثر من نفعه.
      27 ـ أبي رحمه الله ، قال : حدثنا أحمد بن إدريس ، قال : حدثنا محمد بن أحمد علي بن إسماعيل ، عن المعلى بن محمد البصري ، عن علي بن أسباط ، عن جعفر بن سماعة ، عن غير واحد ، عن زرارة ، قال : سألت أبا جعفر عليه السلام : ما حجة الله على العباد ؟ قال : أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عندما لا يعلمون .
      28 ـ أبي رحمه الله ، قال : حدثنا محمد بن يحيى العطار ، عن محمد بن الحسين ، ابن أبي الخطاب ، عن ابن فضال ، عن علي بن شجرة ، عن إبراهيم بن أبي رجاء

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( ن ) و ( ط ) ( لا نعد الرجل فقيها حتى ـ الخ ).
    (2) محمد صلى الله عليه وآله : 30.
    (3) في نسخة ( و ) ( ملقف حجته ـ الخ ) ، وفي نسخة ( ه‍ ) ( إياكم وجدال كل مفتون ملقن حجته ـ الخ ).

    التوحيد _ 460 _

       عن أخي طربال (1) قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : كف الأذى وقلة الصخب يزيدان في الرزق.
      29 ـ حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رضي الله عنه ، قال : حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري ، قال : حدثنا محمد بن الحسين ، عن الحسن بن محبوب ، عن نجية القواس ، عن علي بن يقطين ، قال : قال أبو الحسن عليه السلام : مر أصحابك أن يكفوا من ألسنتهم ويدعوا الخصومة في الدين ويجتهدوا في عبادة الله عزوجل.
      30 ـ حدثنا الحسين بن أحمد بن إدريس رضي الله عنه ، عن أبيه ، عن محمد بن أحمد ، عن موسى بن عمر ، عن العباس بن عامر ، عن مثنى ، عن أبي بصير ، عن أبي ـ عبد الله ، قال : قال : لا يخاصم إلا شاك أو من لا ورع له .
      31 ـ وبهذا الإسناد ، عن محمد بن أحمد ، عن أحمد بن الحسن ، عن أبي حفص عمر بن عبد العزيز (2) عن رجل ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : قال : متكلموا هذه العصابة من شر من هم منه من كل صنف (3).
      32 ـ أبي رحمه الله ، قال : حدثنا سعد بن عبد الله ، قال : حدثنا محمد بن الحسين عن محمد بن إسماعيل ، عن الحضرمي ، عن المفضل بن عمر ، قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : يا مفضل من فكر في الله كيف كان هلك ، ومن طلب الرئاسة هلك.
      33 ـ أبي رحمه الله ، قال : حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري ، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه عليهما السلام ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( ب ) ( عن إبراهيم بن أبي رجاء أخي طربال ) واسم أخي طربال إبراهيم.
    (2) في نسخة ( ط ) و ( ن ) ( عن أبي حفص بن عمر بن عبد العزيز ).
    (3) الظاهر أن المراد بالعصابة علماء العامة ، أي المتكلمون من علماء العامة من شر الذين هذه العصابة منهم ، ومفاد الموصول جماعة العامة ، وإفراد الضمير باعتبار لفظ الموصول ، وقوله : ( من كل صنف ) تصريح بالتعميم وبيان لقوله : ( منه ) ، وفي نسخة ( د ) ( منهم ) مكان ( منه ).

    التوحيد _ 461 _

       قال : لعن الله الذين اتخذوا دينهم شحا (1) يعني الجدال ليدحضوا الحق بالباطل .
      34 ـ حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه ، قال : حدثنا محمد بن الحسن الصفار ، عن الفضل بن عامر ، عن موسى بن القاسم البجلي ، عن محمد بن سعيد ، عن إسماعيل بن أبي زياد ، عن جعفر بن محمد ، عن آبائه عليهم السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنا زعيم بيت في أعلى الجنة وبيت في وسط الجنة وبيت في رياض الجنة (2) لمن ترك المراء وإن كان محقا .
      35 ـ أبي رحمه الله ، قال : حدثنا أحمد بن إدريس ، عن محمد بن أحمد ، عن عبد الله بن محمد ، عن محمد بن إسماعيل النيسابوري ، عن عبد الرحمن بن أبي هاشم ، عن كليب بن معاوية ، قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : لا يخاصم إلا من قد ضاق بما في صدره .

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( ن ) ( متح ) وفي نسخة ( ه‍ ) و ( ج ) و ( و ) ( شيحا ).
    (2) كذا في النسخ بالياء جمع الروضة ، وأظن أنه رياض بالباء الموحدة كما في أخبار أخر ، والربض ما حول المدينة من بيوت ومساكن ، يقال : نزلوا في ربض المدينة.