وقد أدّت تلك التضحية العظيمة ، إلى فضح حكّام بني اُمية ، حيث إن عملهم الظالم ذلك ، الذي لم يجدوا في الاُمة منكراً له ولا نكيراً عليه ، هوّن عليهم الإقدام على أعمال فظيعة أخرى بعلانية ووقاحة ، بشكل لم يبق مبرّر لإطلاق اسم الإسلام والإيمان عليهم ، ولذلك نجد أن الذين أعلنوا عن ثورة المدينة قبيل وقعة الحرّة ، كانت دعواهم : ( أن يزيد لَرَجُل ليس له دين )(1)
  والأمويون تأكيداً على كفرهم وخروجهم على كل المقدّسات ، إستباحوا مدينة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وحرمه ، وقتلوا آلاف الناس ، وفيهم جمع من أبناء صحابة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهتكوا الأعراض و انتهبوا الأموال (2) .
  وعقّبوا ذلك بالهجوم على الكعبة والمسجد الحرام وحرم الله الاَمن ، فأحرقوها وهتكوا حرمتها ، وسفكوا الدماء فيها ، ولم يرقبوا في شيء عملوه أيام حكمهم الدموي كرامة لأحد ، ولا حرمة لشيء مقدّس .   والمرجئة مع ذلك يقولون في الامويين إنهم الحكّام الذين تجب طاعتهم ، وإنهم مؤمنون لا يجوز الحكم عليهم بالكفر ، ولا لعنهم ، ولا التعرّض لهم ولا الخروج عليهم .
  إن هذا الانحراف الذي عرض لامة الإسلام ، كان ردّة خفيّة تمرّر بإسم الإسلام وعلى يد الخليفة والمجرمين الممالئين له .
  فكانت جهود الإمام السجاد ( عليه السلام ) هي التي اعقبت إحياء الروح الإسلامية واستتبعت الصحوة للمسلمين ، فرصّ الصفوف ، فتمكّن ابنه المجاهد العظيم زيد بن علي ( عليه السلام ) من إطلاق الثورة ضدهم .
  وتلك التعاليم السجادية هي التي جعلت أمر كفر الامويّين وبطلان حكمهم ، أوضح من الشمس ، وألجأت أبا حنيفة المتّهم بالإرجاء (3) أن يرى ولاة بني امية مُخالفين لتعاليم الدين وأعلن وأظهر البغض والكراهية لدولتهم ، وساهم في حركة زيد الشهيد ، وناصر أهل البيت بالمال والعدّة ، وكان يُفتي سرّاً بوجوب نصرة زيد وحمل المال إليه والخروج معه على اللصّ المتغلّب المتسمّي بالإمام والخليفة (4) .

---------------------------
(1) أيام العرب في الإسلام ( ص 420 ) .
(2) انظر كتب التاريخ في حوادث سنة ( 63 هج ) وتاريخ المدينة المنورة وترجمة مسلم بن عقبة ، وعبد الله بن الغسيل .
(3) لاحظ تاريخ بغداد ( ج 13 ) وانظر الكنى والألقاب ( 1 : 52 ) .
(4) لاحظ ضحى الإسلام ، لأحمد أمين ( 3 :274 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 62 _

وفي الإمامة والولاية :
  كانت الإمامة في نظام الدولة الإسلامية ، أعلى المناصب الحكومية ، ولذا كان الحكّام يسمّون أنفسهم أئمة للناس ، واُمراء للمؤمنين ، بلا منازع .
  ولا يدّعي أحد غير الحاكم ، لنفسه منصب الإمامة إلاّ إذا لم يعترف بالحاكم ولا حكومته : ومعنى هذا الادّعاء معارضته للنظام ولمقام الخليفة نفسه .
  والإمام السجاد ( عليه السلام ) قد أعلن عن إمامة نفسه بكل وضوح وصراحة ومن دون أيَة تقيَة وخفاء .
  ولعلّ لجوه ( عليه السلام ) إلى هذا الاُسلوب المكشوف كان من أجل أنّ بني اُمية بلغ أمر فسادهم وخروجهم عن الإسلام ، وعدم صلاحيتهم للحكم على المسلمين وإدارة البلاد ، فضلاً عن الإمامة ، حدّاً من الوضوح لم يمكن ستره على أحد .
  فكان من اللازم الإعلان عن إمامة السجاد ( عليه السلام ) كي لا يبقى هذا المنصب شاغراً ، وإن لم تكن الإمامة الحقّة حاكمةً ظاهراً .
  ومهما يكن ، فإنّ خطورة إعلان الإمام السجاد ( عليه السلام ) عن إمامة نفسه وأهل بيته ، لا تخفى على أحد ممن عرف جور بني اُمية وطغيانهم وقسوتهم في مواجهة المعارضين .
  وقد تعدّدت الأحاديث الناقلة لهذا الإعلان ، حسب تعدّد المناسبات ، والظروف :
1 ـ ففي الحديث الذي أورده ابن عساكر : قال أبو المنهال نصر بن أوس الطائي : رأيت علي بن الحسين ، وله شَعر طويل ، فقال : إلى مَن يذهب الناسُ ? قال : قلتُ : يذهبون ها هنا وها هنا قال : قل لهم : يجيئون إلي (1) .
2 ـ قال له أبو خالد الكابلي : يا مولاي أخبرني كم يكون الأئمة بعدك ? فقال : ثمانية ، لأنّ الأئمة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إثنا عشر إماماً ، عدد الأسباط ، ثلاثة من الماضين ، وأنا الرابع ، وثمانية من ولدي ، أئمة أبرار ، مَن أحبَنا وعمل بأمرنا كان في السنام الأعلى ، ومَن أبغضنا أو ردَ واحداً منّا فهو كافر بالله وبآياته (2) .

---------------------------
(1) تاريخ دمشق ( الحديث 21 ) ومختصره لابن منظور ( 17 : 531 ) .
(2) كفاية الأثر للخزّاز ( ص 236 - 237 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 63 _

3 ـ وقال ( عليه السلام ) : نحن أئمّة المسلمين ، وحُجَجُ الله على العالمين ، وسادة المؤمنين ، وقادة الغرّ المحجّلين ، وموالي المؤمنين ، ونحنُ أمانُ أهل الأرض ، كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء . . . ولو ما في الأرض منّا لساخَتْ بأهلها ، ولم تَخْلُ الأرض منذ خلقَ اللهُ آدمَ من حُجّةٍ لله فيها ، ظاهرٍ مشهورٍ أو غائب مستورٍ ، ولا تخلو ، إلى أنْ تقوم الساعة ، من حجّة لله فيها ، ولولا ذلك لم يُعبد الله (1) .
4 ـ وقال ( عليه السلام ) : نحنُ أفراط الأنبياء ، وأبناء الأوصياء ، ونحن خلفاء الأرض ، ونحن أولى الناس بالله ، ونحن أولى الناس بدين الله (2) .
5 ـ وكان يقول في دعائه يوم عرفة :
  اللهمّ إنّك أيَدت دينك في كلّ أوان بإمام أقمته علماً لعبادك ومناراً في بلادك بعد أن وصلتَ حبله بحبلك ، وجعلته الذريعة الى رضوانك ، وإفترضتَ طاعته ، وحذّرتَ معصيته ، وأمرت بإمتثال أوامره ، والانتهاء عند نهيه ، وألا يتقدمه متقدّم ، ولا يتأخّر عنه متأخّر ، فهو عصمةُ اللائذين ، وكَهْفُ المؤمنين ، وعُرْوةُ المتمسّكين ، وبهاء العالمين .
  اللهمَ فأوْزِعْ لوليك شكر ما أنعمتَ به عليه ، وأوْزِعنا مثله فيه ، وآتهِ من لدنك سلطاناً نصيراً ، وإفتح له فتحاً يسيراً ، وأعِنْهُ بركنك الأعزّ . . . وأقم به كتابك وحدودك وشرائعك وسنُنَ رسولك صلواتك اللهمَ عليه وآله .
  وأحْيِ به ما أماته الظالمون من معالم دينك ، واجْلُ به صَدأ الجور عن طريقتك ، وأبِن به الضرّاء من سبيلك ، وأزِل به الناكبين عن صراطك ، وامحق به بغاة قصدك عِوجاً ، وألِن جانبه لأوليائك ، وابسط يده على أعدائك (3) .

---------------------------
(1) أمالي الصدوق ( ص 112 ) الاحتجاج ( ص 317 ) .
(2) بلاغة علي بن الحسين ( ص 60 ) .
(3) الصحيفة السجادية ، الدعاء رقم (47) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 64 _

  ففي يوم عرفة ، وفي موقف عرفات ، حيث تتّجه القلوب الى الله بلهفة ، وحيث الأنظار شاخصة الى ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والاَذان صاغية الى بقية العترة ، لتسمع دعاءه في ذلك اليوم الشريف ، وذلك الموقف المنيف ، يدعو بهذه الكلمات ليعرّف المسلمين بما يجب أن يكون عليه الإمام الحقّ من صفات ، وما عليه وله من حقوق وواجبات .
  ولا يرتاب المتأمّل : أن في عرض مثل هذه الأوصاف والواجبات التي يبتعد عنها الحكّام المدّعون للإمامة أشواطاً ومسافات طويلة يعدّ تعريضاً بهم ، وتحدّياً لوجودهم .
  وأن الإمام السجاد ( عليه السلام ) لمّا كان يعرّف الإمامة بهذا الشكل ، فهو بلا ريب يستبعدعنها كلّ أدعياء الإمامة من غير ما لياقةٍ ، فضلاً عن الاستحقاق .
  فأين أولئك المغمورون في الرذيلة والظلم والجهل بالدين ، بل المعارضون له عقائدياً وعملياً ، أين هم من هذه الإمامة المقدّسة ?
6 ـ وكان يقول في دعائه ليوم الجمعة ، والأضحى :
  اللهمَ إنَ هذا المقام لخلفائك ، وأصفيائك ، ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي إختصصتهم بها ، قد ابتزّوها ، وأنت المقدّرُ لذلك لا يُغالب أمرك .
  حتّى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين ، مقهورين ، مبتزّين ، يرون حكمك مبدّلاً ، وكتابك منبوذاً ، وفرائضك محرّفة عن جهة إشراعك ، وسنن نبيّك متروكة .
  اللهمَ : إلعن أعداءهم من الأوّلين والاَخرين ، ومن رَضِيَ بفعالهم وأشياعهم ، وأتباعهم (1)
---------------------------
(1) الصحيفة السجادية الدعاء رقم (48) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 65 _

  ويوصي الإمام إلى ولده محمّد الباقر فيقول :
  بُنيّ : إنّي جعلتُك خليفتي من بعدي ، لا يدَعيها في ما بيني وبينك أحد إلاّ قلّده الله يوم القيامة طوقاً من النار(1) .
  بل ، أعلن خلافة ولده الباقر وإمامته ، للزُهْري ، وهو من علماء البلاط الأمويّ ، في ما روي عنه ، قال : دخلتُ على علي بن الحسين ( عليه السلام ) في مرضه الذي تُوفي فيه : فقلتُ : يا بن رسول الله ، إنْ كان أمرُ الله ، ما لابدّ لنا منه ، فإلى مَنْ نختلف بعدك ?
  فقال ( عليه السلام ) : يا أبا عبد الله ، الى ابني هذا وأشار إلى محمّد الباقر ( عليه السلام ) فإنّه وصيّي ، ووارثي ، وعيبة علمي وهو معدن العلم وباقره .
  قال الزُهْري : قلتُ : هلاّ أوصيتَ إلى أكبر ولدك ? قال ( عليه السلام ) : يا أبا عبد الله ، ليست الإمامة بالكِبر والصِغَر ، هكذا عهد إلينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهكذا وجدناه مكتوباً في اللوح والصحيفة .
  قال الزُهْريّ : قلتُ : يا بن رسول الله ، كم عهد إليكم نبيّكم أنْ يكون الأوصياءُ بعده ? قال ( عليه السلام ) : وجدناه في الصحيفة واللوح ( إاثنا عشر إسماً ) مكتوبة إمامتهم .
  ثم قال ( عليه السلام ) : يخرج من صُلب محمّد ابني سبعة من الأوصياء فيهم ( المهديّ )(2) .
  إلى غير ذلك من الاَثار الواردة في هذا الباب .
  والمهمّ في الأمر أنّ الإمام السجّاد ( عليه السلام ) بصراحته هذه ، وإعلانه عن أهمّ ما يرتبط باستمرار العقيدة ودوامها ، تمكّن من تثبيت الإمامة بعد أن تعرّض التشيّع لأوحش الحملات في ذلك التأريخ ، فأدّتْ بالعقيدة إلى تضعضع لم يسبق له مثيل كما أدّتْ إلى يأس في النفوس ، وتمزّق بين صفوف الشيعة بما لا يتصوّر ! .

---------------------------
(1) كفاية الأثر للخزّاز ( ص 240 - 241 ) .
(2) كفاية الأثر للخزّاز ( ص 243 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 66 _

  فكانت مواقف الإمام السجّاد ( عليه السلام ) هذه ، الواضحة ، والجريئة ، والمكرّرة ، سبباً لِلَملَمة الكوادر من جديد ، ورص الصفوف ثانية ، وتكريس الجهود المكثّفة ، وإستعادة القوى المهدورة ، والتركيز على ترسيخ القواعد الأصلية من أن تحرّف أو يشوبها التشويهُ لتكوين الأرضيّة الصالحة لبذر علوم آل محمّد على أيدي الأئمّة لاسيما الباقر والصادق ( عليهما السلام ) .

إثارة خلافة الشيخين
  إنّ بني اُمية ، الذين أحدثوا مذبحة كربلاء ، ومجزرة الحرّة ، ومأساة عين الوردة ، لم يقنعوا بتصفية التشيع جسدياً ، بقتل الأعداد الكبيرة من أنصار أهل البيت ( عليهم السلام ) ، ومعهم الأعيان والرؤساء ، بمن فيهم الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، وإنّما حاولوا أيضاً القضاء على التشيع فكريّاً وحضاريّاً ، واتّبعوا سُبُل الدعاية المغرضة ، وإثارة الناس الغوغاء على كلّ ما يمت إلى أهل البيت ( عليهم السلام ) من فكر وتراث وشعار ، حتّى حاربوا أسماءهم ، فكان مَن يتسمّى بها مهدّداً .
  ومن أخبث أساليبهم بثّ بذور الفرقة والشقاق بين المسلمين ، ليتمكّنوا من القضاء على الإسلام كلّه ، ومن خلال ضرب المذاهب بعضها ببعض ، وممّا ركّزوا عليه في هذه السبيل هو إثارة موضوع ( خلافة الشيخين : أبي بكر وعمر ) اللذين حكما الأمة بإسم الخلافة فترةً غير قصيرة ، وأصبحت خلافتهما مثاراً للبحث بين كلّ من الشيعة وأهل السنّة .
  فالخلافة والإمامة ، يراها الشيعة حقّاً لأئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) بالنصّ من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي لاينطق إلاّ عن الوحي الإلهي ، وقد إلتزموا بهذا على أنه واحد من اُصول مذهبهم ومعتقدهم ، وهو المميّز لهم عن أهل السنّة ، الملتزمين بخلافة مَن استولى على أريكة الحكم ، كما حدث بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، إذْ حكم ابو بكر ، ثم عمر بدعوى وأنّ ذلك تمَ برضاً من الناس الحاضرين ، وأنّ ذلك كاف في تحقّق الحقّ لهما في الخلافة ، وهو الدليل على فضلهما ومنزلتهما عند المسلمين الذين سكتوا على ذلك ؟ .
  ومن الواضح تاريخيّاً أنّ الجميع لم يحضروا مجلس البيعة للشيخين في سقيفة بني ساعدة .
  ومجرّد السكوت في مثل هذا الموقف لا يدّل على الرضا ، لإحتمال الخوف ، والمداراة ، والغفلة ، أو الطمع في الحكم والمنصب .
  مع حصول الاعتراض العلنيّ قولاً وفعلاً من بعض كبار الصحابة .
  وتعيين بعض الناس ورضاهم وسكوتهم ، اُمور إن دلّت على الفضل والمنزلة عندهم ، فهي لا تدل على الرضا عند الله ورسوله وجميع المؤمنين ! .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 67 _

  ومع وجود هذه المفارقات ، فإنّ في المسلمين مَنْ لم تثبت عندهم خلافة الشيخين بطريق من الشرع الكريم ، فلذا رفضوا هذا الموقف ، وإنْ وَقَعَ ، وإلتزموا بما هو الحقّ ، وإن لم يقع ! .
  ولقد جُوبه هذا الالتزام بالاستنكار العنيف من قبل أهل السنّة فاعتبروه كفراً وأحلّوا دماء الرافضة بزعمهم مع اعترافهم بأنّ التأويل يمنع من التكفير ، وأنّ الحدود تُدْرَؤُ بالشبهات ! .
  وكان الأمويّون يُثيرون هذا الخلاف لإصطياد أغراضهم من تعكير الماء ، بين فئات المسلمين .
  فكان موقف الإمام السجاد ( عليه السلام ) مقاومة ذلك بحكمة وحنكة ، حتّى صيَر أمره الى الإحباط .
  فلابدّ أن يُعرف : أنّ قضيّةَ الإمامة وثبوتها لأئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وخلافة الخلفاء وحقّهم في الحكم ، قضيّة أدقّ من أن يُبَتَ فيها بمجرد الرفض واللعن والتكفير والطرد ، والقذف والسبّ ، أو إثارة الضجيج والعجيج ، وكيل التهم والتقبيح ، والتنفير والتهجير ، والاستهزاء والتهجين .
  بل هي عند العقلاء قضيّة قناعة وإعتقاد وأرقام ونصوص وحقوق وصفات وفضائل .
  وهي عند أهل البيت ( عليهم السلام ) قضيّة هداية وإيمان ، محورها ( الحقّ ) الذي أمرنا الله بالتواصي به ، والصبر عليه .
  واذا تصدّى لها أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وتعرّضوا لها ، وطالبوا بها فليس لحاجة في أنفسهم إليها أو إلى مآربها ، بل إنما من أجل أولئك الناس أنفسهم ، وهدايتهم إلى ( الحق ) المنشود من كلّ الرسالات الإلهيّة .
  فقد كان الإمام السجّاد ( عليه السلام ) يقول : ما ندري ، كيفَ نصنعُ بالناس ? إنّ حدّثناهم بما سمعنا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ضحكوا ، وإنْ سكتنا ، لم يسعنا . . . (1) .
  وكان الإمام الباقر ( عليه السلام ) يقول : بليّةُ الناس علينا عظيمة ، إنْ دعوناهم لم يستجيبوا لنا ، وإنْ تركناهم لم يهتدوا بغيرنا (2) .
  وبهذا المنطق ، الواقعيّ ، المتين ، الحنون ، الواضح ، دخل أهل البيت ( عليهم السلام ) في موضوع الخلافة والإمامة ، وحكموا عليها ولها .

---------------------------
(1) الكافي ( 3 : 234 ) وقد مرّ تخريجه .
(2) الإرشاد للمفيد ( ص 266 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 68 _

  وإذا كان هذا هو المنطلَق ، فلا بدّ أن يكون المسير على طريق مصلحة الناس ، وهم المسلمون في كلّ عصر ومصر ، ومن أجل الحفاظ على دينهم الحقّ وهو الإسلام المحمّدي الخالص .
  وعلى هذا الأساس ، لم يسمح الأئمة ( عليهم السلام ) للغوغاء ، أن يتدخّلوا في هذه القضيّة ـ الخلافة ـ كي لا يغرقوا في غمارها ، ولا يُصبحوا اُلعوبةً في أيدي الدُهاة الماكرين من حكّام الجور والضلالة ، بإثارة الشَغَب والفتنة بين طوائف الشَعب ، على حساب قضيّة ( الخلافة ) .
  فإن الغوغاء لا يدخلون في أيَة قضيةٍ على أساس المنطق السليم ، ولا من منطلق قويم ، ولا يمشون على الصراط المستقيم ، بل على طبيعتهم في الجدل العقيم ، وعلى طريقتهم في القذف واللعن والطرد ، وهي بالنسبة إليهم البداية المحسوبة ، والنهاية المطلوبة .
  وليس الهدف عند الأئمّة من أهل البيت ( عليهم السلام ) إلاّ ( الحقّ ) وأنْ يتبّينَ الرشدُ من الغيّ .
  وقد كان الأمويّون يُثيرون القضيّة على مستوى العوام الطغام ، والغوغاء الهوجاء ، ويهدفون من ذلك القضاء على وحدة المسلمين ، بإتَهام أهل البيت وأتباعهم ، وهم يمثّلون أقوى الخطوط المعارضة لحكمهم .
  ولقد كان موقف الإمام السجّاد ( عليه السلام ) في إحباط هذه الخطط الأمويّة الجهنميّة ، شجاعاً ، وصريحاً ، ومدروساً : فهو ( عليه السلام ) لمّا سُئِلَ عن منزلة الشيخين عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أشار بيده الى القبر قبر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثمّ قال :
  بمنزلتهما منه الساعة (1) وفي نصّ آخر : كمنزلتهما منه اليوم ، وهما ضجيعاه (2) .
  فمُثير السؤال ، إنّما أراد أن يُعلن الإمامُ عن رأيه في الشيخين من حيث الفضل والمقام والرتبة عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ?
  ولكنّ الإمام السجّاد ( عليه السلام ) لم يفسح له المجال في إثارته المُريبة ، فأجابه عن موضعهما من حيث المكان والمنزل والمدفن ، من دون أن يتعدّى في الإجابة الحقيقيةَ الظاهرةَ ، أو يتجاوز الحقّ المفروض ، فهما الشيخان كانا قريبين جسدّياً كما هما في قبريهما الاَن بالنسبة إلى قبر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، لكن هل هذا كرامة لهما ، وقد دُفنا في ما لم يملكا حقّ الدفن فيه ? .

---------------------------
(1) سير أعلام النبلاء ( 4 : 4 395 ) .
(2) تاريخ دمشق ( حديث 92 ) ومختصر ابن منظور له ( 17 : 240 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 69 _

  ويقول لمثير آخر : إذهَبْ ، فأحِبَ أبا بكر وعُمر ، وتولَهما ، فما كان من إثم ففي عُنقي(1) .
  وبمثل هذه القوّة ، يُبعدُ الإمامُ عوامَ الناس عن التوجّه إلى هذه القضيّة الحسّاسة ، في ميدان الصراع ذلك اليوم ، فقد كانت أصول الدين ، وقواعده ، وفروعه ، وأحكامه الأساسيّة ، مهدّدةً ، يتهدّدها الطغيانُ الأمويّ ، وكبار الصحابة ، وعلماء الأمة ، يُذَبَحون كلّ صباح ومساء ، فكان الإعراض عن القضايا الأساسيّة العاجلة ، والبحث عن قضية الشيخين البائدة ، تحريفاً لمسير النضال ، وتَشْتِيتاً لقوى المناضلين ، مع أنه خداع ومكر يطرحه الحكّام الظالمون للتفريق بين الأمّة ، لِصَرْفها عن القضايا المصيرية ، المعاصرة ، التي هي محلّ إبتلاء المسلمين فعلاً إلى قضايا تاريخيّة غير حيويّة فإثارة مشكلة الخلافة آنذاك لم يزد أهل البيت ( عليهم السلام ) وأتباعهم إلاّ انزواءً وانعزالاً عن المجتمع العام ، وذلك هو المطلوب لرجال الدولة ، لأنّهُ يُيَسر لهم اجتثات أصول المعارضة ، والقضاء على جذورها .
  بينما التعبير عن تولّي الشيخين ، وعامة الناس هم على ذلك بمَنْ فيهم المثيرون ، لا يُغير الاَن شيئاً ، وليس له مفعول مثل ما لتولّي بني أمية اليوم ، وهم حكّام مستحوِذون مُستَخلَفون كما استُخْلِفَ أبو بكر وعمر ، لكنّ هؤلا مالكو الساحة اليوم ، مع مالَهُم من مخالفات حتّى لسنّة الشيخين ، تلك السنّة التي التزموا بها ودعوا إليها ، وبإسمها إستولوا على الأمور .
  وليست ولاية الشيخين بمجرّدها هي المشكلة الفعليّة العائقة ، بل المشكلة الاَن هي ولاية بني أمية الذين يستخدمون فكرة ولاية الشيخين ، ويُريدون بذلك فقط أن يستمرّوا على الحكم والخلافة ، ويضربوا مَن لا يوافقهم على ولايتهم التي هي إستمرار لولاية الشيخين .
  والمفروض أنّ ولاية الشيخين ، أصبحت وسيلة بأيدي الأمويين ليثبّتوا عرشهم من جهة ، ويضربوا أهل البيت ( عليهم السلام ) من جهة اُخرى .
  فلذا أعلن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) للسائل ، بأنّ ولاية الشيخين ليست موضعاً للنقاش ، في هذا الوقت ، إذ لا يترتّب عليها نفع للإسلام والمسلمين ، لمضيّ زمانها ، وإنّما المضرّ الاَن هو ولاية بني أمية ، التي لابدّ أن تميَز عن ولاية الشيخين مهما كانت استمراراً لها ولقد كشف الإمام السجّاد ( عليه السلام ) عن أقنعة مثيري هذه الفتنة ، وفضحهم ، حيث قال لهم : قوموا عنّي ، لا قرّب اللهُ دوركم ، فإنكم متستّرون بالإسلام ، ولستم من أهله .

---------------------------
(1) تاريخ دمشق ( الحديث 97 ) ومختصر تاريخ دمشق ( 17 : 241 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 70 _

  فقد أعلن أن مثيري القضيّة بشكلها الغوغائيّ ليسوا إلاّ من المبعوثين من قبل بني أمية وعيونهم ، ممن لا ينتمون الى الإسلام إلاّ ظاهريّاً ، وبالإسم فقط ، وإنّما يريدون بإثارة هذه القضيّة ، وحملها على أهل البيت ، هدم الاسلام ، المتمثّل يو مذاك بشخص الإمام السجّاد ( عليه السلام ) وشيعته .
  والإمام السجّاد ( عليه السلام ) إنّما يهدف إلى تجديد بناء الإسلام الذي هَزْهَز بنو اُمية قواعده وأركانه .
  وتربية الكوادر الذين أشرفوا على الانقراض على يد جلاوزة بني أمية حكّام الشام .
  وإرساء قواعد التشيّع التي أشرفت على الانهيار ، بعد فجيعة كربلاء .
  وإحياء الأمل في النفوس التي صدمتها الحوادث المتعاقبة وزرعت فيها اليأس والخوف .
  فما كان من المصلحة أصلاً الإجابة على مثل تلك الأسئلة المثارة وقد كان مُثيروها لا يمتّون الى الإسلام بصلة ، وإنما هم متقنّعون باسمه لتمرير أهدافهم بتقديم هذه الأسئلة ، وإثارة قضايا الخلاف في الخلافة ، التي يريد العدوّ أن يستغلّها بأيَة صورة .
  فالإجابة الصحيحة ، إذا كانت مخالفةً لرأي العامة الغوغاء ، فإنّها تُثيرهم ، فينثالون على البقيّة الباقية من المؤمنين بخطّ أهل البيت ( عليهم السلام ) فيبيدونهم عن بَكْرة أبيهم ، فلا يبقى منهم نافخ نار ، ولا طالب ثار .
  وكلّ ذلك من أجل قضيّة لا أثر لإثارتها هذا اليوم ، ولا دخل لها في القضايا المصيريّة الراهنة ، في عهد الإمام ( عليه السلام ) ، فلا تُسمن ، ولا تُغني الأمة من جوع ، ولا تكسوهم من عُرْيٍ ، أو تُنجدهم من ظلم أو جَور .
  والمستفيد من تلك الإثارة ، هم الحكّام المسيطرون ، وهم ذلك اليوم بنو اُمية ، الذين يحاولون وبشتّى الأساليب إبادة الحضارة الإسلاميّة ، في فكرها ، وتُراثها ، ورجالها ، ومقدّساتها .
  وهم الذين يسعون في إحياء الجاهليَة ، في وثنّيتها وصنميّتها ، وعنصريتها ، وعصبيّتها ، وجهلها ، وفسقها ، وفجورها ، وظلمها ، وبذخها ، وكفرها ، وعتوّها .
  فأيّة القضيّتين أولى بالبحث عنها عند الإمام السجّاد ( عليه السلام ) ، وأحقّ أن يُركّز عليها ويعارضها ?   هل هي ولاية بني أمية ? أو ولاية الشيخين ? لقد كان حقّاً موقف الإمام السجّاد ( عليه السلام ) : شجاعاً ، وصريحاً ، ومدروساً :
  كان ( عليه السلام ) شجاعاً : أنْ يواجه ، ويجابه الذين كان يعلم نيّاتهم الخبيثة ، وأهدافهم الدنيئة ، من جواسيس بني أمية ، وعيونهم ، البرآء من الإسلام ، وكذلك في الإعلان عن خططهم وتدابيرهم الإجراميَة .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 71 _

  فالذين لم يؤمنوا بأصل الإسلام ، كيف يهتمّون بقضيّة الخلافة والخلفاء السابقين ? وما هو هدفهم من هذه الإثارة ? ولو صدقوا في أسئلتهم : فلماذا لا يهتمّون بما يجري على المسلمين في ولاية بني أمية ? وما لهم لا يتساءلون عن حقّ بني اُمية في الحكم الظالم ? .
  وهذا مثل ما تُثيره الأجهزة الاستعمارية ، وأذنابهم العلمانيّون والرجعيّون في عصرنا الحاضر من النزاعات المذهبيّة بين الطوائف الإسلاميّة الواعية ، فإنّ كل مسلم عاقل يفطنُ إلى أنّ إثارتهم هذه ليست لمصلحة الأمة الإسلامية ، وإنّما هم يهدفون من ورائها إلى ضرب القدرة الإسلامية العظيمة والصحوة الإسلامية المتنامية ، وتحطيم كيان الدين الإسلامي ، المُرَكَز في قلوب الأمة .
  وكان الإمام السجّاد ( عليه السلام ) صريحاً : في إعراضه عن تفصيل القضيّة ، حيث يجرّ إلى ما يريده الأعداء ، بل صَرَف الأنظار إلى ما هم مبتلون به من مشاكل ومآس ، بالولاية الباطلة التي تخيّم عليهم بظلمها وجرائمها وحكّامها الجائرين وكان موقفه مدروساً :
  إذ لم يُدلِ بتصريح يخالف الحقَ أو ينافي الحقيقةَ ، بل حافظ عليهما بقدرِ ما يخلّص الموقف من الحرج ، ويخرج الإنسان المسؤول من المأزق .

وموقف مماثل مع أحد العلماء
  لكن الحديثَ يأخذ شكلاً آخر إذا كانت المواجهة مع أحد الذين ينتمون إلى العلم ، لأنّ التنبيه على الحقائق حينئذٍ يكون أوضح وأصرح وألزم لكن مع الأخذ بنظر الاعتبار كلّ الملاحظات الحسّاسة التي يتحرّج الموقف بها ، فاقرأ معي هذا الحديث :
  عن حكيم بن جبير ، قال : قلت لعليّ بن الحسين : أنتم تذكرون أو تقولون : إنّ علياً قال : ( خير هذه الأمّة بعد نبيّها : أبو بكر ، والثاني عمر ، وإن شئت أنْ اُسمّي الثالث سمّيتُه ) فقال عليّ بن الحسين : فكيف أصنعُ بحديثٍ حدّثنيه سعيد بن المسيّب عن سعد بن مالك ( إبن أبي وقّاص ) أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خرج في غزوة تبوك فخلّف عليّاً ، فقال له : أتخلّفني ? فقال : ( أما ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ? إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ) قال : ثم ضرب علي بن الحسين على فخذي ضربةً أوجعنيها ، ثم قال : فمَنْ هذا هو من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بمنزلة هارون من موسى ?(1) .

---------------------------
(1) مناقب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) للكوفي ج 1 ص 521 ح 451 و ح 461 ص 528 .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 72 _

  وفي نصّ آخر : فهل كان في بني إسرائيل بعد موسى مثل هارون ? فأين يُذْهَبُ بك يا حُكيم ? (1) ففي الوقت الذي لا يواجه الإمام حكيم بن جبير بتكذيب ما نسب إلى الإمام عليّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من إعلانه أمام الأمّة من أنّ خيرهم أبو بكر ثم عمر ثم الثالث ? .
  فإن هذا المنسوب إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وإنْ لم يصّح فهو مشهور بين الناس ، بقطع النظر عن أن الإمام إنمّا أعلن عمّا عند الناس من التفضيل للشيوخ ، بعد أن صار أمراً مفروضاً لا يمكن مخالفته ، فما فائدة إنكاره ؟ .
  فإن أعاد أهل البيت ( عليهم السلام ) نفس الصيغة وتناقلوها فلا يدل على إلتزامٍ ، لأنه تعبير عن مظلومية علي ( عليه السلام ) حيث لم يستطع أن يصرّحَ بخلاف ما عند العامّة الغوغاء ، بل كان من أهدافه في الحفاظ على وحدة كلمة المجتمع الإسلامي وسلامته في حدوده الداخلية ، بينما معاوية يهدّد أمن الدولة ويُثير الخلاف والشقاق .
  لكن الإمام السجّاد ( عليه السلام ) في حديثه مع حكيم بن جبير اتّخذ اُسلوباً علميّاً فذكّره بمناقضة هذا المنقول رغم شهرته مع الحديث المتواتر المعلوم المتيقّن بصدوره ، ومعناه ، وأهدافه ومرماه ، وهو حديث المنزلة أي قول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعلي ( عليه السلام ) : ( أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ) (2) .
  الذي لايمكن إنكار صدوره ، ولا الاختلاف في معناه فإذا كان عليّ بهذه المنزلة من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في عصره وبحضور كبار الصحابة ، فهل يبقى للحديث المنقول عن علي في تفضيل الشيوخ معنىً ، غير الذي نقلناه ? .
  وإذا كان الفضل بعد رسول الله ( صلى الله عليه و آله وسلم ) بالترتيب المذكور عند الناس ، فهل يكون لحديث المنزلة معنىً ? .
  مع أن التاريخ والقرآن لم يذكر في بني إسرائيل شخصاً أفضل من هارون بعد موسى ? ! .

---------------------------
(1) مناقب الكوفي ( ج 1 ص 522 ) ح (453) .
(2) نقلنا أقوال العلماء بتواتر هذا الحديث الشريف ، وذكرنا بعض مصادره في البحث الأوّل من التمهيد ، فراجع ( ص 18 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 73 _

  ثم ينبّه الإمام السجّاد ( عليه السلام ) حكيماً بِضربةٍ على فخذه ، وينبّهه بالعتاب فيقول : فأين يُذهَب بك يا حكيم ? وهكذا كان السجّاد رغم حصافة المواقف التي يتّخذها ، والالتزام بالأهداف السامية في حفظ وحدة الكلمة لا يترك الحقيقة مهملةً عندما كان يخاطب مَنْ يَفْهمُ ، ويُدركُ ، وينتبهُ وإنْ كان له مع الغوغاء غير المتفَهّمين ، لإهداف الأئمة والإمامة ، تعاملاً آخر يناسب حالهم ، ويخاطبهم على قدر عقولهم .
والصلاة مع المخالفين
  وللإمام السجّاد ( عليه السلام ) موقف حازم مماثل من الدعايات المغرضة ، التي كان يبثّها دعاة الضلال ضدّ شيعة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وهو ما جاء في الحديث التالي :
  قال محمّد بن الفُرات : صلّيتُ إلى جنب عليّ بن الحسين يوم الجمعة ، فسمعتُ ناساً يتكلّمون في الصلاة فقال ( عليه السلام ) : ما هذا ? فقلتُ : شيعتكم لا يرون الصلاة خَلفَ بني أمية .
  قال ( عليه السلام ) : هذا ـ والذي لا إله إلاَ هو ـ بِدع ، فمن قرأ القرآن ، وإستقبل القبلة فصلّوا خلفه ، فإن يكن محسناً فله حسنته ، وإن يكن مُسيئاً فعليه (1) .
  فالمسلم الشيعيّ يقتدي بإمامه ، فإذا كان أولئك شيعةً لأهل البيت ( عليهم السلام ) حقيقةً ، وكانوا يرون الإمام السجّاد ( عليه السلام ) وهو زعيم أهل البيت ( عليهم السلام ) في عصره ، ها هو واقف في الصفّ يؤدّي الصلاة مع جماعة الناس ، فما بالُهم يَلغَطون ، ليعرّفوا أنفسهم أنّهم لايصلّون مع الجماعة ?
  ولماذا يعرّفون أنفسهم بأنّهم شيعة لأهل البيت ، وهم يقومون بمثل هذا التحدّي السافر ? وإلا ، كيف عرفهم الناسُ بأنّهم شيعة ? إنّ القرائن الواضحة ، تعطي أنّ أولئك لم يكونوا من الشيعة ، بل من المندسّين لتشويه سمعة أهل البيت ( عليهم السلام ) وشيعتهم ، لإتّهام أئمة أهل البيت والشيعة المؤمنين ، بمخالفة الجماعة ، ولذلك ، تدارك الإمام ( عليه السلام ) الموقف ، وأفتاهم أوّلاً بما يلتزم به العامّة من الصلاة خَلف كلّ بَرّ وفاجر .

---------------------------
(1) تاريخ دمشق ( الحديث 110 ) ومختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 17 : 243 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 74 _

  ولم يُدلِ بتفصيل حكم المسألة الفقهيّة في مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وهو أنّ المؤمن إذا حضر صلاة الجماعة ، ولابدّ أن يحضر ، لأنّه لا يمكنه الانعزال بل هو أولى بالمسجد من غيره (1) ، فعليه أن يقتدي بإمام الصلاة ، ويصلّي بصلاته ، وفي بعض النصوص : إنها أفضل الركعات (2) بل في بعضها : ( أن الصلاة معهم كالصلاة مع رسول الله ( ص ) ) (3) حيثُ تعطي روعة الوحدة التي كان عليها المسلمون في عهده الأزهر .
  وإذا لم يحضر المؤمنُ صلاة الجماعة ، فليصلّ منفرداً في بيته (4) .
  وأمّا أن يحضر الصلاة ، ولا يصلّي مع الجماعة ، أو يلغَط ويتكلّم فيشوّش على الاَخرين أيضاً ، فهذا حرام قطعاً ، فكيفَ يقوم بذلك مَن يدَعي الإنتماء الى التشيّع ، ويلتزم بإمامة الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ? وهو يقوم بهذا العمل المخالف لفقه الأئمة .
  فهذا في نفس الوقت تشهير بهم ، وتحريض للعامة ضدّهم ، بجرحِ عواطفهم إنّ مثل هذا العمل الاستفزازيّ لا يصدر من عاقل يُريد مصلحة نفسه ، أو مصلحة إمامه ، أو مصلحة مذهبه ، مع مخالفته للإمام ( عليه السلام ) الذي هو واقف في صفّ الجماعة ، ويصرّح بذلك التصريح ، ومخالفته لفقه أهل البيت وتعليماتهم ومواقفهم العملية في الحضور في الجماعات وأداء الصلوات معها .

ثالثاً : في الشريعة والأحكام
  يتميَز الإمام في نظر الشيعة ، بأنَه ليس وليّاً للأمر ، وحاكماً على البلاد والعباد فحسب ، بل هو مَصدر لتشريع الأحكام أيضاً ، باعتبار معرفته التامَة بالشريعة وارتباطه الوثيق بمصادرها .
  والانحراف الذي حصل عن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) لم يكن في جانب حكمهم وولايتهم فقط ، بل الأضرّ من ذلك هو الانحراف عن أحكام الشريعة التي كانوا يحملونها .

---------------------------
(1) كما في نصّ الحديث لاحظ وسائل الشيعة ( 8 :300 ) الباب (5) من أبواب صلاة الجماعة كتاب الصلاة تسلسل ( 10722 ) .
(2) وسائل الشيعة ، كتاب الصلاة ، أبواب الجماعة ، الباب (34) تسلسل ( 10925 ) .
(3) المصدر السابق( 299 : 8 ) تسلسل ( 10717 ) و ( 10720 ) و ( 10723 ) .
(4) المصدر نفسه ، تسلسل ( 10733 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 75 _

  والحكّام الذين إستولوا على أريكة الخلافة بأشكال من التدابير السياسيّة حتّى بلغ أمرها أن صارت ( ملكاً عضوضاً ) كانوا يُدركون أنّ أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) هم أولى منهم في كلا جانبي الحكم والولاية ، وكذلك في جانب الفقه والعلم بالشريعة .
  وكما أزْوَوا أئمّة أهل البيت عن الحكم والولاية على الناس ، حاولوا أيضاً إزواءهم عن الفقه وإبعاد الناس عنهم ، وذلك بإختلاق مذاهب فقهيّة روّجوها بين الناس ، وعارضوا الأحكام التي صدرت من أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وحاربوا فقهاءهم بشتّى الأساليب ، فكان من أعظم اهتمامات الأئمّة وأتباعهم هو إرشاد الناس إلى هذا المعين الصافي للشريعة الإسلاميّة كي ينتهلوا منه .
  وقد كان إهتمام الإمام السجّاد ( عليه السلام ) بليغاً بهذا الأمر ، حيث كان يعيش بدايات الإنحراف ولقد دعا الإمام ( عليه السلام ) إلى فقه أهل البيت ( عليهم السلام ) لكونه أصفى المناهل وأعذبها ، وأقربها من معين القرآن الكريم ، وسنّة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( فأهل البيت أدرى بما في البيت ) .
  ففي كلام له يشرح اختلاف الاُمَة ، يقول :
  وكيف بهم ? وقد خالفوا الاَمرين ، وسبقهم زمان الهادين ، ووُكلوا إلى أنفسهم ، يتنسّكون في الضلالات في دياجير الظلمات .
  وقد إنتحلت طوائف من هذه الأمة مفارقة أئمّة الدين والشجرة النبويّة أخلاص الديانة ، وأخذوا أنفسهم في مخاتل الرهبانيّة ، وتغالوا في العلوم ، ووصفوا الإسلام بأحسن صفاته ، وتحلّوا بأحسن السنّة ، حتّى إذا طال عليهم الأمد ، وبَعُدَتْ عليهم الشُقّةُ ، وامتُحِنوا بمحن الصادقين : رجعوا على أعقابهم ناكصين عن سبيل الهُدى ، وعلم النجاة ، وذهب آخرون إلى التقصير في أمرنا ، واحتجّوا بمتشابه القرآن ، فتأوّلوه بآرائهم ، واتّهموا مأثور الخبر ممّا استحسنوا ، يقتحمون أغمار الشبهات ، ودياجير الظلمات ، بغير قَبَسٍ نور من الكتاب ، ولا أثرةِ علم من مظانّ العلم ، زعموا أنهم على الرشد من غيّهم .
  وإلى مَن يفزعُ خَلَفُ هذه الأمة ? وقد درست أعلام الملّة والدين بالفُرقة والاختلاف ، يكفّر بعضهم بعضاً ، والله تعالى يقول : ( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ و ) ، ( سورة آل عمران (3) الاَية (105) ) فَمن الموثوق به على إبلاغ الحجّة ? وتأويل الحكمة ? إلاّ إلى أهل الكتاب ، وأبناء أئمة الهدى ، ومصابيح الدجى ، الذين إحتجَ الله بهم على عباده ، ولم يدع الخلقَ سُدى من غير حجّة .
  هل تعرفونهم ? أو تجدونهم إلاّ من فروع الشجرة المباركة ، وبقايا صفوة الذين أذهب الله عنهم الرجَس ، وطهّرهم تطهيراً ، وبرّأهم من الاَفات ، وإفترض مودّتهم في الكتاب (1) .

---------------------------
(1) كشف الغمة للاربلي ( 2 : 98 ـ 99 ) وانظر جامع أحاديث الشيعة للبروجردي ( 1 : 40 ) الإمام زين العابدين للمقرّم ( ص 242 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 76 _

  قال ( عليه السلام ) لرجل شاجره في مسألة شرعيّة فقهيّة : يا هذا لو صرت إلى منازلنا ، لأريناك آثار جبرئيل في رحالنا ، أيكونُ أحد أعلم بالسنّة منّا ? (1) .
  وقال لرجل من أهل العراق : أما لو كنت عندنا بالمدينة لأريناك مواطن جبرئيل من دورنا ، إستقانا الناسُ العلمَ ، فتراهم علموا وجهلنا ? (2) .
  ولنفس الهدف السامي ، قاوم الإمام السجّاد ( عليه السلام ) الانحراف الفقهي الذي مُنِيَتْ به الاُمَة ، بالتزام الشريعة وأخذها من أناس تعلّموا الفقه من طرق لا تتصل بمنابع الوحي الثرّة الصافية المأمونة .
  فيقول ( عليه السلام ) : إنَ دين الله لايُصاب بالعقول الناقصة ، والاَراء الباطلة ، والمقاييس الفاسدة ، لا يُصابُ إلاّ بالتسليم ، فمن سلَمَ لنا سَلِمَ ، ومَن إقتدى بنا هُدِيَ ، ومَن كان يعملُ بالقياس والرأي هَلَك ، ومَن وَجَدَ في نفسه مما نقوله ، أو نقضي به حرجاً ، كَفَرَ بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم ، وهو لا يعلم (3) .
  وهكذا كان شديد النكير على تلك البوادر المضلّلة ، وحارب بدعة تقليد غير أهل البيت ( عليهم السلام ) من المذاهب المنسوبة إلى البعداء عن ينابيعه نسبيّاً وحتّى سببيّاً ، أولئك الذين روَجت الحكومات والدول الظالمة فقههم ، لأنهم كانوا مسالمين لهم ، ومنضوين تحت ضلالهم ، من المتّكئين على آرائك الخلافة المزعومة ، وهذا الذي حذّر الرسول الأكرم منه في أحاديث مستفيضة ، أوردنا نصوصها في كتاب ( تدوين السنة الشريفة ) وتحدّثنا عن دلالتها (4) .

---------------------------
(1) نزهة الناظر ، للحلواني ( ص 45 ) .
(2) بصائر الدرجات ، للصفار ( ص 32 ) .
(3) إكمال الدين ( ص 324 ب 31 ح 9 ) .
(4) لاحظ الصفحات ( 352 ـ 359 ) و (425) من : تدوين السنة الشريفة .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 77 _

  وقد تمكَن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) من توضيح معالم فقه أهل البيت ( عليهم السلام ) وإرساء قواعده ، وإغناء معارفه ، وتزويد طلاّبه وتربيتهم ، حتّى أقرّ كبارُ العلماء بأنّه ( الأفقه ) من الجميع ، وفيهم عدّة من فقهاء البلاط ووعّاظ السلاطين : قال أبو حازم : ما رأيت هاشميّاً أفضل من علي بن الحسين ، وما رأيتُ أحداً كان أفقهَ منه (1) .
  ومثله قال الزهري محمد بن مسلم بن شهاب (2) ، وقال الشافعي إمام المذهب : إن علي بن الحسين أفقه أهل البيت (3) ، وإذا لم يكن للحكّام المسيطرين ، بإسم الخلافة الإسلامية ، نصيب من علم الشريعة وفقه الدين ، بل كانت أعمالهم مخالفة لأحكام الله وسنّة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وإذا كان فقهاء البلاط ، وأصحاب المذاهب ، يفخرون بالتلمذ عند علماء أهل البيت ( عليهم السلام ) (4) ، فإن إعلان الإمام السجاد ( عليه السلام ) عن حقيقة مذهب أهل البيت الفقهي وتبيين موقعيَته المتقدّمة على جميع المذاهب الفقهيّة ، والدعوة إلى الالتزام به ، هو نسف عملي لقواعد الخلافة المزعومة التي كان المتّكىء على أريكتها من أجهل الناس بالفقه ، وكل الناس أفقه منه حتّى المخدّرات في الحجال وكذلك هو تقويض لأعمدة التزوير التي رفعت فساطيط المذاهب الرسميّة المدعومة من قبل دار الخلافة ، و التي تبعها الهمج الرعاع من العوام أتباع كلّ ناعق .

---------------------------
(1) تاريخ دمشق الحديث (45) مختصر تاريخ دمشق ( 17 : 240 ) وسير أعلام النبلاء ( 4 : 394 ) وكشف الغمة ( 2 : 80 ) .
(2) تاريخ دمشق ( الحديث 37 ) وسير أعلام النبلاء ( 4 : 389 ) وصفوة الصفوة ( 2 : 99 ) .
(3) رسائل الجاحظ ( ص 106 ) وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ( 15 : 274 ) عن الرسالة للشافعي في خبر الواحد .
(4) كان أبو حنيفة إمام المذهب يقول : ( لولا العامان لهلك النعمان ) يشير إلى العامين اللذين حضر فيهما عند الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، وكان قبل ذلك قد أخذ من الإمام الباقر ( عليه السلام ) وأخيه زيد الشهيد ، انظر الإمام جعفر الصادق ، للجندي ( ص 162 ) والنظم الإسلامية ، لصبحي الصالح ( ص 209 ) وموقف الخلفاء العباسيين لعبد الحسين علي أحمد ( ص 37 ) ولاحظ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ( 15 : 274 ) وموقف الخلفاء ( ص 31 ) عن الشكعة في الأئمة الأربعة ( ص 52 ) وعن أبي زهرة في : أبو حنيفة (72) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 78 _

وأخيراً : في إعمار الكعبة المعظّمة
  وللإمام موقف عظيم يدلّ على المراقبة التامّة لما يجري ، مع التصدّي لإعتداءات الحكَام الظلمة على الرموز الأساسية للدين ، وهو : موقفه من إعادة تعمير الكعبة ، في ما رواه الكليني و الصدوق ، بسندهما عن أبان بن تغلب ، قال : لما هَدم الحجّاج الكعبة ، فرّق الناسُ ترابها ، فلمّا جاءوا إلى بنائها وأرادوا أن يبنوها ، خرجتْ عليهم حيّة ، فمنعتْ الناسَ البناء حتّى إنهزموا ، فأتوا الحجّاج ، فأخبروه ، فخاف أن يكون قد مُنع بناءَها ، فصعد المنبر ، وقال : اُنشد الله عَبْداً عنده خبرُ ما ابتُلينا به ، لما أخبرنا به ، قال : فقام شيخ فقال : إن يكن عندَ أحَدٍ علم ، فعند رجُلٍ رأيته جاء إلى الكعبة ، وأخذ مقدارها ، ثم مضى ، فقال الحجّاج : مَنْ هو ? .
  قال : عليّ بن الحسين . . قال : مَعْدِنُ ذلك ، فبعثَ إلى علي بن الحسين ، فأخبره بما كان من منع الله إيّاه البناء ، فقال له علي بن الحسين : يا حجّاج عمدتَ إلى بناء إبراهيم ، وإسماعيل ، وألْقيتَه في الطريق و انتهبه الناسُ ، كأنك ترى أنه تُراث لك ، إصعد المنبر ، فأنشد الناسَ أنْ لا يبقى أحد منهم أخذ منه شيئاً إلاّ ردّه ، قال : ففعل ، فردّوه ، فلمّا رأى جميع التراب ، أتى علي بن الحسين فوضع الأساس ، وأمرهم أن يحفروا ، قال : فتغيّبت عنهم الحيّة ، وحفروا حتّى انتهى إلى موضع القواعد ، فقال لهم علي بن الحسين : تنحوْا ، فتنَحَوْا ، فدنا منها فغطّاها بثوبه ، ثم بكى ، ثم غطّاها بالتراب ، ثم دعا الفعلة ، فقال : ضَعُوا بناءكم ، فوضعوا البناء ، فلمّا إرتفعت حيطانه ، أمر بالتراب فاُلقي في جوفه ، فلذلك صار البيت مرتفعاً يُصْعَدُ إليه بالدرج (1) .
فالمراقبة واضحة في أخذ الإمام ( مقادير الكعبة ) لئلاّ تضيع المعالم الأثريّة لأكبر محورٍ لرحى الدين ، وهي الكعبة الشريفة ، وإذا كانت تلك المراقبة تتمّ في ظرف ولاية مثل الحجّاج الملحد السفّاح الناصب لاَل محمد العداء المعْلَن ، فلن تخفى أهميّتها ، ودلالتها القاطعة على التحدّي .
  فالمراقبة واضحة في أخذ الإمام ( مقادير الكعبة ) لئلاّ تضيع المعالم الأثريّة لأكبر محورٍ لرحى الدين ، وهي الكعبة الشريفة ، وإذا كانت تلك المراقبة تتمّ في ظرف ولاية مثل الحجّاج الملحد السفّاح الناصب لاَل محمد العداء المعْلَن ، فلن تخفى أهميّتها ، ودلالتها القاطعة على التحدّي ، ومواجهة الحجّاج بمثل ذلك الكلام ( كأنّك ترى أنه تراث لك ) تصّدٍ لانتهاكه لحرمة الكَعْبة المعظّمة ، والتلاعب بها حسب رغباته الخاصة .

---------------------------
(1) نقله إبن شهر آشوب في المناقب ( 4 : 152 ) ، عن الكافي وعلل الشرائع للصدوق .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 79 _

  وأهم ما في الأمر جرّ الحجّاج إلى التصريح بأن الإمام ( هوَ مَعْدِن ذلك ) وهي شهادة لها وقعها في الإلزام و الإبكات للخصم اللدود .
  وأخيراً : نزول الإمام ( عليه السلام ) إلى القواعد وَحْدَه وربطه لنفسه بها بذلك الشكل أمام أعين الناظرين ، إثبات لحقّه في إقامتها دون غيره ، وهل كلّ ذلك يتهيّأ إلاّ من التدبير العميق ، والتخطيط الدقيق ، ممّن يحمل هدفاً سامياً في قلب شُجاع ، لا يملكه في تلك الظروف الحرجة ، شخص غير الإمام السجّاد زين العابدين ( عليه السلام ) .

الفَصْلُ الثالِث

  النِضَالُ الاجتماعيّ والعَمَلِيّ :
أولاً: في مجال الأخلاق والتربية .
ثانياً : في مجال الإصلاح وشؤون الدولة .
ثالثاً : في مجال مقاومة الفساد.
وأخيراً : مع كتاب ( رسالة الحقوق ) .
  إنّ من أهمّ أهداف الرجال الإلهيين إصلاح المجتمع البشريّ ، بتربيته على التعاليم الإلهية ، ولابدّ للمصلح أن يمرّ بمراحل من العمل الجادّ والمضني في هذا الطريق الشائك :
1 ـ أنْ يربّي جيلا من المؤمنين على التعاليم الحقّة التي جاء بها، والأخلاق القيّمة التي تخلّق بها، لكي يكونوا له أعواناً على الخير .
2 ـ أن يدخل المجتمع بكلّ ثقله ، ويحضر بين الناس ، ويواجه الظالمين والطغاة بتعاليمه ، ويبلّغهم رسالات الله .
3 ـ أن يقاوم الفساد ، الذي يبثّه الظالمون في المجتمع ، بهدف تفكيكه وشلّ قواه ، وتفريغه من المعنويات ، وإبعاده عن فطرته السليمة المعتمدة على الحقّ والخير والجمال ، لئلاّ يصنعوا منه آلةً طيّعةً تُستخدم حسب رغباتهم وطوع إرادتهم .
  وقد كان للإمام زين العابدين نشاط واسع في كلّ هذه المجالات ، حتّى عُدَ بحقّ وجدارة في صدر المصلحين الإلهيين ، بالرغم من تميّز عصره بتحكّم طغاة بني أمية على الأمّة ، وعلى مقدّراتها وباسم الخلافة الإسلامية ، التي تقتل مَنْ يعارضها وتهدر دمه بعنوان الخروج على الإسلام .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 80 _

  إنّ مقاومة الإمام زين العابدين (عليه السلام) في مثل هذا الظرف ، بل وتمرير خططه ، وإنجاح مهمّاته وأهدافه ، مع قلّة الأعوان والأنصار ، يعد معجزةً سياسية تحقّقت على يد هذا الإمام العظيم ، الذي سار على خطى جدّه الرسول الأعظم ، في خلقه العظيم ، وقد عقدنا هذا الفصل الثالث للوقوف على أوجه نشاطه العملي في تلك المجالات الاجتماعية :

أوّلاً : في مجال الأخلاق والتربية
  ضرب الإمام زين العابدين أروع الأمثلة في تجسيد الخلق المحمّدي العظيم في إلتزاماته الخاصة ، وفي سيرته مع الناس ، بل مع كلّ ما حوله من الموجودات ، فكانت تتبلور فيه شخصيّة القائد الإسلامي المحنّك الذي جمع بين القابليّة العلميّة الراقية ، والفضل والشرف السامق ، والقدرة على جذب القلوب وامتلاكها ، ومواجهة المشاكل والوقوف لصدّها بكلّ صبر وتودّةٍ وهدوء فالصبر الذي تحلّى به ، بتحمّله ما جرى عليه في كربلاء ، وفي الأسر ، ممّا لا يحتاج إلى برهان وذكر ، ومثابرته ومداومته على العمل الإسلامي ، بارزة للعيان ، وهذا الفصل يُمَثل جزءاً من نشاطه السياسيّ والاجتماعيّ الجادّ ، وحديث مواساته للإخوان ، والفقراء والمساكين والأرامل والأيتام ، بالبذل والعطاء والإنفاق ، مما اشتهر عند الخاص والعام ، وسيأتي الكلام حول ذلك كله ، وحُنُوّه وحنانه على الرقيق ، وعلى الأقارب والأباعد ، بل على أعدائه وخصومه ، مما سارت به الركبان ، وأخبار عبادته وخوفه من الله وإعلانه ذلك في كلّ مناسبة ، ملأت الصحف ، حتّى خصّ بلقب ( زين العابدين ، وسيّد الساجدين ) .
  ومن أمثلة خلقه الرائع : العفو :
  وقد تناقل المؤلّفون حديث هشام بن إسماعيل الذي كان أميراً على مدينة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، للامويّين ، فعزلوه ، وقد كان منه أو بعض أهله شي يُكره ، تجاه الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ، أيام كان أميراً ، فلمّا عُزل اُوقف للناس ، فكان لا يخاف إلاّ من الإمام أن يؤاخذه على ما كان منه ، فمرّ به الإمام ، وأرسل إليه : ( إستعن بنا على ما شئتَ ) ، فقال هشام : ( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) سورة الأنعام (6) ، الاَية (124) (1) .
  وبهذا ، تمكَن الإمام من جذب قلوب الناس ، حتّى ألدّ الأعداء ، فكان سبباً لانفتاح الجميع على أهل البيت ( عليهم السلام ) ومذهبهم ، بعد أنْ إنغلقوا عنهم ، وإعتزلوهم بعد وقعة كربلاء .

---------------------------
(1) تاريخ دمشق ، الحديث (111) ومختصره لإبن منظور ( 17 : 243 ) وانظر صوراً أخرى للقصة في بحار الأنوار ( 46 : 94 و 167 ) وشرح الأخبار ، للقاضي ( 3 : 260 ) وكشف الغمة ( 2 : 100 ) وتاريخ الطبري ( 5 : 216 ) وتاريخ اليعقوبي ( 2 : 280 و 283 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 81 _

  ولقد ظهرت ثمرة تلك الأخلاق والجهود ، في يوم وفاة الإمام ( عليه السلام ) ، فقد خرج الناس كلّهم ، فلم يبق رجل ولا امرأة إلاّ خرج لجنازته بالبكاء والعويل ، وكان كيوم مات فيه رسول الله (1) .
  وكان من أطيب ثمرات هذه الجهود أن مهّدت الأرضيّة للإمام محمد بن علي ، الباقر ( عليه السلام ) كي يتسنّم مقام الإمامة بعد أبيه زين العابدين ، ويقوم بتعليم الناس معالم دينهم ، وتتكوّن المدرسة الفقهيّة الشيعيّة على أوسع مدى وأكمل شكل وأتقنه ، ومن أبرز الجهود التي بذلها الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) في تحرّكه القياديّ هو ما قام به من جمع صفوف المؤمنين ، والتركيز على تربيتهم روحيّاً ، وتعليمهم الإسلام ، وإطْلاعهم على أنقى المصادر الموثوقة للفكر الإسلامي ، ومن خلال روافده الثرّة الغنيّة ، بهدف وصل الحلقات ، كي لا تنقطع سلسلة عقد الإيمان ، ولا تنفرط اُسس العقيدة ، وبهدف تحصين العقول والنفوس من الانحرافات التي يثيرها علماء السوء الذين كانوا يبعدون الناس عن الإسلام الحقّ ، ويكدّرون ينابيعه وروافده بالشبه والأباطيل .
  وتعدّ هذه البادرة من أهم معالم الحركة عند الإمام زين العابدين ، وأعمقها أثراً وخلوداً في مقاومة الدولة الحاكمة ، التي إستهدفت كل معالم الإسلام ، بغرض القضاء عليه ، وإبادته ، والعودة بالأمة الى الجاهلية الأولى بوثنيّتها ، وفسادها ، وجهلها ، فراح الإمام يدعو الأمة الى التفكير والتدّبر :
  فمن أقواله ( عليه السلام ) : الفكرة مرآة تري المؤمن حسناته وسيئاته (2) .
  ويدعو الى العلم والفضل والحكمة :
  فقال ( عليه السلام ) : سادة الناس في الدنيا : الأسخياء ، وفي الاَخرة : أهل الدين ، وأهل الفضل والعلم ، لأنّ العلماء ورثة الأنبياء (3) .

---------------------------
(1) الإمام زين العابدين ، للمقرم ( ص 412 ) .
(2) تاريخ دمشق ( الحديث 138 ) ومختصره لإبن منظور ( 17 : 254 ) .
(3) تاريخ دمشق ( الحديث 85 ) ومختصره لإبن منظور ( 17 : 239 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 82 _

  وقال ( عليه السلام ) : لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المُهَج وخوض اللُجَج ، إن الله أوحى إلى دانيال : إنّ أمقت عبيدي إليّ الجاهل ، المستخفّ بحقّ أهل العلم ، التارك للإقتداء بهم ، وإنّ أحبَ عبيدي إليّ التقي ، الطالب للثواب الجزيل ، الملازم للعلماء ، التابع للحكماء (1) .
  وكان ( عليه السلام ) يحثّ الأمة والشباب منهم خاصة على طلب العلم ، فكان إذا نظر إلى الشباب الذين يطلبون العلم أدناهم إليه ، فقال : مرحباً بكم ، أنتم ودائع العلم ، أنتم صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار آخرين (2) ، وكان إذا جاءه طالب علم قال : مرحباً بوصيّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (3) ، ويدعو الأمة إلى المراقبة الذاتيّة لنفسها ، لتتحصّن من اجتياح وسائل التزوير والخداع ، ونفوذ نفثات الشياطين .
  فيقول ( عليه السلام ) : ليس لك أن تقعد مع مَنْ شئت ، لأنّ الله تعالى يقول في الأنعام ( الآية 68 ) : ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ، وليس لك أن تتكلّم بما شئت ، لأنَ الله يقول في الإسراء ( الآية 36 ) : ( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( رحم الله عبداً قال خيراً فغنمَ ، أو صمَتَ فسلِمَ ) .
  وليس لك أن تسمع ما شئت ، لأنَ الله يقول : ( الإسراء : 36 ) : إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) (4) .
  وبهذا يحذّر الإمام ( عليه السلام ) الأمة من الجلوس مع المزوّرين والظالمين ، ومن التحدّث والكلام معهم ، أو صرف العمر معهم في حديث الجهالات والخرافات ، وما لا يزيد الإنسان معرفةً بحياته أو قوّةً وتركيزاً في عقيدته وإيمانه ، أو تعديلاً في سلوكه وأخلاقه ، بل لا تعدو لغو السَمر ، والشِعر الساقط ، وأحاديث الفكاهة والمجون ، التي كان يروّجها السلاطين وأمراء السوء ، وهو ( عليه السلام ) في الوقت نفسه يُحيي بهذا الاسلوب سنن الاستدلال بآيات القرآن الكريم ، والاعتماد عليه وعلى سنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اللذين دأب الظالمون على إبعاد الأمة عنهما ، وإماتتهما ، وإبادتهما بالإحراق بالنار ، و الإماثة في الماء ، والدفن تحت الأرض ، ومنع التدوين .

---------------------------
(1) الوافي ، للفيض الكاشاني ( 1 : 42 ) .
(2) بلاغة علي بن الحسين 7 ( ص 171 ) ، عن الأنوار البهية ، للقمي .
(3) الخصال ، للصدوق ( ص 517 ) .
(4)علل الشرائع ، للصدوق ( ص 5 606 ) الحديث (80) وانظر بحار الأنوار ( 1 : 101 ) طبع الحجر . .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 83 _

  كما حذّر الأمة من الارتباط بمن لا يدعو إلى الله والحقّ ، ومن الاستماع إليهم ، وهم دعاة السوء ، وأدعياء العلم ، من علماء البلاط ، الذين ركنوا إلى الظالمين وآزروهم ، وقد كان ( عليه السلام ) يدأبُ على تربية الأمة وتهذيبها ، وتقديم الإرشادات إليها ، وتجلّى ذلك في وصاياه المأثورة التي جمعت بين معالم الهداية والحكمة ، ووسائل الحذر والوقاية ، وبثّ الأمل والقوة ، وبعث النشاط والهمّة في نفوس أصحابه : ففي رسالته إليهم يقول ( عليه السلام ) :
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

  كفانا الله وإيّاكم كيد الظالمين ، وبغي الحاسدين ، وبطش الجبّارين ، أيّها المؤمنون ، لا يفتنكم الطواغيتُ وأتباعهم من أهل الرغبة في هذه الدنيا ، المائلون إليها ، المفتنون بها ، المقبلون عليها ، وعلى حطامها الهامد ، وهشيمها البائد غداً فاحذروا ما حذّركم الله منها ، وازهدوا في ما زهّدكم الله فيه منها ، ولا تركنوا إلى ما في هذه الأمور رُكون من اتخذها دار قرارٍ ومنزل إستيطان ، والله إنّ لكم مما فيها لدليلاً ، وتنبيهاً ، من تصرّف أيّامها ، وتغيّر إنقلابها ومَثُلاتها ، وتلاعبها بأهلها ، إنّها لترفع الخميل ، وتضع الشريف ، وتورد أقواماً إلى النار غداً ، ففي هذا معتبر ومختبر وزاجر لمنتبهٍ ، إنّ الأمور الواردة عليكم في كل يومٍ وليلة من مضلاّت الفتن ، وحوادث البدع ، وسنن الجور ، وبوائق الزمان ، وهيبة السلطان ، ووسوسة الشيطان ، لتثبّط القلوب عن تنبّهها ، وتذهلها عن موجود الهدى ، ومعرفة أهل الحقّ إلاّ قليلاً ممن عصم الله ، فليس يعرف تصرّف أيّامها وتقلّب حالاتها ، وعاقبة ضرر فتنتها إلاّ من عصم الله ، ونهج سبيل الرشد ، وسلك طريق القصد ، ثم إستعان على ذلك بالزهد ، فكرّر الفكر ، وإتّعظ بالعبر فازدجر ، وزهد في عاجل بهجة الدنيا ، وتجافى عن لذّاتها ، ورغب في دائم نعيم الاَخرة ، وسعى لها سعيها ، وراقب الموت ، وشنأ الحياة مع القوم الظالمين ، ونظر إلى ما في الدنيا بعين نيّرة حديدة النظر ، وأبصر حوادث الفتن ، وضلال البدع ، وجور الملوك الظلمة ، فقد لعمري استدبرتم الأمور الماضية في الأيام الخالية من الفتن المتراكمة ، والانهماك فيها ، ما تستدلّون به على تخيّب الغواة وأهل البدع ، والبغي ، والفساد في الأرض ، بغير الحقّ .
  فإستعينوا بالله ، وإرجعوا إلى طاعة الله ، وطاعة مَنْ هو أولى بالطاعة ممّن اتّبع فأطيع ، فالحذرَ ، الحذرَ ، من قبل الندامة والحسرة والقدوم على الله ، والوقوف بين يديه ، وتالله ! ما صدر قوم قطّ عن معصية الله إلاّ إلى عذابه ، وما آثر قوم قطّ الدنيا على الاَخرة ، إلاّ ساء منقلبهم ، وساء مصيرهم ، وما العلم بالله والعمل بطاعته إلاّ إلْفان مؤتلفان ، فمن عرف الله خافه ، وحثّه الخوف على العمل بطاعة الله .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 84 _

  إنّ أرباب العلم وأتباعهم الذين عرفوا الله فعملوا له ، ورغبوا إليه ، فقد قال الله : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ) ( فاطر ( 35 ) الاَية : 28 ) ، فلا تلتمسوا شيئاً مما في هذه الدنيا بمعصية الله ، وإشتغلوا في هذه الدنيا بطاعة الله ، وإغتنموا أيَامها ، واسعوا لما فيه نجاتكم من عذاب الله ، فإن ذلك أقلّ للتبعة ، وأدنى من العذر ، وأرجى للنجاة ، فقدّموا أمر الله ، وطاعة مَنْ أوجب الله طاعته ، بين يدي الأمور كلها ، ولا تقدّموا الأمور الواردة عليكم من الطواغيت ، من زهرة الدنيا ، بين يدي أمر الله وطاعته وطاعة اُولي الأمر منكم ، واعلموا انكم عبيد الله ، ونحن معكم ، يحكم علينا وعليكم سيّد غداً ، وهو مُوقفكم ، ومسائلكم ، فأعدّوا الجواب قبل الوقوف والمسألة والعرض على ربّ العالمين .
  واعلموا أنّ الله لا يصدّق كاذباً ، ولا يكذّب صادقاً ، ولا يردّ عذر مستحقّ ، ولا يعذر غير معذور ، له الحجّة على خلقه بالرسل والأوصياء ، فاتقوا الله عباد الله واستقبلوا في إصلاح أنفسكم طاعة الله ، وطاعة مَنْ تولّونه فيها ، لعلّ نادماً قد ندم في ما فرّط بالأمس في جنب الله ، وضيّع من حقوق الله ، فإستغفروا الله ، وتوبوا إليه ، فإنه يقبل التوبة ، ويعفو عن السيّئة ، ويعلم ما تفعلون ، وإيّاكم ، وصحبة العاصين ، ومعونة الظالمين ، ومجاورة الفاسقين ، إحذروا فتنتهم ، وتباعدوا من ساحتهم ، واعلموا أنّه من خالف أولياء الله ، ودان بغير دين الله ، واستبدّ بأمره دون وليّ الله كان في نار تلهب ، تأكل أبداناً قد غاب عنها أرواحها ، وغلبت عليها شقوتها ، فهم موتى لا يجدون حرَ النار ، ولو كانوا أحيأءً لوجدوا مضض حر النار ، فإعتبروا يا أولي الأبصار واحمدوا الله على ما هداكم ، واعلموا أنكم لا تخرجون من قدرة الله إلى غير قدرته ، وسيرى الله عملكم ورسوله ، ثمّ إليه تحشرون ، وإنتفعوا بالعظة ، وتأدّبوا بآداب الصالحين (1) .

---------------------------
(1) الكافي ( 8 : 14 ـ 17 ) الأمالي للمفيد ( ص 200 ـ 204 ) وفيه : قال أبو حمزة الثمالي راوي هذا الكتاب : ( قرأت صحيفة فيها كلام زهد من كلام علي بن الحسين ( عليه السلام ) ، فكتبت ما فيها ، وأتيته به ، فعرضته عليه فعرفه وصحّحه ) وأمالي الطوسي ( 1 : 4 127 ) ورواه في تحف العقول ( 252 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 85 _

  بهذا يحصّن الإمام ( عليه السلام ) أصحابه خاصَة والمسلمين عامة بالطاعة ، والزهد ، والورع عن المعاصي ، والبعد عن بهجة الدنيا وعن مفاتن الحياة المادّية ، التي يستخدمها الطواغيت ، كمغرياتٍ لتحريف الأمة عن سنن الهدى ، ويحاول الإمام ( عليه السلام ) أن يهوّن عليهم المصائب والأتعاب التي تواجههم على هذا الطريق الوعر ، ويؤكّد ( عليه السلام ) على إلتزامهم بالحقّ ، وإعتقادهم بولاية الأئمة الأطهار : الذين فرض الله ولايتهم وأوجب طاعتهم ، ويبث في نفوسهم روح المقاومة والصبر والصمود والمثابرة والجدّ ، ويثير فيهم روح العمل والتحرّك والنشاط ! ، ويملؤهم بالأمل ، والبُشرى بالنجاح والفلاح ، ويصلّي عليهم لتكون صلاته سكناً لهم ، فيقول في دعائه ليوم عرفة بعد الصلاة على الأئمة :
  أللهمّ وصلّ على أوليائهم ، المعترفين بمقامهم ، المتّبعين منهجهم ، المقتفين آثارهم ، المستمسكين بعروتهم ، المتمسكين بولايتهم ، المؤتَمين بإمامتهم ، المسلّمين لأمرهم ، المجتهدين في طاعتهم ، المنتظرين أيّامهم ، المادّين إليهم أعينهم (1) .
  وبهذه القوة ، ليصنع منهم جيلاً ، متكتّلاً ، متوثّباً ، طموحاً ، ثابت الجأش ، قويّ العزيمة ، متماسك الصفّ ، متّحد الهدف ، وفي نصّ آخر ، يحثّهم الإمام ( عليه السلام ) على المواساة والإحسان ، والمنافسة فيقول :
  شيعتنا أما الجنّة فلن تفوتكم ، سريعاً كان أو بطيئاً ، ولكن تنافسوا في الدرجات واعلموا أنّ أرفعكم درجات ، وأحسنكم قصوراً ، ودوراً ، وأبنيةً : أحسنكم إيجاباً بإيجاب المؤمنين ، وأكثركم مواساة لفقرائهم ، إنّ الله ليقرّب الواحد منكم إلى الجنّة بكلمة طيّبة يكلّم أخاه المؤمن الفقير ، بأكثر من مسيرة مأة عام بقدمه ، وإن كان من المعذّبين بالنار ، فلا تحتقروا الإحسان إلى إخوانكم ، فسوف ينفعكم حيث لا يقوم مقام غيره (2) ، وهو ( عليه السلام ) في الوقت الذي يجد من أنصار الحقّ تذمّراً ، أو وهناً ، او تألماً من مجاري الأحداث حولهم ، يهب لنجدتهم ، وتقويتهم روحياً ومعنوياً ، فيقول :
  فما تمدّون أعينكم ? لقد كان مَنْ قبلكم ، ممّن هو على ما أنتم عليه ، يؤخذ فتقطع يده ورجله ويصلب ثم يتلو ( عليه السلام ) : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء . . . . ) ( البقرة (2) : 214 ) (3).

---------------------------
(1) الصحيفة السجادية ، الدعاء (47) ليوم عرفة .
(2)بلاغة علي بن الحسين ( عليه السلام) (50) .
(3) بحار الأنوار ( 67 : 197 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 86 _

  وبكل هذه الجهود والتحصينات والتعاليم المركّزة ، ترَبى جيل صامد من المؤمنين ، المتسلّحين بالإسلام ، بعلومه وعقيدته وتقواه وإخلاصه ، فأصبحوا أمثلة للشيعة ، وقدوة صالحة للتعريف لمن يستحق هذا الاسم من المنتمين إلى التشيّع ، من أمثال : يحيى بن اُمّ الطويل .
  الذي عُدَ من القلائل الذين بقوا بعد كربلاء على ولائهم وإتصالهم بالإمام زين العابدين ( عليه السلام ) (1) ، بل هو من حوارييه (2) ، ومن أبوابه (3) ، وكان من المجاهرين بالحقّ ، كان يقف بالكناسة في الكوفة ، وينادي بأعلى صوته :
  معاشر أولياء الله إنا بُرءآُء مما تسمعون ، مَنْ سبّ عليّاً ( عليه السلام ) فعليه لعنة الله، ونحن برءآُء من آل مروان وما يعبدون من دون الله، ثم يخفض صوته فيقول : مَنْ سبّ أولياء الله فلا تقاعدوه ، ومَنْ شكّ في ما نحن عليه فلا تفاتحوه ، ومن إحتاج إلى مسألتكم من إخوانكم . . . فقد خنتموه (4) .
  وكان يدخل مسجد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث يجتمع المشبّهة الملحدون ويقول : كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء (5)، وقد طلبه الحجّاج ، وأمر بقطع يديه ورجليه ، وقَتَله (6) .
  وسعيد بن جُبَيْر : الذي مثّل به الحجّاج وقتله (7) وكان قد خرج مع عبد الرحمن بن الأشعث ، يحارب دولة بني أمية وكان يومئذٍ يقول : قاتلوهم ولا تأثموا من قتالهم ، بنيةٍ ويقين ، على آثامهم قاتلوهم ، وعلى جورهم في الحكم ، وتجبرهم في الدين ، وإستذلالهم الضعفاء ، وإماتتهم الصلاة (8).

---------------------------
(1) اختيار معرفة الرجال ( رجال الكشي ) ( ص 123 ) رقم (194). (2) معجم رجال الحديث ( 20 : 42 ) .
(3) تاريخ أهل البيت : ( ص 48 ) .
(4)الكافي ، الأصول ( 2 : 281 ) باب مجالسة أهل المعاصي ( ح 16 ) .
(5)الاختصاص ( ص 64 ) ورواه الخصيبي في ( الأبواب ) بزيادة قوله : ( حتّى تؤمنوا بالله وحده ) فلاحظ الباب (5) ص ( 124 : ألف ) .
(6) رجال الكشي ( ص 123 ) رقم (194) .
(7) انظر رجال الكشي ( ص 119 ) رقم (190) بحار الأنوار ( 46 : 136 ) ومروج الذهب ( 3 : 173 ) و الامامة والسياسة ( 2 : 51 ) والاختصاص ( ص 205 ) .
(8) أيام العرب في الإسلام ( ص 478 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 87 _

  والذين إختفوا من جور بني أمية مثل سالم بن أبي حفصة ، وسُليم بن قيس الهلالي ، وعامر بن واثِلة الكناني ، ومحمد بن جبير بن مطعم ، والذين هربوا فنجّاهم الله مثل أبي خالد الكابلي ، وأبي حمزة الثمالي ، وشعيب مولى الإمام (3) .
  وآل أعين الذين قال الحجّاج فيهم : ( لا يستقيم لنا الملك ومن آل أعين رجل تحت حجر ) ، فإختفوا وتواروا (2) .
  وفي طليعة من ربّاهم الإمام زين العابدين أبناؤه : الإمام أبو جعفر محمد الباقر ( عليه السلام ) ، الذي تحمَل الإمامة من بعده ، وقاد الاُمّة إلى الهدى والرشاد ، وأسّس المدرسة الفقهيّة على قواعد الإسلام المتينة ، ومصادره واُصوله الرصينة ، عندما بدأ الحكّام بترويج فقه وعّاظ السلاطين ، فحفظ بذلك الشريعة المقدّسة من الزوال ، وابنه الحسين الأصغر ، الذي روى عن أبيه العلم ، وكان مشاراً إليه في العبادة والصلاح (3) ، وأخذ الحديث عن عمّته فاطمة بنت الحسين ، وأخيه الإمام الباقر ( عليه السلام ) (4)، وقال فيه الإمام الباقر ( عليه السلام ) : أمَا الحسين فحليم ، يمشي على الأرض هوناً (5) ، وابنه العظيم المجاهد في سبيل الله زيد الشهيد ( عليه السلام ) الذي ضرب أروع الأمثلة في الإباء والحميّة ، والفداء والتضحية ، وكان عين اخوته بعد أبي جعفر ( عليه السلام ) وأفضلهم ، وكان عابداً ورعاً ، فقيهاً ، سخيّاً ، شجاعاً ، وظهر بالسيف ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويطلب بثارات الحسين ( عليه السلام ) (6) .
  إن ثورة زيد بن علي ( عليه السلام ) كانت عظيمة من حيث توقيتها ، وآثارها التي خلّفتها ، لخدمة حقّ أهل البيت : ونستعرض في ما يلي بعض ذلك :
1 ـ إنّ هذه الحركة الشجاعة دلّت على أنّ البيت الذي يلد مثل زيد من الرجال ، في البطولة والشهامة ، والجرأة والإقدام ، فضلاً عن العلم والعبادة والتقى ، لا يُبنى على التخاذل والمهادنة مع الظالمين ، أو الإبتعاد عن السياسة والتوجّس من العذاب ، والهول من المصائب .

---------------------------
(1) لاحظ تراجم هؤلاء في كتب رجال الحديث عند الشيعة الإمامية وغيرهم وانظر عوالم العلوم ( ص 279 ) .
(2)رسالة أبي غالب الزراري ( ص 190 ) الفقرة (4) .
(3)الإرشاد للمفيد ( ص 269 ) .
(4)الإرشاد للمفيد ( ص 269 ) .
(5)حياة الإمام محمد الباقر ( 1 : ) .
(6)الإرشاد للمفيد (268) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 88 _

  ولو كان لأحد أثر في تربية زيد الشهيد على كلّ تلك الصفات ، فليس إلاّ لأبيه الإمام الطاهر زين العابدين ، وإلاّ لأخيه الإمام الباقر ، اللَذين علّماه الإسلام بما فيه من تعاليم الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ودرّساه التاريخ بما فيه بطولات جدّه عليّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وذكّراه بثارات جدّه الحسين ( عليه السلام ) ، وزقّاه المجد والكرامة ، ولقّناه الإباء والحريّة (1) .
  وإستلهم هو من حياة أبيه وأخيه ، وسيرتهم الحميدة والأصيلة ، ونضالهم الصامت والناطق سنن التضحية والفداء ، حتّى جعل في مقدمة أهداف ثورته العظيمة : الطلب بثارات الحسين ( عليه السلام ) في كربلاء (2) .
2 ـ إنّ ثورة زيد بن علي ( عليه السلام ) هي الثمرة اليانعة للجهود السياسية التي بذلها الإمام زين العابدين ، طول فترة إمامته ، فهو الذي تمكّن بتخطيطه الدقيق من إستعادة القوى ، وتهيئة النفوس ، لمثل حركة ابنه الشهيد ، وإن صحّ التعبير فهو الذي جيّش لابنه زيد ذلك الجيش المسلّح ، الذي فاجأ الظالمين ، وزعزع ثقتهم بالحكم الظالم ، فلم يكن الجيش الذي كان مع زيد وليد ساعته ، أو يومه ، أو شهره ، أو سنته ، مع تلك المقاومة الباسلة التي أبداها أصحابه وأنصاره (3) .
3 ـ يكفي زيد بن علي ( عليه السلام ) عظمةً أنه ضحّى بنفسه في سبيل تعزيز مواقع الأئمة الطاهرين من أهل البيت ، فقد كشف للاُمويين الطغاة ، في فترة حساسة من تاريخ حكمهم ، أنّ أهل البيت لا يزالون موجودين في الساحة ، ولديهم القدرة الكافية على التحرّك في أيّ موقع زمني ، وأي موضع من البلاد ، وهذا ما جعل الأمويين يهابون الأئمة ويعدّونهم المعارضين الأقوياء ، المدافعين عن هذا الدين ، برغم جسامة التضحيات التي كانوا يقدّمونها ، وأبان الشهيد زيد لكلّ الظالمين أنّ أهل البيت لا يسكتون عمّن يعتدي على كرامة الإسلام ، مهما كلّف الثمن .

---------------------------
(1) تعلم زيد على ابيه وعلى أخيه الباقر انظر : طبقات ابن سعد ( 5 : 240 ) وتاريخ إبن عساكر ( تهذيب بدران ) ( 6 : 19 ) وانظر : ثورة زيد لناجي حسن ( ص 28 و 32 ) .
(2)الإرشاد للمفيد (268) وانظر الفرق بين الفرق ، للبغدادي ( ص 35 ) .
(3) لاحظ ثورة زيد لناجي حسن ( ص 98 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 89 _

  بهذا يفسّر قوله لابن أخيه الصادق جعفر بن محمد لما أراد الخروج إلى الكوفة : أو ما علمتَ يابن أخي أن قائمنا لقاعدنا ، وقاعدنا لقائمنا ، فإذا خرجتُ أنا وأنت ، فمن يخلفنا في حرمنا ?(1) .
4 ـ إن قيام الشهيد زيد بن علي ( عليه السلام ) ، بحركته خارج حدود المدينة صرف أنظار الحكّام عن قطب رحى الدين ، ومحور فلك الإمامة والقيادة ، وهم الأئمة القائمون في المدينة المنوّرة ، بحيث تمكّن الإمام الصادق جعفر بن محمد ( عليه السلام ) من أداء دوره القياديّ ، مستفيداً من كلّ الأجواء الإيجابيّة التي خلقتها ثورة عمّه الشهيد زيد بن علي ( عليه السلام ) ، لينشر علوم آل محمد الحقّة ، ويربّي الجيل الإسلامي المؤمن ، وكفى ذلك عظمة ومجداً وهدفاً سامياً .
5 ـ وكان من ثمرات ثورة زيد بن علي ( عليه السلام ) أنه أثبت للأمة صدق الدعوى التي يرفع رايتها أئمّة أهل البيت ، في الدفاع عن هذا الدين والنضال من أجله ، فهذه التضحيات الكبرى أوضح شاهد على ذلك ، وكان ذلك تعزيزاً عملياً لمواقع أهل البيت ، في أوساط الأمّة الإسلامية (2) .

ثانياً : في مجال الإصلاح وشؤون الدولة
  إنْ كان الإصلاح من أبرز ما يقصده الأنبياء والأئمة ، لأنّ مهمتهم إنّما جعلت في الأرض لدفع الفساد عنها بهداية الخلق إلى ما هو صالح لهم ، وقطع دابر المفسدين ، فإن كان هذا هو الحق ، فإن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) لم يتخلّ عن موقعه الإلهي ، كقائد للأمة الإسلامية ، ومصلح للمجتمع الإسلاميّ ، وقد تبلور في ساحة العمل الاجتماعي ، في كل زواياها وأطرافها ، وأبرزها المطالبة بإصلاح جهاز الحكم .

---------------------------
(1) نقله الإمام الهادي في المجموعة الفاخرة ( ص 220 ) .
(2) إقرأ مفصلاً عن زيد الشهيد وأخباره في عوالم العلوم ( ص 219 ) وما بعدها من الجزء الخاص بترجمة الإمام السجاد ( عليه السلام ).

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 90 _

  إنّ أقصى ما يريد أن يبعده المؤرخون الُمحدْثَون عن حياة الإمام زين العابدين هو العمل السياسي ، والتعرّض للجهاز الحاكم ، والتطلّع إلى إصلاح الدولة ، فيحاولون الإيحاء بعبارات شتّى أنّ الإمام ( عليه السلام ) لم يكن سياسيّاً ، وكان بعيداً عن التورّط في ما يمسّ قضايا السياسة من قريب أو بعيد ، وأنه انزوى متعبّداً بالصلاة والدعاء والاعتكاف ومع إعتقادنا أنّ مزاولات الإمام الدينيّة كلّها من صميم العمل السياسي ، وخصوصاً في عصره ، إذ لم يُسمع نَغمُ الفصل بين السياسة والدين ، بعدُ ، فمع ذلك : نجد في طيّات حياة الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) عيّناتٍ واضحة ، من التدخّلات السياسيّة الصريحة ، فهو في ما يلي من النصوص المنقولة عنه ، يبدو رجلاً مشرفاً على الساحة السياسية ، فهو يدخل في محاورات حادّة ، ويتابع مجريات الأحداث ، ويدلي بتصريحات خطرة بشأن الأوضاع الفاسدة التي تعيشها الأمّة ، وهو ينميها بكل صراحة إلى فساد الدولة .
1 ـ قال عبد الله بن حسن بن حسين : كان علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يجلس كلّ ليلة ، هو ، وعروة بن الزبير ، في مؤخّر مسجد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد العشاء الاَخرة ، فكنتُ أجلس معهما ، فتحدّثا ليلة ، فذكرا جور من جار من بني أمية ، والمقام معهم ، وهما لا يستطيعان تغيير ذلك ثمَ ذكرا ما يخافان من عقوبة الله لهم ! فقال عروة لعلي : يا علي ، إنّ مَن إعتزل أهل الجور ، والله يعلم منه سخطه لأعمالهم ، فكان منهم على ميل ثم أصابتهم عقوبة الله رُجي له أن يسلم مما أصابهم ، قال : فخرج عروة ، فسكن العقيق ، قال عبد الله بن حسن : وخرجتُ أنا فنزلتُ سويقة (1) ، أمّا الإمام زين العابدين فلم يخرج ، بل : آثر البقاء في المدينة طوال حياته (2) لأنه يعدّ مثل هذا الخروج فراراً من الزحف السياسي ، وإخلاءً للساحة الاجتماعيّة للظالمين ، يجولون فيها ويصولون .
  وما أعجب ما في النصّ من قوله : ( يجلسون كلّ ليلة . . . في مسجد الرسول ) وكأنَه اجتماع منظّم ، ولا ريب أن فيه تحدياً صارخاً للنظام يقوم به الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ، ولعلّ إقتراح عروة بن الزبير وهو من أعداء أهل البيت ، (27) كان تدبيراً سياسيّاً منه ، أو من قبل الحكّام ، ومحاولة لإبعاد الإمام ( عليه السلام ) عن الحضور في الساحة الاجتماعية ، لكنه ( عليه السلام ) لم يخرج ، وظل يداوم مسيرته النضاليّة .

---------------------------
(1) تاريخ دمشق ومختصره لابن منظور ( 17 : 21 ) .
(2) جهاد الشيعة ، لليثي ( ص 29 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 91 _

2 ـ وفي حديث آخر : قال الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) :
  إنّ للحُمق دولةً على العقل ، وللمنكر دولةً على المعروف ، وللشرّ دولةً على الخير ، وللجهل دولةً على الحلم ، وللجزع دولةً على الصبر ، وللخُرْق دولةً على الرِفق ، وللبؤس دولةً على الخصب ، وللشدّة دولةً على الرخاء ، وللرغبة دولةً على الزهد ، وللبيوت الخبيثة دولةً على بيوتات الشرف ، وللأرض السبخة دولةً على الأرض العذبة ، فنعوذ بالله من تلك الدول ، ومن الحياة في النقمات (1) .
  وإذا كانت ( الدَوْلة ) في اللسان العربيّ هي : الغلبة والاستيلاء ، وهي من أبرز مقوّمات ( السلطة الحاكمة ) فإنّ الإمام ( عليه السلام ) يكون قد أدرج قضيّة السلطة السياسيّة في سائر القضايا الحيويّة ، والطبيعيّة ، التي يهتمّ بها ، ويفكّر في إصلاحها ، ويحاول رفع مشكلاتها التي تستولي على الإنسان ، من اقتصاديّة ، وثقافيّة ، ونفسيّة ، ودينيّة .
  فمَنْ يا تُرى يعني الإمام ( عليه السلام ) بالبيوتات الخبيثة التي لها السلطان على الأشراف ، في عصر الإمام ( عليه السلام ) ? ! ومَنْ هي البيوتات الشريفة المغلوبة في عصره ( عليه السلام ) ? وهل التعوّذ بالله من دولة السلطان ، يعني أمراً غير رفض وجوده ، وإستنكار سلطته ? وهل لسياسيّ آخر حضور أقوى من هذا ، في مثل ظروف الإمام ( عليه السلام ) وموقعه ، وضمن تخطيطه الشامل لحلّ المشاكل ? وأخيراً هل يصدر مثل هذا من رجل ادعيَ : أنّه إبتعد عن السياسة ، أو إعتزلها ! ? .

ثالثاً : في مجال مقاومة الفساد
  وإذا كان من أهم واجبات المصلح ، وخاصّة الإلهي ، مقاومة الفساد ، ومحاربة المفسدين في الأرض ، فإنّ الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) قام بدور بارز في أداء هذا المهمّ ، وقد تميّز عصر الإمام ( عليه السلام ) ، بمشاكل إجتماعيّة من نوع خاصّ ، وقد تكون موجودة في كثير من الأوقات ، إلاّ أنّ بروزها في عصره كان واضحاً ، ومكثّفاً ، كما أنَ الإمام زين العابدين قام بمعالجتها بإسلوبه الخاصّ ، مما أعطاها صبغة فريدة ، تميّزت في نضال الإمام ( عليه السلام ) ، أهمها :
1 ـ مشكلة العصبيّة ، والعنصريّة . .
2 ـ مشكلة الفقر العام . .
3 ـ مشكلة الرقّ والعبيد . .
  ولنبحث عن كل واحدة ، وموقف الإمام ( عليه السلام ) في معالجتها :

---------------------------
(1) تاريخ دمشق ( الحديث 142 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 255 ) .