بالشام جود ليس فيه سوف  (1)      أنا المرادي ورهطي زوف  (2)
أنـا ابـن مجزاة واسمي iiعوف      هـل مـن عراقي عصاه iiسيف
  يبـــرز لي وكيف لـــي وكيف ، فبرز إليه العكبر وهو يقول :
الـشام  محل والعراق iiتمطر      بها الإمام والإمام معذر  (3)
والشام فيها للإمام معور  (4)      أنـا  العراقي واسمي iiالعكبر
ابـن جـدير وأبـوه iiالمنذر      ادن فإني للكمى مصحر  (5)
  فاطعنا فصرعه العكبر فقتله ، ومعاوية على التل في أناس من قريش (6) ونفر من الناس قليل (7) ، فوجه العكبر فرسه فملأ فروجه ركضا يضربه بالسوط ، مسرعا نحو التل ، فنظر إليه معاوية فقال : إن هذا الرجل مغلوب على عقله أو مستأمن ، فاسألوه ، فأتاه رجل وهو في حمى فرسه (8) فناداه فلم يجبه ، فمضى ( مبادرا ) حتى انتهى إلى معاوية وجعل يطعن في أعراض الخيل ، ورجا العكبر أن يفردوا له معاوية ، فقتل رجالا (9) ، وقام القوم دون معاوية بالسيوف والرماح ، فلما لم يصل إلى معاوية نادى : أولى لك يا ابن هند ، أنا الغلام الأسدي ، فرجع إلى علي (10) فقال له :

---------------------------
(1) يقال فلان يقتات السوف أي يعيش بالأماني .
(2) في الأصل : ( روف ) وانظر التحقيق فيما قبل .
(3) المعذر : المنصف ، ح : ( بها إمام طاهر مطهر ) .
(4) المعور : القبيح السريرة ، ح : ( فيها أعور ومعور ) .
(5) مصحر ، أي هو من أمره على أمر واضح منكشف ، ح : ( فإني في البراز قسور ) .
(6) ح ( 2 : 297 ) : ( في وجوه قريش ) .
(7) في الأصل : ( وأناس من الناس قليل ) وفي ح : ( ونفر قليل من الناس ) .
(8) الحمى : اشتداد العدو ، وفي الأصل : ( حمو ) والوجه ما أثبت ، قال الأعشى :
(9) ح : ( فاستقبله رجال قتل منهم قوما ) .
(10) ح : ( ورجع إلى صف العراق ولم يكلم ) .

واقعة صفين _ 441 _

  يا عكبر ؟ ( لا تلق نفسك إلى التهلكة ) قال : أردت غرة ابن هند ، وكان شاعرا فقال :
كـأن احتدام الجوف من حمى شده      ومـا  بـعده مـن شده غلى iiقمقم
قـتلت  الـمرادي الذي جاء iiباغيا      يـنادي  وقـد ثار العجاج : iiنزال
يقول أنا عوف بن مجزاة ، والمنى      لـقاء  ابـن مـجزاة بـيوم iiقتال
فـقلت لـه لـما علا القوم iiصوته      مـنيت بـمشبوح الـذراع iiطوال
فـأوجرته فـي معظم النقع iiصعدة      مـلأت بـها رعـبا قلوب iiرجال
فـغادرته  يـكبو صـريعا لوجهه      يـنادي  مـرارا فـي مكر iiمجال
فـقدمت مـهري آخـذا حد iiجريه      فـأضربه فـي حومة بشمالي  (1)
أريـد بـه الـتل الذي فوق رأسه      مـعـاوية الـجاني لـكل iiخـبال
يقول ومهري يغرف الجرى جامحا      بـفارسه  قد بان كل ضلال  (2)
فـلما رأونـي أصدق الطعن iiفيهم      جـلا  عـنهم رجم الغيوب iiفعالي
فـقـام رجـال دونـه iiبـسيوفهم      وقــال رجـال دونـه iiبـعوالي
فـلو  نـلته نلت التي ليس iiبعدها      من الأمر شئ غير قيل وقال  (3)
ولـو مت في نيل المنى ألف iiميتة      لـقلت  إذا مـا مـت لست iiأبالي
  وانكسر أهل الشام لقتل ( عوف ) المرادي ، وهدر معاوية دم العكبر ، فقال العكبر : يد الله فوق يد معاوية ، فأين دفاع الله عن المؤمنين (4) .

---------------------------
(1) ح ( 2 : 299 ) : ( أصرفه في جريه بشمالي ) .
(2) في الأصل : ( يعرف الجرى ) تحريف ، وفي القاموس : ( وخيل مغارف كأنها تغرف الجرى ) .
(3) ح : ( وفزت بذكر صالح وفعال ) .
(4) في الأصل : ( من المؤمنين ) ، وفي ح : ( فأين الله جل جلاله ودفاعه عن المؤمنين ) .

واقعة صفين _ 442 _

  وقال نصر : حيث شرك الناس عليا في الرأي ، ماذا دعاك إلى ما صنعت فجزع النجاشي من ذلك وقال :
كـفى  حـزنا أنـا عـصينا iiإمامنا      عليا  وأن القوم طاعوا معاويه  (1)
وإن  لأهـل الـشام في ذاك iiفضلهم      عـلينا  بـما قـالوه فـالعين iiباكيه
فـسبحان مـن أرسـى ثبيرا iiمكانه      ومـن أمـسك السبع الطباق كماهيه
أيـعصى إمـام أوجـب الله iiحـقه      علينا وأهل الشام طوع لطاغيه  (2)
  ثم إن عليا ( عليه السلام ) دعا قيس بن سعد فأثنى عليه خيرا ، وسوده على الأنصار ، وكانت طلائع أهل الشام وأهل العراق يلتقون فيما بين ذلك ويتناشدون الأشعار ، ويفخر بعضهم على بعض ، ويحدث بعضهم بعضا على أمان ، فالتقوا يوما وفيهم النجاشي ، فتذاكر القوم رجراجة على وخضرية معاوية ، فافتخر كل بكتيبتهم فقال أهل الشام : إن الخضرية مثل الرجراجة ، وكان مع علي أربعة آلاف مجفف (3) من همدان ، مع سعيد بن قيس رجراجة ، وكان عليهم البيض والسلاح والدروع ، وكان الخضرية مع عبيد الله بن عمر بن الخطاب أربعة آلاف عليهم الخضرة ، فقال فتى من جذام من أهل الشام ممن كان في طليعة معاوية :
ألا قل لفجار أهل iiالعراق      ولين الكلام لهم سيه  (4)
---------------------------
(1) اللسان : ( الطوع نقيض الكره ـ أي بفتح الكاف ـ طاعه يطوعه وطاوعه ) .
(2) في الأصل وح : ( طوعا لطاغيه ) .
(3) المجفف : لابس التجفاف ، وأصله ما يوضع على الخيل من حديد وغيره ، وفي الأصل : ( مجفجف ) تحريف .
(4) السية هي مخفف السيئة ، ثم سهلت همزتها وقلبت ياء وأدغمت في أختها ، كما أن السي مخفف السيء ، ومنه قول أفنون التغلبي ( انظر اللسان 1 : 91 والقصيدة 66 من المفضليات ) :

واقعة صفين _ 443 _

أنـي جـزوا عـامرا سـيئا iiبفعلهم      أم كيف يجزونني السوأى من الحسن
مـتـى مــا تـجيئوا iiبـرجراجة      نـجـئكم  بـجأواء  (1) iiخـضرية
فـوارسـها كـأسـود الـضـراب      طـــوال الــرمـاح iiيـمـانيه
قــصـار الـسـيوف iiبـأيـديهم      يـطـولها الـخـطو والـنيه  (2)
يـقـول  ابــن هـند إذا iiأقـبلت      جـــزى الله خـيـرا iiجـذامـيه
  فقال اليوم للنجاشي : أنت شاعر أهل العراق وفارسهم ، فأجب الرجل فتنحى ساعة ثم أقبل يهدر مزبدا يقول :
مـعـاوي  إن تـأتـنا iiمـزبدا      بـخـضرية  تـلق iiرجـراجه
أسـنتها  مـن دمـاء iiالـرجال      إذا  جـالـت الـخيل iiمـجاجه
فـوارسها  كـأسود iiالـضراب      إلـى  الله فـي الـقتل iiمحتاجه
ولـيست  لـدى الـموت iiوقافة      وليست لدى الخوف فجفاجه  (3)
ولـيس  بـهم غـير جد iiاللقاء      إلـى طـول أسـيافهم iiحـاجه
خـطـاهم مـقـدم iiأسـيـافهم      وأذرعـهـم  غـيـر iiخـداجه
وعـندك  مـن وقـعهم iiمصدق      وقـد أخـرجت أمـس إخراجه
فـشنت عـليهم ببيض iiالسيوف      بـهـا فـقـع لـجـاجه  (4)
  فقال أهل الشام : يا أخا بني الحارث أروناها فإنها جيدة ، فأعادها عليهم حتى رووها ، وكانت الطلائع تلتقي ، يستأمن بعضهم بعضا فيتحدثون .

---------------------------
(1) الجأواء : الكتيبة التي علاها الصدأ ، وفي الأصل : ( بجا ) فقط ، وهذه المقطوعة وتاليتها لم تردا في مظنهما من ح .
(2) ينظر إلى قول الأخنس بن شهاب في المفضلية 41 :
(3) الفجفاج : الكثير الصياح والجلبة ، وفي الأصل : ( فجاجة ) تحريف .
(4) كذا ورد هذا الشطر .

واقعة صفين _ 444 _

وإن قصرت أسيافنا كان وصلها      خطانا  إلى القوم الذين نضارب
  ( قال نصر : وروى عمر بن سعد ، عن الحارث بن حصيرة ، عن ابن أبي الكنود ) ، قال : جزع أهل الشام (1) على قتلاهم جزعا شديدا ، فقال معاوية ابن خديج : يا أهل الشام ، قبح الله ملكا يملكه المرء بعد حوشب وذي الكلاع و ( الله ) لو ظفرنا بأهل العراق بعد قتلهما بغير مؤونة ما كان ظفرا ، وقال يزيد بن أنس لمعاوية : لا خير في أمر لا يشبه أوله آخره ، لا يدمل جريح (2) ، ولا يبكي على قتيل حتى تنجلي هذه الفتنة ، فإن يكن الأمر لك دملت (3) وبكيت على قرار ، وإن كان الأمر لغيرك فما أصبت فيه أعظم ، فقال معاوية : ( يا أهل الشام ، ما جعلكم أحق بالجزع على قتلاكم من أهل العراق على قتلاهم ، فوالله ما ذو الكلاع فيكم بأعظم من عمار بن ياسر فيهم ، ولا حوشب فيكم بأعظم من هاشم فيهم ، وما عبيد الله بن عمر فيكم بأعظم من ابن بديل فيهم ، وما الرجال إلا أشباه ، وما التمحيص إلا من عند الله ، فأبشروا فإن الله قد قتل من القوم ثلاثة ، قتل عمار بن ياسر وهو كان فتاهم ، وقتل هاشما وكان جمرتهم ، وقتل ابن بديل وهو فاعل الأفاعيل ، وبقى الأشعث والأشتر وعدي ابن حاتم ، فأما الأشعث فحماه مصره ، وأما الأشتر وعدي فغضبا للفتنة ، والله قاتلهما غدا إن شاء الله فقال ابن خديج : إن يكن الرجال عندك أشباها فليست عندنا كذلك ، وغضب معاوية ( من ) ابن خديج ، وقال الحضرمي في ذلك شعرا (4) :

---------------------------
(1) بدل ما بعد التكملة في الأصل : ( ثم ذكروا أن أهل الشام جزعوا ) وأثبت ما في ح .
(2) يدمل : يصلح ويعالج ، وفي الأصل : ( لا يدمن على جريح ) ، ح ( 2 : 299 ) : ( لا يدمى جريح ) ، ووجههما ما أثبت .
(3) في الأصل : ( أدمنت ) وفي ح : ( أدميت ) وانظر التحقيق السالف .
(4) ح : ( وقال شاعر اليمن يرثى ذا الكلاع وحوشبا ) .

واقعة صفين _ 445 _

مـعاوي قـد نـلنا ونيلت iiسراتنا      وجـدع  أحـياء الكلاع iiويحصب
بــذي  كـلع لا يـبعد الله iiداره      وكـل  يـمان قد أصيب iiبحوشب
هما ما هما كانا ، معاوي ، عصمة      مـتى  مـا أقـله جهرة لا iiأكذب
ولـو قـبلت فـي هالك بذل iiفدية      فـديـناهما بـالنفس والأم iiوالأب
وقـد  عـلقت أرمـاحنا iiبفوارس      مني قومهم منا بجدع موعب  (1)
وليس  ابن قيس أو عدي بن iiحاتم      والأشتر إن ذاقوا فنا بتحوب  (2)
  ثم رجع إلى حديث عمر بن سعد ، نصر ، عن عمر ، عن عبد الرحمن بن عبد الله (3) ، أن عبد الله بن كعب (4) قتل يوم صفين ، فمر به الأسود بن قيس (5) بآخر رمق فقال : عز على والله مصرعك ، أما والله لو شهدتك لآسيتك ولدافعت عنك ، ولو رأيت الذي أشعرك (6) لأحببت ألا يزايلني حتي ( أقتله أو ) يلحقني بك ، ثم نزل إليه فقال : ( رحمك الله يا عبد الله ) ، والله إن كان جارك ليأمن بوائقك ، وإن كنت لمن الذاكرين الله كثيرا ، أوصني رحمك الله ، قال :

---------------------------
(1) في الأصل : ( وقد علقت أرحامنا ) والوجه ما أثبت ، والبيت لم يرو في ح ، أراد أخذت أرماحنا هؤلاء الفوارس الذين يتمنى قومهم لنا الجدع الموعب ، وهذا البيت ترتيبه الثالث في الأصل ، كما أن تاليه كان ترتيبه الخامس في الأصل ، ولم يرويا في ح ، وقد رددتهما إلى هذا الوضع الذي يتساوق به الشعر .
(2) فنا : مقصور فناء ، قصره للشعر ، وفي الأصل : ( فلا ) .
(3) ح : ( عن عبيد الرحمن بن كعب ) .
(4) عبد الله بن كعب المرادي قتل يوم صفين ، وكان من أعيان أصحاب علي ، الإصابة 4909 ، وفي ح : ( عبد الله بن بديل ) ، وعبد الله بن بديل ، وأخوه عبد الرحمن بن بديل ، قتلا أيضا بصفين .
(5) ح : ( الأسود بن طهمان الخزاعي ) .
(6) في اللسان : ( أشعره سنانا : خالطه به ) ، وأنشد قول أبي عازب الكلابي :

واقعة صفين _ 446 _

  فأشعرته تحت الظلام وبيننا ، من الخطر المنضود في العين واقع أوصيك ، قال : ( يريد أشعرت الذئب بالسهم ) ، وفي الأصل : ( ولو أعرف ) وأثبت ما في ح ، بتقوى الله ، وأن تناصح أمير المؤمنين وأن تقاتل معه المحلين ، حتى يظهر الحق أو تلحق بالله ، وأبلغه عني السلام وقل له : قاتل على المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك ، فإنه من أصبح والمعركة خلف ظهره كان الغالب ، ثم لم يلبث أن مات ، فأقبل الأسود إلى علي فأخبره فقال : ( رحمه الله ، جاهد معنا عدونا في الحياة ، ونصح لنا في الوفاة ) ، ثم إن عليا غلس بالناس بصلاة الفجر ، ثم زحف بهم فخرج الناس على راياتهم وأعلامهم ، وزحف إليهم أهل الشام ، قال : فحدثني عمرو بن شمر ، عن جابر عن عامر ، عن صعصعة بن صوحان والحارث بن أدهم ، أن أبرهة بن الصباح بن أبرهة الحميري قام فقال : ويلكم يا معشر أهل اليمن ، والله إني لأظن أن قد أذن بفنائكم ، ويحكم خلوا بين هذين الرجلين فليقتتلا ، فأيهما قتل صاحبه ملنا معه جميعا ، وكان ( أبرهة ) من رؤساء أصحاب معاوية ، فبلغ ذلك عليا فقال : صدق أبرهة بن الصباح ، والله ما سمعت بخطبة منذ وردت الشام أنا بها أشد سرورا مني بهذه ، وبلغ معاوية كلام أبرهة فتأخر آخر الصفوف وقال لمن حوله : إني لأظن أبرهة مصابا في عقله ، فأقبل أهل الشام يقولون : والله إن أبرهة لأفضلنا دينا ورأيا وبأسا ، ولكن معاوية كره مبارزة علي ، فقال أبرهة في ذلك :
لـقد قـال ابن أبرهة iiمقالا      وخـالفه  معاوية بن iiحرب
لأن الحق أوضح من غرور      ملبسة  غرائضه بحقب  (1)
رمـى بـالفيلقين به iiجهارا      وأنـتم  ولد قحطان iiبحرب
فـخلوا  عنهما ليثي iiعراك      فـإن  الحق يدفع كل iiكذب
ومـا إن يعتصم يوما iiبقول      ذوو الأرحـام إنهم iiلصحبي
---------------------------
(1) كذا ورد هذا الشطر ، وانظر أواخر ص 441 .

واقعة صفين _ 447 _

وكـم  بـين الـمنادي من iiبعيد      ومن يغشى الحروب بكل عضب
ومـن يـرد الـبقاء ومن iiيلاقي      بـإسماح الطعان وصفح iiضرب
أيـهجرني مـعاوية بـن iiحرب      ومـا هـجرانه سـخطا لـربي
وعـمرو  إن يـفارقني iiبـقول      فـإن ذراعـه بالغدر رحب  (1)
وإنــي إن أفـارقـهم iiبـديني      لـفي  سـعة إلى شرق iiوغرب
  وبرز يومئذ عروة بن داود الدمشقي (2) فقال : إن كان معاوية كره مبارزتك يا أبا الحسن فهلم إلى ، فتقدم إليه علي فقال له أصحابه : ذر هذا الكلب فإنه ليس لك بخطر (3) ، فقال : والله ما معاوية اليوم بأغيظ لي منه ، دعوني وإياه ، ثم حمل عليه فضربه فقطعه قطعتين ، سقطة إحداهما يمنة والأخرى يسرة ، فأرتج العسكران لهول الضربة ، ثم قال : اذهب يا عروة فأخبر قومك ، أما والذي بعث محمدا بالحق لقد عاينت النار وأصبحت من النادمين ، وقال ابن عم لعروة : واسوء صباحاه ، قبح الله البقاء بعد أبي داود ، ثم أنشأ يقول في ذلك :
فقدت عروة الأرامل iiوالأي‍تام      يـوم  الكريهة الشنعاء  (4)
كـان لا يشتم الجليس iiولاين      كل يوم العظيمة النكباء  (5)
آمـن الله من عدي ومن iiاب‍ن      أبـي طـالب ومـن iiعـليا
  يالعيني ألا بكــت عروة الأقــ‍وام يـــوم العجــاج والتربــاء (6) .

---------------------------
(1) الذراع أنثى ، وقد تذكر ، وفي البيت إقواء .
(2) ح ( 2 : 300 ) : ( أبو داود عروة بن داود العامري ) .
(3) في اللسان : ( وهذا خطير لهذا وخطر له ، أي مثل له في القدر ) .
(4) في الأصل : ( الشغباء ) تحريف ، والمقطوعة لم ترد في ح .
(5) نكل ، كضرب ونصر وعلم ، نكولا : نكص وجبن .
(6) كلمة ( الأقوام ) بمثلها يتم البيت ، وليست في الأصل ، والترباء ، إحدى لغات التراب ، وهي إحدى عشرة لغة .

واقعة صفين _ 448 _

فـليبكيه  نسوة من بني iiعامر      مـن  يـثرب وأهـل iiقـباء
رحم الله عروة الخير ذا النج‍دة      وابــن الـقـماقم iiالـنجباء
  أرهقته المنون في قــاع صفين صريعــا قــد غاب في الجـرباء (1)
غادرته الكماة من أهل بدر      ومـن  الـتابعين iiوالنقباء
  وقال عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري :
عرو  يا عرو قد لقيت iiحماما      إذ  تقحمت في حمى iiاللهوات
أعـليا  ، لك الهوان ، iiتنادي      ضـيغما في أياطل iiالحومات
إن لـله فارسا كأبي الشبلمين      مـا إن يـهوله المتلفات  (2)
مؤمنا بالقضاء محتسبا بالخير      يـرجو  الـثواب iiبالسابقات
لـيس يخشى كريهة في iiلقاء      لا ولا مـا يـجي به iiالآفات
فـلقد  ذقت في الجحيم iiنكالا      وضـراب المقامع iiالمحميات
يا ابن داود قد وقيت ابن iiهند      أن  يـكون القتيل iiبالمقفرات
  قال : وحمل ابن عم أبي داود على علي فطعنه فضرب الرمح فبراه ، ثم قنعه ضربة فألحقه بأبي داود ، ومعاوية واقف على التل يبصر ويشاهد ، فقال : تبا لهذه الرجال وقبحا ، أما فيهم من يقتل هذا مبارزة أو غيلة ، أو في اختلاط الفيلق وثوران النقع ، فقال الوليد بن عقبة : ابرز إليه أنت فإنك أولى الناس بمبارزته ، فقال : والله لقد دعاني إلى البراز حتى استحييت من قريش ، وإني والله لا أبرز إليه ، ما جعل العسكر بين يدي الرئيس إلا وقاية له ، فقال عتبة ابن أبي سفيان : الهوا عن هذا كأنكم لم تسمعوا نداءه ، فقد علمتم أنه قتل حريثا وفضح عمرا ، ولا أرى أحدا يتحكك به إلا قتله .

---------------------------
(1) الجرباء : الأرض الممحلة المقحوطة ، وفي الأصل : ( قد عاين الحوباء ) .
(2) في الأصل : ( ليس لله فارس ) .

واقعة صفين _ 449 _

   فقال معاوية لبسر ابن أرطاة أتقوم لمبارزته ؟ فقال : ما أحد أحق بها منك ، وإذا أبيتموه فأنا له ، فقال له معاوية : أما إنك ستلقاه في العجاجة غدا في أول الخيل ، وكان عند بسر بن أرطاة ابن عم له قد قدم من الحجاز يخطب ابنته فأتى بسرا فقال له : إني سمعت أنك وعدت من نفسك أن تبارز عليا ، أما تعلم أن الوالي من بعد معاوية عتبة ، ثم بعده محمد أخوه ، وكل من هؤلاء قرن لعلي (1) ، فما يدعوك إلى ما أرى ، قال : الحياء ، خرج مني كلام (2) فأنا أستحيي أن أرجع عنه ، فضحك الغلام وقال في ذلك :
تـنازله يـا بـسر إن كنت iiمثله      وإلا  فإن الليث للضبع آكل  (3)
كـأنك يـا بسر بن أرطاة iiجاهل      بـآثاره فـي الحرب أو iiمتجاهل
مـعاوية الـوالي وصـنواه iiبعده      ولـيس  سـواء مـستعار وثاكل
أولـئك  هـم أولـى به منك iiإنه      عـلى فـلا تـقربه ، أمك iiهابل
متى تلقه فالموت في رأس iiرمحه      وفـي سـيفه شغل لنفسك iiشاغل
وما  بعده في آخر الحرب عاطف      ولا قبله في أول الخيل حامل  (4)
  فقال بسر : هل هو إلا الموت ، لابد والله من لقاء الله تعالى ، فغدا على ( عليه السلام ) منقطعا من خيله ومعه الأشتر ، وهو يريد التل وهو يقول :

---------------------------
(1) في الأصل : ( وكل هؤلاء من قرن لعلي ) صوابه في ح .
(2) في الأصل : ( شيء ) والوجه ما أثبت من ح ( 2 : 300 ) .
(3) ح : ( للشاة آكل ) .
(4) عاطف ، أراد به الذي يحمي المنهزمين ، وفي اللسان : ( ورجل عطوف وعطاف ، يحمي المنهزمين ) ، وفي الأصل : ( خاطف ) موضع ( عاطف ) صوابه في ح .

واقعة صفين _ 450 _

إنـي عـلي فـاسألوا iiلتخبروا      ثم ابرزوا إلى الوغى أو iiأدبروا
سـيفي  حـسام وسناني iiأزهر      مـنا  الـنبي الـطيب المطهر
وحـمزة الـخير ومـنا iiجعفر      له جناح في الجنان أخضر  (1)
ذا  أســد الله وفـيه iiمـفخر      هـذا  وهـذا وابن هند iiمجحر
  مذبــــذب مطــرد مؤخــــر فاستقبله بسر قريبا من التل وهو مقنع في الحديد لا يعرف ، فناداه : ابرز إلى أبا حسن ، فانحدر إليه على تؤدة غير مكترث ، حتى إذا قار به طعنه وهو دارع ، فألقاه على الأرض ، ومنع الدرع السنان أن يصل إليه ، فاتقاه بسر ( بعورته ) وقصد أن يكشفها يستدفع بأسه ، فانصرف عنه علي ( عليه السلام ) مستدبرا له ، فعرفه الأشتر حين سقط فقال : يا أمير المؤمنين ، هذا بسر بن أرطاة ، عدو الله وعدوك ، فقال : دعه عليه لعنة الله ، أبعد أن فعلها ، فحمل ابن عم لبسر شاب على علي ( عليه السلام ) وهو يقول :
أرديـت بـسرا والغلام iiثائره      أرديت شيخا غاب عنه ناصره
  وكلنــــا حام لبســر واتــره فحمل عليه الأشتر وهو يقول :
أكـل  يوم رجل شيخ iiشاغره      وعـورة وسط العجاج iiظاهره
تـبرزها طـعنة كـف واتره      عمرو وبسر رميا بالفاقره  (2)
  فطعنه الأشتر فكسر صلبه ، وقام بسر من طعنة علي ( موليا ) وولت خيله ، وناده علي : يا بسر ، معاوية كان أحق بهذا منك (3) ، فرجع بسر إلى معاوية ، فقال له معاوية : ارفع طرفك قد أدال الله عمرا منك ، فقال في ذلك النضر بن الحارث :

---------------------------
(1) هو جعفر بن أبي طالب ، أخو علي ( عليه السلام ) ، وكان جعفر أسن من علي بعشر سنين ، وكان مصرعه يوم مؤتة في الثامنة من الهجرة ، وكان قد حمل لواء المسلمين زيد بن حارثة فقتل ، فحمله جعفر بيمينه فقطعت ، ثم بشماله فقطعت ، فاحتضنها بعضديه فقتل وخر شهيدا ، ويسمى جعفر ( ذا الجناحين ) و ( ذا الهجرتين ) ، انظر الإصابة ، وكتب المغازي ، والحيوان ( 3 : 233 ) .
(2) الفاقرة : الداهية تكسر فقار الظهر ، ح : ( منيا بالفاقرة ) .
(3) ح ( 2 : 301 ) : ( بها منك ) .

واقعة صفين _ 451 _

أفـي كـل يـوم فـارس iiتندبونه      لـه  عـورة وسط العجاجة iiباديه
يـكف  بـها عـنه عـلي iiسنانه      ويـضحك منها في الخلاء iiمعاويه
بـدت أمس من عمرو فقنع iiرأسه      وعـورة  بـسر مثلها حذو iiحاذيه
فـقولا  لعمرو وابن أرطاة iiأبصرا      سـبيلكما لا تـلقيا الـليث ثـانيه
ولا تـحمدا إلا الـحيا وخصا iiكما      هـما كـانتا والله لـلنفس واقـيه
فـلولا هـما لـم تنجوا من iiسنانه      وتـلك  بـما فيها عن العود ناهيه
مـتى تلقيا الخيل المشيحة iiصبحة      وفيها علي فاتركا الخيل ناحيه  (1)
وكـونا  بـعيدا حيث لا يبلغ iiالقنا      وخـمى الوغى إن التجارب iiكافيه
وإن  كان منه بعد في النفس iiحاجة      فـعودا  إلـى ما شئتما هي iiماهيه
  فكان بسر بعد ذلك إذا لقي الخيل التي فيها علي تنحى ناحية ، وتحامى فرسان أهل الشام عليا ، ( قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، عن الأجلح بن عبد الله الكندي ، عن أبي جحيفة قال ) : ثم إن معاوية جمع كل قرشي بالشام فقال : العجب يا معشر قريش أنه ليس لأحد منكم في هذه الحرب فعال يطول به لسانه (2) غدا ما عدا عمرا ، فما بالكم ، وأين حمية قريش ؟ ! فغضب الوليد بن عقبة وقال : وأي فعال تريد ، والله ما نعرف في أكفائنا من قريش العراق من يغني غناءنا باللسان ولا باليد .

---------------------------
(1) المشيحة : المجدة ، صبحة : صبحا ، وفي الأصل : ( صيحة ) صوابه في ح ، وفيها : ( الخيل المغبرة ؟ ) .
(2) الفعال ، بالفتح : الفعل الحسن ، وفي ح : ( فعال يطول بها لسانه ) وهو بالكسر : جمع فعل .

واقعة صفين _ 452 _

  فقال معاوية : بل إن أولئك قد وقوا عليا بأنفسهم ، قال الوليد : كلا بل وقاهم علي بنفسه ، قال : ويحكم ، أما منكم من يقوم لقرنه منهم مبارزة أو مفاخرة ، فقال مروان : أما البراز فإن عليا لا يأذن لحسن ولا لحسين ولا لمحمد بنيه فيه ، ولا لابن عباس وإخوته ، ويصلي بالحرب دونهم ، فلأيهم نبارز ، وأما المفاخرة فبماذا نفاخرهم أبا لإسلام أم بالجاهلية ، فإن كان بالإسلام فالفخر لهم بالنبوة ، وإن كان بالجاهلية فالملك فيه لليمن ، فإن قلنا قريش قالت العرب : فأقروا لبني عبد المطلب ، فغضب عتبة بن أبي سفيان فقال : الهوا عن هذا فإني لاق بالغداة جعدة بن هبيرة ، فقال معاوية : بخ بخ ، قومه بنو مخزوم ، وأمه أم هانئ بنت أبي طالب ، وأبوه هبيرة بن أبي وهب ، كفو كريم ، وظهر العتاب بين عتبة والقوم حتى أغلظ لهم وأغلظوا له ، فقال مروان : أما والله لولا ما كان منى يوم الدار مع عثمان ، ومشهدي بالبصرة لكان مني في علي رأي كان يكفي امرأ ذا حسب ودين ، ولكن ولعل ، ونابذ معاوية الوليد بن عقبة دون القوم ، فأغلظ له الوليد فقال معاوية : يا وليد ، إنك إنما تجترئ علي بحق عثمان (1) ، وقد ضربك حدا ، وعزلك عن الكوفة ، ثم إنهم ما أمسوا حتى اصطلحوا وأرضاهم معاوية من نفسه ، ووصلهم بأموال جليلة ، وبعث معاوية إلى عتبة فقال : ما أنت صانع في جعدة ؟ فقال : ألقاه اليوم وأقاتله غدا ، وكان لجعدة في قريش شرف عظيم ، وكان له لسان ، وكان من أحب الناس إلى علي ، فغدا عليه عتبة فنادى : أيا جعدة ، أيا جعدة ، فاستأذن عليا ( عليه السلام ) في الخروج إليه ، فإذن له ، واجتمع الناس لكلامهما فقال عتبة : يا جعدة ، إنه والله ما أخرجك علينا إلا حب خالك وعمك ابن أبي سلمة عامل البحرين (2) ، وإنا والله ما نزعم أن معاوية أحق بالخلافة من علي لولا أمره في عثمان ، ولكن معاوية أحق بالشام لرضا أهلها به فاعفوا لنا عنها ، فوالله ما بالشام رجل به طرق (3) إلا وهو أجد من معاوية في القتال ، ولا بالعراق من له مثل جد علي ( في الحرب ) ، ونحن أطوع لصاحبنا منكم لصاحبكم ، وما أقبح بعلي أن يكون في قلوب المسلمين أولى الناس بالناس ، حتى إذا أصاب سلطانا أفنى العرب ، فقال جعدة : أما حبي لخالي فوالله أن لو كان لك خال مثله لنسيت أباك ، وأما ابن أبي سلمة فلم يصب أعظم من قدره ، والجهاد أحب إلى من العمل ، وأما فضل علي على معاوية فهذا ما لا يختلف فيه ( اثنان ) ، وأما رضاكم اليوم بالشام فقد رضيتم بها أمس ( فلم نقبل ) ، وأما قولك إنه ليس بالشام من رجل إلا وهو أجد من معاوية ، وليس بالعراق لرجل مثل جد علي ، فهكذا ينبغي أن يكون ، مضى بعلي يقينه ، وقصر بمعاوية شكه ، وقصد أهل الحق خير من جهد أهل الباطل ، وأما قولك نحن أطوع لمعاوية منكم لعلي ( عليه السلام ) ، فو الله ما نسأله إن سكت ، ولا نرد عليه إن قال ، وأما قتل العرب فإن الله كتب ( القتل و ) القتال فمن قتله الحق فإلى الله ، فغضب عتبة وفحش على جعدة ، فلم يجبه وأعرض عنه وانصرفا جميعا مغضبين .

---------------------------
(1) ح ( 2 : 301 ) ( بنسبك من عثمان ) .
(2) في الأصل : ( عامل البحرين ) وأثبت ما في ح .
(3) الطرق ، بالكسر : القوة ، وفي الحديث : ( لا أرى أحدا به طرق يتخلف ) ، وفي الأصل : ( طرف ) صوابه بالقاف .

واقعة صفين _ 453 _

  فلما انصرف عتبة جمع خيله فلم يستبق منها ( شيئا ) ، وجل أصحابه السكون والأزد والصدف ، وتهيأ جعدة بما استطاع فالتقيا ، وصبر القوم جميعا ، وباشر جعدة يومئذ القتال بنفسه ، وجزع عتبة فأسلم خيله وأسرع هاربا إلى معاوية ، فقال له : فضحك جعدة ، وهزمتك (1) لا تغسل رأسك منها أبدا ، قال عتبة : لا والله لا أعود إلى مثلها أبدا ، ولقد أعذرت ، وما كان على أصحابي من عتب ، ولكن الله أبي أن يديلنا منهم فما أصنع ، فخطى بها جعدة عند علي ، فقال النجاشي فيما كان من شتم عتبة لجعدة شعرا :
إن  شـتم الكريم يا عتب خطب      فـاعلمنه  مـن الخطوب iiعظيم
أمـــه ام هـانـئ iiوأبــوه      مـن  مـعد ومـن لؤى iiصميم
ذاك  مـنها هبيرة بن أبي وه‍ب      أقــرت  بـفـضله iiمـخزوم
كـان  فـي حـربكم يعد iiبألف      حـين تـلقى بها القروم iiالقروم
وابـنه  جـعدة الـخليفة iiمـنه      هـكذا يـخلف الـفروع الأروم
كـل  شـيء تـريده فـهو فيه      حـسب  ثـاقب وديـن iiقـويم
وخـطيب  إذا تـمعرت الأوجه      يـشجى  بـه الألـد iiالـخصيم
وحـليم إذا الـحبى حلها iiالجه‍ل      وخفت  من الرجال الحلوم  (2)
وشـكيم  الحروب قد علم الناس      إذا  حـل فـي الحروب iiالشكيم
وصـحيح الأديم من نغل iiالعي‍ب      إذا كــان لا يـصـح الأديـم
حـامل  للعظيم في طلب iiالحم‍د      إذا  أعـظـم الـصغير iiالـلئيم
ما عسى أن تقول للذهب الأحمر      عـيبا ، هـيهات مـنك iiالنجوم
كـل هـذا بـحمد ربـك iiفـيه      وسـوى  ذاك كـان وهو iiفطيم
  وقال الشنى في ذلك لعتبة : مازلت تنظــــر في عطفيك أبهة لا يرفع الطرف منك التيه والصلف (3) .

---------------------------
(1) في الأصل : ( بهزمك ) والوجه ما أثبت من ح .
(2) الحبى ، تقال بضم الحاء جمع حبوة بضم الحاء ، وبكسر الحاء جمع حبوة بكسرها ، وهي أن يجمع ظهره وساقيه بعمامة ، ح : ( إذا الجبال جللها الجهل ) .
(3) في الأصل : ( وظلت تنظر ) وأثبت ما في ح ( 1 : 302 ) .

واقعة صفين _ 454 _

لا تـحـسب الـقوم إلا فـقع iiقـرقرة      أو شـحمة بـزها شاو لها نطف  (1)
حـتى  لـقيت ابـن مخزوم وأي iiفتى      أحـيـا مـآثـر آبــاء لـه iiسـلفوا
إن كـان رهـط أبـي وهب iiجحاجحة      فــي الأولـين فـهذا مـنهم iiخـلف
أشـجـاك جـعدة إذ نـادى iiفـوارسه      حـاموا عـن الـدين والدنيا فما iiوقفوا
حـتى  رمـوك بـخيل غـير iiراجعة      إلا  وسـمـر الـعوالي مـنكم iiتـكف
قـد  عـاهدوا الله لـن يـثنوا iiأعنتها      عـند الـطعان ولا فـي قـولهم iiخلف
لـمـا رأيـتـهم صـبـحا iiحـسبتهم      أسد  العرين حمى أشبالها الغرف  (2)
نـاديت  خـيلك إذ عـض الثقاف iiبهم      خيلي إلي ، فما عاجوا ولا عطفوا  (3)
هـلا عـطفت عـلى قـتلى iiمصرعة      مـنها  الـسكون ومنها الأزد والصدف
قـد كـنت فـي منظر من ذا iiومستمع      يـا عـتب لـولا سفاه الرأي والسرف
فـاليوم  يـقرع مـنك الـسن عن ندم      مـا  لـلمبارز إلا الـعجز iiوالـنصف
   نصر ، عن عمر في إسناده قال : وكان من أهل الشام بصفين رجل يقال له الأصبغ بن ضرار الأزدي ، وكان يكون طليعة ومسلحة لمعاوية ، فندب علي له الأشتر فأخذه أسيرا من غير أن يقاتل ، وكان علي ينهي عن قتل الأسير الكاف فجاء به ليلا وشد وثاقه وألقاه عند أصحابه (4) ينتظر به الصباح ، وكان الأصبغ شاعرا مفوها ، ونام أصحابه ، فرفع صوته فأسمع الأشتر فقال :

---------------------------
(1) في الأصل : ( لم يصبح القوم ) وأثبت ما في ح ، وفي الأصل أيضا : ( شحمة يشوها ) صوابه من ح ، وانظر ما سبق في ص 367 س 13 .
(2) الغرف : جمع غريف ، وهو الشجر الملتف ، وفي الأصل : ( العرف ) تحريف ، وهذا البيت والثلاثة قبله والبيت الذي بعده ليس في ح .
(3) خيلك : أي فوارسك ، عض الثقاف بهم : دخلوا في مأزق الحرب ، وأصل الثقاف خشبة تسوى بها الرماح والقسى ، بها خرق يتسع لهما ، ثم يغمز منهما حيث ينبغي أن يغمز ، وهما مدهونان مملولان أو مضهوبان على النار ، حتى يصيرا إلى ما يراد منهما ، وفي الأصل : ( إذا غض النقاف ) تحريف .
(4) في الأصل : ( مع أضيافه ) وأثبت ما في ح ( 2 : 302 ) .

واقعة صفين _ 455 _

ألا  لـيت هـذا الـليل طـبق سرمدا      عـلى  الـناس لا يـأتيهم بنهار  (1)
يـكـون كـذا حـتى الـقيامة إنـني      أحـاذر في الإصباح ضرمة نار  (2)
فـياليل طـبق إن فـي الـليل iiراحة      وفـي  الـصبح قتلى أو فكاك iiإساري
ولـو كـنت تحت الأرض ستين واديا      لـما  رد عـني مـا أخـاف iiحذاري
فـيا  نـفس مـهلا إن لـلموت iiغاية      فـصبرا  عـلى ما ناب يا ابن ضرار
أأخـشى ولـي فـي القوم رحم iiقريبة      أبى الله أن أخشى والاشتر جاري  (3)
ولــو أنــه كـان الأسـير iiبـبلدة      أطــاع بـها شـمرت ذيـل iiإزاري
ولـو كـنت جار الأشعث الخير iiفكنى      وقـل مـن الأمـر الـمخوف iiفراري
وجـار سـعيد أو عـدي بـن iiحـاتم      وجـار  شـريح الـخير قـر iiقراري
وجــار الـمرادي الـعظيم iiوهـانئ      وزحر بن قيس ما كرهت نهاري  (4)
ولـو أنـني كـنت الأسـير iiلبعضهم      دعـوت  رئـيس الـقوم عند iiعثاري
أولـئك  قـومي لا عـدمت iiحـياتهم      وعـفوهم  عـني وستر عواري  (5)
  فغذا به الأشتر على علي فقال : يا أمير المؤمنين ، هذا رجل من المسلحة لقيته بالأمس ، فوالله لو علمت أن قتله الحق قتلته ، وقد بات عندنا الليلة وحركنا ( بشعره ) ، فإن كان فيه القتل فاقتله وإن غضبنا فيه ، وإن ساغ لك العفو عنه (6) فهبه لنا ، قال : هو لك يا مالك ، فإذا أصبت ( منهم ) أسيرا فلا تقتله ، فإن أسير أهل القبلة لا يفادي ولا يقتل ، فرجع به الأشتر إلى منزله وقال : لك ما أخذنا منك ، ليس لك عندنا غيره وذكروا أن عليا أظهر أنه مصبح غدا معاوية ومناجزه ، فبلغ ذلك معاوية ، وفزع أهل الشام لذلك وانكسروا لقوله .

---------------------------
(1) ح : ( أصبح سرمدا ) .
(2) ح : ( يوم بوار ) ، والبوار : الهلاك .
(3) ح ( 2 : 303 ) : ( ومالك جاري ) ، ومالك هو الأشتر .
(4) ح : ( المرادي الكريم ) .
(5) العوار ، مثلثة : العيب .
(6) في الأصل : ( وإن كنت فيه بالخيار ) وأثبت ما في ح .

واقعة صفين _ 456 _

  وكان معاوية بن الضحاك ابن سفيان صاحب راية بني سليم مع معاوية ، وكان مبغضا لمعاوية ( وأهل الشام ، وله هوى مع أهل العراق وعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وكان يكتب بالأخبار (1) إلى عبد الله بن الطفيل العامري ويبعث بها إلى علي ( عليه السلام ) (2) فبعث إلى عبد الله بن الطفيل : إني قائل شعرا أذعر به أهل الشام وأرغم به معاوية (3) ، وكان معاوية لا يتهمه ، وكان له فضل ونجدة ولسان ، فقال ليلا ليسمع أصحابه :
ألا  لـيت هـذا الـليل أطبق iiسرمدا      عـلينا  وأنـا لا نـرى بـعده iiغـدا
ويــا لـيـته إن جـاءنا بـصباحه      وجـدنا إلـى مجرى الكواكب مصعدا
حــذار عـلى إنـه غـير مـخلف      مدى  الدهر ، ما لبي الملبون ، iiموعدا
فـأما  قـراري فـي البلاد فليس iiلي      مـقام ولـو جـاوزت جابلق iiمصعدا
كـأني  بـه فـي الناس كاشف رأسه      عـلى  ظـهر خـوار الرحالة iiأجردا
يـخوض غـمار الموت في iiمرجحنة      يـنادون  فـي نـقع الـعجاج iiمحمدا
فـوارس  بـدر والـنضير iiوخـيبر      وأحـد  يـروون الـصفيح iiالـمهندا
ويـوم حـنين جـالدوا عـن iiنـبيهم      فـريقا  مـن الأحـزاب حـتى تبددا
هـنالك لا تـلوى عـجوز على iiابنها      وإن أكـثرت في القول نفسي لك iiالفدا
فـقل  لابن حرب ما الذي أنت صانع      أتثبت أم ندعوك في الحرب قعددا  (4)
وظـني بـأن لا يـصبر القوم iiموقفا      يـقفه  وإن لـم يجر في الدهر iiللمدى
---------------------------
(1) ح ( 3 : 423 ) : ( بأخبار معاوية ) .
(2) ح : ( فيخبر بها عليا ( عليه السلام ) .
(3) في الأصل : ( وأذعر به معاوية ) وأثبت ما في ح .
(4) القعدد ، بضم القاف والدال ، وبفتح الدال أيضا : الجبان اللئيم القاعد عن الحرب والمكارم .

واقعة صفين _ 457 _

فـلا  رأي إلا تـركنا الشام iiجهرة      وإن أبرق الفجفاج فيها وأرعدا  (1)
  فلما سمع أهل الشام شعره أتوا به معاوية فهم بقتله ، ثم راقب فيه قومه وطرده عن الشام فلحق بمصر ، وندم معاوية على تسييره إياه ، وقال معاوية : والله لقول السلمي أشد على أهل الشام من لقاء علي ، ماله ـ قاتله الله ـ لو أصاب خلف جابلق مصعدا نفذه (2) ، وجابلق : مدينة بالمشرق ، وجابلص : مدينة بالمغرب ليس بعدهما شيء (3) ، وقال الأشتر حين قال علي : ( إنني مناجز القوم إذا أصبحت ) : قد دنا الفصل في الصباح وللسلم رجال وللحروب رجال .
فـرجال الـحروب كـل خدب      مـقـحم لا تـهـده iiالأهـوال
يضرب الفارس المدجج بالسي‍ف      إذا  فل في الوغى الأكفال  (4)
يا  ابن هند شد الحيازيم iiللموت      ولا  يـذهـبن بــك الآمـال
إن فـي الصبح إن بقيت iiلأمرا      تـتفادى  مـن هـوله iiالأبطال
فـيه  عز العراق أو ظفر الشام      بـأهـل  الـعراق iiوالـزلزال
فاصبروا  للطعان بالأسل السم‍ر      وضـرب  تـجري به iiالأمثال
إن  تـكونوا قتلتم النفر iiالبي‍ض      وغـالـت  أولـئـك الآجـال
---------------------------
(1) الفجفاج : الكثير الكلام والفخر بما ليس عنده .
(2) نفذه : جازه ، ح : ( لو صار خلف جابلق مصعدا لم يأمن عليا ) .
(3) ذكر ياقوت أن جابلق بأقصى المغرب ، ومدينة أخرى من رستاق أصبهان لها ذكر في التواريخ ، ولم يرسم لجابلص ، وفي ح ( 3 : 423 ) : ( ألا تعلمون ما جابلق ؟ يقول لأهل الشام ، قالوا : لا ، قال : مدينة في أقصى المشرق ليس بعدها شيء ) .
(4) فل : هزم ، ح ( 3 : 424 ) : ( فر ) ، والأكفال : جمع كفل ، بالكسر ، هو من الرجال الذي يكون في مؤخر الحرب ، إنما همته في الفرار والتأخر .

واقعة صفين _ 458 _

فلنا مثلهم وإن عظم الخطب      ، قـليل أمثالهم أبدال  (1)
  يخضبون الوشيج طعنـــا إذا جرت مــن الموت بينهم أذيــال (2) .
طلب الفوز في المعاد وفي ذا      تـستهان الـنفوس iiوالأموال
  آخر الجزء الحادي عشر من نسخة أجزاء عبد الوهاب فلما انتهى إلى معاوية شعر الأشتر قال : شعر منكر من شاعر منكر ، رأس أهل العراق وعظيمهم ومسعر حربهم ، وأول الفتنة وآخرها ، وقد رأيت أن أكتب إلى علي كتابا أسأله الشام ـ وهو الشيء الأول الذي ردني عنه ـ وألقى في نفسه الشك والريبة ، فضحك عمرو بن العاص ، ثم قال : أين أنت يا معاوية من خدعة علي ؟ ! فقال : ألسنا بني عبد مناف ؟ قال : بلى ، ولكن لهم النبوة دونك ، وإن شئت أن تكتب فاكتب فكتب معاوية إلى علي مع رجل من السكاسك ، يقال له عبد الله بن عقبة ، وكان من ناقلة أهل العراق ، فكتب : ( أما بعد ، فإني أظنك أن لو علمت أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت وعلمنا ، لم يجنها بعضنا على بعض ؛ وإنا وإن كنا قد غلبنا على عقولنا فقد بقى لنا منها ما نندم به على ما مضى ، ونصلح به ما بقى ، وقد كنت سألتك الشام على ألا يلزمني لك طاعة ولا بيعة ، فأبيت ذلك علي ، فأعطاني الله ما منعت ، وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس ، فإني لا أرجو من البقاء إلا ما ترجو ، ولا أخاف من الموت إلا ما تخاف ، وقد والله رقت الأجناد ، وذهبت الرجال ، ونحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضل إلا فضل لا يستذل به عزيز ، ولا يسترق حربه ، والسلام ) فلما انتهى كتاب معاوية إلى علي قرأه ، ثم قال : العجب لمعاوية وكتابه ، ثم دعا علي عبيد الله بن أبي رافع كاتبه ، فقال : اكتب إلى معاوية : ( أما بعد فقد جاءني كتابك ، تذكر أنك لو علمت وعلمنا أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض ، فإنا وإياك منها في غاية لم تبلغها ، وإني لو قتلت في ذات الله وحييت ، ثم قتلت ثم حييت سبعين مرة ، لم أرجع عن الشدة في ذات الله ، والجهاد لأعداء الله ، وأما قولك إنه قد بقي من عقولنا ما نندم به على ما مضى ، فإني ما نقصت عقلي ، ولا ندمت على فعلي ، فأما طلبك الشام ، فإني لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك ( منها ) أمس ، وأما استواؤنا في الخوف والرجاء ، فإنك لست أمضى على الشك مني على اليقين ، وليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على الآخرة ، وأما قولك إنا بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضل ؛ فلعمري إنا بنو أب واحد ، ولكن ليس أمية كهاشم ، ولا حرب كعبد المطلب ، ولا أبو سفيان كأبي طالب ، ولا المهاجر كالطليق ، ولا المحق كالمبطل ، وفي أيدينا ( بعد ) فضل النبوة التي أذللنا بها العزيز ، وأعززنا بها الذليل ، والسلام ) .

---------------------------
(1) ح : ( فلنا مثلهم غداة التلاقي ) .
(2) في الأصل : ( جرت للموت ) صوابه من ح .

واقعة صفين _ 459 _

  نصر ، عن عمر بن سعد ، عن نمير بن وعلة قال : فلما أتى معاوية كتاب علي كتمه عن عمرو بن العاص أياما ، ثم دعاه بعد ذلك فأقرأه الكتاب ، فشمت به عمرو ، ولم يكن أحد من قريش أشد تعظيما لعلي من عمرو منذ يوم لقيه وصفح عنه ، فقال عمرو بن العاص فيما كان أشار به على معاوية :
لا لـلـه درك يــا ابـن هـند      ودر  الآمـريـن لـك iiالـشهود
أتـطـمع لا أبـالك فـي عـلي      وقـد قـرع الـحديد على iiالحديد
وتـرجـو  أن تـحـيره iiبـشك      وتـرجو  أن يهابك بالوعيد  (1)
وقـد كـشف الـقناع وجر iiحربا      يـشـيب لـهولها رأس iiالـوليد
لــه جـأواء مـظلمة iiطـحون      فـوارسها  تـلهب كالأسود  (2)
يـقـول  لـها إذا دلـفت iiإلـيه      وقد ملت طعان القوم عودي  (3)
فــإن  وردت فـأولـها iiورودا      وإن صدت فليس بذي صدود  (4)
ومـا هـي مـن أبي حسن iiبنكر      ومـا  هـي مـن مسائك iiبالبعيد
وقـلـت  لـه مـقالة iiمـستكين      ضـعيف  الـركن منقطع iiالوريد
دعـن  الـشام حسبك يا ابن iiهند      مـن  الـسوءات والرأي iiالزهيد
ولـو  أعـطاكها ما أزددت iiعزا      ولا  لـك لـو أجـابك من iiمزيد
ولـم تـكسر بـذاك الرأي iiعودا      لـركـته  ولا مــا دون عـود
  فلما بلغ معاوية قول عمرو دعاه ، فقال : يا عمرو ، إنني قد أعلم ما أردت بهذا ، قال : ما أردت ؟ قال : أردت تفييل رأيي وإعظام علي ، وقد فضحك ، قال : أما تفييلي رأيك فقد كان ، وأما إعظامي عليا فإنك بإعظامه أشد معرفة مني ، ولكنك تطويه وأنا أنشره ، وأما فضيحتي ، فلم يفتضح امرؤ لقي أبا حسن .

---------------------------
(1) في الأصل : ( أن تخبره ) صوابه في ح ( 3 : 424 ) ، وفي ح أيضا : ( وتأمل أن يهابك ) .
(2) الجأواء : الكتيبة يعلوها لون السواد لكثرة الدروع .
(3) ح : ( إذا رجعت إليه ) .
(4) في الأصل : ( وإن صدرت ) وأثبت ما في ح .

واقعة صفين _ 460 _

  وقد كان معاوية شمت بعمرو ، حيث لقي من علي ( عليه السلام ) ما لقي ، فقال عمرو في شماتة معاوية :
مـعـاوي لا تـشمت بـفارس بـهمة      لـقى  فـارسا لا تـعتريه iiالـفوارس
مـعاوي إن أبـصرت في الخيل iiمقبلا      أبـا حـسن يـهوى دهـتك iiالوساوس
وأيـقـنت أن الـمـوت حـق وأنـه      لنفسك  إن لم تمض في الركض iiحابس
فـإنـك لــو لاقـيته كـنت iiبـومة      أتـيح لـها صـقر مـن الـجو iiآنس
ومـاذا  بـقاء الـقوم بـعد iiاخـتباطه      وإن امــرأ يـلـقى عـلـيا لآيـس
دعـاك فـصمت دونـه الأذن iiهـاربا      بـنفسك قـد ضـاقت عـليك الأمالس
وأيـقنت  أن الـموت أقـرب مـوعد      وأن الـتـي نـاداك فـيها الـدهارس
وتـشمت بـي أن نـالني حـد iiرمحه      وعضضني ناب من الحرب ناهس  (1)
أبــي الله إلا أنــه لـيـث iiغـابة      أبـو  أشـبل تـهدي إلـيه الـفرائس
وأنـي امـرؤ بـاق فـلم يـلف iiشلوه      بـمـعترك تـسفى عـليه iiالـروامس
فـإن  كـنت فـي شك فأرهج iiعجاجة      وإلا  فـتـلك الـتـرهات iiالـبسابس
  نصر : حدثنا عمرو بن شمر قال : حدثنا أبو ضرار قال : حدثني عمار ابن ربيعة قال : غلس علي بالناس صلاة الغداة يوم الثلاثاء عاشر شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثين ، وقيل عاشر شهر صفر ، ثم زحف إلى أهل الشام بعسكر العراق والناس عل راياتهم ، وزحف إليهم أهل الشام ، وقد كانت الحرب أكلت الفريقين ولكنها في أهل الشام أشد نكاية وأعظم وقعا ، فقد ملوا الحرب وكرهوا القتال ، وتضعضعت أركانهم ، قال : فخرج رجل من أهل العراق على فرس كميت ذنوب ، عليه السلاح ، لا يرى منه إلا عيناه ، وبيده الرمح ، فجعل يضرب رءوس أصحاب علي بالقناة ويقول : سووا صفوفكم ( رحمكم الله ) ، حتى إذا عدل الصفوف والرايات استقبلهم بوجهه وولى أهل الشام ظهره ، ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال :

---------------------------
(1) في الأصل : ( عضعضني ) والوجه ما أثبت ، والمطوعة لم ترد في مظنها من ح .

واقعة صفين _ 461 _

  الحمد لله الذي جعل فينا ابن عم نبيه (1) ، أقدمهم هجرة ، وأولهم إسلاما ، سيف من سيوف لله صبه على أعدائه ، فانظروا (2) ، إذا حمى الوطيس وثار القتام وتكسر المران ، وجالت الخيل بالأبطال ، فلا أسمع إلا غمغمة أو همهمة ، ( فاتبعوني وكونوا في إثري ) ، قال : ثم حمل على أهل الشام وكسر فيهم رمحه ثم رجع ، فإذا هو الأشتر ، قال وخرج رجل من أهل الشام ينادي بين الصفين : يا أبا الحسن ، يا علي ، ابرز إلي ، قال : فخرج إليه علي حتى إذا اختلف أعناق دابتيهما بين الصفين فقال : يا علي ، إن لك قدما في الإسلام وهجرة (3) ، فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن هذه الدماء ، وتأخير هذه الحروب حتى ترى من رأيك ؟ فقال له علي : وما ذاك ؟ قال : ( ترجع إلى عراقك فنخلي بينك وبين العراق ، ونرجع إلى شامنا فتخلي بيننا وبين شامنا ) ، فقال له علي : لقد عرفت ، إنما عرضت هذا نصيحة وشفقة ، ولقد أهمني هذا الأمر وأسهرني ، وضربت أنفه وعينيه ، فلم أجد إلا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، إن الله تبارك وتعالى لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون ، لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر ، فوجدت القتال أهون علي من معالجة الأغلال في جهنم ، فرجع الشامي وهو يسترجع ، قال : وزحف الناس بعضهم إلى بعض فارتموا بالنبل ( والحجارة ) حتى فنيت ، ثم تطاعنوا بالرماح حتى تكسرت واندقت ، ثم مشى القوم بعضهم إلى بعض بالسيف وعمد الحديد ، فلم يسمع السامع إلا وقع الحديد بعضه على بعض ، لهو أشد هولا في صدور الرجال من الصواعق ، ومن جبال تهامة يدك بعضها بعضا ، قال : وانكشفت الشمس ( بالنقع ) وثار القتام ، وضلت الألوية والرايات . قال : و ( أخذ ) الأشتر يسير فيما بين الميمنة والميسرة فيأمر كل قبيلة أو كتيبة من القراء بالإقدام على التي تليها ، قال : فاجتلدوا بالسيوف وعمد الحديد من صلاة الغداة إلى نصف الليل ، لم يصلوا لله صلاة ، فلم يزل يفعل ذلك الأشتر بالناس حتى أصبح والمعركة خلف ظهره ، وافترقوا عن سبعين ألف قتيل في ذلك اليوم وتلك الليلة ، وهي ( ليلة الهرير ) ، و ( كان ) الأشتر في ميمنة الناس ، وابن عباس في الميسرة ، وعلي في القلب ، والناس يقتتلون .

---------------------------
(1) في الأصل : ( فيكم ابن عم نبيكم ) وأثبت ما في ح ( 1 : 183 ) .
(2) في الأصل : ( فانظروا إلى ) ، وكلمة ( إلى ) ليست في ح .
(3) ح : ( والهجرة ) .

واقعة صفين _ 462 _

  ثم استمر القتال من نصف الليل الثاني إلى ارتفاع الضحى ، والأشتر يقول لأصحابه وهو يزحف بهم نحو أهل الشام : ازحفوا قيد رمحي هذا ، وإذا فعلوا قال : ازحفوا قاب هذا القوس (1) ، فإذا فعلوا سألهم مثل ذلك حتى مل أكثر الناس الإقدام (2) ، فلما رأى ذلك قال : أعيذكم بالله أن ترضعوا الغنم سائر اليوم ، ثم دعا بفرسه وركز رايته ، وكانت مع حيان بن هوذة النخعي ، وخرج يسير في الكتائب ويقول : ألا من يشري نفسه لله ويقاتل مع الأشتر حتى يظهر أو يلحق بالله (3) ، فلا يزال الرجل من الناس يخرج إليه ويقاتل معه ، نصر ، عن عمر بن سعد قال : حدثني أبو ضرار ، عن عمار (4) بن ربيعة قال : مر بي والله الأشتر وأقبلت معه حتى رجع إلى المكان الذي كان به ، فقام في أصحابه فقال : شدوا ، فدى لكم عمي وخالي ، شدة ترضون بها الله وتعزون بها الدين ، فإذا شددت فشدوا ، قال : ثم نزل وضرب وجه دابته ثم قال لصاحب رايته : أقدم ، فأقدم بها ثم شد على القوم ، وشد معه أصحابه يضرب أهل الشام حتى انتهى بهم إلى عسكرهم ، ثم إنهم قاتلوا عند العسكر قتالا شديدا فقتل صاحب رايته ، وأخذ علي ـ لما رأى الظفر قد جاء من قبله ـ يمده بالرجال ، قال : وإن عليا قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس قد بلغ بكم الأمر وبعدوكم ما قد رأيتم ، ولم يبق منهم إلا آخر نفس ، وإن الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأولها ، وقد صبر لكم القوم على غير دين حتى بلغنا منهم ما بلغنا ، وأنا غاد عليهم بالغداة أحاكمهم إلى الله ( عز وجل ) ، فبلغ ذلك معاوية فدعا عمرو بن العاص فقال : يا عمرو ، إنما هي الليلة حتى يغدو علي علينا بالفيصل (5) فما ترى ؟ قال : إن رجالك لا يقومون لرجاله ، ولست مثله ، هو يقاتلك على أمر وأنت تقاتله على غيره ، أنت تريد البقاء وهو يريد الفناء ، وأهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم ، وأهل الشام لا يخافون عليا إن ظفر بهم .

---------------------------
(1) وكذلك في ح ، والقوس يذكر ويؤنث .
(2) في الأصل : ( حتى بل ) صوابه من ح .
(3) في الأصل : ( ويلحق بالله ) صوابه في ح .
(4) في الأصل : ( عمارة ) وأثبت ما في ح ( 1 : 184 ) مطابقا ما سلف في ص 473 .
(5) ح : ( بالفصل ) .

واقعة صفين _ 463 _

  ولكن ألق إليهم أمرا إن قبلوه اختلفوا ، وإن ردوه اختلفوا ، ادعهم إلى كتاب الله حكما فيما بينك وبينهم ، فإنك بالغ به حاجتك في القوم ، فإني لم أزل أؤخر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه (1) ، فعرف ذلك معاوية فقال : صدقت ، نصر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر بن عمير الأنصاري (2) قال : والله لكأني أسمع عليا يوم الهرير حين سار أهل الشام ، وذلك بعد ما طحنت رحى مذحج فيما بينها (3) وبين عك ولخم وجذام والأشعريين ، بأمر عظيم تشيب منه النواصي من حين استقلت الشمس (4) حتى قام قائم الظهيرة ، ثم إن عليا قال : حتى متى نخلي بين هذين الحيين ؟ قد فنيا وأنتم وقوف تنظرون إليهم ، أما تخافون مقت الله ، ثم انفتل إلى القبلة ورفع يديه إلى الله ثم نادى : ( يا الله ، يا رحمن ( يا رحيم ) يا واحد ( يا أحد ) ، يا صمد ، يا الله يا إله محمد ، اللهم إليك نقلت الأقدام ، وأفضت القلوب ، ورفعت الأيدي ، وامتدت الأعناق ، وشخصت الأبصار ، وطلبت الحوائج ، ( اللهم ) إنا نشكو إليك غيبة نبينا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وكثرة عدونا وتشتت أهوائنا ، ( ربنا افتح بينا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ) ، سيروا على بركة الله ) ، ثم نادى : لا إله إلا الله والله أكبر كلمة التقوى ، ثم قال (5) : لا والله الذي بعث محمدا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالحق نبيا ، ما سمعنا برئيس قوم منذ خلق الله السموات والأرض أصاب بيده في يوم واحد ما أصاب ، إنه قتل فيما ذكر العادون زيادة على خمسمائة من أعلام العرب ، يخرج بسيفه منحنيا فيقول : معذرة إلى الله ( عز وجل ) وإليكم من هذا ، لقد هممت أن أصقله (6) ولكن حجزني عنه أني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول كثيرا : ( لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي ) ، وأنا أقاتل به دونه ، قال : فكنا نأخذه فنقومه ثم يتناوله من أيدينا فيتقحم به في عرض الصف ، فلا والله ما ليث بأشد نكاية في عدوه منه ، رحمة الله عليه رحمة واسعة ، نصر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر (7) قال : سمعت تميم بن حذيم (8) يقول : لما أصبحنا من ليلة الهرير نظرنا ، فإذا أشباه الرايات أمام صف أهل الشام وسط الفيلق من حيال موقف معاوية ، فلما أسفرنا إذا هي المصاحف قد ربطت على أطراف الرماح ، وهي عظام مصاحف العسكر ، وقد شدوا ثلاثة أرماح جميعا وقد ربطوا عليها مصحف المسجد الأعظم يمسكه عشرة رهط ، وقال أبو جعفر وأبو الطفيل : استقبلوا عليا بمائة مصحف ، ووضعوا في كل مجنبة مائتي مصحف (9) ، وكان جميعها خمسمائة مصحف ، قال أبو جعفر : ثم قام الطفيل بن أدهم حيال علي ، وقام أبو شريح الجذامي حيال الميمنة ، وقام ورقاء بن المعمر حيال الميسرة ، ثم نادوا : يا معشر العرب ، الله الله في نسائكم وبناتكم ، فمن للروم (10) والأتراك وأهل فارس غدا إذا فنيتم ، الله الله في دينكم ، هذا كتاب الله بيننا وبينكم ، فقال علي : اللهم إنك تعلم أنهم ما الكتاب يريدون ، فاحكم بيننا وبينهم ، إنك أنت الحكم الحق المبين ، فاختلف أصحاب علي في الرأي ، فطائفة قالت القتال ، وطائفة قالت المحاكمة إلى الكتاب ، ولا يحل لنا الحرب وقد دعينا إلى حكم الكتاب ، فعند ذلك بطلت الحرب ووضعت أوزارها ، فقال محمد بن علي : فعند ذلك حكم الحكمان .

---------------------------
(1) في الأصل : ( لحاجتك إليه ) وأثبت ما في ح .
(2) في الأصل : ( بن نمير ) تحريف ، انظر الإصابة 1030 .
(3) في الأصل : ( بيننا ) والوجه ما أثبت من ح .
(4) استقلت الشمس : ارتفعت في السماء ، وفي الأصل : ( استقبلت ) صوابه في ح .
(5) القائل هو الراوي ، جابر بن عمير الأنصاري .
(6) إنما يريد أن يصقله ليزيل ما به من الفقار ، وهي الحفر الصغار ، وفي الأصل : ( أفلقه ) .
(7) جابر هذا هو جابر بن يزيد الجعفي المترجم في ص 245 .
(8) سبقت ترجمته في ص 169 .
(9) المجنبة ، بكسر النون المشددة : ميمنة الجيش وميسرته ، وبفتحها : مقدمة الجيش .
(10) ح : ( من الروم ) .

واقعة صفين _ 464 _

  قال نصر : وفي حديث عمرو بن شمر بإسناده قال : فلما أن كان اليوم الأعظم قال أصحاب معاوية ، والله ما نحن لنبرح اليوم العرصة حتى يفتح الله لنا أو نموت ، فبادروا القتال غدوة في يوم من أيام الشعري طويل شديد الحر (1) فتراموا حتى فنيت النبل ، ثم تطاعنوا حتى تقصفت رماحهم ، ثم نزل القوم عن خيولهم فمشى بعضهم إلى بعض بالسيوف حتى كسرت جفونها وقامت الفرسان في الركب ، ثم اضطربوا بالسيوف وبعمد الحديد ، فلم يسمع السامع إلا تغمغم القوم وصليل الحديد في الهام ، وتكادم الأفواه ، وكسفت الشمس ، وثار القتام ، وضلت الألوية والرايات (2) ، ومرت مواقيت أربع صلوات لم يسجد لله فيهن إلا تكبيرا ، ونادت المشيخة في تلك الغمرات : يا معشر العرب ، الله الله في الحرمات ، من النساء والبنات ، قال جابر : فبكى أبو جعفر وهو يحدثنا بهذا الحديث (3) ، قال : وأقبل الأشتر على فرس كميت محذوف ، قد وضع مغفره على قربوس السرج ، وهو يقول : ( اصبروا يا معشر المؤمنين فقد حمى الوطيس ) ، ورجعت الشمس من الكسوف ، واشتد القتال ، وأخذت السباع بعضها بعضا ، فهم كما قال الشاعر (4) :
مضت واستأخر القرعاء عنها      وخلى  بينهم إلا الوريع  (5)
  قال : يقول واحد ( لصاحبه ) في تلك الحال : أي رجل هذا لو كانت له نية ، فيقول له صاحبه : وأي نية أعظم من هذه ثكلتك أمك وهبلتك ، إن رجلا فيما قد ترى قد سبح في الدماء وما أضجرته الحرب ، وقد غلت هام الكماة الحر ، وبلغت القلوب الحناجر ، وهو كما تراه جذعا يقول هذه المقالة ! اللهم لا تبقنا بعد هذا (6) ، نصر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن الشعبي ، عن صعصعة قال : قام الأشعث بن قيس الكندي ليلة الهرير في أصحابه من كندة فقال : ( الحمد لله ، أحمده وأستعينه ، وأومن به وأتوكل عليه ، وأستنصره وأستغفره ، وأستخيره وأستهديه ، ( وأستشيره وأستشهد به ) ، فإنه من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ثم قال : ( قد رأيتم يا معشر المسلمين ( قلت : لله أم قامت عن الأشتر ، لو أن إنسانا يقسم أن الله تعالى ما خلق في العرب ولا في العجم أشجع منه إلا أستاذه عليه السلام لما خشيت عليه الإثم ، ولله در القائل وقد سئل عن الأشتر : ما أقول في رجل هزمت حياته أهل الشام ، وهزم موته أهل العراق ، وبحق ما قال فيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : كان الأشتر كما كنت لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ما قد كان في يومكم هذا الماضي ، وما قد فنى فيه من العرب ، فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ فما رأيت مثل هذا اليوم قط .

---------------------------
(1) في الأصل : ( فباكروا القتال غدا يوما من أيام الشعري طويلا شديد الحر ) ، وأثبت ما في ح .
(2) في الأصل : ( في الرايات ) وجهه من ح ( 1 : 185 ) .
(3) في الأصل : ( وهو يحدثني ) وأثبت ما في ح .
(4) في الأصل : ( فأنتم ) ووجهه من ح ، والشاعر هو عمرو بن معد يكرب ، من قصيدة في خزانة الأدب ( 3 : 462 ـ 463 ) والأصمعيات 43 ـ 45 ، وقبل البيت :
(5) القرعاء : جمع قريع ، وهو المغلوب المهزوم ، وفي الأصل وح : ( الفرعاء ) تحريف ، وفي الخزانة والأصمعيات : ( الأوغال ) جمع وغل ، وهو النذل من الرجال ، والوريع ، الكاف ، وفي الخزانة : ( والوريع ، بالراء المهملة ، وكذلك الورع بفتحتين ، وهو الصغير الضعيف الذي لا غناء عنده ، وفي الأصل وح : ( الوزيع ) ولا وجه له .
(6) كتب ابن أبي الحديد بعد هذا في ( 1 : 185 ) :

واقعة صفين _ 465 _

وزحف كتيبة دلفت لأخرى      كـأن زهاءها رأس iiصليع
  ألا فليبلغ الشاهد الغائب ، أنا إن نحن تواقفنا غدا إنه لفناء العرب وضيعة الحرمات (1) ، أما والله ما أقول هذه المقالة جزعا من الحتف ، ولكني رجل مسن أخاف على ( النساء و ) الذراري غدا إذا فنينا ، اللهم إنك تعلم أني قد نظرت لقومي ولأهل ديني فلم آل ، وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب ، والرأي يخطئ ويصيب ، وإذا قضى الله أمرا أمضاه على ما أحب العباد أو كرهوا ، أقول قولي هذا وأستغفر الله ( العظيم ) لي ولكم ) ، قال صعصعة : فانطلقت عيون معاوية إليه بخطبة الأشعث فقال : أصاب ورب الكعبة ، لئن نحن التقينا غدا لتميلن الروم على ذرارينا ونسائنا ، ولتميلن (2) أهل فارس على نساء أهل العراق وذراريهم ، وإنما يبصر هذا ذوو الأحلام والنهى ، اربطوا المصاحف على أطراف القنا ، قال صعصعة : فثار (3) أهل الشام فنادوا في سواد الليل : يا أهل العراق ، من لذرارينا إن قتلتمونا ومن لذراريكم إن قتلناكم ؟ الله الله في البقية ، فأصبح أهل الشام وقد رفعوا المصاحف على رءوس الرماح وقلدوها الخيل ، والناس على الرايات قد اشتهوا ما دعوا إليه ، ورفع مصحف دمشق الأعظم تحمله عشرة رجال على رءوس الرماح ، ونادوا : يا أهل العراق ، كتاب الله بيننا وبينكم ، وأقبل أبو الأعور السلمي على برذون أبيض وقد وضع المصحف على رأسه ينادي : يا أهل العراق ، كتاب الله بيننا وبينكم وأقبل عدي بن حاتم فقال : يا أمير المؤمنين ، إن كان أهل الباطل لا يقومون بأهل الحق فإنه لم يصب عصبة منا إلا وقد أصيب مثلها منهم ، وكل مقروح ، ولكنا أمثل بقية منهم ، وقد جزع القوم وليس بعد الجزع إلا ما تحب (4) ، فناجز القوم ، فقام الأشتر النخعي فقال : يا أمير المؤمنين ، إن معاوية لا خلف له من رجاله ، ولك بحمد الله الخلف ، ولو كان له مثل رجالك لم يكن له مثل صبرك ولا بصرك ، فاقرع الحديد بالحديد ، واستعن بالله الحميد ، ثم قام عمرو بن الحمق فقال : يا أمير المؤمنين ، إنا والله ما أجبناك (5) ولا نصرناك عصبية على الباطل ولا أجبنا إلا الله ( عز وجل ) ، ولا طلبنا إلا الحق ، ولو دعانا غيرك إلى ما دعوت إليه لا ستشري فيه اللجاج (6) وطالت فيه النجوى ، وقد بلغ الحق مقطعه ، وليس لنا معك رأي ، فقام الأشعث بن قيس مغضبا فقال : يا أمير المؤمنين ، إنا لك اليوم على ما كنا عليه أمس ، وليس آخر أمرنا كأوله ، وما من القوم أحد أحنى على أهل العراق ولا أوتر لأهل الشام مني ، فأجب القوم إلى كتاب الله فإنك أحق به منهم ، وقد أحب الناس البقاء وكرهوا القتال ، فقال علي ( عليه السلام ) : إن هذا أمر ينظر فيه ، وذكروا أن أهل الشام جزعوا فقالوا : يا معاوية ، ما نرى أهل العراق أجابوا إلى ما دعوناهم إليه ، فأعدها جذعة (7) ، فإنك قد غمرت بدعائك القوم وأطمعتهم فيك .

---------------------------
(1) في الأصل : ( الحرمان ) صوابه في ح .
(2) في الأصل : ( لتمكن ) في هذا الموضع وسابقه ، ووجههما ما أثبت من ح .
(3) في الأصل : ( فأمر ) وصوابه في ح .
(4) ح ( 1 : 185 ) : ( نحب ) بالنون .
(5 ) في الأصل : ( ما اخترناك ) والوجه ما أثبت من ح .
(6 ) استشري : اشتد وقوي ، وفي الأصل : ( لكان فيه اللجاج ) وأثبت ما في ح .
(7) أي ابدأها مرة أخرى ، وفي اللسان : ( وإذا طفئت حرب بين قوم فقال بعضهم إن شئتم أعدناها جذعة ، أي أول ما يبتدأ فيها ) ، ح ( 1 : 188 ) : ( فأعدوها خدعة ) تحريف .

واقعة صفين _ 466 _

  فدعا معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص ، وأمره أن يكلم أهل العراق ، فأقبل حتى إذا كان بين الصفين نادى : يا أهل العراق ، أنا عبد الله بن عمرو ابن العاص ، إنها قد كانت بيننا وبينكم أمور للدين والدنيا ، فإن تكن للدين فقد والله أعذرنا وأعذرتم ، وإن تكن للدنيا فقد والله أسرفنا وأسرفتم ، وقد دعوناكم إلى أمر لو دعوتمونا إليه لأجبناكم ، فإن يجمعنا وإياكم الرضا فذلك من الله ، فاغتنموا هذه الفرجة لعله أن يعيش فيها المحترف (1) وينسى فيها القتيل ، فإن بقاء المهلك بعد الهالك قليل ، فخرج سعيد بن قيس فقال : يا أهل الشام ، إنه قد كان بيننا وبينكم أمور حامينا فيها على الدين والدنيا ، سميتموها غدرا وسرفا ، وقد دعوتمونا اليوم إلى ما قاتلناكم عليه بالأمس ، ولم يكن ليرجع أهل العراق إلى عراقهم ، ولا أهل الشام إلى شامهم ، بأمر أجمل من أن يحكم بما أنزل الله ، فالأمر في أيدينا دونكم ، وإلا فنحن نحن وأنتم أنتم ، وقام الناس إلى علي فقالوا : أجب القوم إلى ما دعوك إليه فإنا قد فنينا ، ونادى إنسان من أهل الشام في سواد الليل بشعر سمعه الناس ، وهو :
رءوس العراق أجيبوا iiالدعاء      فـقد  بـلغت غـاية الـشده
وقـد أودت الحرب iiبالعالمين      وأهـل  الـحفائظ iiوالـنجده
فـلسنا  ولستم من iiالمشركين      ولا  الـمجمعين عـلى الرده
ولـكن  أنـاس لـقوا iiمثلهم      لـنـا عــدة ولـهم iiعـده
فـقاتل كـل عـلى iiوجـهه      يـقـحمه  الـجـد والـحده
فـإن تـقبلوها فـفيها iiالبقاء      وأمــن الـفريقين iiوالـبلده
وإن  تـدفعوها فـفيها iiالفناء      وكــل  بـلاء إلـى iiمـده
وحتى متى مخض هذا السقاء      ولا بـد أن يـخرج iiالـزبده
ثـلاثة  رهـط هـم iiأهـلها      وإن  يـسكتوا تـخمد الواقده
سعيد بن قيس وكبش iiالعراق      وذاك  الـمسود مـن iiكـنده
  نصر (2) : هؤلاء النفر المسمون في الصلح ، قال : فأما المسود من كندة وهو الأشعث ، فإنه لم يرض بالسكوت ، بل كان من أعظم الناس قولا في إطفاء الحرب والركون إلى الموادعة ، وأما كبش العراق ، وهو الأشتر ، فلم يكن يرى إلا الحرب ، ولكنه سكت على مضض ، وأما سعيد بن قيس ، فتارة هكذا وتارة هكذا ، قال : ذكروا أن الناس ماجوا وقالوا : أكلتنا الحرب وقتلت الرجال ، وقال قوم : نقاتل القوم على ما قاتلناهم عليه أمس ، ولم يقل هذا إلا قليل من الناس ، ثم رجعوا عن قولهم مع الجماعة ، وثارت الجماعة بالموادعة ، فقام علي أمير المؤمنين فقال : ( إنه لم يزل أمري معكم على ما أحب إلى أن أخذت منكم الحرب ، وقد والله أخذت منكم وتركت ، وأخذت من عدوكم فلم تترك ، وإنها فيهم أنكى وأنهك ، ألا إني كنت أمس أمير المؤمنين فأصبحت اليوم مأمورا ، وكنت ناهيا فأصبحت منهيا ، وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون ) ، ثم قعد ، ثم تكلم رؤساء القبائل ، فأما من ربيعة وهي الجبهة العظمى فقام كردوس بن هانئ البكري فقال : أيها الناس ، إنا والله ما تولينا معاوية منذ تبرأنا منه ، ولا تبرأنا من علي منذ توليناه ، وإن قتلانا لشهداء ، وإن أحياءنا لأبرار ، وإن عليا لعلى بينة من ربه ، ما أحدث إلا الإنصاف ، وكل محق منصف ، فمن سلم له نجا ، ومن خالفه هلك .

---------------------------
(1) ح : ( المحترق ) .
(2) في الأصل : ( فمحمد ) .

واقعة صفين _ 467 _

  ثم قام شقيق بن ثور البكري فقال : أيها الناس ، إنا دعونا أهل الشام إلى كتاب الله فردوه علينا فقاتلناهم عليه ، وإنهم دعونا إلى كتاب الله فإن رددناه عليهم حل لهم منا ما حل لنا منهم ، ولسنا نخاف أن يحيف الله علينا ولا رسوله ، وإن عليا ليس بالراجع الناكص ، ولا الشاك الواقف ، وهو اليوم على ما كان عليه أمس ، وقد أكلتنا هذه الحرب ، ولا نرى البقاء إلا في الموادعة ، ثم قام حريث بن جابر البكري ، فقال : أيها الناس ، إن عليا لو كان خلفا من هذا الأمر لكان المفزع إليه ، فكيف وهو قائده وسائقه ، وإنه والله ما قبل من القوم اليوم إلا ما دعاهم إليه أمس ، ولو رده عليهم كنتم له أعنت ، ولا يلحد في هذا الأمر إلا راجع على عقبيه أو مستدرج بغرور ، فما بيننا وبين من طغى علينا إلا السيف ، ثم قام خالد بن المعمر فقال : يا أمير المؤمنين ، إنا والله ما اخترنا هذا المقام أن يكون أحد هو أولى به منا ، غير أنا جعلناه ذخرا ، وقلنا : أحب الأمور إلينا ما كفينا مؤنته (1) ، فأما إذ سبقنا في المقام فإنا لا نرى البقاء إلا فيما دعاك إليه القوم ، إن رأيت ذلك ، فإن لم تره فرأيك أفضل ، ثم إن الحضين الربعي ، وهو أصغر القوم سنا قام فقال : أيها الناس ، إنما بني هذا الدين على التسليم فلا توفروه بالقياس ولا تهدموه بالشفقة ، فإنا والله لو لا أنا لا نقبل إلا ما نعرف لأصبح الحق في أيدينا قليلا ، ولو تركنا ما نهوى لكان الباطل في أيدينا كثيرا ، وإن لنا داعيا قد حمدنا ورده وصدره ، وهو المصدق على ما قال ، المأمون على ما فعل ، فإن قال لا قلنا لا ، وإن قال نعم قلنا نعم ، فبلغ ذلك معاوية فبعث إلى مصقلة بن هبيرة فقال : يا مصقلة ، ما لقيت من أحد ما لقيت من ربيعة ، قال : ما هم منك بأبعد من غيرهم ، وأنا باعث إليهم فيما صنعوا ، فبعث مصقلة إلى الربعيين فقال :
لـن يهلك القوم أن تبدى iiنصيحتهم      إلا شـقيق أخـو ذهـل iiوكردوس
وابـن  الـمعمر لا تـنفك iiخطبته      فـيها الـبيان وأمـر القوم iiملبوس
أمــا  حـريث فـان الله ضـلله      إذ قـام معترضا ، والمرء iiكردوس
طاطا  حضين هنا في فتنة iiجمحت      إن ابن وعلة فيها ، كان ، محسوس
مـنوا عـلينا ومـناهم وقـال iiلهم      قـولا يـهيج لـه البزل iiالقناعيس
كـل الـقبائل قـد أدى iiنـصيحته      إلا ربـيعة زعـم الـقوم iiمحبوس
  وقال النجاشي :
إن  الأراقــم لا يـغشاهم بـوس      ما دافع الله عن حوباء كردوس  (2)
نـمته مـن تـغلب الغلبا iiفوارسها      تلك الرؤوس وأبناء المرائيس  (3)
مـا بـال كـل أمـير يستراب iiبه      ديـن صـحيح ورأي غير iiملبوس
وإلـى  عـليا بـغدر بـذ منه iiإذا      ما  صرح الغدر عن رد iiالضغابيس
نعم النصير لأهل الحق ، قد iiعلمت      عـليا  مـعد ، على أنصار iiإبليس

---------------------------
(1) المؤنة ، بالضم وسكون الهمزة : لغة في المؤونة ، بفتح الميم وضم الهمزة ، واستشهد صاحب المصباح لها بقوله : أميرنا مؤنته خفيفه :
(2) الأراقم ، هم جشم ومالك وعمرو وثعلبة والحت ومعاوية ، بنو بكر بن حبيب ابن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل بن قاسط ، والحوباء : النفس ، وفي الأصل : ( من حوباء ) .
(3) الغلباء لقب لتغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار ، انظر القاموس ( غلب ) رالمعارف 41 ـ 42 ، وفي الأصل : ( العليا ) ، والمرائيس : جمع مرآس ، وهو المتقدم السابق .

واقعة صفين _ 468 _

قـل لـلذين تـرقوا فـي تـعنته      إن  البكارة ليست كالقناعيس  (1)
لن  تدركوا الدهر كردوسا iiوأسرته      أبناء ثعلبة الحادي وذو العيس  (2)
  وقال فيما قال خالد بن المعمر :
وفـت  لـعلي مـن ربيعة iiعصبة      بـصم  الـعوالي والصفيح iiالمذكر
شـقيق  وكـردوس ابن سيد iiتغلب      وقـد قـام فـيها خـالد بن iiالمعمر
وقـارع  بالشورى حريث بن جابر      وفاز بها لولا حضين بن منذر  (3)
لأن  حـضينا قـام فـينا iiبـخطبة      مـن  الحق فيها ميتة المتجبر  (4)
أمـرنا  بـمر الـحق حـتى iiكأننا      خشاش تفادى من قطام بقرقر  (5)
وكـان  أبـوه خـير بكر بن iiوائل      إذا  خـيف مـن يـوم أغر iiمشهر
نـماه إلـى عـليا عـكابة iiعصبة      وآب أبــي لـلدنية أزهـر  (6)
  وقال الصلتان :
شـقيق  بـن ثور قام فينا iiبخطبة      يـحدثها  الـركبان أهل iiالمشاعر
بـما  لـم يقف فينا خطيب iiبمثلها      جزى الله خيرا من خطيب وناصر
وقـد قـام فـينا خـالد بن iiمعمر      وكـردوس  الحامي ذمار iiالعشائر
بـمثل الـذي جـاءا به حذو نعله      وقد  بين الشورى حريث بن iiجابر
---------------------------
(1) البكارة بالكسر : جمع البكر ، بالفتح ، وهو الفتى من الإبل ، والقناعيس : جمع قنعاس ، وهو الجمل الضخم العظيم .
(2) هم بنو ثعلبة بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم ، انظر ما سبق في التنبيه الأول من الصفحة السابقة ، وفي الأصل : ( بني ثعلبة ) ولا يستقيم به الشعر .
(3) سبقت ترجمة حضين في ص 287 ، وفي الأصل : ( حصين ) تحريف .
(4) في الأصل : ( حصينا ) صوابه بالضاد المعجمة ، وفي الأصل أيضا : ( منية المتجبر ) .
(5) في الأصل : ( حتى كأنها ) ، والخشاش : ضعاف الطير ، والقطام كالقطامي : الصقر ، والقرقر : الأرض المطمئنة اللينة .
(6) في هذا البيت إقواء .

واقعة صفين _ 469 _

فـلا يـبعدنك الدهر ما هبت iiالصبا      ولا زلـت مـسقيا بـأسحم iiمـاطر
ولا زلـت تـدعي فـي ربيعة iiأولا      باسمك في أخرى الليالي الغوابر  (1)
  وقال حريث بن جابر :
أتـى  نبأ من الأنباء iiينمي      وقد يشفي من الخبر الخبير
  قال : فلما ظهر قول حضين رمته بكر بن وائل بالعداوة ، ثم إن عليا أصلح بينهم ، وقال رفاعة بن شداد البجلي : ( أيها الناس ، إنه لا يفوتنا شئ من حقنا ، وقد دعونا في آخر أمرنا إلى ما دعوناهم إليه في أوله ، وقد قبلوه من حيث لا يعقلون ، فإن يتم الأمر على ما نريد فبعد بلاء وقتل ، وإلا أثرناها جذعة ، وقد رجع إليه جدنا ) ، وقال في ذلك :
تـطاول لـيلي لـلهموم الـحواضر      وقـتلي أصيبت من رءوس iiالمعاشر
بـصفين  أمـست والـحوادث iiجمة      يـهيل عـليها الترب ذيل iiالأعاصر
فـإنهم فـي مـلتقى الـخيل iiبـكرة      وقد جالت الأبطال دون المساعر  (2)
فـإن يـك أهـل الشام نالوا iiسراتنا      فـقد نـيل مـنهم مثل جزرة iiجازر
وقـام  سـجال الـدمع مـنا iiومنهم      يـبـكين قـتلي غـير ذات مـقابر
فـلن  يـستقيل الـقوم ما كان iiبيننا      وبـينهم  أخرى الليالى الغوابر  (3)
---------------------------
(1) الغوابر : الباقيات ، والغابر من الأضداد ، يقال للماضي وللباقي .
(2) دونهم : أي قريبا منهم ، والمساعر : جمع مسعر ، بكسر الميم ، يقال رجل مسعر حرب إذا كان يؤرثها ، أي تحمي به ، وفي الأصل : ( المشاعر ) تحريف ، والمقطوعة لم ترد في مظنها من ح .
(3) أخرى الليالي : آخرها ، وفي الأصل ( إحدى ) تحريف ، ونحوه قول الشنفري :

واقعة صفين _ 470 _

ومـاذا عـلينا أن تـريح iiنفوسنا      إلى سنة من بيضنا والمغافر  (1)
ومن  نصبنا وسط العجاج iiجباهنا      لـوقع السيوف المرهفات iiالبواتر
وطعن إذا نادى المنادي أن اركبوا      صدور  المذاكي بالرماح iiالشواجر
أثـرنا الـتي كانت بصفين iiبكرة      ولـم نـك فـي تسعيرها iiبعواثر
فـإن  حـكما بالحق كانت سلامة      ورأي وقانا منه من شؤم ثائر  (2)
  وفي حديث عمر بن سعد قال : لما رفع أهل الشام المصاحف على الرماح يدعون إلى حكم القرآن قال علي ( عليه السلام ) : ( عباد الله ، إني أحق من أجاب إلى كتاب الله ، ولكن معاوية وعمرو بن العاص ، وابن أبي معيط ، وحبيب ابن مسلمة ، وابن أبي سرح ، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، إني أعرف بهم منكم ، صحبتهم أطفالا وصحبتهم رجالا فكانوا شر أطفال وشر رجال (3) ، إنها كلمة حق يراد بها باطل ، إنهم والله ما رفعوها أنهم يعرفونها ويعملون بها (4) ، ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة (5) ، أعيروني سواعد كم وجماجمكم ساعة واحدة ، فقد بلغ الحق ، مقطعه ، ولم يبق إلا أن يقطع دابر الذين ظلموا ، فجاءه زهاء عشرين ألفا مقنعين في الحديد شاكي السلاح ، سيوفهم على عواتقهم ، وقد اسودت جباههم من السجود ، يتقدمهم مسعر بن فدكى ، وزيد بن حصين ، وعصابة من القراء الذين صاروا خوارج من بعد ، فنادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين : يا علي ، أجب القوم إلى كتاب الله إذا دعيت إليه ، وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان ، فو الله لنفعلنها إن لم تجبهم ، فقال لهم : ويحكم ، أنا أول من دعا إلى كتاب الله وأول من أجاب إليه ، وليس يحل لي ولا يسعني في ديني أن أدعي إلى كتاب الله فلا أقبله ، إني إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم القرآن فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم ، ونقضوا عهده ، ونبذوا كتابه ، ولكني قد أعلمتكم أنهم قد كادوكم ، وأنهم ليسوا العمل بالقرآن يريدون ، قالوا : فابعث إلى الأشتر ليأتيك ، وقد كان الأشتر صبيحة ليل الهرير قد أشرف على عسكر معاوية ليدخله .

---------------------------
(1) في الأصل : ( من بيننا ) .
(2) الثائر : الذي يطلب الثأر ، في الأصل : ( في شؤم ) .
(3) ح ( : 186 ) : ( صحبتهم صغارا ورجالا فكانوا شر رجال ) ، وما أثبت من الأصل يوافق ما في الطبري ( 6 : 27 ) .
(4) في الأصل : ( ولا يعلمون بها ) وتصح هذه القراءة على الاستئناف ، وأثبت ما في ح .
(5) في الأصل : ( وما رفعوها لكم إلا خديعة ومكيدة ) وأثبت ما في ح .

واقعة صفين _ 471 _

  نصر : فحدثني فضيل بن خديج ، عن رجل من النخع قال : رأيت إبراهيم ابن الأشتر دخل على مصعب بن الزبير فسأله عن الحال كيف كانت (1) ، فقال : كنت عند علي حين بعث إلى الأشتر أن يأتيه ، وقد ( كان الأشتر ) أشرف على معسكر معاوية ليدخله ، فأرسل ( إليه ) علي يزيد بن هانئ : أن ائتني ، فأتاه فبلغه فقال الأشتر : ائته فقل له : ليس هذه بالساعة ( التي ) ينبغي لك أن تزيلني فيها عن موقفي ، إني قد رجوت الله أن يفتح لي فلا تعجلني ، فرجع يزيد بن هانئ إلى علي فأخبره ، فما هو إلا أن انتهى إلينا حتى ارتفع الرهج وعلت الأصوات من قبل الأشتر ، وظهرت دلائل الفتح والنصر لأهل العراق ، ودلائل الخذلان والإدبار على أهل الشام ، فقال له القوم : والله ما نراك إلا أمرته بقتال القوم ، قال : أرأيتموني ساررت رسولي ( إليه ) ؟ أليس إنما كلمته على رءوسكم علانية وأنتم تسمعون ، قالوا : فابعث إليه فليأتك ، وإلا فوالله اعتزلناك ، قال : ويحك يا يزيد ، قل له أقبل إلي ، فإن الفتنة قد وقعت ، فأتاه فأخبره فقال له الأشتر : الرفع هذه المصاحف (2) ؟ قال : نعم ، قال : أما والله لقد ظننت أنها حين رفعت ستوقع اختلافا وفرقة ، إنها من مشورة ابن النابغة ـ يعني عمرو بن العاص ـ قال : ثم قال ليزيد : ( ويحك ) ألا ترى إلى ما يلقون ، ألا ترى إلي الذي يصنع الله لنا ، أيتبغي أن ندع هذا وننصرف عنه ؟ ! فقال له يزيد : أتحب أنك ظفرت هاهنا وأن أمير المؤمنين بمكانه الذي هو به يفرج عنه ويسلم إلى عدوه ؟ ! قال : سبحان الله ، ( لا ) والله ما أحب ذلك ، قال : فإنهم قالوا : لترسلن إلى الأشتر فليأتينك أو لنقتلنك ( بأسيافنا ) كما قتلنا عثمان ، أو لنسلمنك إلى عدوك ، قال : فأقبل الأشتر حتى انتهى إليهم فصاح فقال : يا أهل الذل والوهن ، أحين علوتم القوم فظنوا أنكم لهم قاهرون ورفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها ؟ ! وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها وسنة من أنزلت عليه ، فلا تجيبوهم ، أمهلوني فواقا (3) ، فإني قد أحسست بالفتح ، قالوا : لا . قال : فأمهلوني عدوة الفرس (4) ، فإني قد طمعت في النصر ، قالوا : إذن ندخل معك في خطيئتك ، قال : فحدثوني عنكم ـ وقد قتل أماثلكم وبقى أراذلكم ـ متى كنتم محقين ، أحين كنتم تقتلون أهل الشام (5) ، فأنتم الآن حين أمسكتم عن القتال مبطلون أم ( أنتم ) الآن ( في إمساككم عن القتال ) محقون ؟ فقتلاكم إذن الذين لا تنكرون فضلهم وكانوا خيرا منكم ، في النار ، قالوا : دعنا منك يا أشتر ، قاتلناهم في الله وندع قتالهم في الله ، إنا لسنا نطيعك فاجتنبنا ، قال : خدعتم والله فانخدعتم ، ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم يا أصحاب الجباه السود ، كنا نظن أن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوق إلى لقاء الله ، فلا أرى فراركم إلا إلى الدنيا من الموت ، ألا فقبحا يا أشباه النيب الجلالة ، ما أنتم برائين بعدها عزا أبدا ، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون ، فسبوه وسبهم ، وضربوا بسياطهم وجه دابته ، وضرب بسوطه وجوه دوابهم ، فصاح بهم علي فكفوا .

---------------------------
(1) السائل ، هو مصعب بن الزبير ، وفي ح : ( قال : سألت مصعب بن إبراهيم بن الأشتر عن الحال كيف كانت ) ، تحريف .
(2) ح : ( أبرفع هذه المصاحف ) ، وما في الأصل يوافق الطبري ( 6 : 27 ) .
(3) الفواق ، بالضم وبالفتح : ما بين الحلبتين ، يقال : أنظرني فواق ناقة .
(4) في الأصل : ( عدو الفرس ) وأثبت ما في ح .
(5) في الأصل : ( حيث كنتم ) صوابه في ح ( 1 : 186 ) .

واقعة صفين _ 472 _

  وقال الأشتر : يا أمير المؤمنين ، احمل الصف على الصف يصرع القوم ، فتصايحوا (1) : إن عليا أمير المؤمنين قد قبل الحكومة ورضى بحكم القرآن ولم يسعه إلا ذلك ، قال الأشتر : إن كان أمير المؤمنين قد قبل ورضى بحكم القرآن ، فقد رضيت بما رضي أمير المؤمنين ، فأقبل الناس يقولون : قد رضي أمير المؤمنين ، قد قبل أمير المؤمنين ، وهو ساكت لا يبض بكلمة (2) ، مطرق إلى الأرض ، وقال أبو محمد نافع بن الأسود التميمي (3) :
ألا أبـلـغا عـني عـليا iiتـحية      فـقد  قـبل الـصماء لما iiاستقلت
بـني قـبة الإسـلام بعد iiانهدامها      وقامت عليه قصرة فاستقرت  (4)
كـأن نـبيا جـاءنا حـين iiهدمها      بما سن فيها بعد ما قد أبرت  (5)
  قال : ولما صدر على من صفين أنشأ يقول :
وكم قد تركنا في دمشق iiوأرضها      من  أشمط موتور وشمطاء iiثاكل
وعـانية صـاد الـرماح iiحليلها      فأضحت تعد اليوم إحدى الأرامل

---------------------------
(1) بدلها في الأصل : ( فقالوا له ) وأثبت ما في ح ( 1 : 187 ) .
(2) لا يبض بكلمة ، أي ما يتكلم ، وفي حديث طهفة : ( ماتبض ببلال ) أي ما يقطر منها لبن ، وفي الأصل : ( لا يفيض ) صوابه في ح .
(3) هو أبو محمد نافع بن الأسود بن قطبة بن مالك التميمي ثم الأسيدي بتشديد الياء ، من بني أسيد بن عمرو بن تميم ، قال المرزباني : شاعر مخضرم يكنى أبا محمد ، وقال الدارقطني في المؤتلف : أبو محمد نافع بن الأسود شهد فتوح العراق ، انظر الإصابة 8849 ، وفي الأصل : ( أبو مجيد ) تحريف .
(4) قصرة ، أي دون الناس ، وفي اللسان : ( أبلغ هذا الكلام بني فلان قصرة ومقصورة ، أي دون الناس ) .
(5) أبرت : غلبت ، والمقطوعة لم ترد في ح .

واقعة صفين _ 473 _

تـبكي  على بعل لها راح iiغاديا      فليس إلى يوم الحساب بقافل  (1)
وإنـا  أنـاس ما تصيب iiرماحنا      إذا  مـا طعنا القوم غير iiالمقاتل
  قال : وقال الناس : قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكما ، وبعث معاوية أبا الأعور السلمي على برذون أبيض ، فسار بين الصفين صف أهل العراق وصف أهل الشام ، والمصحف على رأسه وهو يقول : كتاب الله بيننا وبينكم ، فأرسل معاوية إلى علي : ( إن الأمر قد طال بيننا وبينك ، وكل واحد منا يرى أنه على الحق فيما يطلب من صاحبه ، ولن يعطي واحد منا الطاعة للآخر ، وقد قتل فيما بيننا بشر كثير ، وأنا أتخوف أن يكون ما بقي أشد مما مضى ، وإنا ( سوف ) نسأل عن ذلك الموطن ، ولا يحاسب به غيري وغيرك ، فهل لك في أمر لنا ولك فيه حياة وعذر وبراءة ، وصلاح للأمة ، وحقن للدماء ، وألفة للدين ، وذهاب للضغائن والفتن : أن يحكم بيننا وبينك حكمان رضيان ، أحدهما من أصحابي والآخر من أصحابك ، فيحكمان بما في كتاب الله بيننا ، فإنه خير لي ولك ، وأقطع لهذه الفتن ، فاتق الله فيما دعيت له ، وارض بحكم القرآن إن كنت من أهله ، والسلام ) ، فكتب إليه علي بن أبي طالب : ( من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان ، أما بعد فإن أفضل ما شغل به المرء نفسه اتباع ما يحسن به فعله ، ويستوجب فضله ، ويسلم من عيبه ، وإن البغي والزور يزريان بالمرء في دينه ودنياه ، ويبديان من خلله عند من يغنيه ما استرعاه الله ما لا يغني عنه تدبيره ، فاحذر الدنيا فإنه لا فرح في شئ وصلت إليه منها ، ولقد علمت أنك غير مدرك ما قضى فواته ، وقد رام قوم أمرا بغير الحق فتأولوا على الله تعالى (2) ، فأكذبهم ومتعهم قليلا ثم اضطرهم إلى عذاب غليظ ، فاحذر يوما يغتبط فيه من أحمد عاقبة عمله ، ويندم فيه من أمكن الشيطان من قياده ولم يحاده ، فغرته الدنيا واطمأن إليها ، ثم إنك قد دعوتني إلى حكم القرآن ، ولقد علمت انك لست من أهل القرآن ، ولست حكمه تريد ، والله المستعان ، وقد أجبنا القرآن إلى حكمه ، ولسنا إياك أجبنا ، ومن لم يرض بحكم فقد ضل ضلالا بعيدا ) ، آخر الجزء ، يتلوه في الذي يتلوه قصة الحكمين ، والحمد لله وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله والطاهرين ، والسلام وجدت في الجزء الثاني عشر (3) من أجزاء عبد الوهاب بخطه : ( سمع علي الشيخ أبي الحسين المبارك بن عبد الجبار الصيرفي الأجل السيد الإمام قاضي القضاة أبو الحسن علي بن محمد الدامغاني وابناه القاضيان أبو عبد الله محمد وأبو الحسين أحمد ، وأبو عبد الله محمد بن القاضي أبي الفتح بن البيضاوي ، والشريف أبو الفضل محمد بن علي بن أبي يعلى الحسيني ، وأبو منصور محمد بن محمد بن قرمي ، بقراءة عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد بن الحسن الأنماطي ، في شعبان سنة أربع وتسعين وأربعمائة ) .

---------------------------
(1) قافل : راجع ، قفل يقفل قفولا ، وفي الأصل : ( بغافل ) والوجه ما أثبت .
(2) ح ( 1 : 188 ) : ( وتأولوه على الله ( عز وجل ) .
(3) في الأصل : ( الثامن ) وصوابه ما أثبت .

واقعة صفين _ 474 _


  رواية أبي محمد سليمان بن الربيع بن هشام النهدي الخزاز ، رواية أبي الحسن علي بن محمد بن محمد بن عقبة بن الوليد ، رواية أبي الحسن محمد بن ثابت بن عبد الله بن محمد بن ثابت الصيرفي ، رواية أبي يعلى أحمد بن عبد الواحد بن محمد بن جعفر الحريري ، رواية أبي الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي ، رواية الشيخ الحافظ أبي البركات عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد بن الحسن الأنماطي ، سماع مظفر بن علي بن محمد بن زيد بن ثابت المعروف بابن المنجم ـ غفر الله له بسم الله الرحمن الرحيم أخبرنا الشيخ الثقة شيخ الإسلام أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد بن الحسن الأنماطي قراءة عليه وأنا أسمع ، قال : أخبرنا أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي بقراءتي عليه ، قال أبو يعلى أحمد ابن عبد الواحد بن محمد بن جعفر الحريري : قال أبو الحسن محمد بن ثابت ابن عبد الله بن محمد (1) بن ثابت الصيرفي : قال أبو الحسن علي بن محمد بن محمد ابن عقبة : قال أبو محمد سليمان بن الربيع بن هشام النهدي الخزاز : قال أبو الفضل نصر بن مزاحم : قصة الحكمين :
  نصر عن عمر بن سعد ، عن رجل ، عن شقيق بن سلمة قال : جاءت عصابة من القراء قد سلوا سيوفهم واضعيها على عواتقهم فقالوا : يا أمير المؤمنين ، ما تنتظر بهؤلاء القوم أن نمشي إليهم بسيوفنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم بالحق ، فقال لهم علي : قد جعلنا حكم القرآن بيننا وبينهم ، ولا يحل قتالهم حتى ننظر بم يحكم القرآن ، قال : وكتب معاوية إلى علي :

---------------------------
(1) ساقطة من الأصل .

واقعة صفين _ 475 _

  ( أما بعد ، عافانا الله وإياك ، فقد آن لك أن تجيب إلى ما فيه صلاحنا وألفة بيننا ، وقد فعلت وأنا أعرف حقي ، ولكن اشتريت بالعفو صلاح الأمة ، ولا أكثر فرحا بشيء جاء ولا ذهب (1) ، وإنما أدخلني في هذا الأمر القيام بالحق فيما بين الباغي والمبغى عليه ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فدعوت إلى كتاب الله فيما بيننا وبينك ، فإنه لا يجمعنا وإياك إلا هو ، نحيي ما أحيا القرآن ، ونميت ما أمات القرآن ، والسلام ) ، وكتب علي إلى عمرو بن العاص ( يعظه ويرشده ) : ( أما بعد فإن الدنيا مشغلة عن غيرها ، ولم يصب صاحبها منها شيئا إلا فتحت له حرصا يزيده فيها رغبة ، ولن يستغني صاحبها بما نال عما لم يبلغه ، ومن وراء ذلك فراق ما جمع ، والسعيد من وعظ بغيره ، فلا تحبط أبا عبد الله أجرك ، ولا تجار معاوية في باطله ) ، فأجابه عمرو بن العاص : ( أما بعد فإن ما فيه صلاحنا وألفتنا الإنابة إلى الحق ، وقد جعلنا القرآن حكما بيننا فأجبنا إليه ، وصبر الرجل منا نفسه على ما حكم عليه القرآن ، وعذره الناس بعد المحاجزة ، ( والسلام ) .
  فكتب إليه علي : ( أما بعد فإن الذي أعجبك من الدنيا مما نازعتك إليه نفسك ووثقت به منها لمنقلب عنك ، ومفارق لك ، فلا تطمئن إلى الدنيا فإنها غرارة ، ولو اعتبرت بما مضى لحفظت ما بقى ، وانتفعت بما وعظت به ، والسلام ) ، فأجابه عمرو : ( أما بعد فقد أنصف من جعل القرآن إماما ودعا الناس إلى أحكامه ، فاصبر أبا حسن ، وأنا غير منيلك (2) إلا ما أنالك القرآن ) ، وجاء الأشعث بن قيس إلى علي فقال : ( يا أمير المؤمنين ) ما أرى الناس إلا وقد رضوا وسرهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن ، فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد ، ونظرت ما الذي يسأل ، قال : ائته إن شئت ، فأتاه فسأله فقال : يا معاوية ، لأي شئ رفعتم هذه المصاحف ؟ قال : لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به في كتابه (3) ، فابعثوا منكم رجلا ترضون به ، ونبعث منا رجلا ، ثم نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ، ثم نتبع ما أتففا عليه ، فقال الأشعث : هذا هو الحق ، فانصرف إلى علي فأخبره بالذي قال ، وقال الناس : قد رضينا وقبلنا ، فبعث على قراء من أهل العراق ، وبعث معاوية قراء من أهل الشام ، فاجتمعوا بين الصفين ومعهم المصحف ، فنظروا فيه وتدارسوه ، وأجمعوا على أن يحيوا ما أحيا القرآن ، وأن يميتوا ما أمات القرآن ، ثم رجع كل فريق إلى أصحابه ، وقال الناس : قد رضينا بحكم القرآن ، فقال أهل الشام : فإنا قد رضينا واخترنا عمرو بن العاص ، وقال الأشعث والقراء الذين صاروا خوارج فيما بعد : فإنا قد رضينا واخترنا أبا موسى الأشعري ، فقال لهم علي : إني لا أرضى بأبي موسى ، ولا أرى أن أوليه ، فقال الأشعث ، وزيد بن حصين (4) ، ومسعر بن فدكي ، في عصابة من القراء : إنا لا نرضى إلا به ، فإنه قد حذرنا ما وقعنا فيه ، قال علي : فإنه ليس لي برضا ، وقد فارقني وخذل الناس عني (5) ثم هرب ، حتى أمنته بعد أشهر ، ولكن هذا ابن عباس أوليه ذلك ، قالوا : والله ما نبالي ، أكنت أنت أو ابن عباس ، ولا نريد إلا رجلا هو منك ومن معاوية سواء ، وليس إلى واحد منكما بأدنى من الآخر ، قال علي : فإني أجعل الأشتر ، قال نصر : قال عمرو : فحدثني أبو جناب قال : قال الأشعث : وهل سعر الأرض علينا غير الأشتر ، وهل نحن إلا في حكم الأشتر ، قال له علي : وما حكمه ؟ قال : حكمه أن يضرب بعضنا بعضا بالسيوف حتى يكون ما أردت وما أراد .

---------------------------
(1) كذا ورد في الأصل وح على الاكتفاء ، أي ولا بشيء ذهب .
(2) ح ( 1 : 189 ) : ( فإنا غير منيليك ) .
(3) ح : ( به فيها ) .
(4 ) هو زيد بن حصين الطائي ، ذكره ابن حجر في الإصابة 2887 ، وقد سبقت خطبة له في ص 99 ، وانظر أيضا ص 100 ، وفي الأصل ( يزيد بن حصن ) والصواب مما أثبت من ح .
(5) التخذيل : حمل الرجل على خذلان صاحبه ، وتثبيطه عن نصرته .

واقعة صفين _ 476 _

  نصر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر محمد بن علي قال : لما أراد الناس عليا على أن يضع حكمين قال لهم علي : إن معاوية لم يكن ليضع لهذا الأمر أحدا هو أوثق برأيه ونظره من عمرو بن العاص ، وإنه لا يصلح للقرشي إلا مثله ، فعليكم بعبد الله بن عباس فارموه به ، فإن عمرا لا يعقد عقدة إلا حلها عبد الله ، ولا يحل عقدة إلا عقدها ، ولا يبرم أمرا إلا نقضه ، ولا ينقض أمرا إلا أبرمه ، فقال الأشعث : لا والله لا يحكم فيها مضريان حتى تقوم الساعة ، ولكن أجعله رجلا من أهل اليمن إذ جعلوا رجلا من مضر ، فقال علي : إني أخاف أن يخدع يمنيكم ، فإن عمرا ليس من الله في شيء إذا كان له في أمر هوى (1) ، فقال الأشعث : والله لأن يحكما ببعض ما نكره ، وأحدهما من أهل اليمن ، أحب إلينا من أن يكون ( بعض ) ما نحب في حكمهما وهما مضريان ، وذكر الشعبي مثل ذكر الشعبي مثل ذلك ، وفي حديث عمر قال : قال علي : قد أبيتم إلا أبا موسى ؟ قالوا : نعم ، قال : فاصنعوا ما أردتم ، فبعثوا إلى أبي موسى وقد اعتزل بأرض من أرض الشام يقال لها عرض (2) واعتزل القتال ، فأتاه مولى له فقال : إن الناس قد اصطلحوا ، قال : الحمد لله رب العالمين ، قال : وقد جعلوك حكما ، قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، فجاء أبو موسى حتى دخل عسكر علي ، وجاء الأشتر حتى أتى عليا فقال له : يا أمير المؤمنين الزنى بعمرو بن العاص (3) ، فوالله الذي لا إله غيره لئن ملأت عيني منه لأقتلنه ، قال : وجاء الأحنف بن قيس التميمي فقال : يا أمير المؤمنين ، إنك قد رميت بحجر الأرض (4) ومن حارب الله ورسوله أنف الإسلام (5) ، وإني قد عجمت هذا الرجل ـ يعني أبا موسى ـ وحلبت أشطره ، فوجدته كليل الشفرة ، قريب القعر ، وإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلا رجل يدنو منهم حتى يكون في أكفهم ، ويتباعد منهم حتى يكون بمنزلة النجم منهم ، فإن تجعلني حكما فاجعلني ، وإن أبيت أن تجعلني حكما فاجعلني ثانيا أو ثالثا (6) ، فإنه لا يعقد عقدة إلا حللتها ، ولن يحل عقدة إلا عقدتها وعقدت لك أخرى أشد منها ، فعرض ذلك على الناس فأبوه وقالوا : لا يكون إلا أبا موسى ، نصر : وفي حديث عمر قال : قام الأحنف بن قيس إلى علي فقال : يا أمير المؤمنين ، إني خيرتك يوم الجمل أن آتيك فيمن أطاعني وأكف عنك بني سعد ، فقلت كف قومك فكفى بكفك نصيرا (7) فأقمت بأمرك ، وإن عبد الله بن قيس (8) رجل قد حلبت أشطره فوجدته قريب القعر كليل المدية ، وهو رجل يمان وقومه مع معاوية ، وقد رميت بحجر الأرض وبمن حارب الله ورسوله ، وإن صاحب القوم من ينأي حتى يكون مع النجم ، ويدنو حتى يكون في أكفهم .

---------------------------
(1) في الأصل : ( حتى إذا كان له في أمر هواه ) صوابه في ح .
(2) عرض ، بضم أوله وسكون ثانيه : بلد ببن تدمر والرصافة الشامية .
(3) ألزه به : ألزمه إباه .
(4) في اللسان : ( يقال رمى فلان بحجر الأرض ، إذا رمى بداهية من الرجال ) ، وروى صاحب اللسان حديث الأحنف في ( 3 : 237 ) .
(5) أي في أول الإسلام .
(6) في الأصل : ( فإن شئت أن تجعلني ثانيا أو ثالثا ) ، وصوابه وتكملته من الطبري .
(7) في الأصل : ( نصرا ) وأثبت ما في ح .
(8) عبد الله بن قيس ، هو أبو موسى الأشعري ، توفى سنة 42 أو 43 وهو ابن نيف وستين سنة .

واقعة صفين _ 477 _

  فابعثني ووالله لا يحل عقدة إلا عقدت لك أشد منها فإن قلت : إني لست من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فابعث رجلا من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) غير عبد الله بن قيس (1) ، وابعثني معه ، فقال علي : إن القوم أتوني بعبد الله بن قيس مبرنسا ، فقالوا (2) : ابعث هذا ، فقد رضينا به ، والله بالغ أمره ، وذكروا أن ابن الكواء قام إلى علي فقال : هذا عبد الله بن قيس وافد أهل اليمن إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وصاحب مقاسم أبي بكر (3) ، وعامل عمر ، وقد ( رضى به القوم ) وعرضنا على القوم عبد الله بن عباس فزعموا أنه قريب القرابة منك ، ظنون في أمرك (4) ، فبلغ ذلك أهل الشام فبعث أيمن بن خريم الأسدي ، وهو معتزل لمعاوية ، هذه الأبيات ، وكان هواه أن يكون هذا الأمر لأهل العراق فقال :
لـو  كـان للقوم رأي يعصمون به      من الضلال رموكم بابن عباس  (5)
لـلـه در أبـيـه أيـمـا iiرجـل      مـا مثله لفصال الخطب في iiالناس
لـكن رمـوكم بشيخ من ذوي iiيمن      لـم يدر ما ضرب أخماس iiلأسداس
إن  يـخل عمرو به يقذفه في iiلجج      يـهوى بـه النجم تيسا بين iiأتياس
أبـلغ لـديك عليا غير عاتبه  (6)      قول  امرئ لا يرى بالحق من iiباس
ما الأشعري ، بمأمون ، أبا حسن ii،      فـاعلم هديت وليس العجز كالراس
فـاصدم بـصاحبك الأدنى زعيمهم      إن  ابـن عـمك عباس هو iiالآسى
---------------------------
(1) ( غير عبد الله بن قيس ) ليست في ح .
(2) في الأصل : ( فقال ) صوابه في ح .
(3) صاحب المقاسم : الذي يتولى أمر قسمة المغانم ونحوها .
(4) الظنون كالظنين : المتهم .
(5) في الأصل : ( يعظمون به ، بعد الخطار ) صوابه في ح .
(6) في الأصل : ( غير عائبه ) وأثبت ما في ح ( 1 : 190 ) .

واقعة صفين _ 478 _

  قال : فلما بلغ الناس قول أيمن طارت أهواء قوم من أولياء علي عليه السلام وشيعته (1) إلى عبد الله بن عباس ، وأبت القراء إلا أبا موسى ، وفي حديث عمر بن سعد قال : قال بسر بن أرطاة : لقد رضى معاوية بهذه المدة ، ولئن أطاعني لينقصن هذه المدة ، قال أيمن بن خريم بن فاتك ، وكان قد اعتزل عليا ومعاوية ثم قارب أهل الشام ولم يبسط بدا :
أمـا  والـذي أرسـى ثـبيرا iiمـكانه      وأنـزل ذا الـفرقان فـي لـيلة iiالقدر
لـئن  عـطفت خـيل الـعراق iiعليكم      ولـلـه لا لـلـناس عـاقـبة الأمـر
تـقـحمها  قـدما عـدي بـن iiحـاتم      والاشـتر يهدى الخيل في وضح iiالفجر
وطـاعنكم فـيها شـريح بـن هـانئ      وزحـر  بـن قـيس بـالمثقفة iiالسمر
وشـمر فـيها الأشـعث الـيوم iiذيـله      تـشبهه  (2) بـالحارث بـن أبي iiشمر
لـتـعرفه  يـابسر يـوما عـصبصبا      يـحرم أطـهار النساء من الذعر  (3)
يـشيب  ولـيد الـحي قـبل iiمـشيبه      وفي بعض ما أعطوك راغية البكر  (4)
وعـهدك  يـابسر بـن أرطـاة iiوالقنا      رواء مـن أهـل الشام أظماؤها تجري
وعـمرو بـن سـفيان عـلى شر iiآلة      بـمعترك حـام أحـر من الجمر  (5)
  قال : فلما سمع القوم الذين كرهوا المدة قول أيمن بن خريم كفوا عن الحرب وكان أيمن رجلا عابدا مجتهدا ، قد كان معاوية جعل له فلسطين على أن يتابعه ويشايعه على قتال علي (6) ، فبعث إليه أيمن :

---------------------------
(1) بدلها في الأصل : ( طارت أهواؤهم ) وما هنا من ح .
(2) في الأصل : ( يشبهه ) والمقطوعة لم ترد في ح .
(3) انظر ص 46 س 2 .
(4) انظر ص 45 السطر الأخير .
(5) الآلة : الحالة ، قال : قد أركب الآلة بعد الآله .
(6) في الأصل : ( على أن يبايعه على قتل علي ) ، و أثبت ما في ح .