الفرق الإسلامية
  أهم ما حصل من أحداث في العصر العباسي الأول قيام المذاهب الإسلامية وحدوث نزاع بين المسلمين فانقسموا إلى عدة طوائف ، وفرق اختلفت فيما بينها في اكثر أمور الدين.
  والطريق أن الحكم العباسي هو الذي شجع على أحداث المذاهب الإسلامية ، فغذاها ونمّاها ، وحمل الناس بالقوّة والقهر على اعتناقها.
  وما نرجح في ذلك : إبعاد المسلمين عن أئمة أهل البيت الذين يمثلون واقع الدين الإسلامي الصحيح واتجاهاته الثورية في القضاء على الظلم والغبن ، وإنقاذ الناس المقهورين من الجور السياسي والاستبداد الظالم ، وإذا ما رجعنا قليلاً إلى الوراء نجد : العلويين قد اندفعوا في العصر الأموي إلى ساحات الجهاد المقدس لحفظ الدين وصيانة المجتمع من ظلم الأمويين وبطشهم ، لقد حاولوا بتكليف شرعي إعادة المبادئ الكريمة التي ينشدها الإسلام ، ويؤمن بضرورة توفيرها على جميع المواطنين ، وهي تتلخص على الإيمان الكامل بحق الفرد ، ونشر الاستقرار في الربوع الإسلامية ، وبسط العدالة والحرية والمساواة والأخوة بين المسلمين ، وتوفير كل أسباب المعيشة الهانئة والرزق الكريم والأمن على كافة الأراضي الإسلامية.
  هذه المبادئ اعتبرها العلويون القاعدة الأساسية لتقدم المجتمع وتطويره لينطلق في ميدان الحياة الحضارية الحرة الكريمة.
  وفي العصر العباسي أكمل العلويون جهادهم من أجل هذه المبادئ العليا فهبّوا إلى ميادين النضال لأن السكوت على الظالم مساعدة له على ظلمه.
  لذلك واجهوا صعوبات كثيرة ومشاكل معقدة ، فسجنوا في السجون ، ودس لهم السم ، وأريقت دماؤهم ، وارتفعت أجسادهم على أعواد المشانق ، ولم يتخلوا عن مبادئهم المقدسة ونضالهم الشرعي في مقاومة الظلم من سلطة أي كان ، داخلي أم خارجي. فالتف حولهم العدد الغفير من جماهير المؤمنين لأن العلويين حماة هذه الأمة وقادتها الشرعيين وولاة أمرها ، وإنه لا يمكن بأي حال أن تتوفر للمجتمع في ذلك العصر أسباب معيشته ورخائه إلا في ظل حكمهم العادل ، فالتف حولهم الثوار والمتظاهرون وهتفوا بأعلى أصواتهم (الدعوة إلى الرضا من آل محمد).
  وكان لابدّ من قيام ثورة عارمة اندلعت في جميع أنحاء البلاد على الحكم الأموي فأطاحت به ودكت أركانه ، وقامت الدولة العباسية بمؤازرة العلويين الذين كان لهم اليد الطولى في مناصرتها وتثبيت أركانها ، ولما استتب لهم الأمر وتملّكوا زمام الحكم ، عملوا جاهدين على التنكيل بالعلويين وإبادتهم بأبشع الطرق والأساليب.
  وكان المخطط الرهيب الذي أتبعه الحكام العباسيون من السفاح إلى المنصور إلى هارون إلى المأمون إلى الهادي ... كلهم عملوا على القضاء على الشيعة ومن ناصرهم من القوى المعارضة ، والقوى المؤمنة التي تعرف الحق وأهله.
  هذا المخطّط العباسي اعتمد على عدة أمور خلاصتها : أشغال المسلمين بالقضايا العقائدية وتفرقتهم وإبعادهم عن الشؤون السياسية ، من هنا وجدنا النوادي في بغداد ويثرب والبصرة وسائر أنحاء العالم الإسلامي تعج بالمناظرات الكلامية ، والجدل الفلسفي واحتجاج كل فريق على الفريق الآخر لتثبيت نظريته ودحض نظرية الآخرين ، وكل هذه الفرق كانت تدور وتجول حول الإطار العقائدي في الإسلام.
  وقد وجهت الحياة العلمية في العصور العباسية إلى أحداث المذاهب الإسلامية بعيداً عن الحياة السياسية التي يعيشها عامة المسلمين.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 58 _

  ونقطة هامة أخرى اعتمدها المخطط العباسي هي :
  عزل أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عن الحياة السياسية ، والرقابة المشددة عليهم ، ومنع الاتصال بهم ، وابعاد الناس عن الأخذ منهم فيما يعود إلى الأمور العقائدية ومعالم الدين الإسلامي.
  لذلك وجدنا المنصور الدوانيقي يعهد إلى الإمام مالك ، أحد رؤساء المذاهب الأربعة وضع كتاب في الفقه يحمل الناس على العمل به قهراً ، فامتنع مالك أوّل الأمر ، وهو تلميذ الإمام جعفر الصادق ، ثم رضخ لأوامر المنصور بعد الترهيب والترغيب فوضع كتابه المعروف بالموطأ.
  منذ ذلك الوقت بدأت الحكومات العباسية تساند أئمة المذاهب الأربعة ، وتنشر فقههم ، حتى أنها حملت الناس على العمل بهذه المذاهب بعد أن أغدقت عليهم الأموال الطائلة ، وكرمتهم تكريماً عظيماً لإبعاد الناس عن المذهب الجعفري ، مذهب الإمام الصادق ومذهب أئمة أهل البيت المتخذ برمته عن جدهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، المتخذ عن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) الذي هو أول من وضع بذرة التشيع ، هذه البذرة الطيبة المباركة ، ونماها وتعاهدها بالسقي والعناية (1)
  وأول من شجع على انتشار مذهب مالك الرشيد حيث أمر عامله على المدينة بان لا يقطع أمراً دون أن يأخذ رأي مالك ، كما كان يجلس على الأرض لاستماع حديثه تكريماً لمالك وتعظيماً لمذهبه.
  ثم أصدر أوامره بأن لا يهتف أيام الحج إلا مالك ، فأخذ الناس يزدحمون عليه وتوافدت إليه الوفود من سائر الأقاليم لاستماع حديثه وأخذ الأحكام الشرعية منه ، وكان لا يدنو إليه أحد لما أحيط به من التقدير الرسمي.
  فقد اجتمع به غلمان من السود غلاظ شداد يأتمرون بأمره ، وينكلون بمن شاء أن ينكل به.
  لقد علا شأن مالك بما أعطي من السلطة من مكانة مرموقة وعناية بالغة أولتها له الحكومة العباسية كما أولت غيره من أئمة المذاهب الثلاثة الأخرى.
  والغرض من ذلك واضح كل الوضوح وهو إضعاف كيان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) والقضاء على الشيعة الذين كانوا من أقوى الجبهات المعادية للحكم العباسي الظالم.
  لكنهم فشلوا وبقي الشيعة يجاهدون وما زالوا في إعلاء كلمة الحق وصيانة الدين الإسلامي من الانحراف والتزوير.
  قال تعالى : ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (2) .
  ولا يخفى على أحد من المؤرخين وعلماء الحديث والصحابة المؤمنين أن الطائفة الشيعية حملت لواء الإصلاح وثارت في وجه الطغاة والظالمين المستبدين ، وحفل تاريخها بالمآثر الطيّبة والمفاخر الحميدة وخدمة الإسلام مهما كلف الثمن.
  لقد جاهدوا ضد الظالمين لأن السكوت عن الظلم خيانة شرعية ، والسكوت عن الظالم يعني مساعدته على ظلمه فلابد إذن من المقاومة الشرعية.

---------------------------
(1) قال الإمام كاشف الغطاء (قدس الله مثواه) : إن أول من وضع بذرة التشيع في حقل الإسلام هو نفس صاحب الشريعة الإسلامية ـ فوضعت بذرة التشيع مع بذرة الإسلام جنباً إلى جنب وسواء بسواء ، ولم يزل غارسها يتعهدها بالسقي والعناية ، حتى نمت وازدهرت في حياته ثم أثمرت بعد وفاته (أصل الشيعة وأصولها ، ص 87 ـ 88).
(2) سورة الصف ، الآيتين 8 ـ 9.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 59 _

  وأول المقاومين للظلم بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقد كلفه ذلك جهاداً مريراً وحروباً دامية ضد المنحرفين عن الدين القويم أمثال معاوية بن أبي سفيان وأعوانه.
  ثم استلم راية الجهاد في سبيل الله ابنه الإمام الحسين (عليه السلام) ضد يزيد الفاجر العاهر وأعوانه الذين اشتروا الضلالة بالهدى ، واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ، واشتروا الكفر بالإيمان.
  أراد الإمام الحسين (عليه السلام) الخروج من أجل الإصلاح في أمة جده التي ظللها معاوية وتابع بعده ابنه يزيد في الانحراف والظلم والضلال ، فكان لابدّ للإمام المعصوم إلا أن يقوم بالمسؤولية الإلهية فقال (عليه السلام) : (عهد عهده إليّ أبي عن جدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)) وهكذا تابع الأئمة (عليهم السلام) الجهاد في سبيل الله في جميع العصور.

التنكيل بالعلويين مع المنصور
  أصاب العلويون ألواناً من شتى المحن في العهدين الأموي والعباسي ومحنتهم في عهد المنصور كانت من أقسى المحن وأفجعها ، فقد أذاقهم جميع أنواع العنف والجور والعذاب ، فحاو عدة مرات إبادة شبابهم وشيوخهم ، وكان ما حل بهم من التنكيل مع الحكام العباسيين وخاصة المنصور ، أضعاف ما واجهوه أيام الحكم الأموي حتى قيل في ذلك :
يـا  ليت جور بني أمية دام iiلنا      وليت عدل بني العباس في النار
  لقد واجهوا عنف الخطوب وأقسى الرزايا من أجل تحرير المجتمع الإسلامي وإنقاذه من الجور والظلم والاستبداد.
  لم يضعفوا أمام هذا الطاغية وأمام غيره من الحكام الظالمين ، بل اندفعوا بكل فخر واعتزاز إلى ساحات الجهاد ، وناضلوا في سبيل إعلاء كلمة الله حتى استشهدوا أحراراً كراماً مشجعين الأحرار والمناضلين في عصرهم وفي كل عصر على متابعة طريق النضال ، فاتحين لهم أبواب الكفاح ، راسمين لهم طريق الخلاص من حكم الذل والعبودية.
  وسوف نذكر حادثة أليمة من حوادث جسام كثيرة فعلها المنصور مع العلويين.
  لقد زجهم في سجن مظلم لا يعرف فيه الليل من النهار ، حتى باتوا لا يعرفون وقت الصلاة فجزأوا القرآن الكريم خمسة أجزاء فكانوا يصلون الصلاة على فراغ كل واحد منهم لجزئه (1) أمر الطاغية بإحضار محمد بن إبراهيم وكان أية في بهاء وجهه وجماله ولما حضر عند المنصور التفت إليه بسخرية قائلاً : أنت المسمى بالديباج الأصفر ؟ فقال : نعم.

---------------------------
(1) مروج الذهب ، ج 3 ، ص 225.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 60 _

  أما والله لأقتلنك قتلة ما قتلتها أحداً من أهل بيتك.
  ثم أمر باسطوانة مبنية ففرغت ، وأدخل فيها ، فبنيت عليه وهو حي (1) وبقي العلويون في سجن المنصور وهم يعانون أهوالاً من الخطوب والمصائب ، حتى مرضوا ومات أكثرهم ، ثم أمر الطاغية بهدم السجن على من بقي منهم ، فهدم عليهم ، ومات أكثرهم وفيهم عبد الله بن الحسن (2) .
  حفلت هذه المأساة الغريبة والعجيبة بأنواع الرزايا والخطوب ، فقد انتهكت فيها حرمة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) في ذريته وأبنائه ، ولم يراقب المنصور الله فيهم ولم يرع أي حرمة لهم.
  لقد وهبت تلك النفوس الزكية أرواحها لله لتنقذ من شر تلك الطغمة الحاكمة عباد الله ، حكام ظالمون همهم الدنيا والسلطان والجاه والمال ، وفي سبيل ذلك كفروا بجميع القيم الإنسانية ، وتنكّروا لجميع المبادئ الإسلامية.
  هذه المأساة الكبرى أثارت موجات من السخط على بني العباس فتجمهر الأحرار حول أهل البيت متمسكين بعد لهم ومبادئهم بغية إنقاذهم من هذا الوضع المتردي الأليم.
  وقد اندفع الشعراء بعد أحقاب من السنين المريرة بهجاء الحكام العباسيين على جرائمهم النكراء وخاصة الجريمة الأخيرة التي ذهب ضحيتها عبد الله بن الحسن.
  من هؤلاء الشعراء نذكر أبا فراس الحمداني الشاعر العربي الأصيل ، استنكر الجريمة النكراء واندفع قائلاً في قصيدة طويلة بلغت ما يقارب الستين بيتاً نذكر منها :
الـدين  مـخترم ، والحق مهتضم ii،      وفــيء آل رســول الله iiمـقتسم
يـا  لـلرجال ! أمـا لـله منتصف      مـن الـطغاة ؟ أمـا للدين منتقم ii؟!
بـنو عـليّ رعـايا فـي iiديـارهم      والأمـر  تـملكه الـنسوان iiوالخدم!
لـلمتقين ، مـن الـدنيا ، عـواقبها      وإن  تـعجل مـنها الـظالم iiالأثـم
لا  يـطغينّ بـني الـعباس ملكهم !      بـنو عـلي مـواليهم وإن iiزعـموا
أتـفـخرون عـلـيهم ؟ لا iiأبـالكم      حـتـى كـأنّ رسـول الله iiجـدكم
ومـا تـوازن ، يـوماً بينكم iiشرف      ولا  تـساوت بكم ، في موطن ، قدم
ولا لـكم مثلهم ، في المجد ، iiمتصل      ولا لـجـدكـم مـسـعاة iiجـدهـم
ولا لـعـرقكم مـن عـرقهم iiشـبه      ولا  نـفـيلتكم مــن أمـهم iiأمـم
قـام  الـنبي بها ، يوم الغدير ، iiلهم      والله يـشـهد ، والأمـلاك iiوالأمـم
حتى  إذا أصبحت في غير iiموضعها      لـكنهم  سـتروا وجـه الذي iiعلموا
ثـم  ادعـاها بـنو الـعباس iiإرثهم      ومـا  لـهم قَـدَم ، فـيها ، ولا iiقِدَم
بـئس  الجزاء جزيتم في بني iiحسن      أبـوهـم الـعـلم الـهادي iiوأمـهم
لا بـيـعة ردعـتكم عـن iiدمـائهم      ولا  يـمين ، ولا قـربى ، ولا iiذمم
هـلا صفحتم عن الأسرى بلا iiسبب      لـلصافحين  بـبدر عـن أسيركم ii؟
هـلا كـففتم عـن الـديباج iiالسنكم      وعـن بـنات رسـول الله شتمكم ii؟
مـا نـزهت لـرسول الله iiمـهجته      عـن  الـسياط ! فـهلا نزّه الحرم؟
ما نال منهم بنو حرب ، وإن عظمت      تـلـك الـجرائر ، إلا دون iiنـيلكم
كـم غـدرة لكم في الدين واضحة ii!      وكــم  دم لـرسول الله عـندكم ii!
أأنـتم آلـه فـيما تـرون ، iiوفـي      أظـفاركم  ، من بنيه الطاهرين iiدم؟
هـيهات  لا قـربت قربى ولا iiرحم      يـوماً ، إذا أقصت الأخلاق iiوالشيم!
كـانت  مـودة سـلمان لـه iiرحـم      ولم  يكن بين نوح وابنه رحم! (3) ii
ليس  الرشيد كموسى في القياس iiولا      مـأمونكم  كالرضا إن أنصف iiالحكم
الـركن والـبيت والأسـتار iiمنزلهم      وزمزم  ، والصفا ، والحجر iiوالحرم
صـلى  الإلـه عليهم ، أينما iiذكروا      لأنـهم  لـلورى كـهف ، iiومعتصم
  يبدو واضحاً من هذا الشعر الأسى العميق على ما أصاب العلويين من النكبات والرزايا في عهد المنصور وسائر ملوك بني العباس الذين تنكروا للاحسان الذي أسداه إليهم الرسول الأعظم وعلى جدهم العباس فقد قابلوا الإحسان بالاساءة ، والعفو بالعقاب المرير لذرية النبي الشريفة ، وعترته الطاهرة.

---------------------------
(1) الطبري ، ج 9 ، ص 398.
(2) مروج الذهب ، ج 3 ، ص 225.
(3) الديوان ، ص 128 والغدير ، ج 3 ، ص 238.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 61 _

مصادرة أموال العلويين
  لما اعتقل المنصور العلويين ، وأودعهم في السجون المظلمة ، عهد إلى عامله بمصادرة جميع أموالهم وبيع رقيقهم (1)
  كما صادر اموال الإمام الصادق (عليه السلام) ، ولما هلك المنصور يروى أن المهدي أرجعها إلى ابنه الإمام موسى الكاظم (عليه السلام).

وضعهم في الاسطوانات (2)
  بدأ المنصور يفتش على من بقي من العلويين فمن ظفر به جعله في الاسطوانات المجوفة المبنية من الجص والآجر ، حتى ظفر بغلام من ولد الحسن وكان حسن الوجه فسلمه إلى البناء وأمره أن يجعله في جوف اسطوانة ويبني عليه ، فدخلت البناء رقة على هذا الولد الوسيم فترك له في الاسطوانة منفذاً يدخل منها الهواء ، وقال للغلام : لا بأس عليك فاصبر فإني سأخرجك من جوف هذه الاسطوانة عندما يرخى الليل سدوله.
  ولما جن الليل جاء البناء فأخرج العلوي المظلوم ، وقال له : اتق الله في دمي ودم العملة الذين معي ، وغيّب شخصك ، فإني إنما أخرجتك في ظلمة هذه الليلة لأني خفت أن يكون جدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم القيامة خصمي بين يدي الله ، وأكد عليه بأن يواري نفسه فطلب منه الغلام أن يخبر أمه لتطيب نفسها ، ويقل جزعها ، فهرب الغلام ولا يدري بأي أرض أقام ، وجاء البناء إلى دار أم الغلام ليعلمها بخلاص ابنها من قبضة ذلك الطاغية فسمع دوياً كدوي النحل قبل أن يدخل من البكاء فعرف أنها أمه فأسرها بخبر ولدها ، وانصرف عنها (3)

هلاك المنصور
  عهد المنصور بأمره إلى ولده المهدي ، ونصبه ملكاً من بعده وأوصاه بهذه الوصية : ( إني تركت بعض المسيئين من الناس على ثلاثة أصناف ، فقيراً لا يرجو إلا غناك ، وخائفاً لا يرجو إلا أمنك ، ومسجوناً لا يرجو الفرج إلا منك ، فإذا وليت فأذقهم طعم الرفاهية ، لا تمدد لهم كل المد ... وقد جمعت لك من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبلي ، وبنيت لك مدينة لم يكن في الإسلام مثلها ... ) (4) .
  هلك الطاغية الجبار الذي أذاق جميع الناس صنوف الظلم والجور والفقر سنة (158 هـ) وانطوت بذلك صفحة سوداء من حياة الأمة الإسلامية مملوؤة بالاثم والموبقات وكان عمر الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) آنذاك ثلاثين سنة ، مضى خلالها زهرة شبابه في عهد هذا الطاغية مكلوم القلب ، حزين النفس ، كاظم الغيظ حزناً على المسلمين عامة ، وعلى ما لاقاه العلويون خاصة من التنكيل البشع ، والعذاب الأليم ، وسوف نرى صفحة أخرى مع ولده المهدي.

---------------------------
(1) البداية والنهاية ، ج 10 ، ص 81.
(2) بحار الأنوار ، ج 47 ، ص 306 ـ 307.
(3) عيون أخبار الرضا ، ج 1 ، ص 111.
(4) تاريخ اليعقوبي ، ج 3 ، ص 349.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 62 _

في عهد المهدي
  كان المهدي ألين جانباً من أبيه فقد عرف بالسخاء ، وبسط الكف ، وعدم القسوة على الناس عموماً ، لذلك استقبله العالم الإسلامي بمزيد من الفرح والبهجة لما لاقاه من العنف والجور في حكم أبيه المنصور.
  وحينما استقل بالحكم أصدر مرسوماً ملكياً بالعفو عن جميع المساجين والمعتقلين السياسيين ، سوى من كان في عنقه دم أو كان ذا فساد في الأرض ، كما رد جميع الأموال المنقولة والثابتة التي صادرها أبوه من أهلها ظلماً وعدواناً ، ومن هؤلاء كان الإمام موسى (عليه السلام) رد عليه كل ما صادره أبوه المنصور من الإمام الصادق (عليه السلام).
  يقول المؤرخون عن سبب ذلك أنه يعود إلى الوضع العام في البلاد حيث أصبح الملك على جانب عظيم من الطمأنينة والاستقرار.
  وسبب آخر هو ما ظفر به من الثراء العريض ممّا جمعه أبوه المنصور الذي يعده الجاحظ ، من أصحاب الجمع والمنع ومن أبخل البخلاء.
  لكن ممّا يؤسف له أن هذا المال الذي جمعه أبوه بالتقتير والظلم قد أنفقه المهدي على اللهو والمجون والهبات الكبيرة للماجنين والمغنين والعملاء ، دون أن يهتم بالطبقة الضعيفة الفقيرة فكان كل همه إشباع شهواته الشخصية ، والبذخ والترف والمجون.
  أمّا ما ورثه من أبيه وبقي على الخط نفسه : عداؤه للعلويين وشيعتهم ، فقد كان يكرههم كرهاً شديداً ، ورث ذلك من أبيه المنصور الذي كان يعتقد أن لا بقاء له في الحكم إلا بالقضاء على العلويين وشيعتهم وفيما يلي نعرض بعض نزعاته الحاقدة وأعماله الجائرة وما لاقاه الإمام موسى (عليه السلام) في عهده من ظلم وجور وسجن.
  شاع اللهو في عهد المهدي ، وساد المجون ، وانتشر التحلل بين الناس ، فقد ذاع شعر بشار بن برد وتغزله بالنساء حتى ضجّ منه الأشراف والغيارى على الدين.
  دخل على المهدي يزيد بن منصور وطلب منه أن يوقف بشاراً عند حده ، فضيق عليه في بادئ الأمر ثم أطلق سراحه ، وانجرف هو بتيار مكشوف من المجون والدعارة ، ويعد بنظر الجاحظ المؤسس الأول للهو في دولة بني العباس.
  يقول الجاحظ : (إنه احتجب بادئ ذي بدء عن المغنين ثم قال : إنما اللذة في مشاهدة السرور في الدنو ممن سرني ، فأما من وراء وراء فما خيرها ولذتها ؟) وبلغه حسن صوت إبراهيم الموصلي وجودة غنائه فقرّبه إليه ، وأعلى من شأنه (1) وكان مولعاً بشرب الخمر حتى نهاه عن ذلك وزيره يعقوب بن داود قائلاً له : (أبعد الصلاة في المسجد تفعل هذا ؟!).
  فلم يلتفت لنصحه وقد سمع نصيحة بعض الشعراء الماجنين الذين حبذ له الاستمرار في شربها وعدم الاعتناء بقول وزيره قائلاً :
فـدع  عـنك يعقوب بن داود iiجانباً      وأقبل على صهباء طيبة النشر  (2)

---------------------------
(1) الأغاني ، ج 5 ، ص 5.
(2) الفخري ، ص 167.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 63 _

الرشوة والظلم
  انشغل المهدي بلهوه وملذاته عن الرعيّة ، فأخذ عماله الذئاب ينهبون الأموال ويستلبون الثروات ، وانتشرت الرشوة انتشاراً هائلاً عند جميع القائمين على شؤون الدولة.
  كما عمد إلى ظلم الناس والاجحاف بحقوقهم ، فأمر بجباية أسواق بغداد ، وجعل الأجرة عليها (1) .
  كما شدد في الخراج إلى حد لا يطاق ، وإذا ما اشتكى أحد من رعيته المظلومين مستغيثاً يكون مصيره السجن أو القبر (2) .

اهتمامه بالوضاعين
  قرّب المهدي منه طائفة من علماء السوء الذين باعوا ضمائرهم بثمن رخيص ، وفتكوا بالإسلام ، وشوهوا معالمه ، فأخذوا ينمّقون الأباطيل ويلفّقون الأكاذيب في مدح المهدي والثناء عليه ، أمثال : أبي جعفر السندي ، وغياث بن إبراهيم الذي عرف هوى المهدي في الحمام فحدثه عن أبي هريرة أنه قال : (لا سبق إلا في حافراً ونصل ، وزاد فيه أو جناح ...) فأمر له المهدي على حديثه الكاذب بعشرة آلاف درهم ، ولما ولّى عنه جلساؤه قال : (أشهد أنه كذب على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ما قال رسول الله ذلك ، ولكنه أراد أن يتقرّب إليّ...) (3) .
  ومع علمه بكذبه فقد أوصله وأعطاه وبذلك شجع حركة وضع الحديث وهي من أعظم الكوارث التي مني بها الإسلام (4) .

عداؤه للعلويين
  كان المهدي يكن في أعماق نفسه البغض للعلويين وشيعتهم ، وقد ورث هذه البغضاء والكراهية عن أبيه المنصور ، ويعود السبب في ذلك إلى الحق في تولي الحكم ، فالثورة على الحكم الأموي قامت على أكتاف العلويين حماة العدل والحق في الإسلام ، وكانت تحمل طابع التشيع وواقعه الذي اتخذه الثوار شعاراً لهم ، فناضلوا من أجله وانضم العباسيون إلى الدعوة على هذا الأساس.
  روى الطبري قال : دخل المهدي على أبي عون عائداً له ، وطلب منه المهدي أن يعرض عليه حوائجه ليقوم بقضائها لأنه كان من أعز أصحابه وآثارهم عنده ، فقال له أبو عون :
  ـ حاجتي أن ترضى عن ولدي عبد الله ، فقد طالت موجدتك عليه.
  فقال المهدي : ـ يا أبا عبد الله أنه على غير الطريق ، وعلى خلاف رأينا ورأيك ، إنه يسيء القول في الشيخين.
  فقال أبو عون : ـ هو والله يا أمير المؤمنين على الأمر الذي خرجنا عليه ، ودعونا إليه ، فإن كان قد بدا لكم فمرونا بما أحببتم حتى نطيعكم) (5) فالثورة على الحكم الأموي كما يتضح إنما كانت شيعية بجميع أبعادها ، فالمهدي متأكد من ذلك وعموم العباسيين يجزمون أن الثورة قامت من أجل التشيع.
  وشاهد آخر يدل أن الحق في تسلّم الحكم للعلويين وأن العباسيين اختلسوا الحكم من أجل أطماعهم وهو : أن القاسم بن مجاشع بعث بوصيته إلى المهدي ليشهد فيها يقول بالرسالة الوصيّة : (شهد الله أن لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ، إن الدين عند الله الإسلام يشهد بذلك ، ويشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وأن علي بن أبي طالب وصيّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ووارث الإمامة من بعده).
  فلما قرأ المهدي الفقرات الأخيرة من الوصية رماها من يده ولم ينظر في باقيها) (6) .
  لقد آمن بذلك خواص العباسيين لكن طمع العباسيين في تولي السلطة وانحرافهم من أجل أطماعهم أحدث في نفوس حكامهم الطامعين هذا البغض للعلويين.

---------------------------
(1) تاريخ اليعقوبي ، ج 3 ، ص 134.
(2) الجهشياري ، ص 103.
(3) تاريخ بغداد ، ج 2 ، ص 193.
(4) راجع نقد الحديث في علم الرواية وعلم الدراية ، ج 2.
(5) الطبري ، أحداث سنة 169.
(6) الطبري ، ج 6 ، ص 397.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 64 _

المهدي والإمام موسى (عليه السلام)
  في بداية حكمه لم يتعرض المهدي إلى الإمام بمكروه ، وقد اكتفى بوضعه تحت الرقابة المشددة.
  ولما شاع ذكره في الأوساط الإسلامية عامة ، والشيعية خاصة ، ثار غضب المهدي ، وعمد إلى التضييق عليه ، ثم إلى اعتقاله ، لكنه سرعان ما أطلق سراحه لأنه رأى برهاناً إلهياً منعه عن ذلك.
  وذاك البرهان :

إطلاق سراح الإمام (عليه السلام)
  سئم الإمام (عليه السلام) من السجن ، وضاق صدره من طول المدة ، فلجأ إلى الله تعالى في أن يخلصه من هذه المحنة.
  قام في غلس الليل فجدد طهوره وصلّى لربه أربع ركعات واخذ يناجي الله ويدعوه ، فاستجاب الله جلّ جلاله دعاء الإمام (عليه السلام) ، فأخرج من السجن.

عودة اعتقال المهدي للإمام (عليه السلام)
  لما انتشر ذكر الإمام وذاع صيته في جميع الآفاق الإسلامية ، خاف المهدي على كرسيه ولم يتمالك حقده وغيظه ، واعتقد أن ملكه لا يستقر إلا باعتقال الإمام ، فكتب إلى عامله على المدينة يأمره بارسال الإمام إليه فوراً ، ولما وصلت الرسالة وبلغ الإمام الخبر ، تجهز للسفر من وقته ، فسار (عليه السلام) حتى انتهى إلى (زبالة) فاستقبله أبو خالد بحزن ، نظر إليه الإمام نظرة رأفة ورحمة وقال له :
  ـ ما لي أراك منقبضاً ؟!!
  ـ كيف لا أنقبض وأنت سائر إلى هذا الطاغية ولا آمن عليك ، هدأ الإمام من روعه وأخبره أنه لا ضير عليه في سفره هذا.
  ثم انصرف الإمام متوجهاً إلى بغداد ، فلما وصل إليها أمر المهدي باعتقاله وإيداعه السجن ، ونام المهدي تلك الليلة فرأى في منامه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فخاطبه : يا محمد ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ) (1) .
  فنهض المهدي من نومه مذعوراً واستدعى حاجبه الربيع فوراً فلما مثل بين يديه سمع المهدي يردد هذه الآية المباركة ، وأمره بإحضار الإمام موسى ، فلما أقبل إليه عانقه وأجلسه إلى جانبه ثم قال له بعطف غير مألوف منه : (يا أبا الحسن ، إني رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقرأ عليّ الآية المذكورة ، أفتؤمنني أن لا تخرج عليّ أو على أحد من ولدي ؟
  ـ والله ما فعلت ذلك ولا هو من شأني.
  ـ صدقت ، يا ربيع ، أعطه ثلاثة آلاف دينار ورده إلى أهله إلى المدينة ، فقام الربيع فشايعه وأحكم أمره وسرحه في الليل.
  وسارت قافلة الإمام (عليه السلام) تطوي البيداء حتى انتهت إلى (زبالة) وكان اليوم الذي عينه لأبي خالد الذي يترقب قدومه بفارغ الصبر ، فلما قدم (عليه السلام) عليه بادر يلثم يديه والفرح باد عليه فأدرك الإمام سروره وقال له : (إن لهم إليّ عودة لا أتخلص منها) (2) .
  وأشار إلى ما يصنعه له هارون من اعتقاله في سجونه .

---------------------------
(1) سورة محمد ، الآية 22.
(2) البحار ، ج 11 ، ص 252 ونور الأبصار ، ص 136.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 65 _

الإمام الكاظم (عليه السلام) في عهد الهادي
  تولى الهادي الخلافة في أيام شبابها الغض ، وفي إبان قوتها الكاملة ، وثروتها الموفورة ، وقد بويع له وهو في غضارة العمر وريعان الشباب ، فدفعه ذلك إلى التمادي في الغرور والطيش ، ومن مظاهر ذلك أنه كان إذا مشى مشت الشرطة بين يديه بالسيوف المشهورة ، والأعمدة والقسي الموتورة (1) ليظهر بذلك أبهة السلطة ، اتصف بنزعات شريرة ظهرت في سلوكه وفي أعماله.
  ومن هواياته الخاصة اللهو والغناء ، أحب صوت إبراهيم الموصلي وغناه فأطربه ، فوهب إليه ثلاثين ألف دينار ، وهو القائل :
لو عاش لنا الهادي لبنينا حيطان دورنا بالذهب (2)

  وقد بالغ هذا الطاغية المغرور في عدائه للعلويين والتنكيل بهم ، فقطع ما أجراه لهم المهدي من الأرزاق والأعطيات ، وكتب إلى جميع الآفاق في طلبهم ، وحملهم إلى بغداد (3) .
  ومن الكوارث الفظيعة التي حلّت بعترة النبي (صلّى الله عليه وآله) وذريته كارثة (فخ) التي تحدث عنها الإمام الجواد بقوله : (لم يكن لنا بعد الطف مصرع أعظم من فخ).
  لقد اقترف العباسيون في هذه الجريمة أضعاف ما اقترفه الأمويون في مأساة كربلاء ، فرفعوا رؤوس العلويين على الرماح ومعها الأسرى يطاف بها في الأقطار ، وتركوا الجثث الطاهرة ملقاة على الأرض مبالغة منهم في التشفي والانتقام من أهل البيت (عليهم السلام).
  أرسلت رؤوس الأبرار الطاهرين إلى الطاغية الهادي ومعها الأسرى مقيدون بالسلاسل ، وفي أيديهم وأرجلهم الحديد.
  أمر الطاغية بقتل الأسرى فقتلوا وصلبوا على باب الحبس (4) .

تهديد الهادي للإمام موسى (عليه السلام)
  بعد أن أتم الهادي نكبته بالعلويين أخذ يتوعّد الأحياء منهم بالقتل والدمار وعلى رأسهم عميدهم وسيدهم الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) فقال : (والله ما خرج حسين إلا عن أمره ، ولا اتبع إلا محبته لأنه صاحب الوصية في أهل هذا البيت قتلني الله إن أبقيت عليه).
  وأضاف يقول في تهديده : (ولولا ما سمعت من المهدي فيما أخبر به المنصور ما كان به جعفر الصادق (عليه السلام) من الفضل المبرز على أهله في دينه ، وعمله وفضله ، وما بلغني من السفاح فيه من تعريضه وتفضيله ، لنبشت قبره وأحرقته بالنار إحراقاً).

---------------------------
(1) حضارة الإسلام في دار السلام ، ص 84.
(2) الأغاني ، ج 5 ، ص 241 ، ص 6.
(3) اليعقوبي ، ج 3 ، ص 136.
(4) الطبري ، ج 10 ، ص 29.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 66 _

استهزاء الإمام به
  بعد التهديد خف أهل بيت الإمام وأصحابه إليه وأشاروا مجمعين عليه أن يختفي من شرّ هذا الطاغية لينقذ نفسه من ويلاته ، فلم يهتم للأمر لأنه قد استشف من وراء الغيب هلاك هذا الباغي قريباً وتمثل بقول كعب بن مالك :
زعمت سخينة أن ستغلب ربها      ولـيغلبن مغالب الغلاب (1) ii
  وكان ما أراد الإمام بإذن الله سبحانه الذي قصم ظهره قبل أن ينال الإمام بسوء.

دعاء الإمام (عليه السلام) على الهادي
  توجه الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) نحو القبلة ، وأخذ يتضرع إلى الله لينجيه من شرّ هذا الطاغية الحقود.
  ودعا بهذا الدعاء الجليل : (إلهي ، كم من عدوّ انتضى عليّ سيف عداوته ، وشحذ لي ظبة مديته ، وأرهب لي شبا حدّه ، وداف لي قواتل سمومه ، وسدد نحوي صوائب سهامه ، ولم تنم عني عين حراسته ، وأضمر أن يسومني المكروه ، ويجرّعني زعاف مرارته ، فنظرت إلى ضعفي عن احتمال الفوادح ، وعجزي عن الانتصار ممن قصدني بمحاربته ، ووحدتي في كثير من ناواني ، وارصادهم لي فيما لم أعمل فيه فكري في الارصاد لهم بمثله ...) (2) .
  وبعد فراغ الإمام (عليه السلام) من دعائه الشريف التفت إلى أصحابه يهدئ روعهم ، ويفيض عليهم قبساً من علمه المستمد من علم جده الرسول (صلّى الله عليه وآله) قائلاً : ( حرمة هذا القبر وأشار إلى قبر النبي (صلّى الله عليه وآله) قد مات الهادي من يومه هذا ، والله إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ... ).

هلاك الطاغية الهادي
  استجاب الله سبحانه وتعالى دعاء وليه العبد الصالح فأهلك عدوه الطاغية الجبار ، وأراح العباد والبلاد من شره ، وروت أكثر المصادر عن سبب وفاته فقالوا : إن أمه الخيزران غضبت عليه لأنه قطع نفوذها لقصة مشهورة ، وأنها خافت على ولدها هارون من شرّه ، فأوعزت إلى جواريها بخنقه ، فعمدت الجواري إلى قتله وهو نائم (3)
  وبذلك انطوت صفحة هذا الطاغية ، ولم تطل خلافته فقد كانت سنة وبضعة أشهر؛ لكنها كانت ثقيلة على المسلمين الذين لاقوا خلالها أصعب المحن ، وهل آلم من مشهد رؤوس أبناء النبي (صلّى الله عليه وآله) يطاف بها في الأقطار ، وأسراهم يقتلون ويصلبون ، لم ترع فيهم لا حرمة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ولا حرمة الإسلام ، دين المحبة والعدل والتسامح !! كل هذه الأحداث الجسام من المهدي إلى المنصور إلى الهادي إلى الرشيد رآها كلها الإمام موسى بن جعفر بعينه ، وشاهدها بنفسه ، وذاق ويلاتها ، ورافق مآسيها ، لقد رأى الحق مضاعاً ، والعدل مجافى والظلم مسيطراً ، والأحرار في القبور وفي غياهب السجون.
  عاش في غضون صباه وفي ريعان عمره محنة المجتمع الإسلامي وشقاءه فرأى الأدوار الرهيبة التي مرّت به فلم ينتقل من جور الأمويين وظلمهم حتى وقع تحت وطأة الحكم العباسي ، فأخذ يعاني التعسف والجور والاستبداد ، وأخذت السلطة العباسية تمعن في نهب ثروات المسلمين وإفقارهم وصرفها على المجون والدعارة كما كان الحال أيام الحكم الأموي ، ومن الطبيعي أن يكون لكل ذلك اثر كبير في حياة الإمام الكاظم (عليه السلام) المشحونة بالأسى والحزن.
  وقد أُلام لأنني استرسلت في الحديث عن عصر الإمام (عليه السلام) والسبب في ذلك يعود لما لهذه الأحداث الكبيرة والمؤلمة من أثر في حياة الإمام (عليه السلام) لكنه لم يلن له جانب ، ولا تهاون مرّة واحدة ، ولم يضعف أمام هول كل هذه الجرائم ، بل دافع بكل ما أعطاه الله من قوة ، وكظم غيظه ، وجاهد صابراً مثابراً مطالباً بحق المسلمين المحرومين ، ومناصراً للحق من أجل صيانة الدين والمحافظة على حقوق الأمة الإسلامية.

---------------------------
(1) كعب بن مالك بن أبي كعب الخزرجي شاعر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأحد السبعين الذين بايعوه بالعقبة ، وشهد المشاهد كلها سوى واقعة بدر وهو القائل :
وببئر بدر إذ يرد وجوههم      جبريل تحت لوائنا ومحمد
وقد توفي في خلافة علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعد أن كف بصره ، معجم الشعراء ، ص 342.
(2) يعرف هذا الدعاء بدعاء الجوشن الصغير ذكر في مهج الدعوات ، ص 220 ، وفي مفاتيح الجنان وذكره ابن شهر اشوب في المناقب.
(3) الطبري ، ج 10 ، ص 33 والجهشياري ، ص 175 واليعقوبي ، ج 3 ، ص 138.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 67 _

الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) وهارون
  لابدّ لنا من الحديث عن الأسباب التي دعت هارون الرشيد لسجن الإمام موسى (عليه السلام) وأظن أن القراء يهمهم الاطلاع على هذه الأسباب ، والتعرّف على دور محنته الكبرى أيام اضطهاده في سجن الطاغية هارون.
  1 ـ حقد هارون الموروث
  كان الحقد من الصفات الرئيسية التي تميّز بها هارون ، فهو لم يرق له أن يسمع الناس أن يتحدثوا عن أي شخصية تتمتع بمكانة عليا في مجتمعه ، محاولاً تزهيد الناس واحتكار الذكر الحسن لنفسه ، وهذا يدل على منتهى الأنانية الحاقدة ، ومنتهى الضعف في الشخصية القلقة.
  حسد الرشيد البرامكة وحقد عليهم لما ذاع صيتهم ، وتحدّث الناس عن مكارمهم حتى أنزل بهم أشد العقاب وأزال وجودهم.
  وحقد على الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) لما يتحلى به من شخصية فذّة لامعة بعد أن ذاع صيته العطر بين الناس ، وتناقلوا فضائله ، وتحدّثوا عن علمه الغزير ، ومواهبه العالية.
  وذهب جمهور غفير من المسلمين إلى الاعتقاد بإمامته وأنه أحق بالخلافة من أي شخص آخر في عصره.
  وكان يذهب إلى فكرة الإمامة كبار المسؤولين في دولة هارون مثل : علي بن يقطين ، وابن الأشعث ، وهند بن الحجاج وأبو يوسف محمد بن الحسن وغيرهم من قادة الفكر الإسلامي ، والرشيد نفسه يؤمن بأن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) هو أولى منه بهذا المنصب الهام في الأمة الإسلامية كما أدلى بذلك لابنه المأمون.
  لم يرقَ لهارون أن يرى في المجتمع من هو أفضل منه ، وأن الجماهير وسائر الأوساط الشعبية والخاصة تؤمن أيضا هو أولى بالخلافة منه ، وإن الإمام يفوقه علماً وفضلاً وحكمة وثقة ، وإن المسلمين قد أجمعوا على تعظيمه ، فتناقلوا فضائله وعلومه ، وتدفقوا على بابه من أجل الاستفتاء في الأمور الدينية.
  لذلك كله حقد على الإمام وارتكب تلك الجريمة المروعة حيث أودعه في ظلمات السجون ، وغيّبه عن جماهيره وشيعته ، وحرم الأمة الإسلامية من الاستفادة من غزير علومه ، ونبل نصائحه ، وجميل توجيهاته.
  2 ـ حرص هارون على المُلك
  كان هارون يضحي في سبيل ملكه جميع القيم والمقدسات ، وقد عبر عن مدى حرصه على سلطته بكلمته المعروفة التي تناقلتها الأجيال وهي : (لو نازعني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لأخذت الذي فيه عيناه).
  أجل! فكيف يخلي عن سراح الإمام ، وكيف تطيب نفسه وقد رأى الناس أجمعوا على حب الإمام وتقديره واحترامه ؟
  كان هارون يخرج متنكراً إلى العامة ليقف على اتجاهاتهم ورغباتهم فلا يسمع إلا الذكر العاطر والثناء الجميل على الإمام ، وحب الناس له ، ورغبتهم في أن يتولّى شؤونهم ، ممّا دفع به على ارتكاب جريمته وقتله.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 68 _

  3 ـ الوشاية بالإمام (عليه السلام)
  من الذين بلي بهم الإسلام جماعة من الأوغاد والمتزلفين ، باعوا ضمائرهم فعمدوا إلى السعي بالإمام (عليه السلام) والوشاية به عند الطاغية هارون ليتزلّفوا إليه بذلك.
  وقد بقي منهم نماذج في جميع مراحل التاريخ.
  ـ من هؤلاء من أبلغ هارون بأن الإمام تجبى له الأموال الطائلة من شتّى الأقطار الإسلامية ، واشترى ضيعة تسمى (اليسرية) بثلاثين ألف دينار ، فأثار ذلك كوامن الحقد عند هارون.
  وسياسته كانت تجاه العلويين تقضي بفقرهم ، ووضع الحصار الاقتصادي عليهم.
  وهذه الوشاية كانت من جملة الأسباب التي دعت إلى سجن الإمام (عليه السلام) (1)
  ـ وفريق آخر من هؤلاء الأشرار سعوا بالإمام إلى هارون فقالوا له : إن الإمام يطالب بالخلافة ، ويكتب إلى سائر الأقطار الإسلامية يدعوهم إلى نفسه ، ويحفّزهم ضد الدولة العباسية وكان في طليعة هؤلاء الوشاة يحيى البرمكي ، هؤلاء أثاروا كوامن الحقد على الإمام.
  ـ ومن الأسباب التي زادت في حقد هارون على الإمام وسببت في اعتقاله احتجاجه (عليه السلام) عليه بأنه أولى بالنبي العظيم (صلّى الله عليه وآله) من جميع المسلمين ، فهو أحد أسباطه ووريثه ، وإنه أحق بالخلافة من غيره وقد جرى احتجاجه (عليه السلام) معه في مرقد النبي (صلّى الله عليه وآله).
  أقبل هارون بوجهه على الضريح المقدّس وسلّم على النبي قائلاً : (السلام عليك يا ابن العم) وقد اعتز بك على من سواه ، وافتخر على غيره برحمه الماسّة من النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وإنما نال الخلافة لقربه من الرسول (صلّى الله عليه وآله).
  وكان الإمام عند ذلك حاضراً فسلّم على النبي (صلّى الله عليه وآله) قائلاً : (السلام عليك يا أبتِ) ، ففقد الرشيد صوابه ، واستولت عليه موجات من الاستياء ، فاندفع هارون قائلاً بنبرات تقطر غضباً : (لما قلت إنك أقرب إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) منّا ؟؟).
  فأجابه (عليه السلام) بجواب سديد لم يتمكن الرشيد من الرد عليه ، سأله الإمام : (لو بعث الرسول (صلّى الله عليه وآله) حياً وخطب منك كريمتك هل كنت تجيبه إلى ذلك ؟.
  فقال هارون : سبحان الله!! وكنت أفتخر بذلك على العرب والعجم.
  فقال الإمام (عليه السلام) مبيناً له الوجه في قربه من النبي (صلّى الله عليه وآله) قائلاً : (لكنه لا يخطب مني ولا أزوجه لأنه ولدنا ولم يلدكم فلذلك نحن أقرب إليه منكم) ثم زاد قائلاً (عليه السلام) : (هل يجوز للرسول (صلّى الله عليه وآله) أن يدخل على حرمك وهنّ مكشفات ؟؟).
  فقال هارون : لا.
  قال الإمام (عليه السلام) لكن له أن يدخل على حرمي ويجوز له ذلك ولذلك نحن أقرب إليه منكم) (2) .
  وعندها ظهر عجز هارون فقال له : (لله درّك إن العلم شجرة نبتت في صدوركم فكان لكم ثمرها ، ولغيركم الأوراق).
  واندفع هارون بعدما أعياه الدليل إلى المنطق وأمر باعتقال الإمام (عليه السلام) وزجّه في السجن (3)

---------------------------
(1) الفصول المهمة ، ص 252.
(2) أخبار الدول ، ص 113 ووفيات الأعيان ، ج 1 ، ص 394 والاتحاف بحب الأشراف ، ص 55.
(3) تذكرة الخواص ، 359 ، طبعاً هذا منطق الظالمين الطامعين.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 69 _

  4 ـ صلابة موقف الإمام (عليه السلام)
  كان موقف الإمام (عليه السلام) من الطاغية هارون موقفاً واضحاً كل الوضوح ، تمثلت فيه صلابة العدل ، وقوة الحق ، والدفع عن المظلومين ، والوقوف إلى جانبهم في كل شؤونهم وشجونهم ، فقد أعلن لشيعته أن التعاون مع السلطة الحاكمة حرام ولا يجوز بأي وجه من الوجوه.
  وشاعت في الأوساط الإسلامية فتوى الإمام بحرمة الولاية من قبل هارون ، وحرمة التعاون مع الحكام الظالمين فأوغر ذلك قلب هارون وحقد على الإمام حقداً بعيد الحدود.
  والإمام (عليه السلام) كما يعلم الجميع لا يعرف المصانعة والتسامح مع الحق ، ولا يداري فيما يعود الإساءة إلى مصالح الأمة الإسلامية ، فموقفه واضحاً صريحاً ، لا لبس فيه.
  يروى أنه دخل على هارون في بعض قصوره الأنيقة الفخمة التي لم يرَ مثلها في بغداد ، فسأله هارون بعد أن أسكرته نشوة الحكم قائلاً : ما هذه الدار ؟
  فأجابه الإمام (عليه السلام) غير مهتم بسلطانه وجبروته : هذه الدار دار الفاسقين ، قال تعالى : ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ) (1) .
  لما سمع هارون هذا الكلام الثقيل على روحه أصابته رعدة عارمة واستولت عليه موجة من الاستياء ، فقال للإمام :
  ـ دار مَن هي ؟
  ـ هي لشيعتنا فترة ، ولغيرهم فتنة.
  ـ ما بال صاحب الدار لا يأخذها ؟
  ـ أخذت منه عامرة ولا يأخذها إلا معمورة.
  ـ أين شيعتك ؟
  ـ فتلا عليه الإمام (عليه السلام) قوله تعالى : ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ) (2) .
  فطفح إناء الغضب عند هارون وصاح غاضباً :
  ـ أنحن كفار ؟!! فقال الإمام : لا ، ولكن كما قال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) (3) .
  فغضب هارون وأغلظ في كلامه على الإمام (4) .
  هكذا كان موقف الإمام (عليه السلام) مع هارون كموقف أبيه وجده (عليهم السلام) لا لين فيه ولا هوادة أمام الحق ، فالغاصب لمنصب الخلافة هو مختلس للسلطة والحكم ، ويجب أن يحاسب ويطالب بحقوق الأمة الإسلامية وكما قال سيد الشهداء : (ما خرجت أشراً ولا بطراً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي).

الإمام الكاظم دائرة المعارف
رسالته في العقل

  قبل الحديث عن رسالة الإمام موسى (عليه السلام) في العقل التي تعد ثروة فكرية عظيمة ، لابدّ لنا من الحديث عن منهج أهل البيت (عليهم السلام) في العقل.
  لأهل البيت (عليهم السلام) منهج علمي خاص لا يحيدون عنه ، به يفسرون الأمور الدينية ، وبه يقيسون المبادئ والآراء والمعتقدات والفلسفات وهو العقل السليم.
  بالعقل السليم يستدل على غيره ولا يستدل بغيره عليه ، ولأهل البيت كلام كثير بهذا الموضوع ذكره الكليني في أول أصول الكافي منه : (إن الله جعل العقل دليلاً على معرفته ... ومن كان عاقلاً كان له دين ... أعلم الناس بأمر الله أحسنهم عقلاً ... العقل دليل المؤمن).
  وجاء في نهج البلاغة لأمير المؤمنين : (أغنى الغنى العقل).
  معنى هذا أن العقل هو المبدأ الأول لكل حجة ودليل ، واليه تنتهي طرق العلم والمعرفة بكل شيء وكل حكم.
  والعقل هو القوة المبدعة التي منحها الله عزّ وجلّ إلى الإنسان وميّزه به على الحيوان الأبكم ، وشرّفه على بقية الموجودات ، واستطاع به أن يستخدم الكائنات ، ويكشف أسرارها ، وبالعقل جعله خليفة في الأرض ، ينظّم الحياة عليها ويعمرها.
  وقد انتهى الإنسان بفضل عقله إلى غزو الفضاء والكواكب ، وانطلق انطلاقة رائعة إلى اكتشافات مذهلة ، وسيصل في مستقبله القريب أو البعيد إلى ما هو أعمق وأشمل من ذلك.
  إن كل حكم سواء أكان مصدره الوحي أم الحس والتجربة دليله العقل حيث لا وزن للسمع والبصر بلا عقل ، ولا سبيل إلى العلم بمصدر الوحي إلا العقل ودلالته ، وبصورة أوضح نحن نأخذ بحكم الوحي والشرع بأمر من العقل ، أما حكم العقل فنأخذه ونعمل به ، وإن لم ينص عليه الوحي والشرع ، والخلاصة أن أبعد الناس عن الدين من يظن أن الدين بعيد عن العقل ، وإن ما يقصد إليه هو العقل السليم.

---------------------------
(1) سورة الأعراف ، الآية 146.
(2) سورة البينة ، الآية 1.
(3) سورة إبراهيم ، الآية 28.
(4) البحار ، ج 11 ، ص 279.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 70 _

معنى العقل السليم
  العاقل في اصطلاح القرآن الكريم وعند الناس هو الذي يضع الشيء في مكانه ويملك إرادة قوية فيحبس نفسه عما يشين بها ولا يستجيب لهواها إن يكُ مخالفاً للعقل وحكمه ، قال تعالى : ( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ... ) (1) وقال عزّ وجلّ : ( يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ... ) (2) .
  وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) (3) .
  وقال سبحانه وتعالى : ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) (4) .
  يتضح من هذه الآيات الكريمات أن العاقل هو الذي ينقاد إلى حكم العقل ، ويؤثره على هواه ، وعليه يكون المراد بالعقل السليم :
  الإدراك النابع من العقل بالذات ، العقل المستنير بالمعرفة والحق والإيمان ، وليس من الجهل والتعصب والأهواء الشخصية!!
  وما نراه أن الرجل الواقعي الواعي لا يجزم بالفكرة الخاطفة العابرة ، ولا ينطلق مع رغبته وإرادته قبل أن يتدبر ويتأمل ، بل يتريّث ويملك نفسه ويبحث ، حتى يهتدي إلى الرأي الناضج الأصيل ، على العكس من الرجل العاطفي الذي يبتّ في الأمور برغبته وهواه قبل أن يفكر ملياً ، وبتعبير أدق : يصدّق قبل أن يتصوّر.
  وسئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن العقل فقال : (ما عبد به الرحمن ، واكتسب به الجنان. قيل له : فالذي كان في معاوية ؟
  فقال : تلك الشيطنة وهي شبيهة بالعقل ، وليست بالعقل).
  ويعني بقوله (عليه السلام) أن العقل لا يقود إلى الحرام كما يفعل الشيطان ، والله سبحانه وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه حيث قال : ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ ) (5) .
  هذه الآية تعد من أوضح الآيات التي جاءت في العقول السليمة ، والإمام (عليه السلام) استدل بهذه الآية الكريمة على تقديم أهل العقول السليمة على غيرهم لأن الله قد بشّرهم بالهداية والنجاح ، وقد تضمنت الآية التي استشهد بها (عليه السلام) جملة من الفوائد منها :
  1 ـ وجوب الاستدلال.
  2 ـ حدوث الهداية.
  1 ـ إذا وقف الإنسان على جملة من الأمور فيها الصحيح والفاسد ، وكان في الصحيح هدايته وفي السقيم غوايته فإنّه يتحتم عليه أن يميز بينهما ليعرف الصحيح منها فيتبعه ، والسقيم فيبتعد عنه ، ومن الطبيعي أن ذلك لا يحصل إلا بإقامة الدليل والحجة ، وبهذا يستدل على وجوب النظر والاستدلال في مثل ذلك.
  2 ـ كما دلّت الآية على الهداية ، فمن المعلوم أن كل عارض لابدّ له من موجد كما لابدّ له من قابل ، أما الموجد للهداية فهو الله تعالى ولذلك نسبها إليه بقوله : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ ) ، وأما القابلون لها كلهم أهل العقول المستقيمة وإلى ذلك أشار بقوله سبحانه : ( وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ ).
  ومن المعلوم أن الإنسان يقبل الهداية من جهة عقله لا من جهة جسمه وأعضائه ، فلو لم يكن كامل العقل لامتنع عليه حصول المعرفة والفهم كما هو ظاهر.
  قال الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) مخاطباً هشام بن الحكم : يا هشام : إن الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول ، ونصر النبيين بالبيان ، ودلّهم على ربوبيته بالأدلة فقال سبحانه : ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (6) .
  يتوضّح من حديث الإمام هذا أن الله أكمل نفوس أنبيائه بالعقول الفاضلة ليكونوا حججاً على عباده ، وهداة لهم إلى الطريق السليم لينجوا من مهالك الدنيا ومزالقها ، ولو لم يمنحهم العقل لما صلحوا لقيادة الأمم وهدايتها ، لأن الناقص لا يكون مكملاً لغيره ، وفاقد الشيء لا يعطيه.

---------------------------
(1) سورة المؤمنون ، الآية 71.
(2) سورة ص ، الآية 51.
(3) سورة النساء ، الآية 135.
(4) سورة النازعات ، الآيتان 40 ـ 41.
(5) سورة الزمر ، الآيتان 17 ـ 18.
(6) سورة البقرة ، الآيتان 163 ـ 164.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 71 _

كيف نصر الله أنبيائه ؟
  الله عزّ وجلّ نصر أنبياءه بآيات الصدق ، ودلّهم على ربوبيته ببيان الحق ، وعلمهم على معرفته وتوحيده بأدلة حماسة تشهد على وجوده ، فلاسفة ، إن المعلول يدل على العلة ، والأثر يدلّ على المؤثّر.
  وقد استدل الإمام الكاظم (عليه السلام) على فضل الله بالآيات الكريمة ، وذلك في حديثه الذهبي هذا الذي يعتبر من أهم الثروات الفكرية التي أثرت عنه.
  وقد شرحه شرحاً فلسفياً الشيخ المتأله الآخوند ملا صدرا اقتبسنا بعضه.
  قال (عليه السلام) من خلال هذه الآية الكريمة:
  1 ـ ( خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ ) البقرة الآية 164
  من أعظم آيات الله خلقه للسماوات التي زيّنها بالكواكب السابحة في الفضاء ، وسيرها في مداراتها ، متباعداً بعضها عن بعض حسب قواعد الجاذبية ، وهي مسخّرة في حركاتها وانجذابها ، وجذبها بأمر الله تعالى ، فبعضها أكبر من الأرض بعدة ملايين ، وهي تسير في أفلاكها لا يصطدم بعضها ببعض ، آية ظاهرة تنادي بوجود الله جلّت قدرته.
  جاء في تفسير المنار للشيخ محمد عبده ، ج 2 ، ص 60.
  (تتألف هذه الأجرام السماوية من طوائف ، لكل طائفة منها نظام كامل محكم ، ولا يبطل نظام بعضها نظام الآخر ، لأن للمجموع نظاماً عاماً واحداً يدل على أنه صادر عن إله واحد لا شريك له في خلقه وتقديره وحكمته وتدبيره ، وأقرب تلك الطوائف إلينا ما يسمونه النظام الشمسي نسبة إلى شمسنا هذه التي تفيض أنوارها على أرضنا فتكون سبباً للحياة النباتية والحيوانية.
  والكواكب التابعة لهذه الشمس مختلفة في المقادير والأبعاد.
  وقد استقر كل منها في مداره ، وحفظت النسبة بينه وبين الآخر بنسبة إلهية.
  ولولا هذا النظام لانفلتت هذه الكواكب السابحة في أفلاكها فصدم بعضها بعضاً ، وهلكت العوالم بذلك.
  فهذا النظام آية على الرحمة الإلهية كما أنه آية على الوحدانية ، يقول العلامة جون وليام كوتس : (إن ما اكتشفه العلم الحديث من النجوم هو بمقدار من الكثرة بحيث لو كنا نعدّ النجوم كلها بسرعة 1500 نجماً في الدقيقة لاستغرق عدنا 700 سنة ، أما نسبة الأرض إليها فهي أقل كثيراً من نقطة على حرف في مكتبة تضم نصف مليون من الكتب من الحجم المتوسط (1) وتابع قائلاً : (إن هذا العالم الذي نعيش فيه قد بلغ من الإتقان والتعقيد درجة تجعل من المحال أن يكون قد نشأ بمحض المصادفة.
  إنه مليء بالروائع والأمور المعقدة التي تحتاج إلى مدبّر ، والتي لا يمكن نسبتها إلى قدر أعمى ، ولا شك أن العلوم قد ساعدتنا على زيادة وفهم وتقدير ظواهر هذا الكون وهي بذلك تزيد من معرفتنا بالله ومن إيماننا بوجوده) (2) .
  ممّا لا شك فيه أن كل ذلك لم يكن وليد الصدفة إذ كيف يمكن أن تفسر هذه العمليات المعقّدة ، وكيف نستطيع أن نفسّر هذا الانتظام في ظواهر الكون ، والعلاقات السببية ، والتكامل والتوافق والتوازن التي تنتظم بسائر الظواهر ، وتمتد آثارها من عصر إلى عصر ؟ وكيف يعمل هذا الكون من دون أن يكون له خالق مدبّر ، هو الذي خلقه وأبدعه ودبّر سائر أموره ؟؟

---------------------------
(1) الله يتجلى في عصر العلم ، ص 48.
(2) نفسه ، ص 48.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 72 _

  2 ـ الأرض
  ومن عجائب خلق الله في خلقه هذا الكوكب الذي نعيش عليه ، فقد جعله تعالى يدور حول محوره في كل 24 ساعة مرة واحدة ، وسرعة حركته ألف ميل في الساعة ولو كان يدور حول محوره بسرعة مائة ميل في الساعة لكان طول الليل عشر أمثال ما هو عليه الآن ، وكذا طول النهار ، وكانت الشمس محرقة في الصيف لجميع النبات ، وفي الليالي الباردة كان يتجمد ما عليها من نبات وحيوان ، كما أنها لو اقتربت الشمس من الأرض أكثر ممّا عليه الآن لازدادت الأشعة التي تصل إليها بدرجة تؤدي إلى امتناع الحياة عليها ، ولو أن الأرض كانت صغيرة كالقمر لعجزت عن احتفاظها بالغلاف الجوي والمائي اللذين يحيطان بها ، ولصارت درجة الحرارة فيها بالغة حتى الموت ولو كان قطرها ضعف قطرها الحالي لأصبحت جاذبيتها للأجسام ضعف ما هي عليه وانخفض تبعاً لذلك ارتفاع غلافها الهوائي وزاد الضغط الجوي وهو يوجب تأثيراً بالغاً على الحياة فإن مساحة المناطق الباردة تتسع اتساعاً كبيراً ، وتنقص مساحة الأرض الصالحة للسكن نقصاً ذريعاً ، وبذلك تعيش الجماعات الإنسانية منفصلة أو في أماكن متنائية فتزداد العزلة بينها ، ويتعذر السفر والاتصال بل قد يصير ضرباً من ضروب الخيال.
  ولو كانت الأرض في حجم الشمس لتضاعفت جاذبيتها للأجسام التي عليها إلى مائة وخمسين ضعفاً ونقص بذلك ارتفع الغلاف الجوي ووصل وزن الحيوان إلى زيادة مائة وخمسين ضعفاً عن وزنه الحقيقي كما تتعذّر الحياة الفكرية عامة (1) .
  وميزة أخرى خصّ الله بها الأرض فجعل لها غلافاً غازياً كثيفاً يقدّر سمكه بثمانمائة كيلومتر ، وهو يتكون من جميع العناصر الضرورية للحياة ، وهو السبب في حيلولة الشهب القاتلة إلى الأرض كما أنه السبب في إيصال حرارة الشمس بصورة معتدلة إلى الأرض بحيث يمكن أن تعيش على سطحها الحيوانات والنباتات كما أن له الأثر في نقل المياه والبخار من المحيطات إلى القارات ، ولولاه لتحوّلت القارات إلى أرض قاحلة ، وليس لبعض الكواكب هذا الغلاف ممّا سبب عدم ظهور الحياة عليها.
  فالمرّيخ له غلاف غازي ولكنه رقيق جداً وغير صالح للحياة لخلوّه من الأوكسجين.
  والزهرة لها غلاف غازي ولكنه مكوّن من ثاني أوكسيد الكربون (co2) ممّا يجعله غير صالح لظهور الحياة.
  وكذلك القمر له غلاف رقيق خال من العناصر الضرورية للحياة مثل الأوكسجين (2) ناهيك بما في مائها وأنهارها وجبالها ومعادنها من الآيات والعجائب.
  قال سماحة الإمام المغفور له كاشف الغطاء : (حقاً إن من أعظم تلك الآيات التي نمرّ عليها في كل وقت وعلى كل حال هذه الأرض التي نعيش عليها ، ونعيش منها ونعيش بها ، منها بدؤنا واليها معادنا قال تعالى : ( ... وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) (3) .
  وقال رحمه الله : الأرض هي أم المواليد الثلاثة : الجماد ، والنبات ، والحيوان ، وتحوطها العناية بالروافد الثلاثة : الماء والهواء والشمس ، فهي الحياة وهي الممات ، وفيها الداء ، ومنها الدواء وقد تحصى نجوم السماء ، أما نجوم الأرض فلا تحصى.
  ولا تزال الشريعة الإسلامية قرآنها وحديثها يعظم شأن الأرض وينوه عنها صراحة وتلميحاً. قال تعالى : ( أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتاً ) (4) .
  وقال عزّ وجلّ : ( وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ) (5) .
  وقال سبحانه وتعالى : ( أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقّاً * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ ) (6) .
  ومع تقدم الاكتشافات والاختراعات ، واستخدام العقول الثاقبة وجميع وسائل العلم ، لم تصل هذه العقول إلى تحليل جميع عناصر الأرض واستخراج جميع كنوزها ، فسبحانه ما أجلّ قدرته ، وأعظم صنعه ...‍‍

---------------------------
(1) الله يتجلى في عصر العلم ، ص 10 ـ 11.
(2) التكامل في الإسلام ، ج 6 ، ص 128.
(3) سورة الأعراف ، الآية 29.
(4) سورة المرسلات ، الآيتان 25 ـ 26.
(5) سورة النازعات ، الآيتان ، 30 ـ 31.
(6) سورة عبس ، الآيات 25 ـ 32.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 73 _

  3 ـ واختلاف الليل والنهار
  ومن آياته عزّ وجلّ اختلاف الليل والنهار ، ذكر علماء التفسير للاختلاف وجهين : (أحدهما) مأخوذ من خلفه يخلفه وإذا ذهب الأول وجاء الثاني ، فيكون المراد باختلاف الليل والنهار تعاقبهما في الذهاب والمجيء.
  (والثاني) الاختلاف في الطول والقصر ، والنور والظلمة ، والزيادة والنقيصة ، وكما أنهما يختلفان في الزمان فكذلك يختلفان في المكان ، فإذا افترضنا الصبح قد حلّ في موضع ما ، فهي في موضع آخر ظهر ، وفي مكان آخر عصر ، وفي مكان آخر مغرب ... وهلمّ جرا.
  وذلك لكروية الأرض ، وهذا الاختلاف من آثار النظام الشمسي الذي يدل على وحدة الله ووجوده ، كما أن هناك مصالح لا تحصى ترتبت على هذا الاختلاف : وعلى سبيل المثال : أحوال العباد بسبب طلب الكسب والمعيشة في النهار ، وطلب الراحة في الليل ، إلى غير ذلك من المصالح الحيوية التي ذكرها العلماء في سرّ هذا الاختلاف التي تكشف عن وجود الله سبحانه وتعالى ، وعن جميل صنعه ، وعظيم قدسه.
  4 ـ وجريان الفلك
  ويرشح من هذه الآية الكريمة جريان الفلك في الماء ، فلولا لطافة الماء وخفتها لما أمكن جريان البواخر والسفن فيه ، كما أنه لولا الرياح المعينة على تحريكها إلى الجهات المختلفة التي يبغيها الناس لما أمكن النفع بها ، وقد جعل الله تلك الرياح متوسطة الهدوء ولو كانت عاصفة لتحطمت البواخر ، بالإضافة إلى أن مواد السفن من الخشب والحديد وغيرها هي من خلق الله تعالى ومن إبداعاته ، وإن كانت الهيئة التركيبية من الناس (1) .

---------------------------
(1) راجع تفسير الرازي ، ج 2 ، ص 68.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 74 _

  5 ـ نزول الماء من السماء
  ومن آياته تعالى إنزال الماء من السماء فإنه من عجائب صنعه جلّت قدرته ، فقد خلقه مركباً من الأكسجين والهيدروجين بنسبة واحد (O) وإثنان (H) ، وكل عنصر من أجزائه يختلف عن العنصر الآخر ويخالفه وجعله تعالى سبباً لحياة الإنسان وسبباً لرزقه ومعيشته فقال سبحانه : ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) (1) .
  فنزول المطر حياة للأرض ، لأن فيها قوة الحياة الإنسانية والحيوانية والنباتية ، فيحصل بذلك النبات والأزهار والرياحين ، وتلبس الأرض فستانها القشيب الجميل المضمخ بعطر الزهور ، ولا ريب أن الجمال يبعث على البهجة والمسرّة لكل من نظر إليها ، وهذا هو المراد من حياتها ، وفي ذلك شواهد على قدرة الصانع الماهر وإبداعه.
  ولو أمعن الإنسان في النبات والزرع وما فيهما من العجائب لآمن بقدرة الله وجمال صنعه وحسن تدبيره .
  فالزرع بحكمة إلهية يخرج بالحد الذي يحتاج إليه الإنسان في أوقات معلومة ، فما يخرج في موسم الربيع لا يخرج في الخريف وما يخرج في موسم الصيف لا يدرك في الشتاء زد على ذلك الأشجار المتنوعة الثمار ، فإنها متغايرة بألوانها وطعمها ورائحتها وفائدتها الصحية مع أنها تسقى بماء واحد ، وتخرج من أرض واحدة ، فلو نظر الإنسان إلى كل ذلك بعين بصيرة لآمن بربّه وما زاغ قلبه وما خرج عن جادة الإيمان.
  المهم أن يعمل بعقله السليم ويفكر ملياً ، قال الإمام الصادق (عليه السلام) : تفكير ساعة خير من عبادة سنة).
  6 ـ بثّ الدواب في الأرض
  ومن آياته العظيمة سبحانه وتعالى بثّ الحيوانات في الأرض المختلفة، في أنواعها وأصنافها وأشكالها وطبايعها المختلفة ، ومعيشتها المتباينة ، ولا يخفى أن الإنسان كما عرّفوا عنه حيوان ناطق لكنه شرّفه الله بالعقل المستنير ، واللسان الناطق الفصيح ، فهو خليفة الله في أرضه ، وهو النموذج المحتذى لجميع ما في العالمين : عالم الملك ، وعالم الملكوت ، وبصورة خاصة حسب وعيه وإدراكه وإحاطته بما يخزن في ذاكرته من الحقائق والمعلومات الكليّة والجزئية ، بل هو اكبر ما في العالم ، يقول الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) :
أتحسب  أنك جرم iiصغير      وفيك انطوى العالم الأكبر

---------------------------
(1) سورة الذاريات ، الآية 20.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 75 _

  ولنتأمل في تكوين الإنسان فنرى فيه أعظم آيات الله ، الأجهزة الدقيقة التي لا تعد ولا تحصى كتكوين العين التي تحتوي على 130 مليون من مستقبلات الضوء وهي أطراف أعصاب الأبصار ، ويقوم بحمايتها الجفن ذو الأهداب الذي يقيها ليلاً نهاراً ، وتعتبر حركته حركة غير إرادية يمنع عنها الأتربة والذرّات ، كما يكسر من حدة الشمس .
  ثم جعل لها سبحانه السائل المحيط بها المعروف بالدموع التي يقول عنها الأطباء : إنها من أقوى المطهّرات والمعقّمات ، إلى غير ذلك ما هو أبلغ دليل على وجود الله مبدع الكون.
  قال تعالى : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) (1) وفي الإنسان حاسة السمع وهي أعجب أجهزة الإنسان تحتوي على مجموعة أقنية بين لولبية ونصف مستديرة ، ففي القسم اللولبي وحده أربعة آلاف قوس صغيرة متصلة بعصب السمع في الرأس.
  فما طول هذه الأقواس ؟ وما حجمها ؟ وكيف ركبت ؟ إنها دقة تحيّر الألباب ، فسبحان الله المبدع المصوّر !!
  وفي الإنسان حاسة الشم : وهي من أعظم آيات الله فمركز هذه الحاسة منطقة محدودة من الغشاء المخاطي المبطن لتجويف الأنف ، تسمى منطقة الشم ، وهي خالية من الأهداب وبها عدة خلايا شمّية طويلة رقيقة تنقل الأثر إلى المخ ، وذلك في جزء من الأنف ، وهو المدخل الرئيسي للجهاز التنفسي الذي يتوقف عليه حياة الإنسان.
  وفي جسم الإنسان الجهاز العظمي ، وهو يتكوّن من 206 عظمة مختلفة الأشكال ، يتصل بعضها ببعض المفاصل التي تحركها العضلات ، وهذه العظام يقول عنها العلماء : إنها مصنع الحياة في الجسم إذ أنها تكوّن الكريات الدموية الحمراء والبيضاء.
  ومن عجيب أمر هذه الكريات أنها في كل دقيقة من حياة الإنسان يموت منها ما لا يقل عن (180.000.000) مائة وثمانين مليون بسبب دفاعها عن الجسم ضد المكروبات الوافدة.
  وبالإضافة إلى ما تصنعه العظام من كريات الدم فإنها مخزن تحفظ للجسم ما يزيد عن حاجته من الغذاء ، سواء كان ذلك في داخل العظام نفسها كالمواد الدهنية والزلالية ، أو على العظام نفسها كالمواد الجيرية.
  أما عن أشكال العظام الملائمة لكل موضع خلقت له فهذا أمر عجيب ، فعظام الجمجمة تحمي المخ لأنها أشد صلابة من غيرها ...
  إلى غير ذلك ممّا في الإنسان من الأجهزة الأخرى التي يطول الحديث عنها ولها علماؤها المختصون بها : كالجهاز العصبي ، والجهاز اللمفاوي ، والجهاز التناسلي ، والجهاز العضلي ، وهي تدل بوضوح على قدرة صانعها ودقة إبداعه (2)

---------------------------
(1) سورة التين ، الآية 4.
(2) من المفيد في هذه البحوث مراجعة موسعة في المصادر التالية :
أ) أمالي الإمام الصادق (عليه السلام).
ب) الله يتجلى في عصر العلم.
ج) العلم يدعو للإيمان.
د) الله والعلم الحديث.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 76 _

  7 ـ تسخير السحاب
  كل ما في الكون سخّره سبحانه وتعالى لخدمة الإنسان ، ومصالحه وسعادته ، ومن آياته تسخير السحاب ، فقد سخّره في أوقات مخصوصة لإحياء العباد والبلاد ، واستمرار وجوده يؤدي إلى فساد جميع المركبات التي تتوقف على الجفاف ، لأنه يستر أشعة الشمس ، وانقطاعه يؤدي إلى القحط فيهلك الإنسان والحيوان فكان تقديره بالأوقات الخاصة ، والفصول المعيّنة ، بحكمة إلهية لأجل الصالح العام ، لعامة المخلوقات ، وهذه بلا ريب من رحمته الواسعة التي وسعت كل شيء.
  والسحاب كما هو معلوم يتكوّن من تكاثف البخار في الهواء ، ويختلف ارتفاعه على حسب نوع السحب ، فمنها ما يكون على سطح الأرض كالضباب ، ومنها ما يكون ارتفاعه بعيداً إلى أكثر من 12 كيلومتراً ، وعندما تكون سرعة الرياح الصاعدة أكثر من ثلاثين كيلومتراً في الساعة لا يمكن نزول قطرات المطر المتكوّن ، وذلك لمقاومة الرياح لها.
  وكلما تناثرت النقط تشحن بالكهرباء الموجبة ، وتنفصل عنها الكهرباء السالبة التي تحملها الرياح ... وبعد مدة تصير مشحونة شحناً وافراً بالكهرباء ، وعندما تقترب الشحنتان بعضها من بعض بواسطة الرياح ... يتم التفريغ الكهربائي ، وذلك بمرور شرارة بينهما ، ويستغرق وميض البرق لحظة قصيرة ويكون شكله خطاً منكسراً ، ويسمع بعده الرعد وهو عبارة عن الموجبات الصوتية التي يحدثها الهواء ، وتخيّم السحابة ، ويتنزل منها المطر الذي يغيث الأرض فتأخذ منها حاجته المطلوبة.
  فتأمل كيف ولدت الرياح الكهرباء بنوعيه الموجب والسالب في السحب ، وسببت نزول المطر منها (1) .
  كل ذلك بتقدير دقيق من الله العزيز العليم الرحيم ... هذا بعض ما ورد في الآية الكريمة من الشواهد والأدلة الواضحة على وجود الله تقدّس اسمه وتعالى ذكره ، فهو المصدر الوحيد لوجود هذه العوالم ، وقد استدل الإمام (عليه السلام) بهذه الآيات لدعم حقيقة الإيمان.

من وصية له (عليه السلام) لهشام بن الحكم في وصفه للعقل
  إن الله تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه العزيز فقال سبحانه : ( فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ ) (2) .

---------------------------
(1) الله والعلم الحديث ، ص 174 ـ 175.
(2) سورة الزمر ، الآية 18.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 77 _

  استدل (عليه السلام) بهذه الآية لترغيب الناس على اتباع القول الحسن ، وهذه الفئة من الناس يبشرهم الله انهم على هداية منه وهم أصحاب العقول الراجحة ، يميزون بنور عقولهم بين الكلام الخبيث فيتجنبونه والكلام الحسن فيتبعونه.
  ثم تابع (عليه السلام) القول لهشام (يا هشام ، قد وعظ أهل العقل ورغبهم في الآخرة فقال عزّ وجلّ : ( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) (1) .
  وهنا أيضاً يرغّب الله تعالى عباده العقلاء في دار الخلود والنعيم ، ويذم دار الدنيا لأنّها محصورة على الأكثر في اللهو واللعب ، فالعقلاء يزهدون فيها ، ويجتنبون شرّها وحرامها ، ويعملون للدار الباقية التي أعدت للمتقين ، والعباد الصالحين.
  يا هشام : ثم خوف الذين لا يعقلون عذابه فقال عزّ وجلّ : ( ثُمَّ دَمَّرْنَا الآَخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) (2) استدل (عليه السلام) بهذه الآية وما شابهها على تدميره تعالى للذين لا يعقلون من الأمم السالفة التي كفرت بالله وقد نزلت في قوم لوط حينما جحدوا الله وكفروا بآياته ، فأنزل تعالى بهم عقابه ، وجعل موطنهم قبيح المنظر منتناً يمر بها المارون ليلاً نهاراً ساخرين من أهلها حيث جعلهم عبرة للذين يعقلون ، وقد حذّرهم من مخالفة المرسلين ، الصالحين ، فإن عاقبة المخالفة والعصيان الدمار والهلاك.
  ثم بين أن العقل مع العلم فقال سبحانه : ( الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَ الْعَالِمُونَ ) (3) .
  استدل (عليه السلام) بالآية الكريمة على ملازمة العقل للعلم فإن العقل بجميع مراتبه لا يفترق عن العلم فكلاهما صنوان متلازمان.
  قال المفسرون عن سبب نزول هذه الآية : إن الكافرين انتقدوا ضرب الأمثال بالحشرات والهوام كالذباب والبعوض والعنكبوت ... وفي نظرهم أن الأمثال يجب أن تضرب بغير ذلك من الأمور الهامة وفي نظرنا أن منطقهم هذا هزيل للغاية لأن التشبيه إنما يكون بليغاً فيما إذا كان مؤثراً في النفس.
  ثم ذم الذين لا يعقلون في فصل آخر لأن معرفة حقيقة الاشياء لا يميزها إلا العالمون الذين حصل لهم العلم والمعرفة ( وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَ الْعَالِمُونَ ).
  يا هشام : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ) (4) .
  وقال سبحانه : ( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ) (5) .
  ثم تابع في سرد الآيات الشبيهة بهذه وكلها تذم الذين لا يعقلون (6) استدل الإمام (عليه السلام) بهذه الآيات الكريمة على ذم من لا يعقل ، ففي الآية الأولى من هذا الفصل يقول الطبرسي : لقد اتبع القوم أسلافهم ومشايخهم في الأمور الدينية من غير بصيرة ولا دليل ، والذي حفزهم إلى اتباعهم الجهل والتعصب والغباوة وهذه الآية حسب رأي المفسرين نزلت في اليهود حينما دعاهم الرسول الأكرم إلى الإسلام فرفضوا ذلك ، وقالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا فانهم كانوا خيراً منا (7) .
  ولو كانت لهم عقول سليمة ، وأفكار ناضجة لفقهوا أن التقليد في العقائد لا يقرّه العقل السليم ، لأن العقيدة لا تؤخذ إلا من الدليل العلمي الصحيح ، وهي أساس ثابت لحياة الإنسان وسلوكه ، إذ ما من عاقل إلا وهو عرضة للخطأ في فكره ، ولا ثقة في الدين إلا بما أنزل الله ، ولا معصوم إلا من عصم الله ، فكيف يرغب العاقل عما أنزل الله في اتباع الآباء مع دعواه الإيمان بالتنزيل ؟ ؟!

---------------------------
(1) سورة الأنعام ، الآية 32.
(2) سورة الصافات ، الآيات 136 ـ 138.
(3) سورة العنكبوت ، الآية 43.
(4) سورة البقرة ، الآية 170.
(5) سورة البقرة ، الآية 171.
(6) راجع سورة يونس ، الآية 42 والفرقان ، الآية 44 والحشر ، الآية 13 والبقرة ، الآية 44.
(7) التباين في تفسير القرآن ، ج 1 ، ص 188.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 78 _

  والآية الثانية متممة للآية الأولى :
  فإنّه تعالى لما وصف حالة الكفّار في إصرارهم على التقليد الأعمى عند دعوتهم إلى الإسلام ، ضرب لهم مثلاً للسامعين عن حالم بأنهم كالأنعام والبهائم التي لا تعي دعاء الداعي لها سوى سماع الصوت منه دون أن تفهم المعنى ، فكذلك حال هؤلاء لا يتأملون دعة الحق ولا يعونها ، فهم بمنزلة الجاهلين لا يعقلون ، وهذا أعظم قدح وذم للذين لا يعقلون ، لأن الإنسان إذا اتهم بعقله فقد دنياه وآخرته.
  وفي الآية الثالثة : وصف سبحانه منتهى القسوة وجمود الطبع وخمول الذهن لبعض الكفار فهم يستمعون ما يتلى عليهم من الآيات والأدلة على صحة دعوة النبي (صلّى الله عليه وآله) ولكنهم صم بكم لا يسمعون ولا يفقهون ، وبذلك لا جدوى ولا فائدة في دعوتهم إلى اعتناق هذا الدين ، لقد بلغوا الحد الأقصى في أمراضهم العقلية والنفسية ، ولا يجدي معهم أي نصح أو إرشاد أو علاج.
  وسنكتفي بهذا القدر من الآيات التي استدل بها (عليه السلام) على ذم من لا يعقل من الناس ، والآن إلى فصل آخر من كلامه ، قال (عليه السلام) : (يا هشام : لقد ذم الله الكثرة فقال : ( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَ يَخْرُصُونَ ) (1) .
  وقال سبحانه أيضاً : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) (2) .
  استدل (عليه السلام) بهاتين الآيتين على ذم أكثر الناس لأنهم قد حجبوا عن نفوسهم الحق ، وتوغلوا في الباطل ، وغرقوا في الشهوات ، إلا من رحمه الله منهم ، ففي الآية الأولى : خاطب تعالى نبيه (صلّى الله عليه وآله) وأراد به غيره ، فإنه لو أطاع الجمهور من الناس وسار وفق أهواءهم وميولهم لأضلوه عن دين الله وصرفوه عن الحق ، وفي الآية الثانية : دلت على أن أكثر الناس يقولون ما لا يعلمون ، وأنهم لا يؤمنون بالله في قلوبهم ، بل إنما يجري على ألسنتهم دون أن ينفذ إلى أعماق قلوبهم (3) .

---------------------------
(1) سورة الأنعام ، الآية 116.
(2) سورة لقمان ، الآية 25. (3) راجع روح المعاني ، ج 6 ، ص 423.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 79 _

  ثم مدح القلّة فقال : (يا هشام : قال تعالى : ( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (1) .
  وقال : ( وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَ قَلِيلٌ ) (2) .
  وقال : ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) (3) .
  وقال : ( وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ) (4) .
  استدل (عليه السلام) من خلال هذه الآيات الكريمة على مدح قلة المؤمنين ، وندرة وجودهم ، كما صرحت الأحاديث النبوية والأخبار الواردة عن أهل البيت بذلك ، فقد قال الإمام الصادق (عليه السلام) : (المؤمنة أعز من المؤمن ، والمؤمن أعز من الكبريت الأحمر فمن رأى منكم الكبريت الأحمر ؟)
  والسبب في ندرة هذه الفئة من المؤمنين الصالحين يعود إلى أن الإيمان الحقيقي بالله يعد من أعظم مراتب الكمال التي يصل إليها الإنسان.
  لكن الوصول إلى هذا الإيمان يصطدم بموانع كثيرة تحول دون الوصول إليه مثل : التربية البيتية السيئة حيث يعتاد الفرد على الغش والخداع والكذب منذ الطفولة الأولى.
  إن التفاحة الفاسدة تفسد التفاح السليم ، والرفيق المنحط أخلاقياً وسلوكياً يفسد غيره من الرفاق الصالحين ، لأن الانزلاق نحو الرذائل أسهل من الصعود نحو الفضائل ، والمثل العليا وهناك حواجز كثيرة تؤدّي إلى حجب الإنسان عن خالقه ، وتماديه في الإثم والموبقات.
  ( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) تعني صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه فيما خلق لأجله. وهذه أعظم مرتبة لا تصدر إلا ممن عرف الله واعتقد بأن جميع الخيرات والنعم صادرة منه سبحانه وتعالى ، فيعمل بكل طاقته على تحصيل الخير وردع نفسه عن الحرام وحينئذ يكون من الشاكرين ، والشكر لله بهذا المعنى من المقامات العالية التي لا يتصف بها إلا القليل من عباد الله.
  وننتقل إلى فصل آخر من كلامه (عليه السلام) مخاطباً هشام.
  (يا هشام : ثم ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر وأفضل الصفات فقال : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَ أُولُو الألْبَابِ ) (5) .
  وقال : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَ أُولُو الألْبَابِ ) (6) .
  وقال تعالى : ( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ ) (7) .

---------------------------
(1) سورة سبأ ، الآية 13.
(2) سورة هود ، الآية 40.
(3) سورة الأنعام ، الآية 37.
(4) سورة المائدة ، الآية 103.
(5) سورة البقرة ، الآية 269.
(6) سورة آل عمران ، الآية 7.
(7) سورة الزمر ، الآية 9.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 80 _

  ـ استدل (عليه السلام) بهذه الآيات الكريمة على مدح العقلاء المتفوّقين على غيرهم ، فقد مدحهم تبارك وتعالى بأحسن الصفات ، وأضفى عليهم النعوت السامية ، ففي الآية الأولى : منح بعض عباده (الحكمة) وهي من أعظم المواهب ، ومن أجل الصفات ، فقد قيل في تعريفها ، إنها العلم الذي تعظم منفعته وتجل فائدته ، ثم وصف تعالى من مُنِحَ بها بأنه أوتي خيراً كثيراً ولا يعلم معنى الحكمة ولا يفهم القرآن الكريم إلا أولوا الألباب.
  وفي الآية الثانية : وصف تعالى عباده الكاملين في عقولهم بثلاثة أوصاف :
  1 ـ الرسوخ في العلم.
  2 ـ الإيمان بالله.
  3 ـ العرفان بأن الكل من عند الله (1) .
  ثم بين سبحانه : إن المتصفين بهذه النعوت العظيمة هم العقلاء الكاملون الذين هم ذووا الألباب.
  وفي الآية الثالثة دلالة على التفاوت بين من يسهر ليله في طاعة الله وبين غيره الذي يقضي أوقاته بالملاهي والملذّات ، وهو معرض عن ذكر الله ، فكيف يكونان متساويين ، هذا غير معقول !
  وقال (عليه السلام) : (يا هشام ، إن الله تعالى يقول في كتابه العزيز : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ) (2) يعني العقل.
  وقال تعالى : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ) (3) يعني الفهم والعقل ، وضّح (عليه السلام) أن المراد بالقلب ليس العضو الخاص الموجود عند الإنسان وعند الحيوان ، بل المراد منه هو العقل الذي يدرك المعاني الكلية والجزئية ليتوصل إلى معرفة حقائق الأشياء وهو بذلك يمثل الكيان المعنوي للإنسان.
  وفي الآية الثانية يشير (عليه السلام) إلى نعمة الله تعالى على لقمان ، فقد منّ عليه بالحكمة ، وهي من أفضل النعم وأجلها ، ثم أخذ (عليه السلام) يتلو على هشام بعض حكم لقمان ونصائحه لولده فقال : (يا هشام : إن لقمان قال لابنه : تواضع للحق تكن أعقل الناس.
  يا بني : إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيها عالم كثير ، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله ، وحشوها الإيمان ، وشراعها التوكّل ، وقيّمها العقل ، ودليلها العِلم ، وسكّانها الصبر).

---------------------------
(1) يعني المحكم والمتشابه من الآيات.
(2) سورة ق ، الآية 37.
(3) سورة لقمان ، الآية 12.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 81 _

  لقد ركز لقمان الحكيم في وصيّته لولده بالتواضع للحق ، فلا يرى الإنسان لنفسه وجوداً إلا بالحق ولا قوّة له ولا لغيره إلا بالله.
  والتواضع من افضل الصفات. وقد ورد عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال : (من تكبر وضعه الله ، ومن تواضع لله رفعه الله).
  وورد عنه (صلّى الله عليه وآله) في تعديد أقوام ذمهم : (ورجل ينازع الله رداءَه ، فإن رداءه الكبرياء وإزاره العظمة) (1) .
  فالمراد بذلك أن الكبرياء والعظمة من صفات الله جلّ جلاله ، لا يجوز لأحد من عباده أن يتصف بهما.
  فالإنسان كلما تواضع كلما تجرد عن الأنانية ، ومحا عن نفسه التكبر ، زاده الله شرفاً وفضلاً.
  ثم شبه لقمان الحكيم الدنيا بالبحر ووجه الشبه في ذلك : تغير الدنيا وتغير أشكالها وصورها في كل لحظة ، فالكائنات التي فيها كالأمواج في البحر معرضة للزوال والفناء.
  ويحتمل وجه آخر للشبه أن الدنيا كالبحر الذي يعبر عليه الناس ، فالدنيا يعبر عليها الناس إلى دار الآخرة وتكون النفوس فيها كالمسافرين ، والأبدان كالسفن والبواخر تنقلهم من دار الدنيا إلى دار الخلود. وقد غرق كثير من الناس في هذه الدنيا ، وسبب غرقهم يعود لتهالكهم على الشهوات.
  ولما كانت الدنيا بحراً توجب الغرق والهلاك ، فلا نجاة منها إلا بسبيل واحد : ألا وهو الصلاح والتقوى ، ويكون شراعها التوكل على الله والاعتماد عليه في جميع الأمور ، كما أنه لابدّ من عقل يكون قيّماً لتلك السفينة ورباناً لها ، والعقل نور دليله العلم والمعرفة فإن نسبته إليه كنسبة الرؤية من البصر ، ومع هذه الخصال كلها لابدّ من الصبر فإن ارتقاء الإنسان وقربه من ربّه لا يحصل إلا بمجاهدات قويّة للنفس.
  وللنتقل إلى مشهد آخر من كلامه (عليه السلام) : يا هشام : ما بعث الله أنبياءه رسوله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله ، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة ، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلاً ، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة).

---------------------------
(1) المجازات النبوية للشريف الرضي ، ص 440 ، وبذلك تكون العظمة والكبرياء هما الكرامة التي يلقيها الله سبحانه على رسله القائمين بالقسط فيعظمون بها في العيون ويجلَّون في القلوب.