الفهرس العام

باب القرآن ما هو ؟

    30 ـ باب القرآن ما هو ؟
    31 ـ باب معنى ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )
    32 ـ باب تفسير حروف المعجم
    33 ـ باب تفسير حروف الجمل
    34 ـ باب تفسير حروف الأذان والإقامة
    35 ـ باب تفسير الهدى والضلالة والتوفيق والخذلان من الله تعالى
    36 ـ باب الرد على الثنوية والزنادقة
    37 ـ باب الرد على الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة : وما من إله إلا إله واحد
    38 ـ باب ذكر عظمة الله جل جلاله



       ( يا غاية رغبتنا ) أعطاه الله يوم القيامة رغبته ومثل رغبة الخلائق ، وإذا قال : ( أسألك يا الله أن لا تشوه خلقي بالنار ) قال الجبار جل جلاله : استعتقني عبدي من النار ، اشهدوا ملائكتي أني قد أعتقته من النار وأعتقت أبويه وأخواته وأخوانه وأهله و ولده وجيرانه ، وشفعته في ألف رجل ممن وجب لهم النار ، وآجرته من النار ، فعلمهن يا محمد المتقين ولا تعلمهن المنافقين فإنها دعوة مستجابة لقائليهن إن شاء الله ، وهو دعاء أهل البيت المعمور حوله إذا كانوا يطوفون به .
       قال مصنف هذا الكتاب : الدليل على أن الله تعالى عزوجل عالم حي قادر لنفسه لا بعلم وقدرة وحياة هو غيره أنه لو كان عالما بعلم لم يخل علمه من أحد أمرين أما أن يكون قديما أو حادثا ، فإن كان حادثا فهو جل ثناؤه قبل حدوث العلم غير عالم ، وهذا من صفات النقص ، وكل منقوص محدث بما قدمنا ، وإن كان قديما وجب أن يكون غير الله عزوجل قديما وهذا كفر بالاجماع ، فكذلك القول في القادر وقدرته والحي وحياته ، والدليل على أنه تعالى لم يزل قادرا عالما حيا أنه قد ثبت أنه عالم قادر حي لنفسه وصح بالدليل أنه عزوجل قديم وإذا كان كذلك كان عالما لم يزل إذ نفسه التي لها علم لم تزل ، وهذا يدل على أنه قادر حي لم يزل (1).

    30 ـ باب القرآن ما هو ؟

      1 ـ حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني ، رضي الله عنه ، قال : حدثنا علي بن إبراهيم ، عن أبيه إبراهيم بن هاشم ، عن علي بن معبد ، عن الحسين بن خالد ، قال : قلت للرضا علي بن موسى عليهما السلام : يا ابن رسول الله أخبرني عن القرآن أخالق أو مخلوق ؟ فقال : ليس بخالق ولا مخلوق ، ولكنه كلام الله عزوجل.
      2 ـ حدثنا جعفر بن محمد بن مسرور رضي الله عنه ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله ابن جعفر الحميري ، عن أبيه ، عن إبراهيم بن هاشم ، عن الريان بن الصلت ، قال :

    ---------------------------
    (1) ذكر هذا الكلام في الباب الحادي عشر كان أنسب.

    التوحيد _ 224 _

       قلت للرضا عليه السلام : ما تقول في القرآن ؟ فقال : كلام الله لا تتجاوزوه ، ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلوا .
      3 ـ حدثنا الحسين بن إبراهيم بن أحمد المؤدب رضي الله عنه ، قال : حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل البرمكي ، قال : حدثنا علي بن سالم ، عن أبيه ، قال : سألت الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام فقلت له : يا ابن رسول الله ما تقول في القرآن ؟ فقال : هو كلام الله وقول الله وكتاب الله ووحي الله و تنزيله ، وهو الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
      4 ـ حدثنا أبي رحمه الله ، قال : حدثنا سعد بن عبد الله ، قال : حدثنا محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني ، قال : كتب علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا عليهم السلام إلى بعض شيعته ببغداد : بسم الله الرحمن الرحيم عصمنا الله وإياك من الفتنة فإن يفعل فقد أعظم بها نعمة (1) وإن لا يفعل فهي الهلكة ، نحن نرى أن الجدال في القرآن بدعة ، اشترك فيها السائل والمجيب ، فيتعاطى السائل ما ليس له ، ويتكلف المجيب ما ليس عليه ، وليس الخالق إلا الله عزوجل ، وما سواه مخلوق ، والقرآن كلام الله ، لا تجعل له اسما من عندك فتكون من الضالين ، جعلنا الله وإياك من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون .
      5 ـ حدثنا الحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هشام المؤدب رضي الله عنه ، قال : حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل البرمكي ، قال : حدثنا عبد الله بن أحمد ، قال : حدثني سليمان بن جعفر الجعفري ، قال : قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام : يا ابن رسول الله ما تقول في القرآن فقد اختلف فيه من قبلنا ؟ فقال قوم : إنه مخلوق ، وقال قوم : إنه غير مخلوق ، فقال عليه السلام : أما إني لا أقول في ذلك ما يقولون ، ولكني أقول : إنه كلام الله.
      6 ـ حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله ، قال : حدثنا

    ---------------------------
    (1) الضمير راجع إلى العصمة ، وفي نسخة ( ط ) ( فقد تعظم بها نعمة ).

    التوحيد _ 225 _

       محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل البرمكي ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان ( كذا ) الجعفري ، قال : حدثنا أبي ، عن عبد الله بن الفضل الهاشمي ، عن سعد الخفاف ، عن الأصبغ بن نباتة ، قال : لما وقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام على الخوارج ووعظهم وذكرهم وحذرهم القتال قال لهم : ما تنقمون مني ؟ ألا إني أول من آمن بالله ورسوله (1) فقالوا : أنت كذلك ، ولكنك حكمت في دين الله أبا موسى الأشعري ، فقال عليه السلام : والله ما حكمت مخلوقا ، وإنما حكمت القرآن ، ولولا أني غلبت علي أمري وخولفت في رأيي لما رضيت أن تضع الحرب أوزارها بيني وبين أهل حرب الله حتى أعلي كلمة الله وأنصر دين الله ولو كره الكافرون والجاهلون.
       قال مصنف هذا الكتاب : قد جاء في الكتاب أن القرآن كلام الله ووحي الله وقول الله وكتاب الله ، ولم يجئ فيه أنه مخلوق ، وإنما امتنعنا من إطلاق المخلوق عليه (2) لأن المخلوق في اللغة قد يكون مكذوبا ، ويقال : كلام مخلوق أي مكذوب ، قال الله تبارك وتعالى : ( إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ) (3) أي كذبا ، وقال تعالى حكاية عن منكري التوحيد : ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ ) (4) أي افتعال وكذب ، فمن زعم أن القرآن مخلوق بمعنى أنه مكذوب فقد كفر ، ومن قال : إنه غير مخلوق بمعنى أنه غير مكذوب فقد صدق وقال الحق والصواب ، ومن زعم أنه غير مخلوق بمعنى أنه غير محدث وغير منزل وغير محفوظ فقد أخطأ وقال غير الحق والصواب ، وقد أجمع أهل الإسلام على أن القرآن كلام الله عزوجل على الحقيقة دون المجاز ، وأن من قال غير ذلك فقد قال منكرا من القول وزورا ، ووجدنا القرآن مفصلا وموصلا وبعضه غير بعض وبعضه قبل بعض كالناسخ الذي يتأخر عن المنسوخ ، فلو لم يكن ما هذه صفته حادثا بطلت الدلالة

    ---------------------------
    (1) ( ألا ) حرف تنبيه وما قبله استفهام توبيخ ، أو حرف استثناء.
    (2) في نسخة ( و ) ( وإنما منعنا ـ الخ ).
    (3) العنكبوت : 17.
    (4) ص : 7.

    التوحيد _ 226 _

       على حدوث المحدثات وتعذر إثبات محدثها بتناهيها وتفرقها واجتماعها.
       وشيء آخر وهو أن العقول قد شهدت والأمة قد اجتمعت على أن الله عزوجل صادق في إخباره ، وقد علم أن الكذب هو أن يخبر بكون ما لم يكن ، وقد أخبر الله عزوجل عن فرعون وقوله : ( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ) (1) وعن نوح : أنه نادى ابنه وهو في معزل : يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين (2).
       فإن كان هذا القول وهذا الخبر قديما فهو قبل فرعون وقبل قوله ما أخبر عنه ، وهذا هو الكذب ، وإن لم يوجد إلا بعد أن قال فرعون ذلك فهو حادث لأنه كان بعد أن لم يكن .
       وأمر آخر وهو أن الله عزوجل قال : ( وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) (3) وقوله : ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) (4) وما له مثل أو جاز أن يعدم بعد وجوده فحادث لا محالة .
      7 ـ وتصديق ذلك ما أخرجه شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه في جامعه ، وحدثنا به ، عن محمد بن الحسن الصفار (5) عن العباس بن معروف ، قال : حدثني عبد الرحمن بن أبي نجران ، عن حماد بن عثمان ، عن عبد الرحيم القصير ، قال : كتبت على يدي عبد الملك بن أعين إلى أبي عبد الله عليه السلام جعلت فداك ، اختلف الناس في أشياء قد كتبت بها إليك ، فأن رأيت جعلني الله فداك أن تشرح لي جميع ما كتبت به إليك ، اختلف الناس جعلت فداك بالعراق في المعرفة والجحود ، فأخبرني جعلت فداك أهما مخلوقان ؟ واختلفوا في القرآن ، فزعم قوم : أن القرآن كلام الله غير مخلوق وقال آخرون : كلم الله مخلوق ، وعن الاستطاعة أقبل الفعل أو مع الفعل ؟ فإن أصحابنا قد اختلفوا فيه ورووا فيه ، وعن الله تبارك وتعالى هل يوصف بالصورة أو بالتخطيط ؟ فإن رأيت جعلني الله فداك أن تكتب إلي بالمذهب الصحيح من التوحيد ، و عن الحركات أهي مخلوقة أو غير مخلوقة ؟ وعن الإيمان ما هو ؟ فكتب عليه السلام على يدي عبد الملك

    ---------------------------
    (1) النازعات : 24.
    (2) هود : 42.
    (3) الإسراء : 86.
    (4) البقرة : 106.
    (5) ( حدثنا ) عطف على أخرجه ، والضمير المستتر فيه يرجع إلى ( شيخنا ).

    التوحيد _ 227 _

       ابن أعين : سألت عن المعرفة ما هي : فاعلم رحمك الله أن المعرفة من صنع الله عزوجل في القلب مخلوقة ، والجحود صنع الله في القلب مخلوق (1) ، وليس للعباد فيهما من صنع ولهم فيهما الاختيار من الاكتساب فبشهوتهم الإيمان اختاروا المعرفة فكانوا بذلك مؤمنين عارفين ، وبشهوتهم الكفر اختاروا الجحود فكانوا بذلك كافرين جاحدين ضلالا ، وذلك بتوفيق الله لهم وخذلان من خذله الله ، فبالاختيار والاكتساب عاقبهم الله وأثابهم ، وسألت رحمك الله عن القرآن واختلاف الناس قبلكم ، فإن القرآن كلام الله محدث غير مخلوق وغير أزلي مع الله تعالى ذكره ، وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، كان الله عزوجل ولا شيء غير الله معروف ولا مجهول ، كان عزوجل ولا متكلم ولا مريد ولا متحرك ولا فاعل (2) عزوجل ربنا ، فجميع هذه الصفات محدثة عند حدوث الفعل منه ، عزوجل ربنا ، والقرآن كلام الله غير مخلوق ، فيه خبر من كان قبلكم وخبر ما يكون بعدكم (3) أنزل من عند الله على محمد رسول الله صلى الله عليه وآله (4).
       وسألت رحمك الله عن الاستطاعة للفعل (5) فإن الله عزوجل خلق العبد وجعل

    ---------------------------
    (1) الكلام في المعرفة والجحود يأتي في الباب الثالث والستين.
    (2) قوله ( ولا متحرك ) أي فاعل الحركة ، أو المعنى لا ظاهر بفعله ، وقوله ( ولا فاعل ) لا ينافي قول الرضا عليه السلام في الحديث الثاني من الباب الثاني : ( وله معنى الخالق ولا مخلوق ، إذ المراد هناك كمال الفاعلية باعتبار ذاته وهنا وجود المفعول باعتبار فعله .
    (3) في نسخة ( ب ) ( وخبر من يكون بعدكم ) وفي نسخة ( و ) و ( د ) ( وخبر من كان بعدكم ).
    (4) في نسخة ( د ) ( ونزل من عند واحد نزل من عند الله على محمد ـ الخ ـ ) وفي نسخة ( و ) ( أنزل من عند واحد نزل من عند الله على محمد ـ الخ ـ ) ، وفي نسخة ( ب ) ( نزل من عند واحد على محمد ـ الخ ) وفي حاشيتها ( نزل من عند الله على محمد ـ الخ ).
    (5) الكلام في الاستطاعة يأتي في الباب الخامس والخمسين.

    التوحيد _ 228 _

       له الآلة والصحة وهي القوة التي يكون العبد بها متحركا مستطيعا للفعل ، ولا متحرك إلا وهو يريد الفعل ، وهي صفة مضافة إلى الشهوة التي هي خلق الله عزوجل مركبة في الإنسان (1) فإذا تحركت الشهوة في الإنسان اشتهى الشيء فأراده ، فمن ثم قيل للإنسان مريد ، فإذا أراد الفعل وفعل كان مع الاستطاعة والحركة ، فمن ثم قيل للعبد : مستطيع متحرك ، فإذا كان الإنسان ساكنا غير مريد للفعل وكان معه الآلة وهي القوة والصحة اللتان بهما تكون حركات الإنسان وفعله كان سكونه لعلة سكون الشهوة فقيل : ساكن فوصف بالسكون ، فإذا اشتهى الإنسان وتحركت شهوته التي ركبت فيه اشتهى الفعل وتحركت بالقوة المركبة فيه واستعمل الآلة التي بها يفعل الفعل فيكون الفعل منه عندما تحرك واكتسبه فقيل : فاعل ومتحرك ومكتسب ومستطيع ، أولا ترى أن جميع ذلك صفات يوصف بها الإنسان.
       وسألت رحمك الله عن التوحيد وما ذهب إليه من قبلك ، فتعالى الله الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، تعالى الله عما يصفه الواصفون المشبهون الله تبارك وتعالى بخلقه المفترون على الله عزوجل ، فأعلم رحمك الله أن المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات الله عزوجل ، فانف عن الله البطلان والتشبيه ، فلا نفي ولا تشبيه وهو الله الثابت الموجود ، تعالى الله عما يصفه الواصفون ، ولا تعد القرآن فتضل بعد البيان (2).
       وسألت رحمك الله عن الإيمان ، فالإيمان هو إقرار باللسان (3) وعقد بالقلب وعمل بالأركان ، فالإيمان بعضه من بعض (4) وقد يكون العبد مسلما قبل أن يكون مؤمنا ، ولا يكون مؤمنا حتى يكون مسلما ، فالإسلام قبل الإيمان وهو

    ---------------------------
    (1) مركبة خبر بعد خبر لهي.
    (2) في نسخة ( ط ) و ( ن ) ( فيضلك بعد البيان ).
    (3) في نسخة ( د ) و ( ب ) و ( و ) و ( ج ) ( هو الاقرار باللسان ).
    (4) أي فالإقرار والعمل ناشئان من عقد القلب ، والأقوال في الإيمان وحده مختلفة ، وفي التجريد عرفه بالعقد والإقرار ، وكذا اختلفوا في أن الإسلام والإيمان مختلفان أم متفقان .

    التوحيد _ 229 _

       يشارك الإيمان ، فإذا أتى العبد بكبيرة من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي التي نهى الله عزوجل عنها كان خارجا من الإيمان وساقطا عنه اسم الإيمان وثابتا عليه اسم الإسلام (1) فإن تاب واستغفر عاد إلى الإيمان ولم يخرجه إلى الكفر والجحود والاستحلال ، وإذا قال للحلال : هذا حرام وللحرام : هذا حلال ودان بذلك فعندها يكون خارجا من الإيمان والإسلام إلى الكفر ، وكان بمنزلة رجل دخل الحرم ، ثم دخل الكعبة فأحدث في الكعبة حدثا فأخرج عن الكعبة وعن الحرم فضربت عنقه وصار إلى النار (2).
       قال مصنف هذا الكتاب : كان المراد من هذا الحديث ما كان فيه من ذكر القرآن ، ومعنى ما فيه أنه غير مخلوق أي غير مكذوب ، ولا يعني به أنه غير محدث لأنه قال : محدث غير مخلوق وغير أزلي مع الله تعالى ذكره .

    31 ـ باب معنى ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )

      1 ـ حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني رضي الله عنه ، قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن سعيد مولى بني هاشم ، عن علي بن الحسن بن علي بن فضال ، عن أبيه ، قال : سألت الرضا علي بن موسى عليهما السلام ، عن بسم الله ، قال : معنى قول القائل بسم الله أي أسم على نفسي سمة من سمات الله عزوجل وهي العبادة (3) قال : فقلت

    ---------------------------
    (1) لا الخروج من الإيمان إلى الكفر فيحكم عليه بأحكامه ، بل الخروج في الحال أو عن كما له مع بقاء أصله كما نبه عليه بقوله : ( ولم يخرجه إلى الكفر ـ الخ ) وسمى هذا في الحديث بكفر الترك فإن له أقساما خمسة في كتاب الله ، والظاهر أن قوله : ( التي نهى الله عزوجل عنها ) قيد لصغائر المعاصي فقط فتأمل .
    (2) في نسخة ( د ) ( وضربت عنقه ـ الخ ) ، وفي نسخة ( ج ) ( فأحدث في الكعبة حدثا فإذا خرج عن الكعبة وعن الحرم ضربت عنقه وصار إلى النار ).
    (3) أي سمه الله التي يسم بها العبد نفسه في كل أمر هي العبادة حقيقة لا مجرد القول والعمل.
       وتلك السمة علامة بينه وبين ربه يعرف بها الحق عن الباطل.

    التوحيد _ 230 _

       له : ما السمة ؟ فقال : العلامة.
      2 ـ حدثنا أبي رحمه الله ، قال : حدثنا سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمد ، عن القاسم بن يحيى ، عن جده الحسن بن راشد ، عن عبد الله بن سنان ، قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال : الباء بهاء الله ، والسين سناء الله والميم مجد الله. وروي بعضهم : ملك الله ، والله إله كل شيء ، الرحمن بجميع خلقه ، والرحيم بالمؤمنين خاصة .
      3 ـ حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله ، قال : حدثنا محمد بن الحسن الصفار ، عن العباس بن معروف ، عن صفوان بن يحيى ، عمن حدثه ، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه سئل عن بسم الله الرحمن الرحيم فقال : الباء بهاء الله ، و السين سناء الله ، والميم ملك الله ، قال : قلت : الله ؟ قال : الألف آلاء الله على خلقه من النعيم بولايتنا ، واللام إلزام الله خلقه ولايتنا ، قلت : فالهاء ؟ قال : هوان لمن خالف محمدا وآل محمد صلوات الله عليهم ، قال : قلت : الرحمن ؟ قال : بجميع العالم ، قلت : الرحيم ؟ قال : بالمؤمنين خاصة .
      4 ـ حدثنا أبي رحمه الله ، قال : حدثنا سعد بن عبد الله ، عن سلمة بن الخطاب عن القاسم بن يحيى ، عن جده الحسن بن راشد ، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام ، قال : سألته عن معنى الله ، قال : استولى على ما دق وجل (1).
      5 ـ حدثنا محمد بن القاسم الجرجاني المفسر رحمه الله قال : حدثنا أبو يعقوب يوسف بن محمد بن زياد ، وأبو الحسن علي بن محمد بن سيار وكانا من الشيعة الإمامية عن أبويهما (2) عن الحسن بن علي بن محمد عليهم السلام في قول الله عزوجل : ( بِسْمِ اللّهِ

    ---------------------------
    (1) على هذا التفسير مشتق من الإله بمعنى من له ملك التأثير والتصرف وغيره مألوه كما مر بيانه في الحديث الثاني من الباب الثاني.
    (2) أن أبويهما لم يرويا عن الإمام عليه السلام بل هما ، وعليه فالظرف متعلق بكانا ، أي كانا شيئيين عن تربية أبويهما لا أنهما تشيعا استبصارا فإن الأبوين أيضا كانا من الشيعة ، وهذا دفع لخدشة أوردت على تفسير الإمام عليه السلام ، وللتفصيل راجع الذريعة.

    التوحيد _ 231 _

       الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) ؟ فقال : الله هو الذي يتأله إليه عند الحوائج والشدائد كل مخلوق عند انقطاع الرجاء من كل من هو دونه ، وتقطع الأسباب من جميع ما سواه ، يقول : بسم الله أي أستعين على أموري كلها بالله الذي لا تحق العبادة إلا له ، المغيث إذا استغيث ، والمجيب إذ دعي ، وهو ما قال رجل للصادق عليه السلام : يا ابن رسول الله دلني على الله ما هو ؟ فقد أكثر علي المجادلون وحيروني ، فقال له : يا عبد الله هل ركبت سفينة قط ؟ قال : نعم قال : فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك ؟ قال : نعم قال : فهل تعلق قلبك هنالك أن شيئا من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك ؟ فقال نعم ، قال الصادق عليه السلام : فذلك الشيء هو الله القادر على الانجاء حيث لا منجي ، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث ، ثم قال الصادق عليه السلام : ولربما ترك بعض شيعنا في افتتاح أمره بسم الله الرحمن الرحيم فيمتحنه الله بمكروه لينبهه على شكر الله تبارك وتعالى والثناء عليه ويمحق عنه وصمة تقصيره عند تركه قول بسم الله الرحمن الرحيم.
       قال : وقام رجل إلى علي بن الحسين عليهما السلام ، فقال : أخبرني عن معنى بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال علي بن الحسين عليهما السلام ، : حدثني أبي ، عن أخيه الحسن ، عن أبيه أمير المؤمنين عليهم السلام أن رجلا قام إليه : فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن بسم الله الرحمن الرحيم ما معناه ؟ فقال : إن قولك : ( الله ) أعظم اسم من أسماء الله عزوجل وهو الاسم الذي (1) لا ينبغي أن يسمى به غير الله ولم يتسم به مخلوق ، فقال الرجل فما تفسير قوله : ( الله ) ؟ قال الذي يتأله إليه عند الحوائج والشدائد كل مخلوق عند انقطاع الرجاء من جميع من هو دونه ، وتقطع الأسباب من كل من سواه وذلك أن كل مترئس في هذه الدنيا ومتعظم فيها وإن عظم غناؤه وطيغانه و كثرت حوائج من دونه إليه فإنهم سيحتاجون حوائج لا يقدر عليها هذا المتعاظم ، وكذلك هذا المتعاظم يحتاج حوائج لا يقدر عليها ، فينقطع إلى الله عند ضرورته وفاقته حتى إذا كفى همه عاد إلى شركه ، أما تسمع الله عزوجل يقول : ( قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( ط ) و ( ن ) ( فهو الاسم الذي ـ الخ ).

    التوحيد _ 232 _

       عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ) (1) فقال الله عزوجل لعباده : أيها الفقراء إلى رحمتي إني قد ألزمتكم الحاجة إلي في كل حال ، وذلة العبودية في كل وقت ، فإلي فافزعوا في كل أمر تأخذون فيه وترجون تمامه وبلوغ غايته فإني إن أردت أن أعطيكم لم يقدر غيري على منعكم وإن أردت أن أمنعكم لم يقدر غيري على إعطائكم ، فأنا أحق من سئل ، وأولى من تضرع إليه ، فقولوا عند افتتاح كل أمر صغير أو عظيم : بسم الله الرحمن الرحيم أي أستعين على هذا الأمر بالله الذي لا يحق العبادة لغيره ، المغيث إذا استغيث ، المجيب إذا دعي ، الرحمن الذي يرحم ببسط الرزق علينا ، الرحيم بنا في أدياننا ودنيانا وآخرتنا ، خفف علينا الدين وجعله سهلا خفيفا ، وهو يرحمنا بتميزنا من أعدائه (2) ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من حزنه أمر تعاطاه فقال : ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) وهو مخلص لله (3) يقبل بقلبه إليه لم ينفك من إحدى اثنتين : إما بلوغ حاجته في الدنيا وإما يعد له عند ربه ويدخر لديه ، وما عند الله خير وأبقى للمؤمنين .

    32 ـ باب تفسير حروف المعجم

      1 ـ حدثنا محمد بن بكران النقاش رحمه الله ، بالكوفة ، قال : حدثنا أحمد بن محمد الهمداني ، قال : حدثنا علي بن الحسن بن علي بن فضال ، عن أبيه ، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليهما السلام ، قال : إن أول ما خلق الله عزوجل ليعرف به خلقه الكتابة حروف المعجم (4) وإن الرجل إذا ضرب على رأسه بعصا فزعم أنه

    ---------------------------
    (1) الأنعام : 41.
    (2) في نسخة ( ب ) و ( د ) ( بتمييزنا من أعاديه ).
    (3) في نسخة ( ب ) و ( د ) ( وهو يخلص لله ويقبل ـ الخ ).
    (4) الاعجام إزالة الابهام عن الحرف بنقطة مخصوصة ، والمراد بالمعجم الكتاب باعتبار أنه مؤلف من الحروف المعجمة ، وقد اختص المعجمة بالحروف المنقوطة ، وهذا أمر حادث إذ في الأمر وضع لكل حرف نقطة في الكتابة ، فالسين مثلا كانت منقوطة بثلاث نقط في التحت والشين بها في الفوق ، فرأوا أن عدم النقطة في بعض الحروف المتشابهة الكتابة يكفي في الامتياز فحذفوها ، فخص المنقوطة باسم المعجمة وغيرها باسم المهملة ، ويقال لهذه الحروف حروف التهجي والهجاء أيضا ، كما في الحديث الثاني.

    التوحيد _ 233 _

       لا يفصح ببعض الكلام فالحكم فيه أن يعرض عليه حروف المعجم ، ثم يعطي الدية بقدر ما لم يفصح منها .
       ولقد حدثني أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن أمير المؤمنين عليهم السلام في ( ا ب ت ث ) أنه قال : الألف آلاء الله ، والباء بهجة الله ( والباقي وبديع السماوات والأرض ).
       والتاء تمام الأمر بقائم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم والثاء ثواب المؤمنين على أعمالهم الصالحة.
       ( ج ح خ ) فالجيم جمال الله وجلال الله ، والحاء حلم الله ، ( حي حق حليم ) عن المذنبين ، والخاء خمول ذكر أهل المعاصي عند الله عزوجل.
       ( د ذ ) فالدال دين الله ( الذي ارتضاه لعباده ) ، والذال من ذي الجلال والاكرام.
       ( ر ز ) فالراء من الرؤوف الرحيم ، والزاي زلازل يوم القيامة.
       ( س ش ) فالسين سناء الله ( وسرمديته ) ، والشين شاء الله ما شاء ، وأراد ما أراد ( وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ).
       ( ص ض ) فالصاد من صادق الوعد في حمل الناس على الصراط ، وحبس الظالمين عند المرصاد ، والضاد ضل من خالف محمد وآل محمد.
       ( ط ظ ) فالطاء طوبى للمؤمنين ، وحسن مآب ، والظاء ظن المؤمنين بالله خير وظن الكافرين به سواء (1).
       ( ع غ ) فالعين من العالم ، والغين من الغني الذي لا يجوز عليه الحاجة على الاطلاق.
       ( ف ق ) فالفاء ( فالق الحب والنوى ، و ) وفوج من أفواج النار ، والقاف قرآن على الله جمعه وقرآنه.

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( ب ) و ( د ) و ( ج ) ( وظن الكافرين به شرا ).

    التوحيد _ 234 _

       ( ك ل ) فالكاف من الكافي ، واللام لغو الكافرين في افترائهم على الله الكذب.
       ( م ن ) فالميم ملك الله يوم الدين يوم لا مالك غيره ويقول الله عزوجل ( لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ) ثم تنطق أرواح أنبيائه ورسله وحججه فيقولون : ( للَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) فيقول جل جلاله : ( الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (1).
       والنون نوال الله للمؤمنين ، ونكاله للكافرين ( وه‍ ) فالواو ويل لمن عصى الله من عذاب يوم عظيم ، والهاء هان على الله من عصاه .
       ( لا ) فلام ألف لا إله إلا الله وهي كلمة الاخلاص. ما من عبد قالها مخلصا إلا وجبت له الجنة.
       ( ى ) يد الله فوق خلقه باسطة بالرزق ، سبحانه وتعالى عما يشركون (2).
       ثم قال عليه السلام : إن الله تبارك وتعالى أنزل هذا القرآن بهذه الحروف التي يتداولها جميع العرب ثم قال : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) (3).
      2 ـ حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الرحمن المقرئ الحاكم ، قال : حدثنا أبو ـ عمرو محمد بن جعفر المقرئ الجرجاني ، قال : حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن الموصلي ببغداد ، قال : حدثنا محمد بن عاصم الطريفي ، قال : حدثنا أبو زيد عياش بن يزيد ابن الحسن بن علي الكحال مولى زيد بن علي ، قال : أخبرني أبي يزيد بن الحسن قال : حدثني موسى بن جعفر ، عن أبيه جعفر بن محمد ، عن أبيه محمد بن علي ، عن

    ---------------------------
    (1) المؤمن : 17.
    (2) ليس في أكثر النسخ الباقي وبديع السماوات والأرض في تفسير الباء ، وحي حق حليم في تفسير الحاء ، والذي ارتضاه لعباده في تفسير الدال ، وسرمديته في تفسير السين ، وفالق الحب والنوى في تفسير الفاء.
    (3) الإسراء : 88.

    التوحيد _ 235 _

       أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ، قال : جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وآله وعنده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له : ما الفائدة في حروف الهجاء (1) فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام : أجبه ، وقال :
       اللهم وفقه وسدده ، فقال علي بن أبي طالب عليه السلام : ما من حرف إلا وهو اسم من أسماء الله عزوجل ، ثم قال : أما الألف فالله لا إله إلا هو الحي القيوم (2) ، وأما الباء فالباقي بعد فناء خلقه ، وأما التاء فالتواب يقبل التوبة عن عباده ، وأما الثاء فالثابت الكائن ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا ـ الآية ) (3) وأما الجيم فجل ثناؤه وتقدست أسماؤه ، وأما الحاء فحق حي ، حليم ، وأما الخاء فخبير بما يعمل العباد ، وأما الدال فديان يوم الدين ، وأما الذال فذو الجلال و الاكرام ، وأما الراء فرؤوف بعباده ، وأما الزاي فزين المعبودين ، وأما السين فالسميع البصير ، وأما الشين فالشاكر لعباده المؤمنين ، وأما الصاد فصادق في وعده و وعيده ، وأما الضاد فالضار ، النافع ، وأما الطاء فالطاهر المطهر ، وأما الظاء فالظاهر المظهر لآياته ، وأما العين فعالم بعباده ، وأما الغين فغياث المستغيثين من جميع خلقه ، و أما الفاء ففالق الحب والنوى ، وأما القاف فقادر على جميع خلقه ، وأما الكاف فالكافي الذي لم يكن له كفوا أحد ولم يلد ولم يولد ، وأما اللام فلطيف بعباده ، وأما الميم فمالك الملك ، وإما النون فنور السماوات من نور عرشه ، وأما الواو فواحد أحد صمد لم يلد ولم يولد ، وأما الهاء فهاد لخلقه ، وأما اللام ألف فلا إله إلا الله وحده

    ---------------------------
    (1) الهجاء تقطيع الكلمة بحروفها ، وحروف الهجاء أي حروف تقطع الكلمة بها و تفصل إليها ، ولعل اليهودي أراد بها الحروف المقطعة في مفتتح السور ، أو أراد فائدة غير تركب الكلام منها .
    (2) المراد بها الهمزة إذ تسمى بالألف أيضا ، وبينهما فرق من جهات ذكر في محله ، وقد تعدى اثنتين فالحروف تسعة وعشرون ، وقد تعدى واحدة فهي ثمانية وعشرون كما في الباب الخامس والستين.
    (3) إبراهيم عليه السلام : 27.

    التوحيد _ 236 _

       لا شريك له ، وأما الياء فيد الله باسطة على خلقه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : هذا هو القول الذي رضي الله عزوجل لنفسه من جميع خلقه ، فأسلم اليهودي.

    33 ـ باب تفسير حروف الجمل

      1 ـ حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق رضي الله عنه ، قال : حدثنا أحمد بن محمد الهمداني مولى بني هاشم ، قال : حدثنا جعفر بن عبد الله بن جعفر بن عبد الله بن جعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب عليه السلام ، قال : حدثنا كثير بن عياش القطان ، عن أبي الجارود زياد بن المنذر ، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهم السلام ، قال : لما ولد عيسى بن مريم عليه السلام كان ابن يوم كأنه ابن شهرين ، فلما كان ابن سبعة أشهر أخذت والدته بيده وجاءت به إلى الكتاب (1) وأقعدته بين يدي المؤدب فقال له المؤدب :
       قل بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال عيسى عليه السلام : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال له المؤدب : قل : أبجد ، فرفع عيسى عليه السلام رأسه فقال : هل تدري ما أبجد ؟ فعلاه بالدرة ليضربه ، فقال : يا مؤدب لا تضربني ، إن كنت تدري وإلا فاسألني حتى أفسر لك ، قال : فسره لي ، فقال عيسى عليه السلام : الألف آلاء الله ، والباء بهجة الله ، والجيم جمال الله ، والدال دين الله. ( هوز ) الهاء هول جهنم ، والواو ويل لأهل النار ، والزاي زفير جنهم ، ( حطي ) حطت الخطايا عن المستغفرين ، ( كلمن ) كلام الله لا مبدل لكلماته ، ( سعفص ) صاع بصاع والجزاء بالجزاء ، ( قرشت ) قرشهم فحشرهم ، فقال المؤدب : أيتها المرأة خذي بيد ابنك فقد علم ولا حاجة له في المؤدب.
      2 ـ حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه ، قال : حدثنا محمد بن الحسن الصفار ، قال : حدثنا محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، وأحمد بن الحسن بن

    ---------------------------
    (1) ليس المراد أنه نشأ في كل يوم كنشئ غيره في شهرين في كل شيء حتى يكون في سبعة أشهر على صورة رجل ذي خمس وثلاثين سنة ، بل المعنى أنه كان ابن يوم كأنه ابن شهرين في نموه ورشد بدنه إلى مدة حتى كان في الشهر السابع كالطفل المميز القابل لأن يجاء به إلى الكتاب ، والكتاب بضم الكاف وتشديد التاء مفرد المكتب جمعه الكتاتيب.

    التوحيد _ 237 _

       علي بن فضال ، عن علي بن أسباط ، عن الحسن بن زيد (1) قال : حدثني محمد بن سالم ، عن الأصبغ بن نباتة ، قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : سأل عثمان بن عفاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تفسير أبجد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تعلموا تفسير أبجد فإن فيه الأعاجيب كلها ، ويل لعالم جهل تفسيره ، فقيل : يا رسول الله : ما تفسير أبجد ؟
       فقال صلى الله عليه وآله وسلم : أما الألف فآلاء الله حرف من حروف أسمائه (2). وأما الباء فبهجة الله ، وأما الجيم فجنة الله وجلال الله وجماله ، وأما الدال فدين الله ، وأما ( هوز ) فالهاء هاء الهاوية فويل لمن هوى في النار ، وأما الواو فويل لأهل النار ، وأما الزاي فزاوية في النار فنعوذ بالله مما في الزاوية يعني زوايا جهنم ، وأما ( حطي ) فالحاء حطوط الخطايا عن المستغفرين في ليلة القدر وما نزل به جبرئيل مع الملائكة إلى مطلع الفجر ، وأما الطاء فطوبى لهم وحسن مآب وهي شجرة غرسها الله عزوجل ونفخ فيها من روحه وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة تنبت بالحلي والحلل متدلية على أفواهم ، وأما الياء فيد الله فوق خلقه سبحانه وتعالى عما يشركون ، وأما ( كلمن ) فالكاف كلام الله لا مبدل لكلمات الله ولن تجد من دونه ملتحدا ، وأما اللام فإلمام أهل الجنة بينهم في الزيارة والتحية والسلام ، وتلاوم أهل النار فيما بينهم ، وأما الميم فملك الله الذي لا يزول ودوام الله الذي لا يفنى ، وأما النون فنون والقلم وما يسطرون ، فالقلم قلم من نور وكتاب من نور في لوح محفوظ يشهده المقربون وكفى بالله شهيدا ، وأما ( سعفص ) فالصاد صاع بصاع وفص بفص يعني الجزاء بالجزاء ، وكما تدين تدان ، إن الله لا يريد ظلما للعباد ، وأما ( قرشت ) يعني قرشهم الله فحشرهم ونشرهم إلى يوم القيامة فقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون . (3)

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( ط ) و ( ج ) ( عن الحسين بن يزيد ).
    (2) في البحار في أواخر الجزء الثاني من الطبعة الحديثة وفي نسخة ( و ) و ( ج ) و ( د ) حرف من أسمائه.
    (3) عدم ذكر ثخذ وضظغ لما ذكره ابن النديم في أول الفهرست فراجع ، وللمجلسي رحمه الله حل إشكال عن الأبجد في البحار في الباب الثالث عشر من الجزء العاشر من الطبعة الحديثة.

    التوحيد _ 238 _

    34 ـ باب تفسير حروف الأذان والإقامة

      1 ـ حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الرحمن المروزي الحاكم المقرئ ، قال : حدثنا أبو عمرو محمد بن المقرئ الجرجاني ، قال : حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن الموصلي ببغداد ، قال : حدثنا محمد بن عاصم الطريفي ، قال : حدثنا أبو زيد عياش ابن يزيد بن الحسن بن علي الكحال مولى زيد بن علي ، قال : أخبرني أبي يزيد بن الحسن ، قال : حدثني موسى بن جعفر ، عن أبيه جعفر بن محمد ، عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ، قال : كنا جلوسا في المسجد إذا صعد المؤذن المنارة فقال : الله أكبر الله أكبر ، فبكى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وبكينا ببكائه ، فلما فرغ المؤذن قال : أتدرون ما يقول المؤذن ؟! قلنا : الله ورسوله ووصيه أعلم ، فقال : لو تعلمون ما يقول لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ، فلقوله : ( الله أكبر ) معان كثيرة : منها أن قول المؤذن : ( الله أكبر ) يقع على قدمه وأزليته وأبديته وعلمه وقوته وقدرته وحلمه وكرمه وجوده وعطائه وكبريائه ، فإذا قال المؤذن ( الله أكبر ) فإنه يقول : الله الذي له الخلق والأمر ، و بمشيته كان الخلق ، ومنه كان كل شيء للخلق ، وإليه يرجع الخلق ، وهو الأول قبل كل شيء لم يزل ، والآخر بعد كل شيء لا يزال ، والظاهر فوق كل شيء لا يدرك ، والباطن دون كل شيء لا يحد ، فهو الباقي وكل شيء دونه فان ، والمعنى الثاني ( الله أكبر ) أي العليم الخبير علم ما كان وما يكون قبل أن يكون ، والثالث ( الله أكبر ) أي القادر على كل شيء ، يقدر على ما يشاء ، القوي لقدرته ، المقتدر على خلقه ، القوي لذاته ، قدرته قائمة على الأشياء كلها ، إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ، والرابع ( الله أكبر ) على معنى حلمه وكرمه يحلم كأنه لا يعلم ويصفح كأنه لا يرى ويستر كأنه لا يعصى ، لا يعجل بالعقوبة كرما وصفحا وحلما ، والوجه الآخر في معنى ( الله أكبر ) أي الجواد جزيل العطاء كريم الفعال ، والوجه الآخر ( الله أكبر ) فيه نفي كيفيته كأنه يقول : الله أجل من أن يدرك الواصفون قدر صفته التي هو موصوف بها وإنما يصفه الواصفون على قدرهم لا على قدر عظمته وجلاله ، تعالى الله عن

    التوحيد _ 239 _

       أن يدرك الواصفون صفته علوا كبيرا ، والوجه الآخر ( الله أكبر ) كأنه يقول : الله أعلى وأجل وهو الغني عن عباده لا حاجة به إلى أعمال خلقه ، وأما قوله : ( أشهد أن لا إله إلا الله ) فإعلام بأن الشهادة لا تجوز إلا بمعرفة من القلب ، كأنه يقول : اعلم أنه لا معبود إلا الله عزوجل وأن كل معبود باطل سوى الله عزوجل وأقر بلساني بما في قلبي من العلم بأنه لا إله إلا الله ، وأشهد أنه لا ملجأ من الله إلا إليه ولا منجى من شر كل ذي شر وفتنة كل ذي فتنة إلا بالله ، وفي المرة الثانية ( أشهد أن لا إله إلا الله ) معناه أشهد أن لا هادي إلا الله ، ولا دليل لي إلا الله ، وأشهد الله بأني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد سكان السماوات وسكان الأرضين وما فيهن من الملائكة والناس أجمعين ، وما فيهن من الجبال والأشجار والدواب والوحوش وكل رطب ويابس بأني أشهد أن لا خالق إلا الله ، ولا رازق ولا معبود ولا ضار ولا نافع ولا قابض ولا باسط ولا معطي ولا مانع ولا دافع ولا ناصح ولا كافي ولا شافي ولا مقدم ولا مؤخر إلا الله ، له الخلق والأمر وبيده الخير كله ، تبارك الله رب العالمين ، وأما قوله : ( أشهد أن محمد رسول الله ) يقول : أشهد الله أني أشهد أن لا إله إلا هو ، وأن محمد عبده ورسوله ونبيه وصفيه ونجيه أرسله إلى كافة الناس أجمعين بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، وأشهد من في السماوات والأرض من النبيين والمرسلين والملائكة والناس أجمعين أني أشهد أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم سيد الأولين والآخرين ، وفي المرة الثانية ( أشهد أن محمدا رسول الله ) يقول : أشهد أن لا حاجة لأحد إلى أحد إلا إلى الله الواحد القهار مفتقرة إليه سبحانه (1) وأنه الغني عن عباده والخلائق أجمعين ، وأنه أرسل محمدا إلى الناس بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، فمن أنكره وجحده ولم يؤمن به أدخله الله عزوجل نار جهنم خالدا مخلدا لا ينفك عنها أبدا ، وأما قوله : ( حي على الصلاة ) أي هلموا إلى خير أعمالكم ودعوة ربكم ، وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وإطفاء ناركم التي

    ---------------------------
    (1) قوله : مفتقرة بالنصب حال من حاجة باعتبار ذيها ، أو بالرفع خبر لمبتدأ محذوف أي كل نفس ، وليس في النسخ المخطوطة عندي ( مفتقرة إليه سبحانه وأنه ).

    التوحيد _ 240 _

       أوقدتموها على ظهوركم ، وفكاك رقابكم التي رهنتموها بذنوبكم ليكفر الله عنكم سيئاتكم ، ويغفر لكم ذنوبكم ، ويبدل سيئاتكم حسنات ، فإنه ملك كريم ذو الفضل العظيم ، وقد أذن لنا معاشر المسلمين بالدخول في خدمته والتقدم إلى بين يديه ، وفي المرة الثانية ( حي على الصلاة ) أي قوموا إلى مناجاة ربكم وعرض حاجاتكم على ربكم وتوسلوا إليه بكلامه وتشفعوا به وأكثروا الذكر والقنوت والركوع والسجود والخضوع والخشوع ، وارفعوا إليه حوائجكم فقد أذن لنا في ذلك ، وأما قوله : ( حي على الفلاح ) فإنه يقول : أقبلوا إلى بقاء لا فناء معه ونجاة لا هلاك معها ، وتعالوا إلى حياة لا موت معها ، وإلى نعيم لا نفاذ له ، وإلى ملك لا زوال عنه ، وإلى سرور لا حزن معه ، وإلى أنس لا وحشة معه ، وإلى نور لا ظلمة معه (1) وإلى سعة لا ضيق معها ، وإلى بهجة لا انقطاع لها ، وإلى غنى لا فاقة معه ، و إلى صحه لا سقم معها ، وإلى عز لا ذل معه ، وإلى قوة لا ضعف معها ، وإلى كرامة يا لها من كرامة ، وعجلوا إلى سرور الدنيا والعقبى ونجاة الآخرة والأولى ، وفي المرة الثانية ( حي على الفلاح ) فإنه يقول : سابقوا إلى ما دعوتكم إليه ، وإلى جزيل الكرامة وعظيم المنة وسني النعمة والفوز العظيم ونعيم الأبد في جوار محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، وأما قول : ( الله أكبر ) فإنه يقول : الله أعلى وأجل من أن يعلم أحد من خلقه ما عنده من الكرامة لعبد أجابه وأطاعه و أطاع ولاة أمره وعرفه وعبده واشتغل به وبذكره وأحبه وأنس به واطمأن إليه ووثق به وخافه ورجاه واشتقاق إليه ووافقه في حكمه وقضائه ورضي به ، وفي المرة الثانية ( الله أكبر ) فإنه يقول : الله أكبر وأعلى وأجل من أن يعلم أحد مبلغ كرامته لأوليائه وعقوبته لأعدائه ، ومبلغ عفوه وغفرانه ونعمته لمن أجابه و أجاب رسوله ، ومبلغ عذابه ونكاله وهو أنه لمن أنكره وجحده ، وأما قوله : ( لا إله إلا الله ) معناه : لله الحجة البالغة عليهم بالرسل والرسالة والبيان والدعوة وهو أجل من أن يكون لأحد منهم عليه حجة ، فمن أجابه فله النور والكرامة ومن

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( ط ) و ( ن ) ( وإلى نور لا ظلمة له ).

    التوحيد _ 241 _

       أنكره فإن الله غني عن العالمين ، وهو أسرع الحاسبين ، ومعنى ( قد قامت الصلاة ) في الإقامة أي حان وقت الزيارة والمناجاة وقضاء الحوائج ودرك المنى ، والوصول إلى الله عزوجل ، وإلى كرامته وغفرانه وعفوه ورضوانه.
       قال مصنف هذا الكتاب : إنما ترك الراوي لهذا الحديث ذكر ( حي على خير العمل ) للتقية .
      2 ـ وقد روي في خبر آخر أن الصادق عليه السلام سئل عن معنى ( حي على خير العمل ) فقال : خير العمل الولاية.
       وفي خبر آخر خير العمل بر فاطمة وولدها عليهم السلام (1).

    35 ـ باب تفسير الهدى والضلالة والتوفيق والخذلان من الله تعالى

      1 ـ حدثنا علي بن عبد الله الوراق ، ومحمد بن أحمد السناني ، وعلي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمهم الله ، قالوا : حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى بن زكريا القطان ، قال : حدثنا بكر بن عبد الله بن حبيب ، قال : حدثنا تميم بن بهلول ، عن أبيه ، عن جعفر بن سليمان البصري ، عن عبد الله بن الفضل الهاشمي قال : سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام ، عن قول الله عزوجل : ( مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا ) (2) فقال : إن الله تبارك وتعالى يضل الظالمين يوم القيامة عن دار كرامته ، ويهدي أهل الإيمان والعمل الصالح إلى جنته كما قال عزوجل : ( ويضل الله الضالمين ويفعل الله ما يشاء ) (3) وقال عزوجل ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ

    ---------------------------
    (1) أقول : ويحتمل أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يفسرها لأنه عليه السلام فسر ما قال المؤذن و المؤذن من العامة لم يكن يقولها ، وأما الشهادة بالولاية فشاعت بين الشيعة بإذن وترغيب من الصادق عليه السلام على ما في حديث مذكور في محله .
    (2) الكهف : 17.
    (3) إبراهيم عليه السلام : 27.

    التوحيد _ 242 _

       فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) (1) قال : فقلت : قوله عزوجل : ( وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ ) (2) وقوله عزوجل : ( إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ) (3) فقال : إذا فعل العبد ما أمره الله عزوجل به من الطاعة كان فعله وفقا لأمر الله عزوجل وسمي العبد به موفقا ، وإذا أراد العبد أن يدخل في شيء من معاصي الله فحال الله تبارك وتعالى بينه وبين تلك المعصية فتركها كان تركه لها بتوفيق الله تعالى ذكره ، ومتى خلى بينه وبين تلك المعصية فلم يحل بينه وبينها حتى يرتكبها فقد خذله ولم ينصره ولم يوفقه (4).
      2 ـ حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه ، قال : حدثنا الحسين ابن الحسن بن أبان ، عن الحسين بن سعيد ، عن محمد بن أبي عمير ، عن أبي عبد الله الفراء ، عن محمد بن مسلم ومحمد بن مروان ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : ما علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن جبرئيل من قبل الله عزوجل إلا بالتوفيق.
      3 ـ حدثنا أحمد بن الحسن القطان ، قال : حدثنا الحسن بن علي السكري قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن زكريا البصري ، قال : حدثنا جعفر بن محمد بن عمارة عن أبيه ، عن جابر بن يزيد الجعفي ، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام ، قال سألته عن معنى ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) فقال : معناه لا حول لنا عن معصية الله إلا بعون الله ، ولا قوة لنا على طاعة الله إلا بتوفيق الله عزوجل .
      4 ـ حدثنا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس العطار رضي الله عنه بنيسابور سنة

    ---------------------------
    (1) يونس : 9.
    (2) هود : 88.
    (3) آل عمران : 160.
    (4) التوفيق هو تهيئة الأسباب نحو الفعل ، والأسباب بعضها بيد العبد وبعضها ليس كذلك .
       وما بيد العبد ينتهي أيضا إليه تعالى منعا وإعطاء ، فلذلك : ( وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ ) والتوفيق للطاعة هو اجتماع أسباب الفعل كلها ، والتوفيق لترك المعصية هو فقدان بعض الأسباب ، فإن كان بيد العبد فهو الانقياد فيهما وإلا فهو اللطف من الله تعالى ، وعدم التوفيق والخذلان في الطاعة وترك المعصية على عكس ذلك.

    التوحيد _ 243 _

       اثنتين وخمسين وثلاثمائة ، قال : حدثنا علي بن محمد بن قتيبة ، عن حمدان بن سليمان النيسابوري ، قال : سألت أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليهما السلام ، ( بنيسابور ) (1) عن قول الله عزوجل : ( فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ ) (2) قال : من يرد الله أن يهديه بإيمانه في الدنيا إلى جنته ودار كرامته في الآخرة يشرح صدره للتسليم لله والثقة به والسكون إلى ما وعده من ثوابه حتى يطمئن إليه ، ومن يرد أن يضله عن جنته ودار كرامته في الآخرة لكفره به وعصيانه في الدنيا يجعل صدره ضيقا حرجا حتى يشك في كفره ، ويضطرب من اعتقاده قلبه حتى يصير كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون (3).

    36 ـ باب الرد على الثنوية والزنادقة

      1 ـ حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله ، قال : حدثنا أبو القاسم العلوي ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل البرمكي ، قال : حدثنا الحسين ابن الحسن ، قال : حدثني إبراهيم بن هاشم القمي ، قال : حدثنا العباس بن عمرو الفقيمي ، عن هشام بن الحكم في حديث الزنديق الذي أتى أبا عبد الله عليه السلام فكان من قول أبي عبد الله عليه السلام له : لا يخلو قولك : إنهما اثنان ، من أن يكونا قديمين قويين أو يكونا ضعيفين أو يكون أحدهما قويا والآخر ضعيفا ، فإن كانا قويين فلم لا يدفع كل واحد منهما صاحبة ويتفرد بالتدبير ، وإن زعمت أن أحدهما قوي و الآخر ضعيف ثبت أنه واحد كما نقول ، للعجز الظاهر في الثاني ، وإن قلت : إنهما اثنان لم يخل من أن يكونا متفقين من كل جهة أو مفترقين من كل جهة

    ---------------------------
    (1) ليس في البحار ولا في النسخ الخطية عندي لفظة بنيسابور.
    (2) الأنعام : 125.
    (3) الهداية على ست مراحل : هداية التكوين ، هداية العقل ، هدايه الدعوة ، هداية التشريع ، هداية اللطف ، هداية الجزاء ، ولكل من هذه آيات في الكتاب ، وتحقق كل منها مشروط بما قبلها ، وللتفصيل محل آخر.

    التوحيد _ 244 _

       فلما رأينا الخلق منتظما والفلك جاريا واختلاف الليل والنهار ، والشمس والقمر دل صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أن المدبر واحد (1) ثم يلزمك إن ادعيت اثنين فلا بد من فرجة بينهما حتى يكونا اثنين فصارت الفرجة ثالثا بينهما ، قديما معهما ، فيلزمك ثلاثة ، فإن ادعيت ثلاثة لزمك ما قلنا في الاثنين حتى يكون بينهم فرجتان فيكون خمسا ، ثم يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية في الكثرة (2).
       قال هشام : فكان من سؤال الزنديق أن قال : فما الدليل عليه ؟ قال أبو ـ عبد الله عليه السلام : وجود الأفاعيل التي دلت على أن صانعا صنعها ، ألا ترى أنك إذا نظرت إلى بناء مشيد مبني علمت أن له بانيا وإن كنت لم تر الباني ولم تشاهده ، قال : فما هو ؟ قال : هو شيء بخلاف الأشياء ، ارجع بقولي : شيء إلى إثبات

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( ب ) و ( د ) ( دل على صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر وأن المدبر واحد ).
    (2) إلى هنا أشار عليه السلام إلى أدلة لتوحيد الصانع : الأول إن الشقوق في الصانعين من حيث القوة التامة ثلاثة : اثنان منها ظاهرا البطلان لم يتعرض إلا لأحدهما لشدة وضوح بطلان الآخر ، والشق الثالث أن يكون لكل منهما قوة تامة فيلزم أن يقوى كل منهما على دفع الآخر وإلا لم تكن قوته تامة فحينئذ يكون لكل منهما دافعا ومدفوعا وهو محال .
       الثاني أن الشقوق من حيث الافتراق والاتفاق أيضا ثلاثة : الأول الاتفاق من كل جهة وهذا يرفع الاثنينية لأنها لا تتصور من دون الامتياز والامتياز.
       لا يتصور إلا بالافتراق من جهة أو جهات .
       الثاني الافتراق من كل جهة فلو كان الأمر كذلك لزم الفساد في التدبير وانتفاء النظام في الخلق ولكن الخلق منتظم والتدبير صحيح ، وإلى بطلان هذا التالي أشار عليه السلام بقوله : فلما رأينا الخلق منتظما الخ ، الثالث الافتراق من بعض الجهات ، ولم يذكره عليه السلام لأن حكمه حكم الشق الثاني.
       الثالث كون الصانع اثنين يستلزم أن يكون لأحدهما لا أقل من شيء يحصل لهما الامتياز به إذ عدم الامتياز يرفع الاثنينية ، والامتياز بتمام الذات معقول إلا أنه لا يتصور إلا بالاشتراك في أصل الوجود فيعود في المفروض ، وحكم الثلاثة في الامتياز حكم الاثنين فيكون الثلاثة خمسة ، وهكذا إلى ما لا نهاية له ، فكان صانع العالم أشياء غير متناهية .

    التوحيد _ 245 _

       معنى ، وأنه شيء بحقيقة الشيئية (1) غير أنه لا جسم ولا صورة ولا يحس ولا يجس ولا يدرك بالحواس الخمس ، لا تدركه الأوهام ، ولا تنقصه الدهور ، ولا يغيره الزمان.
       قال السائل : فتقول : إنه سميع بصير ؟! قال : هو سميع بصير ، سميع بغير جارحة وبصير بغير آله ، بل يسمع بنفسه ، ويبصر بنفسه ، ليس قولي ، إنه يسمع بنفسه وبصير بنفسه أنه شيء والنفس شيء آخر ، ولكن أردت عبارة عن نفسي إذ كنت مسؤولا وإفهاما لك إذ كنت سائلا ، وأقول : يسمع بكله لا أن الكل منه له بعض ، ولكني أردت إفهاما لك والتعبير عن نفسي ، وليس مرجعي في ذلك إلا إلى أنه السميع البصير العالم الخبير بلا اختلاف الذات ولا اختلاف المعنى (2).
       قال السائل : فما هو ؟ قال أبو عبد الله عليه السلام : هو الرب وهو المعبود وهو الله وليس قولي : ( الله ) إثبات هذه الحروف ألف ، لام ، هاء ، ولكني أرجع إلى معنى (3) هو شيء خالق الأشياء وصانعها وقعت عليه هذه الحروف ، وهو المعنى الذي يسمى به الله والرحمن والرحيم والعزيز وأشباه ذلك من أسمائه (4) وهو المعبود عزوجل.
       قال السائل : فإنا لم نجد موهوما إلا مخلوقا ، قال أبو عبد الله عليه السلام : لو كان ذلك كما تقول لكان التوحيد عنا مرتفعا لأنا لم نكلف أن نعتقد غير موهوم

    ---------------------------
    (1) مضت هذه الفقرة مع ذيل في الحديث الثاني من الباب السابع.
    (2) مضت هذه الفقرة في الحديث العاشر من الباب الحادي عشر.
    (3) في الكافي وفي نسخة ( ج ) ( ولكن ارجع إلى معنى ـ الخ ).
    (4) قوله : ( وهو المعنى الذي ـ الخ ) من باب القلب ، والأصل وهو المعنى الذي يسمى بالله ـ الخ ) ، وفي نسخة ( ج ) ( وهو المعنى الذي سمي به الله ـ الخ ) وفي نسخة ( ب ) ( وهو المعنى الذي يسمى الله والرحمن ـ الخ ) أي يجعل هذه الأسماء أسماء له ، وفي نسخة ( و ) ( وهو المعنى الذي يسمى به ، هو الله والرحمن والرحيم ـ الخ ) وفي الكافي باب إطلاق القول بأنه شيء : ( وهو المعنى سمي به الله والرحمن والرحيم ـ الخ ) وهذا أيضا من باب القلب.

    التوحيد _ 246 _

       ولكنا نقول : كل موهوم بالحواس مدرك ، فما تجده الحواس وتمثله فهو مخلوق (1) ولا بد من إثبات صانع الأشياء خارج من الجهتين المذمومتين (2) إحديهما النفي إذ كان النفي هو الإبطال والعدم ، والجهة الثانية التشبيه إذ كان التشبيه من صفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف ، فلم يكن بد من إثبات الصانع لوجود المصنوعين ، والاضطرار منهم إليه أثبت أنهم مصنوعون ، وأن صانعهم غيرهم وليس مثلهم إذ كان مثلهم شبيها بهم في ظاهر التركيب والتأليف وفيما يجري عليهم من حدوثهم بعد أن لم يكونوا ، وتنقلهم من صغر إلى كبر ، وسواد إلى بياض ، وقوة إلى ضعف ، وأحوال موجودة لا حاجة لنا إلى تفسيرها لثباتها ووجودها .
       قال السائل : فقد حددته إذ أثبت وجوده ، قال أبو عبد الله عليه السلام : لم أحده ولكن أثبته إذ لم يكن بين الاثبات والنفي منزلة .
       قال السائل : فله إنية ومائية ؟ قال : نعم ، لا يثبت الشيء إلا بإنية و مائية (3).

    ---------------------------
    (1) أي لو لم نتوهمه تعالى بعنوان من العناوين الصادقة على ذاته لما كلفنا بتوحيده ومعرفته لأن الذات غير معقولة لنا لأن ما يعقل بذاته محدود ومخلوق فبقي تعلقنا له بالعناوين كالشيء والموجود والصانع والرب والرحمن والرحيم وأشباه ذلك كما صرح به الإمام عليه السلام في الحديث السادس من الباب السابع فنتوجه إليه بها وهي غيره ، وفي البحار باب احتجاج الصادق عليه السلام وفي نسخة ( ج ) و ( و ) ولكنا نقول : ( كل موهوم بالحواس مدرك ، فما تحده الحواس وتمثله فهو مخلوق ) وفي البحار باب إثبات الصانع : ( ولكنا نقول : كل موهوم بالحواس مدرك بها تحده الحواس ممثلا ، فهو مخلوق ) وفي نسخة ( ن ) ( ولكنا نقول : كل موهوم بالحواس مدرك بها تحده الحواس وتمثله ، فهو مخلوق ) وفي نسخة ( ط ) ( ولكنا نقول : كل موهوم بالحواس مدرك ، فما تجده بالحواس وتمثله فهو مخلوق ).
    (2) في البحار باب احتجاج الصادق عليه السلام وفي نسخة ( ن ) ( ولا بد من إثبات صانع للأشياء خارج ـ الخ ) وفي البحار باب إثبات الصانع : ( ولا بد من إثبات صانع الأشياء خارجا ـ الخ ).
    (3) الماهية بالمعنى الأعم ، وهي فيه تعالى عين آنيته على ما ذكر في محله .

    التوحيد _ 247 _

       قال السائل : فله كيفية ؟ قال : لا لأن الكيفية جهة الصفة والإحاطة (1) ولكن لا بد من الخروج من جهة التعطيل والتشبيه لأن من نفاه أنكره ورفع ربوبيته وأبطله ومن شبهه بغيره فقد أثبته بصفة المخلوقين المصنوعين الذين لا يستحقون الربوبية ، ولكن لا بد من إثبات ذات بلا كيفية لا يستحقها غيره ولا يشارك فيها ولا يحاط بها ولا يعلمها غيره (2).
       قال السائل : فيعاني الأشياء بنفسه ؟ (3) قال أبو عبد الله عليه السلام : هو أجل من أن يعاني الأشياء بمباشرة ومعالجة لأن ذلك صفة المخلوق الذي لا يجئ الأشياء له إلا بالمباشرة والمعالجة ، وهو تعالى نافذ الإرادة المشية فعال لما يشاء .
       قال السائل : فله رضى وسخط ؟ قال أبو عبد الله عليه السلام : نعم ، وليس ذلك على

    ---------------------------
    (1) أي جهة توجب إمكان توصيف المكيف والإحاطة به إدراكا.
    (2) الضمائر المؤنثة راجعة إلى الذات ، وفي الكافي باب أنه شيء ( ولكن لا بد من إثبات أن له كيفية لا يستحقها غيره ـ الخ ) فالضمائر راجعة إلى كيفية ، وقد أثبت له تعالى كيفية في روايات ونفيت عنه في أخرى ، فالمثبتة هي الوجوب الذاتي الذي هو عين وجوده وذاته وصفاته ، والمنفية ما به إمكان إدراكه وتوصيفه كما في غيره.
    (3) هو من المعاناة ، والثلاثي منه العنى بمعنى التعب والنصب واللغوب وتحمل المشقة وهي مباشرة العمل بالآلات بحيث يتحمل الفاعل المشقة والتعب من جهة الفعل فكرا أو فعلا وهذا منفى عنه تعالى ، بل إرادته نافذة ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) من دون مس لغوب ونصب ومن دون مباشرة ومعالجة بالآلات وحاجة إلى شيء من الأسباب هكذا في الكافي والبحار باب الاحتجاج ، وكثير من النسخ ، وفي بعض النسخ الخطية ( يعاين ) في الموضعين ، وهو من المعاينة وهي شهود شيء لشيء ، وهذا من خطأ الناسخ لأنه غير منفي عنه تعالى لأنه شاهد كل شيء بنفسه لا ببصر غيرها بدلائل العقل والنقل كما مر في كلامه عليه السلام هنا ، مع تنافر الجواب والتعليل له جدا ، وعجبا من فاضل شرح هذا الحديث في آخر الجزء الأول من الكافي المطبوع حديثا فأخذ هذه اللفظة من المعاينة وأتى بما لا ارتباط له بكلام الإمام عليه السلام مع أن ما في الكافي يعاني الأشياء.

    التوحيد _ 248 _

       ما يوجد في المخلوقين ، وذلك أن الرضا والسخط دخال يدخل عليه فينقله من حال إلى حال ، وذلك صفة المخلوقين العاجزين المحتاجين ، وهو تبارك وتعالى العزيز الرحيم لا حاجة به إلى شيء مما خلق ، وخلقه جميعا محتاجون إليه ، وإنما خلق الأشياء من غير حاجة ولا سبب اختراعا وابتداعا (1).
       قال السائل : فقوله : ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) (2) قال أبو عبد الله عليه السلام : بذلك وصف نفسه وكذلك هو مستول على العرش بائن من خلقه من غير أن يكون العرش حاملا له ولا أن يكون العرش حاويا له ولا أن العرش محتاز له ، ولكنا نقول : هو حامل العرش وممسك العرش ، ونقول من ذلك ما قال : ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) (3) فثبتنا من العرش والكرسي ما ثبته ، ونفينا أن يكون العرش والكرسي حاويا له أو يكون عزوجل محتاجا إلى مكان أو إلى شيء مما خلق ، بل خلقه محتاجون إليه.
       قال السائل : فما الفرق بين أن ترفعوا أيديكم إلى السماء وبين أن تخفضوها نحو الأرض ؟ قال أبو عبد الله عليه السلام : ذلك في علمه وإحاطته وقدرته سواء ، ولكنه عزوجل أمر أولياءه وعباده برفع أيديهم إلى السماء نحو العرش لأنه جعله معدن الرزق ، فثبتنا ما ثبته القرآن والأخبار عن الرسول صلى الله عليه وآله حين قال : ارفعوا أيديكم إلى الله عزوجل ، وهذا يجمع عليه فرق الأمة كلها (4).

    ---------------------------
    (1) مضت هذه الفقرة في الحديث الثالث من الباب السادس والعشرون مع زيادة.
    (2) طه : 5.
    (3) البقرة : 255.
    (4) في نسخة ( ج ) و ( ط ) وهذا مجمع عليه ـ الخ ) وبعد هذه الفقرة زيادة مذكورة .
       في نسخة ( ن ) وفي البحار باب احتجاج الصادق عليه السلام عن بعض النسخ بعد تمام الحديث ، و هي ( قال السائل : فتقول : أنه ينزل إلى السماء الدنيا ؟ قال أبو عبد الله عليه السلام : نقول : ذلك لأن الروايات قد صحت به والأخبار ، قال السائل : فإذا نزل أليس قد حال عن العرش ؟
       وحؤوله عن العرش صفة حدثت ، قال أبو عبد الله عليه السلام : ليس ذلك منه على ما يوجد من المخلوق الذي ينتقل باختلاف الحال عليه والملالة والسأمة وناقل ينقله ويحوله من حال إلى حال ، بل هو تبارك وتعالى لا يحدث عليه الحال ولا يجري عليه الحدوث فلا يكون نزلوه كنزول المخلوق الذي متى تنحى عن مكان إلى مكان خلا منه المكان الأول ، ولكنه ينزل إلى السماء الدنيا بغير معاناة وحركة فيكون كما هو في السماء السابعة على العرش كذلك هو في السماء الدنيا ، إنما يكشف عن عظمته ويرى أولياءه نفسه حيث شاء ويكشف ما شاء من قدرته ، و منظره في القرب والبعد سواء ).
       أقول : حديث نزوله تعالى مروي مأول ككثير من آيات الكتاب ، وقد مر في الحديث السابع من الباب الثامن والعشرين أن النازل ملك .

    التوحيد _ 249 _

       قال السائل : فمن أين أثبت أنبياء ورسلا ؟ قال أبو عبد الله عليه السلام : إنا لما أثبتنا أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق وكان ذلك الصانع حكيما لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسهم ولا يلامسوه ولا يباشرهم ولا يباشروه ولا يحاجهم ولا يحاجوه (1) فثبت أن له سفراء في خلقه وعباده (2) يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم ، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه وثبت عند ذلك أن له معبرين وهم الأنبياء وصفوته من خلقه حكماء مؤدبين بالحكمة مبعوثين بها غير مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب ، مؤيدين من عند الله الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين و

    ---------------------------
    (1) قوله : ( لم يجز أن يشاهده ـ الخ ) جواب ( لما ) إلا أنه جواب باعتبار الجملة الأولى ، وقوله : ( وكان ذلك الصانع حكيما ) جملة حالية ، فما يثبت به وجوب إرسال الرسل كونه تعالى متعاليا عن الخلق لا يجوز لهم مشاهدته ومكالمته ومباشرته ، وكونه حكيما لا يجوز أن يتركهم سدى ، فثبت أن له سفراء ـ الخ ) وفي الكافي باب الاضطرار إلى الحجة ( إنا لما أثبتنا أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق وكان ذلك الصانع حكيما متعاليا لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه فيباشرهم ويباشروه ويحاجهم ويحاجوه ثبت أن له سفراء في خلقه يعبرون عنه إلى خلقه وعباده ) وكذا في البحار باب احتجاج الصادق عليه السلام في خبر آخر عن كتاب الاحتجاج.
    (2) في نسخة ( ط ) وحاشية نسخة ( ب ) ( أن له سفراء في خلقه وعبادا يدلونهم ـ الخ ).

    التوحيد _ 250 _

       الشواهد من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، فلا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقال الرسول ووجوب عدالته. (1)
      2 ـ حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله قال : حدثنا محمد بن الحسن الصفار ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن أبي عمير ، عن هشام بن الحكم ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : ما الدليل على أن الله واحد ؟ قال : اتصال التدبير وتمام الصنع كما قال عزوجل : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ) (2).
      3 ـ حدثنا محمد بن علي ماجيلويه رضي الله عنه ، عن عمه محمد بن أبي القاسم ، قال : حدثني أبو سمينة محمد بن علي الصيرفي ، عن محمد بن عبد الله الخراساني خادم الرضا عليه السلام ، قال : دخل رجل من الزنادقة على الرضا عليه السلام وعنده جماعة ، فقال

    ---------------------------
    (1) المراد بالحجة وصي الرسول القائم مقامه بعده ليكون بعلمه دالا على صدق مقال الرسول وأنه عادل بالدعوة الحقة لا ظالم بالدعوة الباطلة ، وهذا الحجة بعلمه معجزة باقية من الرسول كالكتاب ، فلذلك قال صلى الله عليه وآله : ( إني تارك فيكم ـ الخ ) ، ويمكن أن يقرأ بفتحتين أي يكون معه علامة هي خصوصيات الإمام عليه السلام من العلم وسائر أوصافه وأفعاله و المواريث ، وللمصنف رحمه الله بعد تمام الخبر كلام مذكور في نسخة ( ن ) وفي البحار باب الاحتجاج نقلا عن بعض النسخ ، وهو :
       ( قال مصنف هذا الكتاب : قوله عليه السلام : إنه على العرش ليس بمعنى التمكن فيه لكنه بمعنى التعالى عليه بالقدرة ، يقال : فلان على خير واستقامة وعلى عمل كذا وكذا ، وليس ذلك بمعنى التمكن فيه والاستواء عليه ، ولكن ذلك بمعنى التمكن منه والقدرة عليه ، وقوله عليه السلام في النزول ليس بمعنى الانتقال وقطع المسافات ، ولكنه على معنى إنزال الأمر منه إلى السماء الدنيا لأن العرش هو المكان الذي ينتهي بأعمال العباد من سدرة المنتهى إليه ، وقد جعل الله عزوجل السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل وفي ليالي الجمعة مسافة الأعمال في ارتفاعها أقرب منها في سائر الأوقات إلى العرش ، وقوله عليه السلام : يرى أولياءه نفسه ، فإنه يعنى بإظهار بدائع فطرته ، فقد جرت العادة بأن يقال للسلطان إذا أظهر قوة وقدرة و خيلا ورجلا : قد أظهر نفسه ، وذلك على مستعار الكلام ومجاز اللفظ ).
    (2) الأنبياء : 22 ، وبيانه عليه السلام في الحديث إشارة إلى بطلان التالي في الآية.

    التوحيد _ 251 _

       له أبو الحسن عليه السلام : أيها الرجل أرأيت إن كان القول قولكم ـ وليس هو كما تقولون ـ ألسنا وإياكم شرعا سواء (1) ولا يضرنا ما صلينا وصمنا وزكينا وأقررنا ؟
       فسكت ، فقال أبو الحسن عليه السلام : وإن يكن القول قولنا ـ وهو كما نقول ـ ألستم قد هلكتم ونجونا ؟.
       فقال ، رحمك الله فأوجدني كيف هو وأين هو (2) قال : ويلك إن الذي ذهبت إليه غلط ، هو أين الأين وكان ولا أين ، وهو كيف الكيف وكان ولا كيف ، ولا يعرف بكيفوفية ولا بأينونية ولا يدرك بحاسة ولا يقاس بشيء .
       قال الرجل فإذا إنه لا شيء إذ لم يدرك بحاسة من الحواس فقال أبو الحسن عليه السلام : ويلك لما عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته ، ونحن إذا عجزت حواسنا عن إدراكه أيقنا أنه ربنا خلاف الأشياء (3).
       قال الرجل : فأخبرني متى كان ؟ فقال أبو الحسن عليه السلام : أخبرني متى لم يكن فأخبرك متى كان .
       قال الرجل : فما الدليل عليه ؟ قال أبو الحسن عليه السلام : إني لما نظرت إلى جسدي فلم يمكني فيه زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجر المنفعة إليه علمت أن لهذا البنيان بانيا فأقررت به ، مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته وإنشاء السحاب وتصريف الرياح ومجرى الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من الآيات العجيبات المتقنات علمت أن لهذا مقدرا ومنشئا .

    ---------------------------
    (1) في الكافي باب حدوث العالم وفي البحار باب إثبات الصانع وفي نسخة ( و ) كما هنا بنصب شرعا ، وفي سائر النسخ : ( ألسنا وإياكم شرع سواء ) بالرفع وفي كليهما شيء بحسب القواعد إلا أن كثيرا منها على الأغلب ، ويمكن التوجيه هنا بأن تكون الواو للمعية لا للعطف ، وشرع بفتحتين يؤتي للواحد وغيره وللمذكر وغيره بمعنى سواء فذكره بعده تأكيد .
    (2) قوله : ( أوجدني ) من الايجاد بمعنى الإفادة ، كما في خبر أبي الأسود الدئلي أن الحرف ما أوجد معنى في غيره أي أفاد.
    (3) في نسخة ( ب ) ( أيقنا أنه ربنا خلاق الأشياء ).

    التوحيد _ 252 _

       قال الرجل : فلم احتجب ؟ فقال أبو الحسن عليه السلام : إن الاحتجاب عن الخلق لكثرة ذنوبهم (1) ، فأما هو فلا يخفى عليه خافية في آناء الليل والنهار .
       قال : فلم لا تدركه حاسة البصر ؟ قال : للفرق بينه وبين خلقه الذين تدركهم حاسة الأبصار منهم ومن غيرهم ، ثم هو أجل من أن يدركه بصر أو يحيط به وهم أو يضبطه عقل .
       قال : فحده لي ، قال : لا حد له .
       قال : ولم ؟ قال : لأن كل محدود متناه إلى حد ، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان ، فهو غير محدود ، ولا متزايد ولا متناقص ، ولا متجزء ، ولا متوهم .
       قال الرجل : فأخبرني عن قولكم : إنه لطيف سميع بصير عليم حكيم أيكون السميع إلا بالأذن ، والبصير إلا بالعين واللطيف إلا بعمل اليدين والحكيم إلا بالصنعة ؟
       فقال أبو الحسن عليه السلام : إن اللطيف منا على حد اتخاذ الصنعة ، أو ما رأيت الرجل منا يتخذ شيئا يلطف في اتخاذه فيقال : ما ألطف فلانا ، فكيف لا يقال للخالق الجليل : لطيف إذ خلق خلقا لطيفا وجليلا وركب في الحيوان أرواحا وخلق كل جنس متبائنا عن جنسه في الصورة لا يشبه بعضه بعضا ، فكل له لطف من الخالق اللطيف الخبير في تركيب صورته ، ثم نظرنا إلى الأشجار وحملها أطائبها المأكولة منها وغير المأكولة فقلنا عند ذلك : إن خالقنا لطيف لا كلطف خلقه في صنعتهم ، وقلنا : إنه سميع لا يخفى عليه أصوات خلقه ما بين العرش إلى الثرى من الذرة إلى أكبر مناه في برها وبحرها ولا تشتبه عليه لغاتها فقلنا عند ذلك : إنه سميع لا بإذن وقلنا : إنه بصير لا ببصر لأنه يرى أثر الذرة السحماء في الليلة الظلماء على الصخرة السوداء ، ويرى دبيب النمل في الليلة الدجية ويرى مضارها ومنافعها وأثر سفادها وفراخها ونسلها فقلنا عند ذلك إنه بصير لا كبصر خلقه ، قال : ، فما برح حتى أسلم وفيه كلام غير هذا .

    ---------------------------
    (1) في البحار باب إثبات الصانع وفي نسخة ( ب ) و ( د ) ( إن الحجاب على الخلق ـ الخ ) وفي نسخة ( و ) و ( ج ) ( إن الحجاب عن الخلق ـ الخ ).

    التوحيد _ 253 _

      4 ـ حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله ، قال : حدثنا أبو القاسم حمزة بن القاسم العلوي ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا أبو سليمان داود بن عبد الله ، قال : حدثني عمرو بن محمد ، قال : حدثني عيسى بن يونس ، قال :
       كان ابن أبي العوجاء من تلامذة الحسن البصري فانحرف عن التوحيد ، فقيل له :
       تركت مذهب صاحبك ودخلت فيما لا أصل له ولا حقيقة (1) ، فقال : إن صاحبي كان مخلطا ، كان يقول طورا بالقدر وطورا بالجبر وما أعلمه اعتقد مذهبا دام عليه ، فقدم مكة تمردا وإنكارا على من يحج ، وكان يكره العلماء مسألته إياهم ومجالسته لهم لخبث لسانه وفساد ضميره ، فأتى أبا عبد الله عليه السلام ليسأله ، فجلس إليه في جماعة من نظرائه .
       فقال : يا أبا عبد الله إن المجالس بالأمانات ولا بد لمن كان به سعال أن يسعل (2) أفتأذن لي في الكلام ؟ فقال عليه السلام : تكلم بما شئت ، فقال : إلى كم تدوسون هذا البيدر ، وتلوذون بهذا الحجر ، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر ، وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر ؟! إن من فكر في هذا وقدر علم أن هذا فعل أسسه غير حكيم ولا ذي نصر (3) فقل فإنك رأس هذا الأمر وسنامه وأبوك أسه ونظامه ، فقال أبو عبد الله عليه السلام : إن من أضله الله وأعمى قلبه استوخم الحق فلم يستعذبه ، وصار الشيطان وليه يورده مناهل الهلكة ، ثم لا يصدره ، وهذا بيت استعبد الله له خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه ، فحثهم على تعظيمه وزيارته ، وجعله محل أنبيائه وقبلة للمصلين له ، فهو شعبة من رضوانه وطريق يؤدي إلى غفرانه ، منصوب على استواء الكمال ومجتمع العظمة والجلال ، خلقه الله قبل دحو الأرض بألفي عام ، وأحق من أطيع فيما أمر

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( ب ) و ( د ) ( لم تركت مذهب صاحبك ـ الخ ).
    (2) السعال حركة للهواء تحدث في قصبة الرية تدفع الاخلاط المؤذية عنها ، و الخبيث تجوز به عن الضيق الحادث في الصدر من الشبه الاعتقادية ، وفي نسخة ( ط ) ( ولا بد لمن كان به سؤال أن يسأل ).
    (3) في نسخة ( ب ) و ( د ) ( استنه غير حكيم ـ الخ ).

    التوحيد _ 254 _

       وانتهي عما نهى عنه وزجر ، الله المنشئ للأرواح والصور.
       فقال ابن أبي العوجاء : ذكرت يا أبا عبد الله فأحلت على غائب ، فقال أبو عبد الله عليه السلام : ويلك كيف يكون غائبا من هو مع خلقه شاهد وإليهم أقرب من حبل الوريد ، يسمع كلامهم ، ويرى أشخاصهم ، ويعلم أسرارهم.
       فقال ابن أبي العوجاء : فهو في كل مكان ؟ أليس إذا كان في السماء كيف يكون في الأرض ، وإذا كان في الأرض كيف يكون في السماء ؟! فقال أبو عبد الله عليه السلام : إنما وصفت المخلوق الذي إذا انتقل عن مكان واشتغل به مكان وخلا منه مكان فلا يدري في المكان الذي صار إليه ما حدث في المكان الذي كان فيه ، فأما الله العظيم الشأن الملك الديان فلا يخلو منه مكان ، ولا يشتغل به مكان ، ولا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان ، والذي بعثه بالآيات المحكمة ، والبراهين الواضحة ، وأيده بنصره ، واختاره لتبليغ رسالته صدقنا قوله بأن ربه بعثه وكلمه ، فقام عنه ابن أبي العوجاء وقال لأصحابه : من ألقاني في بحر هذا ؟!.
       وفي رواية محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله : من ألقاني في بحر هذا ، سألتكم أن تلتمسوا لي خمرة فألقيتموني على جمرة (1) قالوا : ما كنت في مجلسه إلا حقيرا ، قال : إنه ابن من حلق رؤوس من ترون (2)
      5 ـ حدثنا أحمد بن الحسن القطان قال : حدثنا أحمد بن يحيى ، عن بكر بن

    ---------------------------
    (1) الخمرة بالفتح بمعنى الخمر ، وبالضم ألمها وصداعها ويأتي بمعان أخرى ، و مراد اللعين أني سألتكم أن تأتوني إلى من أجادله وألعب به وأستهزئ به وأضحك عليه لا إلى من يحرقني ببلاغة بيانه وبرهانه.
    (2) أي أمرهم بحلق الرؤوس في الحج فأطاعوه خضوعا لله فإنه كان من عادة السلطان إذا أراد تخضيع أحد أن يأمر بحلق رأسه ، واليوم معمول في بعض البلاد ، وهذا الحديث مذكور في الاحتجاج وأمالي الصدوق وعلل الشرائع ، وليس فيها قوله : ( والذي بعثه بالآيات إلى آخر الحديث ) وكأنه جواب عن سؤال لم يذكر .

    التوحيد _ 255 _

       عبد الله بن حبيب ، قال : حدثني أحمد بن يعقوب بن مطر (1) قال : حدثنا محمد بن الحسن ابن عبد العزيز الأحدب الجند بنيسابور ، قال : وجدت في كتاب أبي بخطه : حدثنا طلحة بن يزيد ، عن عبيد الله بن عبيد (2) عن أبي معمر السعداني أن رجلا أتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقال : يا أمير المؤمنين إني قد شككت في كتاب الله المنزل ، قال له عليه السلام : ثكلتك أمك وكيف شككت في كتاب الله المنزل ؟! قال : لأني وجدت الكتاب يكذب بعضه بعضا فكيف لا أشك فيه .
       فقال علي بن أبي طالب عليه السلام : إن كتاب الله ليصدق بعضه بعضا ولا يكذب بعضه بعضا ، ولكنك لم ترزق عقلا تنتفع به ، فهات ما شككت فيه من كتاب الله عزوجل ، قال له الرجل : إني وجدت الله يقول : ( فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا ) (3) وقال أيضا : ( نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ ) (4) وقال : ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) (5) فمرة يخبر أنه ينسى ، ومرة يخبر أنه لا ينسى ، فأني ذلك يا أمير المؤمنين.
       قال : هات ما شككت فيه أيضا ، قال : وأجد الله يقول : ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ) (6) وقال واستنطقوا فقالوا والله ربنا ما كنا مشركين .
       (7) وقال : ( يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا ) (8) وقال : ( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) (9) وقال : ( لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ ) (10) وقال : ( نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( ط ) و ( ج ) ( أحمد بن يعقوب عن مطر ).
    (2) في نسخة ( و ) و ( ج ) ( عن عبد الله بن عبيد ).
    (3) الأعراف : 51.
    (4) التوبة : 67.
    (5) مريم : 64.
    (6) النبأ : 38.
    (7) الأنعام : 23 ، قوله : واستنطقوا أي بقوله تعالى في الآية : ( ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ ـ الخ ).
    (8) العنكبوت : 25.
    (9) ص : 65.
    (10) ق : 28.

    التوحيد _ 256 _

       بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (1) فمرة يخبر أنهم يتكلمون ومرة يخبر أنهم لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ، ومرة يخبر أن الخلق لا ينطقون ويقول عن مقالتهم ( وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) ومرة يخبر أنهم يختصمون ، فأني ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع .
       قال : هات ويحك ما شككت فيه ، قال : وأجد الله عزوجل يقول : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (2) ويقول : لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (3) ويقول : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ) (4) ويقول : ( يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا * يعلم ما بين أيديهم وما خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) (5) ومن أدركه الأبصار فقد أحاط به العلم ، فأني ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع .
       قال : هات أيضا ويحك ما شككت فيه ، قال : وأجد الله تبارك وتعالى يقول : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء ) (6) وقال : ( وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ) (7) وقال : ( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا ) (8) وقال : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِك ) (9) وقال : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) (10) فأني ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع .
       قال : هات ويحك ما شككت فيه ، قال : وأجد الله جل ثناؤه يقول : ( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) (11) وقد يسمي الإنسان سميعا بصيرا وملكا وربا ، فمرة يخبر بأن له أسامي كثيرة مشتركة ، ومرة يقول : ( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) فأني ذلك يا أمير المؤمنين

    ---------------------------
    (1) يس : 65.
    (2) القيامة : 23.
    (3) الأنعام : 103.
    (4) النجم : 14.
    (5) طه : 110.
    (6) الشورى : 51.
    (7) النساء : 164.
    (8) الأعراف : 22.
    (9) الأحزاب : 59.
    (10) المائدة : 67.
    (11) مريم : 65.

    التوحيد _ 257 _

       وكيف لا أشك فيما تسمع .
       قال : هات ويحك ما شككت فيه ، قال : وجدت الله تبارك وتعالى يقول : ( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ) (1).
       ويقول : ( وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ ) (2). ويقول : ( كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ) (3).
       كيف ينظر إليهم من يحجب عنهم (4) وأنى ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع .
       قال : هات أيضا ويحك ما شككت فيه ، قال : وأجد الله عزوجل يقول : ( أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ) (5) وقال : ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) (6) وقال : ( وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ ) (7) وقال : ( وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ) (8) وقال : ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) (9) وقال : ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) (10) فأنى ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع .
       قال هات أيضا ويحك ما شككت فيه ، قال : وأجد الله جل ثناؤه يقول : ( وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) (11) وقال : ( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) (12) وقال : ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ ) (13) وقال : ( َلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ

    ---------------------------
    (1) يونس : 61.
    (2) آل عمران : 77.
    (3) المطففين : 15.
    (4) نظره تعالى إليهم يستفاد التزاما من قوله : ( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ ).
    (5) الملك : 16.
    (6) طه : 5.
    (7) الأنعام : 3.
    (8) الحديد : 3.
    (9) الحديد : 4.
    (10) ق : 16.
    (11) الفجر : 22.
    (12) الأنعام : 94.
    (13) البقرة : 210.

    التوحيد _ 258 _

       يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ) (1) فمرة يقول : يوم ( يَأْتِيَ رَبُّكَ ) ومرة يقول ( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ) فأنى ذلك أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع .
       قال : هات ويحك ما شككت فيه ، قال : وأجد الله جل جلاله يقول : ( بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ) (2) وذكر المؤمنين فقال : ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) (3) وقال : ( تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ ) (4) وقال : ( من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت ) (5) وقال : ( فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ) (6) فمرة يخبر أنهم يلقونه ، ومرة أنه لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، ومرة يقول : ( ولا يحيطون به علما ) فأنى ذلك أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع .
       قال : هات ويحك ما شككت فيه ، قال : وأجد الله تبارك وتعالى يقول : ( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا ) (7).
       وقال : ( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) (8) وقال : ( وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ) (9) فمرة يخبر أنهم يظنون ومرة يخبر أنهم يعلمون ، والظن شك فأنى ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع .
       قال : هات ما شككت فيه قال : وأجد الله تعالى يقول : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ) (10) وقال : ( فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) (11) وقال : ( فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (12) وقال : ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ

    ---------------------------
    (1) الأنعام : 158.
    (2) السجدة : 10.
    (3) البقرة : 46.
    (4) الأحزاب : 44.
    (5) العنكبوت : 5.
    (6) الكهف : 110.
    (7) الكهف : 53.
    (8) النور : 25.
    (9) الأحزاب : 10.
    (10) الأنبياء : 47.
    (11) الكهف : 105.
    (12) المؤمن : 40.

    التوحيد _ 259 _

       فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ ) (1) فأنى ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع .
       قال : هات ويحك ما شككت فيه ، قال : وأجد الله تعالى يقول : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) (2) وقال : ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) (3) وقال : ( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ) (4) وقال : ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ ) (5) وقال : ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ ) (6) فأنى ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع ، وقد هلكت إن لم ترحمني وتشرح لي صدري فيما عسى أن يجري ذلك على يديك ، فإن كان الرب تبارك وتعالى حقا والكتاب حقا والرسل حقا فقد هلكت وخسرت ، وإن تكن الرسل باطلا فما علي بأس وقد نجوت .
       فقال علي عليه السلام : قدوس ربنا قدوس تبارك وتعالى علوا كبيرا ، نشهد أنه هو الدائم الذي لا يزول ، ولا نشك فيه ، وليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وأن الكتاب حق والرسل حق ، وأن الثواب والعقاب حق ، فإن رزقت زيادة إيمان أو حرمته فإن ذلك بيد الله ، إن شاء رزقك وإن شاء حرمك ذلك ، ولكن سأعلمك ما شككت فيه ، ولا قوة إلا بالله ، فإن أراد الله بك خيرا أعلمك بعلمه و ثبتك ، وإن يكن شرا ضللت وهلكت.
       أما قوله : ( نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ ) إنما يعني نسوا الله في دار الدنيا ، لم يعلموا بطاعته فنسيهم في الآخرة أي لم يجعل لهم في ثوابه شيئا فصاروا منسسيين من الخير وكذلك تفسير قوله عزوجل : ( فاليوم ننسيهم كما نسوا لقاء يومهم هذا ) يعني بالنسيان أنه لم يثبهم كما يثيب أولياءه الذين كانوا في دار الدنيا مطيعين ذاكرين حين

    ---------------------------
    (1) الأعراف : 9.
    (2) السجدة : 11.
    (3) الزمر : 42.
    (4) الأنعام : 61.
    (5) النحل : 32.
    (6) النحل : 28.

    التوحيد _ 260 _

       آمنوا به وبرسله وخافوه بالغيب ، وأما قوله : ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) فإن ربنا تبارك وتعالى علوا كبيرا ليس بالذي ينسى ولا يغفل بل هو الحفيظ العليم ، وقد يقول العرب في باب النسيان : قد نسينا فلان فلا يذكرنا أي أنه لا يأمر لنا بخير ولا يذكرنا به ، فهل فهمت ما ذكر الله عزوجل ، قال : نعم ، فرجت عني فرج الله عنك وحللت عني عقدة فعظم الله أجرك.
       فقال عليه السلام : وأما قوله : ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ) وقوله : ( والله ربنا ما كنا مشركين ) وقوله : ( يوم القيمة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ) وقوله : ( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) وقوله : ( لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ ) وقوله : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) فإن ذلك في مواطن غير واحد من مواطن ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة ، يجمع الله عزوجل الخلائق يومئذ في مواطن يتفرقون ، ويكلم بعضهم بعضا ويستغفر بعضهم لبعض أولئك الذين كان منهم الطاعة في دار الدنيا للرؤساء والاتباع (1) ويلعن أهل المعاصي الذين بدت منهم البغضاء وتعاونوا على الظلم والعدوان في دار الدنيا ، المستكبرين والمستضعفين يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا (2) والكفر في هذه الآية البراءة ، يقول : يبرء بعضهم من بعض ، ونظيرها في سورة إبراهيم قول الشيطان ( إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ) (3) وقول إبراهيم خليل الرحمن : ( كَفَرْنَا بِكُمْ ) (4) يعني تبرأنا منكم ، ثم يجتمعون في موطن آخر يبكون فيه فلو أن تلك

    ---------------------------
    (1) الرؤساء من أهل الحق ، والاتباع مصدر عطف على الطاعة.
    (2) قوله : ( ويلعن أهل المعاصي ) عطف على يجمع ، وفاعله ضمير راجع إلى الله عزوجل ، وأهل المعاصي مفعوله ، والموصول صفة لأهل المعاصي ، المستكبرين والمستضعفين صفتان بعد صفة ، ويكفر ويلعن حالان للمفعول .
    (3) إبراهيم عليه السلام : 23.
    (4) الممتحنة : 4.

    التوحيد _ 261 _

       الأصوات بدت لأهل الدنيا لأذهلت جميع الخلق عن معائشهم ، ولتصدعت قلوبهم إلا ما شاء الله ، فلا يزالون يبكون الدم ، ثم يجتمعون في موطن آخر فيستنطقون فيه فيقولون : ( وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) فيختم الله تبارك وتعالى على أفواههم و يستنطق الأيدي والأرجل والجلود فتشهد بكل معصية كانت منهم ، ثم يرفع عن ألسنتهم الختم فيقولون لجلودهم : ( لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) (1) ثم يجتمعون في موطن آخر فيستنطقون فيفر بعضهم من بعض ، فذلك قوله عزوجل : ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ) (2) فيستنطقون فلا يتكلمون إلا ن أذن له الرحمن وقال صوابا ، فيقوم الرسل صلى الله عليهم فيشهدون في هذا الموطن فذلك قوله ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا ) (3) ثم يجتمعون في موطن آخر يكون فيه مقام محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو المقام المحمود ، فيثني على الله تبارك وتعالى بما لم يثن عليه أحد قبله ثم يثني على الملائكة كلهم فلا يبقى ملك إلا أثنى عليه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم يثني على الرسل بما لم يثن عليهم أحد قبله ، ثم يثني على كل مؤمن ومؤمنة يبدء بالصديقين والشهداء ثم بالصالحين ، فيحمده أهل السماوات والأرض ، فذلك قوله : ( عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ) (4) فطوبى لمن كان له في ذلك المقام حظ ، وويل لمن لم يكن له في ذلك المقام حظ ولا نصيب ، ثم يجتمعون في موطن آخر ويدال بعضهم من بعض (5) وهذا كله قبل الحساب ، فإذا أخذ في الحساب شغل كل إنسان بما لديه ،

    ---------------------------
    (1) فصلت : 21.
    (2) عبس : 36.
    (3) النساء : 41.
    (4) الإسراء : 79.
    (5) من الأدالة بمعنى نزع الدولة من أحد وتحويله إلى آخر ، يقال : أدال الله زيدا من عمرو أي نزع الدولة من عمرو وحولها إلى زيد ، أو معنى رد الكره للمغلوب على الغالب ، يقال : أدال الله بني فلان من عدوهم أي رد الكرة لهم على عدوهم ، وفي نسخة ( ط ) ( ويدال بعضهم لبعض ).

    التوحيد _ 262 _

       نسأل الله بركة ذلك اليوم ، قال : فرجت عني فرج الله عنك يا أمير المؤمنين ، وحللت عني عقدة فعظم الله أجرك.
       فقال عليه السلام : وأما قوله عزوجل : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) وقوله : ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ) وقوله : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ) وقوله ( يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) فأما قوله : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) فإن ذلك في موضع ينتهي فيه أولياء الله عزوجل بعد ما يفرغ من الحساب إلى نهر يسمى الحيوان فيغتسلون فيه ويشربون منه فتنضر وجوههم إشراقا (1) فيذهب عنهم كل قذى ووعث ، ثم يؤمرون بدخول الجنة ، فمن هذا المقام ينظرون إلى ربهم كيف يثيبهم ، ومنه يدخلون الجنة ، فذلك قوله عزوجل من تسليم الملائكة عليهم : ( سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ) (2) فعند ذلك أيقنوا بدخول الجنة والنظر إلى ما وعدهم ربهم فذلك قوله : ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) وإنما بالنظر إليه النظر إلى ثوابه تبارك وتعالى .
       وأما قوله : ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ) فهو كما قال : ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) يعني لا تحيط به الأوهام ( وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ) يعني يحيط بها وهو اللطيف الخبير ، وذلك مدح امتدح به ربنا نفسه تبارك وتعالى وتقدس علوا كبيرا ، وقد سأل موسى عليه السلام وجرى على لسانه من حمد الله عزوجل ( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) (3) فكانت مسألته تلك أمرا عظيما وسأل أمرا جسيما فعوقب ، فقال الله تبارك وتعالى : لن تراني في الدنيا حتى تموت فتراني في الآخرة (4) ولكن إن أردت أن تراني في الدنيا

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( ب ) و ( د ) ( ويشربون من آخر فتبيض وجوههم ـ الخ ).
    (2) الزمر : 73.
    (3) الأعراف : 143.
    (4) برؤية ثوابه أو رؤية عظمته وسلطانه أو رؤية القلب لأن الاجماع والآيات والأخبار وأدله العقل على أنه تعالى لا يرى رؤية العين لا في الدنيا ولا في الآخرة ولا في النوم ولا في اليقظة ولا في غير ذلك.

    التوحيد _ 263 _

       فانظر ( إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ) فأبدى الله سبحان بعض آياته وتجلى ربنا للجبل فتقطع الجبل فصار رميما وخر موسى صعقا ، يعني ميتا فكان عقوبته الموت (1) ثم أحياه الله وبعثه وتاب عليه ، فقال : ( سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) يعني أول مؤمن آمن بك منهم أنه لن يراك ، وأما قوله : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ) يعني محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان عند سدرة المنتهى حيث لا يتجاوزها خلق من خلق الله (2) وقوله في آخر الآية : ( ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) رأى جبرئيل عليه السلام في صورته مرتين هذه المرة ومرة أخرى (3) وذلك أن خلق جبرئيل عظيم فهو من الروحانيين الذين لا يدرك خلقهم وصفتهم إلا الله رب العالمين (4).
       وأما قوله : ( يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ) لا يحيط الخلائق بالله عزوجل علما إذ هو تبارك وتعالى جعل على أبصار القلوب الغطاء ، فلا فهم يناله بالكيف ، ولا قلب يثبته بالحدود ، فلا يصفه إلا كما وصف نفسه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، الأول والآخر والظاهر والباطن ، الخالق البارئ المصور ، خلق الأشياء

    ---------------------------
    (1) هذا بظاهره يعارض دلائلنا على أن الأنبياء لا يعاقبون لأنهم عليهم السلام معصومون فنرفع اليد عنه ، إلا أن يراد بالعقوبة معناها اللغوي أي ما يقع عقيب شيء ، فقد وقع صعقة موسى بعد تجلي الرب ، كما كان يغشى على نبينا صلى الله عليه وآله حين تجلى الرب تعالى له على ما أشير إليه في الحديث الخامس عشر من الباب الثامن ، وليس في نسخة ( و ) و ( ج ) و ( د ) ( يعني ميتا فكان عقوبته الموت ).
    (2) في نسخة ( ج ) و ( ط ) و ( ن ) ( يعني محمدا صلى الله عليه وآله حيث لا يتجاوزها ـ الخ ) وفي حاشية نسخة ( ب ) و ( د ) ( يعني محمدا صلى الله عليه وآله حين يرى ربه كان عنده سدرة المنتهى حيث لا يجاوزها ـ الخ ).
    (3) في نسخة ( ط ) ( رأى حين يرى ربه عند سدرة المنتهى جبرئيل عليه السلام في صورته ـ الخ ).
    (4) في نسخة ( ب ) و ( د ) ( وذلك أن خلق جبرئيل عظيم من الروحانيين ـ الخ ).

    التوحيد _ 264 _

       فليس من الأشياء شيء مثله تبارك وتعالى ، فقال : فرجت عني فرج الله عنك ، وحللت عني عقدة فأعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين.
       فقال عليه السلام : وأما قوله : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء ) وقوله : ( وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ) و قوله : ( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا ) وقوله : ( يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ) فأما قوله ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ ) فإنه ما ينبغي لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا وليس بكائن إلا من وراء حجاب ، أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ، كذلك قال الله تبارك وتعالى علوا كبيرا ، قد كان الرسول يوحى إليه من رسل السماء فيبلغ رسل السماء رسل الأرض ، وقد كان الكلام بين رسل أهل الأرض وبينه من غير أن يرسل بالكلام مع رسل أهل السماء ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا جبرئيل هل رأيت ربك (1) فقال جبرئيل : إن ربي لا يرى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فمن أين تأخذ الوحي ؟ فقال : آخذه من إسرافيل فقال : ومن أين يأخذه إسرافيل ؟ قال : يأخذه من ملك فوقه من الروحانيين ، قال : فمن أين يأخذه ذلك الملك ؟ قال : يقذف في قلبه قذفا ، فهذا وحي ، وهو كلام الله عزوجل ، وكلام الله ليس بنحو واحد ، منه ما كلم الله به الرسل ، ومنه ما قذفه في قلوبهم ، ومنه رؤيا يريها الرسل ، ومنه وحي وتنزيل يتلى ويقرأ ، فهو كلام الله ، فاكتف بما وصفت لك من كلام الله ، فإن معنى كلام الله ليس بنحو واحد فإن منه ما يبلغ به رسل السماء رسل الأرض ، قال : فرجت عني فرج الله عنك و حللت عني عقدة فعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين.
       فقال عليه السلام : وأما قوله : ( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) فإن تأويله هل تعلم أحدا اسمه الله غير الله تبارك وتعالى ، فإياك أن تفسر القرآن برأيك حتى تفقهه عن العلماء ، فإنه رب تنزيل يشبه كلام البشر وهو كلام الله ، وتأويله لا يشبه كلام ـ

    ---------------------------
    (1) ليس سؤالا عن جهل ، بل هو مقدمة لسؤاله عن كيفية أخذ الوحي نظير قول الحواريين لعيسى : ( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ـ الخ ) بل السؤال الثاني أيضا ليس عن جهل.

    التوحيد _ 265 _

       البشر ، كما ليس شيء من خلقه يشبهه ، كذلك لا يشبه فعله تبارك وتعالى شيئا من أفعال البشر ، ولا يشبه شيء من كلامه كلام البشر ، فكلام الله تبارك وتعالى صفته (1) وكلام البشر أفعالهم ، فلا تشبه كلام الله بكلام البشر فتهلك وتضل ، قال : فرجت عني فرج الله عنك ، وحللت عني عقدة فعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين.
       فقال عليه السلام : وأما قوله : ( وما يعزب عن ربك من مثقال ذره في الأرض ولا في السماء ، كذلك ربنا لا يعزب عنه شيء ، وكيف يكون من خلق الأشياء لا يعلم ما خلق وهو الخلاق العليم.
       وأما قوله : ( وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) يخبر أنه لا يصيبهم بخير ، وقد تقول العرب : والله ما ينظر إلينا فلان ، وإنما يعنون بذلك أنه لا يصيبنا منه بخير ، فذلك النظر ههنا من الله تعالى إلى خلقه ، فنظره إليهم رحمة منه لهم ، وأما قوله : ( كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ) فإنما يعني بذلك يوم القيامة أنهم عن ثواب ربهم محجوبون قال : فرجت عني فرج الله عنك ، وحللت عني عقدة فعظم الله أجرك.
       فقال عليه السلام : وأما قوله : ( أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ) وقوله : ( وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ ) وقوله : ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) وقوله : ( وهو معكم أينما كنتم ) وقوله : ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) فكذلك الله تبارك وتعالى سبوحا قدوسا ، تعالى أن يجري منه ما يجري من المخلوقين وهو اللطيف الخبير ، وأجل وأكبر أن ينزل به شيء مما ينزل بخلقه وهو على العرش استوى علمه ، شاهد لكل نجوى ، وهو الوكيل على كل شيء ، والميسر لكل شيء ، والمدبر للأشياء كلها ، تعالى الله عن أن يكون على عرشه علوا كبيرا.
       فقال عليه السلام : وأما قوله : ( وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) وقوله : ( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) ، قوله : ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ

    ---------------------------
    (1) لم يرد به أنه من صفات ذاته لأن أخبارنا تنفي ذلك كالحديث الأول من الباب الحادي عشر ، بل المراد أن كلامه ليس ككلامنا بالحركة والتردد في النفس والتقطيع بالمخارج .

    التوحيد _ 266 _

       اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ ) وقوله : ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ) فإن ذلك حق كما قال الله عزوجل ، و ليس له جيئة كجيئة الخلق ، وقد أعلمتك أن رب شيء من كتاب الله تأويله على غير تنزيله ولا يشبه كلام البشر ، وسأنبئك بطرف منه فتكتفي إن شاء الله ، من ذلك قول إبراهيم عليه السلام : ( إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) (1) فذهابه إلى ربه توجهه إليه عبادة واجتهادا وقربة إلى الله عزوجل ، ألا ترى أن تأويله غير تنزيله ، وقال ( وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ) (2) يعني السلاح وغير ذلك ، وقوله : ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ ) يخبر محمدا (3) صلى الله عليه وآله وسلم عن المشركين والمنافقين الذين لم يستجيبوا لله وللرسول ، فقال : ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ) حيث لم يستجيبوا لله ولرسوله ( أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ) يعني بذلك العذاب يأتيهم في دار الدنيا كما عذب القرون الأولى ، فهذا خبر يخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنهم ، ثم قال : ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ) يعني من قبل أن يجيئ هذه الآية ، وهذه الآية طلوع الشمس من مغربها ، وإنما يكتفي أولوا الألباب والحجى وأولوا النهى أن يعلموا أنه إذا انكشف الغطاء رأوا ما يوعدون ، وقال : في آية أخرى : ( فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ) (4) يعني أرسل عليهم عذابا ، وكذلك إتيانه بنيانهم قال الله عزوجل : ( فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ ) (5) فإتيانه بنيانهم من القواعد إرسال العذاب عليهم ، وكذلك ما وصف من أمر الآخرة تبارك اسمه وتعالى علوا كبيرا أنه يجري أموره في ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة كما يجري أموره في الدنيا لا يغيب (6) ولا يأفل مع الآفلين ، فاكتف بما وصفت لك من ذلك مما جال

    ---------------------------
    (1) الصافات : 99.
    (2) الحديد : 25.
    (3) أي يخبر الله بقوله هذا محمدا صلى الله عليه وآله عن المشركين ـ الخ.
    (4) الحشر : 2.
    (5) النحل : 26.
    (6) في نسخة ( و ) و ( ج ) و ( د ) و ( ب ) ( لا يلعب ).

    التوحيد _ 267 _

       في صدرك مما وصف الله عزوجل في كتابه ، ولا تجعل كلامه ككلام البشر ، هو أعظم وأجل وأكرم وأعز تبارك وتعالى من أن يصفه الواصفون إلا بما وصف به نفسه في قوله عزوجل : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) (1) قال : فرجت عني يا أمير المؤمنين فرج الله عنك ، وحللت عني عقدة.
       فقال عليه السلام : وأما قوله : ( بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ) وذكر الله المؤمنين ( الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ) وقوله لغيرهم : ( إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ ) (2) وقوله : ( كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ) فأما قوله : ( بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ) يعني البعث فسماه الله عزوجل لقاءه ، وكذلك ذكر المؤمنين ( الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ) يعني يوقنون أنهم يبعثون و يحشرون ويحاسبون ويجزون بالثواب والعقاب ، فالظن ههنا اليقين خاصة ، و كذلك قوله : ( فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ) وقوله : ( مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ) يعني : من كان يؤمن بأنه مبعوث فإن وعد الله لآت من الثواب والعقاب ، فاللقاء ههنا ليس بالرؤية ، واللقاء هو البعث ، فافهم جميع ما في الكتاب من لقائه فإنه يعني بذلك البعث ، وكذلك قوله : ( تحيتهم يوم يلقونه سلام ) يعني أنه لا يزول الإيمان عن قلوبهم يوم يبعثون ، قال : فرجت عني يا أمير المؤمنين فرج الله عنك ، فقد حللت عني عقدة.
       فقال عليه السلام : وأما قوله : ( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا ) يعني أيقنوا أنهم داخلوها ، وكذلك قوله : ( إني ظننت أني ملاق حسابيه ) يقول إني أيقنت أني أبعث فأحاسب ، وكذلك قوله : ( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) وأما قوله للمنافقين : ( وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ) فهذا الظن ظن شك وليس ظن يقين ، والظن ظنان : ظن شك وظن يقين ، فما كان من أمر معاد من الظن فهو ظن يقين ، وما كان من أمر الدنيا فهو ظن شك فافهم ما فسرت لك ، قال : فرجت عني يا أمير المؤمنين فرج الله عنك .

    ---------------------------
    (1) الشورى : 11.
    (2) التوبة : 77.

    التوحيد _ 268 _

       فقال عليه السلام : وأما قوله تبارك وتعالى : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ) فهو ميزان العدل يؤخذ به الخلائق يوم القيامة ، يدين الله تبارك و تعالى الخلق بعضهم من بعض بالموازين .
       وفي غير هذا الحديث الموازين هم الأنبياء والأوصياء عليهم السلام (1).
       وأما قوله عزوجل : ( فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) فإن ذلك خاصه .
       وأما قوله : ( فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : قال الله عزوجل : لقد حقت كرامتي ـ أو قال : مودتي ـ لمن يراقبني ويتحاب بجلالي (2) إن وجوههم يوم القيامة من نور على منابر من نور عليهم ثياب خضر ، قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال : قوم ليسوا بأنبياء ولا شهداء ، ولكنهم تحابوا بجلال الله ويدخلون الجنة بغير حساب ، نسأل الله عزوجل أن يجعلنا منهم برحمته .
       وأما قوله : فمن ثقلت موازينه وخفت موازينه فإنما يعني الحساب ، توزن الحسنات والسيئات ، والحسنات ثقل الميزان والسيئات خفة الميزان.
       فقال عليه السلام : وأما قوله : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) وقوله : ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) وقوله : ( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ) وقوله : ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ ) وقوله : ( تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ) فإن الله تبارك وتعالى يدبر الأمور كيف يشاء ، ويوكل من خلقه من يشاء بما يشاء .
       أما ملك الموت فإن الله يوكله بخاصة من يشاء من خلقه ، ويوكل رسله من الملائكة خاصة بمن يشاء من خلقه ، والملائكة الذين سماهم الله عز ذكره وكلهم بخاصة من يشاء من خلقه ، إنه تبارك وتعالى يدبر الأمور كيف يشاء ، وليس كل العلم يستطيع صاحب العلم أن يفسره لكل الناس لأن منهم القوي والضعيف ، ولأن منه ما يطاق حمله ومنه ما لا يطاق حمله إلا من يسهل الله له حمله وأعانه عليه من خاصة أوليائه ، وإنما يكفيك أن تعلم

    ---------------------------
    (1) قوله : ( وفي غير هذا الحديث ) إلى هنا من كلام المصنف.
    (2) الترديد من الراوي ، أو كلمة أو للتخيير لوقوع الكلام من رسول الله صلى الله عليه وآله مرتين : مرة حقت كرامتي ومرة حقت مودتي .

    التوحيد _ 269 _

       أن الله هو المحيي المميت وأنه يتوفى الأنفس على يدي من يشاء من خلقه من ملائكته وغيرهم ، قال : فرجت عني فرج الله عنك يا أمير المؤمنين ونفع الله المسلمين بك (1).
       فقال علي عليه السلام للرجل : إن كنت قد شرح الله صدرك بما قد تبينت لك فأنت والذي فلق الحبة وبرأ النسمة من المؤمنين حقا ، فقال الرجل : يا أمير المؤمنين كيف لي أن أعلم بأني من المؤمنين حقا ؟ قال عليه السلام : لا يعلم ذلك إلا من أعلمه الله على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وشهد له رسول الله صلى الله عليه وآله بالجنة أو شرح الله صدره ليعلم ما في الكتب التي أنزلها الله عزوجل على رسله وأنبيائه ، قال : يا أمير المؤمنين ومن يطيق ذلك ؟ قال : من شرح الله صدره ووفقه له ، فعليك بالعمل لله في سر أمرك وعلانيتك فلا شيء يعدل العمل.
       قال مصنف هذا الكتاب : الدليل على أن الصانع واحد لا أكثر من ذلك أنهما لو كانا اثنين لم يخل الأمر فيهما من أن يكون كل واحد منهما قادرا على منع صاحبه مما يريد أو غير قادر ، فإن كان كذلك فقد جاز عليهما المنع ومن جاز عليه ذلك فمحدث كما أن المصنوع محدث ، وإن لم يكونا قادرين لزمهما العجز و النقص وهما من دلالات الحدث ، فصح أن القديم واحد .
       ودليل آخر وهو أن كل واحد منهما لا يخلوا من أن يكون قادرا على أن يكتم الآخر شيئا ، فإن كان كذلك فالذي جاز الكتمان عليه حادث ، وإن لم يكن قادرا فهو عاجز والعاجز حادث لما بيناه ، وهذا الكلام يحتج به في إبطال قديمين صفة كل واحد منهما صفة القديم الذي أثبتناه ، فأما ما ذهب إليه ماني وابن ديصان من خرافاتهما في الامتزاج ودانت به المجوس من حماقاتها في أهرمن ففاسد بما يفسد به قدم الأجسام ، ولدخولهما في تلك الجملة اقتصرت على هذا الكلام فيهما ولم أفرد كلا منهما بما يسأل عنه منه .
      6 ـ حدثنا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري العطار رضي الله عنه ،

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( ب ) و ( د ) ( وأمتع الله المسلمين بك ).

    التوحيد _ 270 _

       بنيسابور سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة ، قال : حدثنا علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري قال : سمعت الفضل بن شاذان يقول : سأل رجل من الثنوية أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليهما السلام ، وأنا حاضر فقال له : إني أقول : إن صانع العالم اثنان ، فما الدليل على أنه واحد ؟ فقال : قولك : إنه اثنان دليل على أنه واحد لأنك لم تدع الثاني إلا بعد إثباتك الواحد ، فالواحد مجمع عليه وأكثر من واحد مختلف فيه (1).

    37 ـ باب الرد على الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة : وما من إله إلا إله واحد

      1 ـ أبي رحمه الله ، قال : حدثنا أحمد بن إدريس ومحمد بن يحيى العطار ، عن محمد بن أحمد ، عن إبراهيم بن هاشم ، عن محمد بن حماد ، عن الحسن بن إبراهيم ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن هشام بن الحكم ، عن جاثليق من جثالقة النصارى يقال له : بريهة ، قد مكث جاثليق النصرانية سبعين سنة (2) وكان يطلب الإسلام و يطلب من يحتج عليه ممن يقرء كتبه ويعرف المسيح بصفاته ودلائله وآياته ، قال : وعرف بذلك حتى اشتهر في النصارى والمسلمين واليهود والمجوس حتى افتخرت به النصارى وقالت : لو لم يكن في دين النصرانية إلا بريهة لأجزأنا ، وكان طالبا

    ---------------------------
    (1) مراده عليه السلام أن على مدعي التعدد أن يأتي بالبرهان عليه ولا برهان له ، فالواحد مقطوع ، والزائد لا يصار إليه حتى يبرهن عليه ، قال الله تعالى ، : ( وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ).
    (2) الجاثليق صاحب مرتبة من المراتب الدينية النصرانية ، وبعدها مراتب أسماؤها : مطران : أسقف ، قسيس ، شماس ، وقبل الجاثليق مرتبة اسم صاحبها بطريق ، والكلمات سريانية ، وقوله : جاثليق النصرانية بالنصب حال من فاعل مكث أي مكث بريهة سبعين سنة حال كونه صاحب هذه المرتبة في النصرانية.

    التوحيد _ 271 _

       للحق والإسلام مع ذلك (1) وكانت معه امرأة تخدمه ، طال مكثها معه ، وكان يسر إليها ضعف النصرانية وضعف حجتها ، قال : فعرفت ذلك منه ، فضرب بريهة الأمر ظهرا لبطن وأقبل يسأل فرق المسلمين والمختلفين في الإسلام من أعلمكم ؟ وأقبل يسأل عن أئمة المسلمين وعن صلحائهم وعلمائهم ، وأهل الحجى منهم ، وكان يستقرئ فرقة فرقة لا يجد عند القوم شيئا ، وقال : لو كانت أئمتكم أئمة على الحق لكان عندكم بعض الحق ، فوصفت له الشيعة ، ووصف له هشام بن الحكم.
       فقال يونس بن عبد الرحمن : فقال لي هشام : بينما أنا على دكاني على باب الكرخ جالس وعندي قوم يقرؤون علي القرآن فإذا أنا بفوج النصارى معه ما بين القسيسين إلى غيرهم نحو من مائة رجل عليهم السواد والبرانس ، والجاثليق الأكبر فيهم بريهة حتى نزلوا حول دكاني (2) وجعل لبريهة كرسي يجلس عليه فقامت الأساقفة والرهابنة على عصيهم ، وعلى رؤوسهم برانسهم ، فقال بريهة : ما بقي من المسلمين أحد ممن يذكر بالعلم بالكلام إلا وقد ناظرته في النصرانية فما عندهم شيء وقد جئت أناظرك في الإسلام ، قال : فضحك هشام فقال : يا بريهة إن كنت تريد مني آيات كآيات المسيح فليس أنا بالمسيح ولا مثله ولا أدانيه ، ذاك روح طيبة خميصة (3) مرتفعة ، آياته ظاهرة ، وعلاماته قائمة ، قال بريهة : فأعجبني الكلام والوصف .
       قال هشام : إن أردت الحجاج فههنا ، قال بريهة : نعم فإني أسألك ما نسبة نبيكم هذا من المسيح نسبة الأبدان ؟ قال هشام : ابن عم جده ( لأمه ) لأنه من ولد إسحاق ومحمد من ولد إسماعيل ، قال بريهة ، وكيف تنسبه إلى أبيه ؟ (4) قال هشام : إن

    ---------------------------
    (1) في نسخة ( ج ) و ( ط ) ( وكان طالبا للحقوق الإسلام مع ذلك ).
    (2) في نسخة ( و ) و ( د ) ( حتى بركوا حول دكاني ).
    (3) أي خالية منزهة من الرذائل النفسية والكدورات المادية.
    (4) أي كيف تنسبه إلى إسحاق فسؤال استعباد ، أو كيف تنسبه إلى الله الذي هو أبوه عندنا فسؤال جدال ، والثاني أظهر.

    التوحيد _ 272 _

       أردت نسبه عندكم أخبرتك ، وإن أردت نسبه عندنا أخبرتك ، قال بريهة : أريد نسبه عندنا ، وظننت أنه إذا نسبه نسبتنا أغلبه ، قلت : فانسبه بالنسبة التي ننسبه بها ، قال هشام : نعم ، تقولون : إنه قديم من قديم (1) فأيهما الأب وأيهما الابن قال بريهة : الذي نزل إلى الأرض الابن ، قال هشام : الذي نزل إلى الأرض الأب قال بريهة : الابن رسول الأب ، قال هشام : إن الأب أحكم من الابن لأن الخلق خلق الأب ، قال بريهة : إن الخلق خلق الأب وخلق الابن ، قال هشام : ما منعهما أن ينزلا جميعا كما خلقا إذا اشتركا ؟! قال بريهة : كيف يشتركان وهما شيء واحد إنما يفترقان بالاسم ، قال هشام : إنما يجتمعان بالاسم ، قال بريهة : جهل هذا الكلام ، قال هشام : عرف هذا الكلام ، قال بريهة : إن الابن متصل بالأب ، قال هشام : إن الابن منفصل من الأب ، قال بريهة : هذا خلاف ما يعقله الناس ، قال هشام : إن كان ما يعقله الناس شاهدا لنا وعلينا فقد غلبتك لأن الأب كان ولم يكن الابن فتقول : هكذا يا بريهة ؟ قال : ما أقول : هكذا ، قال : فلم استشهدت قوما لا تقبل شهادتهم لنفسك ، قال بريهة : إن الأب اسم والابن اسم يقدر به القديم (2) قال هشام : الاسمان قديمان كقدم الأب والابن ؟ قال بريهة : لا ولكن الأسماء محدثة قال : فقد جعلت الأب ابنا والابن أبا ، إن كان الابن أحدث هذه الأسماء دون الأب فهو الأب ، وإن كان الأب أحدث هذه الأسماء دون الابن فهو الأب والابن أب وليس ههنا ابن (3) قال بريهة : إن الابن اسم للروح حين نزلت إلى الأرض ،

    ---------------------------
    (1) هذا مذهب جمهور المسيحيين إلا آريوس كبير فرقة منهم فإنه يقول : إن المسيح كلمة الله وابنه على طريق الاتخاذ وهو حادث مخلوق قبل خلق العالم.
    (2) أي يقدر القديم الذي هو الأب بسببه على الخلق ، أو من التقدير أي يقدر الخلق بسببه ، وفي نسخة ( ج ) ( والابن اسم يقدره القديم ) ، وفي نسخة ( و ) ( والاسم ابن بقدرة القديم ).
    (3) في البحار باب احتجاج الكاظم عليه السلام وفي النسخ الخطية عندي : ( وإن كان الأب أحدث هذه الأسماء فهو الابن والابن أب وليس ههنا ابن ).

    التوحيد _ 273 _

       قال هشام : فحين لم تنزل إلى الأرض فاسمها ما هو ؟ قال بريهة : فاسمها ابن نزلت أو لم تنزل : قال هشام : فقبل النزول هذه الروح كلها واحدة واسمها اثنان ، قال بريهة : هي كلها واحدة روح واحدة ، قال : قد رضيت أن تجعل بعضها ابنا وبعضها أبا ، قال بريهة : لا لأن اسم الأب واسم الابن واحد ، قال هشام : فالابن أبو الأب ، والأب أبو الابن ، والابن واحد ، قالت الأساقفة بلسانها لبريهة : ما مر بك مثل ذا قط تقوم ، فتحير بريهة وذهب ليقوم فتعلق به هشام ، قال : ما يمنعك من الإسلام ؟
       أفي قلبك حزازة ؟ فقلها وإلا سألتك عن النصرانية مسألة واحدة تبيت عليها ليلك هذا فتصبح وليس لك همة غيري ، قالت الأساقفة : لا ترد هذه المسألة لعلها تشككك قال بريهة : قلها يا أبا الحكم.
       قال هشام : أفرأيتك الابن يعلم ما عند الأب ؟ قال : نعم ، قال : أفرأيتك الأب يعلم كل ما عند الابن ؟ قال : نعم ، قال : أفرأيتك تخبر عن الابن أيقدر على حمل كل ما يقدر عليه الأب ؟ قال : نعم ، قال : أفرأيتك تخبر عن الأب أيقدر على كل ما يقدر عليه الابن ؟ قال : نعم ، قال هشام : فكيف يكون واحد منهما ابن صاحبه وهما متساويان وكيف يظلم كل واحد منهما صاحبه ؟ قال بريهة : ليس منهما ظلم ، قال هشام : من الحق بينهما أن يكون الابن أب الأب والأب ابن الابن ، بت عليها يا بريهة ، وافترق النصارى وهم يتمنون أن لا يكونوا رأوا هشاما ولا أصحابه.
       قال : فرجع بريهة مغتما مهتما حتى صار إلى منزله فقالت امرأته التي تخدمه : ما لي أراك مهتما مغتما .
       فحكى لها الكلام الذي كان بينه وبين هشام ، فقالت لبريهة : ويحك أتريد أن تكون على حق أو على باطل ؟! فقال بريهة : بل على الحق ، فقالت له : أينما وجدت الحق فمل إليه ، وإياك واللجاجة فإن اللجاجة شك والشك شؤم وأهله في النار ، قال : فصوب قولها وعزم على الغدو على هشام.
       قال : فغدا عليه وليس معه أحد من أصحابه ، فقال : يا هشام ألك من تصدر عن رأيه وترجع إلى قوله وتدين بطاعته ؟ قال هشام : نعم يا بريهة ، قال : وما

    التوحيد _ 274 _

       صفته ؟ قال هشام : في نسبه أو في دينه ؟ قال : فيهما جميعا صفة نسبه وصفة دينه ، قال هشام : أما النسب خير الأنساب (1) : رأس العرب وصفوة قريش وفاضل بني هاشم كل من نازعه في نسبه وجده أفضل منه لأن قريشا أفضل العرب وبني هاشم أفضل قريش ، وأفضل بني هاشم خاصهم ودينهم وسيدهم ، وكذلك ولد السيد أفضل من ولد غيره وهذا من ولد السيد ، قال : فصف دينه ، قال هشام : شرائعه أو صفة بدنه وطهارته ؟ قال : صفة بدنه وطهارته ، قال هشام : معصوم فلا يعصي ، و سخي فلا يبخل ، شجاع فلا يجبن ، وما استودع من العلم فلا يجهل ، حافظ للدين قائم بما فرض عليه ، من عترة الأنبياء ، وجامع علم الأنبياء ، يحلم عند الغضب ، وينصف عند الظلم ، ويعين عند الرضا ، وينصف من الولي والعدو ، ولا يسأل شططا في عدوه (2) ولا يمنع إفادة وليه ، يعمل بالكتاب ويحدث بالأعجوبات ، من أهل الطهارات ، يحكي قول الأئمة الأصفياء ، لم تنقض له حجة ، ولم يجهل مسألة ، يفتي في كل سنة ، ويجلو كل مدلهمة .
       قال بريهة : وصفت المسيح في صفاته وأثبته بحججه وآياته ، إلا أن الشخص بائن عن شخصه والوصف قائم بوصفه ، فإن يصدق الوصف نؤمن بالشخص ، قال هشام : إن تؤمن ترشد وإن تتبع الحق لا تؤنب .
       ثم قال هشام : يا بريهة ما من حجة أقامها الله على أول خلقه إلا أقامها على وسط خلقه وآخر خلقه فلا تبطل الحجج ، ولا تذهب الملل ، ولا تذهب السنن.
       قال بريهة : ما أشبه هذا بالحق وأقربه من الصدق ، وهذه صفة الحكماء يقيمون من الحجة ما ينفون به الشبهة ، قال هشام : نعم ، فارتحلا حتى أتيا المدينة والمرأة معهما وهما يريدان أبا عبد الله عليه السلام فلقيا موسى بن جعفر عليهما السلام ، فحكى له هشام

    ---------------------------
    (1) هكذا في النسخ ، والقاعدة تقتضي الفاء على مدخول ( أما ).
    (2) قوله : ( ولا يسأل ، على صيغة المعلوم أو المجهول ، وفي النسخ الخطية : ( ولا يسأله شططا في عدوه ) أي لا يسأله أحد أو الولي ، وفي البحار : ( ولا يسألك ـ الخ ) وفي ذيل البحار : ( ولا نسأله ـ الخ ) وفيه أيضا : ( ولا يسلك شططا في عدوه ) والأخير أصح.

    التوحيد _ 275 _

       الحكاية ، فلما فرغ قال موسى بن جعفر عليهما السلام ، : يا بريهة كيف علمك بكتابك ؟
       قال : أنا به عالم ، قال : كيف ثقتك بتأويله ؟ قال : ما أوثقني بعلمي فيه (1) قال : فابتدأ موسى بن جعفر عليهما السلام ، بقراءة الإنجيل ، قال بريهة : والمسيح لقد كان يقرء هكذا وما قرأ هذه القراءة إلا المسيح ، ثم قال بريهة : إياك كنت أطلب منذ خمسين سنة أو مثلك ، قال : فآمن وحسن إيمانه وآمنت المرأة وحسن إيمانها.
       قال : فدخل هشام وبريهة والمرأة على أبي عبد الله عليه السلام ، وحكى هشام الحكاية والكلام الذي جرى بين موسى عليه السلام وبريهة ، فقال أبو عبد الله عليه السلام : ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (2) فقال بريهة : جعلت فداك أنى لكم التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء ؟ قال : هي عندنا وراثة من عندهم نقرؤها كما قرؤوها ونقولها كما قالوها ، إن الله لا يجعل حجة في أرضه يسأل عن شيء فيقول : لا أدري فلزم بريهة أبا عبد الله عليه السلام حتى مات أبو عبد الله عليه السلام ، ثم لزم موسى بن جعفر عليهما السلام ، حتى مات في زمانه فغسله بيده وكفنه بيده ولحده بيده ، وقال : هذا حواري من حواريي المسيح يعرف حق الله عليه ، قال : فتمنى أكثر أصحابه أن يكونوا مثله .

    38 ـ باب ذكر عظمة الله جل جلاله (3)

      1 ـ أبي رحمه الله ، قال : حدثنا سعد بن عبد الله ، قال : حدثنا إبراهيم بن هاشم وغيره ، عن خلف بن حماد ، عن الحسين بن زيد الهاشمي (4) عن أبي عبد الله

    ---------------------------
    (1) أي في تأويله ، وفي البحار وفي نسخة ( ج ) ( بعلمي به ).
    (2) آل عمران : 34.
    (3) في الأخبار المذكورة في هذا الباب استعارات وكنايات وإشارات إلى حقائق بعيدة عن إدراكنا بألفاظ موضوعة للمعاني المحسوسة لنا ، ولكل منها شرح لا مجال ههنا.
    (4) في نسخة ( و ) و ( د ) ( عن الحسن بن زيد الهاشمي ) ورواه الكليني في روضة الكافي عن الحسين بن زيد الهاشمي وهو الحسين بن زيد بن علي بن الحسين عليهما السلام.

    التوحيد _ 276 _

       عليه السلام ، قال : جاءت زينب العطارة الحولاء إلى نساء رسول الله صلى الله عليه وآله وبناته وكانت تبيع منهن العطر فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وهي عندهن ، فقال لها : إذا أتيتنا طابت بيوتنا ، فقالت : بيوتك بريحك أطيب يا رسول الله ، قال : إذا بعت فأحسني ولا تغشي فإنه أتقى وأبقى للمال ، فقالت : ما جئت بشيء من بيعي ، وإنما جئتك أسألك عن عظمة الله ، فقال : جل جلال الله ، سأحدثك عن بعض ذلك.
       قال : ثم قال : إن هذه الأرض بمن فيها ومن عليها عند التي تحتها كحلقة في فلاة قي (1) وهاتان ومن فيهما ومن عليهما عند التي تحتها كحلقة في فلاة قي والثالثة حتى انتهى إلى السابعة ، ثم تلا هذه الآية ( خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ) (2) والسبع ومن فيهن ومن عليهن على ظهر الديك كحلقة في فلاة قي ، والديك له جناحان جناح بالمشرق وجناح بالمغرب ورجلاه في التخوم ، والسبع والديك بمن فيه ومن عليه على الصخرة كحلقة في فلاة قي ، والسبع والديك والصخرة بمن فيها ومن عليها على ظهر الحوت كحلقة في فلاه قي ، والسبع و الديك والصخرة والحوت عند البحر المظلم كحلقة في فلاة قي ، والسبع والديك والصخرة والحوت والبحر المظلم عند الهواء كحلقة في فلاة قي ، والسبع والديك والصخرة والحوت والبحر المظلم والهواء عند الثرى كحلقة في فلاة قي ، ثم تلا هذه الآية ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ) (3) ثم انقطع الخبر (4)، والسبع والديك والصخرة والحوت والبحر المظلم والهواء والثرى بمن فيه ومن عليه عند السماء كحلقة في فلاة قي ، وهذا والسماء الدنيا ومن فيها و من عليها عند التي فوقها كحلقة في فلاة قي ، وهذا وهاتان السماءان عند الثالثة كحلقة في فلاة قي ، وهذه الثالثة ومن فيهن ومن عليهن عند الرابعة كحلقة

    ---------------------------
    (1) القي ـ بكسر الأول وعينه واو ـ : القفز من الأرض.
    (2) الطلاق : 12.
    (3) طه : 6.
    (4) أي انقطع حديث رسول الله صلى الله عليه وآله لزينب العطارة إلى هنا ، والتتميم من الصادق عليه السلام.
       أو انقطع خبر ما دون السماء ثم أخذ في خبر السماء.

    التوحيد _ 277 _

       في فلاة قي ، حتى انتهى إلى السابعة ، وهذه السبع ومن فيهن ومن عليهن عند البحر المكفوف عن أهل الأرض كحلقة في فلاة قي ، والسبع والبحر المكفوف عند جبال البرد كحلقة في فلاة قي ، ثم تلا هذه الآية ( وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ ) (1) وهذه السبع والبحر المكفوف وجبال البرد عند حجب النور كحلقة في فلاة قي ، وهي سبعون ألف حجاب يذهب نورها بالأبصار ، وهذه السبع والبحر المكفوف وجبال البرد والحجب عند الهواء الذي تحار فيه القلوب كحلقة في فلاة قي ، والسبع والبحر المكفوف وجبال البرد والحجب والهواء في الكرسي كحلقة في فلاة قي ، ثم تلا هذه الآية : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) (2) وهذه السبع والبحر المكفوف وجبال البرد والحجب والهواء والكرسي عند العرش كحلقة في فلاة قي ، ثم تلا هذه الآية ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) (3) ما تحمله الأملاك إلا يقول لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله .
      2 ـ أبي رحمه الله ، قال : حدثنا سعد بن عبد الله ، قال : حدثنا محمد بن عيسى عن الحسن بن محبوب ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر بن يزيد ، قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن قوله عزوجل : ( أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (4) قال : يا جابر تأويل ذلك أن الله عزوجل إذا أفنى هذا الخلق وهذا العالم وسكن أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار جدد الله عالما غير هذا العالم وجدد خلقا من غير فحولة ولا إناث يعبدونه ويوحدونه ، وخلق لهم أرضا غير هذه الأرض تحملهم ، وسماء غير هذه السماء تظلهم ، لعلك ترى أن الله إنما خلق هذا العالم الواحد ، وترى أن الله لم يخلق بشرا غيركم ، بلى والله لقد خلق الله ألف ألف عالم ، وألف ألف آدم أنت في آخر تلك العوالم وأولئك الآدميين.
      3 ـ حدثنا أحمد بن الحسن القطان ، قال : حدثنا أحمد بن يحيى بن زكريا

    ---------------------------
    (1) النور : 43.
    (2) البقرة : 255.
    (3) طه : 5.
    (4) ق : 15.

    التوحيد _ 278 _

       قال : حدثنا بكر بن عبد الله بن حبيب ، عن تميم بن بهلول ، عن نصر بن مزاحم المنقري ، عن عمرو بن سعد (1) ، عن أبي مخنف لوط بن يحيى ، عن أبي منصور ، عن زيد بن وهب ، قال : سئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام عن قدرة الله تعالى جلت عظمته ، فقام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن لله تبارك وتعالى ملائكة لو أن ملكا منهم هبط إلى الأرض ما وسعته لعظم خلقه وكثرة أجنحته ، ومنهم من لو كلفت الجن والإنس أن يصفوه ما وصفوه لبعد ما بين مفاصله وحسن تركيب صورته ، وكيف يوصف من ملائكته من سبعمائة عام ما بين منكبيه وشحمة أذنيه ، ومنهم من يسد الأفق بجناح من أجنحته دون عظم بدنه ، ومنهم من السماوات إلى حجزته ، ومنهم من قدمه على غير قرار في جو الهواء الأسفل و الأرضون إلى ركبتيه ، ومنهم من لو ألقي في نقرة إبهامه جميع المياه لوسعتها ، و منهم من لو ألقيت السفن في دموع عينيه لجرت دهر الداهرين ، فتبارك الله أحسن الخالقين.
       وسئل عليه السلام عن الحجب ، فقال : أول الحجب سبعة ، غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام ، بين كل حجا بين منها مسيرة خمسمائة عام ، والحجاب الثالث (2) سبعون حجابا ، بين كل حجا بين منها مسيرة خمسمائة عام ، وطول خمسمائة عام ، حجبة كل حجاب منها سبعون ألف ملك ، قوة كل ملك منهم قوة الثقلين ، منها ظلمة ، ومنها نور ، ومنها نار ، ومنها دخان ، ومنها سحاب ، ومنها برق ، ومنها مطر ، ومنها رعد ، ومنها ضوء ، ومنها رمل ، ومنها جبل ، ومنها عجاج ، و منها ماء ، ومنها أنهار ، وهي حجب مختلفة ، غلظ كل حجاب مسيرة سبعين ألف عام ثم سرادقات الجلال ، وهي سبعون سرادقا ، في كل سرادق سبعون ألف ملك ، بين كل سرادق وسرادق مسيرة خمسمائة عام ، ثم سرادق العز ، ثم سرادق الكبرياء ثم سرادق العظمة ، ثم سرادق القدس ، ثم سرادق الجبروت ، ثم سرادق الفجر

    ---------------------------
    (1) كذا في النسخ ويحتمل كونه تصحيف ( عمرو بن سعيد ) وهو المدائني.
    (2) هكذا في النسخ إلا في نسخه ( و ) ففيه : ( والحجاب الثاني ـ الخ ).

    التوحيد _ 279 _

       ثم النور الأبيض ، ثم سرادق الوحدانية وهو مسيرة سبعين ألف عام في سبعين ألف عام ، ثم الحجاب الأعلى ، وانقضى كلامه عليه السلام وسكت ، فقال له عمر : لا بقيت ليوم لا أراك فيه يا أبا الحسن.
      4 ـ حدثنا أبو الحسن علي بن عبد الله بن أحمد الأسواري ، قال : حدثنا مكي بن أحمد بن سعدويه البرذعي ، قال : أخبرنا عدي بن أحمد بن عبد الباقي أبو ـ عمير بأذنة (1) قال : حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن البراء ، قال : حدثنا عبد المنعم ابن إدريس ، قال : حدثنا أبي ، عن وهب ، عن ابن العباس ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إن الله تبارك وتعالى ديكا رجلاه في تخوم الأرض السابعة السفلى ، ورأسه عند العرش ، ثاني عنقه تحت العرش ، وملك من ملائكة الله عزوجل خلقه الله تبارك و تعالى ورجلاه في تخوم الأرض السابعة السفلى مضى مصعدا فيها مد الأرضين حتى خرج منها إلى أفق السماء ، ثم مضى مصعدا حتى انتهى قرنه إلى العرش ، وهو يقول : سبحانك ربي ، وإن لذلك الديك جناحين إذا نشرهما جاوزا المشرق والمغرب ، فإذا كان في آخر الليل نشر جناحيه وخفق بهما وصرخ بالتسبيح يقول :
       سبحان الله الملك القدوس سبحان الكبير المتعال القدوس ، لا إله إلا هو الحي القيوم فإذا فعل ذلك سبحت ديكة الأرض كلها وخففت بأجنحتها وأخذت في الصراخ ، فإذا سكن ذلك الديك في السماء سكنت الديكة في الأرض ، فإذا كان في بعض السحر نشر جناحيه فجاوز المشرق والمغرب وخفق بهما وصرخ بالتسبيح سبحان الله العظيم سبحان الله العزيز القهار سبحان الله ذي العرش المجيد سبحان الله رب العرش

    ---------------------------
    (1) أذنة بالألف والذال والنون المفتوحات آخرها الهاء ، أو بكسر الذال ، قال السكوني : بحذاء توز جبل شرقي يقال له الغمر ثم يمضي الماضي فيقع في جبل شرقي أيضا يقال له أذنة ، وقال نصر : أذنة خيال من أخيلة حمى فيد بينه وبين فيد نحو عشرين ميلا ، و أذنة أيضا بلاد من الثغور قرب المصيصة مشهور ، كذا في مراصد الاطلاع ، وتوز وفيد منزلان متدانيان في طريق مكة من الكوفة.

    التوحيد _ 280 _

       الرفيع (1) فإذا فعل ذلك سبحت ديكة الأرض ، فإذا هاج هاجت الديكة في الأرض تجاوبه بالتسبيح والتقديس لله عزوجل ، ولذلك الديك ريش أبيض كأشد بياض ما رأيته قط ، وله زغب أخضر تحت ريشه الأبيض كأشد خضرة ما رأيتها قط فما زلت مشتاقا إلى أن أنظر إلى ريش ذلك الديك.
      5 ـ وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : إن لله تبارك وتعالى ملكا من الملائكة نصف جسده الأعلى نار ونصفه الأسفل ثلج ، فلا النار تذيب الثلج ، ولا الثلج يطفئ النار ، وهو قائم ينادي بصوت له رفيع : سبحان الله الذي كف حر هذه النار فلا تذيب هذا الثلج ، وكف برد هذا الثلج فلا يطفئ حر هذه النار ، اللهم يا مؤلفا بين الثلج والنار ألف بين قلوب عبادك المؤمنين على طاعتك .
      6 ـ وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : إن لله تبارك وتعالى ملائكة ليس شيء من أطباق أجسادهم إلا وهو يسبح الله عزوجل ويحمده من ناحية (2) بأصوات مختلفة ، لا يرفعون رؤوسهم إلى السماء ولا يخفضونها إلى أقدامهم من البكاء والخشية لله عزوجل.
      7 ـ حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رضي الله عنه ، قال : حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، عن موسى بن عمران النخعي ، عن عمه الحسين بن يزيد ، عن إسماعيل بن مسلم ، قال : حدثنا أبو نعيم البلخي ، عن مقاتل بن حيان ، عن عبد الرحمن بن أبي ذر ، عن أبي ذر الغفاري رحمة الله عليه ، قال : كنت آخذا بيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحن نتماشى جميعا ، فما زلنا ننظر إلى الشمس حتى غابت ، فقلت :
       يا رسول الله أين تغيب ، قال : في السماء ثم ترفع من سماء إلى سماء حتى ترفع إلى السماء السابعة العليا حتى تكون تحت العرش ، فتخر ساجدة فتسجد معها الملائكة الموكلون بها ، ثم تقول : يا رب من أين تأمرني أن أطلع أمن مغربي أم من مطلعي ؟ فذلك قوله تعالى : ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ

    ---------------------------
    (1) النسخ في هذه الأذكار مختلفة يسيرا غير ضائر.
    (2) في نسخة ( ج ) ( من ناحيته ).

    التوحيد _ 281 _

       الْعَلِيمِ ) (1) يعني بذلك صنع الرب العزيز في ملكه ، العليم بخلقه ، قال : فيأتيها جبرئيل بحلة ضوء من نور العرش على مقادير ساعات النهار في طوله في الصيف أو قصره في الشتاء أو ما بين ذلك في الخريف والربيع ، قال : فتلبس تلك الحلة كما يلبس أحدكم ثيابه ، ثم تنطلق بها في جو السماء حتى تطلع من مطلعها ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : فكأني بها قد حبست مقدار ثلاث ليال ثم لا تكسى ضوءا وتؤمر أن تطلع من مغربها ، فذلك قوله عزوجل : ( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ) (2).
       والقمر كذلك من مطلعه ومجراه في أفق السماء ومغربه وارتفاعه إلى السماء السابعة ، ويسجد تحت العرش ثم يأتيه جبرئيل بالحلة من نور الكرسي فذلك قوله عزوجل : ( جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء * وَالْقَمَرَ نُورًا ) (3) قال أبو ذر رحمه الله : ثم اعتزلت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلينا المغرب.
      8 ـ حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار رحمه الله ، قال : حدثنا أبي ، قال :
       حدثنا الحسين بن الحسن بن أبان ، عن محمد بن أورمة ، عن زياد القندي ، عن درست ، عن رجل ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : إن لله تبارك وتعالى ملكا بعد ما بين شحمة أذنه إلى عنقه مسيرة خمسمائة عام خفقان الطير.
      9 ـ حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله ، قال : حدثنا أحمد بن إدريس ، عن محمد بن أحمد ، عن السياري ، عن عبد الله بن حماد ، عن جميل بن دراج قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام هل في السماء بحار ؟ قال : نعم ، أخبرني أبي ، عن أبيه عن جده عليهم السلام ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن في السماوات السبع لبحارا عمق أحدها مسيرة خمسمائة عام ، فيها ملائكة قيام منذ خلقهم الله عزوجل ، والماء إلى ركبهم ، ليس فيهم ملك إلا وله ألف وأربعمائة جناح ، في كل جناح أربعة وجوه ، في كل وجه أربعة ألسن ، ليس فيها جناح ولا وجه ولا لسان ولا فم إلا وهو يسبح الله عزوجل بتسبيح لا يشبه نوع منه صاحبه .
      10 ـ حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله ، قال : حدثنا محمد بن

    ---------------------------
    (1) يس : 38.
    (2) التكوير : 2.
    (3) يونس : 5.

    التوحيد _ 282 _

       يحيى العطار ، عن الحسين بن الحسن بن أبان ، عن محمد بن أورمة ، عن أحمد بن الحسن الميثمي (1) عن أبي الحسن الشعيري (2) عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة ، قال : جاء ابن الكواء إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال : يا أمير المؤمنين والله إن في كتاب الله عزوجل لآية قد أفسدت علي قلبي وشككتني في ديني ، فقال له علي عليه السلام : ثكلتك أمك وعدمتك وما تلك الآية ؟ قال : قول الله تعالى : ( وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) (3) فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : يا ابن الكواء إن الله تبارك وتعالى خلق الملائكة في صور شتى إلا أن لله تبارك وتعالى ملكا في صورة ديك أبح أشهب ، براثنه في الأرض السابعة السلفي وعرفه مثنى تحت العرش له جناحان جناح في المشرق وجناح في المغرب واحد من نار وآخر من ثلج ، فإذا حضر وقت الصلاة قام على براثنه ثم رفع عنقه من تحت العرش ، ثم بجناحيه كما تصفق الديوك في منازلكم ، فلا الذي من النار يذيب الثلج ولا الذي من الثلج يطفئ النار ، فينادي أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا سيد النبيين وأن وصيه سيد الوصيين وأن الله سبوح قدوس رب الملائكة والروح ، قال : فتخفق الديكة بأجنحتها في منازلكم فتجيبه عن قوله وهو قوله تعالى ( وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) من الديكة في الأرض.
      11 ـ حدثنا أبي رحمه الله قال : حدثنا سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن علي ، عن يونس بن يعقوب ، عن عمرو بن مروان ، عن أبي ـ عبد الله عليه السلام قال : إن لله تبارك وتعالى ملائكة أنصافهم من برد وأنصافهم من نار يقولون : يا مؤلفا بين البرد والنار ثبت قلوبنا على طاعتك .
       وسأخرج الأخبار التي رويتها في ذكر عظمة الله تبارك وتعالى في كتاب العظمة إن شاء الله.

    ---------------------------
    (1) كذا في نسخة ( ج ) وفي غيرها ( أحمد بن المحسن الميثمي ) وفي نسخه ( ط ) و حاشية نسخة ( ب ) ( الميثى ) مكان الميثمي.
    (2) في نسخة ( ط ) ( الأشعري ).
    (3) النور : 41.