الفهرس العام

باب لطف الله تبارك وتعالى

    40 ـ باب أدنى ما يجزئ من معرفة التوحيد
    41 ـ باب أنه عزوجل لا يعرف إلا به
    42 ـ باب إثبات حدوث العالم
    43 ـ باب حديث ذعلب
    44 ـ باب حديث سبخت اليهودي
    45 ـ باب معنى ( سبحان الله )
    46 ـ باب معنى ( الله أكبر )
    47 ـ باب معنى ( الأول والآخر )



      1 ـ حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله ، قال : حدثنا محمد بن الحسن الصفار ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن أبيه ، عن سعيد بن جناح ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : ما خلق الله خلقا أصغر من البعوض ، والجرجس أصغر من البعوض ، والذي تسمونه الولغ أصغر من الجرجس (1)وما في الفيل شيء إلا وفيه مثله ، وفضل على الفيل بالجناحين (2).

    40 ـ باب أدنى ما يجزئ من معرفة التوحيد

      1 ـ حدثنا محمد بن علي ماجيلويه رحمه الله ، قال : حدثنا علي بن إبراهيم ابن هاشم ، عن مختار بن محمد بن مختار الهمداني ، عن الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن عليه السلام ، قال : سألته عن أدنى المعرفة ، فقال : الاقرار بأنه لا إله غيره ولا شبه له ولا نظير وأنه قديم مثبت موجود غير فقيد وأنه ليس كمثله شيء.
      2 ـ حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه ، قال : حدثنا سعد ابن عبد الله ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد ، عن عاصم بن حميد رفعه ، قال : سئل علي بن الحسين عليهما السلام عن التوحيد فقال : إن الله عزوجل علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون فأنزل الله عزوجل ( قُلْ

    ---------------------------
    (1) الولغ في النسخ بالغين المعجمة ، وفي الكافي ومجع البحرين بالعين المهملة.
    (2) إن الله لطيف في الخلق أي في الصنع كما هنا وفي بعض الروايات في الباب الثاني و التاسع والعشرين ، ولطيف بالخلق أي بار بهم كما قال تعالى : ( اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ) ، ولطيف للخلق وهذا ما بحث عنه المتكلمون ، ولطيف بذاته بمعنيين : بمعنى النفاذ في الأشياء والدخول فيها بلا كيفية كما في الحديث الثاني من الباب التاسع والعشرين وفي كثير من كلمات أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد يفسر الآية : ( أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) بهذا المعنى ، والمعنى الثاني أنه لا يدرك ذاته كما في الحديث المذكور.

    التوحيد _ 284 _

       هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *اللَّهُ الصَّمَدُ ) والآيات من سورة الحديد ـ إلى قوله : ( وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) (1) فمن رام ما وراء هنالك هلك.
      3 ـ حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله ، قال : حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل البرمكي. قال : حدثني الحسين بن الحسن ، قال : حدثني بكر بن زياد ، عن عبد العزيز بن المهتدي ، قال سألت الرضا عليه السلام عن التوحيد ، فقال : كل من قرأ قل هو الله أحد وآمن بها فقد عرف التوحيد ، قلت : كيف يقرؤها ؟ قال : كما يقرء الناس ، وزاد فيه ( كذلك الله ربي ، كذلك الله ربي ، كذلك الله ربي ).
      4 ـ أبي ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمهما الله قالا : حدثنا محمد بن يحيى العطار ، وأحمد بن إدريس جميعا ، عن محمد بن أحمد ، عن بعض أصحابنا ، عن محمد بن علي الطاحي (2) عن طاهر بن حاتم بن ما هوية قال : كتبت إلى الطيب ـ يعني أبا الحسن موسى ـ عليه السلام : ما الذي لا تجزئ معرفة الخالق بدونه (3) فكتب : ليس كمثله شيء ولم يزل سميعا وعليما وبصيرا ، وهو الفعال لما يريد .
      5 ـ حدثنا محمد بن علي ماجيلويه رضي الله عنه ، عن عمه محمد بن أبي القاسم ، عن محمد بن علي القريشي ، قال : حدثنا محمد بن سنان ، عن محمد بن يعلى الكوفي ، عن جويبر (4) عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال : يا رسول الله علمني من غرائب العلم ، قال : ما صنعت في رأس العلم حتى تسأل

    ---------------------------
    (1) وغيرهما من الآيات ليتعمقوا ويتفكروا فيها ويعرفوا ربهم ويستغنوا عن وصف الواصفين وأقاويل المتكلمين المتكلفين وكلمات المتفلسفين.
    (2) المظنون أنه أبو سمينة محمد بن علي الكوفي الصيرفي المذكور كثيرا في إسناد الكتاب ، وفي البحار في الباب العاشر من الجزء الثالث المطبوع حديثا وفي نسخة ( ن ) ( الطاحن ) والظاهر أنه خطأ .
    (3) في نسخة ( و ) و ( ب ) ( ما الذي لا يجتزء ـ الخ ).
    (4) هذا غير جويبر الصحابي المعروف ، وفي نسخة ( ط ) ( جوير ).

    التوحيد _ 285 _

       عن غرائبه ؟! قال الرجل : ما رأس العلم يا رسول الله ؟ قال : معرفة الله حق معرفته ، قال الأعرابي : وما معرفة الله حق معرفته ؟ قال : تعرفه بلا مثل ولا شبه ولا ند وأنه واحد أحد ظاهر باطن أول آخر لا كفو له ولا نظير فذلك حق معرفته .

    41 ـ باب أنه عزوجل لا يعرف إلا به

      1 ـ حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله ، قال : حدثنا محمد بن يعقوب الكليني ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن صفوان بن يحيى ، عن منصور بن حازم ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : إني ناظرت قومك فقلت لهم ، إن الله أجل وأكرم من أن يعرف بخلقه ، بل العباد يعرفون بالله (1) فقال : رحمك الله.
      2 ـ حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله ، قال : حدثنا محمد بن الحسن الصفار ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن بعض أصحابنا ، عن علي بن عقبة بن قيس ابن سمعان بن أبي ربيحة مولى رسول الله صلى الله عليه وآله رفعه ، قال : سئل أمير المؤمنين عليه السلام بم عرفت ربك ؟ فقال : بما عرفني نفسه ، قيل : وكيف عرفك نفسه ؟ فقال : لا تشبهه صورة ، ولا يحس بالحواس ، ولا يقاس بالناس ، قريب في بعده ، بعيد في قربه ، فوق كل شيء ولا يقال : شيء فوقه ، أمام كل شيء ولا يقال : له أمام ، داخل في الأشياء لا كشئ في شيء داخل ، وخارج من الأشياء لا كشئ من شيء خارج ، سبحان من هو هكذا ولا هكذا غيره ، ولكل شيء ومبتدء.
      3 ـ حدثني أبي رحمه الله ، قال : حدثنا سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن أبي عمير ، عن محمد بن حمران (2) عن الفضل بن السكن ، عن أبي ـ

    ---------------------------
    (1) على صيغة المجهول كما هو الظاهر نظير ما في الحديث الرابع ، ويحتمل معلوما كما في الحديث الثالث.
    (2) في نسخة ( ب ) و ( ج ) و ( د ) ( محمد بن عمران ).

    التوحيد _ 286 _

       عبد الله عليه السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : اعرفوا الله بالله والرسول بالرسالة وأولي الأمر بالمعروف والعدل والاحسان (1).
      4 ـ حدثنا أبو الحسين محمد بن إبراهيم بن إسحاق الفارسي ، قال : حدثنا أحمد بن محمد أبو سعيد النسوي ، قال : حدثنا أبو نصر أحمد بن محمد بن عبد الله الصغدي بمرو (2) قال : حدثنا محمد بن يعقوب بن الحكم العسكري وأخوه معاذ بن يعقوب قالا : حدثنا محمد بن سنان الحنظلي ، قال : حدثنا عبد الله بن عاصم ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن قيس ، عن أبي هاشم الرماني ، عن زاذان ، عن سلمان الفارسي في حديث طويل يذكر فيه قدوم الجاثليق المدينة مع مائة من النصارى وما سأل عنه أبا بكر فلم يجبه ثم أرشد إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فسأله عن

    ---------------------------
    (1) المعنى الظاهر لهذا الحديث : اعرفوا كل شيء بما هو به هو كالعالم فإنه يعرف بالعلم والخياط يعرف بالخياطة وإلا فينكر أنه عالم أو خياط ، فمن أردتم أن تعتقدوا أنه عالم أو خياط فانظروا إلى علمه أو خياطته ، فإن كان له فهو هو وإلا فلا ، وكذلك الله والرسول وأولي الأمر ، فاعرفوا من سميتموه بالله وعبدتموه واعتقدتم أن الخلق والأمر له بالألوهية أي بأن يكون مبدء العالم وخالقه ومدبره وبيده أموره ويكون واحدا لا شريك ولا شبيه له فالله هو ذلك لا من هو بمعزل عن ذلك ، كما عرف هو نفسه بذلك في مواضع من كتابه ، واعرفوا من يدعى أنه رسول من الله وأردتم أن تعتقدوا أنه رسول من الله بالرسالة من الله وهي أن يخبر عن الله صدقا وصدقه يثبت بالمعجزات ، واعرفوا أولي الأمر بعد الرسول بهذه الخصال فمن تمت وكملت فيه فهو ولي الأمر بعده .
       ثم إنه عليه السلام قال : اعرفوا الله بالله ولم يقل بالألوهية كما قال : الرسول بالرسالة لأن هذا التعبير يوهم زيادة الصفة على الموصوف ، وفي الكافي باب أنه لا يعرف إلا به : ( وأولي الأمر بالأمر بالمعروف والعدل والاحسان ).
    (2) صغد بضم الصاد المهملة والغين المعجمة الساكنة آخره الدال المهملة موضع بيخارا وموضع بسمرقند ، وهذا السند بعينه مذكور في الحديث السادس عشر من الباب الثامن و العشرين والحديث الثالث من الباب الثامن والأربعين.

    التوحيد _ 287 _

       مسائل فأجابه عنها ، وكان فيما سأله أن قال له : أخبرني عرفت الله بمحمد أم عرفت محمدا بالله عزوجل ؟ فقال علي بن أبي طالب عليه السلام : ما عرفت الله بمحمد صلى الله عليه وآله ، و لكن عرفت محمدا بالله عزوجل حين خلقه وأحدث فيه الحدود من طول ، وعرض ، فعرفت أنه مدبر مصنوع باستدلال وإلهام منه وإرادة كما ألهم الملائكة طاعته و عرفهم نفسه بلا شبه ولا كيف (1).

    ---------------------------
    (1) قيل هذا نظير دعا مأمور بقراءته في أيام غيبة صاحب الأمر عليه السلام : ( اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف رسولك ـ الخ ) ، وهذا ظاهر لأن المضاف بما هو مضاف لا يعرف إلا بعد معرفة المضاف إليه ، أقول : هذا حق ، ولكنه عليه السلام نهج هنا منهجا آخر مذكورا في كثير من أحاديث الكتاب ، ومراده عليه السلام : إني ما عرفت ذاته تعالى بحدود ذات محمد صلى الله عليه وآله لأن ذاته لا تدرك بذاته ولا بشيء من الذوات ، ولكن عرفت محمدا صلى الله عليه وآله بذاته وخصوصياته أنه مصنوع مدبر له بإلهامه تعالى ودلالته إياي.
       وجملة الكلام في معرفته تعالى أنه لا يدرك ذاته ولا صفاته الذاتية لأنها عينها ، وهذا ما نطق به كثير من أحاديث الكتاب من أنه تعالى لا يوصف ولا يدرك بعقل ولا بوهم ، فالمدرك منه بحسب العقل والتصور هو العناوين الصادقة عليه ذاتا أو صفة كالشيء والموجود والإله و العالم والحي والقادر إلى غير ذلك من أسمائه تعالى كما تبين في مواضع من الكتاب وأمر العباد بأن يدعوه بها ، وبحسب الفطرة هو نوره وظهوره لكل موجود على قدر نورانيته و صفاء فطرته ، وهذا ما نطق به الآيات والأخبار من لقائه ورؤيته بالقلب وشهوده وغير ذلك من التعبيرات ، ثم إن معرفته كائنة ما كانت من حيث السبب بذاته لا بشيء آخر لأنه مبدء الكل فأينما كانت فيه كانت سواء كان لها مبدء وسطي أم لا وسواء كان لها شرط أم لا كسائر الأمور فما صدر عنهم عليهم السلام من أنه يعرف بذاته لا بخلقه وأنه دال على ذاته بذاته وأمثالهما ناظر إلى هذه الحيثية ، وهنا كلام آخر لا يسعني ذكره ، وأما من حيث الوجود فمتوقفة على الخلق إذ حيث لا خلق لا معرفة للخلق به ، وهذا ما شاع في الآيات والأخبار وألسنة العلماء والمتكلمين من الاستدلال بالآثار على مبدء الآثار ، فاحتفظ على هذه الوجوه كي لا يشتبه عليك المراد في الأحاديث المختلفة التي كل منها ناظر إلى كل منها .

    التوحيد _ 288 _

       والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة ، وقد أخرجته بتمامه في آخر أجزاء كتاب النبوة.
      5 ـ حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله ، قال : سمعت محمد بن يعقوب يقول : معنى قوله ( اعرفوا الله بالله ) يعني : أن الله عزوجل خلق الأشخاص والألوان والجواهر ، فالأعيان الأبدان ، والجواهر الأرواح ، وهو عزوجل لا يشبه جسما ولا روحا ، وليس لأحد في خلق الروح الحساس الدراك أثر ولا سبب ، هو المتفرد بخلق الأرواح والأجسام ، فمن نفي عنه الشبهين : شبه الأبدان وشبه الأرواح فقد عرف الله بالله ، ومن شبهه بالروح أو البدن أو النور فلم يعرف الله بالله .
      6 ـ حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رحمه الله ، قال : حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن محمد بن سنان ، عن زياد بن المنذر ، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر ، عن أبيه ، عن جده عليهم السلام أنه قال : إن رجلا قام إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال : يا أمير المؤمنين بماذا عرفت ربك ؟ قال : بفسخ العزم و نقض الهم ، لما هممت فحيل بيني وبين همي ، وعزمت فخالف القضاء عزمي علمت أن المدبر غيري ، قال : فبماذا شكرت نعماءه ؟ قال : نظرت إلى بلاء قد صرفه عني وأبلى به غيري فعلمت أنه قد أنعم علي فشكرته ، قال : فلما ذا أحببت لقاءه ، قال : لما رأيته قد أختار لي دين ملائكته ورسله وأنبيائه علمت أن الذي أكرمني بهذا ليس ينساني فأحببت لقاءه .
      7 ـ حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الرحمن المروزي المقري ، قال : حدثنا أبو عمرو محمد بن جعفر المقري ، قال : حدثنا محمد بن الحسن الموصلي ببغداد قال : حدثنا محمد بن عاصم الطريفي ، قال : حدثنا عياش بن يزيد بن الحسن بن علي الكحال مولى زيد بن علي (1) قال : حدثني أبي ، قال : حدثني موسى بن جعفر عليهما السلام ، قال : قال

    ---------------------------
    (1) هذا السند بعينه مذكور في الحديث الثاني في الباب الثاني والثلاثين والحديث الأول من الباب الرابع والثلاثين ، وفي بعض النسخ في بعض هذه المواضع الثلاثة : ( الضحاك ) بدل ( الكحال ) ولا يبعد أن يكون للرجل لقبان .

    التوحيد _ 289 _

       قوم للصادق عليه السلام : ندعو فلا يستجاب لنا ، قال : لأنكم تدعون من لا تعرفونه .
      8 ـ حدثنا الحسين بن أحمد بن إدريس رحمه الله ، قال : حدثنا أبي قال : حدثنا إبراهيم بن هاشم ، عن محمد بن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، قال : سئل أبو عبد الله عليه السلام فقيل له : بما عرفت ربك ؟ قال : بفسخ العزم ونقض الهم عزمت ففسخ عزمي ، وهممت فنقض همي .
      9 ـ حدثنا الحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هشام المؤدب رضي الله عنه ، قال : حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل البرمكي قال : حدثنا محمد بن عبد الرحمن الخزاز الكوفي ، قال : حدثنا سليمان بن جعفر قال : حدثنا علي بن الحكم ، قال : حدثنا هشام بن سالم ، قال : حضرت محمد بن النعمان الأحول فقام إليه رجل فقال له : بم عرفت ربك ؟ قال بتوفيقه وإرشاده وتعريفه وهدايته ، قال : فخرجت من عنده ، فلقيت هشام بن الحكم فقلت له : ما أقول لمن يسألني فيقول لي بم عرفت ربك ؟ فقال : إن سأل سائل فقال : بم عرفت ربك ؟ قلت : عرفت الله جل جلاله بنفسي (1) لأنها أقرب الأشياء إلي ، وذلك أني أجدها أبعاضا مجتمعة وأجزاء مؤتلفة ، ظاهرة التركيب ، متبينة الصنعة ، مبينة على ضروب من التخطيط والتصوير ، زائدة من بعد نقصان ، وناقصة من بعد زيادة ، قد أنشأ لها حواس مختلفة ، وجوارح متباينة ـ من بصر وسمع وشام وذائق ولا مس ـ مجبولة على الضعف والنقص والمهانة ، لا تدرك واحدة منها مدرك صاحبتها ولا تقوى على ذلك ، عاجزة عند اجتلاب المنافع إليها ، ودفع المضار عنها ، و استحال في العقول وجود تأليف لا مؤلف له ، وثبات صورة لا مصور لها ، فعلمت أن لها خالقا خلقها ، ومصورا صورها ، مخالفا لها على جميع جهاتها (2) قال الله عزوجل ( وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) (3).

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( ج ) ( فقل عرفت الله ـ الخ ).
    (2) في نسخة ( و ) ( من جميع جهاتها ). وفي نسخة ( ب ) و ( ج ) و ( د ) ( في جميع جهاتها ).
    (3) الذاريات : 21.

    التوحيد _ 290 _

      10 ـ حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله ، قال : حدثنا محمد بن جعفر أبو الحسين الأسدي ، قال : حدثنا الحسين بن المأمون القرشي (1) عن عمر بن عبد العزيز ، عن هشام بن الحكم ، قال : قال لي أبو شاكر الديصاني : إن لي مسألة تستأذن لي على صاحبك ، فإني قد سألت عنها جماعة من العلماء فما أجابوني بجواب مشبع ، فقلت : هل لك أن تخبرني بها فلعل عندي جوابا ترتضيه فقال : إني أحب أن ألقى بها أبا عبد الله عليه السلام ، فاستأذنت له فدخل فقال له : أتأذن لي في السؤال ؟ فقال له : سل عما بدا لك ، فقال له : ما الدليل على أن لك صانعا ؟
       فقال : وجدت نفسي لا تخلو من إحدى جهتين : إما أن أكون صنعتها أنا أو صنعها غيري ، فإن كنت صنعتها أنا فلا أخلو من أحد معنيين : إما أن أكون صنعتها و كانت موجودة ، أو صنعتها وكانت معدومة ، فإن كنت صنعتها وكانت موجودة فقد استغنت بوجودها عن صنعتها ، وإن كانت معدومة فإنك تعلم أن المعدوم لا يحدث شيئا فقد ثبت المعنى الثالث أن لي صانعا وهو الله رب العالمين فقام وما أحار جوابا .
       قال مصنف هذا الكتاب : القول الصواب في هذا الباب هو أن يقال : عرفنا الله بالله لأنا إن عرفناه بعقولنا فهو عزوجل واهبها ، وإن عرفناه عزوجل بأنبيائه ورسله وحججه عليهم السلام فهو عزوجل باعثهم ومرسلهم ومتخذهم حججا ، وإن عرفناه بأنفسنا فهو عزوجل محدثها ، فبه عرفناه ، وقد قال الصادق عليه السلام : ( لولا الله ما عرفنا (2) ولولا نحن ما عرف الله ) ومعناه لولا الحجج ما عرف الله حق معرفته ، ولولا الله ما عرف الحجج ، وقد سمعت بعض أهل الكلام يقول : لو أن رجلا ولد في فلاة من الأرض ولم ير أحدا يهديه ويرشده حتى كبر وعقل ونظر إلى السماء والأرض لدله ذلك على أن لهما صانعا ومحدثا ، فقلت : إن هذا شيء لم يكن ، و هو إخبار بما لم يكن أن لو كان كيف كان يكون ، ولو كان ذلك لكان لا يكون

    ---------------------------
    (1) في حاشية نسخه ( ب ) ( الحسن بن المأمون القرشي ).
    (2) أي لولا تعريف الله إيانا لخلقه ما عرفنا أحد منهم ، وما في بعض النسخ من زيادة ضمير المفعول الراجع إلى الله هنا خطأ .

    التوحيد _ 291 _

       ذلك الرجل إلا حجة الله تعالى ذكره على نفسه ، كما في الأنبياء عليهم السلام منهم من بعث إلى نفسه ، ومنهم من بعث إلى أهله وولده ، ومنهم من بعث إلى أهل محلته ، ومنهم من بعث إلى أهل بلده ، ومنهم من بعث إلى الناس كافة ، وأما استدلال إبراهيم الخليل عليه السلام بنظره إلى الزهرة ثم إلى القمر ثم إلى الشمس ، وقوله لما أفلت : ( يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ) فإنه عليه السلام كان نبيا ملهما مبعوثا مرسلا وكان جميعا قوله بإلهام الله عزوجل إياه ، وذلك قوله عزوجل : ( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ) (1) وليس كل أحد كإبراهيم عليه السلام ، ولو استغنى في معرفة التوحيد بالنظر عن تعليم الله عزوجل وتعريفه لما أنزل الله عزوجل ما أنزل من قوله : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) (2) ومن قوله : ( قل هو الله أحد ـ إلى آخرها ) ومن قوله : ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ـ إلى قوله ـ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (3) وآخر الحشر ، وغيرها من آيات التوحيد (4).

    ---------------------------
    (1) الأنعام : 83.
    (2) محمد : 19.
    (3) الأنعام : 103.
    (4) حاصل كلامه ـ رحمه الله ـ أن معنى قوله عليه السلام في الخبر الثالث : اعرفوا الله بالله أي اعرفوا الله بتعليمه تعالى وتعريفه ، ولا تكتفوا لمعرفته بالنظر والاستدلال ببعض خلقه من وجود الأنبياء أو جود أنفسنا وعقولنا أو غير ذلك من دون تعليمه تعالى ، وتعليمه تعالى إما بالوحي كما للأنبياء عليهم السلام ، أو بسمع الكلام من الأنبياء والأوصياء كما لنا ، فليس في كلامه تشويش ولا تناقض كما نسب إليه العلامة المجلسي ـ رحمه الله ـ فلذا قال : إن المولود في فلاة إن كان نبيا يوحى إليه فهو وإلا فلا يكفي نظره بل لا بد من تعلم من نبي ، أو ممن تعلم من نبي ، واستدلال إبراهيم عليه السلام ليس مجرد استدلال لنفسه بل تعلم من الله بالوحي ، ثم استدل لغيره بما تعلم منه تعالى فتعلم غيره منه ، وهذا ما في بعض الأخبار من قولهم عليهم السلام : ( إن الله تعالى أرسل رسله إلى عباده ليعقلوا عنه ما جهلوه ).

    التوحيد _ 292 _

    42 ـ باب إثبات حدوث العالم

      1 ـ حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله ، قال : حدثنا محمد بن الحسن الصفار ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، قال : حدثني علي بن منصور ، قال : سمعت هشام بن الحكم يقول : دخل أبو شاكر الديصاني (1) على أبي عبد الله عليه السلام فقال له : إنك أحد النجوم الزواهر ، وكان آباؤك بدورا بواهر ، وأمهاتك عقيلات عباهر ، وعنصرك من أكرم العناصر ، وإذا ذكر العلماء فبك تثنى الخناصر (2) فخبرني أيها البحر الخضم الزاخر ما الدليل على حدوث العالم ؟ (3) فقال أبو عبد الله عليه السلام : نستدل عليه بأقرب الأشياء (4) قال : وما هو ؟ قال : فدعا أبو عبد الله عليه السلام ببيضة فوضعها على راحته ، فقال : هذا حصن ملموم داخله غرقئ رقيق لطيف (5) به فضة سائلة وذهبة مائعة ثم تنفلق ، عن مثل الطاووس ، أدخلها شيء ؟ (6) فقال : لا ، قال : فهذا الدليل على حدوث العالم ، قال : أخبرت فأوجزت ، وقلت فأحسنت ، وقد علمت أنا لا نقبل إلا ما أدركناه

    ---------------------------
    (1) منسوب إلى رجل مسمى بديصان ، ويقال له ابن ديصان أيضا كما في قول المصنف في أواخر الباب السادس والثلاثين ، اختلق مذهبا ودعا الناس إليه ، ذكر صفته وتفصيل مذهبه في الفهرست لابن النديم والملل والنحل والبحار في باب التوحيد ونفي الشريك ، قال ابن النديم في الفهرست : الديصانية إنما سمي صاحبهم بديصان باسم نهر ولد عليه ، وهو قبل مانى ، والمذهبان قريبان بعضهما من بعض ـ الخ.
    (2) أي أنت تعد أولا ومقدما عليهم ثم يعد سائر العلماء في المرتبة المتأخرة عنك.
    (3) أي كونه مصنوعا للصانع .
    (4) في ( ج ) و ( و ) و ( د ) ( يستدل عليه ـ الخ ).
    (5) الغرقئ كالزبرج وهمزته للالحاق هو القشر اللطيف في البيض تحت القشر الظاهر.
    (6) أي لا شبهة أن صيرورتها طاووسا أو غيره إنما هي بصنعة صانع ، ولم يدخل فيها شيء مما ندركه ويصلح للصانعية لها ، فالصانع لها طاووسا موجود متعال عن إدراكنا.

    التوحيد _ 293 _

       بأبصارنا ، أو سمعناه بآذاننا ، أو شممناه بمناخرنا أو ذقناه بأفواهنا أو لمسناه بأكفنا أو تصور في القلوب بيانا أو استنبطه الرويات (1) إيقانا ، قال أبو عبد الله : ذكرت الحواس الخمس وهي لا تنفع شيئا بغير دليل كما لا يقطع الظلمة بغير مصباح (2).
      2 ـ حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضي الله عنه ، قال : حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن العباس بن عمرو الفقيمي ، عن هشام بن الحكم أن ابن أبي العوجاء دخل على الصادق عليه السلام فقال له : يا ابن أبي العوجاء أمصنوع أنت أم غير مصنوع ؟! فقال : لا ، لست بمصنوع ، فقال له الصادق عليه السلام : فلو كنت مصنوعا كيف كنت تكون (3) فلم يحر ابن أبي العوجاء جوابا ، وقام وخرج.
      3 ـ حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار ( ره ) قال : حدثنا سعد بن عبد الله ، قال : حدثنا إبراهيم بن هاشم ، عن علي بن معبد ، عن الحسين بن خالد ، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليهما السلام ، أنه دخل عليه رجل فقال له : يا ابن رسول الله ما الدليل على حدث العالم ؟ قال : أنت لم تكن ثم كنت ، وقد علمت أنك لم تكون نفسك ولا كونك من هو مثلم .
      4 ـ حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله ، قال : حدثنا محمد بن الحسن الصفار ، عن إبراهيم بن هاشم ، عن محمد بن حماد ، عن الحسن بن إبراهيم عن يونس بن عبد الرحمن ، عن يونس بن يعقوب ، قال : قال لي علي بن منصور : قال لي هشام بن الحكم : كان زنديق بمصر يبلغه عن أبي عبد الله عليه السلام علم (4) فخرج

    ---------------------------
    (1) في بعض النسخ ( استنبطه الروايات إيقانا ).
    (2) أي لا تفيد الحواس يقينا وتصديقا بشيء من دون دلالة العقل وحكمه لأن شأنها إيجاب التصور للجزئيات كما أن الطريق المظلم لا يقطع بدون المصباح ، فإذا كان الأمر كذلك فالمتبع حكم العقل سواء كان هناك إحساس أم لا .
    (3) منطوق بيانه عليه السلام أنك لو كنت مصنوعا لكنت على الأوصاف التي أنت عليها الآن لكنك على الأوصاف فأنت مصنوع .
    (4) في البحار وفي نسخة ( و ) و ( ج ) و ( د ) و ( ب ) ( يبلغه عن أبي عبد الله عليه السلام فخرج ـ الخ ) وفي الكافي باب حدوث العالم : ( تبلغه عن أبي عبد الله عليه السلام أشياء فخرج ـ الخ ).

    التوحيد _ 294 _

       إلى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها ، فقيل له : هو بمكة فخرج الزنديق إلى مكة ، ونحن مع أبي عبد الله عليه السلام ، فقاربنا الزنديق ونحن مع أبي عبد الله عليه السلام في الطواف فضرب كتفه كتف أبي عبد الله عليه السلام ، فقال له أبو عبد الله جعفر عليه السلام : ما اسمك ؟ قال : اسمي عبد الملك ، قال : فما كنيتك ؟ قال : أبو عبد الله ، قال : فمن الملك الذي أنت له عبد ، أمن ملوك السماء أم من ملوك الأرض ؟! وأخبرني عن ابنك أعبد إله السماء ؟ أم عبد إله الأرض ؟! فسكت ، فقال أبو عبد الله عليه السلام : قل ما شئت تخصم ، قال هشام بن الحكم : قلت للزنديق : أما ترد عليه ؟! فقبح قولي ، فقال له أبو عبد الله عليه السلام : إذا فرغت من الطواف فأتنا ، فلما فرغ أبو عبد الله عليه السلام أتاه الزنديق ، فقعد بين يديه ، ونحن مجتمعون عنده ، فقال للزنديق : أتعلم أن للأرض تحتا وفوقا ؟! قال : نعم ، قال : فدخلت تحتها ؟! قال : لا ، قال : فما يدريك بما تحتها ؟! قال : لا أدري إلا أني أظن أن ليس تحتها شيء ، قال أبو عبد الله عليه السلام : فالظن عجز ما لم تستيقن ، قال أبو عبد الله عليه السلام : فصعدت السماء ؟! قال : لا ، قال : فتدري ما فيها ؟! قال : لا ، قال : فأتيت المشرق والمغرب فنظرت ما خلفهما ؟! قال : لا ، قال : فعجبا لك ، لم تبلغ المشرق ولم تبلغ المغرب ولم تنزل تحت الأرض ولم تصعد السماء ولم تخبر هنالك فتعرف ما خلفهن (1) وأنت جاحد ما فيهن ، وهل يجحد العاقل ما لا يعرف ؟! (2) فقال الزنديق : ما كلمني بهذا أحد غيرك ، قال أبو عبد الله عليه السلام : فأنت في شك من ذلك ، فلعل هو أو لعل ليس هو ، قال الزنديق : ولعل ذاك ، فقال أبو عبد الله عليه السلام : أيها الرجل ليس لمن لا يعلم حجة على من يعلم ، فلا حجة للجاهل على العالم ، يا أخا أهل مصر تفهم عني ، فإنا لا نشك في

    ---------------------------
    (1) في البحار وفي نسخة ( ب ) ( ولم تجز هنالك فتعرف ما خلقهن ).
    (2) هذا نظير قوله تعالى : ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ) فإن العقل لا يجوز أن ينكر الإنسان ما لا يعلم حتى يعلم نفيه كما لا يجوز أن يقبله حتى يعلم إثباته ، قال تعالى : ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) ، فلذا قال عليه السلام : فلعل هو أو لعل ليس هو ، فالأمر في بقعة الامكان ما لم يعلم نفيه أو ثبوته.

    التوحيد _ 295 _

       الله أبدا ، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان ولا يشتبهان ، يذهبان و يرجعان ، قد اضطرا ، ليس لهما مكان إلا مكانها ، فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلا يرجعان (1) فلم يرجعان ؟! وإن لم يكونا مضطرين فلم لا يصير الليل نهارا و النهار ليلا ، اضطرا والله يا أخا أهل مصر إلى دوامهما ، والذي اضطرهما أحكم منهما وأكبر منهما ، قال الزنديق : صدقت .
       ثم قال أبو عبد الله عليه السلام : يا أخا أهل مصر! الذي تذهبون إليه وتظنونه بالوهم (2) فإن كان الدهر يذهب بهم لم لا يردهم ، وإن كان يردهم لم لا يذهب بهم ، القوم مضطرون ، يا أخا أهل مصر السماء مرفوعة والأرض موضوعة ، لم لا تسقط السماء على الأرض ، ولم لا تنحدر الأرض فوق طاقتها ؟ (3) فلا يتماسكان ولا يتماسك من عليهما ، فقال الزنديق : أمسكهما والله ربهما وسيدهما (4) فآمن الزنديق على يدي أبي عبد الله عليه السلام فقال له حمران بن أعين : جعلت فداك إن آمنت الزنادقة على يديك فقد آمنت الكفار على يدي أبيك ، فقال المؤمن الذي آمن على يدي أبي عبد الله عليه السلام : اجعلني من تلامذتك ، فقال أبو عبد الله عليه السلام لهشام بن الحكم : خذه إليك فعلمه ، فعلمه هشام ، فكان معلم أهل مصر وأهل الشام ، وحسنت طهارته حتى رضي بها أبو عبد الله عليه السلام.
      5 ـ حدثنا أبي ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمهما الله ، قالا : حدثنا أحمد بن إدريس ، ومحمد بن يحيى العطار ، عن محمد بن أحمد ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن الحسين ، عن علي بن يعقوب الهاشمي ، عن مروان بن مسلم ، قال : دخل ابن أبي العوجاء على أبي عبد الله عليه السلام فقال : أليس تزعم أن الله خالق كل شيء ؟

    ---------------------------
    (1) في البحار وفي نسخة ( ب ) و ( ج ) ( ولا يرجعان ).
    (2) خبر ( الذي ) مقدر وهو ( ليس بالمبدء الفاعل للأمور ) ، وقوله : ( فإن كان الدهر ـ الخ ) تعليل جعله مكان الخبر لكونه معلولا له ، وفي الكافي : ( وتظنون أنه الدهر ).
    (3) أي فوق محيطها ، أي لا تخرج عن مكانها ، وفي الكافي والبحار : ( فوق طباقها ).
    (4) في الكافي : ( أمسكهما الله ربهما وسيدهما ).

    التوحيد _ 296 _

       فقال أبو عبد الله عليه السلام : بلى ، فقال : أنا أخلق ، فقال عليه السلام له : كيف تخلق ؟!
       فقال : أحدث في الموضع ثم ألبث عنه فيصير دواب ، فأكون أنا الذي خلقتها ، فقال أبو عبد الله عليه السلام : أليس خالق الشيء يعرف كم خلقه ؟ قال : بلى ، قال : فتعرف الذكر منها من الأنثى ، وتعرف كم عمرها ؟! فسكت.
      6 ـ حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله قال : حدثنا محمد بن يعقوب الكليني بإسناده رفع الحديث أن ابن أبي العوجاء حين كلمه أبو عبد الله عليه السلام عاد إليه في اليوم الثاني فجلس وهو ساكت لا ينطق ، فقال أبو عبد الله عليه السلام : كأنك جئت تعيد بعض ما كنا فيه ، فقال : أردت ذاك يا ابن رسول الله فقال أبو عبد الله عليه السلام : ما أعجب هذا ، تنكر الله وتشهد أني ابن رسول الله ، فقال : العادة تحملني على ذلك ، فقال له العالم عليه السلام : فما يمنعك من الكلام ؟ قال : إجلالا لك ومهابة ما ينطلق لساني بين يديك فإني شاهدت العلماء وناظرت المتكلمين فما تداخلني هيبة قط مثل ما تداخلني من هيبتك ، قال : يكون ذلك ، ولكن أفتح عليك بسؤال (1) وأقبل عليه ، فقال له : أمصنوع أنت أم غير مصنوع ؟! فقال عبد الكريم بن أبي العوجاء أنا غير مصنوع ، فقال له العالم عليه السلام : فصف لي لو كنت مصنوعا كيف كنت تكون فبقي عبد الكريم مليا لا يحير جوابا ، وولع بخشبة كانت بين يديه (2) وهو يقول : طويل عريض عميق قصير متحرك ساكن ، كل ذلك صفة خلقه (3) فقال له العالم عليه السلام : فإن كنت لم تعلم صفة الصنعة غيرها فاجعل نفسك مصنوعا لما تجد في نفسك

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( ط ) و ( ن ) ( ولكن افتح عليك سؤالا ).
    (2) أي أخذ يتأملها.
    (3) الضمير يرجع إلى خشبة ، والتذكير باعتبار كونها شيئا ، أي كل هذه الأمور صفة مخلوقية هذا الشيء ، أو يرجع إلى الله ، وهذا اعتراف بالفطرة ، ولكن المعاندة منعته عن الاعتراف باللسان ، فقال له العالم عليه السلام : إن اعترفت بهذا المقدار من صفة المخلوقية في هذه الخشبة فأنت أيضا مثلها في الاتصاف بهذه الأوصاف ، فاجعل نفسك أيضا مصنوعا ، والمصنوع لا بد له من صانع غير مصنوع .

    التوحيد _ 297 _

       مما يحدث من هذه الأمور ، فقال له عبد الكريم : سألتني عن مسألة لم يسألني أحد عنها قبلك ولا يسألني أحد بعدك عن مثلها ، فقال له أبو عبد الله عليه السلام : هبك علمت أنك لم تسأل فيما مضى فما علمك أنك لا تسأل فيما بعد ، على أنك يا عبد الكريم نقضت قولك لأنك تزعم أن الأشياء من الأول سواء فكيف قدمت وأخرت (1).
       ثم قال : يا عبد الكريم أزيدك وضوحا (2) أرأيت لو كان معك كيس فيه جواهر فقال لك قائل : هل في الكيس دينار ؟ فنفيت كون الدينار في الكيس ، فقال لك قائل : صف لي الدينار وكنت غير عالم بصفته ، هل كان لك أن تنفي كون الدينار في الكيس وأنت لا تعلم ؟ قال : لا ، فقال أبو عبد الله عليه السلام : فالعالم أكبر و أطول وأعرض من الكيس ، فلعل في العالم صنعة لا تعلم صفة الصنعة من غير الصنعة فانقطع عبد الكريم ، وأجاب إلى الإسلام بعض أصحابه ، وبقي معه بعض .
       فعاد في اليوم الثالث فقال : أقلب السؤال ؟ فقال له أبو عبد الله عليه السلام : سل عما شئت ، فقال : ما الدليل على حدث الأجسام ؟ فقال : إني ما وجدت شيئا صغيرا ولا كبيرا إلا إذا ضم إليه مثله صار أكبر ، وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الأولى (3) ولو كان قديما ما زال ولا حال لأن الذي يزول ويحول يجوز أن يوجد ويبطل ، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث ، وفي كونه في الأولى (*) دخوله في العدم ، ولن يجتمع صفة الأزل والعدم في شيء واحد (4) فقال عبد الكريم : هبك

    ---------------------------
    (1) هذا مرتبط بقوله عليه السلام : ( هبك علمت ـ الخ ) والمعنى إنك يا عبد الكريم قائل بأن كل نوع من الأشياء على السواء لا تفاضل بين أفراده فيكف قدمتني وأخرت غيري بفضل العلم.
    (2) في نسخة ( ط ) و ( ن ) ( أنزيدك وضوحا ).
    (3) هذا إشارة إلى الدليل المشهور بين المتكلمين : ( العالم متغير وكل متغير حادث فالعالم حادث ) لأن القديم لا يحول ولا يزول عن حاله .
    * ـ لعلّ الصواب ( في الأزل ).
    (4) هكذا في النسخ التي عندي ، وفي البحار باب إثبات الصانع : ( وفي كونه في الأزل دخوله في القدم ، ولن تجتمع صفة الأزل والحدوث والقدم والعدم في شيء واحد ).
       وفي باب حدوث العالم من الكافي هكذا : ( وفي كونه في الأزل دخوله في العدم ولن تجتمع صفة الأزل والعدم والحدوث والقدم في شيء واحد ).

    التوحيد _ 298 _

       علمت في جري الحالتين والزمانين على ما ذكرت واستدللت على حدوثها ، فلو بقيت الأشياء على صغرها من أين كان لك أن تستدل على حدوثها ؟ فقال العالم عليه السلام : إنما نتكلم على هذا العالم الموضوع ، فلو رفعناه ووضعنا عالما أخر كان لا شيء أدل على الحدث من رفعنا إياه ووضعنا غيره ولكن أجيبك من حيث قدرت أنك تلزمنا ، ونقول : إن الأشياء لو دامت على صغرها لكان في الوهم أنه متى ما ضم شيء منه إلى مثله كان أكبر ، وفي جواز التغير عليه خروجه من القدم كما بان في تغيره دخوله في الحدث ، ليس لك وراءه شيء يا عبد الكريم ، فانقطع وخزي.
       فلما كان من العام القابل التقى معه في الحرم ، فقال له بعض شيعته : إن ابن أبي العوجاء قد أسلم ، فقال العالم عليه السلام : هو أعمى من ذلك لا يسلم ، فلما بصر بالعالم عليه السلام قال : سيدي ومولاي ، فقال له العالم عليه السلام : ما جاء بك إلى هذا الموضع ؟
       فقال : عادة الجسد وسنة البلد ولنبصر ما الناس فيه من الجنون والحلق ورمي الحجارة ، فقال العالم عليه السلام : أنت بعد على عتوك وضلالك يا عبد الكريم ، فذهب يتكلم ، فقال له : لا جدال في الحج ونفض رداءه من يده ، وقال : إن يكن الأمر كما تقول ـ وليس كما تقول ـ نجونا ونجوت ، وإن يكن الأمر كما نقول ـ و هو كما نقول ـ نجونا وهلكت ، فأقبل عبد الكريم على من معه فقال : وجدت في قلبي حزازة (1) فردوني ، فردوه ومات لا رحمه الله.
       قال مصنف هذا الكتاب رحمه الله : من الدليل على حدث الأجسام (2) أنا وجدنا أنفسنا وسائر الأجسام (3) لا تنفك مما يحدث من الزيادة والنقصان وتجري عليها من الصنعة والتدبير ويعتورها من الصور والهيئات ، وقد علمنا ضرورة أنا لم نصنعها ولا من هو من جنسنا وفي مثل حالنا صنعها ، وليس يجوز في عقل ، ولا يتصور في

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( ج ) و ( د ) و ( ه‍ ) و ( ط ) ( حرارة ).
    (2) في نسخة ( ب ) و ( ج ) و ( د ) ( من الدليل على حدث العالم ).
    (3) في نسخة ( ب ) و ( ج ) و ( د ) و ( و ) ( سائر أجسام العالم ).

    التوحيد _ 299 _

       وهم أن يكون ما لم ينفك من الحوادث ولم يسبقها قديما ، ولا أن توجد هذه الأشياء على ما نشاهدها عليه من التدبير ونعاينه فيها من اختلاف التقدير ، لا من صانع ، أو تحدث لا بمدبر ، ولو جاز أن يكون العالم بما فيه من إتقان الصنعة وتعلق بعضه ببعض وحاجة بعضه إلى بعض ، لا بصانع صنعه ، ويحدث لا بموجد أوجده لكان ما هو دونه من الإحكام والاتقان أحق بالجواز وأولى بالتصور والامكان ، وكان يجوز على هذا الوضع وجود كتابة لا كاتب لها ، ودار مبنية لا باني لها ، وصورة محكمة لا مصور لها ، ولا يكمن (1) في القياس أن تأتلف سفينة على أحكم نظم وتجتمع على أتقن صنع لا بصانع صنعها ، أو جامع جمعها ، فلما كان ركوب هذا وإجازته خروجا عن النهاية والعقول كان الأول مثله ، بل غير ما ذكرناه في العالم وما فيه من ذكر أفلاكه واختلاف أوقاته وشمسه وقمره وطلوعهما وغروبهما ومجيء برده وقيظه في أوقاتهما واختلاف ثماره وتنوع أشجاره ومجيء ما يحتاج إليه منها في إبانه ووقته أشد مكابرة وأوضح معاندة ، وهذا واضح والحمد لله .
       وسألت بعض أهل التوحيد والمعرفة عن الدليل على حدث الأجسام ، فقال : الدليل على حدث الأجسام أنها لا تخلو في وجودها من كون وجودها مضمن بوجوده ، والكون هو المحاذاة في مكان دون مكان ، ومتى وجد الجسم في محاذاة دون محاذاة مع جواز وجوده في محاذاة أخرى علم أنه لم يكن في تلك المحاذاة المخصوصة إلا لمعنى ، وذلك المعنى محدث ، فالجسم إذا محدث إذ لا ينفك من المحدث ولا يتقدمه .
       ومن الدليل على أن الله تبارك وتعالى ليس بجسم أنه لا جسم إلا وله شبه إما موجود أو موهوم ، وما له شبه من جهة من الجهات فمحدث بما دل على حدوث الأجسام ، فلما كان الله عزوجل قديما ثبت أنه ليس بجسم .
       وشيء آخر : وهو أن قول القائل جسم سمة في حقيقة اللغة لما كان طويلا عريضا ذا أجزاء وأبعاض محتملا للزيادة (2) فإن كان القائل يقول : إن الله عزوجل جسم ، يحقق هذا القول و

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( ب ) و ( و ) ( ولا مكن ).
    (2) في بعض النسخ ( محتملا ).

    التوحيد _ 300 _

       يوفيه معناه لزمه أن يثبته سبحانه بجميع هذه الحقائق والصفات ، ولزمه أن يكون حادثا بما به يثبت حدوث الأجسام أو تكون الأجسام قديمة ، وإن لم يرجع منه إلا إلى التسمية فقط كان واضعا للاسم في غير موضعه ، وكان كمن سمى الله عزوجل إنسانا ولحما ودما ، ثم لم يثبت معناها وجعل خلافه إيانا على الاسم دون المعنى ، وأسماء الله تبارك وتعالى لا تؤخذ إلا عنه أو عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو عن الأئمة الهداة عليهم السلام.
      7 ـ حدثنا أحمد بن الحسن القطان ، قال : حدثنا الحسن بن علي السكري قال : حدثنا محمد بن زكريا ، عن جعفر بن محمد بن عمارة ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه محمد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين عليهم السلام ، قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : إن للجسم ستة أحوال : الصحة والمرض والموت و الحياة والنوم واليقظة ، وكذلك الروح فحياتها علمها ، وموتها جهلها ، ومرضها شكها ، وصحتها يقينها ، ونومها غفلتها ، ويقظتها حفظها ، ومن الدليل على أن الأجسام محدثة (1) أن الأجسام لا تخلو من أن تكون مجتمعة أو مفترقة ، ومتحركة أو ساكنة ، والاجتماع والافتراق والحركة والسكون محدثة ، فعلمنا أن الجسم محدث لحدوث ما لا ينفك منه ولا يتقدمه . فإن قال قائل : ولم قلتم : إن الاجتماع والافتراق مبنيان وكذلك الحركة والسكون حتى زعمتم أن الجسم لا يخلو منهما ؟ قيل له : الدليل على ذلك أنا نجد الجسم يجتمع بعد أن كان مفترقا ، وقد كان يجوز أن يبقى مفترقا ، فلو لم يكن قد حدث معنى كان لا يكون بأن يصير مجتمعا أولى من أن يبقى مفترقا على ما كان عليه ، لأنه لم يحدث نفسه في هذا الوقت فيكون بحدوث نفسه ما صار مجتمعا (2) ولا بطلت في هذا الوقت فيكون لبطلانها ، ولا يجوز أن يكون لبطلان معنى ما صار مجتمعا ، ألا ترى أنه لو كان أنما يصير مجتمعا لبطلان معنى ومفترقا

    ---------------------------
    (1) هذا الكلام إلى آخر الباب من المصنف ، قد أتى بالحديث في ضمن كلامه شاهدا.
    (2) ( ما ) هذه مصدرية وكذا ما بعدها.

    التوحيد _ 301 _

       لبطلان معنى لوجب أن يصير مجتمعا ومفترقا في حالة واحدة لبطلان المعنيين جميعا وأن يكون كل شيء خلا من أن يكون فيه معنى مجتمعا مفترقا ، حتى كان يجب أن يكون الأعراض مجتمعة متفرقة لأنها قد خلت من المعاني (1) وقد تبين بطلان ذلك ، وفي بطلان ذلك دليل على أنه إنما كان مجتمعا لحدوث معنى و متفرقا لحدوث معنى ، وكذلك القول في الحركة والسكون وسائر الأعراض.
       فإن قال قائل : فإذا قلتم : إن المجتمع إنما يصير مجتمعا لوجود الاجتماع ومفترقا لوجود الافتراق فما أنكرتم من أن يصير مجتمعا مفترقا لوجودهما فيه كما ألزمتم ذلك من يقول : إن المجتمع إنما يصير مجتمعا لانتفاء الافتراق و مفترقا لانتفاء الاجتماع ، قيل له : إن الاجتماع والافتراق هما ضدان والأضداد تنضاد في الوجود فليس يجوز وجودهما في حال لتضادهما ، وليس هذا حكمهما في النفي لأنه لا ينكر انتفاء الأضداد في حالة واحدة كما ينكر وجودها ، فلهذا ما قلنا (2) إن الجسم لو كان مجتمعا لانتفاء الافتراق ومفترقا لانتفاء الاجتماع لوجب أن يصير مجتمعا مفترقا لانتفائهما ، ألا ترى أنه قد ينتفي عن الأحمر السواد والبياض مع تضادهما وأنه لا يجوز وجودهما واجتماعهما في حال واحدة ، فثبت أن انتفاء الأضداد لا ينكر في حالة واحدة كما ينكر وجودها ، وأيضا فإن القائل بهذا القول قد أثبت الاجتماع والافتراق والحركة والسكون وأوجب أن لا يجوز خلو الجسم منها لأنه إذا خلا منها يجب أن يكون مجتمعا مفترقا ومتحركا ساكنا إذ كان لخلوه منها ما يوصف بهذا الحكم ، وإذا كان ذلك كذلك ، وكان الجسم لم يخل من هذه الحوادث يجب أن يكون محدثا ، ويدل على ذلك أيضا أن الإنسان قد يؤمر بالاجتماع والافتراق والحركة والسكون ويفعل ذلك ويحمد به ويشكر عليه ويذم عليه إذا كان قبيحا ، وقد علمنا أنه لا يجوز أن يؤمر بالجسم ولا أن ينهى عنه ولا

    ---------------------------
    (1) أي المعاني الأربعة : الحركة والسكون والاجتماع والافتراق.
    (2) ما هذه موصولة ، وقوله : ( لهذا ) خبر له مقدم عليه ، وأن بالفتح بدل عن الموصول ، وفي نسخة ( ج ) ( فلهذا ما قلته ـ الخ ).

    التوحيد _ 302 _

       أن يمدح من أجله ولا يذم له ، فواجب أن يكون الذي أمر به ونهي عنه واستحق من أجله المدح والذم غير الذي لا يجوز أن يؤمر به ، ولا أن ينهى عنه ، ولا أن يستحق به المدح والذم ، فوجب بذلك إثبات الأعراض.
       فإن قال : فلم قلتم : إن الجسم لا يخلو من الاجتماع والافتراق والحركة والسكون ولم أنكرتم أن يكون قد خلا فيما لم يزل من ذلك ؟ فلا يدل ذلك على حدوثه. قيل له : لو جاز أن يكون قد خلا فيما مضى من الاجتماع والافتراق والحركة والسكون لجاز أن يخلو منها الآن ونحن نشاهده ، فلما لم يجز أن يوجد أجسام غير مجتمعة ولا مفترقة علمنا أنها لم تخل فيما مضى .
       فإن قال : ولم أنكرتم أن يكون قد خلا من ذلك فيما مضى وإن كان لا يجوز أن يخلو الآن منه ؟ قيل له : إن الأزمنة والأمكنة لا تؤثران في هذه الباب ، ألا ترى لو كان قائل قال : كنت أخلو من ذلك عام أول أو منذ عشرين سنة وإن ذلك سيمكنني بعد هذا الوقت أو يمكنني بالشأم دون العراق أو بالعراق دون الحجاز لكان عند أهل العقل مخبلا جاهلا ، والمصدق له جاهل ، فعلمنا أن الأزمنة و الأمكنة لا تؤثران في ذلك ، وإذا لم يكن لها حكم ولا تأثير في هذا الباب فواجب أن يكون حكم الجسم فيما مضى وفيما يستقبل حكمه الآن ، وإذا كان لا يجوز أن يخلو الجسم في هذا الوقت من الاجتماع والافتراق والحركة والسكون علمنا أنه لم يخل من ذلك قط ، وأنه لو خلا من ذلك فيما مضى كان لا ينكر أن يبقى على ما كان عليه إلى هذا الوقت ، فكان لو أخبرنا مخبر عن بعض البلدان الغائبة أن فيها أجساما غير مجتمعة ولا مفترقة ولا متحركة ولا ساكنة أن نشك في ذلك ولا نأمن أن يكون صادقا ، وفي بطلان ذلك دليل على بطلان هذا القول ، وأيضا فإن من أثبت الأجسام غير مجتمعة ولا مفترقة فقد أثبتها غير متقاربة بعضها عن بعض ، ولا متباعدة بعضها عن بعض ، وهذه صفة لا تعقل لأن الجسمين لا بد من أن يكون بينهما مسافة وبعد ، أو لا يكون بينهما مسافة ولا بعد ولا سبيل إلى ثالث ، فلو كان بينهما مسافة وبعد لكانا مفترقين ولو كان لا مسافة بينهما ولا بعد لوجب أن يكونا مجتمعين

    التوحيد _ 303 _

       لأن هذا هو حد الاجتماع والافتراق ، وإذا كان ذلك كذلك فمن أثبت الأجسام غير مجتمعة ولا مفترقة فقد أثبتها على صفة لا تعقل ، ومن خرج بقوله عن المعقول كان مبطلا .
       فإن قال قائل : ولم قلتم : إن الأعراض محدثة ولم أنكرتم أن تكون قديمة مع الجسم لم تزل ؟ قيل له : لأنا وجدنا المجتمع إذا فرق بطل منه الاجتماع وحدث له الافتراق ، وكذلك المفترق إذا جمع بطل منه الافتراق وحدث له الاجتماع والقديم هو قديم لنفسه ولا يجوز عليه الحدوث والبطلان ، فثبت أن الاجتماع والافتراق محدثان ، وكذلك القول في سائر الأعراض ، ألا ترى أنها تبطل بأضدادها ثم تحدث بعد ذلك ، وما جاز عليه الحدوث والبطلان لا يكون إلا محدثا ، وأيضا فإن الموجود القديم الذي لم يزل لا يحتاج في وجوده إلى موجد ، فيعلم أن الوجود أولى به من العدم لأنه لو لم يكن الوجود أولى به من العدم لم يوجد إلا بموجد ، وإذا كان ذلك كذلك علمنا أن القديم لا يجوز عليه البطلان إذا كان الوجود أولى به من العدم ، وأن ما جاز عليه أن يبطل لا يكون قديما .
       فإن قال : ولم قلتم : إن ما لم يتقدم المحدث يجب أن يكون محدثا ؟ قيل له : لأن المحدث هو ما كان بعد أن لم يكن ، والقديم هو الموجود لم يزل ، و الموجود لم يزل يجب أن يكون متقدما لما قد كان بعد أن لم يكن ، وما لم يتقدم المحدث فحظه في الوجود حظ المحدث لأنه ليس له من التقدم إلا ما للمحدث ، وإذا كان ذلك كذلك وكان المحدث بما له من الحظ في الوجود والتقدم لا يكون قديما بل يكون محدثا ، فذلك ما شاركه في علته وساواه في الوجود ولم يتقدمه فواجب أن يكون محدثا .
       فإن قال : أوليس الجسم لا يخلو من الأعراض ولا يجب أن يكون عرضا فما أنكرتم أن لا يخلو من الحوادث ولا يجب أن يكون محدثا ؟ قيل له : إن وصفنا العرض بأنه عرض ليس هو من صفات التقدم والتأخر ، إنما هو إخبار عن

    التوحيد _ 304 _

       أجناسها (1) والجسم إذا لم يتقدمها فليس يجب أن يصير من جنسها ، فلهذا لا يجب أن يكون الجسم وإن لم يتقدم الأعراض عرضا إذا لم يشاركها فيما له كانت الأعراض أعراضا ، ووصفنا القديم بأنه قديم هو إخبار عن تقدمه ووجوده لا إلى أول ، ووصفنا المحدث بأنه محدث هو إخبار عن كونه إلى غاية ونهاية وابتداء و أول ، وإذا كان ذلك كذلك فما لم يتقدمه من الأجسام فواجب أن يكون موجودا إلى غاية ونهاية ، لأنه لا يجوز أن يكون الموجود لا إلى أول لم يتقدم الموجود إلى أول وابتداء ، وإذا كان ذلك كذلك فقد شارك المحدث فيما كان له محدثا و هو وجوده إلى غاية ، فلذلك وجب أن يكون محدثا لوجوده إلى غاية ونهاية ، و كذلك الجواب في سائر ما تسأل في هذا الباب من هذه المسألة.
       فإن قال قائل : فإذا ثبت أن الجسم محدث فما الدليل على أن له محدثا ؟
       قيل له : لأنا وجدنا الحوادث كلها متعلقة بالمحدث .
       فإن قال : ولم قلتم : إن المحدثات إنما كانت متعلقة بالمحدث من حيث كانت محدثة ؟ قيل : لأنها لو لم تكن محدثة لم تحتج إلى محدث ، ألا ترى أنها لو كانت موجودة غير محدثة أو كانت معدومة لم يجز أن تكون متعلقة بالمحدث ، وإذا كان ذلك كذلك فقد ثبت أن تعلقها بالمحدث إنما هو من حيث كانت محدثة ، فوجب أن يكون حكم كل محدث حكمها في أنه يجب أن يكون له محدث ، وهذه أدلة أهل التوحيد الموافقة للكتاب والآثار الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام.

    43 ـ باب حديث ذعلب

      1 ـ حدثنا أحمد بن الحسن القطان وعلي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله قالا : حدثنا أحمد بن يحيى بن زكريا القطان ، قال : حدثنا محمد بن العباس قال : حدثني محمد بن أبي السري ، قال : حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، عن

    ---------------------------
    (1) أي عن أجناس الأعراض.

    التوحيد _ 305 _

       سعد الكناني ، عن الأصبغ بن نباتة ، قال : لما جلس علي عليه السلام في الخلافة وبايعه الناس خرج إلى المسجد متعمما بعمامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لابسا بردة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، متنعلا نعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، متقلدا سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصعد المنبر فجلس عليه السلام عليه متمكنا ، ثم شبك بين أصابعه فوضعها أسفل بطنه ، ثم قال : يا معشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني ، هذا سفط العلم ، هذا لعاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، هذا ما زقني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زقا زقا ، سلوني فإن عندي علم الأولين والآخرين ، أما والله لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم حتى تنطق التوراة فتقول : صدق علي ما كذب ، لقد أفتاكم بما أنزل الله في ، وأفتيت أهل الإنجيل بإنجيلهم حتى ينطق الإنجيل فيقول : صدق علي ما كذب ، لقد أفتاكم بما أنزل الله في ، وأفتيت أهل القرآن بقرآنهم حتى ينطق القرآن فيقول : صدق علي ما كذب ، لقد أفتاكم بما أنزل الله في ، وأنتم تتلون القرآن ليلا ونهارا فهل فيكم أحد يعلم ما نزل فيه ، ولولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وبما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة وهي هذه الآية ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (1).
       ثم قال : سلوني قبل أن تفقدوني ، فوالله الذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو سألتموني عن آية آية في ليل أنزلت أو في نهار أنزلت ، مكيها ومدنيها ، سفريها و حضريها ، ناسخها ومنسوخها ، محكمها ومتشابهها ، وتأويلها وتنزيلها لأخبرتكم ، فقام إليه رجل يقال له : ذعلب وكان ذرب اللسان ، بليغا في الخطب ، شجاع القلب فقال : لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاة صعبة لأخجلنه اليوم لكم في مسألتي إياه ، فقال : يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك ؟ قال : ويلك يا ذعلب لم أكن بالذي أعبد رباه لم أره ، قال : فكيف رأيته ؟ صفه لنا ؟ قال : ويلك لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ، ويلك يا ذعلب إن ربي لا يوصف

    ---------------------------
    (1) الرعد : 39 ، ظاهر كلامه عليه السلام أن علمه عليه السلام دون البداء ، ولكن الآيات و الأخبار تدل على أنه شامل له ، فلا بد من صرفه عن ظاهره ، بل الظهور ممنوع .

    التوحيد _ 306 _

       بالبعد ، ولا بالحركة ، ولا بالسكون ، ولا بالقيام قيام انتصاب ، ولا بجيئه ولا بذهاب ، لطيف اللطافة لا يوصف باللطف ، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم ، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر ، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ ، رؤوف الرحمة لا يوصف بالرقة مؤمن لا بعبادة ، مدرك لا بمجسة ، قائل لا باللفظ ، هو في الأشياء على غير ممازجة .
       خارج منها على غير مباينة ، فوق كل شيء فلا يقال : شيء فوقه ، وأمام كل شيء فلا يقال : له أمام ، داخل في الأشياء لا كشئ في شيء داخل ، وخارج منها لا كشئ من شيء خارج ، فخر ذعلب مغشيا عليه ، ثم قال : تالله ما سمعت بمثل هذا الجواب ، والله لا عدت إلى مثلها .
       ثم قال : سلوني قبل أن تفقدوني ، فقام إليه الأشعث بن قيس ، فقال : يا أمير المؤمنين كيف يؤخذ من المجوس الجزية ولم ينزل عليهم الكتاب ولم يبعث إليهم نبي ؟ قال : بلى يا أشعث قد أنزل الله عليهم كتابا وبعث إليهم رسولا ، حتى كان لهم ملك سكر ذات ليلة فدعا بابنته إلى فراشه فارتكبها ، فلما أصبح تسامع به قومه فاجتمعوا إلى بابه ، فقالوا : أيها الملك دنست علينا ديننا وأهلكته فاخرج نطهرك ونقم عليك الحد ، فقال لهم : اجتمعوا واسمعوا كلامي فإن يكن لي مخرج مما ارتكبت ، وإلا فشأنكم ، فاجتمعوا فقال لهم : هل علمتم أن الله لم يخلق خلقا أكرم عليه من أبينا آدم وأمنا حواء ؟ قالوا : صدقت أيها الملك ، قال : أفليس قد زوج بنيه من بناته وبناته من بنيه ؟ قالوا : صدقت هذا هو الدين فتعاقدوا على ذلك ، فمحا الله ما في صدروهم من العلم ، ورفع عنهم الكتاب ، فهم الكفرة يدخلون النار بلا حساب ، والمنافقون أشد حالا منهم ، قال الأشعث : والله ما سمعت بمثل هذا الجواب ، والله لا عدت إلى مثلها أبدا.
       ثم قال : سلوني قبل أن تفقدوني ، فقام إليه رجل من أقصى المسجد متوكئا على عصاه ، فلم يزل يتخطى الناس حتى دنا منه فقال : يا أمير المؤمنين دلني على عمل أنا إذا عملته نجاني الله من النار ، قال له : اسمع يا هذا ثم افهم ثم استيقن ، قامت الدنيا بثلاثة : بعالم ناطق مستعمل لعلمه ، وبغني لا يبخل بماله على أهل

    التوحيد _ 307 _

       دين الله ، وبفقير صابر ، فإذا كتم العالم علمه ، وبخل الغني ، ولم يصبر الفقير فعندها الويل والثبور ، وعندها يعرف العارفون بالله أن الدار قد رجعت إلى بدئها أي الكفر بعد الإيمان ، أيها السائل فلا تغترن بكثرة المساجد وجماعة أقوام أجسادهم مجتمعة وقلوبهم شتى ، أيها السائل إنما الناس ثلاثة : زاهد وراغب وصابر ، فأما الزاهد فلا يفرح بشيء من الدنيا أتاه ولا يحزن على شيء منها فاته ، وأما الصابر فيتمناها بقلبه ، فإن أدرك منها شيئا صرف عنها نفسه لما يعلم من سوء عاقبتها ، وأما الراغب فلا يبالي من حل أصابها أم من حرام ، قال له : يا أمير المؤمنين فما علامة المؤمن في ذلك الزمان ؟ قال : ينظر إلى ما أوجب الله عليه من حق فيتولاه وينظر إلى ما خالفه فيتبرء منه وإن كان حميما قريبا ، قال : صدقت والله يا أمير المؤمنين ثم غاب الرجل فلم نره ، فطلبه الناس فلم يجدوه ، فتبسم علي عليه السلام على المنبر ثم قال : ما لكم هذا أخي الخضر عليه السلام.
       ثم قال : سلوني قبل أن تفقدوني فلم يقم إليه أحد ، فحمد الله وأثنى عليه و صلى على نبيه صلى الله عليه وآله ، ثم قال للحسن عليه السلام : يا حسن قم فاصعد المنبر فتكلم بكلام لا تجهلك قريش من بعدي فيقولون : إن الحسن بن علي لا يحسن شيئا ، قال الحسن عليه السلام : يا أبت كيف أصعد وأتكلم وأنت في الناس تسمع وترى ، قال له : بأبي وأمي أواري نفسي عنك وأسمع وأرى وأنت لا تراني ، فصعد الحسن عليه السلام المنبر فحمد الله بمحامد بليغة شريفة ، وصلى على النبي صلى الله عليه وآله صلاة موجزة ، ثم قال : أيها الناس سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : أنا مدينة العلم وعلي بابها وهل تدخل المدينة إلا من بابها ، ثم نزل فوثب إليه علي عليه السلام فحمله وضمه إلى صدره ، ثم قال للحسين عليه السلام : يا بني قم فاصعد المنبر وتكلم بكلام لا تجهلك قريش من بعدي فيقولون : إن الحسين بن علي لا يبصر شيئا ، وليكن كلامك تبعا لكلام أخيك ، فصعد الحسين عليه السلام المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله صلاة موجزة ، ثم قال : معاشر الناس سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يقول : إن عليا هو مدينة هدى فمن دخلها نجا ومن تخلف عنها هلك ، فوثب

    التوحيد _ 308 _

       إليه علي فضمه إلى صدره وقبله ، ثم قال : معاشر الناس اشهدوا أنهما فرخا رسول الله صلى الله عليه وآله ووديعته التي استودعنيها وأنا أستودعكموها ، معاشر الناس ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سائلكم عنهما.
      2 ـ حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله قال : حدثنا محمد ابن أبي عبد الله الكوفي ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل البرمكي ، قال : حدثني الحسين بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن داهر قال : حدثني الحسين بن يحيى الكوفي ، قال : حدثني قثم بن قتادة ، عن عبد الله بن يونس ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : بينا أمير المؤمنين عليه السلام يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه رجل يقال له : ذعلب ذرب اللسان ، بليغ في الخطاب شجاع القلب ، فقال : يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك ؟ فقال : ويلك يا ذعلب ما كنت أعبد ربا لم أراه ، قال : يا أمير المؤمنين كيف رأيته ؟ قال : ويلك يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ، ويلك يا ذعلب إن ربي لطيف اللطافة فلا يوصف باللطف ، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم ، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر ، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ ، قبل كل شيء فلا يقال : شيء قبله ، وبعد كل شيء فلا يقال : شيء بعده شائي الأشياء لا بهمة دراك لا بخديعة ، هو في الأشياء كلها غير متمازح بها ولا بائن عنها ، ظاهر لا بتأويل المباشرة ، متجل لا باستهلال رؤية ، بائن لا بمسافة ، قريب لا بمداناة ، لطيف لا بتجسم ، موجود لا بعد عدم ، فاعل لا باضطرار ، مقدر لا بحركة ، مريد لا بهمامة ، سميع لا بآلة ، بصير لا بأداة ، لا تحويه الأماكن ، ولا تصحبه الأوقات ، ولا تحده الصفات ، ولا تأخذه السنات ، سبق الأوقات كونه ، والعدم وجوده ، والابتداء أزله ، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له ، وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له ، وبمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له ، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له ، ضاد النور بالظلمة ، والجسو بالبلل ، والصرد بالحرور ، مؤلف بين متعادياتها ، مفرق بين متدانياتها ، دالة بتفريقها على مفرقها وبتأليفها على مؤلفها ، وذلك قوله عزوجل : ( وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ

    التوحيد _ 309 _

       لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (1) ففرق بها بين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل له ولا بعد ، شاهدة بغرائزها على أن لا غريزة لمغرزها ، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها ، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبين خلقه غير خلقه ، كان ربا إذ لا مربوب ، وإلها إذ لا مألوه ، وعالما إذ لا معلوم ، وسمعيا إذ لا مسموع .
       ثم أنشأ يقول : ( ولم يزل سيدي بالحمد معروفا ( وكنت (2) إذ ليس نور يستضاء به ( وربنا بخلاف الخلق كلهم ( فمن يرده على التشبيه ممتثلا ( وفي المعارج يلقى موج قدرته ( فاترك أخا جدل في الدين منعمقا ( واصحب أخا ثقة حبا لسيده ( أمسى دليل الهدى في الأرض منتشرا ولم يزل سيدي بالجود موصوفا ) ولا ظلام على الآفاق معكوفا ) وكل ما كان في الأوهام موصوفا ) يرجع أخا حصر بالعجز مكتوفا ) موجا يعارض طرف الروح مكفوفا ) قد باشر الشك فيه الرأي مأووفا ) وبالكرامات من مولاه محفوفا ) وفي السماء جميل الحال معروفا ).
       قال : فخر ذعلب مغشيا عليه ، ثم أفاق ، وقال : ما سمعت بهذا الكلام ، ولا أعود إلى شيء من ذلك.
       قال مصنف هذا الكتاب : في هذا الخبر ألفاظ قد ذكرها الرضا عليه السلام في خطبته (3) وهذا تصديق قولنا في الأئمة عليهم السلام إن علم كل واحد منهم مأخوذ عن أبيه حتى يتصل ذلك بالنبي صلى الله عليه وآله.

    44 ـ باب حديث سبخت اليهودي

      1 ـ أبي رحمه الله ، قال : حدثنا سعد بن عبد الله ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن

    ---------------------------
    (1) الذاريات : 49.
    (2) في البحار وفي نسخة ( ج ) و ( و ) ( وكان ـ الخ ).
    (3) هي الحديث الثاني في الباب الثاني ، ورواه الكليني في باب جوامع التوحيد من الكافي ، ومذكور في نهج البلاغة مع زيادات.

    التوحيد _ 310 _

       عيسى وإبراهيم بن هاشم ، عن الحسن بن علي ، عن داود بن علي اليعقوبي ، عن بعض أصحابنا ، عن عبد الأعلى مولى آل سام ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وآله يهودي يقال له : سبخت (1) فقال له : يا محمد جئت أسألك عن ربك فإن أجبتني عما أسألك عنه اتبعتك وإلا رجعت ، فقال له : سل عما شئت ، فقال : أين ربك ؟ فقال : هو في كل مكان وليس هو في شيء من المكان بمحدود ، قال : فكيف هو ؟ فقال : وكيف أصف ربي بالكيف والكيف مخلوق الله ، والله لا يوصف بخلقه ، قال : فمن يعلم أنك نبي ؟ (2) قال : فما بقي حوله حجر ولا مدر ولا غير ذلك إلا تكلم بلسان عربي مبين : يا شيخ (3) إنه رسول الله ، فقال سبخت : تالله ما رأيت كاليوم أبين (4) ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
      2 ـ حدثنا أبو الحسين محمد بن إبراهيم بن إسحاق الفارسي ، قال : حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح النسوي ، قال : حدثني أحمد بن جعفر العقيلي بقهستان ، قال : حدثني أحمد بن علي البلخي ، قال : حدثنا أبو جعفر محمد بن علي الخزاعي ، قال : حدثنا عبد الله بن جعفر الأزهري ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين عليهم السلام ، قال : قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في بعض خطبه : من الذي حضر سبخت الفارسي

    ---------------------------
    (1) اختلف في ضبط هذه اللفظة كثيرا على ما ذيل البحار المطبوع جديدا في الجزء الثالث في الباب الرابع عشر ، وفي حاشية نسخة ( و ) بضم السين المهملة والباء الموحدة المشددة المفتوحة والخاء المعجمة الساكنة والتاء المفتوحة لقب أبي عبيدة.
       وقال بعض الأفاضل : ( الأصح بالخاء المعجمة وبخت كلمة كانت تدخل في أعلام أهل الكتاب وفيهم صهار بخت أي چهار بخت وبختيشوع وسبخت مركب من بخت وسه بمعنى الثلاثة ).
    (2) في حاشية نسخة ( ط ) و ( ن ) ( فمن أين يعلم أنك نبي ؟ ).
    (3) في حاشية نسخة ( ب ) ( ياسبخت ) ، والصواب ( ياسبخ ) مرخما.
    (4) في حاشية نسخة ( ب ) ( ما رأيت كاليوم اثنين ) والمراد بهما جوابه صلى الله عليه وآله وتكلم الأشياء حوله.

    التوحيد _ 311 _

       وهو يكلم رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فقال القوم : ما حضره منا أحد ، فقال علي عليه السلام :
       لكني كنت معه عليه السلام وقد جاءه سبخت وكان رجلا من ملوك فارس وكان ذربا ، فقال : يا محمد إلى ما تدعوه ؟ قال : أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ، فقال سبخت : وأين الله يا محمد ؟ قال : هو في كل مكان موجود بآياته ، قال : فكيف هو ؟ فقال : لا كيف له ولا أين لأنه عزوجل كيف الكيف وأين الأين ، قال : فمن أين جاء ؟ قال : لا يقال له : جاء ، وإنما يقال : جاء للزائل من مكان إلى مكان ، وربنا لا يوصف بمكان ولا بزوال ، بل لم يزل بلا مكان ولا يزال ، فقال : يا محمد إنك لتصف ربا عظيما بلا كيف ، فكيف لي أن أعلم أنه أرسلك ؟ فلم يبق بحضرتنا ذلك اليوم حجر ولا مدر ولا جبل ولا شجر ولا حيوان إلا قال مكانه : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، وقلت أنا أيضا : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله ، فقال : يا محمد من هذا ؟ فقال : هو خير أهلي وأقرب الخلق مني ، لحمه من لحمي ، ودمه من دمي ، وروحه من روحي ، وهو الوزير مني في حياتي (1) والخليفة بعد وفاتي ، كما كان هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ، فاسمع له وأطع فإنه على الحق ، ثم سماه عبد الله.

    45 ـ باب معنى ( سبحان الله )

      1 ـ حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب السجزي بنيسابور ، قال : أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن حمزة الشعراني العماري من ولد عمار بن ياسر رحمه الله قال : حدثنا أبو محمد عبيد الله بن يحيى بن عبد الباقي الأذني بأذنة (2) قال : حدثنا علي بن الحسن المعاني (3) قال : حدثنا عبد الله بن يزيد ، عن يحيى ـ

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( ج ) و ( ط ) ( وهذا الوزير مني ـ الخ ).
    (2) قد مر ضبطه في الحديث الرابع في الباب الثامن والثلاثين.
    (3) قال في المراصد : معان بالفتح وآخره نون مدينة في طرف بادية الشأم تلقاء الحجاز من نواحي البلقاء ، وهي الآن خراب منها ينزل حاج الشأم إلى البر.

    التوحيد _ 312 _

       ابن عقبة بن أبي العيزار (1) قال : حدثنا محمد بن حجار ، عن يزيد بن الأصم ، قال : سأل رجل عمر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين ما تفسير سبحان الله ؟ قال : إن في هذا الحائط رجلا كان إذا سئل أنبأ ، وإذا سكت ابتدأ ، فدخل الرجل فإذا هو علي بن أبي طالب عليه السلام فقال : يا أبا الحسن ما تفسير سبحان الله ؟ قال : هو تعظيم جلال الله عزوجل وتنزيهه عما قال فيه كل مشرك ، فإذا قالها العبد صلى عليه كل ملك .
      2 ـ حدثنا أبي رضي الله عنه ، قال : حدثنا علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى بن عبيد ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن هشام بن الحكم ، قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن سبحان الله ، فقال عليه السلام : أنفة لله عزوجل (2).
      3 ـ حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رحمه الله قال : حدثنا علي بن الحسين السعدآبادي ، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي ، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني عن علي بن أسباط ، عن سليمان مولى طربال (3) عن هشام الجواليقي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل ( سبحان الله ) ما يعني به ؟ قال : تنزيهه .

    46 ـ باب معنى ( الله أكبر )

      1 ـ حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار رحمه الله ، قال : حدثنا أبي ، عن
    ---------------------------
    (1) يحيى بن عقبة بن أبي العيزار أبو القاسم كوفي ، والعيزار بالفتح فالسكون الرجل الصلب الشديد والغلام الخفيف الروح واسم شجر وطائر .
    (2) الآنفة بالفتحات مصدر بمعنى التنزه والاستنكاف ، والمراد أن من قال : سبحان الله قال باستنكافه وتنزهه وتعاليه تعالى عن شبه المخلوق.
    (3) في معاني الأخبار وفي نسخة ( و ) ( سليم مولى طربال ).
       وقال الأردبيلي في جامع الرواة : الظاهر اتحاد سليم وسليمان مولى طربال واشتباه أحدهما بالآخر بقرينة اتحاد الراوي والمروي عنه والخبر .
       بل الظاهر اتحادهما مع سليم وسليمان الفراء أيضا على ما بيناه في ترجمة حريز بن عبد الله والله أعلم ، إنتهى.

    التوحيد _ 313 _

       سهل بن زياد الآدمي ، عن ابن محبوب ، عمن ذكره ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : قال رجل عنده.
       ( الله أكبر ) فقال : الله أكبر من أي شيء ؟! فقال : من كل شيء فقال أبو عبد الله عليه السلام : حددته ، فقال الرجل : كيف أقول ؟ فقال : قل : الله أكبر من أن يوصف .
      2 ـ حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه ، قال : حدثنا محمد بن يحيى العطار ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن أبيه ، عن مروك بن عبيد (1) عن جميع بن عمرو (2) قال : قال لي أبو عبد الله عليه السلام : أي شيء ( الله أكبر ) ؟!
       فقلت : الله أكبر من كل شيء ، فقال : وكان ثم شيء فيكون أكبر منه ؟! فقلت : فما هو ؟
       قال : الله أكبر من أن يوصف (3)

    47 ـ باب معنى ( الأول والآخر )

      1 ـ حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رحمه الله قال : حدثنا علي بن إبراهيم عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن أذنية ، عن محمد بن حكيم ، عن الميمون البان قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام وقد سئل عن قوله عزوجل : هو الأول والآخر ، فقال عليه السلام : الأول لا عن أول كان قبله ولا عن بدئ سبقه ، والآخر لا عن نهاية كما يعقل من صفة المخلوقين ، ولكن قديم أول آخر لم يزل ولا يزال بلا بدء ولا

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( د ) و ( ب ) ( هارون بن عبيد ).
    (2) في معاني الأخبار والكافي باب معاني الأسماء في حاشية نسخة ( و ) جميع بن عمير.
    (3) حاصل بيانه عليه السلام في هذا الباب أن وصفه تعالى بأنه أكبر من الأشياء يستلزم أن يكون مبائنا عنها بحيث يكون بينه وبينها حد فاصل ليتصور هو بحده وهي بحدودها فيحكم بأنه أكبر منها ولولا الحد بين الشيئين لا يتصور الأكبرية والأصغرية بينهما مع أنه تعالى مع كل شيء قيوما قائما كل شيء به بحيث يضمحل الكل في جنبه تعالى ، وإلى هذا أشار عليه السلام بقوله استنكارا : ( وكان ثم شيء الخ ) فتدبر ، فهو أكبر من أن يوصف لامتناع محدوديته واضمحلال كل محدود في جنب عظمته وكبريائه.

    التوحيد _ 314 _

       نهاية ، لا يقع عليه الحدوث ، ولا يحول من حال إلى حال ، خالق كل شيء .
      2 ـ حدثنا الحسين بن أحمد بن إدريس رحمه الله ، عن أبيه ، عن محمد بن عبد الجبار عن صفوان بن يحيى ، عن فضيل بن عثمان ، عن ابن أبي يعفور ، قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل : ( هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ) وقلت : أما الأول فقد عرفناه ، وأما الآخر فبين لنا تفسيره ، فقال : إنه ليس شيء إلا يبيد أو يتغير أو يدخله الغير (1) والزوال أو ينتقل من لون إلى لون ، ومن هيئة إلى هيئة ، ومن صفة إلى صفة ، ومن زيادة إلى نقصان ، ومن نقصان إلى زيادة إلا رب العالمين ، فإنه لم يزل ولا يزال واحدا (2) هو الأول قبل كل شيء وهو الآخر على ما لم يزل ، لا تختلف عليه الصفات والأسماء ما يختلف على غيره مثل الإنسان الذي يكون ترابا مرة ، ومرة لحما ، ومرة دما ، ومرة رفاتا ورميما ، وكالتمر الذي يكون مرة بلحا ، ومرة بسرا ، ومرة رطبا ، ومرة تمرا ، فيتبدل عليه الأسماء والصفات ، والله عزوجل بخلاف ذلك (3).

    ---------------------------
    (1) الغير بالفتح فالسكون مصدر واسم مصدر بمعنى تغير الحال وانتقالها ، وبالكسر فالفتح اسم جمع بمعنى الأحداث المغيرة لحال الشيء ، وفي نسخة ( د ) وحاشية نسخة ( ب ) ( أو يدخله التغير ).
    (2) في نسخة ( ط ) و ( ن ) ( فإنه لم يزل ولا يزال بحاله واحدا ).
    (3) للأول والآخر معان ذكرت في العلوم العقلية ، والأولية في حقه تعالى هي الحقيقة وهي بحسب الوجود وهي مساوقة لمعنى القدم ، والآخرية بمعنى البقاء بعد كل شيء بال تغير وتحول كما فسره الإمام عليه السلام في هذا الخبر من لوازم الأولية الحقيقية ، لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه وتغيره ، فمعنى الأولية والآخرية له تعالى أزليته وأبديته من دون تغير وزوال ، وإذ أنه واحد ولا في مرتبته شيء فليس لشيء سواه هذا الشأن فصح كلية قوله عليه السلام : ( إنه ليس شيء إلا يبيد أو يتغير ـ الخ ).