ثانياً : إلتزام البكاء على سيد الشهداء ( عليه السلام )
  لقد صاحبتْ هذه الظاهرة الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) مدّة إمامته ونضاله ، بحيث لا يمكن المرور على أيّ مرفق من مرافق عمره الشريف ، أو أيّ موقف من مواقفه الكريمة ، إلاّ بالعبور من مجرى دموعه وفيض عيونه ، ولا ريب أنّ البكاء ، كما أنه لا يتهيّأ للإنسان إلاّ عند التأثّر بالأمور الأكثر حساسيّة ، وإثارةً وحرقةً ، ليكون حسباً للهدوء والترويح عن النفس ، فكذلك هو وسيلة لإثارة القضيّة ، أمام الاَخرين ، وتهييج مَنْ يرى دموع الباكي تنهمر ، ليتعاطف معه طبيعيّاً ، وعلى الأقل يخطر على باله التساؤل عن سبب البكاء ? ،وإذا كان الباكي شخصيةً مرموقةً ، وذا خطر إجتماعي كبير ، مثل الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ، فإن ظاهرة البكاء منه ، مدعاة للإثارة الأكثر ، وجلب الاهتمام الأكبر ، بلا ريب ، والحكّام الظالمون ، فهم دائماً يهابون الثوّار في ظلّ حياتهم ، فيحاولون إسكاتهم بالقتل والخنق ، مهما أمكن ، ويتصّورون ذلك أفضل السبل للتخلّص منهم ، أو تطويقهم بالسجن والحبس ، وكذلك هم يحاولون بكل جدّية ، في إبادة آثار الثورة ومحوها عن الأنظار ، والأفكار حتّى لا يبقى منها ولا بصيص جذوة ، ولكنهم رغم كل قدراتهم لم يتمكّنوا من اقتلاع العواطف التي تستنزف الدموع من عيون الباكين على أهليهم وقضيَتهم ، فالبكاء من أبسط الحقوق الطبيعية للباكين ، والإمام زين العابدين ( عليه السلام ) قد إستغلّ هذا الحقّ الطبيعي في صالح القضية التي من أجلها راح الشهداء صرعى على أرض معركة كربلاء .
  وإذا أمعنّا النظر في تحليل التاريخ وتابعنا مجريات الأحداث ، التي قارنت كربلاء ، وجدنا أن المعركة لم تنتهِ بعدُ ، وإنما الدماء الحمر ، أصبحت تجري اليوم دموعاً حارّة بيضاً ، تحرق جذور العدوان ، وتجرف معها مخلّفات الإنحراف وتروّي بالتالي اُصول الحقّ والعدالة ، وبينما يعدّ الطغاة ظاهرة البكاء دليلاً على العجز والضعف و الانكسار و المغلوبيّة ، فهم يكفّون اليد عن الباكي ، لكون بكائه علامةً لاندحاره أمام القوّة ، وعلامة الإستسلام للواقع ، نجد عامة الناس ، يُبدون اهتماماً بليغاً لهذه الظاهرة ، تستتبع عطفهم ، وتستدرّ تجاوبهم إلى حدّ ما ، وأقلّ ما يُبدونه هو نشدانهم عن أسباب البكاء ? .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 124 _

  وتزداد كلّ هذه الامور شدّةً إذا كان الباكي رجلاً شريفاً معروفاً وبالأخص إذا كان يُفيض الدمعة بغزارة فائقة ، وبإستمرار لا ينقطع كما كان من الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ، حتّى عدّ في البكائين ، وكان خامسهم بعد آدم ، ويعقوب ، ويوسف ، وجدّته فاطمة الزهراء (1) ، إنّ البكاء على شُهداء كربلاء ، وثورتها ، لم يكن في وقت من الأوقات أمر حزن ناتجٍ من إحساس بالضعف والانكسار ، ولا عَبرة يأس وقنوط ، لأن تلك الأحداث ، بظروفها ومآسيها قد مضت ، وتغيّرت ، وذهب أهلوها ، وعُرف حقّها من باطلها ، وأصبحت للمقتولين كرامة وخلوداً ، وللقاتلين لعنةً ونقمةً ، لكنّ البكاء عليهم وعلى قضيّتهم ، كان أمر عِبرة وإثارة وإستمداد من مفجّرها ، وصانع معجزتها ، وحزناً على عرقلة أهدافها المستلهمة من ثورة الإسلام التي قام بها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والدليل على كل ذلك أنّ لكلّ حزن أمداً ، يبدأ من حين المصيبة إلى فترة طالت او قصرت ، وينتهي ولو بعد جيل من الناس ، أما قبل حدوث المصيبة ، فلم يُؤْثَر في المعتاد ، أو المعقول للناس ، أن يبكوا لشيء لكن قضيّة الحسين أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، قد أقيمت الأحزان عليها قبل وقوعها بأكثر من نصف قرن ، وإستمرّ الحزن عليها إلى الأبد، فهي الى القيامة باقية ، والذين أثاروا هذا الحزن ، قبل كربلاء ، وأقاموا المآتم بعد كربلاء : هم الأئمة من أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فمنذ وُلد الحسين ( عليه السلام ) أقام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مآتم على سبطه الوليد ذلك اليوم ، الشهيد بعد غدٍ ، فكيف يقيم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مجلس الحزن على قرّة عينه ، يوم ولادته ، أهكذا يَستقبل العظماء مواليدهم ? أولا يجب أن إستبشروا بالولادات الجديدة ، ويتهادوا التهاني والأفراح والمسرّات ? ! ، وتتكرّر المجالس التي يعقدها الرسول العظيم ، ليبكي فيها على وليده ، ويبكي لأجله كل مَنْ حوله ، وفيهم فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) أم الوليد ، وبعض أمّهات المؤمنين ، وأشراف الصحابة (2) ، وحقاً عُدّ ذلك من دلائل النبوّة ومعجزاتها (3) ، وهكذا أقام الإمام علي ( عليه السلام ) ، مجلس العزاء على ولده الحسين ( عليه السلام ) ، لمّا مرّ على أرض كربلاء ، وهو في طريقه إلى صفّين ، فوقف بها ، فقيل : هذه كربلاء ، قال : ذات كرب وبلاء ، ثم أومأ بيده إلى مكان ، فقال : هاهنا موضع رحالهم ، ومناخ ركابهم ، وأومأ بعده إلى موضع آخر ، فقال : هاهنا مهراق دمائهم (4) ،

---------------------------
(1) الخصال للصدوق ( ص 272 ) وأمالي الصدوق ( المجلس 29 ) ص (121).
(2) إقرأ عن المجالس التي أقامها الرسول كتاب : سيرتنا وسنتنا للأميني ، ولاحظ تاريخ دمشق لإبن عساكر ، ترجمة الإمام الحسين ( ص 165 185 ) .
(3) دلائل النبوة للبيهقي ( 6 : 468 ) ومسند أحمد ( 3 : 242 و 265 ) وانظر أمالي الصدوق ( ص 126 ) ودلائل النبوة ، لإبي نعيم ( ص 709 ) رقم (492) .
(4) وقعة صفين ( ص 141 ) والمصنف لإبن أبي شيبة ( : 15 : 9)رقم ( 191214 ) وكنز العمال ( 7 : 105 و 110 ) وأمالي الصدوق المجلس (78)( ص 478 و 479 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 125 _

ونزل إلى شجرة ، فصلّى إليها ، فأخذ تربةً من الأرض فشمّها ، ثم قال : واهاً لكِ من تربة ، ليقتلنّ بكِ قوم يدخلون الجنة بغير حساب (1) ، ورثاه أخوه الحسن ( عليه السلام ) وقال له : لا يوم كيومك يا أبا عبد الله . . . ويبكي عليك كلّ شي . . . (2) ، وحتّى الحسين ( عليه السلام ) نفسُه ، نعى نفسَه ودعا إلى البكاء على مصيبته ، وحثّ المؤمنين عليه ، حيث قال : أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلاّ بكى (3)، وهكذا الأئمة ( عليهم السلام ) بعد الحسين ، أكّدوا على البكاء على الحسين بشتّى الأشكال .
  لكنّ الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : قد تحمّل أكبر الأعباء ، في هذه المحنة ، إذ عايش أسبابها ، وعاصر أحداثها ، بل باشر جراحها وآلامها ، فكان عليه أن يؤدّي رسالتها ، لأنّه شاهدُ صدق من أهلها ، بل الوحيد الذي ملك أزمّة أسرارها ، ولابدّ أن يُمثل أفضل الأدوار التي لم يبق لها ممثّل غيره ، ولم تبق لها صورة في أي منظار ، غير ما عنده ، وإذا عرفنا بأن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) هو أوثق مَنْ يروي حديث كربلاء ، فهو أصدق الناقلين له ، وخير المعبّرين عنه بصدق ، وأما أهداف شهداء كربلاء التي من أجلها صُنِعَت ، فلا بدَ لها أن تستمرّ ، ولا تنقطع عن الحيويّة ، في ضمير الناس ووجدانهم ، حتّى تستنفد أغراضها ، وبينما الحكّام التائهون لا يعبأون ببكاء الناس ، فإنّ الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) إتّخذ من البكاء عادةً ، بل اعتمدها عبادة ، فقد كانت وفي تلك الفترة بالذات وسيلة هامّةَ لأداء المهمّة الإلهية التي حمل الإمام ( عليه السلام ) أعباءها ، والناس ، لمّا رأوا الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) يذرف الدموع ليلَ نهار ، لا يفتؤ يذكر الحسين الشهيد ومصائبه ، فهم : بين مَن يُدرك : لماذا ذلك البكاء والحزن ، والدمع الذارف المنهمر ، والحزن الدائب المستمر ? وعلى مَن يبكي الإمام ( عليه السلام ) ? .

---------------------------
(1) تاريخ دمشق لإبن عساكر ( ترجمة الإمام الحسين ) ( ص 235 ) رقم 280 وانظرالأرقام ( 236 ـ 239 ).
(2) أمالي الصدوق ( المجلس (24) ص 101 ) .
(3) فضل زيارة الحسين للعلوي ( ص 41 ) الحديث (13) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 126 _

  فكان ذلك سبباً لإستمرار الذكرى في الأذهان ، وحياتها على الخواطر ، وبقاء الأهداف حيّة نابضة ، في الضمائر ووجدان التاريخ ، وتكدّس النقمة والنفرة من القتلة الظلمة ، وبين مَنْ يعرف الإمام زين العابدين بأنه الرجل الفقيه ، الزاهد في الدنيا ، الصبور على مكارهها ، فإنه لم يبك بهذا الشكل ، من أجل أذىً يلحقه ، أو قتل أحد ، أو موت آخر ، فإن هذه الأمور هي مما تعوّد عليها البشر على طول تاريخ البشرية بل هي سُنّة الحياة ، كما قال القائل :

لـه  مَـلَك يُنادي كلَ iiيومٍ      لِدُوا للموتِ وابنوا للخرابِ
  وخصوصاً النبلاء والنابهين ، والأبطال الذين يقتحمون الأهوال ويستصغرونها من أجل أهداف عظام ومقاصد عالية رفيعة ، فبكاء مثله ، ليس إلاّ لأجل قضيّة أكبر وأعظم ، خاصةً البكاء بهذا الشكل الذي لا مثيل له في عصره (1) ، لقد ركزّ الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) على قدسيّة بكائه لمّا سُئل عن سببه ? ، فقال : لا تلوموني ، فإنّ يعقوب ( عليه السلام ) فَقَدَ سبطاً من ولده ، فبكى ، حتّى ابيضّت عيناه من الحزن ، ولم يعلم أنه مات . . وقد نظرتُ إلى أربعة عشر (2) رجلاً من أهل بيتي يذبحون في غداةٍ واحدة ، فترونَ حزنهم يذهب من قلبي أبداً ? (3) ، إنّه ( عليه السلام ) في الحين الذي يربط عمله بما في القرآن من قصة يعقوب وبكائه ، وهو نبي متَصل بالوحي والغيب ، إذ لا ينبع فعله عن العواطف الخالية من أهداف الرسالات الإلهية .
  وفي الحين الذي يمثّل لفاجعة الطفّ في أشجى مناظرها الدامية ، وبأقصر عبارة وافي، فهو يؤكّد على تبرير بكائه ، بحيث يعذره كل سامع ، وفي حديث آخر : جعل الإمام ( عليه السلام ) من قضيّة كربلاء مدعاةً لكل الناس إلى إحيائها ، وتزويدها بوقود الدموع ، وإروائها بمياه العيون ، ولا يعتبرونها قضية خاصةً بعائلة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وحسب ، بل هي مصاب كل الناس ، وكل الرجالات الذين لهم كرامة في الحياة ، أو يحسّون بشي اسمه الكرامة ، أو شخص يحسّ بالعاطفة ، فهو يقول :
  وهذه الرزيّة التي لا مثلها رزيّة ، أيّها الناس ، فأيّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله ? ، أم أيّ فؤاد لا يحزن من أجله ? .

---------------------------
(1) أمالي الصدوق ( ص 121 ) ولاحظ بحار الأنوار ( 46 : 108 ) الباب (6) الحديث (1).
(2) يلاحظ أن المعروف في عدد المقتولين من أولاد علي وفاطمة ( عليهما السلام ) في كربلاء هم ( ستة عشر ) رجلاً ، الوسائل المزار الباب (65) تسلسل ( 96941 ) عن عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) ( 1 / 299 )لاحظ نزهة الناظر ( ص 45 ) .
(3) كامل الزيارات ( ص 107 ) أمالي الصدوق ( المجلس 9 و 91 ) تيسير المطالب لأبي طالب ( ص 118 ) وتاريخ دمشق الحديث (78) ومختصره لابن منظور ( 17 : 239 ) وحلية الأولياء ( 3 : 138 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 127 _

  أم أيّ عين منكم تحبس دمعها ? (1) ، وكان ( عليه السلام ) يحثّ المؤمنين على البكاء ويقول : أيّما مؤمنٍ دمعتْ عيناه لقتل الحسين ( عليه السلام ) حتّى تسيل على خدّه ، بوّأه الله تعالى بها في الجنّة غُرفاً يسكنها أحقاباً ، وأيّما مؤمن دمعت عيناه حتّى تسيل على خدّيه مما مسّنا من الأذى من عدوّنا في الدنيا ، بوّأه الله منزل صدق (2) ، وكان البكاء واحداً من الأساليب التي جعلها وسيلةً لإحياء ذكرى كربلاء ، وقد إستعمل أساليب أخرى . . منها : زيارة الحسين ( عليه السلام ) : قال ابو حمزة الُثمالي : سألتُ عليّ بن الحسين ، عن زيارة الحسين ( عليه السلام ) ? ، فقال : زرْهُ كلّ يومٍ ، فإنْ لم تقدر فكلّ جمعةٍ ، فإنْ لم تقدر فكلّ شهر ، فمن لم يزره فقد إستخفّ بحق رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (3) .
  ومنها : الإحتفاظ بتراب قبر الحسين ( عليه السلام ) : فكانت له خريطة ديباج صفراء ، فيها تربة قبر أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، فإذا حضرت الصلاة سجد عليها (4) ، ومنها : خاتم الحسين ( عليه السلام ) : ، فقد كان الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) يتختّم بخاتم أبيه الحسين ( عليه السلام ) (5) ، كما كان ينقش على خاتمه : ( خزيَ وشقي قاتل الحسين بن علي ( عليه السلام ) ) (6) .
  ومن المؤكد أن الإمام ( عليه السلام ) لم يتبع هذه الأساليب لمجرد الإنعطاف مع العواطف والسير وراءها ، ولا لضعف في نفسه ، أو لإستيلاء هول الفجيعة على روحه ، ولم يتّخذ مواقفه من بني أمية نتيجةً للحقد أو الإنتقام الشخصي ، ممن له يد في مذبحة كربلاء ، وإنما كان ( عليه السلام ) يلتزم بتلك الخطط ويتبع تلك الأساليب لإحياء الفكرة التي من أجلها قُتل الحسين ( عليه السلام ) وأستشهد هو وأصحابه على أرض كربلاء فضرّجوا تربتها بدمائهم الزكية .

---------------------------
(1) كامل الزيارات ( ص 100 ) مقتل الحسين ( عليه السلام ) للأمين ( ص 213 ) ولاحظ كتابنا هذا ( ص 66 ) .
(2) ثواب الأعمال ( ص 83 ) .
(3) فضل زيارة الحسين للعلويّ ( ص 43 ) ح 17 .
(4) بحار الأنوار ( 46 : 79 ) باب 5 ، الحديث 75 وعوالم العلوم ( ص 129 ) وبإختصار في مناقب ابن شهرآشوب ( 4 : 162 ) عن مصباح المتهجد للشيخ الطوسي .
(5) نقش الخواتيم للسيد مرتضى ( ص 11 ) .
(6) نقش الخواتيم ( ص 25 ) عن الكافي ( 6 : 473 )ومسند الرضا ( عليه السلام ) ( 2 : 365 )وبحار الأنوار ( 46 : 5 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 128 _

  ولقد أثبت ذلك بصراحة في حياته العملية : فقد كانت له علاقات طبيعية مع عوائل بعض الأمويين مثل مروان بن الحكم ، الذي إلتجأ بأهله وزوجته وهي عائشة ابنة عثمان بن عفان إلى بيت الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ، فأصبحوا تحت حمايته ، مع أربعمائة عائلة من بني عبد مناف ، مدّة وجود الجيش الأموي في المدينة ، فأمنوا من إستباحتهم لها وهتكهم الأعراض فيها ، في واقعة الحرّة الرهيبة (1) ، وبالإضافة إلى أن الأئمة ( عليهم السلام ) بعيدون عن روح الإنتقام الشخصي وإنما يغضبون لله لا لأنفسهم ، فإنهم يشملون باللطف والرحمة النساء والأطفال في مثل تلك الظروف ، وبذلك يكسبون ودّ الجميع حتّى الأعداء ، ويثبتون جدارتهم ، ولياقتهم لمنصب الإمامة والزعامة ، فكسب الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) بمواقفه إعتقاد الجهاز الحاكم فيه أنه ( خير لا شرّ فيه ) (2) وأنه ( مشغول بنفسه ) (3) .
  ذلك الإعتقاد الذي أفاد الإمام ( عليه السلام ) نوعاً من الحرّية في العمل في مستقبل تخطيطه ضدّ الحكم الأموي الغاشم ، وعزّز موقعه الإجتماعي حتّى تمكّن من إتخاذ المواقف الحاسمة من الظالمين وأعوانهم ، كما رُسمت في سيرته الشريفة صور من صبره على المصائب والبلايا ، ممّا يدل على صلابته تجاه حوادث الدنيا ومكارهها ، وهي أمثلة رائعة للمقاومة والجَلَد ، فعن إبراهيم بن سعد ، قال : سمع علي بن الحسين واعيةً في بيته ، وعنده جماعة ، فنهض إلى منزله ، ثم رجع إلى مجلسه ، فقيل له : أمن حدثٍ كانت الواعية ? قال : نعم ، فعزّوه ، وتعجّبوا من صبره ، فقال : إنّا أهل بيت نطيع الله في ما نحب ، ونحمده في ما نكره (4) .
  ونتمكّن من إستخلاص الهدف الأساسي من كلّ هذه الإثارات لقضيّة كربلاء وشهدائها خصوصاً ذكر أبيه الإمام الشهيد ( عليه السلام ) من خلال الحديث التالي : قال ( عليه السلام ) لشيعته : عليكم بأداء الأمانة ، فو الذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً ، لو أن قاتل أبي الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليه السلام )

---------------------------
(1) أنساب الأشراف ( 4 : 323 )تاريخ الطبري ( 5 : 493 )ومروج الذهب ( 2 : 14 )وكشف الغمة ( 2 : 107 ) .
(2) قاله مسرف بن عقبة لما إستباح المدينة ، انظر في ما مضي من كتابنا هذا ( ص 71 ) .
(3) قاله الزهري لعبد الملك ، انظر ( ص 212 ) في ما يأتي .
(4) تاريخ دمشق ومختصره لإبن منظور ( 1 : 240 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 129 _

ائتمنني على السيف الذي قتله به ، لأديته إليه (1) ، ففي الوقت الذي يُشير فيه إلى مأساة قتل الحسين ( عليه السلام ) ، ويذكّر بقتله ، ليُحيي معالمها في الأذهان ، فهو يؤكّد بأغلظ الأيمان على أنّ أمراً ( مثل أداء الأمانة ) يوجِبُه الإسلام ، هو فوق العواطف والأحاسيس الشخصيّة ، وهو يُوحي بأنّ الإمام الحسين ( عليه السلام ) إنما قتل من أجل تطبيق كلّ المبادىء التي جاء بها
الإسلام ، والتي بعث بها جدّه النبيّ محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأن الإمام زين العابدين يُريد الإستمرار على تلك المبادىء والخطط التي أنار الحسين الشهيد ( عليه السلام ) معالمها بوقود من دمه الطاهر ، وهو في الوقت ذاته ، يرفع من قيمة البكاء أن يكون من أجل أمور مادّية ولو كانت الدنيا كلها : ففي الخبر أنّه ( عليه السلام ) نظر إلى سائل يبكي ! ، فقال ( عليه السلام ) : لو أنّ الدنيا كانت في كفّ هذا ثمّ سقطت منه ما كان ينبغي له أن يبكي (2) .

ثالثاً : إلتزام الدعاء
  ومن أبرز المظاهر الفذّة في سيرة الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) الأدعية المأثورة عنه ، فقد تميّز ما نقل عنه بالكثرة ، والنفس الطويل ، والشهرة التداول ، لما تحتويه من أساليب جذّابة ومستهوية للقلوب ، تتجاوب معها الأرواح والنفوس ، وما تضّمنته من معان راقية تتفاعل مع العقول والأفكار ، وقد كان للأدعية التي أصدرها أبعاد فكرية واسعة المدى ، بالنصوص الحاسمة القضايا عقائدية إسلامية ، كانت بحاجة إلى البتّ فيها بنصّ قاطع ، بعد أن عصفت بالعقيدة ، تيّارات الإلحاد ، كالتشبيه والجبر والإرجاء ، وغيرها مما كان الأمويون وراء بثها وإثارتها وترويجها ، بهدف تحريف مسيرة التوحيد والعدل ، تمهيداً للردّة عن الإسلام ، والرجوع إلى الجاهلية الأولى، وفي حالة القمع والإبادة ، ومطاردة كلّ المناضلين الأحرار ، وتتبع آثارهم وخنق أصواتهم ، كان قرار الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) بإتّباع سياسة الدعاء ، أنجح وسيلة لبثّ الحقائق وتخليدها ، وأمن طريقة ، وأبعدها من إثارة السلطة الغاشمة ، وأقوى أداة إتصال سريّة مكتومة ، هادئة ، موثوقة ، كما كانت لنصوص الأدعية أصداء قويّة في ميادين الأدب، الذي له وقع كبير في نفوس الشعوب ، وخاصة الشعب العربي ، وله تركيز كثير في قرارات أذهان الناس وذاكرتهم ، ولقد إستخدم الأئمة ( عليهم السلام ) تأثير الأدب في الناس ، فكانوا يهتمّون بذلك ، سواء في تطعيم ما يصدرونه ، بألوان زاهية من الأدب العربي الراقي ، نثراً وشعراء ، كما كانوا يبعثون الشعراء على نظم القضايا الفكرية ، والحقّة ، في أشعارهم ، ويروّجونها بين الناس .
  ولقد إستثار الأئمة ( عليهم السلام ) على طول خط الإمامة شعراء فطاحل من المتشيّعين ، للنظم في قضايا عقيدية تؤدي إلى تثبيت الحق والدعوة إلى الإسلام من خلال مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ، حتّى اشتهر عنهم الحديث ( من قال فينا بيتاً من الشعر ، بنى الله له بيتاً في الجنّة ) .

---------------------------
(1) أمالي الصدوق ( ص 128 ) المجلس (43) .
(2) كشف الغمة ( 2 : 106 ) عن كتاب نثر الدرر للاَبي .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 130 _

  ولقد كان لهذا التوجيه أثر آخر ، وهو إنتشال الأدب وخاصة الشعر من مهاوي الرذيلة والمجون والإستهتار الذي سقط فيه والاُدباء وخاصة الشعراء في تلك العصور المظلمة ، التي كادت تؤدّي إلى ضياع جهود جبّارة من ذوق الشعراء وفنّهم في متاهات الأغراض الفاسدة ، وكذلك جهود الأمّة في سماع ذلك الأدب الماجن ، ونقله وضبطه وتداوله ، وقد أثّرت جهود الأئمة ( عليهم السلام ) بتعديل ذلك المجرى ، للسير في السُبل الاَمنة ، والأغراض الشرعيّة ، إالتزام الأدب الهادف المؤدّي إلى رفع المستوى الخلقيّ والفكريّ والثقافيّ ، ولقد أثرى الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) الأدب العربي : بمادّة غزيرة من النصوص الموثوقة ، بشكل الأدعية التي تعدّ من أروع أمثلة الأدب العربي في النثر (1) ، وامتازت بين مجموع ما رُوي عن الإمام زين العابدين من الأدعية ، تلك التي ضمّنها ( الصحيفة السجادية ) التي تتلألأ بين أدعيته ، لأنّها من تأليف الإمام نفسه ، وإملائه ، فلذلك فتح العلماء لها مجالاً خاصاً في التراث الإسلامي ، وأغدق عليها المبدعون بأجمل ما عندهم من مهارات في الخطّ والزخرفة ، وأولاها الداعون عناية فائقة في الالتزام والأداء ، والعلماء في الشرح والرواية ، فلنتحدث عنها في الصفحات الأخيرة من هذا الفصل ، وأخيراً : مع الصحيفة السجّادية هدفاً ومضموناً .

أوّلاً : مع الصحيفة هدفاً
  إنّ التشيّع ، وفي عصر الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) خاصةً كان يواجه صعوبات بالغة الشدّة ، حيث كان الظلم مستولياً على كلّ المرافق والمقدّرات ، ولم يكن بالإمكان القيام بأيَة مقاومة إيجابية ، أو محاولة ، فآخر ثورة تلك التي أعلنها الإمام الحسين ( عليه السلام ) في صدّ التعدّي الغاشم ، كان قد قضي عليها ، وعلى جميع عناصرها بشكل دمويّ ، وبقي منهم ( غلام ) فقط ، وهو ( الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ) ، وكانت الأوضاع الاجتماعية تسير باتجاهٍ خطر ، خطورة الإجهاز على أساس النهضة ، وإخماد روح الوثبة الإسلامية ، بل القضاء على كلّ تفكير من هذا القبيل ، وتناسيه إلى الأبد ، وأبرز نموذج لهذه المشكلة ، أنّ الإمامة وهي الجهاز الوحيد الباقي من كل مرافق الحكومة الإسلامية العادلة أصبحت على شُرُف التناسي عن الأذهان ، لأنّ نظام الحكم الأموي استولى على كلّ أجهزة الإعلام من المنبر ، والمحراب ، والمسجد ، واشترى ذمم كلّ ذوي النفوذ في الرأي العام من قاض وحاكم ووالٍ ، وأصبحت كلّ الإمكانات في قبضة ( الخلافة ) وفي خدمة ( الخليفة ) ! ، أما الإمام زين العابدين ، فقد بقي وحيداً في مواجهة المشكلات ، مع أنّ الإرهاب والذعر كان يتحكّم في الرقاب ،

---------------------------
(1) ( لاحظ مقال: من أدب الدعاء في الإسلام ، مجلة تراثنا ، العدد (14) السنة الرابعة ( 1409 ) ( ص 30 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 131 _

ويستولي على النفوس ، في مثل هذه الظروف أصبح ( الدعاء ) ملجأ للإمام وللإمامة ، لا ، بل موقعاً إتّخذه الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) للصمود والهجوم : ـ صمود ماذا ? ـ صمود ذلك الفكر ، وذلك الهتاف ، وذلك الإيمان ، الذي جنّدت الدولة الأمويّة كلّ الإمكانات في العالم الإسلامي ضدّه ـ والهجوم على مَن ? ـ للهجوم على سلطة تمكنّت من كلّ قواعد القدرة ، وسلبت من الأمة كلّ إمكانات المقاومة ، فكان الدعاء هو سلاح النضال ومعنى ذلك : أنّه إذا طوّقت مقاومة ، أو فكرة ، أو نضال ، وأدّت بها الظروف إلى مثل ما حصل في ( كربلاء ) إذ تعرّض كلّ رجالها للإبادة الدامية ، ولم يبق سوى رجل ( واحد ) ووقع كلّ النساء والصغار في الأسر ، وتحت القيود ، وإذا لم تبق أيّة إمكانيّة للعمل المسلّح ، والدفاع عن الحق بالقوّة ، فإنّ هذا الرجل الوحيد لا تسقط عنه المسؤوليّة ، إنّه مسؤول أن يدرّب الأمة على القناعة بأن على عاتقه إحياء الفكرة ، وتحريك الأحاسيس ، والدفاع عن ذلك الحق ، ولو بلسان الدعاء ، وجعل الرسالة مستمرّة ولو بالأمل والرجاء ، ونقلها كذلك إلى الأجيال ، إنّ الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : وإن كان قد فقد إمكانات التضحية والنضال المستميت إلى حدّ الشهادة ، كما فعل أبوه الإمام الحسين ( عليه السلام ) في كربلاء ، وفقد إمكانات العمل الإجتماعي الحرّ ، كما قام به إبنه الإمام الباقر وحفيده الإمام الصادق ( عليهما السلام ) ، لكنّه لم يفقد فرصة المقاومة من طريق هذه الحربة النافذة في أعماق أشلاء النظام الحاكم ، والقابلة للتغلغُل في أوساط المجتمع الفاسد ، والسارية مع كلّ نسيم ، والممكنة في كلّ الظروف ، والتي اسمها ( الدعاء ) ، وإن قيل : إنّ هذا هو من أضعف فروض النضال والجهاد ? قلنا : نعم ، لكنّ الدعاء أمر ضروري حتّى لو كان الإنسان في غير هذه الحال ، فلو كان بإمكانه النضال والمقاومة ، بأشكال أخر ، أقوى وأقدر ، فإنّ من المستحيل استغناؤه عن الدعاء ، وليس بالإمكان أن يمنع من هذا النضال ، ولو كان أضعف ، فلابّد له أن يكون قادراً على عملية الدعاء ، وأن يُضمر في نفسه الارتباط بربّه ، وأن يُعلن عن أفكاره وعقائده بأسلوب المناجاة والدعاء ، ويعبّر عن آماله وآلامه ، ومكنون نفسه ، وأن يُبرز هتافاته ، وأن يطالب برغباته المهضومة ، والمغصوبة على أن من الضروريّ لكل مناضل أن يركّز معتقداته ، ويحدّد مواقعه الفكرية ويحصّن أصول دينه ، حتّى يكون على بصيرةٍ من أمره ، فيوحي إلى ذاته بالحقّ ، ويوصي نفسه بالصبر عليه ، بالدعاء ، وليس في المقدور لأيّة سلطة حاكمة أن تسلبه هذه القدرة ، أو أن تحاسبه على هذه الإرادة، وفي مثل هذا التركيز والتحديد يكمن سرّ خلود الإنسان عندما يكون مهدّداً بالإبادة . . والنطق بالدعاء وسيلة للإعلان عن المعتقدات وتبليغ الرسالات وتنمية الشعور بالمسؤوليات ، في أحلك الظروف وأحرجها ، وبثّ روح النضال والمقاومة ، وتوثيق الرابطة الفكرية ، وتأكيد التعهّدات الاجتماعية ، وتثبيت العواطف الصالحة ، حبّاً بالتولي والإعلان عنه ، وبغضاً بالتبري وإبدائه ، وتعميق الوعي العقائدي بين الأمّة ، وتهيئة الأجواء روحياً وفكرياً وجسميّاً للإعداد للمسؤوليّات الكبرى ، كلّ ذلك في ظروف جُندت فيه القوى المضادّةُ ، للقضاء على الأهداف كلّها .
  إنّ الإمام في مثل ذلك عليه أن يخطّط للعمل ، عندما لا يستطيع المؤمن من القيام بأي عمل ، حتّى الموت الشريف ، بعزّة وكرامة ، حيث لا طريق إلى اختيار الشهادة كسلاحٍ أخير ، لأنّ الشهادة أيضاً تحتاج إلى أرضيّة وظروف مؤاتية ، ومعركة ، كي يتسنّى للشهيد أن يفجّر بدمه الوضع ، ويكسر الصمت ، وإلاّ فهو الموت الصامت غير المؤثّر ، المهمل الذي لا يستفيد منه إلاّ العدوّ .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 132 _

  والإمام زين العابدين ( عليه السلام ) أصبح قدوة للنضال في مثل هذه الظروف بكل سيرته ، ووجوده ، ومصيره ، وسكوته ، ونطقه ، وخلقه ، ورسم بذلك منهاجاً للعمل في مثل هذه الأزمات ، إنّه رسم الإجابة عن كلّ الأسئلة التي تطرح : عن العمل ضدّ إمبراطورية ضارية ، مستحوذة على كل المرافق والقدرات ? وعن الصمت الثقيل القاتل ، المطبق ، الذي يستحيل فيه التفوّهُ بكلمة الحقّ ، كيف يمكنُ أنْ يُكْسَر ? ، وعن اُسلوب شخصي لعرض جميع الطلبات والقيم والعواطف ? إن الصحيفة السجادية هي : كتاب الجهاد عند الوحدة ، وكتاب التعبير عند الصمت ، وكتاب التعبئة عند النكسة ، وكتاب الهتاف عند الوجوم ، وكتاب التعليم بالشفاه المختومة ، وكتاب التسلّح عند نزع كلّ سلاح ، وهو قبل هذا وبعده ، كتاب ( الدعاء ) . . إنّ الدعاء كما يقول الدكتور الفرنسي الكسيس كارل : ( تجل للعشق والفاقة ) وقد أضاف الإسلام إلى هذين : ( التوعية ) . . وفي مدرسة الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) يأخذ الدعاء بُعداً رائعاً هو تأثيره الاجتماعي الخاص ، وبكلمة جامعة : إن الدعاء في مدرسة الإمام زين العابدين في الوقت الذي يعدّ كنزاً لأعمق التوجهات ، وأحرّ الأشواق ، وأرفع الطلبات منهاج يتعلّم فيه المؤمن تخطيطاً متكاملاً للوجود والتفكير والعمل ، على منهج الإمامة وبقيادة حكيمة تستلهم التعاليم من مصادر الوحي .

ثانياً : مع الصحيفة السجّادية مضموناً
  إن الحديث عن هذا الكتاب العظيم وأثره العلميّ والدينيّ عقيدياً وحضارياً وأثره الاجتماعي يحتاج إلى تفرّغ وتخصّص ، وإلى وقت ومجال أوسع من هذا الفصل ، ولا ريب أن النظر فيه سيوقف القارئ على مقاطع رائعة تدلّ على مفردات ما نقول بوضوح وصراحة ، وإذا أخذ الإنسان بنظر الإعتبار ظروف الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وموقعه الإجتماعي وقرأ عن طغيان الحكام وعبثهم ، وقارن بين مدلول الصحيفة ومؤشّرات التصرّفات التي قام بها أولئك الحكام ، إتضح له أنّ الإمام قد قام من خلالها بتحدّ صارخ للدولة ومخططاتها التي إستهدفَتْ كيان المجتمع الإسلامي لتزعزعه .
  وإذ لا يسعنا الدخول في غمار هذا البحر الزخّار لإقتناص درره فإنّا نقتصر على إيراد مقطعين من أدعية الصحيفة ، يمثّلان صورة عمّا جاء فيها ، ممّا تبرز فيه معالم التصدّي السياسيّ الذي إلتزمه الإمام ( عليه السلام ) بمنطق الدعاء المقطع الأول : دعاؤه لأهل الثغور : إنّ الإمام ، لكونه الراعي الإلهي ، المسئول عن رعيتّه وهي الأمّة ، يكون الحفاظ على وجود الإسلام ، من أهمّ واجباته التي يلتزمها ، فلا بدّ من رعاية شعائره ، وإستمرار مظاهره ، ومتابعة مصالحه العامة ، وتقديمها على غيرها من المصالح الخاصّة بالأفراد ، أو الأعمال الجزئيّة الفرعيّة ، فالحفاظ على سمعة الإسلام وحدوده ، أهمّ من الالتزام بفروع الدين وواجباته ومحرّماته ، إذا دار الأمر بينه وبينها .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 133 _

  ففي سبيل ذلك الهدف العام السامي ، لابدّ من تجاوز الاهتمامات الصغيرة ، والمحدودة ، بالرغم من كونها في أنفسها ضرورات ، لابدّ من القيام بها في الظروف العاديّة ، لكنها لا تعرقل طريق الأهداف العامة الكبرى ،فالإسلام : كدين ، ليس قائماً بالأشخاص ، ولا يتأثّر بتصرفاتهم الخاصّة ، في مقابل ما يهدّده من الأخطار الكبيرة ، فكريّة أو اجتماعية أو عسكرية ، فإذا واجه الإسلام خطر يهدّد التوحيد الممثل بكلمة ( لا إله إلا الله ) أو الرسالة المتجليّة في ( محمّد رسول الله ) فإن الإمام يتجاوز كل الإعتبارات ويهبّ للدفاع عن هذين الركنين الأهمّ ، وحتّى لو كان على حساب وجود الإمام نفسه ، أو عنوان إمامته ، فضلاً عن مصالحه الخاصة ، وشؤونه وصلاحياته ، ومن هذا المنطلق ، يمكن تحديد المواقف الهامّة للأئمة من أهل البيت ( عليهم السلام ) : فسكوت الإمام أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) عن مطالبته بحقّه ، ولجوء الإمام الحسن المجتبى ( عليه السلام ) إلى توقيع كتاب الصلح مع معاوية ، وتضحية الإمام الحسين الشهيد ( عليه السلام ) بنفسه في كربلاء ، كلّ ذلك نحدّده على أساس متّحد ، وهو رعاية المصلحة الإسلامية العامة ، والحفاظ على كيان الإسلام لئلاّ يمسّه سوء ، وبهذا أيضاً نميّز وقوف الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) للدعاء لأهل الثغور ، ومَنْ هم أهل الثغور في عصره ? .
  ليس للدعاء تاريخ محدّد ، حتّى نعرف الفترة التي اُنشىء فيها الدعاء بعينها ، إلاّ أنها لا تخرج من مجمل الفترة التي عايشها الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) من سنة (61) إلى سنة (94) ولم تخرج عن حكم واحد من الخلفاء الأمويين ، وحتّى لو فرضنا إنشاءه في فترة حكم ( معاوية بن يزيد بن معاوية ) الذي عرف بولائه لأهل البيت ( عليهم السلام ) ، على قصرها ، فلا ريب أنّ نظام الحكم وأجهزة الدولة كافَة ، وعناصر الإدارة ورموز السلطة لم تتغير ، وخاصة أهل الثغور الذين هم حرس الحدود ، لم يطرأ عليهم التغيير المبدئي ، في تلك الفترة القصيرة بتبدّل الخليفة ، ومن المعلوم : أن الذين يتجهون إلى حدود الدولة الإسلامية ، وهي أبعد النقاط عن أماكن لرفاه والراحة ، ليسوا إلا من سواد الناس ، ويمكن أن يكون إختيارهم لتلك الجهات البعيدة دليلاً على إبتعادهم عن التورّطات التي إنغمس فيها أهل المدن في داخل البلاد ، ومع ذلك ، يبقى التساؤل : عن دعاء الإمام ( عليه السلام ) بتلك القوّة ، وذلك الشمول ، وبهذه اللهجة ، وهذا الحنان ، لحرس الحدود ، وهم جز من جيش الحكومة الفاسدة ، ووحدة من وحدات كيان الدولة الظالمة ? .
  إنّ الحقيقة التي عرضناها سابقاً ، هي الجواب عن هذا التساؤل ، لأنّ مصلحة الإسلام ، ككلّ ، مقدّمة على كلّ ما سواه من أمور الإسلام سواء فروع الدين ، أو عناوين الأشخاص ، أو مصالح الاَخرين حتّى الجماعات المعيّنة ، ثمّ إنّ هذا الدعاء بنفسه دليل مُقنع على انّ الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) لم يكن كما شاء أن يصورّه الكتّاب الجدد متخلّياً عن مركزه القيادي والسياسي ، كإمام يرعى مصلحة الإسلام ، والأمة الإسلامية ،فمن خلال أوسع جبهاتها ، وهي الحدود الإسلامية ، المهدّدة دائماً ، بلا شكّ ، من قبل الدول المجاورة الحاقدة على الإسلام الذي قهرها ، واستولى على مساحات من أراضيها ،

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 134 _

فرض الإمام ( عليه السلام ) رعايته واهتمامه ، وبشكل الدعاء الذي لا يثير الحكّام ، وحرس الحدود أنفسهم ، مهما كانت هواياتهم ، لايُعَدّون أنصاراً للحكومة ، بقدرما هم محافظون على الأرض الإسلامية ، وكرامة الإسلام ، فإنّهم مدافعون عن ثغوره ، ومراقبون لحماية خطوط المواجهة الإمامية : وهو أمر واجب على كل مسلم أن يبذل جهداً في إسناده ودعمه وتسديد القائمين به ، بكل شكل ممكن ، وهذا هو الذي إستهدفه الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) في دعائه لأهل الثغور ، فهو ينبّه الناس إلى خطورة هذا الواجب ويهيّج الأحاسيس تجاه الثغور وحمايتها ، ومهما كان الحكّام في الداخل ، يعيثون فساداً ، فإنّهم لا محالة زائلون ، ومهما جدّوا في التقتيل والظلم والإجرام ، والتخريب فإنّهم لن يتمكّنوا من القضاء على كل معالم هذا الدين ، الذي يعدّ المسلمون الحفاظ عليه من واجباتهم والإمام ( عليه السلام ) وإن كان معارضاً للنظام الأموي ، ويجدّ في فضحه وتزييف عمله والكشف عن سوء إدارته ، ويحكم على القائمين به بالخروج عن الحق والعدل ، وهو لا يزال ينظر إلى مصارع شهداء كربلاء بعيون تملؤها العَبْرة ، لكنه يدعو بصوت تخنقه العَبْرة كذلك لأهل الثغور الإسلامية ، وباللهجة القوية القاطعة لكلّ عذر ، وبالنبرة الحادة ذاتها التي يدعو بها لزوال حكم الظالمين ، يدعو لإستتباب الأمن والعدل والصلاح على أرض الإسلام ، فلنقرأ معاً هذا الدعاء العظيم :
  ( اللهمّ : صلّ على محمّد وآله ، وحصّن ثغور المسلمين بعزّتك ، وأيّد حماتها بقوّتك ، وأسبغ عطاياهم من جِدَتك ، اللهمّ : صلّ على محمّد وآله ، وكثّر عدّتهم ، واشحذ أسلحتهم ، واحرس حوزتهم ، وامنع حومتهم ، وألّف جمعهم ، ودبّر أمرهم ، وواتر بين مِيَرهم ، وتوحّد بكفاية مؤنهم ، واعضدهم بالنصر ، وأعنهم بالصبر ، والطف لهم في المكر .
  اللهمّ : صلّ على محمّد وآله ، وعرّفهم ما يجهلون ، وعلّمهم ما لايعلمون ، وبصّرهم ما لا يبصرون ، اللهمّ : صلّ على محمّد وآله ، وأنسهم عند لقائهم العدوّ ذكر دنياهم الخدّاعة الغرور ، وامحُ عن قلوبهم خطرات المال الفتون ، واجعل الجنّة نصب أعينهم ، ولوّح منها لأبصارهم ما أعددتَ فيها من مساكن الخلد ، ومنازل الكرامة ، والحور الحسان ، والأنهار المطّردة بأنواع الأشربة ، والأشجار المتدلية بصنوف الثمر ، حتّى لا يهمّ أحد منهم بالإدبار ، ولا يحدّث نفسه عن قرنه بفرار ، اللهمّ : افلل بذلك عدوّهم ، واقلم عنهم أظفارهم ، وفرّق بينهم وبين أسلحتهم ، واخلع وثائق أفئدتهم ، وباعد بينهم وبين أزودتهم ، وحيّرهم في سبلهم ، وضلّلهم عن وجههم ، واقطع عنهم المدد ، وانقص منهم العدد ، واملأ أفئدتهم الرعب ، واقبض أيديهم عن البسط ، واخزم ألسنتهم عن النطق ، وشرّد بهم مَن خلفهم ، ونكّل بهم مَن ورائهم ، واقطع بخزيهم أطماع من بعدهم ، اللهمّ : عقّم أرحام نسائهم ، ويبّس أصلاب رجالهم ، واقطع نسل دوابّهم وأنعامهم ، لا تأذن لسمائهم في قطر ، ولا لأرضهم في نبات ، اللهمّ : وفّق بذلك محالّ أهل الإسلام ، وحصّن به ديارهم ، وثمّر به أموالهم ، وفرغّهم عن محاربتهم لعبادتك ، وعن منابذتهم للخلوة بك ، حتّى لايُعبد في بقاع الأرض غيرك ، ولا تعفّر لأحد منهم جبهة دونك ، اللهمّ : إغز بكل ناحية من المسلمين على مَن بإزائهم من المشركين ، وأمددهم بملائكة من عندك مردفين ، حتّى يكشفوهم إلى منقطع التراب قتلاً في أرضك وأسراً ، أو يقرّوا بأنك أنت الله الذي لا إله إلاّ أنت ، وحدك لا شريك لك ، اللهمّ : واعمُم بذلك أعداءك في أقطار البلاد ، من الهند ، والروم ، والترك ،

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 135 _

والخزر ، والحبش ، والنوبة ، والزنج ، والسقالبة ، والديالمة ، وسائر أمم الشرك الذين تخفى أسماؤهم وصفاتهم ، وقد أحصيتهم ، بمعرفتك ، وأشرفت عليهم بقدرتك ، اللهمّ : أشغل المشركين بالمشركين عن تناول أطراف المسلمين ، وخُذهم بالنقص عن تنقيصهم ، وثبّطهم بالفرقة عن الاحتشاد عليهم اللهمّ : أخْلِ قلوبهم من الأمنة ، وأبدانهم من القوّة ، وأذهل قلوبهم عن الإحتيال ، وأوهن أركانهم عن منازلة الرجال ، وجنّبهم عن مقارعة الأبطال ، وابعث عليهم جنداً من ملائكتك ببأس من بأسك ، كفعلك يوم بدر ، تقطع به دابرهم ، وتحصد به شوكتهم ، وتفرّق به عددهم ، اللّهمّ : وامزج مياههم بالوباء ، وأطعمتهم بالأدواء ، وارم بلادهم بالخسوف ، وألحَ عليها بالقذف ، وأفرعها بالمحول ، واجعل مِيَرهم في أحص أرضك ، وأبعدها عنهم ، وامنع حصونها منهم ، أصبهم بالجوع المقيم والسقيم الأليم .
  اللّهمّ : وأيّما غازٍ غزاهم من أهل ملّتك ، أو مجاهد جاهدهم من أتباع سنتك ، ليكون دينك الأعلى ، وحزبك الأقوى ، وحظّك الأوفى ، فلقه اليُسْر ، وهيىء له الأمر ، وتولّه بالنُجح ، وتخيّر له الأصحاب ، واستقْوِ له الظهر ، وأسْبِغْ عليه في النفقة ، ومتّعه بالنشاط ، وأطفىء عنه حرارة الشوق ، وأجِرْهُ من غمّ الوحشة ، وأَنْسِهِ ذكر الأهل والولد ، وأثر له حسن النيّة ، وتولّه بالعافية ، وأصحبه السلامة ، وأعفه من الجبن ، وألْهمه الجرأة ، وارزقه الشدّة ، وأيّده بالنصرة ، وعلّمه السير والسنن ، وسدّده في الحكم ، واعزل عنه الرياء ، وخلّصه من السمعة ، واجعل فكره وذكره وظعنه وإقامته فيك ولك ، فإذا صافّ عدوك وعدّوه فقلّلهم في عينه ، وصغّر شأنهم في قلبه ، وأدل له منهم ، ولا تدلهم منه ، فإن ختمت له بالسعادة ، وقضيت له بالشهادة ، فبعد أن يجتاح عدوّك بالقتل ، وبعد أن يجهد بهم الأسر ، وبعد أن تأمن أطراف المسلمين ، وبعد أن يولّي عدوّك مدبرين ، اللهمّ : وأيّما مسلم خَلَفَ غازياً ، أو مرابطاً ، في داره ، أو تعهّد خالفيه في غيبته ، أو أعانه بطائفة من ماله أو أمدّه بعتاد ، أو شحذه على جهاد ، أو أتبعه في وجهه دعوةً ، أو رعى له من ورائه حرمةً ، فأجْرِ له مثل أجره ، وزناً بوزن ، ومثلاً بمثل ، وعوّضه من فعله عوضاً حاضراً يتعجّل به نفع ما قدّم ، وسرور ما أتى به ، إلى أن ينتهي به الوقت إلى ما أجريت له من فضلك ، وأعددت له من كرامتك ، اللهمّ : وأيّما مسلم أهمَه أمرُ الإسلام ، وأحزنه تحزّب أهل الشرك عليهم ، فنوى غزوة ، أو همّ بجهاد ، فقعد به ضعف ، أو أبطأت به فاقة ، أو أخّره عنه حادث ، أو عرض له دون إرادته مانع ، فاكتب اسمه في العابدين ، وأوجب له ثواب المجاهدين ، واجعله في نظام الشهداء والصالحين .
  اللهمّ : صلّ على محمّد عبدك ورسولك ، وآل محمّد ، صلاةً عالية على الصلوات ، مشرفة فوق التحيّات ، صلاة لا ينتهي أمدها ، ولا ينقطع عددها ، كأتمّ ما مضى من صلواتك على أحد من أوليائك ، إنّك المنّان ، الحميد ، المبدي ، المعيدُ ، الفعّال لما تريد ) (1).

---------------------------
(1) الصحيفة السجادية ، الدعاء السابع والعشرون .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 136 _

  هذا على مستوى كيان عسكريّ مرتبط بالدولة ، وأمّا على مستوى الشعب فلنقرأ معا : المقطع الثاني : دعاء الإستسقاء بعد الجدب : حيث تتجلّى فيه رعاية الإمام ( عليه السلام ) لحالة الأمّة ، ومراقبته لأحوالها ، وبخصوص إقتصادها الذي هو عصب حياتها ، فإذا رآه يتعرّض للإنهيار على أثر الجفاف ، ينبري ( عليه السلام ) لإنجاده بطريقته الخاصّة ، التي لا تثير أحقاد الحكام ضدّه ، ولا تمكّنهم من أخذ نقاط سياسيّة عليه ، ومع ذلك فهو يجلب أنظار الشعب المسلم المقهور ، المغلوب على أمره ، إلى أنّ هناك مَنْ يعطف عليه إلى هذا الحدّ ، ومَنْ يراقب أوضاعه ، ويهتّم بشؤونه ومشاكله ، والإمام زين العابدين ( عليه السلام ) بهذا الشكل ، يفرض نفسه على الساحة السياسيّة ، وهو تدخّل صريح في شؤون الأمّة ، وظهور واضح على أرض العمل ، فإنّ الملجأ في مثل هذه المشاكل هُم كبار القوم ، ومَنْ لهم قدسيّة ، وفضل ، وتقدّم على الاَخرين ، ولا تشخص الأبصار في مثل ذلك إلاّ إلى الخليفة إنْ كانت له قابليّة ما يدّعي من مقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يتسنّم أريكة الحكم ، والإمام زين العابدين ( عليه السلام ) بهذا الدعاء ، يُثبت أنّه الأحقّ بالتصديّ لذلك المقام ، وأنّه الملجأ الذي لابدّ أن يوسّط بين الأرض والسماء ، هذا كله ، مع أنّ الأمّة لم تقف إلى جانب الإمام ( عليه السلام ) ، ولم تراعِ حُرمته في النسب ، ولاحقّه في الإمامة ، بل خذلته ، حتّى راح يقول : ( ما بمكّة والمدينة عشرون رجلاً يُحبّنا ) ، وليس المراد بذلك الحبّ مجرّد العواطف والدموع والمجاملات ، فهؤلاء أهل الكوفة كانوا من أحذق الناس في ذرف دموع التماسيح على أهل البيت ( عليهم السلام ) بعنوان الحبّ حتّى كان الإمام ( عليه السلام ) يستغيث من حبّهم له ، ذلك الحبّ المعلن ، المبطّن بالنفاق ، والذي إنقلب على أبيه الإمام الحسين ( عليه السلام ) سيفاً أودى به ، فليس الحبّ المطلوب لاَل الرسول ، والذي دلّت على لزومه آية المودّة في القربى وأحاديث الرسول المصطفى ، هو الفارغ عن كلّ حقّ لهم في الحكم والإدارة ، أو الفقه والتشريع وعن كلّ معاني الولاء العمليّ ، والاقتداء والاتّباع وإن ادعاه المحرّفون ، أو حرفوه إلى مثل ذلك ، مكتفين لأهل البيت باسم ( الحبّ ) (1) . . لكن قضيّة الأمّة الإسلامية ، وإقتصاد البلاد الإسلامية ، من القضايا المصيريّة الكبرى ، التي لا توازيها الأضرار الصغيرة ولا الأخطاء الخاصّة ، بل لابدّ من تجاوز كل الإعتبارات في سبيل إحياء تلك القضايا الكبار ، وبعد ، فلنعش في رحاب دعاء الاستسقاء :
  ( اللهمّ : إسقنا الغيث ، وانشر علينا رحمتك بغيثك المغدق ، من السحاب المنساق لنبات أرضك ، المونق في جميع الاَفاق ، وامنن على عبادك بإيناع الثمرة ، وأحْيِ بلادك ببلوغ الزهرة ، وأشهد ملائكتك الكرام السفرة بسقي منك نافعٍ ، دائم غزره ، واسع درره ، وابلٍ ، سريع ، عاجلٍ تُحيي به ما قد مَات ، وتردّ به ما قد فات ، وتخرج به ما هو آت ، وتوسّع به في الأقوات ، سحاباً متراكماً ، هنيئاً مريئاً ، طبقاً مجلجلاً ، غير ملث ودقه ، ولا خلّب برقه .

---------------------------
(1) قد تحدّثنا عن هذا التحريف لمؤدّى الحبّ لأهل البيت : والذي تعمّده الأعداء ظلماً ، وإلتزمه العامة جهلاً ، في كتابنا : الحسين سماته وسيرته ، الفقرة (13) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 137 _

  اللهمّ إسقنا غيثاً مغيثاً ، مريعاً ممرعاً ، عريضاً واسعاً ، غزيراً ، تردّ به النهيض ، وتجبر به المهيض ، اللهمّ : إسقنا سقياً تُسيل منه الظراب ، وتملأ منه الجباب ، وتفجّر به الأنهار ، وتُنبت به الأشجار ، وترخّص به الأسعار في جميع الأمصار ، وتنعش به البهائم ، والخلق ، وتكمل لنا به طيّبات الرزق ، وتُنبت لنا به الزرع ، وتدرّ به الضرع ، وتزيدنا به قوّةً إلى قوّتنا ، اللهمّ : لا تجعل ظلّه علينا سموماً ، ولا تجعل برده علينا حسوماً ، ولا تجعل صوبه علينا رجوماً ، ولا تجعل ماءه علينا أجاجاً ، اللهمّ : صلّ على محمّد وآل محمّد ، وارزقنا من بركات السماوات والأرض إنّك على كلّ شي قدير )(1) .
  وهكذا فإن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) في دعاء الإستسقاء ، لا يحصر إهتمامه بما حوله من الأفراد والشؤون الخاصة ، بل يعمّم اهتمامه على كل العباد وكل البلاد ، وينظر برقّةٍ ولطف إلى كل قضاياها الطبيعيّة والنفسية والمعاشيّة ، وحتّى الجويّة والزراعية وحتّى طلب ( القوّة ) ، إن التأمّل في مضامين هذا الدعاء يفتح آفاقاً من سياسة الإمام السجاد ( عليه السلام ) .
  وهكذا ننتهي من هذا الفصل ، وقد وقفنا فيه على أبرز ما امتاز به الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) من إلتزام العبادة ، والبكاء ، والدعاء ، ووجدنا كيف أنّ الإمام ( عليه السلام ) قد إستخدم كلّ ذلك في تمرير خطّته الحكيمة التي اتخذها لتثبيت قاعدة الإمامة الحقّة ، وما فيعمله من تعرّض للحاكمين ، وتعريض بهم وبفساد تصرّفاتهم ومخالفتهم للشريعة والدين ومع أنّ الإمام كان يقوم بما يخصّه ، ويعدّ من حقّه الشخصي أن يتعبّد ، ويبكي ، ويدعو ، فإننا نرى في أعماله نضالاً سياسيّاً ، وتدبيراً حكيماً ضدّ الحكومات ، وسنقرأ في الفصل الاَتي ، مواقف في مواجهة الحكّام وأعوانهم الظلمة ، من دون غطاء أو تقيّة ، وهي المواقف الحاسمة التي وقفها الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) منهم .

الفَصلُ الخامِس

  مَوَاقِف حَاسِمَة للإمَامِ ( عليه السلام ) :
أوّلاً : موقفه من الظلمة .
ثانياً :موقفه من أعوان الظلمة.
ثالثاً :موقفه من الحَركات المسلّحة .

---------------------------
(1) الصحيفة السجادية ( الدعاء التاسع عشر ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 138 _

  وبعد سنين من النضال المرير ، الذي قام به الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ، بالأساليب التي شرحنا صوراً منها في الفصول السابقة ، والتي كان تطبيقها والاستفادة منها في تلك الظروف الحرجة لا يقلّ صعوبة عن إشهار السيف ، وفائدتها لا تقلّ عن دخول المعارك الضارية ، فلقد انتجت نتائجها الهائل : فعزّزت موقع الإمام ( عليه السلام ) لكونه القائد الإلهي المسؤول عن هذا الدين ، وهذه الأمّة ، والهادي لها ، وتمكّن بإلتزامه بالخطط الدقيقة المذكورة من أداء وظائف الإمامة ، وتجميع القوى المتبدّدة حول مركز الحقّ ، وتأسيس القاعدة لانطلاق الأئمّة من بعده على أسس رصينة محكمة ، وعزّزت تلك المواقف الاجتماعية العظيمة ، مكانة الإمام ( عليه السلام ) في أنظار الأمة ، بإعتباره سيّداً من أهل البيت ( عليهم السلام ) يتمتّع بمكارم الأخلاق وفضائلها ، وعالماً بالإسلام من أصفى ينابيعه وروافده ، ومحامياً عن الأمّة ، وكانت لهذه المواقع ، وهذه المكانة ، آثارها في تغيير أسلوب العمل السياسي ، عند الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) في الفترة التالية ، حيث نجد أن تعامله مع الحكّام والأحداث يختلف عمّا سبق ، ويكاد الإمام ( عليه السلام ) يُعلن عن المعارضة ، ويُبدي التعرّض للحكام ، وكان من أبرز مظاهر هذا التعامل هو ما اتّخذه من مواقف حاسمة تجاه الحكّام الظالمين ، وتجاه أعوانهم ، وتجاه الحركات السياسية التي عاصرته .

أوّلاً : موقفه من الظالمين
موقفه من يزيد :
  فقد اتّخذ الإمام ( عليه السلام ) موقفاً حكيماً من يزيد وهو من أعتى طغاة بني اُميّة وأخبثهم ، وأبعدهم عن كلّ معاني الدين والإنسانية والمروة وحتّى السياسة فكان موقف الإمام ( عليه السلام ) منه فذّاً ، فلم يدع له مبرّراً للقضاء عليه ، مع انّه واجهه بكل الحقيقة التي لا يتحمّلها الطغاة ، بل أجبره على إطلاق سراح الأسرى من آل محمّد ، وذلك بما صنعه الإمام ( عليه السلام ) من أجواء لمثل هذا الإجراء ، فرجع الإمام ( عليه السلام ) إلى المدينة ليبدأ عمله طبق التخطيط الرائع الذي شرحنا صوراً منه في هذه البحوث ، وبعد أن قضى الإمام السجّاد ( عليه السلام ) عمراً في تطبيق خططه القويمة في معارضة الدسائس التي كان يضعها الحكّام من بني أميّة ضدّ الدين وأهله ، وفضحها ، وحاول ان يبني ما كانوا يهدمونه ، ويهدم ما كانوا يبنونه ، وصدّ ما يحاولونه ، وبعد تعزيز المواقع والمكانة لوجوده الشريف بين الأمة ، سواء مَن كان من أتباعه أو من عامّة الناس ، لم يكن للحكام أن يتعرَضوا للإمام ( عليه السلام ) من دون أن يكشفوا عن وجوههم أغطية التزوير ، وأقنعة الدجل والكفر والنفاق .
  فالإمام الذي ذاع صيته في الاَفاق بالكرامة ، والإمامة ، والسيادة والشرف ، والتقى والعلم والحلم والعبادة والزهد ، أضف إلى ذلك حنانه وعطفه على الأمّة ورعايته لشؤونها ، قد دخل أعماق القلوب ، وأصبح له من الاحترام والتقدير ما لا يكون من مصلحة الحكّام التعرّض له بأذى ، كما يبدو أنّ الإمام ( عليه السلام ) بعد أن استنفذَ أغراضه من خططه ، وعلم بأنّ الدولة الأمويّة وحكّامها الحاقدين على الإسلام

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 139 _

ورجاله وخاصة من أهل البيت ( عليهم السلام ) ، سوف يقضون على حياته إن عاجلاً أو آجلاً ، إن خفيةً أو علناً ، بدأ العمل الهجومي عليهم ،فكان يُفرغ ما بقي في كنانته من السهام على هيكل الحكم الامويّ الفاسد ، والذي بدأ التنازل من كثير من المواقع الإستراتيجية التي كان يحتلّها ، فقام الإمام ( عليه السلام ) بالإشهار بهم ، من خلال أعمال أصدق ما يُقال فيها أنها الاستفزاز والتحرّش السياسيّ .
  ومواقفه من عبد الملك بن مروان : قد رأينا أنّ الأمويين بكلّ مرافق أجهزتهم ، كانوا يرون من الإمام علي بن الحسين زين العابدين ( عليه السلام ) خيراً لا شرّ فيه ، وقد كانت علاقة مروان بن الحكم الأمويّ ، بالخصوص ، طيّبة مع الإمام ( عليه السلام ) لما أبداه الإمام تجاهه من رعايةٍ ، أيام وقعة الحرّة ، وكان مروان شاكراً للإمام ( عليه السلام ) هذه المكرمة ، وطبيعيّ أن يعرف عبد الملك بن مروان ، للإمام زين العابدين ( عليه السلام ) هذه اليد والمكرمة ، ولذلك نراه ، لمّا ولي الخلافة ، يكتب إلى واليه على المدينة الحجّاج الثقفي السفَاك يقول :
  أما بعد : فانظر دماء بني عبد المطلب فإحتقنها واجتنبها ، فإني رأيتُ آل أبي سفيان بن حرب ( لما قتلوا الحسين ) لمّا ولغوا فيها ( نزع الله ملكهم ) لم يلبثوا إلاّ قليلاً ، والسلام (1) ، لكن الإمام ( عليه السلام ) لم يمرّ بهذه الرسالة بشكل طبيعيّ ، بل بادر إلى إرسال كتاب إلى عبد الملك ، يقول فيه :

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

  . . . أما بعد ، فإنّك كتبتَ يوم كذا وكذا ، من ساعة كذا وكذا ، من شهر كذا وكذا ، بكذا وكذا ، وإنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنبأني وأخبرني ، وأن الله قد شكر لك ذلك وثبّت ملكك ، وزاد فيه بُرهة ) .
  وطوى الكتاب ، وختمه ، وأرسل به مع غلام له على بعيره ، وأمره أن يوصله إلى عبد الملك ساعة يُقدم عليه (2) ، إن اُسلوب هذا الكتاب ، ومحتواه ، كلاهما مثار للاستفزاز :
فأولاً : يحاول الإمام ( عليه السلام ) أن يعرّف الحاكم باطّلاعه الكامل على تاريخ كتابته للرسالة ، بدقة ، حتّى اليوم والساعة ، فهو يوحي إليه علم الإمام بما يجري داخل القصر الملكي ، وهذا أمر لا يمر به الطواغيت بسهولة .
وثانياً : يصرح الإمام ( عليه السلام ) بإتصاله المباشر بالرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأنّه الذي أخبره وأنبأه بالرسالة ومحتواها ،

---------------------------
(1) المحاسن والمساوي للبيهقي ( ص 78 ) وفي طبعة (55) كشف الغمة للاربلي ( 2 : 112 ) مروج الذهب ( 3 : 179 ) والاختصاص ( ص 314 ) وبحار الأنوار ( 46 : 28 و 119 ) .
(2) كشف الغمة ( 2 : 112 ) وبحار الأنوار ( 46 : 29 ) ورواه في عوالم العلوم ( ص 42 ) عن الخرائج للقطب الراوندي .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 140 _

وهذا أيضاً يوحي أنّ الإمام ( عليه السلام ) مع أنّه مرتبط بالرسول نسبيّاً ، فهو مرتبط به روحياً ، ويأخذ علمه ومعارفه منه مباشرةً ومثل هذا الإدعاء لا يتحملّه الخليفة ، بل يثقل عليه ، لأنّ إدعاء ذلك يعني كون الإمام ( عليه السلام ) أوثق صلة بالرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، من هذا الذي يدّعي خلافته ! .
  والمقطع الأخير من الكتاب ، حيث يخبر الإمام ( عليه السلام ) عن أن فعل عبد الملك وتوصيته بآل عبد المطلب ( مشكور عند الله ) وأنّه ثبّت بذلك ملكه ، وزيد فيه بُرهة ، ليس قطعاً أسلوب دعاء وثناء وتملّق ، وإنّما هو تعبير عن قبول الصنيع ، وردّ الجميل ، والعطف عليه بزيادة بُرهة فقط في الملك ! لا الخلافة .
  مع أنّ صدور مثل هذا الخبر من الإمام ( عليه السلام ) إلى عبد الملك الخليفة فيه نوع من التعالي والفوقيّة الملموسة ، التي لا يصبر عليها مَنْ هو في موقع القدرة ، فضلاً عن الطغاة أمثال عبد الملك ، والحاصل أنّ هذا الكتاب الصادر من الإمام ( عليه السلام ) لم يكن يصدر ، إذا أراد الإمام ( عليه السلام ) أن يجتنب التعرض بالحاكم ، وخاصة بهذا الأسلوب المثير ، ومع أنّ الرسالة التي كتبها عبد الملك لم تكن مرسلة إلى الإمام ( عليه السلام ) .
  وكان عبد الملك واقفاً على بعض ما للإمام ( عليه السلام ) من موقعيّة ومكانة ، لوجوده فترة كبيرة في المدينة إلى جوار الإمام ( عليه السلام ) وعلمه بأوضاعه ، مضافاً إلى أنّ الإمام ( عليه السلام ) قد تحدّث معه بلغة الأرقام مما لا يمكنه دفعه أو إنكاره ، فلذلك كلّه تظاهر عبد الملك بفرحه بهذا الكتاب ، فقد جاء في ذيل ذلك الحديث أنّ عبد الملك لما نظر في تاريخ الكتاب وجده موافقاً لتلك الساعة التي كتب فيها الرسالة إلى الحَجّاج ، فلم يشكّ في صدق عليّ بن الحسين ، وفرح فرحاً شديداً وبعث إلى عليّ بن الحسين وَفْر راحلته دراهم وثياباً ، لِما سرّه من الكتاب (1) .
  ثمَ الذي يُشير إليه الحديث التالي أنّ الإمام ( عليه السلام ) قاطعَ النظام ، مقاطعة سلبيّة ، توحي بعدم الإعتراف والإعتناء برأس الحكومة ، وهو شخص الخليفة : فقد روي أنّ عبد الملك بن مروان كان يطوف بالبيت ، وعليّ بن الحسين ( عليه السلام ) يطوف أمامه ، ولا يلتفت إليه .
  فقال عبد الملك : مَنْ الذي يطوف بين أيدينا ? ولا يلتفت إلينا ? .

---------------------------
(1) كشف الغمة ( 2 : 112 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 141 _

فقيل له : هذا عليّ بن الحسين ، فجلس مكانه ، وقال : ردّوه إليّ ، فردّوه ، فقال له : يا عليّ بن الحسين إنّي لستُ قاتل أبيك ، فما يمنعك من المسير إليّ ، فقال ( عليه السلام ) : إنّ قاتل أبي أفسد بما فعله دنياه عليه ، وأفسد أبي عليه آخرته ، فإنْ أحببت أن تكون هو ، فكنْ (1) ، إن تحدّي الإمام ( عليه السلام ) الإستفزازي ، يتبلور في نقاط :
  فأولاً : يمشي بين يدي الخليفة متنكراً لوجوده ، لا يأبَهُ به ، وفي مرأىً ومسمع من الحجيج الطائفين ، ولابدّ أنّه كان في الموسم ، بحيث أثار الخليفة ، وبعثه على السؤال عنه : مَنْ هذا الذي يجرؤ على تحدّي احترام الخليفة هكذا ، ولمّا سمع اسم الإمام ( عليّ بن الحسين ) أجلسه ( الاسمُ ) في مكانه ، وهذا يعني أنّه قطع طوافه ، لعظم وقع النبأ عليه ، وقطع الطواف على الإمام بردّه إليه .
  وثانياً : عتاب عبد الملك للإمام ( عليه السلام ) لعدم السير إليه ، يكشف عن أنّ مقاطعة الإمام للخليفة والمسير إليه ولقائه ، إتخذ شكلاً أكبر من مجرّد العزلة ، بل دلّ على عدم الرغبة ، أو الإعراض ، حتّى أصبح الخليفة يحاسب عليه .
وثالثاً : إنّ قول عبد الملك : ( إنّي لست قاتل أبيك ) كما يحتوي على التبرُؤ من الدماء المراقة على أرض المعركة المحتدمة بين أهل البيت ( عليهم السلام ) والأمويين ، فإنّه في نفس الوقت تهديد ، بهزّ العصا في وجه الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ، وتلويح له بإمكانيّة كلّ شي : حتّى القتل .
ورابعاً : ولذلك كان جواب الإمام حاسماً ، وقوياً ، وشجاعاً ، إذ حدّد النتيجة في تلك المعارك السابقة ، وأثبت فيها إنتصار أهل البيت الذين ربحوا النتيجة ، وخسران قتلتهم الأمويين ومع ذلك أبدى إستعداده ، لأن يقف نفس الموقف المشرّف الذي وقفه أبوه ، إذا كان عبد الملك بصدد الوقوف على نفس الموقع الظالم الذي وقف عليه قاتل أبيه ، إنّه إستعداد ، وطلب المبارزة والقتال ، وتحد سافر لسلطة خليفة لا يمنعه شيء من الإقدام على الفتك والقتل والظلم والإبادة .
  وهذا الموقف ، وحده ، كافٍ للدلالة على أن الإمام ( عليه السلام ) لم يكن طول عمره ذلك المسالم ، الموادع ، المنعزل عن الدنيا وسلطانها ، والمشغول بالعبادة ، والصلاة والدعاء والبكاء ، فقط ، ويبدو أنّ عبد الملك رأى أنّ الإمام ( عليه السلام ) بمواقفه الإستفزازية تلك ، يبرز في مقام أبيه وجدّه ، ويتزعّم الحركة الشيعية ، وقد ركّز موقعيته كإمام ، بعد تلك الجهود المضنية ، وإستعاد جمع القوى المؤمنة حوله ، فأصبح له من القوّة والقدرة ، أن يقف في وجه الخليفة ، فلذلك تصدّى للإمام ( عليه السلام ) وحاول أن يفرّغ يد الإمام ( عليه السلام ) من بعض .

---------------------------
(1) بحار الأنوار ( 46 : 120 ) وإثبات الهداة ، للحر العاملي ( 3 : 15 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 142 _

  إثباتات الإمامة ، كوجود مخلّفات النبوّة عند الإمام (1) ، ومنها سيف رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فلمّا بلغ عبد الملك أنّ ذلك السيف موجود عند الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) بعث إليه يستوهبه منه ، فأبى الإمام ( عليه السلام ) ، فكتب إليه عبد الملك ، يهدّده أن يقطع رزقه من بيت المال ، فأجابه الإمام ( عليه السلام ) :
  أما بعد : فإنّ الله ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون ، والرزق من حيث لا يحتسبون ، وقال جلّ ذكره : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ )، ( سورة الحج (22) الاَية (38) ) ، فانظر أيّنا أولى بهذه الاَية(2) . . إنّ طلب عبد الملك ، للسيف من الإمام ( عليه السلام ) بهذه الشدّة إلى حدّ التهديد ، ليس ناشئاً من مجرّد الرغبة ، وإلاّ فعبد الملك هو ذا مُعرض عن الإحتفاء بأقدس الأشياء المنسوبة إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأعزَ من سيف الرسول ، وهاهم أهله يعرَضون من قبله بالتهديد بقطع الرزق ، فإنّ موقف الإمام ( عليه السلام ) بإبائه إعطائه السيف ، إذا كانت الأمور في حالتها الطبيعيّة ، لا يبرره شيء ، إلاّ أن الوضع ليس طبيعياً قطعاً .
  وتشير بعض الأحاديث إلى بلوغ حدّة التوتّر بين الإمام وبين النظام إلى حدّ أنّ الحجّاج الثقفيّ ، وهو من أعتى ولاة الأمويين ، يكتب إلى عبد الملك بما نصه : ( إن أردتَ أن يثبت ملكك فاقتل عليّ بن الحسين ) (3) ، فلو كان الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) كما هو المعروف زاهداً في السياسة ، فما معنى ربط الحجّاج الذي لا يرتاب في دهائه بين الإمام وبين الملك ، فكلام الحجّاج واضح الدلالة على أنّ وجود الإمام ( عليه السلام ) أصبح يشكّل خطراً عظيماً على الملك ، يزعزعه ويزيله ، فهو لا يثبت إلاّ بقتل الإمام ، وأما عبد الملك ، فقد حاول أن يحدّد الإمام ( عليه السلام ) ، كما يقوله الحديث التالي : قال الزهري : شهدتُ عليّ بن الحسين ، يوم حمله عبد الملك بن مروان من المدينة إلى الشام ، فأثقله حديداً ، ووكّل به حفاظاً عدّة .

---------------------------
(1) إقرأ عن سلاح رسول الله الموجود عند الإمام حديث ابي خالد الكابلي في المناقب لابن شهرآشوب ( 4 : 148 ) .
(2) عوالم العلوم ( ص 117 ) عن المحاسن للبرقي ، والمناقب لإبن شهرآشوب ( 4 : 302 ) وانظر بحار الأنوار ( 46 : 95 ) .
(3) بحار الأنوار ( ج 46 ص 28 ح 19 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 143 _

  إستأذنتُهم في التسليم عليه ، والتوديع له ، فأذنوا لي ، فدخلتُ عليه ، وهو في قبّة ، والأقياد في رجليه ، والغلّ في يديه ، فبكيتُ ، وقلتُ : وددتُ أني مكانك ، وأنت سالم ، فقال : يا زهريّ ، أوَ تظنّ هذا مما ترى عليَ وفي عنقي يكرثني ، أما لو شئتُ ما كانَ ، فإنّه وإن بلغ فيك وفي أمثالك ليذكّرني عذاب الله ، ثمَ أخرج يديه من الغلّ ورجليه من القيد ، وقال : لاجزتُ معهم على ذا منزلتين من المدينة ، قال الزهريّ : فما لبثتُ إلاّ أربع ليالٍ ، حتّى قدم الموكّلون به ، يظنّون أنّه بالمدينة ، فما وجدوه ، فكنتُ فيمن سألهم عنه ? فقال لي بعضهم : إنّا نراه متبوعاً ، إنّه لنازل ، ونحن حوله لا ننام ، نرصده ، إذ أصبحنا فما وجدنا بين محمله إلاّ حديده ، قال الزهريّ : فقدمتُ بعد ذلك على عبد الملك بن مروان ، فسألني عن علي بن الحسين ? فأخبرته ، فقال لي : إنّه قد جاءني في يوم فقدوه الأعوان ، فدخلَ عليَ فقال : ما أنا وأنت ? فقلت : أقم عندي ، فقال : لا أحبّ ، ثم خرج ، فو الله ، لقد إمتلأ ثوبي منه خيفةً ، قال الزهري : فقلت : يا أمير المؤمنين ليس عليّ بن الحسين حيث تظنّ ، إنّه مشغول بنفسه ، فقال : حبّذا شغل مثله ، فنعم ما شغل به (1) .
  إنّ هذا الحديث على طوله فيه من الدلالات على أن وضع الإمام ( عليه السلام ) السياسيّ أصبح بمستوى يُلجىء الدولة إلى إعتقال الإمام وتقييده وتكبيله الغلّ ، وتطويقه بالحرس .
  فهل يعامل المنعزل عن السياسة والزاهد فيها ، بهذا الشكل حتّى لو فرضنا أنّ الضرورة إقتضت جلبه إلى العاصمة ? إنّ أسلوب الجلب هذا فيه الدلالة القويّة على أن تحرّك الإمام ( عليه السلام ) كان على مستوى بالغ الخطورة على الدولة ، ثم ماذا كان يظنّ الخليفة في الإمام حتّى إلتجأ إلى فعل كلّ هذا ضدّه ، لو لم يتوجّس منه خيفة التحرّك السياسي ، ويبدو الإمام ( عليه السلام ) مصمّماً على التزامه ، فقد أجاب الخليفة بما أحبّ هو ، لا ما أراد الخليفة ، وفي إلتجاء الإمام ( عليه السلام ) إلى إعمال قدراته الملهمة من الله كإمام للأمة ، ووليّ من أولياء الله المخلصين ، فأظهر للملك وللزهري إعجازه الخارق ، تأكيد على ما نريد إثباته وهو أنّ الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) صرّح بأنّه يقوم بمهمّة الإمامة الإلهيّة ، ويثبتُ للملك وأعوانه ولكل من اطّلع على مجاري الأحداث ، أنّه الإمام الحقّ ، والأولى بمقام الحكم الذي يدّعيه عبد الملك ، وهذا هو أظهر أشكال النضال السياسيّ .

---------------------------
(1) حلية الأولياء ( 3 : 135 ) تاريخ دمشق ( الحديث 42 ) مختصر إبن منظور ( 17 : 234 ) ورواه ابن شهرآشوب في المناقب ( 4 : 145 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 144 _

وموقفه من هشام بن عبد الملك
  وموقف الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) من هشام ، من أشهر المواقف بين المسلمين ، وقد تناقله الأعلام في صُحفهم وكتبهم ، وأرسلوه إرسال المسلمات ، وفيه من الدلالات الواضحة على قيام الإمام ( عليه السلام ) بالإستفزاز السياسيّ ، مالا يخفى على أحد ، والحديثُ :
  أنّ هشام بن عبد الملك حجّ في خلافة أبيه ، فطاف بالبيت ، وأراد أن يستلم الحَجَر الأسود ، فلم يقدر عليه من الزحام ، فنُصِبَ له مِنْبَر فجلس عليه ، فبينا هو كذلك إذ أقبل عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) ، عليه إزار ورداء ، أحسن الناس وجهاً ، وأطيبهم رائحةً ، وبين عينيه سجّادة ، كأنّها ركبة بعير ، فجعل يطوف بالبيت ، فإذا هو بلغ إلى موضع الحَجَر تنحّى الناس له عنه ، حتّى يستلمه ، هيبةً له وإجلالاً ، فقال رجل من أهل الشام لهشامٍ : مَنْ هذا الذي قد هابه الناسُ هذه الهيبة ، فأفرجوا له عن الحَجَر ? فقال هشام : لا أعرفه ، لئلاّ يرغبَ فيه أهل الشام ! ، فقال الفرزدقُ وكان حاضراً : أنا أعرفه :
هـذا الـذي تـعرفُ الـبطحاءُ وَطْأتَهُ      والـبـيتُ  يـعْرِفُهُ والـحل والـحَرَمُ
هــذا ابـنُ خَـيْر عـبادِ الله iiكُـلهِمُ      هـذا  الـتقي الـنقي الـطاهِرُ iiالـعَلَمُ
هـذا  ابـن فـاطمةٍ إن كُـنْتَ iiجاهِلَهُ      بِـجَـدهِ  أنـبـياءُ الله قــد iiخُـتِمُوْا
يـكـادُ يُـمْـسِكُهُ عِـرْفـانَ iiراحَـتِهِ      ركـنُ الـحطيمِ إذا مـا جـاء iiيـستلمُ
مـن مـعشرٍ حُـبهم دِيْـن iiوبُـغْضُهُمُ      كُـفْـر وقُـرْبُـهُمُ مـنجى iiومُـعْتَصَمُ
إن عُـدَ أهْـلُ الـتُقى كـانوا أئـمّتَهُمْ      أوقـيل  مَنْ خَيْرُ أهل الأرض قيل iiهُمُ
هُـمُ الـغُيُوثُ إذا مـا أزمـة iiأزمَـتْ      والاُسْدُ اُسْدُ الشَرى والبأسُ محتدِمُ (1)

---------------------------
(1) هذه الأبيات هي التي إختارها الاستاذ الفاضل المحقق الدكتور السيد جعفر الشهيدي ، من مجموع ما نسب إلى الفرزدق في مدح الإمام السجاد ( عليه السلام ) بعنوان ( الميميّة ) بعد أنْ أشبعها بحثاً وتحقيقاً في كتابه القيّم ( زندكاني عليّ بن الحسين (عليه السلام) ) ( الصفحات 112 ـ 133 ) وقد فصّل فيه الحديث عمّا وقع من الإختلاف في ما ورد من أبيات على وزن الميميّة في التراث العربي ، من حيث قائلها ، والممدوح الذي قيلتْ في حقّه ، وفي عدد أبيات ما قيل في كلّ مناسبة ، وفي خصوص ما نُسِبَ إلى الفرزدق في مدح الإمام ( عليه السلام ) في مقام الحجر الأسود ، من حيث عدد الأبيات ، ودقّق في مضمون الأبيات المنسوبة ، فتوصّل إلى أنّ الأنسب بالمقام ـ زماناً و مكاناً و وضعاً ـ هو هذه الأبيات السبعة التي اختارها ، وأنّها الأنسب بالشاعر وبالمناسبة لفظاً وبلاغة ، ومعنى ودلالةً . . وأبان الوجوه التي إستبعد بها الأبيات الاُخر ، بتفصيل وافٍ ، ومما يحسن ترجمته من كلامه ، بعد إيراده البحث المذكور ، قوله : إن كان الفرزدق قد أنشأ هذه الأبيات في حقّ الإمام علي بن الحسين ، فقد أدّى جُزءاً ضئيلاً من دَيْنه ، وخَفّفَ شيئاً من أثقال جرائمه التي يحملها على عاتقه ، حيث يعجّ ديوان هذا الشاعر بمدائح معاوية ، وعبد الملك بن مروان ، وابنه الوليد ، ويزيد بن عبد الملك ، وعمّالهم مثل : الحجاج بن يوسف ، ويُعثر في ديوانه على أكثر من عشرة قصائد في مديح هشام وابنه بالخصوص ، إنما كتبه اليافعي ـ في حقّ الفرزدق ـ يبدو وافياً جدّاً ، حيث قال : ( وتنْسَبُ إلى الفرزدق مكرمة يُرتجى له بها الرحمةُ في دار الاَخرة ) وأورد حديث الميميّة ، في مرآة الجنان (ج 1 ص 239 ) طبع مؤسسة الاعلمي بيروت ـ عن طبعة حيدرآباد الهند ( 1337 ) ، وإليك بعض مصادر هذه القصيدة :
تاريخ دمشق ( الحديث 133 ) مختصره ( 17 : 6 ـ 247 ) ديوان الفرزدق ( 2 : 178 ) الأغاني ( 15 : 327 ) و ( 15 : 261 ثقافة ) وصفوة الصفوة ( 2 : 8 ـ 99 ) طبقات الشافعية الكبرى للسبكي ( 1 : 153 ) وأمالي المرتضى ( 621 ) وانظر الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) للمقرم ( ص 385 )ومابعدها .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 145 _

  إنّ الموقف لم يكن بحيث يخفى شيء من أبعاده على الإمام ( عليه السلام ) ، ولم يكن هو ( عليه السلام ) بحيث يقوم بما قام متجاهلاً عواقبه وآثاره ، فلابدّ لمن يحضر المطاف أن ينتبه لحضور مثل هشام وليّ العهد على المِنْبَر ، وحوله الجلاوزة من أهل الشام ، لكنّ الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) تجاهل وجود هشام ، قاصداً إلى عواقب إقدامه الجرىء ذلك : فهو يسير في إكمال أشواط الطواف ، متزيياً بزيّ الأنبياء ، والناس يتنسّمون منه ريح النبّوة وعبق الرسالة ، وهذا واحد من آثار نضال السنوات الطويلة العجاف الشداد ، التي كابد فيها الإمام أنواع الصعاب ، ليفتح أمام الناس طريق معرفة الإمام والوصول إلى الإمامة ، بينما كانت الخلافة في غفلة عن هذا كلّه ، ومنهمكة في عتوّها وظلمها ولهوها وبذخها وترفها وطغيانها ، بعيداً عن الناس ، والناسُ ، أولئك الذين تجاهلوا إبن الخليفة ، ولم يأبهوا به ، ولم يفتحوا له طريقاً إلى لمس الحجر الأسود ، هاهم يقفون سماطين ، هيبةً للإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ، يُفْرِجون له عن الحَجَر ، ليستلمه ! ، ومثل هذا العمل يخدش غرور هشام الذي يمثّل الخلافة ، ويغيض المنتمين إلى الدولة ، ولذلك تجاهل هشام شخص الإمام ( عليه السلام ) .
  ومما يدلّ على حدّة تأثير الموقف فيهم رواية المدائني ، عن كيسان ، عن الهيثم أن عبد الملك قال للفرزدق : أوَ رافضي أنت يا فرزدق ? ! ، فقال : إن كان حبّ أهل البيت رفضاً ، فنعم (1) ، والشاعر الشعبيّ الفرزدق الذي يعيش بين العامة ، إستصعَبَ ذلك التجاهل ، وإنبرى بإنشاد الميمية العصماء ، التي طار صيتها مع الحُجّاج عندما عادوا إلى مختلف البقاع ، إنّ أيّ حكم سياسيّ لا يتحمّل مثل هذه المواقف التي تحطّ من كرامة رجال الدولة ، وخاصّةً رجال البلاط ، وبهذه الصورة ، ولذلك ، فإنّ الأمويين سجنوا الفرزدق على هذا الشعر الذي إعتبروه إهانةً للنظام ، فكيف لا يكون عمل الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) إستفزازاً سياسيّاً ? ! ، وممّا يؤكّد على إستهداف الإمام ( عليه السلام ) للنظام في هذا التصرّف هو أنّ الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) سارع إلى الاتصال بالفرزدق في السجن ، ووصله بشيء رمزيّ من المال ، مكافأة لموقفه السياسي ذلك ، ولا ريب أنّ في هذا أيضاً إعلاناً لدعم المعارضة المعلنة من قبل الفرزدق ، لا يمكن إغفاله عن سجلّ الأعمال السياسيّة التي قام بها الإمام ( عليه السلام ) .

وموقفه من عمر بن عبد العزيز
  كان عمر بن عبد العزيز ، قبل تولّيه الخلافة ، يسكن المدينة ، يَرْفُلُ أثوابَ التَرَف ، باعتباره من العائلة المالكة ، وكان من ترفه انّه يلبس الثوب بأربعمائة دينار ، ويقول : ( ما أخْشَنَهُ ) (2) .

---------------------------
(1) المحاسن والمساوي للبيهقي ( ص 22 ـ 213 ) .
(2) طبقات إبن سعد ( 5 : 246 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 146 _

  وقال بعضهم : كنّا نعطي الغسّال الدراهم الكثيرة حتّى يغسل ثيابنا في إثر ثياب عمر بن عبد العزيز ، من كثرة الطيب الذي فيها (1) ، قال عبد الله بن عطاء التميمي : كنت مع علي بن الحسين في المسجد فمرّ عمر بن العزيز ، وعليه نعلان شراكهما فضَة ، وكان من أمجن الناس ، وهو شاب . . . (2) ، ولما كان يتمتع به من ذكاء وتدبير ، كان يُراقب أعمال الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) عن كَثَب ، فيجد أنّه ( عليه السلام ) قد هيّأ بجهاده وصبره الأرضيّة الصالحة لإنقلابٍ إجتماعي جذري على الحكم الأمويّ المروانيّ ، وكان الإمام يتوسّم في عُمَرَ التطلّع إلى الخلافة ، فقد قال ( عليه السلام ) لعبد الله بن عطاء ذيل حديثه السابق : أترى هذا المترَف ـ مُشيراً إلى عمر ـ إنّه لن يموت حتّى يلي الناس ، فلا يلبث إلاّ يسيراً حتّى يموت ، فإذا مات لعنه أهلُ السماء ، وإستغفر له أهلُ الأرض (3) .
  ففي هذا الحديث :
1 ـ يشاهد توسّم الإمام ( عليه السلام ) في عُمَرَ أنّه يتطلّع إلى الحكم والولاية ، رغم بعده عنها ، وإشتغاله في المدينة بما لا يمتّ إلى ذلك ، وإعلانه عن هذا التوسّم يدل بوضوح على أنّ الإمام كان يفكّر في شؤون الحكومة لا حاضرها بل ومستقبلها ، وأنّه كان مفتوحاً أمامه بوضوح .
2 ـ إنّ الإمام ( عليه السلام ) كان يعرف من ذكاء عمر ودهائه أنّه سوف يُنافق في ولايته ، بما ينطلي على الناس أنّه صالح و ( عادل ) في الحكم ، بينما هو ، قد إحتال في ضرب الحقّ وتثبيت الباطل مدّةً أطول ، وقد كان من شأن الدولة الأموية أن تزول قبل ذلك ، لولا تصرّفاته المريبة حيث أن آثار جهود الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ونضاله ضدّ الطاغوت الأمويّ ، كانت قد بدت ظاهرةً ، فكان الجوّ السياسيّ على أثر إنتشار الوعي مشرفاً على الإنفتاح ، بحيث لم يطق التعنّت الأمويّ على الإستمرار في عتوّه ، وإعلان فساده ، وإنتهاكه للحرمات كسَبّ الإمام عليّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على المنابر ، على رؤوس الأشهاد ، وصَدّ الأمّة عن المعارف والثقافة الإسلامية الصحيحة بمنع الحديث والسنّة ، والأدهى من كلّ ذلك إستمرار الضغط على كبار المسلمين وسادتهم كعلماء أهل البيت ( عليهم السلام ) بالتقتيل والتشريد والسجن ، وكعلماء الصحابة ومؤمنيهم بالإهانة والمطاردة والقتل .

---------------------------
(1) الأغاني ( 9 262 ) .
(2) مناقب إبن شهرآشوب ( 4 : 155 ) .
(3) بصائر الدرجات ( ص 45 ) ودلائل الإمامة للطبري ( ص 88 ) وبحار الأنوار ( 46 : 23 و 327 ) وإثبات الهداة ( 3 : 12 ) وقد روى عاصم بن حُميد الحنّاط في أصله ( ص 23 ) قريباً من هذا النصّ عن عبد الله بن عطاء قال : كنت آخذاً بيد أبي جعفر ، وعمر بن عبد العزيز عليه ثوبان معصفران ، قال : فقال أبو جعفر : أما انّه سيلي ثم يموت ، فيبكي عليه أهل الأرض ويلعنه أهل السماء ، ودلالته على المعاني التي ذكرناها أوضح .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 147 _

  فكان عمر بن عبد العزيز ، وهو الذي راقب الأوضاع عن كَثَبٍ ، يعرف كلّ هذه المفارقات في حكم آبائه وسلفه ، فلمّا إستولى على كرسيّ الخلافة بدأ بتبديل تلك السياسة الخاطئة ، فعمد إلى رفع ذلك السبّ عن الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، الذي كان وصمة عار على جبين الحكم الأمويّ ، ولطخة سوداء في صفحات تاريخ المسلمين لا تُمحى مدى الدهر ، إذ يُسبّ أحد الخلفاء ، ابن عمّ رسول الله وصهره ، وأحد كبار الصحابة ، على منابرهم مدّة مديدة ، بكلّ صلافةٍ وجُرْأةٍ (1) ، وقد كان عمر نفسه ممن يلعن عليّاً قبل تولّيه السلطة ، حينما كان يتعلّم في المدينة (2) ، ويمكن التوجه إلى بعض سياسات عمر في هذا المجال من خلال ما روي من أمره بجلد من سب معاوية (3) مع أن من غير المتصور أن يكون عمر جاهلاً بما جناه معاوية على هذا الدين من مآس وإجرام بدءاً بمحاربة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وإنتهاءاً بتنصيبه إبنه يزيد على رقاب المسلمين بالولاية والحكم .
  ثم إنّ سبّ الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لم يؤدّ إلاّ إلى النتائج المضادّة لأهداف بني اُميّة ، مهما تطاول ، وقد تنبّه العقلاء إلى ذلك ، وجاء نموذج من هذا في ما روي عن عامر بن عبد الله بن الزبير وكان من عقلاء قريش سمع ابناً له ينتقص علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فقال له : لا تنتقص عليّاً ، فإنّ الدينَ لم يَبْنِ شيئاً فإستطاعت الدنيا أنْ تهدمَه ، وإنّ الدنيا لم تبْنِ شيئاً إلاّ هدمه الدين ! ، يابنيّ ، إنّ بني اُميّة لهجوا بسبّ عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) في مجالسهم ولعنوه على منابرهم ، فإنّما يأخذون ـ والله ـ بضَبْعَيْه إلى السماء مدّاً ، وإنّهم لهجوا بتقريظ ذويهم وأوائلهم من قومهم فكأنّما يكشفون منهم عن أنتن من بطون الجيَف ، فأنهاك عن سبّه (4) ، ثم رفع عُمَر بن عبد العزيز المنع عن نشر الحديث والسنّة ، فعمّم أمراً بكتابة الحديث وتدوين العلم ، وسجّل باسمه هذه المأثرة التي لا يزال كثير من المصنفين يمدحونه بها ! .

---------------------------
(1) لاحظ الكشكول في ما جرى على آل الرسول ( ص 156 ) .
(2) الكامل في التاريخ لابن الأثير ( 5 : 42 ) .
(3) انظر الإستيعاب لإبن عبد البر القرطبي ( 3 : 1422 ) .
(4) الأمالي للطوسي ط البعثة ( ص 588 ) رقم ( 1217 ) المجلس (25) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 148 _

  ثم رفع عُمَر بن عبد العزيز المنع عن نشر الحديث والسنّة ، فعمّم أمراً بكتابة الحديث وتدوين العلم ، وسجّل بإسمه هذه المأثرة التي لا يزال كثير من المصنفين يمدحونه بها ! ، إنّ عمر بادر إلى هذه الأعمال وأمثالها ، لتلافي أمر إنهدام الدولة الأموية ، وقبل أن ينسحب البساط من تحته وتحت قبيلته ، وأخطر ما في عمله أنّه أخّر نتائج الجهود الجبّارة التي قام بها الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) إلى فترة أبعد ، لما فتحه أمام الناس من نوافذ للأمل بالإصلاح ، فتقاعسوا عن متابعة الأهداف التي خطَط لها الإمام ( عليه السلام ) ، لأنهم علَقوا آمالاً طوالاً عراضاً على عمر ، وتظاهره بالصلاح ، بل عدّوه مجدّداً للإسلام في بداية القرن الثاني ، وكالوا له المدح والثناء ، وكَسَبَ وُدَ كثير من الناس ، حتّى إتبعوه بإلاستغفار بعد هلاكه ، بينما هو ، لو كان يريد الخير للأمّة لردّ الأمر إلى أهله ، والحقّ إلى نصابه ، ولأصلح أهمّ ما أفسده بنو أمية والخلفاء من قبله ، وهو إرجاع الأمر إلى أهل البيت ( عليهم السلام ) الذين هم أولى بالأمر منه .
  قال السيّد المقرّم : ولو كان إبن عبد العزيز صادقاً . . . لردّ الخلافةَ إلى أهلها ، وهل ظُلامة أحدٍ أكبرُ من ظلامة أهل البيت ( عليهم السلام ) في عدم إرجاع الحقّ إليهم ? وتعريف الأمّة أنهم الأولى ممّن تسنّم منبر النبوّة بغير رضاً من الله ولا من رسوله ? (1) ولكنّه لم يفعل ايّ شيّء في هذا المجال ، ولو كان محبّاً للعلم ، وحفظه من الدروس ، لما إكتفى برفع المنع من تدوينه ، بل لتصدّى لتلك المجموعة التي دأبَ الخلفاء وخاصة معاوية على إختلاقها ووضعها ونشرها وتشويه الحقّ بها ، وكان من السهل وقوف عُمَرَ عليها فجمعها وأبادها ، أو كشفها وأعلن عن زيفها ولأمكنه كذلك السعي لفسح المجال أمام تلك المجموعة الممنوع نقلها وتداولها من الحديث والعلم ، والتي كانت تحتوي على فضائل علي وآله ( عليهم السلام ) ، فنشرها وأفصح عنها وأذاعها ، ولكن تلك الأحاديث لو نشرت لما بقي لدولة بني أمية ذكر ، فهو لم يفعل شيئاً من هذا ، وإنّما إكتفى بتصرّفاتٍ تغرّ الناس وتقنعهم بأنّه عادل ، يحبّ العلم ، ويحافظ على الإسلام ، كي لا تتعمّق نقمة الناس عليه وعلى الخلافة الأموية ، فتنقلب عليه الأمة ، ومهما يكن ، فإنّ تعرّض الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) لعمر بن عبد العزيز ، في ذلك الوقت ، وهو من العائلة المالكة ، ويتطلّع إلى الخلافة ، وهو على ما كان عليه من الترف والبذخ اللذين يدّلان على روح الطاغوت في وجوده ، إنّ تعرّض الإمام له يدّل على نوع من الإقتحام السياسي ، وهو موقف خطر يقفه الإمام ، بلا ريب ، يستتبع المؤاخذة من الحكّام الظلمة .
  ولكن الإمام ( عليه السلام ) كان يقتطف ثمار خطّته السياسيّة ، فلا يبالي بما سيقع عليه من جراء هذا الإعلان .

---------------------------
(1) الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ( ص 65 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 149 _

  ولقد أعلن ، فعلاً تصدّيه لمثل ذلك في ما رواه حفيده جعفر الصادق ( عليه السلام ) في قوله تعالى : ( هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا ) ( سورة مريم : 98 ) قال : هم بنو اُمية ، ويوشك أن لا يحسّ منهم أحد ولا يُخشى . . . ما أسرعه سمعتُ علي بن الحسين ( عليه السلام ) يقول : إنه قد رأى أسبابه (1) ، نعم ، رأى الإمام السجّاد ( عليه السلام ) تلك الأسباب التي كانت من صنع سياسته الحكيمة .

ثانياً : موقفه من أعوان الظلمة
  لقد شدّد الإسلام النكير على إعانة الظالمين ، وإعتبره ظلماً وتعديّاً وتجاوزاً للحدود ، حتّى عُدّ في بعض النصوص من الكبائر التي تُوعدَ عليها بالنار ، ففي رواية معايش العباد التي ذكر فيها وجوه الاكتساب وأحكامها ، قال الصادق ( عليه السلام ) : وأما وجه الحرام من الولاية : فولاية الوالي الجائر ، وولاية ولاته ، الرئيس منهم ، وأتباع الوالي ، فمن دونه من ولاة الولاة إلى أدناهم ، . . . لأنّ كلّ شي من جهة المعونة لهم معصية ، كبيرة من الكبائر ، وذلك : أنّ في ولاية الوالي الجائر درس الحقّ كلّه ، وإحياء الباطل كلّه ، وإظهار الظلم والجور والفساد ، وإبطال الكتب ، وقتل الأنبياء والمؤمنين ، وهدم المساجد ، وتبديل سنّة الله وشرائعه ، فلذلك حرم العمل معهم ، ومعونتهم ، والكسب معهم (2) ، ومما لا يخفى على أحد : أنّ الجائرين لم يصلوا إلى مآربهم ، لو لم يجدوا أعوانا على ما يقومون به من مظالم ومآثم ، وقد عبَر الإمام ( عليه السلام ) عن ذلك لمن راح يذرف الدموع على ما يجري على أهل البيت من المصائب والظلم ، ما معناه : أنّ المسؤول عن ذلك ليسوا هم الظالمين فقط ، بل مَنْ توسّط في إيصال الظلم وتمكين الظلمة ، وتمهيد الأمر لهم ، كلهم مشاركون في الجريمة ، ولذلك أيضاً ورد اللعن على ( مَنْ لاقَ لهم دواة ، أو قطّ لهم قلماً ، أو خاط لهم ثوباً ، أو ناولهم عصاً ) .
  مع أن هذه الأدوات لا تباشر الظلم ، وإنّما هي جوامد لا تعقل ، إلاّ بوسائط وبعد مراحل ، وقد يستفاد منها للخير والصلاح ، ولكنّ القيام بخدمة الظالم ، ولو بهذه الأمور ، يكون من المعونة له ، وقد إعتمد الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) على هذه القاعدة الإسلامية ، وجعلها ركيزة في مقاومة النظام الفاسد ، وحاول تجريده من سلاح الوعّاظ المحيطين به ، المتزلّفين ، الذين تمرّر السلطة على وجودهم ما تقوم به من إجراء يحسّنون بذلك أفعالها أمام العوامّ ، ويوقّع علماء الزور على آثامها .

---------------------------
(1) مناقب شهرآشوب ( 3 : 276 ) .
(2) تحف العقول ( ص 332 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 150 _

  ففي الحديث أنّ الإمام السجّاد ( عليه السلام ) كان يقول : العامل بالظلم ، والمعين له ، والراضي به : شركاء ثلاثة (1) ، وكان يُحذر الناس من التورّط في أعمال الظلمة ، ولو بتكثير سوادهم والحضور في مجالسهم ، والانخراط في صحبتهم ، لانّ الظالم لا يريد الصالح لكي يستفيد من صلاحه ، وإنّما يريده : إمّا لتوريطه في مظالمه وآثامه ، او أن يجعله جسراً يعبر عليه للوصول إلى مآربه وأهدافه الفاسدة ، فكان الإمام ( عليه السلام ) يقول : لا يقول رجل في رجل من الخير ما لا يعلم ، إلاّ أوشك أن يقول فيه من الشرّ ما لا يعلم ، ولا إصطحب إثنان على غير طاعة الله ، إلاّ أوشك أن يتفرّقا على غير طاعة الله (2) .
  فبعض ظاهري الصلاح يتصوّر أنّ اصطحاب الظالمين لا يضرّه شيئاً ، وإنّما يفيد من خلاله خدمةً ، أو على الأقلّ يكفيه شرّاً ويدفع عنه ضرراً ! ! ، ولكّنه تصوّر خاطىء ، مرتكز على الغفلة عن الذي قلناه من إستغلال الظالم لصحبة الصالحين لتوريطهم ، أو تمرير أغراضه عبر سمعتهم ، وهو لا يصحبهم على أساس الطاعة قطعاً ، فلابدّ أن يتفرّقا على غير طاعة الله أيضاً ، وهذا أقلّ الأضرار الحاصلة من هذه المصاحبة الخطرة ، كما أنّ الذي يعيش مع الظالم ، ولو لفترة قصيرة ، فإنّ اصطحابه لا يخلو من كلمات التزلّف والمجاملة ، والملاطفة بما لا واقع لكثير منه ، ولو بعمل مثل الاحترام والتبجيل ، وهذا كلّه ممّا يزيد من غرور الظالم وهو تصديق لما يقول ، وتوقيع على ما يفعل ، كما أنّ فيه تغريراً للناس البسطاء الذين يرون الصالحين في صحبة الظالم ، فيعتبرون ذلك تصويباً لتصرّفاته ، وإسباغاً للشرعيّة عليها ، بل ، إنّ مجرّد سكوت مَنْ يصحب الظالم ، على ما يرى من فعله ، هو جريمة يحاسب عليها ، وقد كان الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) يسعى بكلّ الوسائل من النصح والموعظة والإرشاد ، إلى التخويف والتهديد ، إلى الفضح والتشهير ، في سبيل إقناع المتصلين بالأمويين من علماء السوء ، ليرتدعوا ، ويتركوا الارتباط بالبلاط ، هادفاً من وراء ذلك فضح الحكّام ، وتجريدهم عن كلّ أشكال الشرعية ، ومن أعلام البلاط الذين ركَز الإمام ( عليه السلام ) جهوده في سبيل قطع إرتباطه بالحكّام هو : الزُهْريّ ، الذي أكسبه الأمويّون زوراً وبهتاناً شهرةً عظيمةً ،وروّجوا له ، ونفخوا في جلده ، حتّى جعلوه من أوثق الرواة في نظر الناس ، بينما كان من المنحرفين عن الإمام علي ( عليه السلام ) (3) ، وقال محمّد بن شيبة : شهدتُ مسجد المدينة ، فإذا الزهريّ ، وعروة بن الزبير جالسان يذكران علياً ( عليه السلام ) فنالا منه (4) .

---------------------------
(1) بلاغة علي بن الحسين ( عليه السلام ) (224) عن الاثني عشرية ، للعاملي .
(2) تاريخ دمشق ( الحديث 128 ) ومختصره لإبن منظور ( 17 : 24 ) .
(3) شرح نهج البلاغة ( 4 : 102 ) .
(4) شرح نهج البلاغة ( 4 : 102 ) والإعتصام بحبل الله المتين ( 2 : 258 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 151 _

  وإشتهر أنه كان يعمل لبني اُمية (1) و كان صاحب شرطتهم (2) ولا يختلف الناس أنه كان يأخذ جوائزهم (3) ، ولم يزل مع عبد الملك وأولاده هشام وسليمان ويزيد ، وقد إستقضاه الأخير (4) ، وجميع أهل البيت ( عليهم السلام ) يجرحونه ، وتكلّم اُناس فيه من غيرهم : قال عبد الحق الدهلوي : إنّه قد إبتلي بصحبة الأمراء ، وبقلّة الديانة ، وكان أقرانه من العلماء والزهّاد يأخذون عليه وينكرون ذلك منه ، وكان يقول : أنا شريك في خيرهم دون شرّهم ! ، فيقولون له : ألا ترى ما هم فيه ، وتسكت ?(5) ولذلك أيضاً كانوا يعلنون : ( مَنْ كان يأتي السلطان ، فلا يحضر مجلسنا ) (6) .
  وفي علوم الحديث للحاكم : قيل ليحيى بن معين : الأعمش خير أم الزهري ? فقال : برئتُ منه إن كان مثل الزهري ، إنّه كان يعمل لبني أميّة ، والأعمش مُجانب للسلطان ، وَرِع (7) ، وفي ميزان الذهبي في ترجمة خارجة بن مصعب أنه قال : قدمتُ على الزهري وهو صاحب شرطة بني أمية فرأيته يركب وفي يده حَرْبَة ، وبين يديه الناس ، وفي أيديهم الكافركوبات ! ، فقلت : قبّح الله ذا من عالم ، فلم أسمع منه (8) ، وقد عدّه ابن حجر في من أكثر من التدليس وقال : وصفه الشافعي والدارقطني وغير واحد بالتدليس (9) ، وقال القاسم بن محمد من

---------------------------
(1) تهذيب التهذيب ( 4 : 225 ) .
(2) الجامع لأخلاق الراوي ( 2 : 203 ) .
(3) الاعتصام ( 1 : 285 ) .
(4) لاحظ وفيات الأعيان ، لابن خلكان ( 3 : 371 ) .
(5) رجال المشكاة ، للدهلوي .
(6) رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي ( 1 530 ) ضمن كلام الفزاري ، ونقل ابن حجر الكلام في ترجمته في تهذيب التهذيب ( 1 : 152 ) إلاّ أنه حذف هذه الجملة ! .
(7) الإعتصام ( 2 : 257 ) ومعرفة علوم الحديث للحاكم ( ص 54 ) .
(8) الإعتصام ( 2 : 257 ) وميزان الإعتدال ( 1 : 625 ) والكامل لإبن عديّ ( 3 : 922 ) .
(9) تعريف أهل التقديس ( ص 109 ) رقم ( 102 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 152 _

أئمة الزيدية : أمّا الزهريّ فلا يختلف المحدثّون وأهل التاريخ في انّه كان مدلّساً (1) ، وأنّه كان من أعوان الظلمة بني أمية ، وقد أقرّوه على شرطتهم (2) ، وقال الشيخ محمد محمد أبو شهبة : إعتبروا من الجرح الذهاب إلى بيوت الحكّام ، وقبول جوائزهم ، ونحو ذلك مما راعوا فيه إنّ الدوافع النفسيّة قد تحمل صاحبهاعلى الانحراف (3) .
  وقد جرح أبو حازم سلمة بن دينار ، الزهريَ لما أرسل إليه سليمان بن هشام بن عبد الملك ، ومعه ابن شهاب الزهري ، فدخل أبو حازم فإذا سليمان متكىء ، وابن شهاب عند رجليه ، فقال أبو حازم كلمات لاذعة لابن شهاب ، منها قوله : ( إنّك نسيتَ الله ، ما كلّ مَنْ يُرسل إليّ آتيه ، فلولا الفَرَقُ من شرّكم ما جئتكم . . . ) (4) ولقد تكلّم فيه شيخ أهل الجرح والتعديل يحيى بن معين بكلام خشن حول قتل الزهري لغلامه وقال : إنه ولي الخراج لبعض بني اُمية (5) ، وقال يحيى بن معين في معرفة رجاله : هجا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وكان أعمى : الزُهرْيَ وصالح بن كيسان ، ومعاوية بن عبد الله بن جعفر ، في بيت واحد فقال :
لـيس بـإخوان الـثقات ابنُ iiمسلم      ولا صالح ولا الطويل معاويهْ (6)

---------------------------
(1) لاحظ طبقات المدلسين لإبن حجر ( ص 15 ) وانظر الجامع لأخلاق الراوي ( 1 : 191 )الحديث 131 .
(2) الإعتصام ( 2 : 257 ) .
(3) دفاع عن السنة ( ص 31 ) وانظر قصة حماد بن سلمة مع أمير البصرة ، في الجامع لأخلاق الراوي ( 1 : 7 ـ 568 ) وحلية الأولياء ( 6 : 249 ) .
(4) الإعتصام ( 2 : 258 ) والكلام بطوله في الإمامة والسياسة ( 2 : 105 ـ 110 ) .
(5) انظر جامع بيان العلم للقرطبي ( 2 : 160 ) وصرَح بأنه ترك الكلام الخشن لأنه لا يليق بمثله ، ولكن لم نجد ذكراً لمثل ذلك في رجال إبن معين ، ولعلّ الطابعين أيضاً تركوا ذلك رعاية لما يليق بالزهري ، وان كان فيه إساءة إلى إبن معين وإلى التراث بالخيانة فيه .
(6) معرفة الرجال ( 2 : 50 ) رقم (80) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 153 _

  فنفى إبن معين الوثاقة عن الزهري على لسان الشاعر ، وهو لو لم يوافق عليه ولم يعتقده لم ينقله أو لردّ عليه ، لكنه لم يفعل ، وقال القاسم بن محمّد : أليس كان بنو أمية وأتباعهم يلعنون عليّاً ( عليه السلام ) على المنابر ، وإبن شهاب يسمع ويرى ، فماله ما يغضب ويُظهر علمه ? (1) ، وقال السيّد مجد الدين المؤيّدي : أمّا كون الزهريّ من أعوان الظلمة فمما لا خلاف فيه ، وقد قدح فيه نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم ، وإبن شهاب ممن لا يعدّلون ، بطاعة بني أميّة ، وتلبيسه وتحريفه لمكان كثرة وفادته اليهم معروف ، وهو لسان بني أميّة (2) ، وقال المؤيد بالله في شرح التجريد : الزهريّ عندنا في غاية السقوط (3) ، وستعمل الإمام زين العابدين (عليه السلام) أساليب عديدة لإتمام الحجّة على الزهريّ ، ليعتبر به هو وأمثاله ، وكان التركيز عليه لكونه أكبر علماء البلاط ، وأعرفهم عند العوام : فمن أساليبه : إسماعهُ المواعظ في المناجاة ، قال الزهريّ : سمعتُ علي بن الحسين سيّد العابدين يحاسب نفسه ويناجي ربّه ، ويقول : حتّام إلى الدنيا غرورك : وإلى عمارتها ركونك . . . ? (4) ، ولما سأله الزهري : أيّ الأعمال أفضل عند الله تعالى ? فقال ( عليه السلام ) : ما من عمل بعد معرفة الله تعالى ومعرفة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أفضل من بغض الدنيا ، وإن لذلك لشعباً كثيرة ، وللمعاصي شعباً : فأول ما عُصي الله به : الكبر . . . ثم الحسد ، فتشعّب من ذلك حب النساء ، وحب الدنيا ، وحبّ الرئاسة ، وحبّ الراحة ، وحبّ الكلام ، وحبّ العلوّ والثروة ، فصرن سبع خصال ، فإجتمعن كلهنّ في حبّ الدنيا ، فقال الأنبياء والعلماء : ( حبّ الدنيا رأس كل خطيئة ) والدنيا دنياوان : دنيا بلاغ : ودنيا ملعونة (5) ، ومنها : التنبيه الخاصّ : قال المدائني : قارف الزهريّ ذنباً إستوحش منه ، وهام على وجهه ، فقال له علي ابن الحسين : يازهريّ ، قنوطك من رحمة الله التي وسعت كلّ شي أعظم عليك من ذنبك فقال الزهري : ( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) ، ( الأنعام (6) الاَية (124) ) فرجع إلى ماله وأهله (6) .

---------------------------
(1) الإعتصام ( 2 : 260 ) .
(2) لوامع الأنوار ( ص 79 ).
(3) لوامع الأنوار ( ص 110 ) وقد ألّف سماحة السيد بدر الدين الحوثي حول ( الزهري ) كتاباً حافلاً في فصلين ، فليراجع .
(4) إلى آخر ما ذكره ( عليه السلام ) .
(5) الكافي ( 2 : 130 ) المحجة البيضاء ( 5 : 365 ) .
(6) مختصر تاريخ دمشق ( 17 : 245 ) وكشف الغمة ( 2 : 302 ) وبحار الأنوار ( 46 : 7 ) .