تأليف
السيّد محمّد رضا الحسينيّ الجلاليّ



   لقد فاز هذا الكتاب بالمرتبة الأولي في المباراة الفكرية الكتابية عن الإمام زين العابدين السجاد ( عليه السلام ) التي اُقيمت في بيروت عام 1414 هج بين ( 24 ) كتاباً قُدمَ بالمناسبة .
  إقرأ تقريراً عن ذلك في الملحق رقم ( 3 ) في آخر الكتاب ، والحمد لله ربّ العالمين.

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 2 _

دليل الكتاب
  المقدمة: لماذا هذا الكتاب 9 ـ 14 .
  التمهيد: وفيه بحثان 15 ـ 38 .
  البحث الأول: الإمامة ومستلزماتها 17 ـ 28 .
  البحث الثاني: إمامة زين العابدين ( عليه السلام ) 29 ـ 38 .
  الفصل الأول: أدوار النضال في سيرة الإمام ( عليه السلام ) 39 ـ 76 .
  الفصل الثاني: النضال الفكريّ والعلميّ 77 ـ 116 .
  الفصل الثالث: النضال الاجتماعيّ والعمليّ 117 ـ 154 .
  الفصل الرابع: التزامات فذّة في حياة الإمام ( عليه السلام ) 155 ـ 201 .
  الفصل الخامس: مواقف حاسمة للإمام ( عليه السلام ) 203 ـ 241 .
  الخاتمة: نتائج البحث 243 ـ 252 .
  الملاحق 253 ـ 304 .
  الفهارس 305 ـ 357 .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 3 _

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المقدّمة

  الحمدُ لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّد المرسلين محمد الرسول الصادق الأمين، وعلى الأئمة الأطهار المعصومين من آله الأكرمين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
  لماذا هذا الكتاب ? .
  كثيرة تلك الكُتُب والمؤلّفات التي كُتِبَت حَولَ الإمام السجاد ، عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب، زين العابدين ( عليه السلام ) المولود عام ( 38 ) والمتوفّى عام ( 95 ) من الهجرة.
  وقد عُني مؤلّفوها بجوانب من حياتِهِ الكريمة لتزويد الأمة بثرواتها من مكارم الأخلاق و الأداب، والمعارف والعلوم والاثار ، وما في تاريخه من عظاتٍ وعِبَر وجهادٍ وجهودٍ ، ليستنير أمَامَهَا دربُ الحياة ، للوصول إلى السعادة الدنيوية و الأخروية.
  ولقد تبارى في هذا الموضوع الرحب مؤلَفون قدماء، كما شارك في حَلَبته مؤلَفون في عصرنا الحاضر.
  وفي المؤلّفين الجُدُد من استهدف تحليل تاريخ الإمام ، ودراسة حوادثه على أساس من المقارنة بين الأسباب والمسبَبات ، ليقتنص حقائق ثابتة ، مدعوما بالأدلّة ، من بطون المصادر والحوادث التاريخية.
  ولقد فوجئتُ بأنَ عِدَةً من الدارسين من هذا القبيل، اتفقوا أو كادوا على مقولة مُعيَنَةٍ في ما يرتبط بواقِعِ الحركة السياسية في حياة الإمام السجاد (عليه السلام) .
  فهم يؤكّدون على إبعاد الإمام عن الجهاد السياسي ويُفرغونَ حياته من كل أشكال العمل السياسي .
  بالرغم من إختلاف إتجاهاتهم الفكرية وإنتماءاتهم الدينية : ففيهم السُنّي ، والعلماني ، والشيعي : الزيدي ، بل الإمامي الاثنا عشري .
  وهم يحسِبون الإمام قائماً بدور المُعَلم فحسب في تربية الطليعة المثقّفة والواعية ، بعيداً عن الصراع السياسيّ ، ومنصرفاً عن أيّ تحرك معارض للأنظمة الحاكمة ، ويُحدّدون واجباته بالإعداد الثقافي للاُمَة ، والتحصين لها عقائدياً ، وفقط .
  وحاول بعضُهم إجراءَ هذا الحكم على الأئمة بعد الإمام السجاد ( عليه السلام ) ، وفَرَضَهم سائرين على منهج واحد ، أو يؤدّون دوراً، بِعَيْنِهِ .
  ولنقرأ معاً بعض ما كتبوه في هذا الصدد :
  تقول كاتبة جامعية : إفتقدت الشيعة بمصرع الحسين الزعيم الذي يكون محوراً لجماعتهم وتنظيمهم ، والذي يقودهم إلى تحقيق تعاليمهم ومبادئهم ، وإنصرف الإمام عليّ زين العابدين عن السياسة إلى الدين ، وعبادة الله( عز وجل ) ، وأصبح للشيعة زعيماً روحيّاً ، ولكنّه لم يكن الثائر السياسي الذي يتزعّم جماعة الشيعة ، حتّى أنّه آثر البقاء في المدينة طوال حياته .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 4 _

  وحاول المختار بن أبي عبيده الثقفي أن ينتزع علياً من حياة التعبيد ، والإشتغال بالعلم إلى ميادين السياسة ، دون جدوى(1) ويقول كاتب شيعي : كانت فاجعة مقتل أبيه التي شاهدها ببصره أقسى من أن تتركه يطلب بعد ذلك شيئاً من إمارة الدنيا ، أو يثق في الناس ، أو يشارك في شأن من شؤون السياسة ، إعتكف على العبادة . . . (2)
  ويقول كاتب سُنّي : لكن الإقبال على الله وإعتزال شؤون العالم . . . كان منهجه في حياته الخاصة ، وطابعه الذي طبع به التشيع الاثني عشري ، فاتجه إلى الإمامةالروحيّة مبتعداً عن طلب إمامة سياسية (3).
  ويقول كاتب يَمَنيّ : وفي تاريخ الشيعة كذلك نشأتْ نظرات مُتَخاذلة ، تولّدت من شعور بعض العلويّين وأنصارهم بالهزيمة الداخليّة ، وقلة النصير ، وفجعتهم التضحيات الكبيرة التي قدَموها ، ففضَلوا السلامة .
  وقد وطَدتْ معركة كربلاء من هذا الاتجاه ، إذ كان تأثيرها مباشراً على عليّ بن الحسين الذي ابتعد من هول الفجيعة عن السياسة ، ونأى بنفسه عن العذاب الذي عاناه مَن سَبَقَه ، وعلى قريب من هذا النَهْج سار ابنه محمَد ، وحفيده جعفر(4).
  وفي أحدث محاولة لتقسيم أدوار الأئمة ( عليهم السلام ) ، جُعِلَتْ حصّة الإمام السجاد ( عليه السلام ) الدور الثاني وهو الذي امتدَ منذ زمانه حتّى زمان الإمام الباقر ، والصادق (عليهما السلام)، هو: بناء الجماعة المنطوية تحت لوائهم .
  ويشرح واحد من أنصار هذه المحاولة هذا الدور بقوله : والمرحلة الثانية التي بدأها الإمام الرابع ، زين العابدين ( عليه السلام ) ، تتركّز مهمّة الأئمة ( عليهم السلام ) فيها : على حماية الشريعة ، ومقاومة الانحراف الذي حدث في جسم الأمة على يد العلماء المزيَفين المنحرفين . . ولذلك نرى حرص الأئمة في المرحلة الثانية على الابتعاد عن الصراع السياسي ، والانصراف إلى بَثّ العلوم ، وتعليم الناس ، وتربية المخلصين ، وتخريج العلماء والفقهاء على أيديهم ، والإشراف على بناء الكتلة الشيعية . . . (5).
  ويقول : إنّ الإمام أراد أن تكون زعامته للاُمة ، زعامة دينية ، وأن تصطبغ نشاطاته بصبغة روحية علمية، فكانت زعامته في الأمة تختلف عن زعامة الأئمة قبله ، حيث كانوا يصارعون الدولة ، ويقصدون الإصلاح ، ويقارعون الظالمين.

---------------------------
(1) جهاد الشيعة للدكتورة الليثي ( ص 29 ) .
(2) نظرية الإمامة ، لصبحي ( ص 349 ) عن كاظم جواد الحسيني : حياة الإمام علي بن الحسين ( ص 320 ) وانظر ثورة زيد لناجي حسن ( ص 30 ـ 31 ) .
(3) نظرية الإمامة ( ص 349 ) وانظر ( 351 ) ، وانظر : الفكر الشيعي والنزعات الصوفية للشيبي ( ص 17 ) والصلة بين التصوف والتشيع ، له ( ص 104 و 147 ) . .
(4) معتزلة اليمن ( ص 17 ـ 18 ) .
(5) الإمام السجاد ، لحسين باقر ( ص 13 ـ 14 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 5 _

  فكانت الطريقة التي عاش بها الإمام زين العابدين والظواهر التي برزت في حياته لا تسمح بزعامته إلا أنْ تكون دينية وروحية وعلمية ، وأن يكون قدوة صالحة في المجال التربويّ والمعيشة الربانية ، لا في مجالات التضحية والجهاد فكانت حياته بطولات في ميادين الجهاد الأكبر جهاد النفس لا الجهاد الأصغر جهاد الأعداء(1)وزاد في تعميق المفاجأة : عندما وجدتُ هؤلاء جميعاً قد أغفلوا أمراً واحداً وهو تحديد السياسة التي ادّعوا أنّ الإمام : إبتعد عنها أو انصرف عنها أو زهد فيها أو لم يشارك فيها أو إنعزل عن ساحتها إلى غير ذلك من التعابير المختلفة .
  وإذا كانت هي زعامة العباد ، وتدبير أمور البلاد (2) فهي داخلة في معنى الإمامة التي لابد أن نفرضها للإمام أو على الأقل نفرضها له عندما نتحدّث عنه من حيث كونه إماماً .
  وإذا كانت الإمامة متضمنّة للسياسة ، فكيف يريد الإمام أن يبتعد عنها ? .
  أو يريد الكُتَاب أن يفرضوا فراغ إمامته عنها ? .
  أو حصرها بالزعامة الروحية والعلمية ، فقط ? .
  وفي خصوص الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : كانت المفاجأة أعمق أثراً ، عندما لاحظتُ أنّ المصادر القديمة والمتكفلة لذكر حياة الإمام ( عليه السلام ) تعطي بوضوح نتيجة معاكسة لما شاع عند هؤلاء الكُتَاب ، وهي :
  أنّ الإمام ( عليه السلام ) قد قام بدور سياسي فعَال ، وكان له تنظيم وتخطيط سياسي دقيق ، يمكن إعتباره من أذكى الخطط السياسية المتاحة لمثل تلك الظروف العصيبة الحالكة .

---------------------------
(1) الإمام السجاد ، لحسين باقر ( ص 63 ) وانظر خاصة ( ص 91 ـ 93 ) .
ويلاحظ : أن جهاد النفس ليس من شؤون الإمامة ، ولا الإمام فقط ، بل إنمّا هو واجب عام على كل من آمن بالله ، وأراد الجنة .
(2) يلاحظ أن التصدي للحكام غير الشرعيين يعتبر داخلاً في هذا المعنى للسياسة، حتّى في العرف المعاصر. وسيأتي في ( التمهيد ) تحديدنا للسياسة التي ندّعي أنّ للإمام زين العابدين جهاداً وجهوداً في سبيل تحقيقها .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 6 _

  ووقفتُ على شواهد عينية من التأريخ تدل على أن الجهاد السياسي الذي قام به الإمام السجاد ( عليه السلام ) من أجل تنفيذ خططه يعد من أدق أشكال العمل السياسي ، وأنجحها .
  فكان أنْ قصدتُ إلى تأليف هذا الكتاب ليجمع صُوَراً من تلك الشواهد والعينات .
  فمهّدتُ بحثين يعتبران منطلقاً أساسياً لما يلي من بحوث في الكتاب ، وهما :
1 ـ البحث عن الإمامة ، وتعريفها ، وما تستلزمه من شؤون .
2 ـ البحث عن إمامة الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وإثباتها .
  ثم دخلتُ في الفصول ، وهي :
الفصل الأول : أدوار النضال في حياة الإمام (عليه السلام): في كر بلاء، وفي الأسر، وفي المدينة.
الفصل الثاني : النضال الفكري والعلمي في مجالات: القرآن والحديث، والعقيدة والفكر، والشريعة والأحكام .
الفصل الثالث : النضال الاجتماعي والعملي في مجالات : التربية والأخلاق ، والإصلاح وشؤون الدولة ، ومناهضة الفساد الاجتماعي في أشكال : العصبية ، والفقر ، والرقّ .
الفصل الرابع: مظاهر فذَة في حياة الإمام: الزهد والعبادة ، والبكاء ، والدعاء .
الفصل الخامس : مواقف حاسمة في حياة الإمام: من الظالمين، ومن أعوان الظالمين، ومن الحركات السياسية المعاصرة له . . وختمته بذكر نتائج البحث . . راجياً أن يؤدي دوراً في تصحيح الرؤية التي انطلتْ على أولئك الكُتَاب .
  وفي بلورة ما اُريد عرضه على صفحات هذا الكتاب .
  وقد يسّر اللهُ( جلّ جلاله ) لي بفضله ومنّه العملَ في الكتاب منذ فترة تأليفه سنة ( 1413 ) وحتّى صدور هذه الطبعة المزدانة بمزيد من التدقيق ، فراجعتُ المزيد من المصادر والمراجع ، وأخذتُ بنظر الاعتبار ما لوحظ على الكتاب فزاد من الثقة به ، بتلافي ما وقع في الطبعة السابقة ، ومن الله التوفيق .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 7 _

التمهيد
  وفيه بحثان :
البحث الأول : الإمامة ، ومستلزماتها .
البحث الثاني: إمامة زين العابدين ( عليه السلام ) .

البحث الأول : الإمامة ومستلزماتها .
الإمامة : هي رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا (1) والإمام : هو الذي له هذه الرئاسة (2) .
  وقال الشيخ المفيد : الإمامة في التحقيق على موضوع الدين واللسان : هي التقدم في ما يقتضي طاعة صاحبه و الاقتداء به في ما تقدَم به (3) .
  وقد عرَفها القاضي الآبي من متكلّمي الإمامية بقوله : الإمامة : التقدم لأمر الجماعة (4) .
  وقال فخر المحقّقين : الإمام هو الذي له الرئاسة العامّة في اُمور الدين والدنيا ، نيابةً عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (5)   فإذا كانت الإمامة بهذه السعة في شمول نفوذها ، وهي كذلك عند المسلمين الشيعة ، الذين يعتقدون بإمامة السجاد ( عليه السلام ) ، فلا يمكن أن تفرَغ من السياسة فضلاً عن أن يكون للإمام نفسه التخلّي عنها ، وإعتزالها .
  خصوصاً إذا لاحظنا رأي الشيعة في الإمامة ، فهم يعدونها من الاصول الاعتقادية ، ويعظّمون شأنها ، فيلتزمون بوجوب النصّ عليها من الله تعالى ، بإعتبار أنّ العلم بتحقّق شروطها ، لا يكون إلا ممن يعلم الغيب ويطّلع على السرائر وليس هو إلا الله تعالى (6)ولذلك : إختصّت الإمامة عند الشيعة بهالة من القدسية ، وبإطار من العظمة ، وبوفرة من الاهتمام ، تجعلها عندهم بمنزلة النبوَة في المسؤليات ، إلا أن النبوّة تمتاز بالوحي المباشر من الله تعالى ، وقد استوحوا هذه المنزلة من قول الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعلي ( عليه السلام ) : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيَ بعدي . . .(7) الحديث الذي يُعتبر من أدلة إمامة عليّ (عليه السلام).

---------------------------
(1) شرح المواقف ، للجرجاني ( 8 : 345 ) وانظر أنوار التمام لأحمد زبارة المطبوع مع الاعتصام ( 5 : 404 ) .
(2) التعريفات ، للجرجاني ( ص 16 ) .
(3) الإفصاح ، للمفيد ( ص 27 ) .
(4) الحدود والحقائق ( ص 15 رقم 16 ) .
(5) النكت الاعتقاديّة (ص 53) جواب السؤال (91) .
(6) الإفصاح للمفيد ( ص 27 ) وانظر الأحكام للهادي إلى الحق ( 2 : 460 ـ 461 ) وإكمال الدين للصدوق ( ص 9 ) .
(7) حديث المنزلة من المتواترات ، قاله الكتاني في نظم المتناثر ( ص 195 رقم 233 ) وأورده من حديث ثلاث عشرة نفساً ، وقال : وقد تتبع إبن عساكر طرقه في جز ، فبلغ عدد الصحابة فيه نيفاً وعشرين .
وفي ( شرح الرسالة ) للشيخ جسوس : حديث أنت مني بمنزلة هارون من موسى متواتر جاء عن نيف وعشرين صحابياً .
وقد رواه من أصحاب الكتب : البخاري في صحيحه ( 4 : 208 ) و ( 5 : 129 ) ومسلم في صحيحه ( 2 : 360 ) وأحمد في مسنده ( 1 : 173 ) وانظر الاعتصام ( 5 : 390 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 8 _

  وقد جاء التعريف الجامع للإمامة على رأي الشيعة الإمامية في حديث الإمام الرضا علي بن موسى بن جعفر ( عليه السلام ) ، حيث قال : . . . إنّ الإمامة هي منزلة الأنبياء ، وإرث الأوصياء .
  إنّ الإمامة خلافة الله عز ّ و جلّ ، وخلافة الرسول ، ومقام أمير المؤمنين . . . إنّ الإمامة زمام الدين ، ونظام المسلمين ، وصلاح الدنيا ، وعزّ المؤمنين .
  إنّ الإمامة أساس الإسلام النامي ، وفرعه السامي ، . . . إلى آخر كلامه في ذكر الإمام وأوصافه ، وواجباته (1).
 ومن يُنكر أن تكون السياسة من صميم شؤون النبوَة ، ومسؤوليات النبيّ المهمة ? وأنّى تُبْعَد السياسة من إهتمامات نبيّ الإسلام ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ? .
  وقد إتفق الزيدية مع الإمامية على مجمل الذي ذكرناه ، إلا أنهم عبَروا عن شرط الإمامة ، بالخروج ، وأضافوا : الدعوة إلى نفسه (2) .
  ومن مذهبهم : أن كلّ فاطميّ ، خرج وهو عالم ، زاهد ، شجاع ، سخيّ ، كان إماماً واجب الاتباع (3).
  وأضاف بعضهم : أن يكون قائماً ، شاهراً لنفسه ، رافعاً لرايته (4) وهو المراد بشرط الدعوة إلى نفسه .
  والمراد بالخروج واضح ، وهو إعلان العصيان على الحكومات الجائرة ، الغاصبة للسلطة ، وعدم الإنقياد لحكمها .
  وقد أدخل متأخّرو الزيدية كلمة السيف على هذا الشرط ، فعبَروا عنه بالخروج بالسيف (5).
  ولعله بإعتبار ملازمة الخروج للمقاومة ، التي لا تخلو من مقارعة بالسيف ولذلك لم تخل حالات الخروج المعروفة في التاريخ من استعمال السيوف ووقوع ضحايا وشهداء .
  أما لو إقتصرنا على مدلول الخروج الذي فسّرناه ، فلم يختلف المذهب الزيدي عن الإماميّ ، في الخروج على حكم السلطات وعدم الاعتراف بالحكّام غير الشرعيين ، ورفض كل أشكال التحكّم الخارج من إطار الإمامة الحقّة .
  وأمّا بناء على الالتزام بالخروج بالسيف شرطاً في الإمامة فإنَ الإمام علي بن الحسين السجاد ، وأبناءه الأئمة ( عليهم السلام ) لم يقوموا بدور علنيّ في هذا المجال ، حتّى نُسِبَ إليهم معارضة كلّ حركةٍ مسلّحة ضدّ الأنظمة الحاكمة .

---------------------------
(1) أورده الصدوق في الأمالي ( ص 536 ـ 540 ) وهو تمام المجلس ( 97 ) وهو آخر مجلس في الكتاب .
(2) الملل والنحل ، للشهرستاني ( 1 : 156 ) وانظر ( ص 154 ) .
(3) الملل والنحل ، للشهرستاني ( 1 : 27 ) .
(4) المجموعة الفاخرة ، ليحيى بن الحسين ( ص 219 ) .
(5) لاحظ أوائل المقالات للمفيد ( ص 44 ) ومعتزلة اليمن ( 17 ـ 18 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 9 _

  ولكنّ هذه التهمة بعيدة عن ساحة الأئمة ( عليهم السلام ) :
أولاً : لأنّ عمل الأئمة علي والحسن والحسين ( عليهم السلام ) في قياداتهم للحروب واشتراكهم في المعارك ، هو الحجّة عند الشيعة ، ويكفي دليلاً على بُطلان هذه التهمة ، لأنّ الإمامة شأنها واحد ، فلو كان للأئمة السابقين أن يقوموا بعمل مسلّح ، فمعناه جواز ذلك للا حقين ، وأن ذلك لا ينافي الإمامة .
  فنسبة معارضة الحركة المسلّحة إلى أيّ إمام ثبتتْ إمامتُه ، وكان مستجمِعاً لشرائطها ، نسبة باطلة ، فكيف تجعل دليلاً على نفي الإمامة عن أحد ? .
وثانياً : إنّ الإمام السجاد ( عليه السلام ) هو في أوّل القائمة التي وُجهت إليها هذه التهمة ، مع أنّا نجد موقفه من السيف ينافي هذه التهمة تماماً ويُبطلها ، فهو في الحديث التالي يعتبر إشهار السيف عملاً لمن هو سابق بالخيرات .
  ففي تفسير قوله تعالى : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) .
  قال ( عليه السلام ) : نزلت والله فينا أهل البيت ثلاث مرات .
  قال الراوي : أخبرنا : مَنْ فيكم الظالم لنفسه ? .
قال ( عليه السلام ) : الذي استوت حسناته وسيئاته ، وهو في الجنة .
  قال الراوي : والمقتصد ? .
  قال ( عليه السلام ) : العابد لله في بيته حتّى يأتيَهُ اليقين .
  قال الراوي : فقلت : السابق والخيرات ? .
  قال ( عليه السلام ) : مَنْ شهر سيفه ، ودعا إلى سبيل ربه . (1)
  فإعتقاد الإمام السجاد ( عليه السلام ) أنّ الفضل والسبق يتحقّق بإشهار السيف ، يقتضي بُطلان نسبة معارضة الحركة المسلحة إليه ( عليه السلام ) .
وثالثاً : إنّ هذا الشرط الخروج بالسيْف ليس شرطاً على إطلاقه ، وليس قابلاً لأن يكون شرطاً للإمامة كذلك .
  ومن ثَمَ ، فإنّ التُهمة المذكورة مردودة وباطلة .
  وقد يكون مَنْ قلّل من شدّتها وحِدَتها ، فعمد إلى تخفيفها ، وعبَر عنها بدعوى عدم صحة الإمامة لو أَرخى الإمام ستره ، وأغلق بابه (2) كان ينظر إلى هذه الملاحظة .
  فإنّ هذه الصيغة يمكن التأمّل فيها ، والبحث عنها ، من حيث أنّها لا تتجاوز شرط الخروج بالمعنى الذي عرفناه ، لأنها يمكن أن تكون فرضاً للحدّ الأقل من الفروض الممكنة للخروج ، وأن إشهار السيف هو الحدّ الأكثر له .
  ومع أنّ إغلاق الباب ، وإرخاء الستر ليس ذكراً إلا لأبعد الاحتمالات الممكنة ، فإنّا لم نَجِدْ في سيرة الإمام السجاد ( عليه السلام ) وكذلك الأئمة من ولده مثل هذا الإرخاء وهذا الستر .
  فهم ( عليهم السلام ) وإن لم يشهروا السلاح الحديدي لكنهم لم يغلقوا أبوابهم ، بل نجد سيرتهم مليئة بالنشاط القيادي ، حتّى في أصعب الحالات ، وأقسى المواقف والظروف ، وأكثرها حساسية ، كما في حالة الأسر التي مرّ بها الإمام السجاد ( عليه السلام ) ، وحالة السجن التي مرّ بها الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ، فإنهم لم ينقطعوا فيها عن أداء دورهم المتاح لهم .

---------------------------
(1) تفسير الحِبَريّ ( ص 354 ) الحديث ( 88 ) وانظر الحديث ( 89 ) وتخريجاته ، وكذلك الحديث ( 90 ) وشواهد التنزيل للحسكاني ( 2 : 104 ) رقم ( 782 ) وفي الحديث ( 783 ) نحوه عن زيد الشهيد .
(2) كفاية الأثر ، للخزّاز ( ص 300 ـ 302 ) ولاحظ معتزلة اليمن ( ص 17 ـ 18 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 10 _

  هذا بغضّ النظر عن عملهم الدؤوب في إرشاد الناس وهدايتهم إلى الحق في اُصول العقائد ، ومن ذلك إعلان إمامة أنفسهم ، وتعريفهم بالحق الصحيح من فروع الأحكام وعلم الشريعة ، وتربيتهم على الأخلاق الفاضلة ، وتعليمهم سنن الحياة الحرّة الكريمة ، هذا العمل الذي هو الهدف لكل الأنبياء في رسالاتهم ، ولكل المصلحين في نضالهم ، وهو من أميز وظائف الأئمة ، وأبرز واجبات الإمامة .
  والظالمون من الحكّام غير الإلهيين يقفون أمام مثل هذا العمل ، ويعدّونه تحدّياً لسلطانهم ، ومنافياً لمصالحهم ، وبناء على ذلك : فالقائم به يكون معارضاً سياسياً خارجاً عليهم ولو بغير سيف .
  وإصرار الأئمة من أهل البيت ( عليهم السلام ) على هذا العمل ، إلى جانب مَنْ كان يقوم منهم بنشاط مسلّح ، يدل على أن الجهاد في هذا المجال له من الأهمية والأثر في الوصول إلى الأهداف المنشودة من الإمامة ، ما يوازي الحاصل من الجهاد المسلّح ، على أقلّ الاحتمالات .
  ويمكن التأكّد من ذلك ، من خلال الممارسات العنيفة للحكّام الظالمين تجاه أولئك الأئمة الذين لم يحملوا السلاح ، بنفس الشكل الذي واجهوا به المجاهدين المسلّحين .
  فعمليات المراقبة ، والمطاردة ، والجلب إلى مراكز القوّة والجند عواصم الحكم ، بل السجن ، والتهديد ، والضغط على بعض الأئمة الاثني عشر ، من الأمور التي كانت قائمة ومستمرة ، على الرغم من عدم مد أيديهم إلى الأسلحة الحديدية .   إنّ ذلك يدلّ بوضوحٍ على أنّ الحكّام عرفوا أن هؤلاء الأئمة يحاربونهم بأسلحة أفتك من السيف .
  كما يعرف كلّ المناضلين : أن الحرب الفكرية والاختراق الثقافي من أساليب ما يُسمّى بالحرب الباردة ، هي أشد ضراوة ، وأعمقُ أثراً في الخصم ، وأنفذُ في كيانه ، من الحرب بالأسلحة .
  وهل يجرؤ عارف بالتاريخ الإسلامي على إنكار الأثر البارز للأئمّة الاثني عشر ( عليهم السلام ) في هذا المجال ? فضلاً عن نسبة إغلاق الباب وإرخاء الستر إليهم .
  لولا الخطأ في الحكم ? أو التعمّد في تخطّي الحقائق ? .
  وعلى كلّ ، فإنّ حالة إرخاء الستر ، وإغلاق الباب لا تمثّل إلا أبعد الفروض المحتملة ، والممكنة الوقوع في حياة الأئمة ( عليهم السلام ) .
  كما أنّ حالة إشهار السيف تمثّل أقوى الفروض ، وأشد الحالات وأحوجها إلى مثل ذلك .
  فكلا الفرضين محتمل في الإمامة .
  فكما أنّ من الممكن فرض حالة إشهار السيف في ما إذا تحقّقت الظروف المناسبة للحركة المسلّحة ، وتوافرت الشروط والإمكانات اللازمة للخروج بالسيف ، إذ لم نجد نصّاً يمنع الحركة ، فضلاً عن أن يجوّز للإمام تفويت تلك الفرص ، وتبديد تلك الإمكانات .
  فكذلك إذا اجتمعت شروط الإمامة غير السيف فإنّ تحدّي الظالمين عَبْرَ وسائل أخرى ، تعبّر عن الخروج والتصدّي لحكمهم ، هو المتعيّن للكشف عن عدم الرضا باستمرار الأنظمة الجائرة ، ولا يمكن أن يُعتبر ذلك نقطة ضعف ، أو يُجعل دليلاً على التخلّي عن الحركة المسلّحة .
  ومن هنا نعلم أن السيف ليست له موضوعية ، وهو ليس شرطاً بإطلاق الكلمة ، من دون تقييد بوقتٍ ، ولا محدوديّة بإمكانيات .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 11 _

  بل ، لا ريب في أن الخروج بالسيف، مشروط بما يحقّق الأهداف المطلوبة منه ، وهي لا تتحقّق بالخروج العشوائي ، بل ، لابدّ أن يتأهَب الخارج لها ، ويُعدّ للأمر ما يلزم له من قوّة وعُدّة .
  وإلا، فإنّ الانفراد في الساحة و الاستبداد بالرأي من دون أنصار ، أو بأنصار غير كفوئين ، أو من غير خُطّة مدَبرة مدروسة ، أو في ظروف غير مؤاتية .
  إن الخروج ولو بأقوى سيف في مثل ذلك لا يمكن أن يكون شرطاً لشيٍ متوقّع ، فضلاً عن أن يكون شرطاً لشي هامّ مثل الإمامة .
  هذا إذا صدق على مثل ذلك اسم غير الانتحار .
  وقد أرشد الإمام السجاد ( عليه السلام ) إلى هذه الحقيقة في احتجاجه على من إعترض عليه بترك الجهاد ، والالتزام بالحجّ ، بقوله : تركتَ الجهاد صعوبته ، وأقبلتَ على الحجّ ولينه ، والله عزّ وجلّ يقول : ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ) إلى قوله ( وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) .
  فقال الإمام ( عليه السلام ) : إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحجّ . (1)   وهو المستفاد من كلام الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في الخطبة الشقشقية : أما والله لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كِظّة ظالم ولا سَغَب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت أوّلها بكاس آخرها (2)   ولو كان الخروج واجباً على كل حال ، وغير مشروط ، لما قال الإمام هذا الكلام .
  وفي الجامع الكافي للشريف العلوي : قال الحسن ( عليه السلام ) : ويحقّ على من أراد الله والانتصار للدين : أن لا يُظهر نفسه ، ولا يعود بسفك دمه ودماء المسلمين ، وإباحة الحريم ، إلا ومعه فئة المتديّنين يوثق بطاعتهم ووفائهم .(3)
  إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أوصى إلى علي ( عليه السلام ) ، قال : يا أخي ، عليك بالصبر ، إلا أن تجد أعواناً وأنصاراً ، فاشهر سيفك حينئذٍ ، فإن لم تجد أعواناً وأنصاراً ، فاحقن دمك ، فإنّ القوم لم ينسوا قتل ساداتهم في مواقفك التي شرّفك الله تعالى بها في دينه .(4)
  نعم ، قد يضطرّ الواقع إنساناً أبيّاً ، إلى الإقدام على الخروج المسلّح ، وإن لم توجد شروطه ، لحاجة الوضع إلى إثارة ، فيضحّي بنفسه فداءً من أجل قضيّته . وهذا وإن كان لا يُسمّى في قاموس اللغة خروجاً ولا في مصطلح الفقه جهاداً ولا يمكن أن يُعتبر في حسابات العقل واجباً ولا في موازين المنطق شرطاً لشيء ، فضلاً عن الإمامة .

---------------------------
(1) الاحتجاج ، للطبرسي ( ص 315 ) وانظر الكافي ( 4 :257 ) ح 24 ، وثواب الأعمال ( 71 : 7 ) ووسائل الشيعة ( 11 : 95 ) تسلسل ( 14330 ) .
(2) الإفصاح للمفيد ( ص 46 ) نهج البلاغة ( 315 ) .
(3) الاعتصام ( 5 : 408 ) .
(4) المقنع في الإمامة ، للسُدّآبادي ( ص 99 ) وانظر ( ص 109 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 12 _

  إلا أنّه يحتوي على فضيلة هذه العناوين كلّها بأعظم شكل ، إذ أنه يُعد في قاموس النهضات بطولة وفي وجدان الشعوب تضحية وفي روح الدين فداء وعلى صفحات التاريخ خلوداً ويكون قاعدةً لإصلاحات كبيرة ، وباروداً انفجارات مهيبة ، بعيدة أو قريبة ، كما كانت نهضة الإمام الحسين الشهيد ( عليه السلام) .(1)   وأخيراً : فإنّ من الممكن نفي إشتراط الإمامة بالخروج بالسيف خاصّة ، على أساس المفهوم من حديث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دالًا على إمامة الحسن والحسين ( عليهما السلام ) بقوله : ابناي هذان إمامان ، قاما أو قعداً .(2)
  فإن القيام لو كان شرطاً للإمامة ، والقعود لو كان منافياً لها ، لما كان حتّى للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يثبتها للحسنين ( عليهما السلام ) مع فرض القعود .
  ثم إنَ الحسنين ( عليهما السلام ) ، قد إستجمعا هذا الشرط ، فقاما وناضلا ، فما هو المبرّر لفرض القعود في حقّهما ? وإبراز إمامتهما مع القعود ? فليس من الحكمة إظهار هذا المعنى ، لو كان حديث الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) موجّهاً إليهما بالخصوص .
  إلا أنّ من الواضح أنّ المراد تعميم الحكم المذكور على الإمامة نفسها ، بإعتبارها واقعاً واحداً ، وعلى الأئمة جميعهم ، بإعتبارهم قائمين بأمرٍ بعينه . والمفهوم من الحديث : أنّ الإمامة إذا ثبتتْ حَسَبَ الموازين المتّفق عليها ، التي أهمّها النصّ ، فإنّ القيامَ بالأمر والقعود ، متساويان .
  إذَنْ :
  فالذي يمكن أن يكون شرطاً لابدّ أن يعمّ الحركة المسلّحة المباشرة ، وأن تكون هي وحدةً تمثّل تحقّق ذلك الشرط الذي تبتني عليه الإمامة ، بل هي متعيّنة ، عندما تتهيّأ ظروفها وتتكامل إمكاناتها ، أو كما يُشخص الإمام نفسه ضرورة القيام بها .   ويتحقّقُ ذلك الشرط ضمن وحدات اُخرى تمثّله ، وتوصل إلى الأهداف المطلوبة لأجلها الإمامة .
  وذلك الشرط هو الإصلاح في الأمة .
  وقد عُبرَ عنه في مصادر قدماء الزيدية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .   في ما رواه الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين ، قال : بُلّغنا عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه قال : مَنْ أمر بالمعروف ونهى عن المنكر من ذرّيتي فهو خليفة الله في أرضه ، وخليفة كتابه ، وخليفة رسوله . (3)
  ولم يختلف أحد من الأمة خاصة الشيعة ـ إمامية و زيدية ـ في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا على الإمام فحسب ، بل على الأمة جمعاء .(4)
  لكن هذا الواجب :
أوّلاً : ليس من أصول الدين ، بل من فروع العمل ، ولذا كان وجوبه عامّاً على كلّ الأمة ، فلا يمكن أن يؤخذ شرطاً خاصاً ، لأصل دينيّ ، كالإمامة ، ولا على شخصٍ معيّن ، كالإمام .

---------------------------
(1) تحدّثنا عن ذلك في رسالة ذكرى عاشوراء والاستلهام من معطياتها فقهياً وأدبيّاً .
ولا تزال مخطوطة .
(2) حديث متفق عليه بين المسلمين : صرَح بذلك الشيخ المفيد في النُكَت ( ص 48 ) الفقرة ( 82 ) ورواه الصدوق في علل الشرائع ( 1 : 211 ) عن الحسن ( عليه السلام ) ، والخزّاز في كفاية الأثر ( ص 117 ) من حديث أبي أيّوب الأنصاري ، والمفيد في الإرشاد ( ص 220 ) وابن شهر آشوب في المناقب ( 3 : 394 ) وقال : أجمع عليه أهل القبلة ، ورواه مجد الدين في التحف ( ص 22 ) وأرسله في حاشية شرح الأزهار ( 4 : 522 ) نقلاً عن كتاب الرياض ، ورواه الناصر في ينابيع النصيحة ( ص 237 ) وقال : لا شبهة في كون هذا الخبر مما تلقته الأمة بالقبول وبلغ حدَ التواتر فصحَ الاحتجاج به .
(3) درر الأحاديث النبوية بالأسانيد اليحيوية ( ص 48 ) .
(4) شرح الأزهار ( 4 : 582 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 13 _

ثانياً : إنّ وجوبه ليس مطلقاً، بل هو مشروط ومقيّد بحالات (1) ، فلا يعلّق عليه أمر ضروري مطلق ، كالإمامة التي يعدّها الشيعة من أثافي الإسلام وأعمدته (2) فمن القيود ، عدم التقية : قال الإمام السجاد ( عليه السلام ) : التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كنابذ كتاب الله وراء ظهره ، إلا أن يتقي تقاةً .
قيل : وما تقاته ? قال ( عليه السلام ) : يخاف جبّاراً عنيداً ، أن يَفْرُطَ عليه أو أن يطغى (3).
  ومنها ، ظنَ التأثير : فإنْ لم يظنّ لم يجب . بل جعل منها في الفقه الزيدي شرط : أن لا يؤدّي إلى مثله أو أنكر ، أو تلفه ، أو عضو منه ، يقبح غالباً .
  واحترز بقيد الغالب عمّا لو حصل بتلف القائم إعزاز لدين ، كما كان من الحسين ( عليه السلام ) وزيد ( عليه السلام ) (4).
  فهو قد جعل حركة الحسين وزيد ( عليهما السلام ) مثلاً للأمر المعروف والنهي عن المنكر ، ولا ريب في أنهما كذلك ، وفي المنظار العام ، بل هما من أروع الأمثلة وأعلاها .
  وذكره للإمام الحسين ( عليه السلام ) مع أنّ إمامته ثابتة بالنصّ عند الشيعة إماميّة وزيديّةً دليل على أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واجب آخر ، من دون دخالةٍ له في أمر الإمامة .
  والذي نستخلصه من هذا البحث :
  أنّ الإمامة إنّما هي منصب إلهي يعتمد على النصَ خاصّاً كما يقوله الإمامية ، أو عاماً كما يقوله الزّيدية وإذا ثبت النص على إمام بعينه كان الحجة على الأمة ، مهما فعل من قيام أو قعود .
  نعم ، إن من المستلزمات الواضحة للإعلان عن الإمامة هو التحرّك في سبيل مصلحة الدين والمسلمين ، والتحرق من أجل مشاكلهم وماَسيهم ، والسعي في حلّ أزماتهم بكلّ الطرق والسُبل ، ولو بتجريد السيف .
  ولعلّ إشتراط الخروج والدعوة الذي يظهر من كلمات الزيدية، يُراد كونه شرطاً لتعريف الأمة بالإمام، والإعلان عن بد حركته الجهاديّة ، لا شرطاً في الإمامة وثبوتها للإمام ، وبهذا يقترب المذهبان .
  ولنختم هذا البحث بكلام اثنين من علماء الشيعة : من كبار علماء الزيدية ، ومن كبار علمائنا الإماميّة :
  أمّا من الزيديّة : فعن الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) على ما نقل الشريف العلوي في ( الجامع الكافي ) لمّا سُئل عن خروج زيد ( عليه السلام ) وقعود جعفر ( عليه السلام ) ? انّه قال : خروج زيد ( صلّى الله عليه ) طاعة ، وقعود جعفر ( عليه السلام ) طاعة ، وليس للناس أن يحكموا عليهما (5)وأمّا الإماميّ فهو الشيخ المحدث الحافظ ، المتكلّم ، الفقيه ، أبو القاسم ، علي بن محمد بن علي الخزّاز القمي ، فإنّه قال في كتابه القيّم كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر بعدما أورد النصوص المتظافرة على إمامتهم ( عليهم السلام ) ما نصه فإن قال قائل : فزيد بن عليّ ، إذا سمع هذه الأخبار ، وهذه الأحاديث من ثقات المعصومين ، وآمن بها ، واعتقدها ، فلماذا خرج بالسيف ? وادّعى الإمامة لنفسه ? وأظهر الخلاف على جعفر بن محمد ? وهو بالمحل الشريف الجليل ، معروف بالستر والصلاح ، مشهور عند الخاص والعام بالعلم والزهد ? وهذا ما لا يفعله إلا معاند أو جاحد ، وحاشا زيداً أن يكون بهذا المحل .

---------------------------
(1) شرح الأزهار ( 4 : 583 ) .
(2) لاحظ وسائل الشيعة ( ج 1 ص 13 ـ 29 ) الباب الأول .
(3) حلية الأولياء ، لأبي نعيم ( 3 : 140 ) .
(4) شرح الأزهار ( 4 :584 ) وانظر الاعتصام ( 5 :425 و 543 ) .
(5) نقله السيد مجد الدين المؤيدي في : لوامع الأنوار ( ج 1 ص 447 ).

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 14 _

  فأقول في ذلك ، وبالله التوفيق :   إن زيد بن علي ( عليه السلام ) خرج على سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا على سبيل المخالفة لابن أخيه جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) .
  وإنما وقع الخلاف من جهة الناس ، وذلك أنَ زيد بن علي ( عليه السلام ) لَمّا خرج ، ولم يخرج جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) توهَم قوم من الشيعة أنَ امتناع جعفر كان للمخالفة .   وإنما كان لضربٍ من التدبير .
  فلمَا رأى الذين صاروا للزيدية سلفاً قالوا : ليس الإمام مَنْ جلس في بيته وأغلق بابه وأرخى ستره وإنّما الإمام مَنْ خرج بسيفه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، فهذا كان سبب وقوع الخلاف بين الشيعة ، وأما جعفر وزيد ( عليهما السلام ) ، فما كان بينهما خلاف (1).

البحث الثاني : إمامة السجاد زين العابدين ( عليه السلام ) .
  إتّفق الشيعة الإمامية على إمامة زين العابدين ( عليه السلام ) : قال الشيخ المفيد : واتفقت الإمامية على أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نصَ على علي بن الحسين ، وأن أباه وجدَه نصَاً عليه كما نصَ عليه الرسول ( عليه السلام ) ، وأنه كان بذلك إماماً للمؤمنين (2) .
  وقد أقاموا الحجج وجمعوا النصوص الدالة على إمامته ( عليه السلام ) في كتبهم (3) .
  ثمَ إن خصال الفضل الموجب للتقدم ووجوهه ، في عصر التابعين ، هي : العلم بالدين ، والإنفاق في سبيل الله ، والزهد في الدنيا (4) .
  وقد اجتمعت كلّها في شخص الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) .
  ولا أظنّ أنَ القول بإمامة السجاد ( عليه السلام ) في عقيدة الشيعة الإمامية بحاجة إلى الاستدلال ، بعد وضوح ذلك ، والاتفاق الذي نقله الشيخ المفيد ، وإثبات النصوص في صحاحهم المعتمدة .

---------------------------
(1) كفاية الأثر للخزّار ( ص 300 ـ 302 ) وانظر ثورة زيد بن علي ( ص 140 ـ 147 ) .
(2) أوائل المقالات في المذاهب المختارات ( ص 47 ) .
(3) الكافي للكليني ( 1 : 1 ـ 242 ) والإمامة والتبصرة ( ص 193 ) الباب (10) وكفاية الأثر للخزّاز ( ص 230 ـ 235 ) والغيبة للطوسي ( ص 5 ـ 196 ) وإثبات الهداة للحر العاملي ( 3 : 132 ) .
(4) راجع الإفصاح للمفيد ( ص 231 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 15 _

  وأمّا الزيديّة :
  فالذي يظهر من كلام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين ( المتوفّى 298 ) أنه يلتزم بإمامة السجاد ( عليه السلام ) بالنصّ على الوصية إليه حيث ذكره باسمه الصريح ، فقد قال : إن الله عز و جل أوصى بخلقه على لسان النبي إلى عليّ بن أبي طالب ، والحسن ، والحسين ، وإلى الأخيار من ذريّة الحسن والحسين ، أولهم علي بن الحسين ، وآخرهم المهدي ، ثم الأئمة في ما بينهما (1) ، وهذا الكلام صريح الدلالة على أن الوصية كانت إلى الإمام السجاد ( عليه السلام ) كما كانت لأبيه وعمّه وجدّه ، بالتعيين من الله تعالى فهو ( عليه السلام ) من الأوصياء الذين اختارهم الله للإمامة وثبتت لهم بالاختيار الإلهي .
  لكنّ بعض العلماء المعاصرين ، من فضلاء الزيدية حاول صرف هذا الكلام عن صريح لفظه ، إلى أن سيد الساجدين علي بن الحسين ( صلوات الله عليه ) من دعاة الأئمة (2) ولم يذكره في عداد الأئمة .
  فبالرغم من عدم قرينة على هذا الحمل ، فإنه يقتضي أن يكون المهدي أيضاً من دعاة الأئمة ، وهو ما لا يلتزم به أحد من الأمة ونقل السيّد بدر الدين الحوثي عن القاسم ( عليه السلام ) ما نصّه : وجرى الأمر في ولد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الصفوة بعد الصفوة ، لا يكون إلا في خير أهل زمانه وأكثرهم اجتهاداً وأكثرهم تعبّداً و أطوعهم لله وأعرفهم بحلال الله و حرامه وأقومهم بحقّ الله وأزهدهم في الدنيا وأرغبهم في الآخرة وأشوقهم للقاء الله ، فهذه صفة الإمام ، فمن استبان منه هذه الخصال فقد وجبت طاعته على الخلائق ، فتفهّموا وانظروا : ، هل بيننا وبينكم إختلاف في علي بن أبي طالب ثم بعده الحسن بن علي ? .
  أو هل إختلفنا من بعده في الحسين بن علي ? .
  أو هل إختلفنا في علي بن الحسين ? .
  أو هل إختلفنا في محمد بن علي ? .
  أو هل ظهر منهم رغبة في الدنيا ? أو طلب أموال الناس ? .
  إلى قوله ( عليه السلام ) : فلو أردنا أن نجحد الحقّ لجحدناهم من بعد الحسين بن علي ، وصيّرناه في أهل بيت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عامّةً (3) وهذا النصّ أصرح في التزام الزيدية بإمامة علي بن الحسين السجاد ومحمد بن علي الباقر ( عليهما السلام ) ، حالهم حال الإمامية بلا خلاف في القول بامامتهم الخاصة .
  وأصرح من ذلك قول الإمام الحاكم أبو سعد الجِشُميّ المحسَن بن محمد بن كرامة البيهقيّ الشهيد غيلة بمكة عام ( 494 ) في كتابه ( جلاء الأبصار ) في المجلس السابع عشر ما نصّه وكان إمام هذه الطائفة ـ بعد أمير المؤمنين ، والحسن ، والحسين ، وعلي بن الحسين ، ومحمد بن علي زيدُ بن علي ( عليهم السلام ) (4) والذي يظهر من تتبع أقوال خبراء الملل والنحل أنَ الزيدية القدماء كانوا يلتزمون بإمامة السجاد ( عليه السلام ) ، ولم يختلف الشيعة في إمامته : فالشهرستاني لما ذكر الاختلاف في الإمامة ، وذكر مَنْ قال بالنصّ على الحسن الحسين قال : ثم اختلفوا : فمنهم من أجرى الإمامة في أولاد الحسن ( عليه السلام ) ، فقال بعده بإمامة ابنه الحسن المثنى ثم ابنه عبد الله . . . .

---------------------------
(1) كتاب فيه معرفة الله والعدل والتوحيد ، للهادي ، مطبوع في رسائل العدل والتوحيد ( 2 : 82 ) ، وأورده بنصه في المجموعة الفاخرة ( ص 221 ) .
ونقله السيد بدر الدين الحوثي في رسالة ( الزيدية في اليمن ) ( ص 17 ) .
(2) التحف شرح الزلف ( ص 25 ) .
(3) الزيدية في اليمن ( ص 17 ـ 18 ) عن كتاب ( الردّ على الروافض من الغلاة ) المخطوط ص 064 .
(4) جلاء الأبصار ( مخطوط ) نقل عنه السيد مجد الدين في لوامع الأنوار ( ج 2 ص 18 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 16 _

  ومنهم من أجرى الوصية في أولاد الحسين ، وقال بعده بإمامة ابنه علي بن الحسين زين العابدين ، نصّاً عليه ، ثم إختلفوا بعده : فقالت الزيدية بإمامة زيد .
  وأمّا الإمامية فقالوا بإمامة ابنه محمد بن علي الباقر ، نصّاً عليه (1) .
  وقال في الجارودية : فساق بعضهم الإمامة من علي إلى الحسن ، ثم إلى الحسين ، ثم إلى علي بن الحسين زين العابدين ، ثم إلى ابنه زيد . . . (2)
  وقال القاضي النعمان المصري : الزيدية من الشيعة زعموا أنَ مَنْ دعا إلى الله ( عزَ وجلَ ) من آل محمد فهو إمام مفترض الطاعة .
  قالوا : وكان علي إماماً حين دعا الناس إلى نفسه ، ثم الحسن والحسين ، ثم زين العابدين ، ثم زيد بن علي . . . (3) .
  ويظهر إلتزام زيد بإمامة أبيه من الحوار الذي جرى بينه وبين أخيه الإمام الباقر ، والذي نقله الشهرستاني ، فإنّ زيداً كان يرى الخروج شرطاً في كون الإمام إماماً ، فقال له الباقر يوماً : مقتضى مذهبك : والدك ليس بإمام فإنه لم يخرج قطْ ولا تعرّض للخروج (4).
  فلو لم يكن زيد ملتزماً بإمامة والده السجاد ( عليه السلام ) ، لم يتمّ إلزامُه بما في هذا الحوار .
  لكنّ الزيدية المتأخّرين خالفوا ذلك : ففي المعاصرين مَنْ لم يلتزم بإمامة السجاد ( عليه السلام ) بل يَعُدهُ من دعاة الأئمة .
  وهؤلاء يسوقون الإمامة من الحسين ( عليه السلام ) الشهيد في كربلاء ( سنة 61 ) إلى الحسن المثنى بن الحسن المجتبى ( عليه السلام ) ويلقبونه بالرضا ثم إلى زيد (5) .
  ويبدو أن الالتزام بعدم إمامة السجاد ( عليه السلام ) أصبح مذهباً للجارودية في الفترة المتأخرة عن عهد الهادي إلى الحق ، فإنّ الشيخ المفيد نقل إنكارهم أن يكون علي بن الحسين ( عليه السلام ) إماماً للاُمة بما توجَب به الإمامة لأحد من أئمة المسلمين (6) .
  وقال السيد ما نكديم أحمد بن الحسين بن هاشم الحسيني ششديو ، في تعيين الإمام : إعلم أن مذهبنا أن الإمام بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : علي بن أبي طالب ، ثم الحسن ، ثم الحسين ، ثم زيد بن علي ، ثم مَنْ سار بسيرتهم (7) والملاحظ عدم ذكره للحسن المثنى . .

---------------------------
(1) الملل والنحل ( 1 : 27 ) .
(2) الملل والنحل ( 1 : 158 ) .
(3) شرح الأخبار للقاضي ( 3 : 317 ) .
(4) الملل والنحل (1: 156). (5) التحف شرح الزلف ( ص 22 و 24 - 25 ) .
(6) أوائل المقالات ( ص 47 ) ولاحظ أجوبة ابن قبة الرازي على كتاب ( الإشهاد ) لأبي زيد العلوي الزيدي المطبوع في إكمال الدين ( ص 113 إذ قال له : وأنت لا تعترف بإمامة مثل علي بن الحسين ( عليه السلام ) ، مع محله في العلم والفضل عند المخالف والموافق .
(7) شرح الاصول الخمسة ، للقاضي ( ص 757 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 17 _

  ومع أن هذه النصوص تدلّ على الخلاف الكبير بين الزيدية في تعيين الإمام بعد الحسين ( عليه السلام ) ، فإنا يمكننا الوصول إلى رأي واحد من خلال الملاحظات التالية :
  فعلى الرأي الأخير ، فإن منصب الإمامة يبقى شاغراً عمّن يتولاه من سنة 61 مقتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، إلى سنة 121 مخرج زيد ( عليه السلام ) .
  وحتّى على الرأي الثاني ، فالمنصب يبقى شاغراً من سنة 61 إلى سنة 83 مخرج ابن الأشعث ودعوته إلى الحسن المثنى ، على الفرض (1) ومن المعروف وحسب الأحاديث الصريحة أنّ الأرض لا تخلو من حجّة (2) .
  ودلالة الأحاديث المشهورة : من مات لا يعرف إمامه أو وليس له إمام ، مات ميتةً جاهلية (3) على أنّه لابدّ للاُمَة في كل زمانٍ من إمام عدل يعرفونه ، ويدينون بإمامته وولايته ، وأن الجاهل بالإمام خارج عن ملّة الإسلام ، واضحة صريحة .
  فخلوّ الفترة بين (61) إلى (83) أمر لا ينطبق على هذه الاصول .
  على أنّ القول بإمامة الحسن المثنّى ، وإن التزم به بعض المتأخّرين من الزيدية ، استناداً الى ما قيل من أن : عبد الرحمن بن الأشعث قد دعا إليه ، وبايعه ، فلمّا قُتِلَ عبد الرحمن توارى الحسن حتّى دُسّ إليه من سقاه السمَ ، فمات ، وعمره ثلاث وخمسون سنة (4) ، وهو أمر لم يثبت .

---------------------------
(1) ولا يمكن الالتزام بإمامة الحسن ولا زيد قبل خروجهما ، إذا كان الخروج شرطاً للإمامة ، كما يقول هؤلاء ، وحسب تفسيرهم للخروج .
(2) الكافي ( 1 ص 612 ) والإمامة والتبصرة ( ص 157 ـ 163 ) ب (2) وإكمال الدين ( ص 10 ) .
(3) الكافي ( 1 ص 308 ) والإمامة والتبصرة ( ص 219 ـ 220 ) ب (18) و ح 50 ب 11 وانظر : بحار الأنوار ( ج 23 ص 76 ـ 95 ) ورواه في ( الجامع الكافي ) كما في الاعتصام ( 5 : 409 ) وقال : رواه الهادي في الأحكام ( 2 : 466 ) ودرر الأحاديث اليحيوية ( ص 177 ) ورواه المفيد في الإفصاح ( ص 28 ) وعبّر عنه بالمتواتر ، وعبّر عنه الشهيد الثاني بقوله : من مشاهير الأحاديث بين العامّة والخاصّة وقد أوردها العامّة في كتب اُصولهم وفروعهم جاء ذلك في كتاب : حقايق الإيمان ( ص 151 ) .
ورواه من العامة الحاكم في المستدرك على الصحيحين ( 1 : 77 و 117 ) والطبراني في المعجم الكبير ( 10 : 350 ) رقم ( 10687 ) وبلفظ ( بغير إمام ) في ( 19 : 388 ) رقم (910) ومجمع الزوائد ( 5 : 225 ) وقد جمع الحديث بألفاظه المختلفة الشيخ مهدي الفقيه في كتابه ( شناخت إمام ) باللغة الفارسية وهو مطبوع .
(4) عمدة الطالب ( 100 ـ 101 ) وانظر هامشه .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 18 _

  لأنّ الشيخ المفيد قال : ومضى الحسن ( المثنّى ) ولم يدّع الإمامة ، ولا ادّعاها له مدّعٍ (1).
  ولو فرضنا صحّة الدعوة منه ، أو اليه ، فهل مجرّد الدعوة ثمّ الاختفاء والموت يكفي لإسناد منصب الإمامة العظيم إلى شخص ? وهل يقنع العقل بمجرد ذلك لإسناد الإمامة إلى شخص غير الإمام السجاد ( عليه السلام ) ? فكيف يُعرض عن ملاحظة الإنجازات السياسية والدينية الهائلة التي قدّمها الإمام السجاد ( عليه السلام ) طيلة فترة إمامته ( 61 ـ 95 ) والتي سنستعرضها في الفصول القادمة ? .
  وهل تُقاس هذه الجهود بمجرد الدعوة ثم الاختفاء والموت ? وهل مثل تلك الدعوة على قصرها تحقّق المطلوب من روح شرط الخروج ? مع أنّ الإمام السجاد ( عليه السلام ) قد أعلن الدعوة صريحة إلى إمامة نفسه ، وعلى رؤوس الأشهاد ، وعلى مدى أربع وثلاثين عاماً كما سيأتي .
  وأما العامّة : فقد قال الذهبي في ترجمة الإمام السجاد : السيد الإمام ، زين العابدين ، وكان له جلالة عجيبة ، وحقّ له ذلك ، فقد كان أهلاً للإمامة العظمى : لشرفه ، وسؤدده ، وعلمه ، وتالّهه ، وكمال عقله(2) .
  وقال المناوي : زين العابدين ، إمام ، سند ، اشتهرت أياديه ومكارمه ، وطارت بالجوّ في الوجود حمائمه ، كان عظيم القدر ، رحب الساحة والصدر ، رأساً لجسد الرئاسة ، مؤمّلا للإيالة والسياسة (3)وقال الجاحظ : أمّا علي بن الحسين بن علي : فلم أر الخارجي في أمره إلا كالشيعي ولم أرَ الشيعي إلا كالمعتزلي ولم أرَ المعتزلي إلا كالعامي ، ولم أرَ العامي إلا كالخاصيّ ، ولم أجد أحداً يتمارى في تفضيله ويشكّ في تقديمه (4) .
  وقال الجاحظ أيضاً : وأمَا علي بن الحسين ( عليه السلام ) فالناس على اختلاف مذاهبهم مجمعون عليه لايمتري أحد في تدبيره ، ولا يشكّ أحد في تقديمه(5)وقد ترجَمَ له ( عليه السلام ) أعلام العامة فلم يذكروه إلا بالسيادة والشرف ، والتقى والعلم ، والعبادة والفضل ، والحلم والكرم ، والتدبير والحكمة ، وكثير منهم وصفه بالإمامة (6)وهل يشكّ مسلم مؤمن بالكتاب والسنة ، ومزدان بالعقل والعدل ، في تقدّم هذا الإمام على خُلَفاء عصره ، وأولويّته بالإمامة والخلافة والحكم ? الإشارة إلى إمامة السجاد ( عليه السلام ) ولنختم هذا البحث بحديث اتفقت المذاهب الإسلامية الكبيرة على روايته ونقله :

---------------------------
(1) الإرشاد إلى ائمة العباد للمفيد ( ص 197 ) وقد فصل الحديث عنه وقال : كان جليلاً رئيساً فاضلاً ورعاً وكان يلي صدقات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) في وقته ، وله مع الحَجاج خبر رواه المفيد في الإرشاد ص (196) .
(2) سير أعلام النبلاء ( 4 : 398 ).
(3) الكواكب الدريّة ( 2 : 139 ).
(4) عمدة الطالب ( 3 ـ 194 ) عن ( رسالة ) الجاحظ في فضل بني هاشم ، وانظر العلم الشامخ للمقبلي ( ص 10 ) .
(5) رسالة الجاحظ ، ونقله عنه في كشف الغمَة ( 1 : 31 ) .
(6) انظر : طبقات ابن سعد ( 5 : 211 ) المعارف لابن قتيبة ( ص 214 ) حلية الأولياء ( 3 : 133 ) تذكرة الحفاظ ( 1 : 74 ) تهذيب التهذيب ( 7 : 304 ) النجوم الزاهرة ( 1 : 229 ) وغيرها .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 19 _

1 ـ فمن طرق الإمامية ما رواه الشيخ أبو جعفر الصدوق محمّد بن علي ابن بابويه القمّي ، مسنداً ، عن الصادق جعفر بن محمد عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين زين العابدين ? فكأنّي أنظر إلى ولدي عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب يخطر بين الصفوف (1)وروى الصدوق أيضاً ، مسنداً عن عمران بن سليم ، قال : كان الزهري إذا حدّث عن علي بن الحسين ( عليه السلام ) قال : حدّثني زين العابدين علي بن الحسين فقال له سفيان بن عُيَيْنة : ولِمَ تقول له : زين العابدين ? قال : لأنّي سمعت سعيد بن المسيّب ، يحدّث عن ابن عبّاس أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : إذا كان . . . (2) وروى الحديث بلفظه .
  ورواه في العلل أيضاً مسنداً إلى الصادق ( عليه السلام ) موقوفاً عليه (3).
  ومن طرق العامة ما رواه الحافظ ابن عساكر ، بسنده ، عن سفيان بن عُيَيْنَة ، عن أبي الزبير قال : كنّا عند جابر ، فدخل عليه علي بن الحسين ، فقال له جابر : كنت عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فدخل الحسين ، فضمّه إليه وقبّله وأقعده إلى جنبه ، ثم قال : يولد لابني هذا ابن يقال له علي بن الحسين إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من بُطنان العرش : ليقم سيّد العابدين فيقوم هو (4) .
  وروى ابن المديني عن جابر أنه قال للإمام الباقر محمد بن علي ، وهو صغير : رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يسلّم عليك فقيل له : وكيف ذاك ? قال : كنت جالساً عنده ، والحسين في حجره وهو يداعبه ، فقال : يا جابر ، يولد له مولود اسمه عليّ ، إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ : ليقم سيّد العابدين فيقوم ولده ، ثم يولد له ولدُ اسمه محمد ، فإنْ أدركْتَه يا جابر فأقرئه منّي السلام (5) .
  ومن طرق الزيدية : ما رواه السيد الموفق بالله قال : أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد : أخبرنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله : أخبرنا الحسن بن علي بن زكريا : حدثّنا العباس بن بكّار : حدثّنا أبو بكر الهذلي ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول :

---------------------------
(1) أمالي الصدوق ( ص 272 ) نهاية المجلس (53) وعنه في بحار الأنوار ( 46 ص 3 ) .
(2) علل الشرائع ( ص 87 ) وعنه في بحار الأنوار ( 46 ص 23 ) وعوالم العلوم ( ص 17 ).
(3) علل الشرائع ( 1 : 229 ) وعنه بحار الأنوار ( 46 ص 3 ) .
(4) تاريخ دمشق ص 26 الحديث 34 ( من ترجمة الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ) ومختصره لابن منظور ( 17 : 234 ) .
(5) الصواعق المحرقة ( ص 120 ) ولسان الميزان ( 5 : 168 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 20 _

  يُولَد للحسين ابن يُقال له علي ، إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ : ليقم سيّد العابدين (1) .
  ورواه الشهيد المحلّي أنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : ليقم سيّد العابدين فيقوم عليّ بن الحسين (2) أما دلالة الحديث فإنه مع تعدّد طرقه وشواهده ، التي يؤيّد بعضها بعضاً ، فيه الإشارة إلى الإمام السجاد ، من نوع النصّ الخفيّ الذي يلتزم به كثير من الزيديّة على إمامته ، وإلا فدلالته على تشخّصه وفضله وشرفه على أهل عصره ، مما لا يُرتاب فيه .
  وفي بعض النصوص أنه ( عليه السلام ) خير أهل الأرض فقد روي عن الباقر ( عليه السلام ) عن الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنه قال لابنه الحسين لمّا أخذ شَهْربانُوَيْه اُمَ علي بن الحسين : يا أبا عبد الله ، لتلدنَ لك خير أهل الأرض .
  فولد عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) (3) .
   ومن المعلوم أن خير أهل الأرض في عصره لابدّ أن يكون هو الإمام ، لأنه الأفضل .

دعوة الإمام إلى إمامة نفسه :
  ثم إنّ الإمام السجاد ( عليه السلام ) قد دعا إلى إمامة نفسه في كثير من أقواله وتصريحاته ومنها قوله : نحن أبواب الله ، ونحن الصراط المستقيم ، ونحن عيبة علمه ، ونحن تراجمة وحيه ، ونحن أركان توحيده ، ونحن مواضع سرّه . . . (4) ) .
  وغير ذلك من النصوص التي سنذكر بعضها (5)ومهما يكن : فلو التزمنا بإمامة الإمام السجاد ( عليه السلام ) ، كما تقول به الشيعة الإمامية ، وقدماء الزيدية .
  أو إلتزمنا بأهليّته للإمامة ، كما نصَ عليه العامة ، أو قلنا إنه من دعاة الأئمة ، كما يقول به المعاصرون من الزيدية .
  فإن حياة مثله لا يمكن أن تفرّغ من التحرّك السياسي ، الذي عرفنا أنه من مهمات الإمامة بل من صميم معناها .

---------------------------
(1) كتاب الاعتبار و سلوة العارفين ( ص 185 ) .
(2) الحدائق الوردية ( ص 137 ) .
(3) الكافي للكليني ( 1 : 466 ) وإثبات الوصيّة للمسعودي ( ص 145 ) وانظر : محاضرات الراغب الأصفهاني ( 1 : 347 ) ط بيروت وقد نقله في العوالم ( ص 6 ) عن بصائر الدرجات للصفار ( ص 335 355 ) وانظر البحار ( 46 - 19 2 ) .
(4) معاني الأخبار للصدوق ( ص 31 ) .
(5) لاحظ نهاية الفصل الثاني من كتابنا هذا .
ويبدو أنّ البحث عن إثبات إمامة السجاد قد كانَ مُثاراً منذ القرن الرابع فقد قام واحد من كبار علماء الإماميّة وهو العيّاشي السمرقندي محمد بن مسعود السلمي صاحب التفسير المعروف ، بتأليف كتاب باسم إثبات إمامة علي بن الحسين ذكره النجاشي في رجاله ( ص 352 )رقم ( 944 ) وانظر الفهرست للطوسي ( ص 164 ) رقم (605) ولاحظ الفهرست لابن النديم ( ص 325 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 21 _

  وبعد :
  فلو أعرضنا عن كل ذلك ، فإن ما نستعرضه في الفصول القادمة ، تعطينا الأدلة والبراهين الصادقة ، والشواهد العينية البيّنة ، على أنّ الإمام السجاد ( عليه السلام ) ، لا أنّه لم يعتزل السياسة ولم يبتعد عن شؤونها ، فحسب ، بل إنه خطّط لعمله السياسي أدقّ الخطط ، ودخل معمعة السياسة من الأبواب الواسعة ، والخطيرة ، بما حقّق أهداف الإمامة بأحسن شكل .
  وأهم ميزات هذه الخطط أنّها كانت دقيقة حتّى أنّها خفيت على الكثيرين من المؤرّخين والدارسين ، فراحوا ينكرونها وينفونها .
  وأمّا الحكّام والساسة المعاصرون للإمام ، فقد أربكتهم تلك السياسة الدقيقة ، ولم يتمكّنوا من مقاومتها ، ولا الوقوف في وجهها ، فلم يكن منهم إلا مسايرتها ، والتسليم أمامها ، وبالتالي التراجع عن كثير من مواقع السلطة التي بنوا عليها نظام حكمهم ، وأسّسوا عليها أساس ظلمهم وغصبهم للخلافة وتفصيل هذا الإجمال ، تتكفّله الفصول التالية ، بعون الله .

الفَصْلُ الأوَل


أدْوَارُ النِضَالِ في حَيَاةِ الإمام ( عليه السلام ) :
أولاً : في كربلاء .
ثانياً : في الأسر .
ثالثاً : في المدينة .
  إنَا نقرأ ف ي سيرة الإمام السجاد ( عليه السلام ) منذ البداية صفحات من النضال الواضح ، بحيث لا يمكن تجاوزها ، والغضّ عنها بسهولة : فحضوره في كربلاء .
  ومواقفه في خُطَبِهِ في الأسر .
  وتخطيطه عند الوصول إلى المدينة .
  ثلاث محطّات للتأمل في سيرة الإمام السجاد ( عليه السلام ) ، وفي بدايتها بالضبط ، تستدعي التوقّف عندها لأخذ الشواهد العينيّة لمعرفة أبعاد نضاله المستقبلي .
  وإنّي أعدّ هذه البداية مهمّةً جداً للبحث ، إذ أنّها توقفنا على اتجاه السهم السياسي الذي أطلقه الإمام السجاد ( عليه السلام ) ليصيب به هدفه الأوّل والأخير ، والذي امتدّ سيره طول حياته الشريفة .
  ولو تأمّلنا ما في هذه المحطّات من أعمال ، وبظروفها وحوادثها ، نرى أنها لم تَقْصُر في الاعتبار السياسي عن قعقعة السيوف وصليلها ، ولا عن عدْو الخيول وضبحها وصهيلها ، ولا عن وَغى العساكر ولجبها بل تتجاوز في بعض الاعتبارات أثر خروج محدودٍ يؤدّي إلى الشهادة ، في تلك الظروف الحرجة المعقّدة ، التي غطّى فيها التعتيم على الحقائق ، وظلّل الإعلام كلَ الأجواء ، وأصمَ الدجل كلّ الآذان ، وأعمى التزوير كلّ الأبصار ، وكدّر الظلم النور المؤدّي إلى النظر الصائب .
  فلنقف في كلّ نقطة مع أهم ما حُفظ لنا من خلال المصادر ، ولنقرأ تلك الصفحات :

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 22 _

أولاً في كربلاء
  لقد حضر الإمام السجاد عليّ بن الحسين ، في معركة كربلاء ، إلى جنب والده الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، وهذا ما تذكره كلّ المصادر بلا استثناء .
  ويَرد في مصادر الوقعة ، اسم عليّ بن الحسين في بعض مقاطع رحلة الإمام الحسين ( عليه السلام ) في طريقه إلى الشهادة ، وفي بعض الحديث بينه وبين ولده عليّ .   ولم يُحدَد المقصود من عليّ هذا ، هل هو السجاد ( عليه السلام ) أو أخوه علي الشهيد ( عليه السلام ) .
  وقد اشتهر أنّه هو الشهيد ، لكنّ ذلك غير مؤكّد ، فلعلّ الذي ورد ذكره ، هو الإمام السجاد ( عليه السلام ) (1) .
  والدلالات النضالية في هذا الحضور من وجوه :
أوّلاً: إن هناك نصوصاً تاريخية تدلّ على أن الإمام السجاد ( عليه السلام ) قد قاتل يوم عاشوراء وناضل إلى أن جُرِحَ ، وهي :
النصّ الأول : ما جاء في أقدم نص مأثور عن أهل البيت ( عليهم السلام ) في ذكر أسماء مَنْ حضر مع الحسين ( عليه السلام ) ، وذلك في كتاب تسمية مَنْ قُتِلَ (2) مع الحسين ( عليه السلام ) من أهل بيته وإخوته وشيعته الذي جمعه المحدّث الزيدي الفُضَيل بن الزُبير ، الأسدي ، الرسّان ، الكوفي ، من أصحاب الإمامين الباقر والصادق ( عليهما السلام ) (3) . .
  فقد ذكر ما نصّه :
  وكان علي بن الحسين عليلاً ، وارتُثَ ، يومئذٍ ، وقد حَضَرَ بعض القتال ، فدفع اللهُ عنه ، وأخِذَ مع النساء (4).
  ومع وضوح النصّ في قتال الإمام السجاد ( عليه السلام ) في كربلاء فإن كلمة ( ارْتُثَ ) تدل على ذلك ، لأنها تقال لمن حُمِلَ من المعركة ، بعد أنْ قاتل ، واُثخِنَ بالجراح ، فاُخرج من أرض القتال وبه رَمَق ، كما صرّح به اللغويون (5).
النصّ الثاني : ما جاء في مناقب ابن شهرآشوب بعد ذكره مشهد علي بن الحسين المعروف بالأكبر وأن الإمام الحسين ( عليه السلام ) أتى به إلى باب الفسطاط ، أورد هذه العبارة فصارت اُمهُ شهربانويه ولهى تنظر إليه ولا تتكلّم (6) .
  ومن المعلوم أن اُمّ علي الشهيد هي ليلى العامرية أو برّة بنت عروة الثقفي كما يراه ابن شهرآشوب والمعروف أنّ شهر بانويه هي أمّ علي بن الحسين ( عليه السلام ) ، فلابدّ أن يكون قد سقط من عبارة مناقب شهرآشوب ذكر مبارزة علي بن الحسين السجاد ( عليه السلام ) ، وبهذا يكون شاهداً على ما نحن بصدده .

---------------------------
(1) لاحظ شرح الاخبار للقاضي ( 3 : 265 ـ 266 ) والإرشاد للمفيد (253) وانظر السرائر لابن إدريس ( 1 : 655 ) ، ولاحظ تواريخ النبي والآل للتستري ( ص 30 ـ 32 ) . (2) كذا في ما نقل عن هذا الكتاب في مصادره ، لكنّي أظنّ أن الكلمة هي ( قاتَلَ ) لأنّ المذكورين لم يُقتلوا جميعاً ، بل في بعض المذكورين مَنْ اُسر ، ومَنْ فرّ ، ومن قُتِلَ قبل كربلاء، فلاحظ مقدّمتنا للطبعة الثانية لهذا الكتاب ، الذي نقوم بإعداده بعون الله .
(3) نشر هذا الكتاب ، بتحقيقنا ، في مجلة ( تراثنا ) الفصلية التي تصدرها مؤسسة آل البيت ( عليهم السلام ) لإحياء التراث في قم سنة ( 1406 ) وقد ذكرنا سنده وترجمة مؤلّفه بتفصيل وافٍ .
والكتاب مذكور في الأمالي الخميسية للمرشد بالله ( 1 : 170 ـ 173 ) والحدائق الوردية للمحلي ج 1 ص 120 .
(4) تسمية من قتل مع الحسين ( عليه السلام ) ، مجلة ( تراثنا ) العدد الثاني ( ص 150 ) .
(5) لاحظ مادة ( رثث ) من كتب اللغة ، وقد صرحوا بأن الكلمة بالمجهول ، انظر : المغرب للمطرزي ( 1 : 184 ) والقاموس ( 1 : 167 ) ولسان العرب ( 2 : 457 ) .
(6) مناقب آل أبي طالب ( 4 : 118 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 23 _

  ومن المحتمل أنْ تكون العبارة مقدّمة على موضعها في مقتل علي الأصغر الذي ذكره ابن شهرآشوب بعد هذا النصّ المنقول ، لأن ابن شهرآشوب ذكر أن اُمّ علي السجاد هي اُمّ علي الأصغر شهر بانويه ( رضي الله عنها ) (1) .
النصّ الثالث : ما جاء حول مرض الإمام ( عليه السلام ) ، إنّ المصادر تكاد تتّفق على أنّ الإمام السجاد ( عليه السلام ) كان يوم كربلاء ، مريضاً ، أو موعوكاً (2) إلا أنّها لم تحدّد نوعية المرض ولا سببه ، لكنّ ابن شهرآشوب روى عن أحمد بن حنبل قوله : كان سبب مرض زين العابدين ( عليه السلام ) أنّه كان اُلبس درعاً ، ففضُل عنه ، فأخذَ الفُضلة بيده ومزّقها (3) .
  وهذا يُشير إلى أن الإمام إنّما عُرّض للمرض وهو على اُهْبة الاستعداد للحرب أو على أعتابها ، حيث لا يُلبَس الدرعُ إلا حينذاك ، عادة .
  ولا ينافي ذلك قول ابن شهرآشوب : ولم يقتل زين العابدين لأنّ أباه لم يأذن له في الحرب ، كان مريضاً (4) لأنَ مفروض الأدلة السابقة أنّ الإمام زين العابدين قد أصيب بالمرض بعد اشتراكه أوّل مرّة في القتال وبعد أنْ ارتُثّ وجُرح ، فلعلّ عَدمَ الإذن له في أن يُقاتل كان في المرّة الثانية وهو في حال المرض والجراحة .
  ولو فرض كونه مريضاً منذ البداية فالأدلة التي سردْناها تدلّ بوضوح على مشاركته في بعض القتال .
  فمؤشرات الجهاد في سيرة الإمام السجاد ( عليه السلام ) هي :
أوّلاً: حَمْلُه السلاحَ وهو مريض ودخولُه المعركة ، إلى أن يُجرح ، يحتوي على مدلول بُطوليّ كبير ، أكبر من مجرّد حمل السلاح فلو كان حمل السلاح واجباً على الأصِحّاء ، فهو في الإسلام موضوع عن المرضى بنصّ القرآن ، لكن ليس حراماً عليهم ذلك ، إذا وجدوا هِمّة تمكّنهم من أداء دَورٍ فيه .
ثانياً : إنّ وجود علي بن الحسين ( عليه السلام ) ، مع أبيه الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، في أرض كربلاء ، حيث ساحة النضال المستميت ، وميدان التضحية والفداء ، وحيث كان الإمام الحسين ( عليه السلام ) يسمح لكلّ مَنْ حوله وحتّى أولاده وأهل بيته بالانصراف ، ويجعلهم في حلّ ، لهو الدليل على قصد الإمام للمشاركة في ما قام به أبوه .   قال الإمام السجاد ( عليه السلام ) : لمّا جمع الحسين ( عليه السلام ) أصحابه عند قرب المسأ ، دنوتُ لأسمع ما يقول لهم ، وأنا إذْ ذاك مريض ، فسمعتُ أبي يقول : . . . أما بعد ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرَ من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي خيراً . . ألا ، وإنّي قد أذنتُ لكم ، فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذِمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتَخِذوه جَملاً (5) .
  ففي ذلك الظرف ، لا دور إذن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بالمعنى الفقهي ، لأنَ الأخطار المحدقة كانت ملموسةً ، ومتيقّنةً ومتفاقمة للغاية ، تفوق حدّ التحمّل .

---------------------------
(1) مناقب آل أبي طالب ( 4 : 85 ) .
(2) الإرشاد للمفيد ( ص 231 ) شرح الأخبار ( 3 : 250 ) وسير أعلام النبلاء ( 4 : 486 ) .
(3) نقله ابن شهرآشوب عن كتاب ( المقتل ) في مناقب آل أبي طالب ( 3 : 284 ) وفي طبعة ( 4 : 155 ) ونقله في العوالم ( ص 32 ) .
(4) مناقب ابن شهرآشوب ( 122 : 4 ) .
(5) الإرشاد للمفيد ( ص 231 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 24 _

  وقد أدرك ذلك كلّ مَنْ اطّلع على أحداث ذلك العصر ، قبل اتّجاه الإمام الحسين ( عليه السلام ) إلى العراق ، ممّن احتفظ لنا التاريخ بتصريحاتهم ، فكيف بمن رافق الإمام الحسين ( عليه السلام ) في مسيره الطويل من المدينة إلى مكّة والى كربلاء ، ومن أولاده وأهل بيته خاصة ? الذين لا تخفى عليهم جزئيّات الحركة وأبعادها وأصداؤها وما قارنها من زعزعة الجيش الكوفيّ للإمام ، وسمعوا الإمام ( عليه السلام ) يصرّح بالنتائج المهولة والأخطار التي تنتظر حركته ومَن معه حتّى وقت تلك الخطبة مساء يوم التاسع ، أو ليلة عاشوراء ? فلقد عرف مَنْ بقي مع الإمام الحسين ( عليه السلام ) في كربلاء ، بأنّ ما يقوم به الإمام ليس إلا فداءً وتضحية ، لحاجة الإسلام إلى إثارة ، والثورة إلى فتيل ووقود ، واليقظة إلى جرَس ورنين ، والنهضة إلى عماد و سناد ، والقيام إلى قائد ورائد ، والحياة الحرّة الكريمة إلى روح ودم .
  والإمام الحسين ( عليه السلام ) قد تهيّأ ليبذل مهجته في سبيل كلّ هذه الأسباب لتكوين كلّ تلك المسبّبات ولم يكن مثل هذه الحقيقة ليخفى على عليّ بن الحسين السجاد ( عليه السلام ) الذي كان يومذاك في عمر الرجال ، وقد بلغ ثلاثاً وعشرين سنة وكان ملازماً لأبيه الشهيد منذ البداية ، وحتّى النهاية .   فكان حضوره مع أبيه ( عليه السلام ) وحده دليلاً كافياً على روح النضال مع بطولة فذّة ، تمتّع بها اُولئك الشجعان الذين لم ينصرفوا عن الحسين ( عليه السلام ) .
  ثم هو كما تقول تلك الرواية قد شهر السلاح ، وقاتل بالسيف ، حتّى اُثخِنَ بالجراح ، واُخرج من المعركة وقد ارْتُثّ .
  وإذا كانت هذه الرواية بالذات زيديّةً ، فمعنى ذلك تماميّة الحجّة على مَن ينسب الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) إلى اعتزال القيام والسيف والنضال .   ثالثاً : مضافاً إلى أنّ حامل هذه الروح ، قبل كربلاء ، لا يمكن أن يركن إلى الهدوء بعد ما شاهده في كربلاء من تضحيات أبيه وإخوته وأهله وشيعته ، وما جرى عليهم من مصائب والآم ، وما اُريق من تلك الدماء الطاهرة .
   أو يسكت ، ولا يتصدى للثأر لأبيه ، وهو ثار الله ، مع أنه لم يَنْسَهم لحظة من حياته .
  فكيف يستسلم مثله ، ويهدأ ، أو يسالم ويترك دم أبيه وأهله يذهب هَدراً ? إذ لم يبق مَن يطالب بثأر تلك الدماء شخص غيره .
  فإذا كان كما يقول البعض : مصرع الحسين ( عليه السلام ) في كربلاء هو الحدث التاريخي الكبير الذي أدّى إلى بلورة جماعة الشيعة ، وظهورها كفرقة متميّزة ذات مبادىء سياسية وصبغة دينية ( أكثر وضوحاً وتميزاً مما كانت عليه في زمان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقبله .
  وكان لمأساة أثرها في نموّ روح الشيعة وازدياد أنصارها ، وظهرت جماعة الشيعة ، بعد مقتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، كجماعة منظّمة ، تربطها روابط سياسية متينة (1).
  فكيف لا تؤثّر هذه المأساة في ابن الحسين ، وصاحب ثأره ، والوحيد الباقي من ذريته ، والوريث لزعامته بين الشيعة ، ولا تزيد نموّ الروح السياسية عنده ? وكيف تَجْمَعُ هذه المنظمة أفراد الشيعة بروابط سياسية ، ولكن تُبَعدُ علي بن الحسين ( عليه السلام ) عن السياسة ? وكيف تستبعد هذه المنظمة عن التنظيم، وارث صاحب الثورة وصاحب الحقّ المهدور ? أليس في الحكم بذلك تعنت وجَوْر ?

---------------------------
(1) جهاد الشيعة ، للّيثي ( ص 27 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 25 _

ثانياً : في الأسْر
  إنَ البطولة التي أبداها الإمام السجاد ( عليه السلام ) بعد كربلاء ، وهو في أسر الأعدأ ، وفي الكوفة في مجلس أميرها ، وفي الشام في مجلس ملكها ، لا تقل هذه البطولة أهميّةً من الناحية السياسية عن بطولة الميدان ، وعلى الأقلّ : لا يقف تلك المواقف البطولية مَن هالَتْهُ المصارع الدامية في كربلاء ، أو فجعَتْه التضحيات الجسيمة التي قُدّمَت أمامه ، ولا يصدر مثل تلك البطولات ممَن فضَلَ السلامة .
  نعم ، لا يمكن أن يصدر مثل ذلك إلا من صاحب قَلْبٍ جسور ، صلب يتحمّل كلّ الآلام ، ويتصدى لتحقيق كلّ الآمال ، التي من أجلها حضر في ميدان كربلاء مَنْ حضر ، وناضل مَنْ ناضل ، واستشهد مَنْ استشهد ، والآن يقف ليؤدّي دوراً آخر مَنْ بقي حيّاً من أصحاب كربلاء ، ولو في الأسر .
  إنّ الدور الذي أدّاه الإمام السجاد ( عليه السلام ) ، بلسانه الذي أفصح عن الحقّ ببلاغة معجزة ، فأتمَ الحجة على الجميع ، بكل وضوحٍ ، وكشف عن تزوير الحكّام الظالمين ، بكل جلاء ، وأزاح الستار عن فسادهم وجورهم وانحرافهم عن الإسلام .
  إن هذا الدور كان أنفذ على نظام الحكم الفاسد ، من أثر سيف واحد ، يجرّده الإمام في وجه الظلمة ، إذ لم يجد مُعيناً في تلك الظروف الصعبة .
  لكنّه كان الشاهد الوحيد ، الذي حضر معركة كربلاء بجميع مشاهدها ، من بدايتها ، بمقدّماتها وأحداثها وملابساتها وما تعقّبها ، وهو المصدَق الأمين في كل ما يرويه ويحكيه عنها .
  فكان وجوده استمراراً عينيّاً لها ، وناطقاً رسميّاً عنها .
  مع أن وجوده ، وهو أفضل مستودع جامع للعلوم الإلهية بكلّ فروع : العقيدة ، والشريعة ، والأخلاق ، والعرفان ، بل المثال الكامل للإسلام في تصرفاته وسيرته وسنته ، والناطق عن القرآن المفسّر الحيّ لاَياته ، إن وجوده حيّاً كان أنفع للإسلام وأنجع للمسلمين في ذلك الفراغ الهائل ، والجفاف القاتل ، في المجتمع الإسلامي .
  كان وجودُه أقضَ لمضاجع أعداء الإسلام من ألف سيفٍ وسيف ، لأن الإسلام إنّما يحافَظُ عليه ببقاء أفكاره وقيمه ، والأعداء إنّما يستهدفون تلك الأفكار والقيم في محاولاتهم ضدّه ، وإذا كان شخص مثل الإمام موجوداً في الساحة ، فإنه لا ريب أعظم سد أمام محاولات الأعداء .
  وكذلك الأعداء إنما يُبادون بضرب أهدافهم ، واجتثاب بدعهم وفضح أحابيلهم ، والكشف عن دجلهم ، ورفع الأغطية عن نِيّاتهم الشرّيرة تجاه هذا الدين وأهله ، والإفصاح عن مخالفة سيرتهم للحق والعدل .
  وعلى يد الإمام السجاد ( عليه السلام ) يمكن أن يتمّ ذلك بأوثق شكل وأتمّ صورة ، وأعمق تأثير .
  ثمَ ، أليس الجهاد بالكلمة واحداً من أشكال الجهاد ، وإن كان أضعفها ? بل ، إذا انحصر الأمر به فهو الجهاد كلّه بل أفضله ، في مثل مواقف الإمام السجاد ( عليه السلام ) ، كما ورد في الحديث الشريف ، عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر (1) .

---------------------------
(1) الروض النضير ( 5 13 ) وانظر الكنى للدولابي ( 1 78 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 26 _

  ولنصغ إلى الإمام السجاد ( عليه السلام ) في بعض تلك المواقف : فمن كلام له ( عليه السلام ) كان يُعلنه وهو في أسر بني أمية :
  أيّها الناس إنّ كلّ صمتٍ ليس فيه فكر فهو عيّ ، وكل كلامٍ ليس فيه ذكر فهو هباء .   ألا ، وإنَ الله تعالى أكرم أقواماً باَبائهم ، فحفظ الأبناء بالآباء ، لقوله تعالى : ( لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ) ( فأكرمهما ).
  ونحن والله عترة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فأكرمونا لأجل رسول الله ، لأن جدّي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يقول في منبره : احفظوني في عترتي وأهل بيتي ، فمن حفظني حفظه الله ، ومن آذاني فعليه لعنة الله ، ألا ، فلعنة الله على من آذاني فيهم حتّى قالها ثلاث مرات .
  ونحن والله أهل بيت أذهب الله عنّا الرجس والفواحش ما ظهر منها وما بطن . . . (1).
  وبهذه الصراحة ، والقوة ، والبلاغة ، عرّف الإمام السجاد ( عليه السلام ) للمتفرّجين ولمن وراءهم هذا الركب المأسور ، الذي نبزوه بأنَه ركب الخوارج .
  ففضح الدعايات ، وأعلن بذلك أنه رَكْب يتألّف من أهل بيت الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  وأفصح بتلاوة الآيات والأحاديث ، أنه ركب يحمل القرآن والسنّة ، ليعرف المخدوعون أن هذا الركب له ارتباط وثيق بالإسلام من خلال مصدريه الكتاب والسنّة .
  وهو من لسان هذين المصدرين يصبّ اللعنة والنقمة على مَنْ آذى هذا الركب ، من دون أن يُمَكن الأعدأ من التعرّض له ، لأنه ( عليه السلام ) إنّما يروي اللعنة الصادرة من الرسول وعلى لسانه .
  كان هذا الموقف ، حين أخذ الناسَ الوجومُ ، من عظم ما جرى في وقعة كربلاء ، وما حلّ بأهل البيت ( عليه السلام ) من التقتيل والأسر ، وذُهلوا حينما رأوا الحسينَ سبط الرسول وأهله وأصحابه مجزّرين ويرون اليوم ابنَه ، وعيالاته أسرى ، يُساقون في العواصم الإسلامية .
  والأسر في قاموس البشر يُوحي معاني الذلّ والهوان ، والضعف والانكسار هذا ، والناس يفتخرون بالانتماء إلى دين الرسول وسنّته .
  والأنكى من ذلك أنّ الجرائم وقعتْ ولمّا يمضِ على وفاة الرسول جدّ هؤلاء الأسرى نصف قرنٍ من الزمن وموقفه الآخر في مجلس يزيد ، فقد أوضح فيه عن هويّته الشخصية ، فلم يَدَعْ لجاهل عُذراً في الجلوس المريب ، وذلك في المجلس الذي أقامه يزيد ، للاحتفال بنشوة الانتصار ولابدّ أنه جمع فيه الرؤوس والأعيان ، انبرى الإمام السجاد ( عليه السلام ) ، في خطبته البليغة الرائعة ، التي لم يزل يقول فيها : أنا . . . أنا . . . عرّفاً بنفسه ، وذاكراً أمجاد أسلافه حتّى ضَجَ المجلسُ بالبكاء والنحيب حَسَبَ تعبير النص (2) الذي سنُثبته كاملاً :

---------------------------
(1) بلاغة علي بن الحسين ( عليه السلام ) ( ص 95 ) عن المنتخب للطريحي .
(2) مقتل الحسين ( عليه السلام ) ، للخوارزمي ( 2 71 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 27 _

خطبة الإمام في مجلس يزيد :
  قال الخوارزمي : ( وروي ) أنّ يزيد أمر بمنبر خطيب ، ليذكر للناس مساوي الحسين وأبيه علي ( عليهما السلام ) .
  فصعد الخطيب المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وأكثر الوقيعة في عليّ والحسين ، وأطنب في تقريظ معاوية ويزيد .
  فصاحَ به عليّ بن الحسين : ويلكَ أيّها الخاطِبُ اشتريتَ رضا المخلوق بسخط الخالق ? فتبوَأْ مقعدَك من النار .
  ثم قال : يا يزيد ، إئذنْ لي حتّى أصعد هذه الأعواد ، فأتكلّم بكلماتٍ فيهنّ لله رضا ، ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب .
  فأبى يزيد ، فقال الناس : ياأمير المؤمنين ، ائذنْ له ليصعد ، فعلّنا نسمعُ منه شيئاً .
  فقال لهم : إنْ صعدَ المنبر هذا لم ينزل إلا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان ، فقالوا : وما قدر ما يُحسن هذا ? فقال : إنّه من أهل بيتٍ قد زُقّوا العلم زقّاً .
  ولم يزالوا به حتّى أذِنَ له بالصعود .
  فصعد المنبر : فحَمِد الله وأثنى عليه ، ثمّ خطب خطبة أبكى منها العيون ، وأوجل منها القلوب ، فقال فيها :
  أيّها الناس ، اُعطِينا سِتّاً ، وفُضلنا بِسبعٍ :
  اُعطينا العلم ، والحلم ، والسماحة ، والفصاحة ، والشجاعة ، والمحبةَ في قلوب المؤمنين .
  وفُضلنا بأنّ منّا النبيَ المختار محمّداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ومنّا الصدّيق ، ومنّا الطيّار ، ومنّا أسد الله وأسد الرسول ، ومنّا سيّدة نسأ العالمين فاطمة البتول ، ومنّا سبطا هذه الأمة ، وسيّدا شباب أهل الجنّة .
  فمن عرفني فقد عرفني ، ومَنْ لم يعرفني أنبأتُه بحسَبي ونَسَبي :
  أنا إبن مكّة ومنى .
  أنا إبن زَمْزَمَ والصفا .
  أنا إبن مَنْ حَمَل الزكاة (1) بأطراف الردا .
  أنا إبن خير مَن ائتزر وارتدى .
  أنا إبن خير مَن انتعلَ واحتفى . .
  أنا إبن خير مَنْ طافَ وسعى .
  أنا إبن خير مَنْ حجَ ولبَى .
  أنا إبن مَنْ حُمِلَ على البُراق في الهوا .
  أنا إبن من اُسْرِيَ به مِن المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، فسُبحان مَنْ أسرى .

---------------------------
(1) في نقل ( كامل البهائي ) : من حمل الرُكنْ وفسّر بالحَجَرَ الأسود الذي محلّه الركن ، ولذلك ذكر في سيرة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قبل البعثة .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 28 _

  أَنا ابن مَنْ بَلَغَ به جِبرائيل إلى سِدْرة المنتهى .
  أنا ابن مَنْ دَنى فَتَدَلّى فكانَ من ربّه قاب قوسين أو أدنى .
  أنا ابن مَنْ صلّى بملائكة السما .
  أنا ابن مَنْ أوْحى إليه الجليل ما أوحى .
  أنا ابن محمّدٍ المصطفى .
  أنا ابن عليّ المرتضى .
  أنا ابن مَنْ ضَرَبَ خراطيم الخلق حتّى قالوا : لا إله إلا الله .
  أنا ابن مَنْ ضَرَبَ بين يَدَيْ رسول الله بسيفَيْن ، وطَعَنَ رُمحيْنِ ، وهاجَرَ الهِجْرَتَيْنِ ، وبايَعَ البيعَتيْنِ ، وصلّى القبلتَيْنِ ، وقاتلَ ببَدْرٍ وحُنَيْن ، ولم يكفُرْ بالله طَرْفَةَ عَيْن .
  أنا ابن صالح المؤمنين ، ووارث النبيّين ، وقامع الملحدين ، ويَعْسُوب المسلمين ، ونور المجاهدين ، وزين العابدين ، وتاج البكائين ، وأصبر الصابرين ، وأفضل القائمين من آل ياسين ، ورسول ربّ العالمين .
  أنا ابن المؤيّد بجبرائيل ، المنصور بميكائيل .
  أنا ابن المحامي عن حَرَم المسلمين ، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، والمجاهد أعداءه الناصبين ، وأفخر مَنْ مشى من قُريش أجمعين ، وأوّل مَنْ أجاب استجاب لله ، من المؤمنين ، وأقدم السابقين ، وقاصم المعتدين ، ومُبِيْر المشركين ، وسهم مِنْ مَرامي الله على المنافقين ، ولسان حكمة العابدين ، ناصر دين الله ، ووليّ أمر الله ، وبُستان حكمة الله ، وعَيْبة علم الله ، سَمح سخيّ ، بُهلول زكيّ أبطحي رضي مرضي ، مِقْدام هُمام ، صابر صوّام ، مُهَذّب قوّام شجاع قمقام ، قاطع الأصلاب ، ومفرّق الأحزاب ، أربطهم جِناناً ، وأطلقهم عناناً ، وأجرأهم لساناً ، أمضاهم عزيمةً ، وأشدّهم شكيمةً ، أسَد باسل ، وغَيث هاطل ، يطحَنُهم في الحروب إذا ازدَلفت الأسنّة ، وقربت الأعِنّة طَحْنَ الرحى ، ويذرُوهم ذَروَ الريح الهشيم ، لَيْث الحجاز ، صاحب لإعجاز ، وكَبْش العراق ، الإمام بالنصّ والاستحقاق مكّيّ مَدَنيّ ، أبطحي تِهاميّ ، خيفي عَقَبيّ ، بَدْريّ أحُديّ ، شَجَريّ مُهاجريّ ، من العرب سيّدها ، ومن الوغى ليثُها ، وارثُ المَشْعَريْنِ ، وأبو السبطين ، الحسن والحسين ، مَظْهر العجائب ، ومفرّق الكتائب ، والشهاب الثاقب ، والنور العاقب ، أسَد الله الغالب ، مطلُوب كلّ طالب غالب كلّ غالب ، ذاك جدّي عليّ بن أبي طالب .
  أنا ابن فاطمة الزهراء.
  أنا ابن سيّدة النساء.
  أنا ابن الطهر البتول.
  أنا ابن بَضْعة الرسول.
  أنا ابن الحسين القتيل بكربلاء.
  أنا ابن المُرَمّل بالدماء.
  أنا ابن مَنْ بكى عليه الجنّ في الظلماء .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 29 _

  أنا ابن مَنْ ناحتْ عليه الطيور في الهواء . (1)
  قال : ولم يزل يقول : أنا أنا حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب ، وخشيَ يزيد أنْ تكون فتنة ، فأمر المؤذّن أنْ يؤذّنَ ، فقطع عليه الكلام وسكت .
  فلمّا قال المؤذّن الله اكبر قال عليّ بن الحسين :
  كبّرتَ كبيراً لا يُقاس ، ولا يُدْرك بالحَواسّ ، لا شي أكبر من الله .
  فلمّا قال : أشهد أنْ لا إله إلا الله ، قال عليّ :
  شَهَد بها شعري وبَشَري ، ولحمي ودمي ، ومُخّي وعظمي .
  فلمّا قال : شهد أنّ محمّداً رسول الله إلتفتَ عليّ مِن أعلى المنبر إلى يزيد وقال : يا يزيد ، محمّد هذا جدّي أم جدّك ? فإنْ زعمتَ أنّه جدّك فقد كذبتَ .
  وإنْ قلتَ إنّه جدّي ، فَلِمَ قتلتَ عترته ? (2) .
  فأدّى كلام الإمام ( عليه السلام ) إلى أن تتبخّر كل الدعايات المضلّلة التي روّجتها السياسة الأموية ، والتي تركّزت على : أنّ الأسرى هم من الخوارج فبدّل نشوة الانتصار إلى حشرجة الموتى في حلوق المحتفلين .
  وفي التزام الإمام السجاد ( عليه السلام ) بذكر هويّته الشخصية فقط في هذه الخطبة ، حكمة وتدبير سياسيّ واعٍ ، إذْ لم يكن له في مثل هذا المكان والزمان ، أن يتطرّق إلى شي من القضايا الهامّة ، وإلا كان يمنع من الكلام والنطق ، وأمّا الإعلان عن اسمه فهي قضية شخصية ، وهو من أبسط الحقوق التي تُمنح للفرد وإنْ كان في حالة الأسر .
  لكنّ كلام الإمام لم يكن في الحقيقة إلا مليئاً بالتذكير والإيماء ، بل الكناية التي هي أبلغ من التصريح ، بنسبه الشريف ، واتصاله بالإسلام ، وبرسوله الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  وقد ذكَر الإم ام ( عليه السلام) بكل المواقع الجغرافية ، والمواقف الحاسمة والذكريات العظيمة في الإسلام ، وربط نفسه بكلّ ذلك ، فسرد وبِلُغةٍ شخصيّةٍ حوادث تاريخ الإسلام ، معبراً بذلك عن أنّه يحمل هموم ذلك التاريخ كلّه على عاتقه ، وأنّه حامل هذا العِبْ ، بكلّ ما فيه من قدسيّة ، ومع هذا فهو يقفُ أسيراً أمام أهل المجلس .

---------------------------
(1) ما بين القوسين عن الكامل للبهائي .
(2) مقتل الحسين ( 269 ـ 71 ) ونقل عن كتاب ( كامل البهائيّ ) بنص متقارب نقله الحائري في بلاغة علي بن الحسين ( عليه السلام ) ( ص 106 ـ 109 ) ونقل بعده نصّاً آخر للخطبة عن أبي مخنف فليُلاحظ .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 30 _

  وقد فهم الناسُ مغزى هذا الكلام العميق ، فلذلك ضجّوا بالبكاء فإنَ الحكّام الأمويّين إنّما حصلوا على مواقع السلطة من خلال ربط أنفسهم بالإسلام ، فكسبوا لأنفسهم قدسيّة الخلافة .
  وكان لجهل الناس الأثر الكبير في وصول الأمر إلى هذه الحالة ، أن يروا ابن الإسلام أسيراً أمامهم .
  ثمّ إنّ جهل أهل الشام بأهل البيت ، مضافاً إلى حقد الحكّام على أهل البيت عامّة ، وعلى الذين كانوا مع الحسين ( عليه السلام ) في كربلاء خاصة ، كان يدعو إلى الاحتياط ، والحذر من أن ينقضَ يزيد على الأسرى في ما لو أحسَ بخطرهم ، فيُبيدهم .
  فكان ما قام به الإمام من تأطير خطبته بالإطار الشخصي مانعاً من إثارة غضبه وحقده ، لكن لم يَفُتِ الإمام اقتناص الفرصة السانحة لكي يبثّ من خلال التعريف ، بشخصه وهويته ، التنويه بشخصيته وبقضيته وبهمومه ، ولو بالكناية التي كانت حقاً أبلغ من التصريح .
  فلذلك لم يتعرّض الإمام ( عليه السلام ) لذكر مساوي الأمويّين ، ولم يذكر شيئاً من فضائحهم ، بالرغم من توقّع يزيد نفسه لذلك .
  وبذلك نجا من شرّ يزيد ، وبقي ليداوم اتّباع الهدف الذي من أجله قُتِلَ الشهداء بالأمس ، وأصبح هو يقود مسيرة الأحياء ، اليوم ، وغداً . . .
  وموقف آخر : في وسط ذلك الجوّ الخانق ، وفي عاصمة الحاكم المنتصر ، وفي حالة الأسر ، يرفع الإمام صوته ، ليُسمع الأذان التي أصمّها الضوضاء والصخب ، في ما رواه المنهال بن عمرو ، قال : دخلت على عليّ بن الحسين ، فقلتُ : كيف أصبحت ، أصلحك الله ? .
  فقال : ما كنتُ أرى شيخاً من أهل المصر مثلك لا يدري : كيف أصبحنا ? .
  قال : فأمّا إذا لم تدْرِ أو تعلم فأنا اُخبرك : أصبحنا في قومنا بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون ، إذ كانوا ( يذبّحون أبناءهم ) .
  وأصبحنا : شيخُنا وسيّدنا يُتقرّب إلى عدوّنا بشتمه ، وبسبّه ، على المنابر .
  وأصبحت قريش تعدّ (1) : أنّ لها الفضل على العرب ، لأنّ محمّداً منها ، لا يُعَد لها فضل إلا به ، وأصبحت العرب مقرّةً (2) لهم بذلك .
  وأصبحت العرب تعدّ(3) أن لها الفضل على العجم ، لأن محمداً منها ، لا يُعدّ لها فضل إلا به ، وأصبحت العجم مقرّةً (4)فإنْ كانت العرب صدقت أنّ لها الفضل على العجم ، وصدقت قريش أنّ لها الفضل على العرب لأنّ محمّداً منها : إنّ لنا أهل البيت الفضل على قريش ، لأن محمداً منّا .
  فأضحوا يأخذون بحقّنا ، ولا يعرفون لنا حقّاً .

---------------------------
(1) كذا الصواب وكان في المختصر : ( بعد ) .
(2) كذا الصواب وكان في المختصر : ( معيرة ) .
(3) كذا الصواب وكان في المختصر : ( بعد ) .
(4) كذا الصواب وكان في المختصر : ( معيرة ) .