1 ـ مقاومة العصبيّة والعنصريّة : إن الأمويين بعد إحكام قبضتهم على الحكم اعتمدوا سياسة التفرقة العنصرية بين طوائف الأمة ، والعصبية القبليّة بين مختلف طبقاتها ، محاولين بذلك تفتيت المجتمع الإسلامي ، وتقطيع أواصر الوحدة بين أفراد الأمة الإسلامية ، تلك الوحدة التي شرّعها الله بقوله تعالى : ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ )الأنبياء (21) الاَية : 92 ، ودفعاً لها على التفرّق الذي نهى عنه الله بقوله تعالى : ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ و ) ، ( سورة آل عمران : (3) الاَية : 103 ) .
  حتّى وصل الأمر إلى : أنّه تتابع فخر النزاريَة على اليمنيّة ، وفخر اليمنيَة على النزاريَة ، حتّى تخرّبت البلاد ، وثارت العصبيّة في البدو والحضر كما يقول المسعودي (1) .
  وقال ابن خلدون : إن عصبيّة الجاهلية نُسِيَتْ في أول الإسلام ، ثم عادت كما كانت ، في زمن خروج الحسين ( عليه السلام ) عصبية مضر لبني اُميّة كما كانت لهم قبل الإسلام (2) ، فقاموا بأعمال تسير على هذه السياسة الخارجة عن حدود الدين والشرع ، مثل تأمير العرب ، وتقديم العربي ولو كان خاملاً على الكفوئين من غير العرب ، والسعي في تعريب كل شرائح وأجهزة الدولة ، بتنصيب العرب في مناصب الديوان ، والقضاء ، وحتّى الفقه ، وتجاوزوا كلّ الأحكام الشرعية في التزامهم بأساليب الحياة العربية الجاهلية ، فتوغّلوا في اللهو والاستهتار بالمحرَمات ، والظلم ، والقتل ، حتّى تجاوزوا أعرافاً عربية سائدة بين العرب قبل الإسلام ، فخانوا العهد ، وأخفروا الذمّة ، وهتكوا العرض (3) ، ولقد بلغت تعدّياتهم أن كان معاوية : يعتبر الناس العرب ، ويعتبر الموالي شبه الناس (4)وقد إستغلّ الجاهلون هذا الوضع ، فكان العرب لا يزوجون الموالي (5) .
  وجاء في بعض المصادر أن حاكم البصرة بلال بن أبي بُردة ضرب شخصاً من الموالي ، لأنه تزوجّ امرأةً عربيّة (6) ، ووصلت عدوى هذا المرض إلى علماء البلاط أيضاً فاتبعوا سياسة الأسياد ، فقد وجّهت إلى الزُهْريّ تهمة أنه لا يروي الحديث عن الموالي ، فسئل عن ذلك ? فإعترف بذلك(7).

---------------------------
(1) مروج الذهب ( 2 : 197 ) .
(2) نقله على جلال في كتاب : الحسين ( 2 : 188 ) .
(3) لاحظ : ماذا خسر العالم بإنحطاط المسلمين ، لأبي الحسن الندوي ، واقرأ ثورة زيد ( ص 77 وما بعدها ) .
(4) تاريخ دمشق ، مختصر ابن منظور ( 17 : 284 ) .
(5) وسائل الشيعة ، كتاب النكاح ، الباب (26) الحديث (4) تسلسل ( 25060 ) ولاحظ العقدالفريد ، للأندلسي ( 3 : 360 ـ 364 ) .
(6) لاحظ : طبقات ابن سعد ( 7 : 26 ق 2 ) ، وانظر تهذيب الكمال ، للمِزي ( 4 :272 ) .
(7) المحدث الفاصل ، للرامهرمزي ( ص 409 ) رقم (431) والجامع لأخلاق الراوي ، للخطيب ( 1 : 192 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 93 _

  قال أحمد أمين المصريّ : لم يكن الحكم الأموي حكماً إسلامياً يُسوّى فيه بين الناس ، ويكافأ فيه المحسن عربياً كان أو مولىً ، ويعاقب من أجرم عربياً كان أم مولى ، ولم تكن الخدمة للرعيَة على السواء ، وإنّما كان الحكم عربيّاً ، والحكّام فيه خدمة للعرب على حساب غيرهم ، وكانت تسود العرب فيه النزعة الجاهلية ، لا النزعة الإسلاميّة (1) ، ولقد قاوم الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) هذه الردّة الاجتماعية عن الإسلام بكل قوّة ، وتمكّن بحكم موقعه الاجتماعي ، وأصالته النسبيّة أن يقتحم على بني أمية ، بلا رادع أو حرج .
  قال الدكتور صبحي : في ما كان الأمويون يقيمون ملكهم على العصبيّة العربيّة عامة ، كان زين العابدين ( عليه السلام ) يشيع نوعاً من الديمقراطيّة الاجتماعية (2) بالرغم مما يجري في عروقه من دمٍ أصيلٍ ، أباً و اُمَاً ، وقد أقدم على ما زعزع التركيب الاجتماعيّ للمجتمع الإسلاميّ الذي أراد له الأمويّون أن يقوم على العصبيّة (3) ، وقد قاوم الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ذلك ، نظرياً بما قدّمه من تصريحات ، وعمليّاً بما أقدم عليه من مواقف : فكان يقول : لا يفخر أحد على أحدٍ ، فإنّكم عبيد ، والمولى واحد (4) ، وكان يجالس مولىً لاَل عمر بن الخطاب ، فقال له رجل من قريش هو نافع بن جبير : أنت سيّد الناس ، وأفضلهم ، تذهب إلى هذا العبد وتجلس معه ? فقال ( عليه السلام ) : أتي من أنتفع بمجالسته في ديني (5) أو قال : إنما يجلس الرجل حيث ينتفع (6) .
  ومن المعلوم أن ما ينتفع به الإمام ( عليه السلام ) من هذا المولى ليس إلاّ بنفس المجالسة ، فإنّ هذه المجالسة تحقّق للإمام غرضه السياسي من إعلان معارضته لسياسة بني اُميّة المبتنية على طرد الموالي وعدم احترامهم ، فإذا جالسه الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وهو مَنْ لا يُنكر شرفه نسباً وحسباً فإنّ ذلك نسف لتلك السياسة التي تبنّتها الدولة ورجالها .

---------------------------
(1) ضحى الإسلام ( 1 : 187 ) .
(2) يلاحظ أن هذا الكاتب نفسه يقول عن الإمام : ( لكن الإقبال على الله ، وإعتزال شؤون العالم . . . كان منهجه في حياته الخاصة ) وقد سبق كلامه في المقدمة ( ص 10 - 1 ) .
(3) نظرية الإمامة، للدكتور صبحي (ص 257.) (4)بلاغة علي بن الحسين ( عليه السلام ) ( ص 217 ) .
(5) سير أعلام النبلاء ( 4 : 388 ) وانظر حلية الأولياء ( 3 : 137 ) وصفوة الصفوة ( 2 : 98 ) .
(6) تاريخ دمشق ( الحديث 30 ) ومختصر ابن منظور ( 17 : 233 ) وطبقات ابن سعد ( 5 : 216 ).

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 94 _

  وقال له طاوس اليماني وقد رآه يجزع ويناجي ربّه بلهفة : يابن رسول الله ، ما هذا الجزع والفزع ، . . . وأبوك الحسين بن علي ، واُمّك فاطمة الزهراء ، وجدّك رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ? فإلتفت الإمام ( عليه السلام ) إليه وقال : هيهات ، هيهات ، ياطاوس ، دَعْ عنّي حديث أبي ، واُمّي ، وجدّي ، خلق الله الجنّة لمن أطاعه وأحسن ، ولو كان عبداً حبشياً ، وخلق النار لمن عصاه ، ولو كان ولداً قرشيّاً ، أما سمعت قوله تعالى : ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ ) ، ( سورة المؤمنون (23) الاَية : 101 ) .
  والله ، لا ينفعك غداً إلاّ تقدمة تُقَدمُها من عمل صالح (1) وأعتق الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) مولاةً له ، ثم تزوَجها ، فبلغ ذلك عبدالملك بن مروان الخليفة الاموي ، فعدّها تحدياً لعرف السلطة الحاكمة ، فكتب إلى الإمام يحاسبه ويعاتبه على ذلك ، ومما جاء في كتابه : ( إنّك علمتَ أنّ في أكفائك من قريش مَن تتمجَد به في الصهر ، وتستنجبه في الولد ، فلا لنفسك نظرت ، ولا على ولدك أبقيت . . . ) .
  وهذا كلام مع أنه يَنُم عن التعزّي بعزاء الجاهلية في عنصريتها وغرورها فهو تعريض بالإمام ( عليه السلام ) أنه ليس بحكيم ، وأنه بحاجة إلى أن يتمجَد بمصاهرة واحد من قريش ، وأن ولده لا ينجب إلاّ بمثل ذلك ، متغافلاً عن أن الإمام ( عليه السلام ) بنفسه هو مصدر الحكمة والمجد والنجابة ، فأجابه الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) بكتاب ، جاء فيه :
( أمّا بعد : فقد بلغني كتابك ، تعنّفني فيه بتزويجي مولاتي ، وتزعم : أنه كان في قريش من أتمجّد به في الصهر ، وأستنجبه في الولد ، وإنه ليس فوق رسول الله مرتقى في مجدٍ ، ولا مستزاد في كرمٍ ، وكانت هذه الجارية ملك يميني ، خرجتْ منّي إرادةً لله ( عز وجل ) بأمر ألتمس فيه ثوابه ، ثم إرتجعتها على سنّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ومن كان زكيّاً في دين الله تعالى فليس يُخلّ به شي من أمره ، وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة ، وتمَم به النقيصة ، وأذهب به اللؤم ، فلا لؤم على امرىٍ مسلم ، وإنّما اللؤم لؤم الجاهلية ، والسلام ) (2) .
  وقد عرّض الإمام ( عليه السلام ) في هذا الكتاب بأن ما يقوم به حكّام بني أمية من تبنّي العصبية هو مخالف للإسلام ولسنّة الرسول، بل قَلَبَ عليه كلّ الموازين التي اعتمدها في كتابه إلى الإمام ، وجعل العتاب مردوداً عليه ، والنقص والعار وارداً على الجاهلية التي يتبجّح بها من خلال العصبية ، وقال ( عليه السلام ) : لا حَسَبَ لقرشي ، ولا عربي إلاّ بالتواضع ، ولا كرم إلاّ بالتقوى ، ولا عمل إلاّ بالنيّة ، ولا عبادة إلاّ بالتفقّه ، ألا وإن أبغض الناس إلى الله مَن يقتدي بسنّة إمام ، ولا يقتدي بأعماله (3) .

---------------------------
(1) مناقب ابن شهر آشوب ( 3 : 291 ) كشف الغمة ( 4 : 151 ) بحار الأنوار ( 46 : 82 ) ونقل عن مجالس ثعلب ( 2 : 462 ) .
(2) الكافي ، الفروع ( 5 : 344 ).
(3) تحف العقول ( ص 28 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 95 _

  وقال ( عليه السلام ) : العصبية التي يأثم صاحبُها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين ، وليس من العصبيّة أن يحبّ الرجل قومه ، ولكن من العصبيّة أنْ يُعينَ قومه على الظلم (1) ، وهذا حسم قيّم في هذا المجال ، حيث أن الميل إلى العُصبة والقبيلة أمر طبيعيّ ، جرت عليه العادة ، فإذا كان على أساس الحب والولاء فهو أمر جيّد ، لكن إذا كان على أساس المحاباة ، وظلم الاَخرين وعلى حساب حقوق الأباعد ، أو كان من باب إعانة الظالم ، فهذا هو المردود في الإسلام ، والذي يدّعيه أصحاب النعرات العُنصريّة ، وأهل الغرور والجهل ، الفارغين من القيم ، كبني اُميّة ، هو النوع الثاني .
  إنّ هذه التصريحات ، وتلك المواقف ، بقدر ما كانت مثيرةً للسلطة المتبنية لسياسة العصبية والعنصرية ، حتّى أثارت أحاسيس الملك نفسه ، فهي في الوقت ذاته كانت منيرةً للدرب أمام الاُمَة الإسلامية بكلّ طوائفها وأجناسها وألوانها وشعوبها وقبائلها ، تلك المغلوبة على أمرها ، تفتح أمامها أبواب الأمل بالإسلام ورجاله المخلصين ، الذين يقود مسيرتهم في ذلك العصر الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) .
2 ـ ضدّ الفقر : من المشاكل الاجتماعية الخطيرة ، التي يستغلّها الحكام لإحكام سيطرتهم على الأمة هي مشكلة الفقر والعوز والحاجة إلى المال ، فإن السلطات تحاول إتّباع سياسة التجويع من جهة ، لإخضاع الناس وترغيبهم في العمل مع السلطات ، وثم سياسة التطميع والتمويل من جهة أخرى ، لتعويد الناس على الترف وزجّهم في الجرائم و الاَثام ، وهم بهذه السياسة يسيطرون على عصب الحياة في البلاد ، وهو المال ، يستفيدون منه في القضاء على مَنْ لا يرضى بهم ، وفي جذب مَنْ يرضون به من ضعفاء النفوس أمام هذه المادّة المغرية ، وقد ركن معاوية إلى هذه السياسة في بداية سيطرته على البلاد ، فأوعز إلى ولاته في جميع الأمصار : انظروا مَنْ قامت عليه البينّة أنه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه (2) ، ولا ريب في أن رفع المستوى المعيشي لدى أفراد الأمة هو واحد من أهمّ الأهداف المرسومة لأيَة محاولة ثورية ، أو عمل إصلاحي ، حتّى لو لم تكن دينية ، فكيف بها إذا كانت إلاهيَة ، يقودها شخص الإمام العادل ? .
  إنّ التحرّك للإصلاح ، والناس في بؤس وتخلّف اقتصادي ، سوف يكلفهم الكثير الذي قد يعجزون عنه ، ولو تمكّن قائد ما أن يرفع من المستوى الاقتصادي للأمة ، فهم يكونون في حالة أفضل لتقبّل اُطروحة الإصلاح ، ويكون أوكد على صمودهم أمام الضغوط التي تفرض عليهم من قبل الظالمين والمعتدين .

---------------------------
(1) بلاغة علي بن الحسين ( ص 203 ) .
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ( 11 : 45 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 96 _

  ثم إنّ السعي في هذا المجال ، والمال حاجة يوميّة لكل أحد ، أوكد في تعميق الصلة بين القيادة والقاعدة ، من حيث تحسّس القيادة لأمسّ الحاجات ، وأكثرها ضرورة وأسرعها نفعاً ، فتكون دليلاً على حقَانيَة سائر الأهداف التي تعلن للخطة الإصلاحية ولقد كان الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) يزاول عمليّة تموين الناس بدقة فائقة ، خاصّةً عوائل الشهداء والمنكوبين في معارك ضد الدولة ، يقوم بذلك في سرية تامَة ، حتّى خفيت في بعض الحالات على أقرب الناس إليه ( عليه السلام ) ، والأهم من ذلك : أن الفقراء أنفسهم لم يطّلعوا على أن الشخص الممون لهم هو الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) إلاّ بعد وفاته ، وإنقطاع اُعطياته .
  فعن أبي حمزة الثمالي : إن علي بن الحسين ( عليه السلام ) كان يحمل الخبز بالليل ، على ظهره ، يتبع به المساكين في ظلمة الليل ، ويقول : ( إنّ الصدقة في سواد الليل تطفىء غضب الرَبّ ) (1) .
  وعن محمد بن إسحاق ، قال : كان ناس من أهل المدينة يعيشون ، لا يدرون من أين كان معاشهم ، فلمّا مات علي بن الحسين ( عليه السلام ) فقدوا ما كان يؤتَوْن به بالليل (2) ، وعن عمرو بن ثابت ، قال : لمّا مات علي بن الحسين ( عليه السلام ) وجدوا بظهره أثراً ، فسألوا عنه ? فقالوا : هذا ممّا كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل (3) .
  وهذه الدقة في السرية كانت من أجل إلهاء عيون الدولة عن مواقفه ، مع أن الهدف الأساسي من هذا العمل وهو تمويل الناس وتمو ينهم كان يتحقّق بتلك الطريقة الهادئة ، ومع أن معرفة الناس للأمر ولو بعد حين كان أوقع في النفوس وأكثر تأثيراً في حبّ الناس لأهل البيت ( عليهم السلام ) ، ومع ما في ذلك من البعد عن الرياء ، والسمعة ، والمباهاة ، وقد وصلت سرية عمله ( عليه السلام ) إلى حدّ أنه كان يتَهم بالبخل : قال شيبة بن نعامة : كان علي بن الحسين يُبَخَل ، فلمّا مات وجدوه يعول مائة أهل بيت بالمدينة (4) .

---------------------------
(1) تاريخ دمشق ( الحديث 76 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 238 ) .
(2) تاريخ دمشق ( الحديث 77 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 238 ) .
(3) تاريخ دمشق ( الحديث 79 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 238 ) .
(4) تاريخ دمشق ( الحديث 80 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 97 _

  وقال ابن عائشة ، عن أبيه ، عن عمّه : قال أهل المدينة : ما فقدنا صدقة السرّ حتّى مات علي بن الحسين (1) .
  وهذا واحد من أساليب عمله في رفع هذه المشكلة ، وقد اتّبع أساليب اُخرى ، نقرأ عنها الأحاديث التالية :
  إنه ( عليه السلام ) كان يعتبر المشكلة الاقتصادية محنةً كبيرة أن يجد الفقر متفشياً في الدولة الإسلامية ، وهي السعة بحيث لا يمكن معالجتها بسهولة : ففي الحديث :
  شكا إليه ( عليه السلام ) بعض أصحابه ديناً ، فبكى الإمام ( عليه السلام ) فلمّا سئل عن سبب بكائه ? قال ( عليه السلام ) : وهل البُكاء إلاّ للمحن الكبار ? وأي محنة أكبر من أن يرى الإنسان أخاه المؤمن في حاجة لا يتمكّن من قضائها ، وفي فاقةٍ لا يطيق دفعها (2) .
  وأسلوب آخر في التركيز على مقاومة المشكلة :
  عن الرضا عن أبيه ، عن جده : قال : قال علي بن الحسين : إنّي لأستحيي من الله ( عز وجل ) أن أرى الأخ من إخواني ، فاسأل الله له الجنة ، وأبخل عليه بالدنيا ، فإذا كان يوم القيامة قيل لي : ( لو كانت الجنة بيدك لكنتَ بها أبخل وأبخل وأبخل ) (3) .
  إنه رفع لمستوى مقاومة المشكلة إلى مستوى مثاليّ رائع ، وخطاب موجّه إلى كل من يعمل في الدنيا على حساب نعيم الاَخرة ، لا على معطياتها الدنيوية فقط ، إنّه معنىً عرفاني دقيق ، ورفيع ، وبديع ، وأسلوب آخر ، يدلّ على إصرار الإمام ( عليه السلام ) لتجاوز المشكلة :
  قال عمرو بن دينار : دخل علي بن الحسين على محمّد بن اُسامة بن زيد ، في مرضه ، فجعل محمّد يبكي ، فقال : ما شأنك ? قال محمّد : عليَ دين ، قال : كم هو ? قال : خمسة عشر ألف دينار أو بضعة عشر ألف دينار ، قال الإمام : فهي عليَ (4) .
  وقد جاء في الحديث أن الإمام ( عليه السلام ) قاسم الله تعالى ماله مرتين (5) ، هذا من جهة .

---------------------------
(1) حلية الأولياء ( 3 : 361 ) ، تاريخ دمشق ( الحديث 81 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) ، وسير أعلام النبلاء ( 4 : 393 ) .
(2) أمالي الصدوق ( ص 367 ) ونقله في عوالم العلوم ( ص 29 ) في حديث طويل .
(3) تاريخ دمشق ( الحديث 84 ) ومختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) وتهذيب التهذيب ( 7 : 306 ) . (4) تاريخ دمشق ( الحديث : 83 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) .
(5) تاريخ دمشق ( الحديث 75 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 98 _

  ومن جهة اُخرى : نجد الإمام ( عليه السلام ) يؤكّد على تداول الثروة ويحثّ على تنميتها ، واستثمار الأموال ، وعدم تجميدها ، لأن تجميدها هو التكنيز المذموم ، للخسارة الواضحة فيها ، ولإحتمال سقوط القيمة الشرائية لها ، وتسبيبها لعدم إزدهار السوق الإسلامية ، بينما تداولها يؤدّي إلى نقيض كلّ ذلك ، فقد قال الإمام ( عليه السلام ) : إستنماء المال تمام المروءة (1) وفي نصّ آخر : إستثمار المال (2) ، وإذا قارنَا هذه المواقف من الإمام ( عليه السلام ) بما كان يجري على أيدي بني أميّة من البذخ والترف والإسراف والإهدار لأموال بيت المال ، ومن منع الموالين لعلي ( عليه السلام ) من الرزق والعطاء ، ومن حاجة الشخصيات مثل محمد بن اُسامة بن زيد ، فضلاً عن عوائل الشهداء المغضوب عليهم من قبل الدولة .
  لو قارنّا بين الأمرين : لعلمنا بكل وضوح أن لأعمال الإمام ( عليه السلام ) بُعْداً سياسيّاً ، وهو الوقوف أمام إستغلال السلطة للأزمة الإقتصادية عند الناس ، ومنع إستدراج الظالمين لذوي الحاجة والمحنة وخاصة المنكوبين إلى مهاوي الإنتماء إليها أو حتّى الفساد والجريمة ، بالمال الذي استحوذت الدولة عليه ، وأن لا تطبّق به سياسة التطميع بعد التجويع .

3 ـ ضدّ الرقّ :
  إن تحرير الرقيق يُشكل ظاهرة بارزةً في حياة الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) بشكل ليس له مثيل في تاريخ الإمامة ، فهو أمر يسترعي الانتباه والملاحظة ، وإذا دقَقنا في الظروف والملابسات التي عايشها الإمام ، وقمنا ببعض المقارنات بين أعمال الإمام ، والأحداث التي كانت تجري من حوله ، والظروف التي تكتنف عملية الإعتاق الواسعة التي تبنّاها الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ، تتضح الصورة الحقيقيَة لأهداف الإمام ( عليه السلام ) من ذلك .

فيلاحظ أولاً :
1 ـ أنّ أعداد الرقيق ، والعبيد ، كانت تتواتر على البلاد الإسلامية ، فكان الموالي في ازدياد بالغ مذهل ، على أثر توالي الفتوحات (3) .
2 ـ أن الأمويين كانوا ينتهجون سياسة التفرقة العنصرية ، فيعتبرون الموالي شبه الناس (4) .

---------------------------
(1) تحف العقول ( ص 283 ) .
(2) هامش المصدر السابق .
(3) لاحظ فجر الإسلام لأحمد أمين ( ص 90 ) .
(4) تاريخ دمشق ومختصره لابن منظور ( 17 : 284 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 99 _

3 ـ أن الجهاز الحاكم على الدولة الإسلامية ، أخذاً من نفس الخليفة ، إلى جميع الأمراء وموظفي الدولة ، لا يمثّل الإسلام ، بل كان كل واحد يعارض معنوياته وأخلاقه ، وإن تنادى بشهاداته واسمه .
4 ـ إن انتشار العبيد والموالي ، وبالكثرة الكثيرة ، ومن دون أي تحصين أخلاقي ، أو تربية إسلامية ، لأمر يؤدّي لا محالة إلى شيوع البطالة ، والفساد ، وهو ما تركزَ عليه الدولة الظالمة التي تعمل في هذا الاتجاه بالذات .

ويلاحظ ثانياً :
1 ـ أن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) كان يشتري العبيد والإماء ، ولكن لا يُبقي أحدَهم عنده أكثر من مدّة سنة واحدة فقط ، وأنه كان مستغنياً عن خدمتهم (1) ، فكان يعتقهم بحجج متعدّدة ، وبالمناسبات المختلفة ، إذن ، فلماذا كان يشتريهم ? ولماذا كان يعتقهم ?.
2 ـ إنه ( عليه السلام ) كان يعامل الموالي ، لا كعبيد أو إمأ ، بل يعاملهم معاملة إنسانية مثالية ، ممّا يغرزُ في نفوسهم الأخلاق الكريمة ، ويحبّب إليهم الإسلام ، وأهل البيت الذين ينتمي إليهم الإمام ( عليه السلام ) .
3 ـ إنّه ( عليه السلام ) كان يُعلم الرقيق أحكام الدين ويملؤهم بالمعارف الإسلاميّة ، بحيث يخرج الواحد من عنده محصّناً بالعلوم التي يفيد منها في حياته ، ويدفع بها الشبهات ، ولا ينحرف عن الإسلام الصحيح .
4 ـ إنه ( عليه السلام ) كان يزود كلّ مَنْ يُعتقه بما يُغنيه ، فيدخل المجتمع الجديد ليزاول الأعمال الحُرَة ، كأي فرد من الاُمَة ، ولا يكون عالة على أحدٍ .
  إن المقارنة بين هذه الملاحظات ، وتلك ، تعطينا بوضوح القناعة بأنّ الإمام كان بصدد إسقاط السياسة التي كان يُزاولها الأمويون في معاملتهم مع الرقيق ، إنّ عمل الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) أنتج نتائج عظيمة ، هي : 1 ـ حرّر مجموعة كبيرة من عباد الله ، وإمائِهِ الذين وقعوا في الأسر ، وتلك حالة إستثنائية غير طبيعيّة ، ومع أن الإسلام كان قد أقرَها لأمور يعرف بعضها من خلال قراءة التاريخ ، إلاّ أن الشريعة قد وضعت طرقاً عديدة لتخليص الرقيق وإعطائهم الحرية ، وقد استغل الإمام ( عليه السلام ) كلّ الظروف والمناسبات لتطبيق تلك الطُرق ، وتحرير العبيد والإماء .

---------------------------
(1) لاحظ الإقبال للسيد ابن طاوس ( ص 477 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 100 _

  وفي عمله تطبيق للشريعة وسننها، كما يدلّ عليه الحديث التالي : فعن سعيد بن مرجانة ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : ( مَن أعتق رقبةً مؤمنةً أعتق الله بكل إربِ منها إرباً منه من النار ، حتّى أنه يعتق باليد اليد ، وبالرجل الرجل ، وبالفرج الفرج ) ، فقال علي بن الحسين : أنت سمعت هذا من أبي هريرة قال سعيد : نعم ، فقال الإمام : ادع لي مطرفاً لغلام له أفره غلمانه فلمّا قام بين يديه ، قال : إذهب ، فأنت حر لوجه الله (1) .
  إن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) لا يخفى عليه ثواب عتق الرقبة ، وإنما أراد أن يؤكّد على سنّة العتق من خلال تقرير الراوي على سماع الحديث وليكون عمله قُدوةً للاَخرين كي يقوموا بعتق ما يملكون من الرقاب .
2 ـ إن الرقيق المعتقين يشكّلون جيلاً من التلامذة الذين تربّوا في بيت الإمام ( عليه السلام ) وعلى يده ، بأفضل شكل ، وعاشوا معه حياة مفعمة بالحقّ والمعرفة ، والصدق والإخلاص ، وبتعاليم الإسلام من عقائد وشرائع وأخلاق كريمة .
  فقد كانت جماعة الرقيق تحتفظ بكل ذلك في قرارات النفوس ، في شعورهم أو لا شعورهم ، وينقلونه إلى الأجيال المتعاقبة ، وفي ذلك حفظ الإسلام .
  ولا ريب أن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) لو أراد أن يفتح مدرسة لتعليم مجموعة من الناس ، فلا بدّ أنه كان يواجه منعاً من الجهاز الحاكم ، أو عرقلةً لعمله ، أو رقابةً شديدة على أقل تقدير .
3 ـ إن الإمام ( عليه السلام ) إستقطب ولا الأعداد الكبيرة من هؤلاء الموالي المحرَرين ، إذ لا يزال ولاء العتق يربطهم بالإمام ( عليه السلام ) ، ولا ريب أنهم أصبحوا جيشاً ، فإن عددهم بلغ في ما قيل خمسين ألفاً ، وقيل : مائة ألف (2) ، فعن عبد الغفّار بن القاسم أبي مريم الأنصاريّ ، قال : كان عليّ بن الحسين خارجاً من المسجد فلقيه رجل فسبّه فثارت إليه العبيد والموالي ، فقال عليّ بن الحسين : مَهلاً عن الرجل ، ثمَ أقبل على الرجل ، فقال له : ما سُتر عنك من أمرنا أكثر ، ألك حاجة نعينك عليها ? فاستحيى الرجل فألقى عليه خميصةً كانت عليه ، وأمر له بألف درهم ، فكان الرجل بعد ذلك يقول : أشهد أنّك من أولاد الرسول (3) .

---------------------------
(1) أخرجه البخاري في صحيحه ( 3 : 188 ) كتاب العتق والكفارات ، ومسلم في صحيحه ( 10 : 152 ) في العتق ، والترمذي في صحيحه ( 4 : 114 ) في النذور رقم ( 1541 ) وانظر حلية الأولياء ( 3 : 136 ) .
(2) لاحظ بحار الأنوار ( 46 : 104 ـ 105 ) .
(3) صفوة الصفوة لابن الجوزي ( 2 : 100 ) ، تاريخ دمشق ( الحديث 112 ) وكشف الغمة ( 2 : 81 ) وبحار الأنوار ( 46 : 99 ) وعوالم العلوم ( ص 115 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 101 _

  وقد كان لهؤلاء العبيد موقف دفاعيّ آخر ، عن أهل البيت ، لمّا سمعوا أنباء ضغط ابن الزبير على آل أبي طالب في مكّة ، وشيخهم محمد بن الحنفيّة عمّ الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ، في ما رواه البلاذري بسنده عن المشايخ يتحدثّون : أنّه لما كان من أمر ابن الحنفيَة ما كان ، تجّمع بالمدينة قوم من السودان ، غضباً له ، ومراغمة لإبن الزبير فرأى ابن عمر غلاماً له فيهم ، وهو شاهر سيفه فقال له : رباح ! ، قال رباح : والله ، إنّا خرجنا لنردّكم عن باطلكم إلى حقّنا ، فبكى ابن عمر ، وقال : اللهم إن هذا لذنوبنا (1)، وقال عبد العزيز سيد الأهل : وجعل الدولاب يسير ، والزمن يمر وزين العابدين يَهَبُ الحرية في كل عامٍ ، وكل شهر ، وكل يوم ، وعند كل هفوةٍ ، وكل خطأٍ ، حتّى صار في المدينة جيش من الموالي الأحرار ، والجواري الحرائر ، وكلّهم في ولاء زين العابدين (2) .
  حقاً لقد تحيّن الإمام ( عليه السلام ) الفرص ، وإهتبل حتّى الزلّة الصغيرة تصدر من أحد الموالي ليهب له الحريّة ، فكان يكافئ الإساءة بالإحسان ليكون أعذب عند الذي يُعْتق ، وأركز في خَلَده ، فلا ينساه .
  إنّ الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) إستنفد كلّ وسيلة للتحرير ، وإليك بعض الأحاديث عن ذلك :
1 ـ نادى علي بن الحسين ( عليه السلام ) مملوكه مرتين ، فلم يجبه ، ثم أجابه في الثالثة ، فقال له الإمام : يا بُنيَ أما سمعت صوتي ? قال المملوك : بلى ، قال الإمام : فما بالك لم تُجبني ? ، قال المملوك : أمِنْتُكَ ! قال الإمام : الحمد لله الذي جعل مملوكي يأمنني (3) .
2 ـ عن عبد الرزاق ، قال : جعلت جارية لعلي بن الحسين تسكب عليه المأ يتهيّأ للصلاة ، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه ، فشقّه ، فرفع علي بن الحسين رأسه إليها ، فقالت الجارية : إن الله( عز وجل ) يقول : ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ) ، فقال لها : قد كظمت غيظي ، قالت : ( وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ) ، فقال لها : قد عفا الله عنك ، قالت : ( والله يحبّ المحسنين ) ( آل عمران (2) الاَية 124 ) قال : إذهبي ، فأنت حرّة (4) .

---------------------------
(1) أنساب الأشراف ( الجزء الثالث ) ( ص 295 ) .
(2) زين العابدين ، لسيد الأهل ( ص 47 ) .
(3) تاريخ دمشق ( الحديث 90 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 240 ) وشرح الأخبار ( 3 : 260 ) .
(4) تاريخ دمشق ( الحديث 90 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 240 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 102 _

  فكأنَ هذا الحوار كان إمتحاناً وإختباراً ، نجحت فيه هذه الجارية ، بحفظها هذه الاَية ، وإستشهادها بها ، فكانت جائزتها من الإمام ( عليه السلام ) أن تُعتقَ .
3 ـ قال عبد الله بن عطاء : أذنب غلام لعلي بن الحسين ذنباً إستحقَ منه العقوبة ، فأخذ له السوط ، فقال : ( قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ ) ، ( الجاثية (45) الاَية (14) ) فقال الغلام : وأما أنا كذلك ، إني لأرجو رحمة الله وأخاف عقابه ، فألقى السوط ، وقال : أنت عتيق (1) .
  فلقد لقَنه الإمام ( عليه السلام ) بقراءة الاَية ، وهو يختبر معرفته بمعناها وذكاءه ، فأعتقه مكافأةً لذلك .
4 ـ وكان عند الإمام ( عليه السلام ) قوم ، فإستعجل خادم له شوءاً كان في التنّور ، فأقبل به الخادم مسرعاً ، وسقط السفود من يده على بُنَيّ للإمام ( عليه السلام ) أسفل الدرجة ، فأصاب رأسه ، فقتله ، فوثب الإمام ( عليه السلام ) ، فلمّا رآه ، قال للغلام : إنك حرّ ، إنك لم تتعمَده ، وأخذ في جهاز ابنه (2) ولعملية الإعتاق على يد الإمام ( عليه السلام ) صور مثيرة أحياناً ، تتجاوز الحسابات المتداولة : ففي الحديث المتقدّم عن سعيد بن مرجانة ، وجدنا أن الإمام ( عليه السلام ) قد أعتق غلاماً اسمه ( مطرف ) وجأ في ذيل الحديث ، أن عبدالله بن جعفر الطيَار كان قد أعطى الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) بهذا الغلام ( ألف دينار ) أو ( عشرة آلاف درهم ) (3) ، ففي إمكان الإمام ( عليه السلام ) أن يبيع الغلام بهذا الثمن الغالي ، ويعتق بالثمن مجموعة من الرقيق أكثر من واحد ، ولكن الإصرار على إعتاق هذا الغلام بالخصوص مع غلاء ثمنه يحتوي على معنى أكبر من العتق : فهو تطبيق لقوله تعالى : ( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ) ( سورة آل عمران (3) الاَية : 92 ) وهو إيماء إلى أن الإنسان لا يعادَل بالأثمان ، مهما غلت وعلت أرقامها .
  ولعلّ السبب الأساسي هو : أن غلا ثمن الغلام لا يكون إلاّ من أجل أدبه ، وذكائه ، وحنكته ، وقوّته ، وغير ذلك مما يجعله فرداً نافعاً ، فإذا صار حرّاً ، وهو متّصف بهذه الصفات، يفيد المجتمع ككلّ، فهو أفضل عند الإمام ( عليه السلام ) من أن يكون عبداً يستخدمه شخص واحد

---------------------------
(1) تاريخ دمشق ( الحديث 113 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 244 ) .
(2) تاريخ دمشق ( الحديث 118 ) مختصر ابن منظور ( 17 244 ) .
(3) تاريخ دمشق ( الحديث 82 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 103 _

لأغراضه الخاصَة ، مهما كانت شريفة وبهذا واجه الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) مشكلة الرقّ ، وإستفاد منها ، في صالح المجتمع والدين (1) ، وبما أنه ( عليه السلام ) كان يحتلّ موقعاً رفيعاً بين الاُمَة الإسلامية جمعاء : إمّا لأنّه إمام مفترض الطاعة ، عند المعتقدين بإمامته ( عليه السلام ) ، أو لأنه من أفضل فقهأ عصره ، والمعترف بورعه وتقواه وعلمه ، عند الكافّة أو لأنه من سادات أهل البيت الذين يمتازون بين الناس بالطهارة والكرامة والشرف والمجد ، فقد كان عمله حجّةً معتبرةً ، وقدوةً صالحة ، للمسلمين كافّةً ، يقتدون به في تحرير الرقيق ، ومحو العنصريّة المقيتة ، وبعد هذه الصور الرائعة : فهل يصح أن يقال : ( إن زين العابدين ( عليه السلام ) كان منعزلاً عن السياسة ، أو مبتعداً عنها ) وهو يقوم بهذا النشاط الاجتماعي الواسع .

وأخيراً : مع كتاب ( رسالة الحقوق )
  إن رسالة الحقوق التي نظَمها الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) تدل على إهتمام الإمام بكل ما يدور حوله في المجتمع الإسلامي ، وعنايته الفائقة بسلامته النفسية والصحيّة ، ورعايته لأمنه وإستقراره ، وحفاظه على تكوينته الإسلامية ، وإذا نظرنا إلى ظروف الإمام ( عليه السلام ) من جهة ، وإلى ما يقتضيه تأليف هذه الحقوق ، من سعة الأفق وشموليته من جهة أخرى ، وقفنا على عظمة هذا العمل الجبّار الذي صنعه الإمام قبل أربعة عشر قرناً .
  إن صنع مثل هذا القانون في جامعيته ودقّته وواقعيته ، لا يصدر إلاّ من شخص جامع للعلم والعمل ، مهتمّ بشؤون الاُمة ، ومتصد لإصلاحها فكرياً وثقافياً ، واقتصادياً ، واجتماعياً ، وإدارياً ، وصحيّاً ، ونفسياً ، ولا يصدر قطعاً من شخص منعزلٍ عن العالم ، وعن الحياة الاجتماعية ، ولا مبتعدٍ عن السياسة واُمور الحكم والدولة ولذلك فإنا نجد الرسالة تحتوي على حقوقٍ مثل : حقّ السلطان ، وحق الرعِيّة ، وحقّ أهل الملّة عامّة ، وحقّ أهل الذمّة ، وغيرها ممّا يرتبط باُمور الدولة والحكم وتنظيم الحياة الاجتماعية ، إلى جانب الشؤون الخاصة العقيديّة والعبادية والماليّة ، وكل ما يرتبط بحياةٍ حرّةٍ كريمة للفرد ، وللمجتمع الذي يعيش معه ، ومثل هذا لا يصدر ممّنْ يعتزل الحياة الاجتماعية .

---------------------------
(1) واقرأ صوراً مثيرة من تعامله مع عبيده وإمائه في عوالم العلوم ( ص 151 - 155 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 104 _

  ورسالة الحقوق عمل علمي عظيم يستدعي دراسة موضوعية عميقة شاملة، نقف من خلالها على أبعاد دلالتها على حركة الإمام زين العابدين (عليه السلام) الاجتماعية ، وخاصَة من المنظار السياسي ، وما استهدفه من بيانها ونشرها ، ونقدّم هنا مقطعين هامّينِ ، يرتبطان مُباشرةً باُمور الإدارة والحياة الاجتماعية ، وهما حقّ السُلطان على الرعيّة ، وحقّ الرعيّة على السُلطان : قال ( عليه السلام ) في حقوق الأئمّة :
  وأما حقّ سائسك بالسُلطان : فانْ تعلم أنّك جُعِلتَ له فتنةً ، وأنّه مبتلى فيك بما جعله الله له عليك من السُلطان ، وأنْ تخلصَ له في النصيحة ، وأن لا تُماحكه ، وقد بُسِطَتْ يدُه عليك ، فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه ، وتذلّل وتلطّف لإعطائه من الرضا ما يكفّه عنك ، ولا يضرّ بدينك ، وتستعين عليه في ذلك بِالله ، ولا تعازّه ولا تعانده ، فإنّك إنْ فعلتَ ذلك عَقَقْتَهُ وعَقَقَتَ نفسك ، فعرَضْتَها لمكروهه ، وعرَضتَهُ للهلكة فيك ، وكنتَ خليقاً أن تكون مُعيناً له على نفسك ، وشريكاً له في ما أتى إليك من سوء ، ولا قوّة إلاّ بالله (1) .
  وقال ( عليه السلام ) في حقوق الرعيّة : وأمّا حقّ رعيتك بالسُلطان : فأنْ تعلم أنّك إنّما استرعيتَهم بفضل قوّتك عليهم ، فإنّه إنّما أحلّهم محلَ الرعيَة لك ضعفهم وذلّهم ، فما أولى مَنْ كفاكَهُ ضعفُه وذلّه حتّى صيَره لك رعيّةً وصيَر حكمك عليه نافِذاً ، لايمتنع عنك بعِزّةٍ ولا قُوةٍ ، ولا يستنصر في ما تعاظمه منك إلاّ بالله بالرحمة و الحياطة و الأناة ، وما أولاكَ إذا عرفتَ ما أعطاك الله من فضل هذه العزّة والقُوّة التي قهرتَ بها أنْ تكون لله شاكراً ، ومَنْ شكر الله أعطاهُ في ما أنعم عليه ، ولا قُوّة إلاّ بالله (2) .
  إنّ الإمام ( عليه السلام ) في هاتين الفقرتين إنّما يخاطب مَنْ هم من عامّة الناس سُلطاناً ورعيّةً ممّنْ لابُدَ أنْ تربط بينهم السياسة ، إذ لابُدّ للناس من أَمير ، على ما هو سُنّة الحياة وطبيعة التكوينة الاجتماعية ، فلابدّ أن تكون لهم حُقوق ، وتثبت عليهم واجبات ، تُرتّب بذلك حياتهم ترتيباً طيّباً كي يعيشوا في صفاء ووُدّ وخير وسعادة ، والإمام ( عليه السلام ) هنا يقطع النظر عن الولاية الإلهية التكوينية ، ومنصب الإمامة المفروضة تشريعياً على الناس .

---------------------------
(1) رسالة الحقوق ، الحق رقم 15 .
(2) رسالة الحقوق ، الحقّ رقم 18 .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 105 _

  ولذلك عبّر ( بالسلطان ) و ( الرعيّة ) ولم يفرض في السُلطان ولاية إلهيّة ، وإنّما فرضها سُلطةً حاصلةً بالقوّة والقهر ، وهذا ما يتمكّن من تحصيله حتّى غير الأئمّة الإلهيين ، وإن كان السلاطين يحاولون الإيحاءَ بأنّهم ينوبون عن الله في الولاية والسلطة ، وأنّهم ظلّ الله على الأرض ، ولذلك يُلقّنون الناسَ فكرة ( الجبر ) حتّى يربطوا وجودهم بإرادة الله (1) ، لكنّ الإمام السجّاد ( عليه السلام ) فَرَغَ الحديثَ عن السُلطان من كلّ هذه المعاني ، وإنّما تحدَث عن حقّه كمتسلطٍ بالقوّة على الرعيّة ، فهو في هذه الحالة لابُدّ أنْ يعرف واجباتِه ويؤدّيها ويعرفَ حقوقه فلا يطلب أكثر منها ، كما أنّ الرعيّة المواجهة لمثل هذا السُلطان لابُدّ أنْ تعرف حدود المعاملة الواجبة عليها تجاهُه ، وما يحرم عليها فلا تقتحمه ، رعاية للمصالح الاجتماعيّة العامّة بشرياً ، وبما أنّ السلاطين في هذا المقام لم تفرض لهم العصمة ، اللازمة في الولاة الإلهيّين ، فلابدّ أنْ يحذروا من المخالفات الشرعيّة ، كما لابدّ للرعيّة أنْ يحذروا من التعرّض لبَطْشهم وسطوتهم ، فهُناك حقوق مرسومة لكلّ منهما السُلطان والرعيّة لابدّ من مراعاتها ، حدَدها الإمام ( عليه السلام ) ، فعلى السلطان أنْ لا يغترّ بقدرته الموقوتة المحدودة.
1 ـ : أنْ يكون رؤوفاً رحيماً بالبشر الذين استولى عليهم .
2 ـ أنْ يعرف قدر نعمة السلطة ، حتّى يوفّق للمزيد ، حَسَبَ الموعود بالمزيد لمَنْ شكر ، ويتنعّم بما هو فيه من فضل وسلطة .
  وأما الرعيّة ، فَعليها :
1 ـ أن تخلص في النصيحة للسُلطان ، وتبذل الولاء في سبيل إنجاح المهمّة الاجتماعيّة والحكمة والتدبير من ( لابدّية الأمير ) في سبيل الخير .
2 ـ وأنْ لاتلجأ إلى العداء والبغضاء حتّى لا يلجأ السُلطان إلى العدوان والفتك ، فيحصل العقوق بين الراعي والرعيّة فيشتركان في إثم الفَساد في الأرض .
  ومن المعلوم في المقامين أنّ مخاطب الإمام ( عليه السلام ) إنّما هم المؤمنون بالله تعالى ، ولذا جعل كلاّ منهما ( فتنةً إلهيّة ) للاَخر ، ليعتبر بهذا الموقع الخطر الذي يتبوؤه كلّ منهما .
فالحديث مع الذين لا يُخالفِون أمر الله ولا يعادونه ، وإنّما يَسيرون موافِقين للإسلام ، ويعتمدون على ما سَنَهُ من أحكام ، ولا يضرّون بالدين ، وإلاّ فالأمر يختلف ، والحديث يتفاوتُ ، والحقوق تكون غيرها ، والواجبات سواها ، والحاصل : أنّ ما حدّده الإمام ( عليه السلام ) إنّما هو عن السُلطان والرعية ، إذا لم يتهدّد كيان الإسلام وأحكامه وشعائره خطر من قبل السلطة ، بدليل التذكير فيه بنعم الله وحوله وقوّته وأنّه لا حول ولا قوّة إلاّ به .

---------------------------
(1) كما شرحنا جانباً من ذلك في بحث سابق ، لاحظ ( ص 88 ـ 91 ) في الفصل الثاني .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 106 _

  وإلاّ ، لم يكن الخطاب بمثل هذا الكلام المعتمد على الإيمان بالله الاعتقاد بالواجب والإحساس بالخدمة للناس والإصلاح في المجتمع ، والاعتماد على قوة الله وحوله ، كما هو الحال في كلّ الحقوق الأخرى التي ذكرها في ( رسالة الحقوق ) فانه وجّه الخطاب إلى الأمة الإسلامية في داخل الوطن الإسلامي ، وفي الحدود التي يلتزم رعاياها بشريعة الإسلام وقواعده .



إلتزامات فَذَة فِي حَيَاةِ الإمَامِ ( عليه السلام )
أوّلاً : إلتزام الزهد والعبادة .
ثانياً : إلتزام البكاء على سيّد الشهداء ( عليه السلام ) .
ثالثاً : إلتزام الدعاء وأخيراً : مع الصحيفة السجّاديّة هدفا ومضموناً .
  تميزّت سيرة الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) بمظاهر فذّة ، وهي وإن كانت متوفرّة في حياة آبائه وأبنائه الأئمة ، إلاّ أنها برزت في سيرة الإمام ( عليه السلام ) بشكلٍ آخر ، أكثر وضوحاً ، وأوسع دوراً ، مما تسترعي الانتباه ، وهي :
1 ـ ظاهرة الزهد والعبادة .
2 ـ ظاهرة البكاء .
3 ـ ظاهرة الدعاء .
  فإذا سبرنا حياة الأئمة ، وجدناهم كلّهم يتميّزون في هذه المظاهر على أهل زمانهم ، إلاّ أنّها في حياة الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) تجاوزت الحدّ المألوف ، حتّى كان ( عليه السلام ) فريداً في الإلتزام بكلٍ منها .
  العبادة والزهد ، فقد عدّ فيهما : زينَ العابدين وسيدَ الزاهدين ، حتّى ضُرِب به المثل فيهما .
  والبكاء ، فقد عدّ فيه : من البكّائين الخمسة .
  وأما الدعاء : فالصحيفة التي خلّفها تكفي شاهداً على ما نقول .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 107 _

  وسنحاول في هذا الفصل أن نشاهد أثر الالتزام بهذه المظاهر في ملامح سيرة الإمام ( عليه السلام ) ، ونقرأ ما خلّده لنا التاريخ من آثارها في الحياة الاجتماعية للإمام ( عليه السلام ) ، وما إستهدفه الإمام ( عليه السلام ) من اللجوء إليها بهذا الشكل المركّز .

أوّلاً : إلتزام الزهد والعبادة
  لقد أخذت هذه الظاهرة ساعات طويلة من وقت الإمام ( عليه السلام ) ، وملأت مساحات واسعة من صفحات سيرته الشريفة ، حتّى أصبح من أشهر ألقابه ( زين العابدين ) (1) و ( سيّد الساجدين ) (2) .
  والزهد ، من الفضائل الشريفة التي يتزيّى بها الرجال الطيّبون ، المخلصون لله ، الراغبون في جزيل ثوابه ، العارفون بحقيقة الدنيا وأنها فانية زائلة ، فلا يميلون إلى الاستمتاع بلذّاتها و مغرياتها ، بل يقتصرون على الضروريّ الأقلّ ، من المشرب والملبس والمسكن والمأكل ، وقد إلتزم أئمّة أهل البيت بهذه الفضيلة بأقوى شكل ، وفي إلتزامهم بها معنى أكبر من مجرّد الفضل والخلق الجيّد ، فكونهم أئمةً يُقتدى بهم واُمثولة لمن يعتقد بهم ، واُسوة لمن سواهم ، وقدوة للمؤمنين ، يتبعون خطاهم ، فهم لو تخلّقوا بهذا الخلق الكريم ، قام جمع من الناس بذلك معهم ، سائرين على طرق مأمونة من الانحراف ، فللإمام السجاد ( عليه السلام ) في العبادة مشاهد عظيمة ، وأعمال جليلة ، وسجدات طويلة ، وصلوات متتالية ، حتّى أنه كان يصلّي في اليوم ( ألف ركعة ) (3) وهذا يشبه ما نقل عن جدّه الإمام علي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
  وإذا نظرنا إلى عصر الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ، وإلى ما حوله من حوادث واقعة واُمور جارية : أمكننا أنْ نقول : إنَ التزام الإمام بهذه العبادة ، وبهذا الشكل من السعة ، والإصْرار ، والإعْلان ، لم يكن عفويّاً ، ولا عن غير قصدٍ وهدف ، ولا لمجرد حاجة شخصيّة ،

---------------------------
(1) تاريخ أهل البيت ( ص 130 ـ 131 ) مختصر تاريخ دمشق ( 17 : 237 ) عن مالك بن أنس و ( ص 235 ) عن الزهري .
(2) قد مضى أن هذه الألقاب وردت في الحديث المرفوع ، فلاحظ ( ص 35 ـ 37 ) من كتابنا هذا .
(3) سير أعلام النبلاء( 4 : 392 ) وشرح الأخبار( 3:254 و 272 ) والخصال للصدوق وعلل الشرائع له ( ص 232 ) والإرشاد للمفيد ( 256 ) وكشف الغمة( 1 : 33 ) نقلاً عن رسالة الجاحظ في فضل بني هاشم و ( 2 :86 ) وفلاح السائل ( ص 244 ) وتذكرة الحفاظ( 1 : 75 ) وبحار الأنوار ( 6746 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 108 _

  وتقرّب خاص ، بل كان ورأها تدبير إجتماعي مهمّ جدّاً ، إذ أنّ الامويين في تلك الفترة بالخصوص ، وبعد سيطرتهم على مقدّرات العباد والبلاد جدّوا في إشاعة الفساد ، وتمييع المجتمع ، وترويج الترف واللهو ، بين الناس ، بهدف تبرير أعمالهم المخالفة للشرع المقدس ، المنافية للعرف الذي يبتنى على العفة والشرف ، وسعياً لتخدير الناس ، وإبعاد الأمة عن الروح الإسلامية الواثبة المقتدرة التي تمكّن المسلمون بها من السيطرة على مساحات شاسعة من العالم وحضارات الامبراطوريات مجاورة لها بعد أن كانوا من الشعوب المتخلّفة تتخطفهم الأمم من حولهم ، لا يملكون لعدوّهم دفعاً ، ولا عن ذمارهم منعاً .
  وقد خاطبتهم الزهراء فاطمة ابنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واصفةً حالتهم بقولها : ( . . . وكنتم على شفا حفرةٍ من النار ، مَذَقةَ الشارب ونَهَزَةَ الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطأ الأقدام ، تشربون الطرق وتقتاتون الورق ، أذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناسُ من حولكم ، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بأبي (1) .
  فأرشدهم الرسول إلى المجد والعلى والكرامة والعلم ، لكنّ الأمويين ولإجل إخماد ثورة الإسلام في نفوس الناس أخذوا في ترويج الفحشاء والمنكر ، والفجور والخمور ، والظلم والخيانة ، حتّى ضُرب بهم المثل في خرق العهود والمواثيق ، وتجاوز الأعراف والموازين المقبولة بين الناس ، وتلاعبوا بكلّ المقدّرات والمقرّرات ، وانغمسوا وجرّوا الناس معهم في الرذيلة واللعب ، ومعهم الجيل الناشىء من الأمة ، الذي نما على هذه الروح الطاغية اللاهية ، حتّى جعلوا من مدينة الرسول الطيّبة ، مركزاً للفساد ، قال أبو الفرج الأصبهاني : إن الغناء في المدينة لا ينكره عالمهم ، ولا يدفعه عابدهم (2) وحتّى : كانت يثرب تعجّ بالمغنيات ، ومن المؤسف حقاً أن مدينة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صارت في العصر الأموي مركزاً للحياة العابثة ، وكان من المؤمَل أن تصبح معهداً للثقافة الدينية ، ومصدراً للإشعاع الفكري والحضاري في العالم الإسلامي ، إلاّ أن الأمويين سلبوها هذه القابلية ، وأفقدوها مركزيَتها الدينية والسياسية (3) .

---------------------------
(1) بلاغات النساء ( ص 13 ) وانظر : فدك للقزويني ( ص 153 ) وخطبتها في مسجد أبيها لما منعها أبو بكر فدكاً مروية في الاحتجاج للطبرسي ، وشرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد ( 4 : 78 ) ، وطرقها عديدة متظافرة .
(2) الأغاني طبع دار الكتب ( 8 : 224 ) ولاحظ ( 4 : 222 ) ففيه موقف مالك فقيه المدينة ، وانظر العقد الفريد ( 3 : 233 و 245 ) .
(3) لاحظ حياة الإمام زين العابدين للقرشي ( ص 670 ) واقرأ في الصفحات ( 665 ـ 671 ) أخباراً من ترف الأمويين ، وحياة اللهو والغناء وحفلات الرقص في المدن المقدسة المدينة ومكة .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 109 _

  ولمّا خرج عُروة بن الزبير من المدينة وإتخذ قصراً بالعقيق ، وقال له الناس : قد أجْفَرْتَ مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : إنّي رأيتُ مساجدهم لاهيةً ، وأسواقهم لاغيةً ، والفاحشة في فجاجهم عالية (1) ، وأضاف القرطبي : وكان في ما هناك عمّا أنتم فيه عافية (2) ، إنه في مثل هذه الأجواء والظروف ليس عفوياً ، ولا عن غير هدف : أن يظلّ الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) في المدينة ، يعظ الناس ويرشدهم ، ويدعوهم إلى نبذ المُتَع ، ويحذّرهم من اللغو واللهو ومن الزينة والتفاخر ، فكان ( عليه السلام ) يقول : لا قُدست اُمَة فيها البَرْبَط (3) ، لقد كان له مجلس في مسجد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يعظ الناس فيه : قال سعيد بن المسيب : كان علي بن الحسين ( عليه السلام ) يعظ الناس ويزهّدهم في الدنيا ، ويرغّبهم في أعمال الاَخرة ، بهذا الكلام ، في كل جمعة ، في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وحفظ عنه ، وكتب ، كان يقول : أيّها الناس إتقوا الله واعلموا أنكم إليه ترجعون ، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ ، ( مقتبس من القرآن الكريم ، سورة آل عمران (3) الاَية (30)) ويحك يابن آدم الغافل ، وليس بمغفول عنه ، يابن آدم إنَ أجلك أسرع شيءً إليك قد أقبل نحوك حثيثاً يطلبك ، ويوشك أن يدركك ، وكأنْ قد أوفيت أجلك ، وقبض الملك روحك وصرت إلى قبرك وحيداً ، فردَ إليك فيه روحك ، وإقتحم عليك فيه ملكان : ناكر ونكير لمسألتك وشديد إمتحانك ، ألا، وإن أوّل ما يسألانك : عن ربك الذي كنت تعبده ? وعن نبيك الذي اُرسل إليك ? وعن دينك الذي كنت تدين به ? وعن كتابك الذي كنت تتلوه ? وعن إمامك الذي كنت تتولاّه ? ، ثمّ، عن عمرك في ما كنت أفنيته ? ومالك من أين إكتسبته ? وفي ما أنت أنفقته ? ، فخذ حذرك ، وانظر لنفسك ، وأعدّ الجواب قبل الإمتحان والمسألة والاختبار . . فإن تَكُ مؤمناً عارفاً بدينك ، متّبعاً للصادقين ، موالياً لأولياء الله ، لقَاك الله حجّتك وانطلق لسانك بالصواب وأحسنت الجواب ، وبُشرت بالرضوان والجنة من الله( عز وجل ) ، وإستقبلتك الملائكة بالروح والريحان .

---------------------------
(1) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور ( 17 : 23 ) .
(2) جامع بيان العلم (2) .
(3) لسان العرب مادّة ( بربط ).

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 110 _

  وإن لم تكن كذلك تلجلج لسانك ودُحضت حجّتك وَعِييْتَ عن الجواب ، وبُشّرت بالنار ، وإستقبلتك ملائكة العذاب بنزل من حميم وتصلية جحيم ، واعلم يابن آدم : أن من وراء هذا أعظم ، وأفظع ، وأوجع للقلوب يوم القيامة ، وذلك يوم مجموع له الناس ، وذلك يوم مشهود ، يجمع الله( عز وجل ) فيه الأوّلين والاَخرين ، ذلك يوم ينفخ في الصور ، وتبعثر فيه القبور ، وذلك يوم الأزفة ، إذ القلوب لدى الحناجر ، كاظمين ، وذلك يوم لا تقال فيه عثرة ، ولا يؤخذ من أحد فدية ، ولا تُقبل عن أحد معذرة ، ولا لأحد فيه مستقبل توبة ، ليس إلاّ الجزاء بالحسنات والجزاء بالسيئات ، فمن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرّةٍ من خيرٍ وجده ، ومن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرّةٍ من شرٍّ وجده ، فإحذروا ، أيها الناس من الذنوب والمعاصي ما قد نهاكم الله عنها ، وحذّركموها في كتابه الصادق ، والبيان الناطق ، ولا تأمنوا مكر الله وتحذيره وتهديده ، عندما يدعوكم الشيطان اللَعين إليه من عاجل الشهوات واللذات في هذه الدنيا ، فإن الله ( عز وجل ) يقول : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) ( الأعراف (7) الاَية : 201 ) وأشْعِروا قلوبكم خوف الله ، وتذكّروا ما قد وعدكم الله في مرجعكم إليه من حسن ثوابه ، كما قد خوَفكم من شديد العقاب ، فإنه من خاف شيئاً حذره ، ومن حذر شيئاً تركه ، ولا تكونوا من الغافلين ، المائلين إلى زهرة الدنيا ، الذين مكروا السيئات ، فإن الله يقول في محكم كتابه : ( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ، أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ . . ) ، ( النحل (16) الاَيات 45 ـ 47 ) فاحذروا ما حذّركم الله ، بما فعل بالظلمة ، في كتابه ، ولا تأمنوا أن ينزل بكم بعض ما تواعد به القوم الظالمين في الكتاب ، والله ، لقد وعظكم الله في كتابه بغيركم ، فإن السعيد من وُعِظَ بغيره ، ولقد أسمعكم الله في كتابه ما قد فعل بالقوم الظالمين من أهل القرى قبلكم ، حيث يقول : ( وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً ) وإنّما عنى بالقرية أهلها ، حيث يقول : ( وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ ) فقال ( عز وجل ) : ( فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ ) يعني يهربون ، قال : ( لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ) فلما أتاهم العذاب ( قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ، فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ) ، ( الأنبياء (21) الاَيات ( 11 ـ 15 ))، وايْمُ الله ، إنّ هذه عظة لكم وتخويف ، إن إتّعظتم وخفتم ، ثم رجع القول من الله في الكتاب على أهل المعاصي والذنوب ، فقال الله ( عز وجل ) : ( وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ) الأنبياء (21) ، الاَية (46) فإن قلتم أيها الناس : إن الله ( عز وجل ) إنمّا عنى بهذا أهل الشرك ? فكيف ذاك ? وهو يقول : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) ( الأنبياء (21) ( الاَية (47) إعلموا عباد الله إن أهل الشرك لا تُنصب لهم الموازين ولا تنشر لهم الدواوين ، وإنما يحشرون إلى جهنم زمراً ، وإنما نصب الموازين ونشر الدواوين لأهل الإسلام، فإتقوا الله عباد الله .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 111 _

  واعلموا أن الله ( عز وجل ) لم يحبّ زهرة الدنيا وعاجلها لأحد من أوليائه ، ولم يرغّبهم فيها وفي عاجل زهرتها وظاهر بهجتها ، وإنما خلق الدنيا وأهلها ليبلوهم فيها : أيّهم أحسن عملاً لاَخرته ? ، وايْمُ الله ، لقد ضرب لكم فيه الأمثال ، وعرّف الاَيات لقوم يعقلون ، ولا قوّة إلاّ بالله ، فازهدوا في ما زهّدكم الله ( عز وجل ) فيه من عاجل الحياة الدنيا ، فإن الله ( عز وجل ) يقول وقوله الحقّ : ( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) ، ( يونس (10) الاَية (24) ) فكونوا عباد الله من القوم الذين يتفكّرون ، ولا تركنوا إلى الدنيا فإن الله ( عز وجل ) قال لمحمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) ( هود (11) الاَية (113)) ولا تركنوا إلى زهرة الدنيا وما فيها ركون من اتّخذها دار قرار و منزل استيطان ، فإنها دار بُلغة ، ومنزل قلعة ، ودار عمل ، فتزوَدوا الأعمال الصالحة فيها قبل تفرق أيامها ، وقبل الإذن من الله في خرابها ، فكان قد أخر بها الذي عمرّها أول مرة وابتدأها وهو ولي ميراثها فأسأل الله العون لنا ولكم على تزوّد التقوى ، والزهد فيها ، جعلنا الله وإياكم من الزاهدين في عاجل زهرة الحياة الدنيا ، الراغبين لاَجل ثواب الاَخرة ، فإنما نحن به وله ، وصلّى الله على محمّد وآله وسلّم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1) .
  وكان ( عليه السلام ) يعظ أصحابه (2) ويعظ الخليفة وأعوانه (3) ، ويجسّد في نفسه كل المواعظ والنصائح ، حتّى يكون اُمثولة للسامعين والمشاهدين وقد نقلت آثار في هذا الباب عنه ( عليه السلام ) ، نذكر منها :
1 ـ كان علي بن الحسين ( عليه السلام ) إذا مشى لا يجاوز يديه فخذيه ، ولا يخطر بيده (4) .

---------------------------
(1) الكافي ، للكليني ( 8 : 72 ـ 76 ) وتحف العقول ( ص 249 ـ 252 ) وأمالي الصدوق ( المجلس (76) ص ( 407 ـ 409 ) .
(2) كما رأينا صحيفته في الزهد إلى أصحابه ( راجع ص 123 ـ 125 ) من الفصل الثالث .
(3) سيأتي ذكر مواعظ لهم في الفصل الخامس ( ص 221 ـ 230 ) .
(4) تاريخ دمشق الأحاديث ( 6 ـ 63 ) مختصر تاريخ دمشق ( 17 : 236 ) وانظر سير أعلام النبلاء ( 4 : 392 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 112 _

2 ـ وكان إذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة ، فقيل له : ما لَكَ ? فقال : ما تدرون بين يدي مَن أقوم ? ومن أناجي ? (1) .
3 ـ وقيل : إنه كان إذا توضّأ أصفرَ لونه ، فيقول له أهله : ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء ? ، فيقول : تدرون بين يدي مَنْ أريد أن أقوم ? (2) .
4 ـ قال سفيان بن عُيَيْنَة : حجّ علي بن الحسين ( عليه السلام ) فلمّا أحرم وإستوت به راحلته اصفرَ لونه ، وإنتفض . . . ولم يستطع أن يلبّي ، فقيل له : ما لَكَ ? فقال : أخشىّ أن أقول : ( لبَيْك ) فيقول لي : ( لا لبيك ) (3) .
5 ـ وقال مالك بن أنس : أحرم علي بن الحسين ( عليه السلام ) ، فلمّا أراد أن يقول : ( لَبَيْك اللّهمَ لبَيكَ ) قالها فأغميَ عليه ، حتّى سقط من راحلته (4) ، قال : وبلغني أنه كان يصلّي في كل يوم وليلة ألف ركعة إلى أن مات (5) .
6 ـ وقع حريق في بيت فيه الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) فجعلوا يقولون له : يابن رسول الله النار يابن رسول الله النار فما رفع راسه حتّى أطفئت ، فقيل له : ما الذي ألهاك عنها ? قال : ألهتني النار الأخرى (6) .
7 ـ قالوا : وكان علي بن الحسين ( عليه السلام ) يخرج على راحلته إلى مكة ويرجع ، لا يقرعها (7) .

---------------------------
(1) تاريخ دمشق ، الأحاديث ( 6 ـ 63 ) مختصر تاريخ دمشق ( 17 : 236 ) وانظر سير أعلام النبلاء ( 4 : 392 ) .
(2) تاريخ دمشق الأحاديث ( 6 ـ 63 ) مختصر تاريخ دمشق ( 17 : 236 ) وانظر سير أعلام النبلاء ( 4 : 362 ) وروي الحديث الثالث في العقد الفريد ( 3 : 169 ) .
(3) تاريخ دمشق الأحاديث ( 6 ـ 63 ) مختصر تاريخ دمشق ( 17 : 236 ) وانظر سير أعلام النبلاء ( 4 : 392 ) .
(4) تاريخ دمشق ( الحديث 64 ) ومختصر ابن منظور ( 17 : 237 ) وسير أعلام النبلاء ( 4 : 392 ) .
(5) تاريخ دمشق ( الحديث 64 ) ومختصر ابن منظور ( 17 : 237 ) وسير أعلام النبلاء ( 4 : 392 ) وانظر ص 158 .
(6) تاريخ دمشق ( الحديث 10 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 236 ) سير أعلام النبلاء ( 4 : 1 392 ) .
(7) تاريخ دمشق ( الحديث 100 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 233 ) سير أعلام النبلاء ( 4 : 388 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 113 _

8 ـ وروى ابن طاوس عن الصادق ( عليه السلام ) قال : كان علي بن الحسين ( عليه السلام ) إذا حضر الصلاة اقشعرّ جلده ، وإصفرّ لونه ، وإرتعد كالسعفة (1) .
  ولنقرأ معاً كلاماً له ( عليه السلام ) في الزهد ، لنقف على معالم رفيعة وآفاق وسيعة مما عند الإمام في هذا المقام :
  إنَ علامةَ الزَاهِدينَ في الدنيا الرَاغبينَ في الاَخِرَةِ تركُهُمْ كلَ خَليطٍ وخَليلٍ ورَفْضُهمْ كُلَ صاحِبٍ لا يريدُ ما يُريدوُنَ ، ألا وَإنَ العامِلَ لِثَوابِ الاَخِرَةِ هو الزَاهدُ في عاجِلِ زَهرةِ الدنيا ، الاَخذُ لِلمَوتِ أُهْبَتَهُ ، الحاث علَى العَملِ قَبْلَ فَناءِ الاَجَلِ ونُزولِ ما لابدَ مِن لِقائِهِ ، وتَقدِيمِ الحَذَرِ قَبْلَ الحَيْنِ ، فإنَ اللهَ ( عز َوجلَ ) يقولُ : ( حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ (2) ) فَلْيُنْزِلَنَ أحَدُكُم اليَوْمَ نَفْسَهُ في هذِه الدنيا كمَنْزِلَةِ المَكْرُورِ إلى الدنيا ، النّادِمِ على ما فَرَطَ فيها مِنَ العمَلِ الصّالح لِيَوْمِ فاقَتِهِ ، وَاعْلَمُوا عِبادَ اللهِ : أنَه مَنْ خافَ البَياتَ تَجافى عَنِ الوِسَادِ ، وَامْتَنَعَ مِنَ الرقادِ ، وأمْسَكَ عَنْ بَعْضِ الطّعام والشَرابِ مِنْ خَوْفِ سُلْطانِ أهلِ الدنيا ، فَكيفَ ، وَيْحَكَ يا ابنَ آدَمَ ، مِن خَوفِ بَياتِ سُلطانِ رَبَ العِزَةِ وأخْذِهِ الألِيمِ وبَياتِهِ لأِهلِ المَعاصِي والذنوبِ مَعَ طوارِقِ المَنايا باللّيل والنَهارِ ? فَذلِكَ البَياتُ الّذي لَيْسَ مِنْهُ مُنْجًى ، ولا دُونَه مُلْتَجأ ، ولا مِنْهُ مَهْرَب ، فَخافُوا اللهَ أيها المُؤمِنونَ مِنَ البَياتِ خَوفَ أهْلِ التَقوى ، فَإنَ اللهَ يقولُ : ( ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ) (3) ،فَاحْذَرُوا زَهْرَةَ الحَياةِ الدنيا وغُرُورَها وشُرُورَها وتذكَروا ضَرَرَ عاقبةِ المَيْلِ إِلَيْها ، فَإنَ زِيْنَتَها فِتْنَة وحُبَها خَطيئَة ، واعلَم وَيْحَكَ يَا ابنَ آدمَ أنَ قَسْوَةَ البِطْنَةِ وكِظَةَ المِلاَْةِ وسُكْرَ الشَبَعِ وغِرَةَ المُلْكِ مِمّا يُثَبطُ ويُبَطّيُ عَنِ العَمَلِ ويُنْسِي الذكْرَ ويُلْهِي عَنِ إقْتِرابِ الأجَلِ ، حَتّى كَأَنَ المُبْتَلى بِحُب الدنيا به خَبَل مِنْ سُكْرِ الشَرابِ ، وأنَ العاقلَ عَنِ اللهِ ، الخائِفَ مِنْهُ ، العامِلَ له لَُيمَرنُ نَفْسَهُ ويُعَودُها الجُوعَ حتّى ما تَشْتاقَ إلى الشَبَعِ ، وكَذلِكَ تُضَمَرُ الخَيْلُ لِسَبْقِ الرهانِ ، فَاتّقوا اللهَ عِبادَ اللهِ تَقوى مُؤَملٍ ثَوابَهُ وخائِفٍ عِقابَهُ فَقَدْ للهِ أنْتُمْ أعْذَرَ وأنْذَرَ وشَوَقَ وخَوَفَ ، فَلا أنْتُمْ إلى ما شَوَقكُمْ إلَيْهِ مِنْ كَرِيمِ ثَوابِهِ تَشْتاقُونَ فَتَعْمَلونَ ، ولا أَنْتُمْ ممّا خَوَفكُمْ بِهِ مِنْ شَديدِ عقابهِ وأليمِ عَذابِهِ تَرْهَبُونَ فَتَنْكُلُونَ ، وقد نَبَأكمُ اللهُ في كتابِه أنّه : ( فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ) (4) ، ثُمَ ضَرَبَ لكمُ الأمثالَ في كِتابِهِ وَصَرَفَ الاَياتِ لِتَحْذَرُوا عاجِلَ زَهْرَةِ الحَياةِ الدنْيا فقال : ( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) (5) ، فاتّقوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعوا وأطِيعوا ، فَاتّقوا اللهَ وَاتَعِظوا بِمَوَاعِظِ اللهِ ، وما أعلَمُ إلاّ كَثيراً مِنكُمْ قَدْ نَهَكَتْهُ عَواقِبُ المَعاصِي فَما حَذَرَها وَأضَرَتْ بِدينِهِ فَما مَقَتَها ، أما
---------------------------
(1) فلاح السائل ( ص 96 ) عن كتاب ( زهرة المهج وتواريخ الحجج ) .
(2) المؤمنون آية 100 .
(3) سورة إبراهيم آية 14 .
(4) سورة الأنبياء آية 94 .
(5) سورة التغابن آية 15 .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 114 _

  تَسْمَعُونَ النداءَ مِنَ اللهِ بعَيْبها وَتَصغِيرِها حَيثُ قال : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ )(1) .
  وقالَ : ( يا أيهَا الّذِينَ آمَنُوا اتَقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )(2) ،فَاتَقوا اللهَ عِبَادَ اللهِ ، وَتَفَكَرُوا وَاعْمَلُوا لِما خُلِقْتُمْ لَهُ ، فَإنَ اللهَ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً ولَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدًى ، قَدْ عَرَفكُمْ نَفْسَهُ وَبَعَثَ إلَيْكُمْ رَسُولَهُ وأَنْزَلَ عَليكم كِتابَهُ ، فيه حَلالُهُ وحرامُهُ وحُجَجُهُ وأمثالُهُ ، فاتَقُوا اللهَ فَقد إحْتَجَ عليكم رَبكم فَقال : ( أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) (3) فهذِه حُجَة عَلَيكم فَاتَقوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإنَه لا قوَة إلاّ بالله ولا تكْلانَ إلاّ عَلَيه ، وصلّى اللهُ على محمّد ( نبِيهِ ) وآلِه (4) .
  إن الأبعاد الأخرى التي أنتجتها سيرة الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) في الزهد والعبادة ، هي :
1 ـ إعتراف علماء البلاط بفضل أهل البيت : على الرغم من أن الحكّام يحاولون التغطية على فضائل المعارضين لهم ولا سيما آل اُمية الذين ضربوا الأرقام القياسية في هذه الخصلة الذميمة ، بإعلان السبّ لأهل البيت على المنابر ، وإيعازهم إلى وعّاظ السلاطين بوضع الحديث في قدحهم وذمّهم ، فإن علماء البلاط الاموي في عصر الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ، لم يمكنهم إخفاء فضل الإمام السجّاد ( عليه السلام ) فضلاً عن الغضّ منه ، لأن سيرته لم تكن تخفى على أحد من الناس ، فقد إضطروا إلى إظهار تصريحات واضحة تعلن فضل الإمام ( عليه السلام ) ، بالرغم من إرتباطهم بالحكم الأموي الجائر ، أو موالاتهم له ، وكذلك مَنْ تلاهم من فقهاء العامة ورجالهم :

---------------------------
(1) سورة الحديد آية ( 20 ـ 21 ) .
(2) سورة الحشر آية ( 18 ـ 19 ) .
(3) سورة البلد آية ( 8 ـ 10 ) .
(4) تحف العقول ( ص 272 ـ 274 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 115 _

  قال يحيى بن سعيد : سمعت علي بن الحسين ، وكان أفضل هاشمي أدركته (1) ، وقال الزهري : ما رأيت قرشيّاً أو هاشمياً أفضل من علي بن الحسين (ع)(2) ، وقال سعيد بن المسيب : ما رأيت أورع منه (3) ، وقال حماد بن زيد : كان علي بن الحسين افضل هاشمي أدركته (4) ، لقد فرض الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) نفسه على كل المناوئين لأهل البيت : حتّى لم يشذّ أحد منهم عن تعظيمه وتجليله .
2 ـ إبراز فضل أهل البيت : ولقد كان الموقع الذي احتلّه الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) بفضله وعبادته وزهده ، بين الأمة ، أحسن فرصة كي يعلن فضل أهل البيت ، الذي جهد الأعداء الظالمون في إخفائه : ففي الحديث أن جابراً قال له : ما هذا الجهد الذي كلّفته نفسك ? . . . يابن رسول الله البُقيا على نفسك ، فإنك من اُسرةٍ بهم يُستدفع البلاء ، وبهم تُستكشف اللأواء ، وبهم تستمسك السماء ? فقال الإمام : يا جابر ، لا أزال على منهاج أبويَ مؤتسياً بهما حتّى ألقاهما ، فاقبل جابر على مَن حضر فقال : ما رؤي في أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين ، إلاّ يوسف بن يعقوب ، والله لذريّة علي بن الحسين أفضل من ذرية يوسف (5) ، فإن قوله : ( منهاج أبويّ يعني : علياً والحسين ( عليهما السلام ) مؤتسياً بهما ) يعني : أن ما يتمتّع به الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) هو ما كان يتمتّع به أبوه الحسين وجدّه علي ، وأن ما قام به أبواه من الجهاد يقوم به الإمام السجاد ، لأنه مثلهما في الإمامة ، ووارثهما في الكرامة ، وفي حديث عن الصادق ( عليه السلام ) في ذكر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وإطرائه ومدحه بما هو أهله ، وزهده في المأكل ، قال : وما أطاق عمل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من هذه الأمة غيره ، ثم قال : وما أشبهه من ولده ولا أهل بيته أحد أقربَ شبهاً به في لباسه وفقهه من علي بن الحسين ( عليه السلام ) ، قال : ولقد دخل أبو جعفر ابنه عليه فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد ، فرآه ، وقد اصفرّ لونه من السهر ، ورمصت عيناه من البكاء . . .

---------------------------
(1) طبقات ابن سعد ( 1 : 214 ) وتاريخ دمشق ( الحديث 47 ) ومختصر ابن منظور ( 17 : 235 ) .
(2) سير أعلام النبلاء ( 4 : 387 ) ولاحظ تاريخ دمشق ( الأحاديث 37 و 41 و 50 ) ومختصر ابن منظور ( 17 : 231 و 235 ) .
(3) سير اعلام النبلاء ( 4 : 391 ) ومختصر تاريخ دمشق ( 17 : 236 ) وحلية الأولياء ( 3 : 141 ) .
(4) تهذيب الأسماء واللغات ( 1 : 343 ) .
(5) مناقب آل أبي طالب ( 3 : 289 ) وبحار الأنوار ( 46 : 79 ) ولاحظ : أمالي الطوسي ( 2 : 250 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 116 _

  قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء ، فبكيت رحمةً له ، فإذا هو يفكّر ، فإلتفت إليَ بعد هنيئةٍ من دخولي فقال : يا بنيَ ، أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فأعطيته ، فقرأ فيها شيئاً يسيراً ، ثم تركها من يده تضجّراً ، وقال : مَن يقوى على عبادة علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ? (1) وعن الصادق ( عليه السلام ) قال : كان علي بن الحسين ( عليه السلام ) إذا أخذ كتاب علي ( عليه السلام ) فنظر فيه قال : مَنْ يطيق هذا ? مَنْ يطيق هذا ? (2) ، وهكذا يُعلن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وهو في أعلى قمم العبادة والاجتهاد في الطاعة أنه لا يقوى على عبادة جدّه علي ( عليه السلام ) فإلى أيّ سماء ترتفع فضيلة أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) في العبادة ، بعد هذه الشهادة ? ، إن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) بهذا الجهاد الظريف يحرق ما كدّسه بنواُمية طوال السنين المظلمة لحكمهم من أطنان الكذب والإفتراء ضدّ علي ( عليه السلام ) ، وينسف كل الاُسس التي بنوا عليها ظلمهم وجورهم لسيد العترة وزعيم أهل البيت الطاهر أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) .
3 ـ إنارة السبيل للعُبّاد والصالحين : إن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وهو يمثّل الإسلام في تصرفاته وأقواله ، كان المثل الأفضل للعبّاد والصالحين ، ومن أراد أن يدخل هذا المسلك الشريف فله من الإمام ( عليه السلام ) خير دليل ومرشد ، ومن أقواله خير منهج وطريقة ، ولقد رسم خطوطاً عريضةً للسير والسلوك ، تمثّل أفضل ما قرّره علمأ هذا الفنّ ، وإليك أمثلة من تلك :
  فقال ( عليه السلام ) : إنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد ، وآخرين عبدوه رغبةً فتلك عبادة التجّار ، وقوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار (3) ، فربط بين الحرية ، وبين عبادة الله ، وبين الروح غير الخانعة ولا الطامعة بل المتطلّعة إلى الله ، والمتقرّبة إلى رضوانه ، بإلتزام العبادة له ، والطالبة للمزيد بالشكر ، حيث وعد وقال : ( لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ) ، ( سورة إبراهيم (14) الاَية 7 ) .
  وسئل ( عليه السلام ) : عن صفة الزاهد في الدنيا ? فقال : يتبلّغ بدون قوته ، ويستّعد ليوم موته ، ويتبرّم في حياته (4) .

---------------------------
(1) شرح الأخبار للقاضي ( 3 : 272 ) والإرشاد للمفيد ( ص 256 ) والمناقب لابن شهرآشوب ( 4 : 149 ) وكشف الغمة ( 2 : 85 ) وبحار الأنوار ( 46 : 75 ) .
(2) الكافي للكليني ، الروضة ( 8 : 163 ) .
(3) تاريخ دمشق ( الحديث 141 ) وهذا من كلام الإمام علي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) رواه الرضي في نهج البلاغة بالأرقام ( 65 و 237 و 276 ) من الباب الثالث : قصار الحكم .
(4) تاريخ دمشق ( الحديث 134 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 117 _

  وقال له رجل : ما الزهد ? فقال ( عليه السلام ) : الزهد عشرة أجزاء : فأعلى درجات الزهد ، أدنى درجات الورع ، وأعلى درجات الورع أدنى درجات اليقين ، وأعلى درجات اليقين أدنى درجات الرضا ، وإن الزهد في آية من كتاب الله (لِكَي ْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ) (1) ، ( الحديد (57) الاَية : 23 ) .
  ومن أظرف أمثلة مواعظه ، ما روي عنه من الخطاب الموجّه إلى ( النفس ) يقول : ( يانفس ، حتّامَ إلى الدنيا سكونكِ ، وإلى عمارتها ركونِك ، أما إعتبرتِ بمن مضى من أسلافكِ ? ومن وارته الأرض من اُلاّفكِ ? ومن فجعت به من إخوانكِ ? ونقل إلى الثرى من أقرانِكِ ?

فـهم في بُطون الأرض بعد ظهورها      مـحـاسنُهم فـيـها بَـوالٍ iiدواثِـرُ
خـلتْ دورهم منهم وأقوت iiعِراصُهم      وسـاقـتْهم نـحو الـمنايا iiالـمقادرُ
وخـلّوا عـن الـدنيا وما جمعوا iiلها      وضمَهم تحتَ التراب الحفائرُ   (2)
  وهكذا يسترسل الإمام ( عليه السلام ) مع النفس في خطاب رقيق ، وحساب دقيق ، ويُناجيها ، يعرض عليها العبَر ، ويذكّرها بما فيه مزدَجَر ، ويُبعدها عن الدنيا وزينتها والغرور بها ، ويُقربها إلى الاَخرة ونعيمها وما فيها من جوار الله ورحمته ، في مقاطع نثريّة رائعة ، تتلوها معانٍ منظومة ، في ثلاثة أبيات بعد كل مقطع ، بلغت (18) مقطعاً (3) ، وهكذا ، لم يترك الإمام ( عليه السلام ) طريقاً إلاّ سلكه ولا جهداً إلا إستنفده ، ليدرك الأمة كيلا تقع في هُوّة الانحراف ، وحياة الترف التي صنعتها لها آل اُمية .

---------------------------
(1) تحف العقول ( ص 278 ـ 279 ) .
(2) ابن عساكر في تاريخ دمشق ( الحديث 135 ) ومختصره لابن منظور ( 17 : 249 ـ 254 ) ونقله ابن كثير في تاريخ البداية والنهاية ( 9 : 109 ـ 113 ) ، وانظر عوالم العلوم ( ص 124 ) عن المناقب لابن شهرآشوب ( 3 : 292 ) وبحار الأنوار ( 46 : 83 ) .
(3) وقد نُسِبَ كتاب منظوم إلى الإمام السجاد ( عليه السلام ) بإسم ( المخمسّات ) في نسخة محفوظة في خزانة مخطوطات مكتبة آية الله المرعشي رحمه الله ذكرها السيد أحمد الحسيني في التراث العربي في تلك الخزانة ( 5 : 28 ) أوله :
تـبارك  ذو الـعلى iiوالكبرياء      تـفـرد  بـالجلال iiوبـالبقاء
وسوّى الموت بين الخلق طُرّا ً      وكـلـهم  رهـائـن iiلـلفناء
رقم النسخة ( 5557 ) وتاريخها ( 903 ) ، وتنسب إلى الإمام السجاد ( عليه السلام ) بإسم الديوان نسخ ، منها نسختان في مدينة باكو برقم : ب 4195و رقم : ب 449 ومصورتهما في مركز جمعة الماجد في دبي برقم : 3117 ورقم : 3156 .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 118 _

1 ـ تزييف دعاوي المُبْطلين من دعاة التصوّف والرَهْبَنة : ومع أنّ الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) كان المثل الأعلى للزهد والعبادة في عصره ، حتّى غلبت عليه هذه الصفة أكثر من غيرها ، إلاّ أنّه ( عليه السلام ) وقف من المُتظاهرين كذباً بالزهد ، والمائلين إلى الإنعزال عن المشاكل ، التاركين للحكّام وللناس ، يظلم اُولئك هؤلاء ، ويتبع هؤلاء اُولئك ، والذين قبعوا حسب نظرتهم على إصْلاح أنفسهم وأعمالهم ، تلك الحالة التي سُمّيتْ من بعدُ بالتصوّف ، وسُمّي أهلها بالصوفيّة ، وقف الإمام ( عليه السلام ) من هذه الحالة ومن دعاتها ورعاتها ، موقف الردّ والإنكار وإعلان الخطأ في طرقهم ، وحاول إرشادهم إلى طرق السلوك الصائبة ، بما قدّمه إليهم وإلى الأمة من مواعظ وأدعية وخطب ورسائل وأجوبة تحدّد لهم معالم الطرق القويمة والسبل المستقيمة ، والموصلة إلى الهدى والرشاد ، وبما كان الإمام يتمتَع به من مكانة مرموقة معترف بها ، في الإيمان والشرف ، حسباً ونسباً ، وخاصة في الزهد والعبادة ، فإن كلامه في هذا المجال كان هو المقبول ، ومواقفه التي كان يتخذها من المتظاهرين بالزهد ، كانت هي الناجحة والغالبة ، وقد تركَز إنحرافهم في نقطتين هامّتين :
أ ـ محاولتهم الإنعزال عن الحياة الاجتماعية ، بعدم تدخلهم في ما يمسّ وجودهم بسوء أو ضرر ، مثل التعرّض للظلم والفساد الذي يجري حواليهم ، وخاصةً من قبل الخلفاء والولاة وكل مَنْ يمتّ إلى السلطان والحكومة بِصِلة خوفاً على أنفسهم من الموت والهلكة ، وقد كان يجرّهم هذا التفكير إلى مداراة الظلمة ، والخضوع لهم ، والحضور في مجالسهم ، بل الإنخراط في مظالمهم ، وتصويب أعمالهم ، بالرغم من معرفة ظلمهم وعدم إستحقاقهم للمقامات التي إحتلّوها .
ب ـ وعلى أثر النقطة الاولى ، فإنهم إبتعدوا عن أهل البيت ( عليه السلام ) ، لأنهم كانوا هم المعارضين السياسيّين ، فكان الإتصال بهم يعني المحسوبيّة عليهم وعلى خطّهم ، فإبتعدوا عنهم ، وأقلّ آثار ذلك هو الحرمان من تعاليمهم القيمة ، والتردّي في ظلمات الجهل والانحراف ، وبما أن اُولئك المتظاهرين كانوا يمثُلون في أنظار الناس بمنزلة علماء زهّاد ، فإنّ إستمرارهم على تلك الحالة الإنحرافية كان يُغري الناس البسطاء بصحّة سلوكهم المنحرف ، وتفكيرهم الخاطىء فكان على الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) أن يصدّهم ، إرشاداً لهم ، وإيقافاً للاُمَة على حقيقة أمرهم ، وكشفاً لإنحرافهم وخطئهم في السلوك والمنهج ، فموقفه من عبّاد البصرة ، الذين دخلوا مكّة للحجّ ، وقد إشتدّ بالناس العطش لقلّة الغيث ، قال أحدهم : ( ففزع إلينا أهلُ مكة والحُجّاجُ يسألوننا أن نستسقيَ لهم ) ? والكلام إلى هنا يدل على مدى إهتمام الناس بهؤلاء العُباّد .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 119 _

  قال : فأتينا الكعبة وطفنا بها ، ثم سألنا اللهَ خاضعين متضرّعين بها ، فمُنعنا الإجابة ، فبينما نحن كذلك إذا نحن بفتىً قد أقبل ، وقد أكربته أحزانُه ،وأقلقته أشجانه ، فطاف بالكعبة أشواطاً ، ثم أقبل علينا ، فقال : يا مالك بن دينار ، ويا . . . ويا . . . وذكر الإمام ( عليه السلام ) أسماءهم كلّهم ، بحيث يبدو أنه يريد أن يعرّفهم للناس بأعيانهم ، قال الراوي : فقلنا : لبيك و سعديك ، يا فتى فقال : أما فيكم أحد يحبه الرحمن ? فقلنا : يا فتى ، علينا الدعاء وعليه الإجابة ، فقال : أبعدوا عن الكعبة ، فلو كان فيكم أحد يحبّه الرحمن لأجابه ، ثم أتى الكعبة ، فخرّ ساجداً ، فسمعته يقول في سجوده : ( سيّدي بحبّك لي إلاّ سقيتهم الغيث ) . . قال : فما إستتمَ الكلام حتّى أتاهم الغيث كأفواه القِرب ! ، قال الراوي : فقلتُ : يا أهل مكة ، مَن هذا الفتى ؟ ، قالوا : علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) (1) .
  إنّ إبتعاد أهل البصرة عن أهل البيت ( عليهم السلام ) إلى حدّ الجهل بهم ليس بتلك الغرابة ، لأنّ إنحرافهم عن أهل البيت قد تجذّر فيهم منذ حرب الجَمَل ووقعته الرهيبة ، وقد بقيت آثارها فيهم حتّى دهر سحيق ، فلما خرج حفص بن غياث القاضي إلى عبادان وهو موضع رباط فإجتمع إليه البصريّون فقالوا له : لا تحدّثنا عن ثلاثة : أشعث بن عبد الملك ، وعمرو بن عبيد ، وجعفر بن محمد . . . (2) ، فتلك شنشنة أعرفها من أخْزَمِ .
  لكنّ كلّ الغرابة من أهل مكّة المجاورين للمدينة ? والذين يعرفون الإمام كاملاً ، كيف إغترّوا بأولئك الزهّاد ، القادمين من بعيد ، ولجأوا إليهم يطلبون الغَيْث منهم ، وهذا الإمام زين العابدين ، وحجّة الزاهدين بينهم يتركونه ، بل لا يُعْرَفُ إلاّ بالسؤال عنه ? ، لم يُتصوَر ظلم على أهل البيت ( عليهم السلام ) أكثر من هذا في مركز الدين والإسلام ، مكّة ، وعند أشرف البقاع وأعظمها ( الكعبة الشريفة ) ، وما الذي جعل أهل مكّة يتركون الإمام علي بن الحسين ( عليه السلام ) وهم يعرفونه حسباً ونسباً ، فيلجأون إلى أناس جاءوا من البصرة ? إنّه ليس إلاّ الإنحراف عن أهل البيت ( عليهم السلام ) والجهل بحقّهم وفضلهم ، إن لم يكن العداء لهم ! ! .
  وهكذا تصدّى الإمام لهذا الإنحراف وأسقط ما في أيدي أولئك العُبَاد المتظاهرين بالزهد ، الذين لا يعرف واحدهم زين العابدين ، إمام زمانه ، وسيّد أهل البيت .

---------------------------
(1) لاحتجاج ( 316 ـ 317 ) وبحار الأنوار ( 46 : 50 ـ 51 ) .
(2) تهذيب الكمال للمزّي ( 5 : 7 ـ 78 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 120 _

  فكشف عن زيف دعاواهم ، وسوء نيّاتهم ، وضلال سُبُلهم حيث عَنَدوا عن حقّ أهل البيت ، ولم يعترفوا لهم بالفضل ، وللإمام ( عليه السلام ) مواقف اُخرى مع آحاد من هؤلاء العُباد ، مثل موقفه من الحسن البصري ، ومن طاوس ، وغيرهما (1) ، إن الزهد الذي قام الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) بإحيائه كان مثل زهد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعليّ والأئمة ( عليهم السلام ) ، الذي يُطابق ما قرّره الإسلام ، وينبذ كل أشكال الانحراف والزيف والتزوير ، والرهبانيّة المبتدعة ، ولقد اُثِرَتْ عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) نصوص جاء فيها شرح العبادات من وجهات نظرٍ روحيّة بما عجز عن إدراكه كبار المتصدّين لمثل هذه المعارف ، فمن ذلك ما روي عنه في تفسير معاني أفعال الحج (2) وأقسام الصوم (3) ، أضف إلى أن عمل الإمام كان تعديلاً لسلوك الامّة في اغترارها بمناهج أولئك المتظاهرين المزيّفين ، المنحرفين عن ولاء أهل البيت ( عليهم السلام ) وأئمة الحق والصدق ، الذين مثّلهم الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) يومذاك ، إن الإمام ( عليه السلام ) حذّر الأمة من الإغترار بالذين يتظاهرون بالزهد ، ممن يحبّ الترؤّسَ على الناس ، يجتمعون حوله ، ويلتذّ بالفخفخة والتمجيد ، ولو على حساب المعرفة بالدين والفقه ! ، ففي الحديث أنه قال ( عليه السلام ) : إذا رأيتم الرجل قد حسّن سمته وهديه ، وتماوت في منطقه ، وتخاضع في حركاته ، فرويداً لا يغرّنكم .
  فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها ، لضعف نيّته ، ومهانته ، وجبن قلبه ، فنصب الدين فخّاً لها ، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره ، فإن تمكّن من حرام إقتحمه ، وإذا وجدتموه ، يعفّ عن المال الحرام ، فرويداً ، لا يغرّنكم ! ، فإن شهوات الخلق مختلفة فما أكثر من ينبو عن المال الحرام ، وإن كثر ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرّماً ، فإذا وجدتموه يعفّ عن ذلك ، فرويداً لا يغرّنكم حتّى تنظروا ما عُقدة عقله ? فما أكثر من ترك ذلك أجمع ، ثم لا يرجع إلى عقل متين ، فيكون ما يفسد بجهله أكثر مما يصلحه بعقله ، فإذا وجدتم عقله متيناً ، فرويداً لا يغرّنكم ! .

---------------------------
(1) لاحظها في حلية الأولياء ، وصفوة الصفوة ، وكشف الغمة .
(2) مستدرك الوسائل ( 2 : 186 ) أبواب العود إلى منى ، الباب (17) الحديث (5) وطبعة مؤسسة آل البيت : ( 10 : 166 ) رقم ( 11770 ) .
ويلاحظ أن الراوي عن الإمام مسمّى ( شبلّي ) وليس في الرواة عنه ، ولا من عاصره من هو بهذا الاسم ، ولعله مصحّف ( شيبة ) وهو إبن نعامة ، المذكور في أصحابه ( عليه السلام ) .
(3) حلية الأولياء ( 3 : 141 ) وفرائد السمطين للحمويني ( 2 : 233 ) وكشف الغمة ( 2 : 103 ـ 105 ) ولاحظ : المقنعة للشيخ المفيد ( ص 363 ) الباب (32) ووسائل الشيعة ، كتاب الصوم ، أبواب بقية الصوم الواجب ، الباب (10) الحديث (6) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 121 _

  حتّى تنظروا ، أمع هواه يكون على عقله ، أم يكون مع عقله على هواه ? وكيف محبّته للرئاسات الباطلة ? وزهده فيها ? ، فإن في الناس من خسر الدنيا و الاَخرة ، بترك الدنيا للدنيا ، ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة ، فيترك ذلك أجمع طلباً للرئاسة ، حتّى إذا قيل له : ( إتّق الله ) أخذته العزّة بالإثم ، ( فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ) (1) ، فهو يخبط خبط عشواء ، يوفده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة ، ويمدّ به بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه ، فهو يُحلّ ما حرّم الله ، ويحرّم ما أحلّ الله ، لا يُبالي ما فات من دينه إذا سلمت له الرئاسة التي قد شقي من أجلها ، فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم ، ( وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا ) (2) .
  ولكنّ الرجل ، كلّ الرجل ، نعم الرجل : هو الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله ، وقواه مبذولة في رضا الله ، يرى الذلّ مع الحقّ أقرب إلى عزّ الأبد ، من العزّ في الباطل ، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرّائها يؤدّيه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد ، وأن كثير ما يلحقه من سرّائها إن إتّبع هواه يؤدّيه إلى عذاب لا إنقطاع له ولا يزول ، فذلكم الرجل ، نعم الرجل : فبه فتمسّكوا ، وبسُنّته فإقتدوا، وإلى ربكم فتوسّلوا ، فإنه لا تردّ له دعوة ، ولا يخيب له طلبة (3) ، ولحن هذا الكلام ، يعطي أنّه خطاب عام وجّهه الإمام إلى مستمعيه ، أو مَنْ طلب منه الإجابة عن سؤال حول مَنْ يجب الالتفاف حوله والأخذ منه ? ، ومهما يكن ، فإنّ كلام الإمام ( عليه السلام ) يبدو واضحاً قاطعاً للعذر ، وهو غير متّهم في موقفه من الزهد والتواضع ، وما إلى ذلك مما يُراد إستغلاله من قبل المشعوذين ، لإغراء العوام ، وإغواء الجهّال ، إنّ فيه تحذيراً من علماء السوء ، المتزيّين بزيّ أهل الصلاح ، والمتظاهرين بالورع والتقى ، ولكنّهم يُبطنون الخبث والمكر ، والدليل على ذلك إرتباطهم الوثيق بأهل الدنيا والرئاسات الباطلة ، من الحكّام والولاة وأصحاب الأموال ، وسيأتي الحديث عن موقفه من أعوان الظلمة في الفصل الخامس .

---------------------------
(1) إقتباس من القرآن الكريم ، سورة البقرة (2) الاَية : 206 .
(2) إقتباس من القرآن الكريم ، سورة الأحزاب (33) الاَية (57) .
(3) الاحتجاج ( ص 320 ت 321 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 122 _

ج ـ إرعاب الظالمين : إن الواقعيّة التي إلتزمها الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) في حياة الزهد والعبادة ، كماإنفتحت له بها قلوب الناس الطيّبين ، فكذلك إقتحم بها على الظالمين أبراجهم ، وقصورهم ، فملأ أثوابهم خيفةً ورهبةً ، كما غشّى عيونهم وأفكارهم بما رأوه عليه من المظهر الزاهد ، والإشتغال بالعبادة ، ولقد قرأنا في حديث مسلم بن عقبة سفّاح الحرّة لمّا طلب الإمام ، فأكرمه ، وقد كان مغتاظاً عليه ، يبرؤ منه ومن آبائه ، فلمّا رآه وقد أشرف عليه اُرعب مسلم بن عقبة ، وقام له ، وأقعده إلى جانبه ! ، فقيل لمسلم : رأيناك تسب هذا الغلام وسلفه ، فلما اُتي به إليك رفعت منزلته ? فقال : ما كان ذلك لرأي منّي ، لقد مُلي قلبي منه رُعباً (1) ، وسنقرأ في حديث عبد الملك بن مروان ، لمّا جَلَبَ الإمام مقيّداً مغلولاً من المدينة إلى الشام ، فلمّا دخل عليه الإمام ( عليه السلام ) بصورة مفاجئة قال لعبد الملك : ما أنا وأنت ? ، قال عبد الملك : قلتُ : أقمْ عندي ، فقال الإمام : لا اُحب ، ثم خرج ، قال عبد الملك : فو الله ، لقد إمتلأ ثوبي منه خيفةً (2) ، ومهما يكن من تدخّل أمر ( الغيب ) في هذه القضايا ، وفرضه لنفسه على البحث ، إلاّ أن من المعلوم كون تصرف الإمام ( عليه السلام ) نفسه ، وحياته العملية وتوجّهاته المعنوية ، وتصرّفاته المعلنة في الأدعية ، والمواعظ ، والخطب والمواقف ، وما تميّزت به من واقعية ، كل هذا المجهول لاُؤلئك العُمي البصائر قد أصبح أمراً يهزّ كيانهم ، ويُزعزع هدوهم ، ويملؤهم بالرعب والخيفة .
  ولقد إستغلّ الإمام ذلك لصالح أهدافه الدينيّة وأغراضه الاجتماعية ، ومع كلّ هذا التعرّض والتحديّ ، وكلّ هذه الأبعاد المدركة والاَثار المحسوسة ، مع دقّتها وعمقها ، فإنّ التحفظ على ما في ظواهرها ، وجعلها ( روحيّة ) فقط وعدم الاعتقاد بكونها نتائج طبيعيّة من صنع الإمام وإرادته ، يدلّ على سذاجة في قراءة التاريخ ، وظاهريّة في التعامل مع الكلمات والأحداث ، وقصور في النظر والحكم ، وكذلك الإستناد إلى كلّ تلك المظاهر ، ومحاولة إدراج الإمام مع كبار الصوفيّة ، وجعله واحداً منهم (3) ، فهو بخلاف الإنصاف والعدل ? .
  ولماذا يقع إختيار عبد الملك الخليفة على الإمام ( عليه السلام ) ، من بين مجموعة الزهّاد والعبّاد ، ليوجّه اليه الإهانة ، ويلقي القبض عليه ، ويكبّله بالقيود والأغلال ، ويرفعه إلى دمشق ? دون جميع المتزهدين والعباد الاَخرين ? ، بينما كل اؤلئك المتظاهرين بالزهد ، متروكون ، بل محترمون من قبل السلطان ، وأجهزة النظام ? ، لو لم يكن في عمل الإمام ما يثير الخليفة إلى ذلك الحدّ .

---------------------------
(1) مروج الذهب ( 3 : 80 ) وانظر ما مضى ص (71) الفصل الأول .
(2) تاريخ دمشق ( الحديث 42 ) ومختصره لإبن منظور ( 17 : 4 ـ 235 ) .
(3) لاحظ الفكر الشيعي ( ص 31 و 68 ) والصلة بين التصوف والتشيع ( ص 148 ) و ( ص 151 و 157 ) وانظر خاصة ( ص 161 ) .