نصر بن مزاحم المنقري
تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون


المقدمة
  المتوفى سنة 212 أخبرنا الشيخ الحافظ شيخ الإسلام أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك ابن أحمد بن الحسن الأنماطي (1) قال : أخبرنا الشيخ أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي (2) بقراءتي عليه في شهر ربيع الآخر من سنة أربع وثمانين وأربعمائة ، وقال : أخبرنا أبو يعلى أحمد بن عبد الواحد بن محمد ابن جعفر الوكيل (3) قراءة عليه وأنا أسمع ، في رجب من سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة ، قال :

---------------------------
(1) كان أبو البركات محدث بغداد ، وهو أحد حفاظ الحنابلة ، ولد سنة 462 وقرأ على ابن الطيوري جميع ما عنده ، وقال ابن الجوزي : ( كنت أقرأ عليه الحديث وهو يبكي ، فاستفدت ببكائه أكثر من استفادتي بروايته ) ، وتوفى سنة 538 ، انظر المنتظم ( 10 : 108 ـ 109 ) وصفة الصفوة ( 2 : 281 ) وتذكرة الحفاظ ( 4 : 75 ـ 76 ) وشذرات الذهب ( 4 : 116 ـ 117 ) .
(2) هو أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد بن القاسم بن أحمد الصيرفي الطيوري ، ويعرف أيضا بابن الحمامي ، والمحدث البغدادي ، سمع أبا علي بن شاذان ، وأبا الفرج الطناجيري وأبا الحسن العتيقي ، وأبا محمد الخلال ، وكان عنده ألف جزء بخط الدارقطني ، وأكثر عنه السلفي ، وانتقى عليه مائة جزء تعرف بالطيوريات ، وابن الحمامي بتخفيف الميم ، كما في لسان الميزان ( 5 : 11 ) ، ولد سنة 411 وتوفى سنة 500 ، انظر المنتظم ( 9 : 154 ) ولسان الميزان ( 5 : 9 ـ 11 ) وشذرات الذهب ( 3 : 412 ) .
(3) هو أحمد بن عبد الواحد بن محمد بن جعفر بن أحمد بن جعفر بن الحسن بن وهب ، أبو يعلى ، المعروف بابن زوج الحرة ، سمع موسى بن جعفر ، وأبا الحسن الدارقطني ، قال الطيب البغدادي : كتبت عنه ، وكان صدوقا يسكن درب المجوس من نهر طابق ، وسألته عن مولده فقال : ولدت بعد أن استخلف القادر بالله بأربعين يوما ، وكان ستخلاف القادر بالله في يوم السبت الحادي عشر من شهر رمضان سنة إحدى وثمانين وثلثمائة .

واقعة صفين _ 2 _

الجزء الأول
  أخبرنا أبو الحسن محمد بن ثابت بن عبد الله بن محمد بن ثابت الصيرفي (1) ، قراءة عليه وأنا أسمع ، قال : أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد ابن ( محمد (2) بن عقبة بن الوليد بن همام بن عبد الله بن الحمار بن سلمة ابن سمير (3) بن أسعد بن همام (4) بن مرة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة ابن صعب بن علي بن بكر بن وائل ، قراءة عليه في سنة أربعين وثلاثمائة ، قال : أخبرنا أبو محمد سليمان بن الربيع بن هشام النهدي الخزاز (5) ، قال : استخلاف القادر بالله في يوم السبت الحادي عشر من شهر رمضان سنة إحدى وثمانين وثلثمائة ، ومات أبو يعلى في يوم الخميس الرابع والعشرين من شهر شوال سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة ، ودفن من يومه بباب الدير قريبا من قبر معروف الكرخي ) ، انطر تاريخ بغداد ( 4 : 270 ) .

---------------------------
(1) ترجم له الخطيب في تاريخ بغداد ( 2 : 111 ) وقال : سمع إسماعيل بن محمد الصفار ، وأبا عمرو بن السماك ، وعبد الصمد بن علي الطستي ، وذكر أن وفاته في سنة 393 ، وهي السنة التي توفى فيها أبو الفتح عثمان بن جني ، والقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني .
(2) هذه التكملة ثابتة في سائر أسانيد أجزاء الكتاب ، وكذلك في ترجمته من منتهى المقال ص 225 ، قال : ( سمع منه التلعكبري بالكوفة وببغداد ، وله منه إجازة ) ، والتلعكبري الذي يشير إليه هو أبو محمد هارون بن موسى بن أحمد بن سعيد الشيباني ، ترجم له صاحب منتهى المقال في ص 320 ـ 321 .
(3) ما بعد ( الوليد ) إلى هنا لم أجده فيما لدي من المراجع .
(4) ذكر في نهاية الأرب ( 2 : 333 ) : ( الأسعد بن همام ) ، وانظر لإدخال أل على الأعلام التي هي في الأصل صفات ما كتبت في حواشي الحيوان ( 3 : 382 ) ومجلة الثقافة 2152 .
(5) هو أبو محمد سليمان بن الربيع بن هشام بن عزور بن مهلهل ، النهدي الكوفي ، قدم بغداد وحدث بها عن حصين بن مخارق ، وهمام بن مسلم الزاهد ، وأبي نعيم الفضل بن دكين ، وروي عنه محمد بن جرير الطبري ، ويحيى بن صاعد ، ومحمد بن مخلد العطار ، توفى بالكوفة سنة 274 ، انظر تاريخ بغداد ( 9 : 54 ـ 55 ) ولسان الميزان ( 3 : 91 ) .

واقعة صفين _ 3 _

  أنبأنا نصر بن مزاحم التميمي ، قال عمر بن سعد بن أبي الصيد الأسدي (1) عن الحارث بن حصيرة (2) عن عبد الرحمن بن عبيد بن أبي الكنود وغيره قالوا : لما قدم علي بن أبي طالب من البصرة إلى الكوفة يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة مضت من رجب سنة ست وثلاثين ، وقد أعز الله نصره وأظهره علي عدوه ، ومعه أشراف الناس وأهل البصرة ، استقبله أهل الكوفة وفيهم قراؤهم وأشرافهم ، فدعوا له بالبركة وقالوا : يا أمير المؤمنين ، أين تنزل ؟ أتنزل القصر ؟ فقال : لا ، ولكني أنزل الرحبة ، فنزلها وأقبل حتى دخل المسجد الأعظم فصلى فيه ركعتين ، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله وقال : ( أما بعد يا أهل الكوفة فإن لكم في الإسلام فضلا ما لم تبدلوا وتغيروا ، دعوتكم إلى الحق فأجبتم ، وبدأتم بالمنكر فغيرتم ، ألا إن فضلكم فيما بينكم وبين الله في الأحكام والقسم ، فأنتم أسوة من أجابكم ودخل فيما دخلتم فيه ، ألا إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى ، وطول الأمل ، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق ، وأما طول الأمل فينسي الآخرة ، ألا إن الدنيا قد ترحلت مدبرة ، والآخرة ترحلت مقبلة ، ولكل واحدة منها بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ، اليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل .

---------------------------
(1) في ميزان الاعتدال ( 2 : 258 ) : ( عمر بن سعد ، عن الأعمش ، شيعي بغيض ، قال أبو حاتم : متروك الحديث ) .
(2) هو الحارث بن حصيرة الأزدي ، أبو النعمان الكوفي ، روى عن زيد بن وهب وأبي صادق الأزدي ، وجابر الجعفي ، وعنه : عبد الواحد بن زياد ، والثوري ، ومالك بن مغول ، وعبد السلام بن حرب ، قال ابن عدي : عامة روايات الكوفيين عنه في فضائل أهل البيت ، وهو يعد من المحترفين بالكوفة في التشيع ، وحصيرة ، بفتح المهملة وكسر المهملة بعدها ، وفي الأصل : ( حضيرة ) بالضاد المعجمة ، تحريف ، انظر تهذيب التهذيب ( 2 : 140 ) وتقريب التهذيب 87 .

واقعة صفين _ 4 _

  الحمد لله الذي نصر وليه ، وخذل عدوه ، وأعز الصادق المحق ، وأذل الناكث المبطل ، عليكم بتقوى الله وطاعة من أطاع الله من أهل بيت نبيكم ، الذين هم أولى بطاعتكم فيما أطاعوا الله فيه ، من المنتحلين المدعين المقابلين إلينا (1) ، يتفضلون بفضلنا ، ويجاحدونا أمرنا ، وينازعونا حقنا ، ويدافعونا عنه (2) ، فقد ذاقوا وبال ما اجترحوا فسوف يلقون غيا ، ألا إنه قد قعد عن نصرتي منكم رجال فأنا عليهم عاتب زار ، فاهجروهم وأسمعوهم ما يكرهون حتى يعتبوا (3) ، ليعرف بذلك حزب الله عند الفرقة ) ، فقام إليه مالك بن حبيب اليربوعي ـ وكان صاحب شرطته ـ فقال : والله إني لأرى الهجر وإسماع المكروه لهم قليلا ، والله لئن أمرتنا لنقتلنهم ، فقال علي : سبحان الله يا مال ، جزت المدى ، وعدوت الحد ، وأغرقت في النزع ! فقال : يا أمير المؤمنين ، لبعض الغشم أبلغ في أمور تنو بك من مهادنة الأعادي ، فقال علي : ليس هكذا قضى الله يا مال ، قتل النفس بالنفس فما بال الغشم (4) ، وقال : ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ) ، والإسراف في القتل أن تقتل غير قاتلك ، فقد نهى الله عنه ، وذلك هو الغشم ، فقام إليه أبو بردة بن عوف الأزدي ـ وكان ممن تخلف عنه ـ فقال :

---------------------------
(1) في ح ( 1 : 256 ) : ( القائلين إلينا ) .
(2) كذا وردت الأفعال الثلاثة هنا وفي بحذف نون الرفع لغير ناصب أو جازم ، وهي لغة صحيحة ، انظر خزانة الأدب ( 3 : 525 ـ 526 ) .
(3) الإعتاب : إعطاء العتبى ، وهي الرضا ، وأعتبني فلان : ترك ما كنت أجد عليه من أجله .
(4) في ح ( 1 : 257 ) ( قال سبحانه النفس بالنفس فما بال ذكر النفس ) .

واقعة صفين _ 5 _

  يا أمير المؤمنين ، أرأيت القتلى حول عائشة والزبير وطلحة ، بم قتلوا (1) ؟ قال : ( قتلوا شيعتي وعمالي ، وقتلوا أخا ربيعة العبدي ، رحمة الله عليه ، في عصابة من المسلمين قالوا : لا ننكث كما نكثتم ، ولا نغدر كما غدرتم ، فوثبوا عليهم فقتلوهم ، فسألتهم أن يدفعوا إلى قتلة إخواني أقتلهم بهم ، ثم كتاب الله حكم بيني وبينهم ، فأبوا علي ، فقاتلوني وفي أعناقهم بيعتي ، ودماء قريب من ألف رجل من شيعتي ، فقتلتهم بهم ، أفي شك أنت من ذلك ؟ ) ، قال : قد كنت في شك ، فأما الآن فقد عرفت ، واستبان لي خطأ القوم ، وأنك أنت المهدي المصيب ، وكان أشياخ الحي يذكرون أنه كان عثمانياً ، وقد شهد مع علي على ذلك صفين ، ولكنه بعد ما رجع كان يكاتب معاوية ، فلما ظهر معاوية أقطعه قطيعة بالفلوجة (2) ، وكان عليه كريما ، ثم إن عليا تهيأ لينزل ، وقام رجال ليتكلموا ، فلما رأوه نزل جلسوا وسكتوا ، نصر : أبو عبد الله سيف بن عمر ، عن سعد بن طريف ، عن الأصبغ بن نباتة ، أن عليا لما دخل الكوفة قيل له : أي القصرين ننزلك ؟ قال : ( قصر الخبال لا تنزلونيه ) ، فنزل على جعدة بن هبيرة المخزومي (3) ، نصر ، عن الفيض بن محمد ، عن عون بن عبد الله بن عتبة ، قال : لما قدم علي الكوفة نزل على باب المسجد فدخل وصلي ، ثم تحول فجلس إليه الناس ، فسأل عن رجل من أصحابه كان ينزل الكوفة ، فقال قائل : استأثر الله به .

---------------------------
(1) في ح : ( علام قتلوا ، أو قال : بم قتلوا ؟ ) .
(2) الفلوجتان : قريتان كبيرتان من سواد بغداد والكوفة قرب عين التمر ، ويقال الفلوجة الكبرى والفلوجة الصغرى والفلوجة العليا والفلوجة السفلى علي الكوفة نزل على باب المسجد فدخل وصلي ، ثم تحول فجلس إليه الناس ، فسأل عن رجل من أصحابه كان ينزل الكوفة ، فقال قائل : استأثر الله به ، أيضا .
(3) قال ابن أبي الحديد : ( قلت : جعدة ابن أخت هانئ بنت أبي طالب ، كانت تحت هبيرة بن أبي وهب المخزومي ، فأولدها جعدة ) .

واقعة صفين _ 6 _

  فقال : ( إن الله لا يستأثر بأحد من خلقه ) ، وقرأ : ( وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ) ، قال : فلما لحق الثقل قالوا : أي القصرين تنزل ؟ فقال : ( قصر الخبال لا تنزلونيه (1) ) ، نصر ، عن سيف قال : حدثني إسماعيل بن أبي عميرة ، عن عبد الرحمن ابن عبيد بن أبي الكنود ، أن سليمان بن صرد الخزاعي (2) دخل على علي ابن أبي طالب بعد رجعته من البصرة ، فعاتبه وعذله وقال له : ( ارتبت وتربصت وراوغت ، وقد كنت من أوثق الناس في نفسي وأسرعهم ـ فيما أظن ـ إلى نصرتي ، فما قعد بك عن أهل بيت نبيك ، وما زهدك في نصرهم ؟ ) . فقال يا أمير المؤمنين ، لا تردن الأمور على أعقابها ، ولا تؤنبني بما مضى منها واستبق مودتي يخلص (3) لك نصيحتي ، وقد بقيت أمور تعرف فيها وليك من عدوك ، فسكت عنه وجلس سليمان قليلا ، ثم نهض فخرج إلى الحسن بن علي وهو قاعد في المسجد ، فقال : ألا أعجبك من أمير المؤمنين وما لقيت منه من التبكيت والتوبيخ ؟ فقال له الحسن : إنما يعاتب من ترجى مودته ونصيحته .

---------------------------
(1) ح : ( قالوا انزل القصر ، فقال : قصر الجبال لا تنزلوا فيه ) ، ولم أجد ذكرا لهذا القصر برسميه اللذين وردا في الأصل ، لكن وجدت السيد فرج الله الحسيني قد كتب ( أراد منه ( عليه السلام ) قصر دار الامارة ؛ فكأنه سماها به لما وقع فيها قبله من أمراء الجور وعمال أهل النفاق والشقاق ، من الهلكة والنقصان ) .
(2) هو سليمان بن صرد ، المهملة وفتح الراء ، بن الجون الخزاعي ، أبو مطرف الكوفي ، صحابي جليل ، قال ابن حجر : وكان خيرا فاضلا شهد صفين مع علي وقتل حوبشا مبارزة ، ثم كان ممن كاتب الحسين ثم تخلف عنه ، ثم قدم هو والمسيب بن نجبة في آخرين فخرجوا في الطلب بدمه وهم أربعة آلاف ، فالتقاهم عبيد الله بن زياد بعين الوردة بعسكر مروان ، فقتل سليمان ومن معه ، وذلك في سنة خمس وستين ، انظر الإصابة وتهذيب التهذيب .
(3) ح : ( تخلص ) .

واقعة صفين _ 7 _

   فقال : إنه بقيت أمور سيستوسق فيها القنا(1) ، وينتضي فيها السيوف ويحتاج فيها إلى أشباهي ، فلا تستغشوا عتبي (2) ، ولا نتهموا نصيحتي ، فقال له الحسن : رحمك الله : ما أنت عندنا بالظنين ، نصر ، عن عمر ـ يعني ابن سعد ـ عن نمير بن وعلة (3) عن الشعبي (4) ، أن سعيد بن قيس دخل على علي بن أبي طالب فسلم عليه ، فقال له علي : ( وعليك ، وإن كنت من المتربصين ) ، فقال : حاش لله يا أمير المؤمنين لست من أولئك ، قال : فعل الله ذلك ) ، نصر ، عن عمر بن سعد ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن مخنف قال : دخلت مع أبي على علي ( عليه السلام ) حين قدم من البصرة ، وهو عام بلغت الحلم ، فإذا بين يديه رجال يؤنبهم ويقول لهم : ما بطأ بكم عني وأنتم أشراف قومكم ؟ والله لئن كان من ضعف النية وتقصير البصيرة ؟ إنكم لبور (5) ، والله لئن كان من شك في فضلي ومظاهرة على إنكم لعدو ) ، قالوا : حاش لله يا أمير المؤمنين ، نحن سلمك وحرب عدوك ، ثم اعتذر القوم ، فمنهم من ذكر عذره ، ومنهم من اعتل بمرض ، ومنهم من ذكر غيبة .

---------------------------
(1) القنا : الرماح ، والاستيساق : الاجتماع ، وفعله لازم ، وفي حديث أحد : ( استوسقوا كما يستوسق جرب الغنم ) ، أي استجمعوا وانضموا ، وبدلها في ح : ( سيسرع فيها القتال ) . (2) استغشه واغتشه : ظن به الغش ، وهو خلافه استنصحه ، وفي الأصل : ( لا تستبشعوا غيبتي ) صوابها في ح .
(3) ذكره في لسان الميزان مصحفا برسم نمير بن دعلمة .
(4) هو عامر بن شراحيل الحميري أبو عمرو الكوفي ، ثقة مشهور ، روى عن أبي هريرة ، وعائشة ، وابن عباس وغيرهم ، أو عنه ابن سيرين ، والأعمش ، وشعبة ، وجابر الجعفي ، لسان الميزان ( 6 : 840 ) .
(5) البور بالضم : الهالك ، يقال رجل بور ، ورجلان بور ، وقوم بور ، وكذلك الأنثى . . . . اللسان .

واقعة صفين _ 8 _

  فنظرت إليهم فإذا عبد الله بن المعتم العبسي(1) ، وإذا حنظلة بن الربيع التميمي ـ وكلاهما كانت له صحبة ـ وإذا أبو بردة بن عوف الأزدي ، وإذا غريب بن شرحبيل الهمداني ، قال : ونظر علي إلى أبى فقال : ( لكن مخنف بن سليم وقومه لم يتخلفوا ، ولم يكن مثلهم مثل القوم الذين قال الله تعالى : ( وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معكم شهيدا ، ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما (2) ) ، ثم إن عليا مكث بالكوفة ، فقال الشني في ذلك (3) شن بن عبد القيس :
قـل  لهذا الإمام قد خبت iiالحرب      وتــمـت بـذلـك iiالـنـعماء
وفرغنا من حرب من نقض العه‍د      وبـالـشـام حـيـة iiصـمـاء
تـنفث  الـسم مـا لـمن نهشته      فـارمها  قـبل أن تـعض iiشفاء
إنـه  والـذي يـحج لـه الناس      ومــن دون بـيـته الـبـيداء

---------------------------
(1) هو عبد الله بن المعتم ، بضم الميم وسكون المهملة وفتح المثناة وتشديد الميم ، قال ابن حجر : ( له صحبة ، وهو ممن تخلف عن علي يوم الجمل . . . وقال أبو زكريا الموصلي في تاريخ الموصل : هو الذي فتح الموصل ) ، وفي ح : ( عبيد الله ) بالتصغير ، محرف ، انظر الإصابة 4957 .
(2) الآيتان 72 ، 73 من سورة النساء .
(3) هو الأعور الشني ، بشر بن منقذ ، أحد بني شن بن أفصي بن عبد القيس بن أفصي بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار ، قال الآمدي : ( شاعر خبيث ، وكان مع علي ( عليه السلام ) يوم الجمل ) ، انظر المؤتلف 38 ، 60 .

واقعة صفين _ 9 _

ii
لضعيف  النخاع إن رمي iiاليوم      بـخيل كـأنها الأشـلاء  (1) ii
جـانحات  تحت العجاج iiسخالا      مـجهضات تخالها الأشلاء (2)
تـتبارى بـكل أصـيد كالفحل      بـكـفيه صـعـدة iiسـمـراء
ثـم لا يـنثني الـحديد iiولـما      يـخضب  العاملين منها iiالدماء
إن  تذره (3) فما معاوية iiالده‍ر      بـمـعطيك  مـا أراك iiتـشاء
ولـنيل  السماك أقرب من iiذاك      ونـجم الـعيوق والـعواء (4)
فاضرب الحد والحديد (5) إليهم      لـيـس  والله غـير ذاك iiدواء
   حدثنا نصر عن أبي عبد الله سيف بن عمر ، عن الوليد بن عبد الله ، عن أبي طيبة (6) ، عن أبيه قال : أتم على الصلاة يوم دخل الكوفة ، فلما كانت الجمعة وحضرت الصلاة صلى بهم وخطب خطبة .

---------------------------
(1) أشلاء الانسان : أعضاؤه بعد البلى والتفرق ، وقد مثل الخيل في تفرقها للغارة بالأعضاء المتناثرة .
(2 ) جانحات : أراد أنها تكسر جوانح هذه السخال ، والجوانح : الضلوع القصار التي في مقدم الصدر ، والواحدة جانحة ، يقال جنح البعير : انكسرت جوانحه من الحمل الثقيل ، والسخال : جمع سخلة ، وهي ولد الشاة من المعز والضأن ذكرا كان أو أنثى ، ويقال أيضا في الخيل ، كما هنا وكما في قول عبد الله بن عنمة : انظر المفضلية ( 114 : 9 طبع المعارف ) ، وفي الأصل وح : ( سحال ) محرفة ، والمجهضات : التي ألقيت لغير تمام ولما يستبن خلقها ، والأسلاء : جمع سلى ، وهو الجلدة الرقيقة التي يكون فيها الولد ، وفي البيت إقواء .
(3) في الأصل : ( أو تذره ) ، صوابه من ح .
(4) السماك والعيون والعواء : نجوم في السماء ، ح : ( ولنيل السماء ) .
(5) ح : ( فأعد بالجد والحديد ) ، صواب هذه : ( فاغد بالجد والحديد ) .
(6) أبو طيبة ، بفتح المهملة بعدها مثناة تحتة ساكنة ثم باء موحدة ، وأسمه عبد الله بن مسلم السلمي المروزي ، كان قاضيا بمرو .

واقعة صفين _ 10 _

  نصر : قال أبو عبد الله ، عن سليمان بن المغيرة ، عن علي بن الحسين : خطبة علي بن أبي طالب في الجمعة بالكوفة والمدينة : ( إن الحمد لله ، أحمده (1) وأستعينه وأستهديه ، وأعوذ بالله من الضلالة ، من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، انتجبه (2) لأمره ، واختصه بالنبوة ، أكرم خلقه وأحبهم إليه ، فبلغ رسالة ربه ، ونصح لأمته ، وأدى الذي عليه ، وأوصيكم بتقوى الله ، فإن تقوى الله خير ما تواصي به عباد الله وأقربه لرضوان الله ، وخيره في عواقب الأمور عند الله ، وبتقوى الله أمرتم ، وللإحسان والطاعة خلقتم ، فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه ، فإنه حذر بأسا شديدا ، واخشوا الله خشية ليست بتعذير (3) ، واعملوا في غير رياء ولا سمعة ، فإن من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل له ، ومن عمل لله مخلصا تولى الله أجره ، وأشفقوا من عذاب الله ، فإنه لم يخلقكم عبثا ، ولم يترك شيئا من أمركم سدى ، قد سمى آثاركم ، وعلم أعمالكم ، وكتب آجالكم ، فلا تغروا بالدنيا فإنها غرارة بأهلها ، مغرور من اغتر بها ، وإلى فناء ما هي ، وإن الآخرة هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون . أسأل الله منازل الشهداء ، ومرافقة الأنبياء ، ومعيشة السعداء ، فإنما نحن له وبه ) ، ثم إن عليا عليه السلام أقام بالكوفة ، واستعمل العمال .

---------------------------
(1) ح : ( الحمد الذي أحمده ) .
(2) في اللسان : ( انتجب فلان فلانا ، إذا استخلصه واصطفاه اختيارا على غيره ) ، ح : ( انتخبه ) ، والانتخاب بالخاء : الاختيار .
(3) التعذير : التقصير مع إظهار الاجتهاد ، وفي الحديث : ( جاء بطعام جشيب فكنا نعذر ) ، أي نقصر ونظهر أننا مجتهدون .

واقعة صفين _ 11 _

  نصر ، عن عمر بن سعد قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، والصقعب بن زهير عن يوسف وأبي روق ، أن عليا حين قدم من البصرة إلى الكوفة بعث يزيد بن قيس الأرحبي على المدائن وجوخا كلها .
  وقال أصحابنا : وبعث مخنف بن سليم على أصبهان وهمدان ، نصر ، عن محمد بن عبيد الله ، عن الحكم ، قال : لما هرب مخنف بالمال قال علي عليه السلام : ( عذرت القردان فما بال الحلم (1) ؟ ) ، ثم رجع إلى حديث عمر بن سعد ، قال : وبعث قرظة بن كعب على البهقباذات (2) ، وبعث قدامه بن مظعون الأزدي على كسكر ، وعدى بن الحارث على مدينة بهرسير وأستانها (3) ، وبعث أبا حسان البكري على أستان العالي (4) ، وبعث سعد بن مسعود الثقفي على أستان الزوابي (5) .

---------------------------
(1) القردان : جمع قراد ، بالضم ، والحلم جنس منه صغار ، قال الميداني : ( وهذا قريب من قولهم : ( استنت الفصال حتى القرعي ) ، وفي الأصل : ( غددت القردان فما بال الحكم ) محرف ، وصواب النص من مجمع الأمثال ( 1 : 443 ) ، ولم يذكر نسبته إلى علي .
(2) هن ثلاث بهقباذات ذكرها ياقوت في معجمه ، وبهقباذ ، بالكسر ثم السكون وضم القاف وباء موحدة وألف وذال معجمة ، ثلاث كور ببغداد منسوبة إلى قباذ بن فيروز والد أنو شروان ، وفي الأصل : ( البهقياذات ) محرفة .
(3) بهرسير ، بالفتح ثم الضم وفتح الراء وكسر السين المهملة : من نواحي سواد بغداد ، والأستان ، قال العسكري : مثل الرستاق بالضم : السواد والقرى ، انظر معجم البلدان ( 1 : 223 س 12 ) والقاموس ( رزدق ورستق ) ، والأستان ، بالضم ، كما في القاموس .
(4) في معجم البلدان : ( الأستان العالي ) وقال : كورة في غربي بغداد من السواد تشتمل على أربعة طساسيج : وهي الأنبار ، وبادرويا ، وقضربل ، ومسكن .
(5) الزوابي ، بالزاي المعجمة ، قال ياقوت : ( في العراق أربعة أنهر ، نهران فوق بغداد ونهران تحتها ، يقال لكل واحد منها الزاب ) ، وقال في مادة ( الزاب ) : ( وربما قيل لكن واحد زابي والتثنيه زابيان . . . وإذا جمعت قيل لها الزوابي ) ، وقد تكون : الروابي ( ، ففي المعجم : ) روابي بني تميم من نواحي الرقة ، عن نصر ) .

واقعة صفين _ 12 _

  واستعمل ربعي بن كاس على سجستان ـ وكاس أمه يعرف بها ـ وهو من بني تميم ، وبعث خليدا إلى خراسان ، فسار خليد حتى إذا دنا من نيسابور بلغه أن أهل خراسان قد كفروا ونزعوا يدهم من الطاعة ، وقدم عليهم عمال كسرى من كابل ، فقاتل أهل نيسابور فهزمهم وحصر أهلها وبعث إلى على بالفتح والسبي ، ثم صمد لبنات كسرى فنزلن على أمان ، فبعث بهن إلى علي ( عليه السلام ) ، فلما قدمن عليه قال : أزوجكن ؟ قلن : لا ، إلا أن تزوجنا ابنيك ، فإنا لا نرى لنا كفوا غيرهما ، فقال علي ( عليه السلام ) : اذهبا حيث شئتما ، فقام نرسا فقال : مر لي بهن ، فإنها منك كرامة ، فبيني وبينهن قرابة (1) . ففعل فأنزلهن نرسا معه ، وجعل يطعمهن ويسقيهن في الذهب والفضة ، ويكسوهن كسوة الملوك ، ويبسط لهن الديباج ، وبعث علي الأشتر على الموصل ونصيبين ، ودارا ، وسنجار ، وآمد ، وهيت ، وعانات ، وما غلب عليه من تلك الأرضين من أرض الجزيرة ، وبعث معاوية بن أبي سفيان الضحاك بن قيس على ما في سلطانه من أرض الجزيرة ، وكان في يديه حران والرقة والرها وقر قيسيا ، وكان من كان بالكوفة والبصرة من العثمانية قد هربوا فنزلوا الجزيرة في سلطان معاوية ، فخرج الأشتر وهو يريد الضحاك بن قيس بحران ، فلما بلغ ذلك الضحاك بعث إلى أهل الرقة فأمدوه ، وكان جل أهلها يومئذ عثمانية ، فجاءوا وعليهم سماك بن مخرمة ، وأقبل الضحاك يستقبل الأشتر ، فالتقى الضحاك وسماك بن مخرمة ، بمرج مرينا بين حران والرقة ، فرحل الأشتر حتى نزل عليهم فاقتتلوا اقتتالا شديدا حتى كان عند المساء ، فرجع الضحاك بمن معه فسار ليلته كلها حتى صبح بحران فدخلها ، وأصبح الأشتر فرأى ما صنعوا فتبعهم حتى نزل عليهم بحران فحصرهم ، وأتى الخبر معاوية فبعث إليهم عبد الرحمن بن خالد في خيل يغيثهم ، فلما بلغ ذلك الأشتر كتب كتائبه ، وعبى جنوده وخيله ، ثم ناداهم الأشتر :

---------------------------
(1) أشار ناسخ الأصل إلى أن في بعض النسخ : ( لأن بيني وبينهن قرابة ) .

واقعة صفين _ 13 _

  ألا إن الحي عزيز ، ألا إن الذمار منيع ، ألا تنزلون أيها الثعالب الرواغة ؟ احتجرتم احتجار الضباب ، فنادوا : يا عباد الله أقيموا قليلا ، علمتم والله أن قد أتيتم ، فمضى الأشتر حتى مر على أهل الرقة فتحرزوا منه ، ثم مضى حتى مر على أهل قرقيسيا فتحرزوا منه ، وبلغ عبد الرحمن بن خالد انصراف الأشتر فانصرف ، فلما كان بعد ذلك عاتب أيمن بن خريم الأسدي معاوية ، وذكر بلاء قومه بني أسد ( في مرج (1) ) مرينا ، وفي ذلك يقول :
أبـلغ أمـير الـمؤمنين iiرسالة      مـن  عـاتبين مـساعر iiأنجاد
مـنيتهم ، أن آثـروك ، iiمثوبة      فـرشدت  إذ لـم توف بالميعاد
أنـسيت إذ فـي كل عام iiغارة      في كل ناحية كرجل جراد    (2)
غارات أشتر في الخيول يريدكم      بـمـعرة ومـضـرة iiوفـساد
وضع  المسالح مرصدا iiلهلاككم      مـا بين عانات إلى زيداد  (3)
وحـوى  رساتيق الجزيرة iiكلها      غـصبا  بـكل طـمرة iiوجواد
لـما  رأى نيران قومي iiأوقدت      وأبـو  أنـيس فـاتر iiالإيـقاد
أمـضى  إلـينا خـيله ورجاله      وأغـذ  لا يـجرى لأمر iiرشاد
---------------------------
(1) الكلمتان ساقطتان من الأصل .
(2) الرجل ، بالكسر : الجراد الكثير ، وجمعه أرجال .
(3) زيداد ، لم أجد لها ذكرا في كتب البلدان ، ولعلها ( سنداد ) .

واقعة صفين _ 14 _
ثـرنا إلـيهم عـند ذلـك بالقنا      وبكل أبيض كالعقيقة صاد  (1) ii
في مرج مرينا  (2)  ألم تسمع بنا      نـبغي الإمـام بـه وفيه نعادي
لـو لا مـقام عشيرتي وطعانهم      وجـلادهم بـالمرج أي iiجـلاد
لأتـاك  أشـتر مذحج لا iiينثني      بالجيش ذا حنق عليك وآد  (3)
  نصر : عبد الله بن كردم بن مرثد ، قال : لما قدم علي ( عليه السلام ) حشر أهل السواد ، فلما اجتمعوا أذن لهم ، فلما رأى كثرتهم قال : إني لا أطيق كلامكم ، ولا أفقه عنكم ، فأسندوا أمركم إلى أرضاكم في أنفسكم ، وأعمه نصيحة لكم ، قالوا : نرسا ، ما رضى فقد رضيناه ، وما سخط فقد سخطناه ، فتقدم فجلس إليه فقال : أخبرني عن ملوك فارس كم كانوا ؟ قال : كانت ملوكهم في هذه المملكة الآخرة اثنين وثلاثين ملكا (4) ، قال : فكيف كانت سيرتهم ؟ قال : ما زالت سيرتهم في عظم أمرهم واحدة (5) ، حتى ملكنا كسرى بن هرمز ، فاستأثر بالمال والأعمال ، وخالف أولينا ، وأخرب الذي للناس ، وعمر الذي له ، واستخف بالناس ، فأوغر نفوس فارس ، حتى ثاروا عليه فقتلوه ، فأرملت نساؤه ويتم أولاده ، فقال : يا نرسا ، إن الله ( عز وجل ) خلق الخلق بالحق ، ولا يرضى من أحد إلا بالحق ، وفي سلطان الله تذكرة مما خول الله ، وإنها لا تقوم مملكة إلا بتدبير ، ولا بد من إمارة ، ولا يزال أمرنا متماسكا ما لم يشتم آخرنا أولنا ، فإذا خالف آخرنا أولنا وأفسدوا ، هلكوا وأهلكوا .

---------------------------
(1) العقيقة : البرق إذا رأيته في وسط السحاب كأنه سيف مسلول .
(2) شدد راء ( مرينا ) للشعر ، وأصلها التخفيف كما في القاموس ، ومرينا : فوم من أهل الحيرة من العباد ، قال الجواليقي : ( وليس مرينا بكلمة عربية ) ، وأنشد لامرئ القيس : فلو في يوم معركة أصيبوا ، ولكن في ديار بني مرينا .
(3) الآد والأيد : القوة .
(4) جعلهم المسعودي في التنبيه والإشراف 87 ـ 90 ثلاثين ملكا ، وهم الساسانيون .
(5) عظم الأمر بالضم والفتح : معظمه .

واقعة صفين _ 15 _

  ثم أمر عليهم أمراءهم . ثم إن عليا ( عليه السلام ) بعث إلى العمال في الآفاق ، وكان أهم الوجوه إليه الشام ، نصر ، عن محمد بن عبيد الله القرشي ، عن الجرجاني قال : لما بويع علي وكتب إلى العمال في الآفاق كتب إلى جرير بن عبد الله البجلي ، وكان جرير عاملا لعثمان على ثغر همدان (1) ، فكتب إليه مع زحر بن قيس الجعفي (2) : ( أما بعد فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ، وإني أخبرك عن نبأ (3) من سرنا إليه من جموع طلحة والزبير ، عند نكثهم بيعتهم (4) ، وما صنعوا بعاملي عثمان بن حنيف (5) ، إني هبطت من المدينة بالمهاجرين والأنصار ، حتى إذا كنت بالعذيب بعثت إلى أهل الكوفة بالحسن بن علي ، وعبد الله بن عباس ، وعمار بن ياسر ، وقيس بن سعد بن عبادة ، فاستنفروهم .
جرير بن عبد الله لا تردد الهدى      وبـايع  عـلينا إنني لك iiناصح
فإن عليا خير من وطئ iiالحصى      سوى  أحمد والموت غاد iiورائح
---------------------------
(1) همدان ، كذا وردت في الأصل وفي ح ( 1 : 246 ) ، وهما لغتان في همذان ، ولغة الإهمال هي الفارسية ، وبالإعجام معربة ، انظر معجم استينجاس 1509 . (2) زحر ، بفتح الزاي وسكون الحاء المهملة ، وهو زحر بن قيس الكوفي الجعفي ، أحد أصحاب علي بن أبي طالب ، أنزله المدائن في جماعة جعلهم هناك رابطة ، روي عنه عامر الشعبي ، وحصين بن عبد الرحمن ، انظر تاريخ بغداد 4605 ، ح : ( زجر ) محرف .
(3) ح : ( عن أنباء ) .
(4) ح : ( بيعتي ) .
(5) حنيف ، بهيئة التصغير ، وعثمان بن حنيف صحابي أنصاري ، شهد أحدا ، وكان علي استعمله على البصرة قبل أن يقدم عليها فغلبه عليها طلحة والزبير ، ومات في خلافة معاوية ، الاصابة 5427 .

واقعة صفين _ 16 _

  فأجابوا ، فسرت بهم حتى نزلت بظهر البصرة فأعذرت في الدعاء ، وأقلت العثرة ، وناشدتهم عقد سبيعتهم (1) فأبوا إلا قتالي ، فاستعنت بالله عليهم ، فقتل من قتل وولوا مدبرين إلى مصرهم ، فسألوني ما كنت دعوتهم إليه قبل اللقاء ، فقبلت العافية ، ورفعت السيف ، واستعملت عليهم عبد الله بن عباس ، وسرت إلى الكوفة ، وقد بعثت إليكم زحر (2) بن قيس ، فاسأل (3) عما بدا لك ) ، قال : فلما قرأ جرير الكتاب قام فقال : أيها الناس ، هذا كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وهو المأمون على الدين والدنيا ، وقد كان من أمره وأمر عدوه ما نحمد الله عليه ، وقد بايعه السابقون الأولون (4) من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان ، ولو جعل هذا الأمر شورى بين المسلمين كان أحقهم بها ، ألا وإن البقاء في الجماعة ، والفناء في الفرقة ، وعلى (5) حاملكم على الحق ما استقمتم ، فإن ملتم أقام ميلكم ، فقال الناس : سمعا وطاعة ، رضينا رضينا ، فأجاب جرير وكتب جواب كتابه بالطاعة ، وكان مع علي رجل من طيئ ، ابن أخت لجرير ، فحمل زحر بن قيس شعرا له إلى خاله جرير ، وهو :

---------------------------
(1) ح : (عهد بيعتهم ) .
(2) في الأصل وح : زجر ( بالجيم ) ، محرفة .
(3) في ح : ( فاسأله ) ، وفي الإمامة والسياسة ( 1 : 78 ) : ( فاسأله عنا وعنهم ) .
(4) ح : ( الناس الأولون ) .
(5) ح : ( وإن عليا ) .

واقعة صفين _ 17 _

ودع  عـنـك قـول الـناكثين فـإنما      اك  ، أبـا عـمرو ، كـلاب iiنـوابح
بـايـعـه  إن بـايـعته iiبـنـصيحة      ولا  يـك معها في ضميرك قادح  (1)
فـإنك  إن تـطلب بـه الـدين iiتعطه      وإن تـطـلب الـدنيا فـبيعك iiرابـح
وإن  قـلت عـثمان بـن عـفان iiحقه      عـلـى عـظيم والـشكور iiمـناصح
فـحـق  عـلـى إذ ولـيـك كـحقه      وشكرك ما أوليت في الناس صالح  (2)
وإن قـلت لا نـرضى عـليا iiإمـامنا      فـدع عـنك بـحرا ضل فيه iiالسوائح
أبــى  الله إلا أنــه خـير iiدهـره      وأفـضل مـن ضـمت عليه iiالأباطح
  ثم قام زحر بن قيس خطيبا (3) ، فكان مما حفظ من كلامه أن قال : ( الحمد لله الذي اختار الحمد لنفسه وتولاه دون خلقه ، لا شريك له في الحمد ، ولا نظير له في المجد ، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له ، القائم الدائم ، إله السماء والأرض ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالنور الواضح (4) والحق الناطق ، داعياً إلى الخير ، وقائدا إلى الهدى » ، ثم قال : ( أيها الناس ، إن عليا قد كتب إليكم كتابا لا يقال بعده إلا رجيع من القول ، ولكن لا بد من رد الكلام ، إن الناس بايعوا عليا بالمدينة من غير محاباة له بيعتهم ، لعلمه بكتاب الله وسنن الحق ، وإن طلحة والزبير نقضا بيعته علي غير حدث ، وألبا عليه الناس ، ثم لم يرضيا حتى نصبا له الحرب ، وأخرجا أم المؤمنين ، فلقيهما فأعذر في الدعاء ، وأحسن في البقية ، وحمل الناس على ما يعرفون ، هذا عيان ما غاب عنكم ، ولئن سألتم الزيادة زدناكم ، ولا قوة إلا بالله ، وقال جرير في ذلك :

---------------------------
(1) القادح ، بالتاف : أصله الاكل يقع في الشجر والأسنان ، والمراد به الغش والدخل ، وفي اللسان : ( قدح في ساق أخيه : غشه وعمل في شيء يكرهه ) ، وفي الأصل : ( فادح ) بالفاء ، وهو الحمل الثقيل والنازلة تنزل بالمرء ، والوجه ما أثبت من ح .
(2) وليه ، كرضيه : صار وليا له ، وسكن الياء للشعر .
(3) كذا في الأصل ، وفي ح : ( قال نصر : ثم إن جرير قام في أهل همدان خطيبا ) ، وعقب ابن أبي الحديد على هذه الخطبة والشعر الذي بعدها بقوله : ( قال نصر : فسر الناس بخطبة جرير وشعره ) ، انظر ح ( 1 : 247 ) ، وقد مضت خطبة لجرير في الصفحة السابقة فيصح ما هنا إن كان قد أشار إلى تلك الخطبة .
(4) في الأصل : ( بالحق الواضح ) وأثبت ما في ح .

واقعة صفين _ 18 _

تـانـا  كـتاب عـلي iiفـلم      نـرد الكتاب ، بأرض iiالعجم
ولـم  نـعص ما فيه لما أتى      ولـما نـذم  (1)  ولـما iiنـلم
نـحـن ولاة عـلى iiثـغرها      نـضيم  العزيز ونحمي الذمم
نـساقيهم الـموت عند iiاللقاء      بـكأس الـمنايا ونشفي القرم
طـحـناهم  طـحنة iiبـالقنا      وضـرب سيوف تطير iiاللمم
مـضينا  يـقينا عـلى iiديننا      وديـن الـنبي مـجلى iiالظلم
أمـيـن الإلــه iiوبـرهانه      وعـدل الـبرية iiوالـمعتصم
رسـول الـمليك ، ومن بعده      خـلـيفتنا  الـقائم iiالـمدعم
عـليا  عـنيت وصي iiالنبي      نـجالد عـنه غـواة iiالأمـم
له الفضل والسبق والمكرمات      وبيت  النبوة لا يهتضم  (2)
  وقال رجل (3) :
لعمر أبيك والأنباء تنمى      لقد  جلى بخطبته iiجرير

---------------------------
(1) في الأصل : ( ولما نضام ) ، صوابه من ح .
(2) بعد هذا في ح ، كما سبق : ( قال نصر : فسر الناس بخطبة جرير وشعره ) .
(3) ح : ( وقال ابن الازور القسري في جرير يمدحه بذلك ) .

واقعة صفين _ 19 _

وقال    مقالة   جدعت   iiرجالا      من    الحيين    خطبهم   iiكبير
بدا    بك    قبل    أمته   على      ومخك إن رددت الحق رير  (1)
أتاك   بأمره   زحر   بن  قيس      وزحر    بالتي   حدثت   خبير
فكنت   بما   أتاك   به   iiسميعا      وكدت   إليه   من  فرح  iiتطير
فأنت   بما   سعدت   به   iiولي      وأنت  لما  تعد  له نصير  (2) ii
ونعم   المرء   أنت   له  وزير      ونعم   المرء   أنت   له   أمير
فأحرزت  الثواب  ،  ورب حاد      حدا   بالركب   ليس  له  iiبعير
ليهنك   ما   سبقت   به  iiرجالا      من العلياء والفضل الكبير  (3)  ii
  وقال النهدي في ذلك :
أتـانـا بـالـنبا زحـر بـن قـيس      عظيم الخطب من جعف بن سعد  (4)
تـخـيره  أبــو حـسـن عـلـي      ولــم  يــك زنـده فـيها iiبـصلد
رمــى  أعـراض حـاجته iiبـقول      أخــوذ  لـلـقلوب بــلا iiتـعـد
فـسر الـحي مـن يـمن iiوأرضـى      ذوي الـعلياء مـن سـلفى معد  (5)
---------------------------
(1) مخ رير : ذائب فاسد من الهزال ، يقال مخ رار ، ورير بالكسر ، ورير بالفتح ، وفي الأصل : ( يزير ) وفي ح : ( وتفخر إن رددت الحق زير ) كلاهما محرف ، والصواب ما أثبت .
(2) في الأصل : ( بصير ) بالباء ، صوابه من ح .
(3) تقرأ بالرفع عطفا على : ( ما سبقت ) ، وبالجر عطفا على ( العلياء ) ، وفي القراءة الأخيرة إقواء .
(4) جعف ، أراد ( جعفي ) وحقها أن تنتهي في الرسم بالياء ، لكن كذا وردت في الأصل ، وجعفي ، بتشديد الياء ، هم بنو سعد العشيرة بن مذحج ، حي من اليمن .
(5) يعني ربيعة ومضر ابني نزار بن عدنان .

واقعة صفين _ 20 _

ولـم  يـك قـبله فـينا iiخـطيب      مـضى  قـبلى ولا أرجـوه بعدي
مـتى  يـشهد فـنحن بـه كـثير      وإن غاب ابن قيس غاب جدي (1)
ولـيس  بـموحشي أمـر إذا iiمـا      دنـا مـني وإن أفـردت iiوحـدي
لــه دنـيا يـعاش بـها iiوديـن      وفـي  الـهيجا كـذي شبلين iiورد
  قال : ثم أقبل جرير سائرا من ثغر همدان (2) حتى ورد على علي عليه السلام بالكوفة ، فبايعه ودخل فيما دخل فيه الناس ، من طاعة علي ، واللزوم لأمره ، ثم بعث إلى الأشعث بن قيس الكندي ، نصر : محمد بن عبيد الله ، عن الجرجاني قال : لما بويع علي وكتب إلى العمال ، كتب إلى الأشعث بن قيس مع زياد بن مرحب الهمداني ، والأشعث على أذربيجان عامل لعثمان ، وقد كان عمرو بن عثمان تزوج ابنة الأشعث بن قيس قبل ذلك ، فكتب إليه علي : ( أما بعد ، فلولا هنات كن فيك كنت المقدم في هذا الأمر قبل الناس ، ولعل أمرك يحمل بعضه بعضا إن اتقيت الله ثم إنه كان من بيعة الناس إياي ما قد بلغك ، وكان طلحة والزبير ممن بايعاني ثم نقضا بيعتي على غير حدث وأخرجا أم المؤمنين وسارا إلى البصرة ، فسرت إليهما فالتقينا ، فدعوتهم إلى أن يرجعوا فيما خرجوا منه فأبوا ، فأبلغت في الدعاء وأحسنت في البقية ، وإن عملك ليس لك بطعمة ، ولكنه أمانة ، وفي يديك مال من مال الله ، وأنت من خزان الله عليه حتى تسلمه إلى ، ولعلي ألا أكون شر ولاتك لك إن استقمت .

---------------------------
(1) الجد ، ها هنا : الحظ .
(2) كذا وردت بإهمال الدال ، كما هو أصلها الفارسي ، انظر التنبيه 1 ص 15 .

واقعة صفين _ 21 _

  ولا قوة إلا بالله فلما قرأ الكتاب قام زياد بن مرحب (1) فحمد الله وأثني عليه ثم قال : ( أيها الناس ، إن من لم يكفه القليل لم يكفه الكثير ، إن أمر عثمان لا ينفع فيه العيان ، ولا يشفي منه الخبر ، غير أن من سمع به ليس كمن عاينه ، إن الناس بايعوا عليا راضين به ، وأن طلحة والزبير نقضا بيعته على غير حدث ، ثم أذنا بحرب فأخرجا أم المؤمنين ، فسار إليهما فلم يقاتلهم وفي نفسه منهم حاجة ، فأورثه الله الأرض وجعل له عاقبة المتقين ) ، ثم قام الأشعث بن قيس ، فحمد الله وأثني عليه ثم قال : ( أيها الناس إن أمير المؤمنين عثمان ولاني أذربيجان ، فهلك وهي في يدي ، وقد بايع الناس علياً ، وطاعتنا له كطاعة من كان قبله ، وقد كان من أمره وأمر طلحة والزبير ما قد بلغكم ، وعلي المأمون علي ما غاب عنا وعنكم من ذلك الأمر ) .
  فلما أتى منزله دعا أصحابه فقال : إن كتاب علي قد أوحشني ، وهو آخذ بمال أذربيجان (2) ، وأنا لاحق بمعاوية ، فقال القوم : الموت خير لك من ذلك ، أتدع مصرك وجماعة قومك وتكون ذنبا لأهل الشام ؟ ! فاستحيا فسار حتى قدم على علي ، فقال السكوني ـ وقد خاف أن يلحق بمعاوية :
إني أعيذك بالذي هو مالك      بـمعاذة الآبـاء iiوالأجداد
---------------------------
(1) في الإمامة والسياسة 1 : 79 : ( زياد بن كعب ) .
(2) في الإمامة والسياسة : ( وهو آخذي بمال أذربيجان ) .

واقعة صفين _ 22 _

مـما  يـظن بـك الرجال ، iiوإنما      سـاموك  خـطة مـعشر iiأوغـاد
إن اذربـيـجان الـتـي iiمـزقتها      لـيست  لـجدك فاشنها ببلاد  (1)
كـانـت  بـلاد خـليفة ولا كـها      وقـضاء  ربـك رائـح أو iiغـاد
فـدع الـبلاد فـليس فـيها iiمطمع      ضربت عليك الأرض بالأسداد  (2)
فـادفع بـمالك دون نـفسك iiإنـنا      فـــادوك  بـالأمـوال iiوالأولاد
أنـت  الـذي تثني الخناصر iiدونه      وبـكبش كـندة يـستهل iiالـوادي
ومـعصب  بـالتاج مـفرق iiرأسه      مـلـك لـعمرك راسـخ iiالأوتـاد
وأطـع  زيـادا إنـه لـك iiناصح      لا شـك فـي قـول النصيح iiزياد
وانـظـر عـليا إنـه لـك جـنة      تـرشد  ويـهدك للسعادة هاد  (3)
---------------------------
(1) اشنها ، أراد اشنأها ثم حذف الهمزة وعامله معاملة المعتل ، والشناءة والشنآن : البغض .
(2) أي سد عليه الطريق فعميت مذاهبه ، وواحد الأسداد سد .
(3) في الأصل : ( يرشد ويهديك للسعادة ) محرف .

واقعة صفين _ 23 _

  ومما كتب به إلى الأشعث :
أبـلغ الأشـعث الـمعصب iiبالتاج      غـلاما حـتى عـلاه القتير  (1)
يـا  ابـن آل المرار من قبل iiالأم      وقـيس أبـوه غـيث iiمـطير (2)
قـد يـصيب الـضعيف مـا iiأمر      الله ويـخطي الـمدرب iiالـنحرير
قـد  أتـى قـبلك الرسول iiجريرا      فـتـلـقاه بـالـسرور iiجـريـر
وله الفضل في الجهاد وفي الهج‍ رة      والـديـن ، كــل ذاك iiكـثـير
إن  يـكن حـظك الـذى أنت iiفيه      فـحقير  مـن الـحظوظ صـغير
يـا  ابن ذي التاج والمبجل من iiكن‍      دة ، تـرضى بـأن يـقال أمير ii؟
أذربـيـجان حـسـرة iiفـذرنـها      وابـغـين  الـذي إلـيه iiتـصير
واقـبل الـيوم مـا يـقول iiعـلي      لـيـس  فـيـما يـقوله iiتـخيير
واقـبل  الـبيعة الـتي لـيس للنا      س  سـواها مـن أمـرهم iiقطمير
عـمرك الـيوم قـد تـركت iiعليا      هـل لـه فـي الذي كرهت iiنظير
---------------------------
(1) القتير : الشيب ، أو أول ما يظهر منه . يقول : كان ملكا من صباه إلى مشيبه .
(2) أبوه ، على الالتفات ، ولو لم يلتفت لقال : ( أبوك ) .

واقعة صفين _ 24 _

   ومما قيل على لسان الأشعث :
أتـانا الـرسول رسـول iiعلي      فـسـر بـمـقدمه الـمسلمونا
رسـول الـوصي وصي النبي      له الفضل والسبق في iiالمؤمنينا
بـما نـصح الله iiوالـمصطفى      رسـول  الإلـه الـنبي الأمينا
يـجاهد  فـي الله ، لا iiيـنثني      جميع الطغاة مع الجاحدينا  (1)
وزيــر الـنبي وذو iiصـهره      وسـيف  الـمنية في iiالظالمينا
وكـم بـطل مـاجد قـد iiأذاق      مـنية حـتف ، مـن iiالكافرينا
وكـم فـارس كان سال iiالنزال      فآب  إلى النار في الآئبينا  (2)
فــذاك عـلى إمـام iiالـهدى      وغيث  البرية والمقحمينا  (3)
وكـان إذا مـا دعـا iiلـلنزال      كليث عرين يزين العرينا  (4)
---------------------------
(1) جاهد العدو : قاتله ، وفي الكتاب : ( جاهد الكفار والمنافقين ) .
(2) سال : مخفف سأل ، قال حسان ( انظر ديوانه 67 والكامل 288 ليبسك ) :
(3) المقحمون : الذين أصابتهم السنة والجدب ، فأخرجتهم من البادية وأقحمتهم الحضر ، وفي الأصل : ( المفخمينا ) محرفة .
(4) في الأصل : ( بن ليث العرينا ) وهو تحريف .

واقعة صفين _ 25 _

سـالت  هذيل رسول الله iiفاحشة      ضلت هذيل بما سالت ولم تصب
أجـاب  الـسؤال بنصح iiونصر      وخـالص  ود عـلى iiالـعالمينا
فـمـا  زال ذلـك مـن iiشـأنه      فـفـاز وربـي مـع الـفائزينا
  ومما قيل على لسان الأشعث أيضا :
أتانا  الرسول رسول iiالوصي      عـلي  الـمهذب مـن iiهاشم
رسـول الوصي وصي iiالنبي      وخـير  الـبرية مـن قـائم
وزيـر الـنبي وذو iiصـهره      وخـير  الـبرية فـي iiالعالم
له الفضل والسبق بالصالحات      لـهدى  النبي به يأتمى  (1) ii
مـحمدا  اعـني رسول iiالإله      وغـيـث الـبرية iiوالـخاتم
أجـبنا  عـليا بـفضل iiلـه      وطـاعة  نـصح لـه دائـم
فـقـيه حـليم لـه iiصـولة      كـليث عـرين بـها iiسـائم
حـلـيم عـفيف وذو iiنـجدة      بـعيد مـن الـغدر iiوالـماثم
  وأنه قدم على علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بعد قدومه الكوفة ، الأحنف بن قيس ، وجارية بن قدامة ، وحارثة بن بدر ، وزيد بن جبلة ، وأعين بن ضبيعة ، وعظيم الناس بنو تميم ، وكان فيهم أشراف ، ولم يقدم هؤلاء على عشيرة من أهل الكوفة ، فقام الأحنف بن قيس ، وجارية بن قدامة ، وحارثة بن بدر ، فتكلم الأحنف فقال : ( يا أمير المؤمنين ، إنه إن تك سعد لم تنصرك يوم الجمل فإنها لم تنصر عليك . وقد عجبوا أمس ممن نصرك وعجبوا اليوم ممن خذلك ، لأنهم شكوا في طلحة والزبير ، ولم يشكوا في معاوية ، وعشيرتنا بالبصرة ، فلو بعثنا إليهم فقدموا إلينا فقاتلنا بهم العدو وانتصفنا بهم ، وأدركوا اليوم ما فاتهم أمس ! ) .

---------------------------
(1) يأتمي ، أراد يأتمم أي يأتم ، فقلب إحدى الميمين ياء ، وكذلك يفعلون ، كما قالوا في التظنن التظني ، وفي التنصص التقصي . وفي الأصل : ( يأتم ) محرفة .

واقعة صفين _ 26 _

  قال علي لجارية بن قدامة ـ وكان رجل تميم بعد الأحنف : ما تقول يا جارية ؟ قال : ( أقول هذا جمع حشره الله لك بالتقوى ، ولم تستكره فيه شاخصا ، ولم تشخص فيه مقيما ، والله لو لا ما حضرك فيه من الله لغمك سياسته ، وليس (1) كل من كان معك نافعك ، ورب مقيم خير من شاخص ، ومصراك خير لك ، وأنت أعلم ) ، فكأنه ( بقوله ) : ( كان معك ) ربما كره إشخاص قومه عن البصرة (2) ، وكان حارثة بن بدر أسد الناس رأيا عند الأحنف (3) ، وكان شاعر بني تميم وفارسهم ، فقال علي : ما تقول يا حارثة ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، إنا نشوب الرجاء بالمخافة ، والله لوددت أن أمواتنا (4) رجعوا إلينا فاستعنا بهم على عدونا ، ولسنا نلقى القوم بأكثر من عددهم ، وليس لك إلا من كان معك ، وإن لنا في قومنا عددا لا نلقى بهم عدوا أعدى من معاوية ، ولا نسد بهم ثغرا أشد من الشام ، وليس بالبصرة بطانة نرصدهم لها ، ولا عدو نعدهم له ، ووافق الأحنف في رأيه ، فقال علي للأحنف : اكتب إلى قومك ، فكتب الأحنف إلى بني سعد :

---------------------------
(1) في الأصل : ( وليس كل من كان معك ) والتكملة من الإمامة والسياسة لابن تتيبة 1 : 75 ، وقد سقطت منها كلمة ( ليس ) .
(2) في الأصل : ( فكأنه كان معك وربما كره . . . الخ ) ، والوجه فيما أثبت .
(3) أسد ، من سداد الرأى ، وهو استتامته وصحته ، وفي الأصل : ( أشد ) بالمعجمة ، تحريف .
(4) في الأصل : ( أمراءنا ) وصوابه من الإمامة والسياسة .

واقعة صفين _ 27 _

  ( أما بعد فإنه لم يبق أحد من بني تميم إلا وقد شقوا برأي سيدهم غيركم شقيت سعد بن خرشة برأي ابن يثربي ، وشقيت حنظلة برأي لحيان (1) ، وشقيت عدي برأي زفر ومطر ، وشقيت بنو عمرو بن تميم برأي عاصم بن الدلف ، وعصمكم الله برأيي لكم حتى نلتم ما رجوتم ، وأمنتم ما خفتم ، وأصبحتم منقطعين من أهل البلاء ، لاحقين بأهل العافية ، وإني أخبركم أنا قدمنا على تميم الكوفة فأخذوا علينا بفضلهم مرتين : بمسيرهم إلينا مع علي ، وميلهم إلى المسير إلى الشام ، ثم أخمروا (2) حتى صرنا كأنا لا نعرف إلا بهم ، فأقبلوا إلينا ولا تتكلوا عليهم ، فإن لهم أعدادنا من رؤسائهم ، وحنانا أن تلحق (3) فلا تبطئوا ، فإن من العطاء حرمانا ، ومن النصر خذلانا ، فحرمان العطاء القلة ، وخذلان النصر الإبطاء ، ولا تقضي الحقوق إلا بالرضا ، وقد يرضي المضطر بدون الأمل ) .
   وكتب معاوية بن صعصعة ، وهو ابن أخي الأحنف :
تـميم  بـن مـر إن أحـنف نعمة      من  الله لم يخصص بها دونكم سعدا
وعـم بـها من بعدكم أهل iiمصركم      لـيـالي ذم الـناس كـلهم الـوفدا
سـواه لقطع الحبل عن أهل iiمصره      فـأمسوا  جـميعا آكـلين بن رغدا
وإعـظامه الـصاع الصغير وحذفه      مـن  الدرهم الوافي يجوز له iiالنقدا
وكـان لـسعد رأيـه أمس iiعصمة      فلم يخط لا الإصدار فيهم ولا الوردا

---------------------------
(1) في الأصل : ( الحيان ) .
(2) أخمروا ، من الإخمار ، وهو الستر ، أي غلبوا عليهم ، وفي الأصل : ( ثم أحمسوا ) ، وفي الإمامة والسياسة : ( ثم انحشرنا معهم ) .
(3) كذا ، ولعلها : ( وجنانا لن نلحق ) ، جعلهم كالجن ، والجنان : جمع جان .

واقعة صفين _ 28 _

وفي هذه الأخرى له مخض iiزبدة      سيخرجها  عفوا فلا تعجلوا الزبدا
ولا  تـبطئوا عنه وعيشوا iiبرأيه      ولا  تـجعلوا مـما يقول لكم iiبدا
ألـيس خطيب القوم في كل iiوفدة      وأقـربهم  قـربا وأبـعدهم iiبعدا
وإن عـليا خـير حـاف iiوناعل      فـلا  تمنعوه اليوم جهدا ولا iiجدا
يـحارب من لا يحرجون iiبحربه      ومن لا يساوي دينه كله ردا  (1)
ومـن  نـزلت فـيه ثلاثون iiآية      تـسمية  فيها مؤمنا مخلصا iiفردا
سوى  موجبات جئن فيه iiوغيرها      بـها  أوجـب الله الولاية iiوالودا
  فلما انتهى كتاب الأحنف وشعر معاوية بن صعصعة إلى بني سعد ساروا بجماعتهم حتى نزلوا الكوفة ، فعزت بالكوفة وكثرت ، ثم قدمت عليهم ربيعة ـ ولهم حديث ـ وابتدأ خروج جرير إلى معاوية ، نصر : عمر بن سعد ، عن نمير بن وعلة ، عن عامر الشعبي ، أن عليا ( عليه السلام ) حين قدم من البصرة نزع جريرا همدان ، فجاء حتى نزل الكوفة ، فأراد علي أن يبعث إلى معاوية رسولا فقال له جرير : ابعثني إلى معاوية ، فإنه لم يزل لي مستنصحا وودا (2) ، فآتيه (3) فأدعوه على أن يسلم لك هذا الأمر ، ويجامعك على الحق ، على أن يكون أميرا من أمرائك ، وعاملا من عمالك ، ما عمل بطاعة الله ، واتبع ما في كتاب الله ، وأدعو أهل الشام إلى طاعتك وولايتك .

---------------------------
(1) الرد : الزائف من الدراهم ، وفي الأصل : ( ريدا ) ، ولا وجه له .
(2) الود ، بكسر الواو : الصديق ، كالحب بمعنى المحبوب ، والود ، بضم الواو : الصديق ، على حذف المضاف ، وجاء في اللسان : ( وفي حديث ابن عمر : إن أبا هذا كان ودا لعمر ، هو على حذف المضاف ، تقديره كان ذا ود لعمر ، أي صديقا ) .
(3) في الأصل : ( نأتيه ) ، تحريف ، وفي ح ( 1 : 247 ) : ( آتيه ) .

واقعة صفين _ 29 _

  وجلهم (1) قومي وأهل بلادي ، وقد رجوت ألا يعصوني ، فقال له الأشتر : لا تبعثه ودعه ، ولا تصدقه ، فو الله إني لأظن هواه هواهم ، ونيته نيتهم ، فقال له علي : دعه حتى ننظر ما يرجع به إلينا ، فبعثه على ( عليه السلام ) وقال له حين أراد أن يبعثه : إن حولي من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من أهل الدين والرأي من قد رأيت ، وقد اخترتك عليهم لقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيك : ( إنك من خير ذي يمن (2) ) ، ايت معاوية بكتابي ، فإن دخل فيما دخل فيه المسلمون وإلا فانبذ إليه (3) ، وأعلمه أني لا أرضى به أميرا ، وأن العامة لا ترضى به خليفة ) ، فانطلق جرير حتى أتى الشام ونزل بمعاوية ، فدخل عليه فحمد الله وأثنى عليه وقال : ( أما بعد يا معاوية فإنه قد اجتمع لأبن عمك أهل الحرمين وأهل المصرين (4) وأهل الحجاز ، وأهل اليمن ، وأهل مصر ، وأهل العروض وعمان ، وأهل البحرين واليمامة ، فلم يبق إلا أهل هذه الحصون التي أنت فيها ، لو سال عليها سيل من أوديته غرقها ، وقد أتيتك أدعوك إلى ما يرشدك ويهديك إلى مبايعة هذا الرجل ) ، ودفع إليه كتاب علي بن أبي طالب ، وفيه :

---------------------------
(1) ح : ( فجلهم ) بالفاء .
(2) من خير ذي يمن : أي من خير اليمن ، وفي اللسان ( 20 : 349 ) : ( ويقال أتينا ذا يمن ، أي أتينا اليمن ) .
(3) النبذ : أن يكون بينه وبين قوم هدنة فيخاف منهم نقض العهد ، فيلقي إليهم أنه قد نقض ما بينه وبينهم قبل أن يفجأهم بالقتال ، ومنه قول الله : ( وإما تخافن من قوم خيانة فانيذ إليهم على سواء ) .
(4) الحرمان : مكة والمدينة ، والمصران : البصرة والكوفة .

واقعة صفين _ 30 _

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

   أما بعد فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام (1) ؛ لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان علي ما بويعوا عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يرد ، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإذا اجتمعوا على رجل فسموه إماما (2) كان ذلك لله رضا ، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردوه إلى ما خرج منه ، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين ، وولاه (3) الله ما تولى ويصليه جهنم وساءت مصيرا ، وإن طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي ، وكان نقضهما كردهما ، فجاهدتهما ، على ذلك حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ، فأدخل فيما دخل فيه المسلمون ، فإن أحب الأمور إلى فيك العافية ، إلا أن تتعرض للبلاء ، فإن تعرضت له قاتلتك واستعنت الله (4) عليك ، وقد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه المسلمون ، ثم حاكم القوم إلى أحملك وإياهم على كتاب الله ، فأما تلك التي تريدها فخدعة الصبي عن اللبن ، ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان ، واعلم أنك من الطلقاء (5) الذين لا تحل لهم الخلافة ، ولا تعرض فيهم الشورى .

---------------------------
(1) في الأصل : ( . . بيعتي لزمتك بالمدينة وأنت بالشام ) ، والوجه ما أثبت من ح ، ( 1 : 248 ) .
(2) ح : ( إذا اجتمعوا على رجل وسموه إماما ) .
(3) في الأصل : ( ووليه ) ، وأثبت الصواب من ح .
(4) ح : ( بالله ) .
(5) الطلقاء : جمع طليق ، وهو الأسير الذي أطلق عنه إساره وخلى سبيله ، ويراد بهم الذين خلى عنهم رسول الله يوم فتح مكة وأطلقهم ولم يسترقهم .

واقعة صفين _ 31 _

   وقد أرسلت إليك وإلى من قبلك (1) جرير بن عبد الله ، وهو من أهل الإيمان والهجرة ، فبايع ولا قوة إلا بالله ) ، فلما قرأ الكتاب قام جرير فقال : الحمد لله المحمود بالعوائد (2) ، المأمول منه الزوائد ، المرتجى منه الثواب المستعان على النوائب ، أحمده وأستعينه في الأمور التي تخير دونها الألباب ، وتضمحل عندها الأسباب (3) ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، كل شئ هالك إلا وجهه ، له الحكم وإليه ترجعون ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بعد الفترة ، وبعد الرسل الماضية (4) والقرون الخالية (5) ، والأبدان البالية ، والجبلة الطاغية ، فبلغ الرسالة ، ونصح الأمة ، وأدى الحق الذي استودعه الله وأمره بأدائه إلى أمته ،( صلى الله عليه وآله وسلم ) من مبتعث ومنتجب (6) ، ثم قال : أيها الناس ، إن أمر عثمان قد أعيا من شهده ، فما ظنكم بمن غاب عنه ، وإن الناس بايعوا عليا غير واتر ولا موتور ، وكان طلحة والزبير ممن بايعه ثم نكثا بيعته على غير حدث ، ألا وإن هذا الدين لا يحتمل الفتن .

---------------------------
(1) كلمة : ( وإلى من قبلك ) ساقطة من ح .
(2) العوائد : جمع عائدة ، وهي المعروف ، والصلة ، والفضل .
(3) الأسباب : جمع سبب ، وهو كل ما يتوصل به إلى غيره ، وفي الأصل : ( الأرباب ) ولا وجه له ، وهذه الجملة ساقطة من ح .
(4) ح : ( بعد فترة من الرسل الماضية ) .
(5) الكلام بعد هذه الكلمة إلى : ( الطاغية ) ليس في ح .
(6) منتجب ، بالجيم : مختار ، وانظر ما سبق في ص 10 ، ح .

واقعة صفين _ 32 _

   : ( من رسول ومبتعث ومنتخب ) ، ألا وإن العرب لا تحتمل السيف (1) ، وقد كانت بالبصرة أمس ملحمة إن يشفع البلاء بمثلها فلا بقاء للناس ، وقد بايعت العامة (2) عليا ، ولو ملكنا الله أمورنا (3) لم نختر لها غيره ، ومن خالف هذا استعتب (4) ، فادخل يا معاوية فيما دخل فيه الناس ، فإن قلت : استعملني عثمان ثم لم يعزلني ، فإن هذا أمر لو جاز لم يقم لله دين ، وكان لكل امرئ ما في يديه ، ولكن الله لم يجعل للآخر من الولاة حق الأول ، وجعل تلك أمورا موطأة ، وحقوقا ينسخ بعضها بعضا ، ( ثم قعد ) ، فقال معاوية : انظر وننظر ، واستطلع رأي أهل الشام ، فلما فرغ جرير من خطبته أمر معاوية (5) مناديا فنادى : الصلاة جامعة ، فلما اجتمع الناس صعد المنبر ثم قال : الحمد لله الذي جعل الدعائم للإسلام أركانا ، والشرائع للإيمان برهانا ، يتوقد قبسه (6) في الأرض المقدسة التي جعلها الله محل الأنبياء والصالحين من عباده ، فأحلها أهل الشام (7) ، ورضيهم لها ورضيها لهم ، لما سبق من مكنون علمه من طاعتهم ومناصحتهم خلفاءه والقوام بأمره ، والذابين عن دينه وحرماته .

---------------------------
(1) ما بعد : ( الفتن ) إلى هنا ليس في ح .
(2) ح : ( الأمة ) .
(3) ح : ( ولو ملكنا الله الأمور ) .
(4) استعتب : استقال مما فرط منه .
(5) بدلها في ح : ( فمضت أيام وأمر معاوية ) .
(6) القبس : النار ، أو الشعلة منها ، وفي الأصل : ( قابسه ) صوابه من ح .
(7) أي أحل الأرض المقدسة أهل الشام ، وفي ح : ( فأحلهم أرض الشام ) ، وما في الأصل أولى وأقوى .

واقعة صفين _ 33 _

  ثم جعلهم لهذه الأمة نظاما ، وفي سبيل الخيرات أعلاما ، يردع الله بهم الناكثين ، ويجمع بهم ألفة المؤمنين ، والله نستعين على ما تشعب من أمر المسلمين بعد الالتئام ، وتباعد بعد القرب ، اللهم انصرنا على أقوام يوقظون نائمنا ، ويخيفون آمننا ، ويريدون هراقة دمائنا (1) ، وإخافة سبيلنا وقد يعلم الله أنا لم نرد بهم عقابا (2) ، ولا نهتك لهم حجابا ، ولا نوطئهم زلقا ، غير أن الله الحميد كسانا من الكرامة ثوبا لن ننزعه طوعا ما جاوب الصدى ، وسقط الندى ، وعرف الهدى ، حملهم على خلافنا البغي والحسد ، فالله نستعين عليهم (3) ، أيها الناس ، قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وأني خليفة عثمان بن عفان عليكم (4) ، وأني لم أقم رجلا منكم على خزاية قط (5) ، وأني ولي عثمان وقد قتل مظلوما ، والله يقول : ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ) ، وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان ) ، فقام أهل الشام بأجمعهم فأجابوا إلى الطلب بدم عثمان (6) ، وبايعوه على ذلك ، وأوثقوا له على أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم أو يدركوا بثأره ، أو يفني الله أرواحهم (7) ، فلما أمسى معاوية وكان قد اغتم بما هو فيه ، قال نصر :

---------------------------
(1) الهراقة ، بكسر الهاء : الإراقة ، كما في نص القاموس ، وضبطت في اللسان ضبط قلم مرة بالكسر ومرة بالفتح ، والأخيرة ليست من الصواب .
(2) ح : ( لا نريد لهم عقابا ) .
(3) ح : ( حملهم على ذلك البغي والحسد فتستعين الله عليهم ) .
(4) ح : ( وأمير المؤمنين عثمان بن عفان عليكم ) .
(5) الخزاية ، بالفتح : الاستحياء ، أراد عمل ما يستحيا منه
(6) في الأصل : ( إلى دم عثمان ) وأنبت ما في ح .
(7) في الأصل : ( يغني ) ، بالغين المعجمة ، تحريف ، وفي ح : ( أو تلحق أرواحهم بالله ) .

واقعة صفين _ 34 _

  فحدثني محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال : لما جن معاوية الليل واغتم وعنده أهل بيته ، قال :
تـطاول لـيلى واعترتني iiوساوسي      لات أتـى بالترهات البسابس  (1)
أتـانا  جـرير والـحوادث iiجـمة      بتلك التي فيها اجتداع المعاطس (2)
أكـابـده والـسيف بـيني iiوبـينه      ولـست لأثـواب الدني بلابس (3)
إن الـشام أعـطت طـاعة يـمنية      تـواصفها أشـياخها فـي iiالمجالس
فإن  يجمعوا أصدم عليا بجبهة  (4) ii       تـفت عـليه كـل رطـب iiويابس
وإنـي لأرجـو خـير ما نال iiنائل      ومـا  أنـا مـن ملك العراق iiبآيس
وإلا  يـكونوا عـند ظني iiبنصرهم      وإن يـخلفوا ظني كف عابس  (5)
  نصر ، قال : حدثني محمد بن عبيد الله ، عن الجرجاني قال : واستحثه جرير بالبيعة ، فقال : يا جرير ، إنها ليست بخلسة ، وإنه أمر له ما بعده ، فأبلعني ريقي حتى أنظر ، ودعا ثقاته فقال له عتبة بن أبي سفيان ـ وكان نظيره ـ : اجتمعن على هذا الأمر بعمرو بن العاص ، وأثمن له بدينه فإنه من قد عرفت ، وقد اعتزل أمر عثمان في حياته وهو لأمرك أشد اعتزالا إن ير فرصة (6) .

---------------------------
(1) الترهات البسابس : الباطل ، وربما قالوا ترهات البسابس ، بالإضافة .
(2) اجتداع المعاطس : أي قطع الأنوف ، وذاك علامة الإذلال .
(3) أكابده : من قولهم كابد الأمر مكابدة وكبادا : قاساه . ح : ( أكايده ) بالمثناة التحتية ، وفي اللسان : ( وكل شيء تعالجه فأنت تكيده ) .
(4) قال ابن أبي الحديد : ( الجبهة ههنا الخيل ) ، وقال ابن منظور : ( الجبهة الخيل لا يفرد لها واحد ) .
(5) كذا ورد البيت في الأصل ، وهو ساقط من ح .
(6) ح : ( أشد اعتزالا إلا أن يثمن له دينه ) .

واقعة صفين _ 35 _

مبتدأ حديث عمرو بن العاص
  نصر ، عن عمر بن سعد ومحمد بن عبيد الله قالا : كتب معاوية إلى عمرو وهو بالبيع (1) من فلسطين : ( أما بعد فإنه كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك ، وقد سقط إلينا مروان بن الحكم في رافضة أهل البصرة (2) ، وقدم علينا جرير بن عبد الله في بيعة علي ، وقد حبست نفسي عليك حتى تأتيني . أقبل أذاكرك أمرا (3) ) ، قال : فلما قرئ الكتاب على عمرو استشار ابنيه عبد الله ومحمدا فقال : ابني ، ما تريان ؟ فقال عبد الله : أرى أن نبي الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قبض وهو عنك راض ، والخليفتان من بعده ، وقتل عثمان وأنت عنه غائب ، فقر في منزلك فلست مجعولا خليفة ، ولا تريد أن تكون (4) حاشية لمعاوية على دنيا قليلة ، أوشك أن تهلك فتشقى فيها (5) ، وقال محمد : أرى أنك شيخ قريش وصاحب أمرها ، وإن تصرم هذا الأمر وأنت فيه خامل (6) تصاغر أمرك ، فالحق بجماعة أهل الشام فكن يدا من أياديها ، واطلب بدم عثمان ، فإنك قد استنمت فيه إلى بني أمية (7) ، فقال عمرو : أما أنت يا عبد الله فأمرتني بما هو خير لي في ديني .

---------------------------
(1) كذا في الأصل .
(2) ح ( 1 : 136 ) : ( في نفر من أهل البصرة ) .
(3) ح : ( أذا كرك أمورا لا تعدم صلاح مغبتها إن شاء الله ) .
(4) ح : ( ولا تزيد على أن تكون حاشية ) .
(5) ح : ( أوشكتما أن تهلكا فتساويا في عقابها ) .
(6) ح : ( غافل ) .
(7) استنام : سكن ، وفي الأصل : ( استلمت ) ، وفي ح : ( فإنه سيقوم بذلك بنو أمية ) .

واقعة صفين _ 36 _

  وأما أنت يا محمد فأمرتني بما هو خير لي في دنياي ، وأنا ناظر فيه ، فلما جنة الليل رفع صوته وأهله ينظرون (1) إليه فقال :
تـطاول لـيلى لـلهموم iiالـطوارق      وخول التي تجلو وجوه العواتق (2)
وإن  ابـن هـند سـائلي أن iiأزوره      وتـلك  التي فيها بنات البوائق  (3)
أتـاه  جـرير مـن عـلى iiبـخطة      مـرت عـليه الـعيش ذات مضائق
فـإن  نـال مـني مـا يـؤمل iiرده      وإن لـم يـنله ذل ذل المطابق (4)
فـوالله  مـا أدري ومـا كنت iiهكذا      أكون ، ومهما قادني فهو سابقي  (5)
أخــادعـه إن الـخـداع iiدنـيـة      أم  اعـطيه من نفسي نصيحة iiوامق
أو  اقـعد فـي بيتي وفي ذاك iiراحة      لـشيخ  يخاف الموت في كل iiشارق
وقـد  قـال عـبد الله قـولا iiتعلقت      به  النفس إن لم يعتلقني عوائقي (6)
وخـالـفه فـيـه أخــوه iiمـحمد      وإني لصلب العود عند الحقائق  (7)
فقال عبد الله : ترحل الشيخ (8) .

---------------------------
(1) ح : ( وأهله يسمعون ) .
(2) خول : ترخيم خولة لغير نداء ، وهي من أعلامهن ، والعانق : الشابة أول ما تدرك .
(3) البوائق : الدواهي ، جمع بائقة . ح : ( سألني أن أزوره ) .
(4) المطابق من المطابقة ، وهي المشى في القيد .
(5) ح : ( فهو سابقي ) .
(6) ح : ( تقتطعني عوائقي ) .
(7) الحقيقة : ما يحق على المرء أن يحميه .
(8) ترحل : ارتحل ، أراد أنه استعد للرحيل إلي الدار الآخرة ، ح : ( رحل الشيخ ) .

واقعة صفين _ 37 _

  قال : ودعا عمرو غلاما له يقال له وردان ، وكان داهيا ماردا ، فقال : ارحل يا وردان ، ثم قال : حط يا وردان ( ثم قال : ارحل يا وردان ، احطط يا وردان (1) ، فقال له وردان : خلطت أبا عبد الله ، أما إنك إن شئت أنبأتك بما نفسك ، قال : هات ويحك ، قال : اعتركت الدنيا والآخرة على قلبك ، فقلت : علي معه الآخرة في غير دنيا ، وفي الآخرة عوض الدنيا ، ومعاوية معه الدنيا بغير آخرة ، وليس في الدنيا عوض من الآخرة ، فأنت واقف بينهما ، قال : فإنك والله (2) ما أخطأت ، فما ترى يا وردان ؟ قال : أرى أن تقيم في بيتك ، فإن ظهر أهل الدين عشت ( في ) عفو دينهم (3) وإن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك ، قال : الآن لما شهدت العرب مسيري إلى معاوية (4) ؟ فارتحل وهو يقول :
يــا  قـاتـل الله وردانــا iiوقـدحته      أبـدى لعمرك ما في النفس وردان  (5)
لـما  تـعرضت الـدنيا عـرضت iiلها      بـحرص نفسي وفي الأطباع إدهان (6)
نفس تعف وأخرى الحرص يغلبها ؟ (7)      والـمرء  يـأكل تـبنا وهـو iiغـرثان
أمــا عـلـي فـدين لـيس iiيـشركه      دنـيـا  وذاك لــه دنـيـا وسـلطان
فـاخترت مـن طـمعي دنيا على بصر      ومــا مـعي بـالذي أخـتار iiبـرهان
إنــي لأعـرف مـا فـيها iiوأبـصره      وفــي أيـضـا لـما أهـواه iiألـوان
لـكن  نـفسي تـحب العيش في iiشرف      ولـيس يـرضى بـذل الـعيش iiإنسان
أمــر لـعـمر أبـيكم غـير iiمـشتبه      والـمـرء يـعطس والـوسن iiوسـنان

---------------------------
(1) التكملة من ح والإمامة والسياسة ( 1 : 83 ) .
(2) ح : ( قاتلك الله ) لق .
(3) العفو : الفضل ، وكلمة : ( في ) ليست في الأصل ، وهي ثابتة في ح .
(4) في الإمامة والسياسة : ( الآن حين شهرتني العرب بمسيري إلى معاوية ) .
(5) في الأصل : ( ومزحته ) ، صوابه من ح واللسان ( قدح ) ، والقدحة ، بالكسر ، من قولهم اقتدح الأمر : دبره ونظر فيه .
(6) الإدهان : المصانعة والغش واللين .
(7) في الأصل : ( يقلبها ) ، والصواب من ح .

واقعة صفين _ 38 _

  فسار حتى قدم إلى معاوية وعرف حاجة معاوية إليه ، فباعده ( من نفسه ) وكايد كل واحد منهما صاحبه ، فلما دخل عليه قال : يا أبا عبد الله ، طرقتنا في ليلتنا هذه ثلاثة أخبار ليس منها ورد ولا صدر ، قال : وما ذاك ؟ قال : ذاك أن محمد بن أبي حذيفة قد كسر سجن مصر فخرج هو وأصحابه ، وهو من آفات هذا الدين ، ومنها أن قيصر زحف بجماعة الروم إلى ليتغلب على الشام ، ومنها أن عليا نزل الكوفة متهيئا للمسير إلينا ، قال : ليس كل ما ذكرت عظيما ، أما ابن أبي حذيفة فما يتعاظمك من رجل خرج في أشباهه أن تبعث إليه خيلا تقتله أو تأتيك به ، وإن فاتك لا يضرك ، وأما قيصر فأهد له من وصفاء الروم ووصائفها ، وآنية الذهب والفضة ، وسله الموادعة ، فإنه إليها سريع ، وأما على فلا والله يا معاوية ما تسوي (1) العرب بينك وبينه في شيء من الأشياء ، وإن له في الحرب لحظا (2) ما هو لأحد من قريش ، وإنه لصاحب ما هو فيه إلا أن تظلمه ، نصر : عمر بن سعد بإسناده قال : قال معاوية لعمرو : يا أبا عبد الله ، إني أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى ربه وقتل الخليفة (3) ، وأظهر الفتنة ، وفرق الجماعة ، وقطع الرحم ، قال عمرو : إلى من ؟ قال : إلى جهاد علي ، قال : فقال عمرو : والله يا معاوية ما أنت وعلي بعكمي بعير (4) ، مالك هجرته ولا سابقته ، ولا صحبته ولا جهاده ، ولا فقهه وعلمه . .

---------------------------
(1) في الأصل : ( تستوي ) والوجه ما أثبت .
(2) وقد تقرأ : ( لحظا ) باللام الداخلة على : ( حظا ) ، وانظر ما سيأتي في كلام عمرو لمعاوية ص 38 س 2 .
(3) يعني عثمان بن عفان .
(4) يقال : هما كعكمي البعير ، للرجلين يتساويان في الشرف ، والعكمان : عدلان يشدان على جانبي الهودج بثوب ، وفي اللسان ( 15 : 309 ) وأمثال الميداني ( 2 : 289 ) والحيوان ( 3 : 10 ) : ( كعكمي بعير ) .

واقعة صفين _ 39 _

  والله إن له مع ذلك حدا وجدا (1) ، وحظا وحظوة ، وبلاء من الله حسنا ، فما تجعل لي إن شايعنك على حربه ، وأنت تعلم ما فيه من الغرر والخطر ؟ قال : حكمك ، قال : مصر طعمة ، قال : فتلكأ عليه معاوية .
  قال نصر : وفي حديث غير عمر قال : قال له معاوية : يا أبا عبد الله ، إني أكره أن يتحدث العرب عنك أنك إنما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا ، قال : دعني عنك ، قال معاوية : إني لو شئت أن أمنيك وأخدعك لفعلت ، قال عمرو : لالعمر الله ، ما مثلي يخدع ، لأنا أكيس من ذلك ، قال له معاوية : ادن مني برأسك أسارك ، قال : فدنا منه عمرو يساره ، فعض معاوية أذنه وقال : هذه خدعة ، هل ترى في بيتك أحدا غيري وغيرك ؟ (2) ثم رجع إلى حديث عمر (3) ، قال : فأنشأ عمرو يقول (4) :

---------------------------
(1) الحد : الحدة والنشاط والسرعة في الأمور والمضاء فيها ، والجد ، بفتح الجيم : الحظ ، وبالكسر : الاجتهاد ، وفي الأصل : ( وحدودا ) ولا وجه له ، وفي ح : ( ووالله إن له مع ذلك لحظا في الحرب ليس لأحد من غيره ، ولكني قد تعودت من الله تعالى إحسانا وبلاء جميلا ) .
(2) قال ابن أبي الحديد بعد هذا : ( قلت : قال شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه الله تعالى : قول عمرو له : دعنا عنك ، كناية عن الإلحاد بل تصريح به ، أي دع هذا الكلام الذي لا أصل له فإن اعتقاد الآخرة وأنها لا تباع بعرض الدنيا من الخرافات ، قال رحمه الله : وما زال عمرو بن العاص ملحدا ما تردد قط في الإلحاد والزندقة ، وكان معاوية مثله ، ويكفي من تلاعبهما بالإسلام حديث السرار المروي ، وأن معاوية عض أذن عمرو ، أين هذا من أخلاق علي ( عليه السلام ) وشدته في ذات الله ، وهما مع ذلك يعيبانه بالدعابة ) .
(3) يعني عمر بن سعد الراوي .
(4) في الأصل : ( فأنشأ وهو يقول ) ، صوابه في ح .