4 ـ عبادته (عليه السلام)
  لقد شهدت له ألقابه على حسن عبادته ، وشدة خوفه من الله تعالى ، فمن زين المجتهدين ، إلى العبد الصالح ، والنفس الزكيّة ، والصابر ، إلى غير ذلك من الألقاب المشيرة إلى صفاته الموقرة ، وعبادته المتواصلة ، ولم يحدثنا التاريخ عن مسجون غير الإمام موسى بن جعفر كان يشكر الله تعالى على ما أتاح له من نعمة التفرغ للعبادة بين جدران السجن ، ويحسب ذلك نعمة ، وجب بها عليه الشكر.
  قال ابن الصباغ المالكي : إن شخصاً من بعض العيون التي كانت عليه في السجن ، رفع إلى عيسى بن جعفر أنه سمعه يقول في دعائه : (اللّهم إنك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك وقد فعلت ، فلك الحمد) (1) .
  وعن أبي حنيفة انه دخل على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال : رأيت ابنك موسى يصلي والناس يمرون بين يديه.
  فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : ادعوا لي موسى ، فدعوه ، فقال له في ذلك.
  فقال : نعم يا أبة ، إن الذي كنت أصلّي إليه كان أقرب إليّ منهم ، يقول الله تعالى : ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) فضمه أبو عبد الله إلى نفسه ثم قال : بأبي أنت وأمي يا مودع الأسرار (2) .
  وجاء في كشف الغمة : كان يبكي من خشية الله حتى تخضل لحيته بالدموع وكان إذا قرأ القرآن يحزن ويبكي ويبكي السامعون لتلاوته (3) .
  ولكثرة سجوده كان له غلام يقص اللحم من جبينه ، وعرنين أنفه ، فقد نظم بعض الشعراء ذلك بقوله :
طـالت لطول سجود منه iiثفنته      فـقرحت  جـبهة منه iiوعرنينا
رأى فـراغته في السجن iiمنيته      ونعمة شكر الباري بها حينا (4)


---------------------------
(1) الفصول المهمة ، ص 222.
(2) المناقب ، ج 2 ، ص 372.
(3) كشف الغمة ، ص 247.
(4) حياة الإمام موسى بن جعفر .

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 27 _

  5 ـ كرمه وصدقاته
  من أبرز خصائص أئمة أهل البيت (عليهم السلام) البر والإحسان إلى الناس كافة ، وبصورة خاصة الطبقة الضعيفة ، فكانوا يخصّونهم بجزيل فضلهم ، ونبل عطاياهم ، حتى كان من منهجهم في الليالي المظلمة هو التطواف على بيوت الفقراء والمساكين بالأغذية والمال وهم لا يعرفونهم.
  قال ابن الصباغ المالكي : كان موسى الكاظم (عليه السلام) أعبد أهل زمانه ، وأعلمهم وأسخاهم كفاً وأكرمهم نفساً وكان يتفقد فقراء المدينة ويحمل إليهم الدراهم والدنانير إلى بيوتهم والنفقات ، ولا يعلمون من أي جهة وصلهم ذلك ، ولم يعلموا بذلك إلا بعد موته (1) .
  وقال محمد بن عبد الله البكري : قدمت المدينة أطلب ديناً فأعياني ، فقلت لو ذهبت إلى أبي الحسن موسى فشكوت إليه ، فأتيته في ضيعته ، فذكرت له قضيّتي ، فدخل ولم يقم إلا يسيراً حتى خرج إليّ ، فقال لغلامه : إذهب ، ثم مدّ يده إليّ فرفع إليّ صرة فيها ثلاثمائة دينار ، فركبت دابتي وانصرفت (2) .
  كما رووا عن عيسى بن محمد بن مغيث القرطبي قال : زرعت بطّيخاً وقثاءاً وقرعاً في موضع بالجوانية ، على بئر يقال لها (أم عظام) فلما قرب الخير ، واستوى الزرع بغتني الجراد فأتى على الزرع كله ، وكنت غرمت على الزرع وفي ثمن جملين مائة وعشرين ديناراً ، فبينما أنا جالس إذ طلع موسى بن جعفر بن محمد ، فسلّم ثم قال : أي شيء حالك ؟ فقلت : أصبحت كالصريم ، بغتني الجراد فأكل زرعي.
  قال (عليه السلام) وكم غرمت فيه؟ فقلت : مائة وعشرين ديناراً مع ثمن الجملين.
  فقال (عليه السلام) : يا عرفة زن لأبي المغيث مائة وخمسين ديناراً ، فربحك ثلاثون ديناراً والجملان ، فقلت يا مبارك ادخل وادع لي فيها بالبركة ، فدخل ودعا وحدثني عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال : تمسّكوا ببقايا المصائب ، ثم علقت عليه الجملين وسقيت ، فجعل الله فيها البركة وزكت ، فبعث منها بعشرة آلاف (3) .

---------------------------
(1) الفصول المهمة ، ص 219.
(2) أعيان الشيعة ، ج 3 ، ص 42 وتاريخ بغداد ، ج 13 ، ص 28.
(3) كشف الغمة ، ص 243 وتاريخ بغداد ، ج 13 ، ص 29.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 28 _

  وقال علي بن عيسى الأربلي (1) : (مناقب الكاظم وفضائله ومعجزاته الظاهرة ، ودلائله وصفاته الباهرة تشهد أنه افترع قبة الشرف وعلاها ، وسماها إلى أوج المزايا فبلغ أعلاها ، وذللت له كواهل السيادة فركبها وامتطاها ، وحكم في غنائم المجد فاختار صفاياها واصطفاها.
  طالت أصوله ، فسمت إلى أعلى رتب الجلال ، وسمت فروعه فعلت إلى حيث لا تنال ، يأتيه المجد من كل أطرافه ، ويكاد الشرف يقطر من أعطافه.
  فكان كما قال الشاعر :
أتاه المجد من هنا iiوهنا      وكنا له كمجتمع السيول
  السحاب الماطر قطرة من كرمه ، والعباب الزاخر نغبة من نغبه ، واللباب الفاخر من عد من عبيده وخدمه ، كأن الشعرى علّقت في يمينه ولا كرامة للشعرى العبور ، وكأن الرياض أشبهت خلائقه ولا نعمى لعين الروضة الممطور.
  وهو (عليه السلام) غرّة في وجه الزمان وما الغرر والحجول ، وهو أضوأ من الشمس والقمر ، وهذا جهد من يقول : بل هو والله أعلى مكانة من الأوصاف وأسمى ، وأشرف عرفاً من هذه النعوت وأنمى ، فكيف تبلغ المدائح كنه مقداره ، أو ترتقي همة البليغ إلى نعت فخاره ، أو تجري جياد الأقلام في جلباب صفاته ، أو يسري خيال الأوهام في ذكر حالاته ؟
  كاظم الغيظ ، وصائم القيظ ، عنصره كريم ، ومجده حادث وقديم ، وهو بكل ما يوصف به زعيم ، الآباء عظام ، والأبناء كرام ، والدين متين ، والحق ظاهر مبين ، والكاظم في أمر الله قوي أمين ، وجوهر فضله غالٍ ثمين وواصفه لا يكذب ولا يمين ، قد تلقى راية الإمامة باليمين ، فسما (عليه السلام) إلى الخيرات منقطع القرين ، وأنا أحلف على ذلك فيه وفي آبائه وأبنائه (عليهم السلام) باليمين.

---------------------------
(1) كشف الغمة ، ج 2 ، ص 253.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 29 _

  كم له من فضيلة جليلة ، ومنقبة بعلو شأنه كفيلة ، وهي وإن بلغت الغاية بالنسبة إليه قليلة ، ومهما عد من المزايا والمفاخر فهي فيهم صادقة ، وفي غيرهم مستحيلة.
  إليهم ينسب العظماء ، وعنهم يأخذ العلماء ، ومنهم يتعلم الكرماء ، وهم الهداة إلى الله فبهداهم اقتده وهم الأدلاء على الله فلا تحل عنهم ولا تنشده ، وهم الأمناء على أسرار الغيب ، وهم المطهرون من الرجس والعيب ، وهم النجوم الزواهر في الظلام ، وهم الشموس المشرقة في الأيام ، وهم الذين أوضحوا شعائر الإسلام وعرفوا الحلال من الحرام ، من تلق منهم تقل لاقيت سيداً ، ومتى عددت منهم واحداً كان بكل الكمالات منفرداً ، ومن قصدت منهم حمدت قصدك مقصدا ، ورأيت من لا يمنعه جوده اليوم أن يجود غداً ، ومتى عدت إليه عاد كما بدا ، المائدة والإنعام يشهدان بحالهم ، والمائدة والإنعام يخبران بنوالهم ، فلهم كرم الأبوة والنبوة ، وهم معادن الفتوة والمروءة ، والسماح في طبائعهم غريزة ، والمكارم لهم شنشنة ونحيزة ، والأقوال في مدحهم وإن طالت وجيزة ، بحور علم لا تنزف ، وأقمار عز لا تخسف وشموس مجد لا تكسف ، مدح أحدهم يصدق على الجميع وهم متعادلون في الفخار فكلهم شريف رفيع ، بذوا الأمثال طريفهم وتالدهم ولا مثيل ، ونالوا النجوم بمفاخرهم ومحامدهم فانقطع دون شأوهم العديل ولا عديل.
  فمن الذي ينتهي في السير إلى أمدهم وقد سد دونه السبيل ، أمن لهم يوم كيومهم أو غدٍ كغدهم ، ولو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم صلى الله عليه وآله صلاة نامية الأمداد ، باقية على الآباد مدخرة ليوم المعاد ، إنه كريم جواد) (1) .

---------------------------
(1) كشف الغمة ، ج 2 ، ص 246.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 30 _

  كل ما صدر عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) من وصايا ورسائل وخطب وشعر كان في سبيل الدعوة الإسلامية والحث على طاعة الله تعالى والدعوة إلى التحلّي بمكارم الأخلاق والتمسك بالفضائل.
  فكانوا (عليهم السلام) يعملون على تثقيف الأمة الإسلامية وتعليمها وتوعيتها ، ويبذلون أقصى الجهود في تقويمها وهدايتها إلى الطريق السليم.
  وموضع الشعر كان ينشد عند عامة الناس في التشبيب واللهو والمجون ، أما أهل البيت فكانوا ينظمونه في الدعوة إلى الخير والعقيدة الإسلامية ، والأخلاق والتحلّي بالفضائل النبيلة.
  وهذه هي الفوارق التي تميزهم عن غيرهم من الشعراء الآخرين.
  جاء في البحار أنه دخل (عليه السلام) وهو طفل على أبيه الإمام الصادق (عليه السلام) وبيده لوح فقال له أبوه يا بني اكتب ما سأمليه عليك : تنح عن القبيح ولا ترده.
  ثم قال : اجزه.
  فقال (عليه السلام) : ومن أوليته حسناً فزده.
  فتابع الإمام الصادق القول : ستلقى من عدوك كل كيد.
  فقال الإمام الطفل (عليه السلام) : إذا كان العدو فلا تكده.
  فقال : (ذرية بعضها من بعض) (1) .
  وقال (عليه السلام) أيضاً في أفعال العباد :
لـم  تـخل أفـعالنا التي نذم iiبها      إحــدى ثـلاث حـين iiنـبديها
إمــا تـفرّد بـارينا iiبـصنعتها      فـيسقط  الـلوم عـنا حين نأتيها
أو كـان يـشركنا فـيها فـيلحقه      مـا كـان يـلحقنا مـن لائم فيها
أو لـم يـكن لآلـهي في iiجنايتها      ذنب فما الذنب إلا ذنب جانيها (2)
  وقال (عليه السلام) في اللجوء إلى الله :
أنت ربي إذ ظمئت إلى الماء      وقوتي إذا أردت الطعاما (3) ii


---------------------------
(1) البحار ، ج 11 ، ص 264 ، والبحار ، ج 11 ، ص 147.
(2) البحار ، ج 11 ، ص 285.
(3) تذكرة الخواص ، ص 196.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 31 _

  والإمام الكاظم لم يكن شاعراً محترفاً بل كان نظمه للشعر قليلاً جداً.
  ذكر الشيخ المفيد أبياتاً له تلاها الإمام الرضا (عليه السلام) على المأمون ونسبها (عليه السلام) إلى أبيه :
كـن لـلمكاره بالعزاء iiمدافعاً      فـلعل يـوماً لا ترى ما iiتكره
فـلربما استتر الفتى iiفتنافست      فـيه الـعيون وانـه iiلـمموه
ولربما ابتسم الوقور من الأذى      وضـميره  من حره يتأوّه (1)
  كان (عليه السلام) يعلم كل شيء يدور حوله ولكن عيون المراقبين تترصده دائماً فلم يكن له إلا أن يموه ما يقول حذراً فيبتسم من الأذى المحدق به وضميره من حره يتأوه في صدره.
  وذكر ذو النون المصري أنه اجتاز أثناء سياحته على قرية تسمى بتدصر فرأى جداراً قد كتبت عليه هذه الأبيات :
أنـا  ابن منى والمشعرين iiوزمزم      ومـكة والـبيت الـعتيق iiالمعظم
وجدّي النبي المصطفى وأبي الذي      ولايـته فـرض عـلى كل iiمسلم
وأمـي  البتول المستضاء iiبنورها      إذا مـا عـددناها عـديلة iiمـريم
وسـبطا رسول الله عمي iiووالدي      وأولاده  الأطـهار تـسعة iiأنـجم
مـتى تـتعلق مـنهم بحبل iiولاية      تـفز  يوم يجزى الفائزون iiوتنعم
أئـمة  هـذا الـخلق بـعد iiنبيهم      فـإن كـنت لـم تعلم بذلك iiفاعلم
أنـا العلوي الفاطمي الذي iiارتمى      بـه الخوف والأيام بالمرء iiترتمي
فـالمحت  بـالدار التي أنا iiكاتب      عليها  بشعري فاقران شئت iiوالمم
وسـلم  لأمـر الله فـي كل iiحالة      فـليس أخـو الإسلام من لم iiيسلم
  قال ذو النون فعلمت أنه علوي قد تخفى عن السلطة في خلافة هارون ، واحتمل المجلسي أن تكون هذه الأبيات للإمام الكاظم (عليه السلام) ذهب إلى ذلك المكان وكتبها لإتمام الحجة على أعدائه (2) .
  وما نراه أن الإمام (عليه السلام) لم يتخف ولم يتهرّب من السلطة في يوم من الأيام بل كان في يثرب مقيماً ينكر على هارون وعلى غيره من ملوك عصره بكل جرأة وإقدام ، وهذا الذي أوصل به إلى السجن.

---------------------------
(1) الأمالي ، ص 150.
(2) الأمالي ، ص 150.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 32 _

ما قاله العلماء والعظماء في فضائله
  أجمع المسلمون على اختلاف مذاهبهم على أفضلية أئمة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام ، وأعلميتهم ، ورفعة منزلتهم ، وسموّ مقامهم وقرب مكانتهم من الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) كما تنافسوا في ذكر الكتابة عنهم وبيان سيرهم ، وذكر أحاديث الرسول (صلّى الله عليه وآله) فيهم.
  ولا غرو في ذلك بعد أن قرنهم الرسول (صلّى الله عليه وآله) بالقرآن الكريم ـ كما في حديث الثقلين ـ ووصفهم بسفينة نوح التي من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق وهوى ... إلى كثير من الأحاديث التي له (صلّى الله عليه وآله) في بيان فضلهم ، والتنويه بسموّ مقامهم.
  1 ـ قال هارون الرشيد لابنه المأمون : (هذا إمام الناس ، وحجّة الله على خلقه ، وخليفته على عباده) (1)
  2 ـ وقال احمد بن يوسف الدمشقي القرماني : هو الإمام الكبير القدر ، الأوحد ، الحجة ، الساهر ليله قائماً ، القاطع نهاره صائماً ، المسمى لفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين (كاظماً) وهو المعروف عند أهل العراق بـ (باب الحوائج) لأنه ما خاب المتوسل به في قضاء حاجة قط ... له كرامات ظاهرة ، ومناقب باهرة ، انتزع قمة الشرف وعلاها ، وسما إلى أوج المزايا فبلغ علاها ... (2) .
  3 ـ وقال عبد الله بن أسعد اليانعي : الإمام موسى كان صالحاً عابداً ، جواداً حليماً ، كبير القدر ، وهو أحد الأئمة الإثني عشر المعصومين في اعتقاد الإمامية ، وكان يدعى بالعبد الصالح لعبادته واجتهاده ، وكان سخياً كريماً ، كان يبلغه عن الرجل ما يؤذيه فيبعث إليه بصرة فيها ألف دينار (3) .
  4 ـ وقال خير الدين الزركلي : موسى بن جعفر الصادق بن الباقر ، أبو الحسن ، سابع الأئمة الإثني عشر عند الإمامية ، كان من سادات بني هاشم ، ومن أعبد أهل زمانه وأحد كبار العلماء الأجواد ... ) (4) .
  5 ـ وقال محمد بن علي بن شهر اشوب : (وكان الإمام أجلّ الناس شأناً ، وأعلاهم في الدين مكاناً ، وأسخاهم بناناً ، وأفصحهم لساناً ، وأشجعهم جناناً ، قد خصّ بشرف الولاية ، وحاز إرث النبوة ، وتبوأ محل الخلافة ، سليل النبوة ، وعقدي الخلافة) (5) .
  6 ـ وقال احمد بن حجر الهيثمي : وموسى الكاظم ، هو وارث أبيه علماً ومعرفة وكمالاً وفضلاً سمّي الكاظم لكثرة تجاوز وحلمه ، وكان معروفاً عند أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند الله ، وكان أعبد أهل زمانه ، وأعلمهم وأسخاهم (6) .

---------------------------
(1) أعيان الشيعة ، ج 3 ، ص 71.
(2) أئمتنا ، ج 1 ، ص 66 ـ 67.
(3) مرآة الجنان ، ج 1 ، ص 394.
(4) الأعلام ، ج 3 ، ص 108.
(5) المناقب ، ج 2 ، 383.
(6) الصواعق المحرقة ، ص 121.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 33 _

  7 ـ وقال الدكتور محمد يوسف موسى : (ونستطيع أن نذكر أن أوّل من كتب في الفقه هو الإمام موسى الكاظم الذي مات سجيناً عام 183 هـ وكان ما كتبه إجابة عن مسائل وجّهت إليه تحت اسم (الحلال والحرام) (1) .
  8 ـ وقال علي بن عيسى الأربلي : مناقب الكاظم (عليه السلام) وفضائله ومعجزاته الظاهرة ، ودلائله وصفاته الباهرة ، ومخاتله تشهد أنه افترع قمة الشرف وعلاها وسما إلى أوج المزايا فبلغ أعلاها ، وذللت له كواهل السيادة فركبها وامتطاها وحكم في غنائم المجد فاختار صفاياها واصطفاها :
تـركت  والـحسن iiتـأخذه      تـصطفي  مـنه iiوتـنتجب
فـانـتقت مـنـه iiأحـاسنه      واستزادت فضل ما تهب (2)
  9 ـ وقال الشيخ سليمان المعروف بخواجه كلان : (موسى الكاظم هو وارث أبيه جعفر بن محمد ، علماً ومعرفة وكمالاً وفضلاً ، سمّي الكاظم لكثرة تجاوزه وحلمه ، وكان عند أهل العراق معروفاً بباب قضاء الحوائج ، وكان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأسخاهم) (3) .
  10 ـ وقال النسابة احمد بن علي : (كان موسى الكاظم عظيم الفضل ، رابط الجأش ، واسع العطاء ، لقّب بالكاظم لكظمه الغيظ ، وحلمه ، وكان يخرج في الليل وفي كمه صرر من الدراهم فيعطي من لقيه ومن أراد برّه ، وكان يضرب المثل بصرّة موسى وكان أهله يقولون : عجباً لمن جاءته صرّة موسى فشكا القلّة) (4) .
  هذه بعض الآراء الموجزة التي دوّنها كبار العلماء والتي تحمل طابع الإكبار والتقدير للإمام ، وهذه الصفات التي اتّصف بها هي السرّ في عظمته ، والسرّ في إجماع العلماء على إكباره ، وإجماع المسلمين على محبّته ، وسوف نوجزها بما يلي :
  1 ـ أحلم الناس وأكظمهم للغيظ ، يقابل الجاني عليه بالإحسان إليه.
  2 ـ أعلم أهل زمانه ، وأفقههم ، يحل مشاكلهم ويساعدهم في قضاء حاجاتهم.
  3 ـ أعبد أهل زمانه اجتهد في العبادة إلى حد لا يجاريه أحد.
  4 ـ كان من أجود الناس وأسخاهم وأنداهم كفّاً ، يعطي بيمينه ولا تعرف به شماله ، حتى أصبح يضرب به المثل فقالوا : (مثل صرر موسى).
  5 ـ أنه من أفصح الناس وأبلغهم ، ورث الفصاحة من آبائه وأجداده.
  6 ـ هو باب الحوائج عند الله ، قد خصّه تعالى بهذه الكرامة ومنحه بهذا اللطف ، فضمن لمن توسّل به أن يقضي حاجته ولا يرجع من عنده إلا وهو مثلوج الفؤاد ناعم البال.
  7 ـ أوصل الناس لأهله ورحمه.
  8 ـ حافل بالتواضع والورع والزهد ودماثة الخلق.
  9 ـ إمام معصوم من أئمة المسلمين ومن حجج الله على خلقه.
  هكذا كان الإمام الكاظم الإمام السابع من الأئمة الإثني عشر المعصومين يعالج بروحه الفوّاحة بالإيمان والتقوى النفوس المريضة التي اترعت بالآفات الاجتماعية والأنانية.

---------------------------
(1) حياة الإمام موسى بن جعفر ، ج 1 ، ص 175.
(2) كشف الغمة ، ص 255.
(3) ينابيع المودة ، ص 362.
(4) حياة الإمام موسى بن جعفر ، ج 1 ، ص 175.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 34 _

أدعيته (عليه السلام)
  تميّز أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بمحاسن كثيرة لم يشاركهم فيها غيرهم من الناس ، وامتازوا بمكارم اختصوا بها وحدهم من بين الأمة.
  والدعاء أحد هذه المميّزات الكثيرة ، فقد ورد لكل إمام منهم (عليهم السلام) أدعية كثيرة جمعها علماؤنا الأبرار رضوان الله عليهم فبلغت مئات المصنفات.
  فهم أول من أرشدوا الناس على الطريقة المثلى التي يجب أن يسلكها العبد في خطابه مع الله سبحانه وتعالى ، وما ينبغي أن يكون عليه من التوسل والانقطاع للمولى جلّ شأنه ، والإمام الكاظم انقطع إلى الله فكان في جميع أوقاته يلهج بذكر الله تعالى ويدعوه دعاء المنيبين.

فائدة الدعاء
  أما عن فائدة الدعاء فقد تحدث عنها بقوله : (عليكم بالدعاء ، فإن الدعاء لله والطلب إلى الله يردّ البلاء وقد قدّر وقضي ولم يبق إلا إمضاؤه ، فإذا دعي الله عز وجلّ وسئل صرف البلاء).
  ثم قال في موضع آخر : (ما من بلاء يقع على عبد مؤمن فيلهمه الله عز وجل الدعاء إلا كان كشف ذلك البلاء وشيكاً ، وما من بلاء يقع على عبد مؤمن فيمسك عن الدعاء إلا كان ذلك البلاء طويلاً ، فإذا نزل البلاء فعليكم بالدعاء والتضرّع إلى الله عزّ وجلّ) (1) .
  نعود لنذكر بعض أدعيته (عليه السلام) :

من دعاء له (عليه السلام) في القنوت
  (يا مفزع الفازع ، ويا مأمن الهالع ، ومطمع الطامع ، وملجأ الضارع ، يا غوث اللهفان ، ومأوى الحيوان ، ومروي الظمآن ، ومشبع الجوعان ، وكاسي العريان ، وحاضر كل مكان ، بلا درك ولا عيان ، ولا صفة ولا بطان ، عجزت الأفهام ، وضلّت الأوهام عن موافقة صفة دابة من الهوام ، فضلاً عن الأجرام العظام ، ممّا أنشأت حجاباً لعظمتك ، وأنّي يتغلغل إلى ما وراء ذلك بما لا يرام.
  تقدّست يا قدّوس عن الظنون والحدوس ، وأنت الملك القدوس بارئ الأجسام والنفوس ، ومنخر العظام ومميت الأنام ، ومعيدها بعد الفناء والتطميس ، أسألك يا ذا القدرة والعلاء ، والعز والثناء ، أن تصلي على محمد وآله أولي النهى ، والمحل الأوفى ، والمقام الأعلى ، وأن تعجل ما قد تأجل ، وتقدم ما تأخر ، وتأتي بما قد أوجبت إثباته ، وتقرّب ما قد تأخر في النفوس الحصرة أوانه ، وتكشف البأس وسوء البأس ، وعوارض الوسواس الخناس في صدور الناس ، وتكفينا ما قد رهقنا ، وتصرف عنا ما قد ركبنا ، وتبادر اصطلام الظالمين ، ونصر المؤمنين والادالة من المعاندين ، آمين رب العالمين) (2) .

---------------------------
(1) أصول الكافي ج 2 ، ص 553.
(2) مهج الدعوات ، ص 54.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 35 _

ومن دعاء له (عليه السلام)
  (بسم الله الرحمن الرحيم ، اللّهم اعطني الهدى وثبّتني عليه ، واحشرني عليه آمناً أمن من لا خوف عليه ولا حزن ولا جزع إنك أهل التقوى وأهل المغفرة) (1) .

ومن دعاء له (عليه السلام) لوفاء الدين
  (اللّهم اردد على جميع خلقك مظالمهم التي قِبَلِي صغيرها وكبيرها في يسر منك وعافية ، وما لم تبلغه قوتي ، ولم تسعه ذات يدي ، ولم يقوَ عليه بدني ويقيني ونفسي فأدّه عنّي من جزيل ما عندك من فضلك ، ثم لا تخلف عليّ منه شيئاً تقضيه من حسناتي يا أرحم الراحمين ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله) (2) .

ومن دعاء له (عليه السلام)
  (يا سابق كل فوت ، يا سامعاً لكل صوت قوي أو خفي ، يا محيي النفوس بعد الموت ، لا تغشاك الظلمات الحندسية ، ولا تشابه عليك اللغات المختلفة ، ولا يشغلك شيء عن شيء ، يا من لا يشغله دعوة داع دعاه من السماء ، يا من له عند كل شيء من خلقه سمع سامع ، وبصر نافذ ، يا من لا تغلظه كثرة المسائل ولا يبره إلحاح الملحّين ، يا حيّ حين لا حيّ في ديمومة ملكه وبقائه ، يا من سكن العلى ، واحتجب عن خلقه بنوره ، يا من أشرقت لنوره دجا الظلم ، أسألك باسمك الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي هو من جميع أركانك ، صلّ على محمد وأهل بيته) ثم يسأل حاجته (3) .

ومن دعاء له (عليه السلام)
  (توكّلت على الحيّ الذي لا يموت ، وتحصّنت بذي العزة والجبروت ، واستعنت بذي الكبرياء والملكوت ، مولاي استسلمت إليك فلا تسلمني ، وتوكّلت عليك فلا تخذلني ، ولجأت إلى ظلّك البسيط فلا تطرحني ، أنت المطلب ، واليك المهرب ، تعلم ما أخفي وما أعلن وتعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فامسك عنّي اللَّهمَّ أيدي الظالمين من الجنّ والإنس أجمعين ، واشفني يا ارحم الراحمين) (4) .

---------------------------
(1) نفسه ، ص 33
(2) أصول الكافي ، ص 562.
(3) بحار الأنوار ، ج 11 ، ص 239.
(4) أئمتنا ، ج 2 ، ص 56.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 36 _

ومن دعاء له عند الحاجة
  (يا الله ، أسألك بحق من حقّه عليك عظيم أن تصلّي على محمد وآل محمد وأن ترزقني العمل بما علّمتني من معرفة حقك ، وأن تبسط عليّ ما حظرت من رزقك) (1) .

ومن أدعيته دعاء على ظالم له
  وهذا دعاء طويل نقدم نصه الكامل ليتضح منه ما قاساه الإمام (عليه السلام) من طواغيت زمانه ، وقد دعاه في قنوته على بعض ظالميه من ملوك بني العباس المعاصرين له الذين جرّعوه أنواع الغصص والآلام قال (عليه السلام) : اللّهمّ ، إني وفلان ابن فلان ، عبدان من عبيدك ، نواصينا بيدك تعلم مستقرنا ومستودعنا ومنقلبنا ، ومثوانا ، وسرّنا ، وعلانيتنا ، تطلع على نياتنا ، وتحيط بضمائرنا ، علمك بما نبديه كعلمك بما نخفيه ومعرفتك بما نبطنه كمعرفتك بما نعلنه ، ولا ينطوي عندك شيء من أمورنا ، ولا ينسرّ دونك حال من أحوالنا ، ولا لنا منك معقل يحصننا ولا حرز يحرزنا ، ولا مهرب لنا نفوتك به ، ولا تمنع الظالم منك حصونه ، ولا يجاهدك عنه جنوده ، ولا يغالبك مغالب يمنعه ، أنت مدركه أينما سلك ، وقادر عليه أينما لجأ ، فمعاذ المظلوم منّا بك وتوكّل المقهور منّا عليك ، ورجوعه إليك ، يستغيث بك إذا خذله المغيث ، ويستصرخك إذا قعد عنه النصير ، ويلوذ بك إذا نفته الأقنية ، ويطرق بابك إذا أغلقت عنه الأبواب المرتجة ويصل إليك إذا احتجبت عنه الملوك الغفلة ، تعلم ما حلّ به من قبل أن يشكوه إليك ، وتعرف ما يصلحه قبل أن يدعوك له ، فلك الحمد بصيراً عليماً لطيفاً.
  اللَّهُمَّ ، وإنه قد كان في سابق علمك ، ومحكم قضائك ، وجاري قدرك ، ونافذ أمرك ، وماضي مشيئتك في خلقك أجمعين ، شقيّهم وسعيدهم ، وبرّهم وفاجرهم ، إن جعلت (لفلان ابن فلان) عليّ قدرة فظلمني بها وبغى عليّ بمكانها ، واستطال وتعزز بسلطانه الذي خوّلته إيّاه ، وتجبّر وافتخر بعلوّ حاله الذي نولته ، وغرّه املاؤك ، وأطغاه حلمك عنه ، فقصدني بمكروه عجزت عن الصبر عليه ، وتعمّدني بشرّ ضعفت عن احتماله ولم أقدر على الاستنصاف منه لضعفي ، ولا على الانتصار لقلّتي فوكلت أمره إليك ، وتوكّلت في شأنه عليك ، وتوعّدته بعقوبتك ، وحذّرته ببطشك ، وخوّفته بنقمتك ، فظنّ أن حلمك عنه من ضعف ، وحسب أن إملاءك له من عجز ، ولم تنهه واحدة عن أخرى ولا انزجر عن ثانية بأولى ، لكنّه تمادى في غيّه ، وتتابع في ظلمه ، ولجّ في عدوانه ، واستشرى في طغيانه ، جرأة عليك يا سيدي ومولاي ، وتعرّضاً لسخطك الذي لا تحبسه عن الباغين ، فها أنا يا سيدي مستضام تحت سلطانه مستذل بفنائه ، مبغيّ عليّ ، وجلّ خائف ، مروع مقهور قد قلّ صبري ، وضاقت حيلتي ، وتغلّقت عليّ المذاهب إلا إليك ، وانسدّت عنّي الجهات إلا جهتك ، والتبست عليّ أموري في دفع مكروهه ، واشتبهت عليّ الآراء في إزالة ظلمه ، وخذلني من استنصرته من خلقك ، وأسلمني من تعلّقت به من عبادك فاستشرت نصحي فأشار عليّ بالرغبة إليك ، واسترشدت دليلي فلم يدلّني إلا إليك ، فرجعت إليك يا مولاي صاغراً راغماً مستكيناً عالماً أنه لا فرج لي إلا عندك ، ولا خلاص لي إلا بك انتجز وعدك في نصرتي وإجابة دعائي ، لأن قولك الحق الذي لا يردّ ولا يبدّل ، وقد قلت تباركت وتعاليت ، (ومن بغي عليه لينصرنّه الله) وقلت جل ثناؤك ، وتقدّست أسماؤك : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) فأنا فاعل ما أمرتني به لا منّا عليك ، وكيف أمنّ به وأنت دللتني عليه ، فاستجب لي كما وعدتني يا من لا يخلف الميعاد ، وإني لأعلم يا سيدي إن لك يوماً تنتقم فيه من الظالم للمظلوم ، وأتيقن أن لك وقتاً تأخذ فيه من الغاصب للمغصوب لأنه لا يسبقك معاند ، ولا يخرج من قبضتك منابذ ، ولا تخاف فوت فائت ، ولكن جزعي وهلعي لا يبلغان الصبر على أناتك ، وانتظار حلمك ، فقدرتك يا سيدي فوق كل قدرة ، وسلطانك غالب كل سلطان ، ومعادِ كلّ أحد إليك وإن أمهلته ، ورجوع كل ظالم إليك وأن انظرته ، وقد أضرني ـ يا سيدي ـ حلمك عن (فلان) وطول أناتك له ، وإمهالك إيّاه ، ويكاد القنوط أن يستولي عليّ لو لا الثقة بك ، واليقين بوعدك ، فإن كان في قضائك النافذ ، وقدرتك الماضية أنه ينيب ، أو يتوب ، أو يرجع عن ظلمي ، ويكفّ عن مكروهي ، وينتقل عن عظيم ما ركب منّي ، فصلّ على محمد وآله ، وأوقع ذلك فيقلبه قبل إزالة نعمتك التي أنعمت بها عليه ، وتكدير معروفك الذي صنعته إليه ، وإن كان علمك به غير ذلك من مقامه على ظلمي ، فإنّي أسالك يا ناصر المظلومين المبغي عليهم اجابة دعوتي ، فصلّ على محمد وآله وخذه من مأمنه أخذ عزيزٍ مقتدر ، وأفجأه في غفلته مفاجأة مليك منتصر ، واسلبه نعمته وسلطانه ، وافضض عنه جموعه وأعوانه ، ومزّق ملكه كل مزّق ، وفرّق أنصاره كل مفرق ، واعزله من نعمتك التي لم يقابلها بالشكر والإحسان ، وانزع عنه سربال عزّك الذي لم يجازه بالإحسان ، واقصمه يا قاصم الجبابرة ، وأهلكه يا مهلك القرون الخالية ، وابره يا مبير الأمم الظالمة ، واخذله يا خاذل الفرق الباغية ، وابتر عمره ، وابتز ملكه ، واعف أثره ، واقطع خبره ، واطف ناره ، واظلم دياره ، وكوّر شمسه ، وازهق نفسه ، واهشم سوقه ، وجب سنامه ، وارغم أنفه ، وعجل حتفه ، ولا تدع له جنة إلا هلكتها ، ولا دعامة إلا قصمتها ، ولا كلمة مجتمعة إلا فرّقتها ، ولا قائمة علو إلا وضعتها ولا ركناً إلا وهنته ، ولا سبباً إلا قطعته ، وأرنا أنصاره وجنوده عبيداً بعد العزّة ، واجعلهم متفرّقين بعد اجتماع الكلمة ومقنعي الرؤوس بعد الظهور على الأمة ، واشف بزوال أمره القلوب الوجلة ، والأفئدة اللهيفة ، والأمّة المتحيّرة ، والبريّة الضابعة ، واظهر بزواله الحدود المعطّلة ، والسنن الداثرة ، والأحكام المهملة والمعالم المتغيّرة ، والآيات المحرّفة ، والمدارس المهجورة ، والمحاريب المجفوّة ، والمشاهد المهدومة ، واشبع به الخماص السابغة ، واروا به اللهوات اللاغبة ، والأكباد الضامية ، وأرح به الأقدام المتعبة واطرقه ببليّة لا أخت لها ، وبساعة لا مثوى فيها ، وبنكبة لا انتعاش معها ، وبعثرة لا إقالة منها ، وأبح حريمه ، ونغّص نعيمه ، وأره بطشتك الكبرى ، ونقمتك المثلى ، وقدرتك التي هي فوق قدرته ، وسلطانك الذي هو أعز من سلطانه ، وأغلبه لي بقوّتك القوية ، ومحالك الشديد ، وامنعني منه بمنعك ، وابتله بفقر لا يجبره ، وبسوء لا يستره ، وكله إلى نفسه فيما تريد ، انك فعال لما تريد ، وابره من حولك وقوتك ، وكله إلى حوله وقوّته ، وأزل مكره بمكرك ، وادفع مشيئته بمشيئتك ، واسقم جسده ، وايتم ولده ، ونقّص أجله ، وخيّب أمله ، وأزل دولته ، وأطل عولته ، واجعل شغله في بدنه ، ولا تفكّه من حزنه وصيّر كيده في ضلال ، وأمره إلى زوال ونعمته إلى انتقال وجده في سفال ، وسلطانه في اضمحلال ، وعاقبته إلى شر مآل ، وأمته بغيظه إن أمتّه ، وابقه بحسرته أن ابقيته ، وقني شره وهمزه ولمزه وسطوته وعداوته ، والمحه لمحة تدمر بها عليه ، فإنّك أشد بأساً وأشد تنكيلا ...) (2) .

---------------------------
(1) أصول الكافي ، ج 2 ، ص 553.
(2) مهج الدعوات ، ص 67.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 37 _

استجابة دعاء الإمام الكاظم (عليه السلام)
  عاش أهل البيت (عليهم السلام) مظلومين مضطهدين طيلة الحكم الأموي الغاشم ولما انتقل الحكم إلى العباسيين باسم العلويين حسب الناس أن الحكم العباسي سوف يخفف عنهم الوطأة ، ويرفع عنهم الحيف.
  ولما جاءت رايات أبي مسلم الخراساني بانتصار العلويين ، وللأخذ بثأرهم وظلامتهم ، أصبح الأمر معكوساً ، فإذا بالعباسيين يظلمون وينكّلون بأئمة أهل البيت ، ويتتبعونهم قتلاً وسجناً وتشريداً حتى كانت مدة ملكهم أشد قسوة من بني أمية.
  فقال أحد الشعراء :
تالله  مـا فعلت علوج أمية      معشار ما فعلت بنو العباس
  وقال آخر :
يـا لـيت ظلم بني أمية دام iiلنا      وليت عدل بني العباس في النار
  ولم يلجأ أئمة أهل البيت إلى الدعاء على ظالميهم إلا عندما يبلغ الظلم منتهاه ، والجور غايته ، ويطفح الكيل ... وجاء في كتاب عيسى بن جعفر للرشيد : (لقد طال أمر موسى بن جعفر ومقامه في حبسي ، وقد اختبرت حاله ووضعت عليه العيون طوال هذه المدة ، فما وجدته يفتر عن العبادة ، ووضعت من يسمع منه ما يقوله في دعائه ، فما دعا عليك ولا عليّ ، ولا ذكرنا بسوء وما يدعو لنفسه إلا بالمغفرة والرحمة ...) (1) .
  إذا عرفنا هذا منه صلوات الله وسلامه عليه ، نقدر شدة الظروف التي مرّت عليه فاضطرته للدعاء على ظالميه.
  وسوف نذكر بعض ما ورد من استجابة دعائه (عليه السلام) :
  1 ـ قال عبد الله بن صالح : حدثنا صاحب الفضل بن الربيع قال : كنت ذات ليلة في فراشي ، مع بعض جواريي ، فلما كان في نصف الليل سمعت حركة باب المقصورة ، فراعني ذلك ، فقالت الجارية : لعلّ هذا من الهواء ، فلم يمض إلا يسير حتى رأيت باب البيت الذي كنت فيه قد فتح وإذا مسرور الكبير قد دخل عليّ ، فقال : أجب الرشيد ، ولم يسلّم عليّ ، فيئست من نفسي ، وقلت : هذا مسرور ، ويدخل بلا إذن ولم يسلّم ، ما هو إلا القتل ، فقالت الجارية لما رأت تحيّري : ثق بالله عزّ وجلّ وانهض ، فنهضت ولبست ثيابي ، وخرجت معه حتى أتيت الدار ، فسلمت على أمير المؤمنين وهو في مرقده ، فرد علي السلام فسقطت.
  فقال : تداخلك رعب !
  قلت : نعم يا أمير المؤمنين.
  فتركني ساعة حتى سكنت ثم قال : صر إلى حبسنا فاخرج موسى بن جعفر بن محمد ، وادفع إليه ثلاثين ألف درهم ، واخلع عليه خمس خلع ، واحمله على ثلاثة مراكب ، وخيره بين المقام معنا أو الرحيل عنا إلى أي بلاد أحب.
  فقلت له : يا أمير المؤمنين ! تأمر بإطلاق موسى بن جعفر ؟!
  قال : نعم ، فكررت ثلاث مرات.
  فقال : نعم ، ويلك ! أتريد أن أنكث العهد ؟!
  فقلت : يا أمير المؤمنين ! وما العهد ؟!
  قال : بينا أنا في مرقدي هذا إذ ساورني أسد ، ما رأيت من الأسود أعظم منه ، فقعد على صدري وقبض على حلقي ، وقال لي : حبست موسى بن جعفر ظالماً له.

---------------------------
(1) أعيان الشيعة ، ج 3 ، ص 61.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 38 _

  فقلت : وأنا أطلقه ، وأهب له ، وأخلع عليه ، فأخذ عليّ عهد الله عزّ وجلّ وميثاقه وقام عن صدري وقد كادت نفسي أن تخرج فقال : فخرجت من عنده ووافيت موسى بن جعفر (عليه السلام) وهو في حبسه ، فرأيته قائماً يصلّي ، فجلست حتى سلّم ، ثم أبلغته سلام أمير المؤمنين وأعلمته بالذي أمرني به في أمره ، وإني قد أحضرت ما وصله به.
  فقال : إن كنت أمرت بشيء غير هذا فأفعله.
  فقلت : لا وحق جدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ما أمرت إلا بهذا.
  فقال : لا حاجة لي في الخلع والحملان والمال إذا كانت فيه حقوق الأمة.
  فقلت : ناشدتك الله أن لا تردّه فيغتاظ.
  فقال : اعمل به ما أحببت.
  وأخذت بيده (عليه السلام) وأخرجته من السجن ، ثم قلت له : يا ابن رسول الله أخبرني ما السبب الذي نلت به هذه الكرامة من هذا الرجل فقد وجب حقّي عليك لبشارتي إيّاك ، ولما أجراه الله تعالى من هذا الأمر ؟
  فقال (عليه السلام) : رأيت النبي (صلّى الله عليه وآله) ليلة الأربعاء في النوم فقال لي : يا موسى أنت محبوس مظلوم.
  فقلت : نعم يا رسول الله محبوس مظلوم.
  فكرّر علي ثلاثاً ، ثم قال : (لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين).
  أصبح غداً صائماً ، واتبعه بصيام الخميس والجمعة ، فإذا كان وقت الإفطار فصل اثنتي عشرة ركعة ، تقرأ في كل ركعة : الحمد واثنتي عشرة قل هو الله أحد ، فإذا صليت منها أربع ركعات فاسجد ، ثم قال : (يا سابق الفوت ، يا سامع كل صوت ويا محي العظام وهي رميم بعد الموت ، أسألك باسمك العظيم الأعظم أن تصلي على محمد عبدك ورسولك ، وعلى أهل بيته الطاهرين وأن تعجل لي الفرج ممّا أنا فيه) ، ففعلت فكان الذي رأيت (1) .
  2 ـ ونقل صاحب كتاب نثر الدرر : أن موسى بن جعفر الكاظم ذكر له ، أن الهادي قد هم بك ، قال لأهل بيته ومن يليه : ما تشيرون به عليّ من الرأي ؟
  فقالوا : نرى أن تتباعد عنه ، وأن تغيب شخصك عنه ، فإنّه لا يؤمن عليك من شره ، فتبسم ثم قال : زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب.
  ثم رفع يده إلى السماء فقال : (الهي كم من عدو شحذ لي ظبة مديته ، وأرهف لي شبا حدّه ، وداف لي قواتل سمومه ، ولم تنم عني عين حراسته ، فلما رأيت ضعفي عن احتمال الفوادح ، وعجزي عن ملمّات الحوائج ، صرفت ذلك عني بحولك وقوتك لا بحلوي وقوتي ، وألقيته في الحفيرة التي احتفرها لي خائباً ممّا أمله في دنياه ، متباعداً عما يرجوه في أخراه فلك الحمد على قدر ما عممتني فيه نعمك ، وما توليتني من جودك وكرمك ، اللّهم فخذه بقوتك ، وافلل حده عني بقدرتك ، واجعل له شغلاً فيما يليه ، وعجزاً به عما ينويه ، اللَّهُمَّ واعدني عليه عدوة حاضرة تكون من غيظي شفاءً ، ومن حنقي عليه وفاءً ، وصل اللّهم دعائي بالإجابة ، وانظم شايتي بالتغيير ، وعرفه عما قليل ما وعدت به من الإجابة لعبيدك المضطرين إنك ذو الفضل العظيم ، والمن الجسيم).

---------------------------
(1) أئمتنا ، ج 2 ، ص 59 ـ 61.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 39 _

  ثم إن أهل بيته انصرفوا عنه ، فلما كان بعد مدة يسيرة اجتمعوا لقراءة الكتاب الوارد على موسى الكاظم بموت الهادي ، وفي ذلك يقول بعضهم :
وسارية لم تسر في الأرض تبغي      محلاً ولم يقطع بها الأرض قاطع
  3 ـ وروى الكليني عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير قال : حدثني أبو جعفر الشامي قال : حدثني رجل بالشام يقال له هلقام ، قال : أتيت أبا إبراهيم (عليه السلام) فقلت له : جعلت فداك علمني دعاء جامعاً للدنيا والآخرة وأوجز ، فقال : قل في دبر الفجر إلى أن تطلع الشمس : (سبحان الله العظيم وبحمده استغفر الله وأسأله من فضله).
  قال هلقام : لقد كنت من أسوء أهل بيتي حالاً فما علمت حتى أتاني ميراث من قبل رجل ما ظننت أن بيني وبينه قرابة وإني اليوم من أيسر أهل بيتي وما ذلك إلا بما علمني مولاي العبد الصالح (عليه السلام)) (1) .
  4 ـ ومن دعائه (عليه السلام) عندما كان محبوساً يقلب خديه على التراب : (يا مذل كل جبار ومعزّ كل ذليل وحقك بلغ مجهودي ، فصلّ على محمد وآل محمد وفرّج عني) (2) .
  5 ـ وقال داود بن زربي : سمعت أبا الحسن الأول (عليه السلام) يقول : اللّهم إني أسالك العافية ، وأسألك جميل العافية ، وأسألك شكر العافية ، وأسألك شكر شكر العافية.
  وكان النبي (صلّى الله عليه وآله) يدعو ويقول : أسألك تمام العافية ثم قال : تمام العافية الفوز بالجنة ، والنجاة من النار) (3) .
  ولا ريب أن الدعاء من قلب العبد الصالح المؤمن ، التقي ، الورع يستجاب من الله العزيز القدير ، وجاء ذلك في القرآن الكريم : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (4) .

أدعية الأسبوع
  روى الشيخ الطوسي ، قدس الله سره ، بإسناده عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) :

دعاء يوم الجمعة
  مرحباً بخلق الله الجديد وبكما من كاتبين وشاهدين أكتبا : بسم الله ، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وأن الإسلام كما وصف ، والدين كما شرع ، وأن الكتاب كما أنزل ، والقول كما حدث ، وإن الله هو الحق المبين ، وصلوات الله وبركاته وشرايف تحياته وسلامه على محمد وآله ، أصبحت في أمان الله الذي لا يستباح ، وفي ذمة الله التي لا تخفر وفي جوار الله الذي لا يُضام ، وكنفه الذي لا يرام ، وجار الله آمن محفوظ ، ما شاء الله ، كل نعمة فمن الله الله ، ما شاء الله ، لا يأتي الخير إلا الله ما شاء الله ، نعم القادر الله ما شاء الله ، توكّلت على الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، اللّهم اغفر لي كل ذنب يحبس رزقي ، ويحجب مسألتي ، أو يقصر بي عن بلوغ مسألتي ، أو يصد بوجهك الكريم عني.

---------------------------
(1) الكافي ، ج 2 ، ص 550.
(2) بحار الأنوار ، ج 94 ، ص 313.
(3) المصدر نفسه ، ج 95 ، ص 362.
(4) سورة غافر ، الآية 60.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 40 _

  اللّهم اغفر لي ، وارزقني ، وارحمني ، واجبرني ، وعافني ، واعف عنّي وارفعني ، واهدني ، وانصرني ، والق قلبي الصبر والنصر يا مالك الملك ، فإنه لا يملك ذلك غيرك ، اللّهم وما كتبت عليّ من خير فوفّقني واهدني له ، ومُنَّ عليّ به ، وأعني وثبّتني عليه ، واجعله أحب إليّ من غيره ، وأثر عندي ممّا سواه ، وزدني من فضلك.
  اللّهم إني أسألك رضوانك والجنة ، وأعوذ بك من سخطك والنار ، وأسألك النصيب الأوفر في جنّات النعيم.
  اللّهم طهّر لساني من الكذب ، وقلبي من النفاق ، وعملي من الرياء وبصري من الخيانة ، فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور اللّهم إن كنت عندك محروماً مقتراً عليّ رزقي فامح حرماني وتقتير رزقي ، واكتبني عندك مرزوقاً موفّقاً للخيرات ، فإنك قلت تباركت وتعاليت ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) صلى الله على محمد وآله إنك حميد مجيد.

دعاء يوم السبت
  مرحباً بخلق الله الجديد وبكما من كاتبين وشاهدين ، اكتبا بسم الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وأشهد أن الإسلام كما وصف ، وإن الدين كما شرع ، وإن الكتاب كما أنزل ، والقول كما حدث ، وإن الله هو الحق المبين ، وصلوات الله وسلامه على محمد وآله أصبحت.
  اللّهم في أمانك اسلمت إليك نفسي ، ووجهت إليك وجهي ، وفوضت إليك أمري ، وألجأت إليك ظهري ، رهبة منك ، ورغبة إليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، آمنت بكتابك الذي أنزلت ، ورسولك الذي أرسلت.
  اللّهم إني فقير إليك فارزقني بغير حساب ، إنّك ترزق من تشاء بغير حساب.
  اللّهم إني أسألك الطيّبات من الرزق ، وترك المنكرات وحب المساكين ، وأن تتوب عليّ.
  اللّهم إني أسألك بكرامتك التي أنت أهلها أن تتجاوز عن سوء ما عندي بحسن ما عندك يا الله ، وأن تعطيني من جزيل عطائك أفضل ما أعطيته أحداً من عبادك ، اللّهم إني أعوذ بك من مال يكون عليّ فتنة ، ومن ولد يكون لي عدواً.
  اللّهم قد ترى مكاني ، وتسمع ندائي وكلامي ، وتعلم حاجتي ، اسالك بجميع أسمائك أن تقضي لي كل حاجة من حوائج الدنيا والآخرة.
  اللّهم إني أدعوك دعاء عبد ضعفت قوّته ، واشتدت فاقته ، وعظم جرمه وقلّ عدده ، وضعف عمله ، دعاء من لا يجد لفاقته ساداً غيرك ، ولا لضعفه عوناً سواك ، أسألك جوامع الخير وخواتمه وسوابقه وفوائده وجميع ذلك بدوام فضلك وإحسانك ، ويمنك ورحمتك ، فارحمني واعتقني من النار ، يا من كبس الأرض على الماء ، يا من سمك السماء في الهواء ، ويا واحداً قبل كل أحد ، ويا واحداً بعد كل شيء ، ويا من لا يعلم ولا يدري كيف هو إلا هو ، ويا من لا يقدّر قدرته إلا هو ، ويا من كل يوم هو في شأن ، يا من لا يشغله شأن عن شأن ، ويا غوث المستغيثين ، ويا صريخ المكروبين ، يا مجيب دعوة المضطرين ، ويا رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما.
  رب ارحمني رحمة لا تضلّني لا تشقني بعدها أبداً ، أنت حميد مجيد وصلى الله على محمد وآله وسلم.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 41 _

دعاء يوم الأحد
  مرحباً بخلق الله الجديد وبكما من كاتبين وشاهدين ، اكتبا : باسم الله ، اشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، واشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وأن الإسلام كما وصف ، والدين كما شرع ، وأن الكتاب كما أنزل ، والقول كما حدث وأن الله هو الحق المبين حيّا الله محمداً بالسلام ، وصلى عليه كما هو أهله وعلى آله ، أصبحت وأصبح الملك والكبرياء والعظمة والخلق والأمر والليل والنهار وما يكون فيهما لله وحده لا شريك له.
  اللهم اجعل أوّل هذا النهار صلاحاً ، وأوسطه نجاحاً وآخره فلاحاً وأسألك خير الدنيا والآخرة.
  اللّهم لا تدع لي ذنباً إلا غفرته ، ولا همّاً إلا فرجته ، ولا ديناً إلا قضيته ، ولا غائباً إلا حفظته ، وأديته ، ولا مريضاً إلا شفيته ، وعافيته ، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة لك فيها رضى ولي فيها صلاح إلا قضيتها.
  اللّهم تمّ نورك فهديت ، وعظم حلمك فعفوت ، وبسطت يدك فأعطيت ، فلك الحمد ، وجهك خير الوجوه ، وعطيّتك أنفع العطيّة ، فلك الحمد تطاع ربنا فتشكر ، وتعصى ربنا فتغفر ، تجيب المضطر وتكشف الضر ، وتشفي السقم ، وتنجي من الكرب العظيم ، لا تجزي بآلائك ، ولا يحصي نعمائك أحدٌ ، رحمتك وسعت كل شيء فارحمني ، ومن الخيرات فارزقني.
  تقبل صلاتي ، واسمع دعائي ، ولا تعرض عني يا مولاي حين أدعوك ، ولا تحرمني الهي حين أسألك من أجل خطاياي ، الهي لا تحرمني لقاءك ، واجعل محبّتي وإرادتي محبتك وإرادتك ، واكفني هول المطلع.
  اللّهم إني أسألك إيماناً لا يرتد ، ونعيماً لا ينفذ ، ومرافقة محمد (صلّى الله عليه وآله) في أعلى جنة الخلد.
  اللّهم وأسألك العفاف والتقى ، والعمل بما تحب وترضى ، والرضا بالقضاء والنظر إلى وجهك.
  اللّهم لقّني حجّتي عند الممات ، ولا ترني عملي حسرات.
  اللّهم اكفني طلب ما لم تقدر لي من الرزق ، وما قسمت لي فاتني به يا الله في يسر منك وعافية.
  اللّهم إني أسألك توبة نصوحاً تقبلها مني ، تبقي عليّ بركتها وتغفر بها ما مضى من ذنوبي وتعصمني بها فيما مضى من عمري يا أهل التقوى والمغفرة ، وصلّى الله على محمد وآل محمد إنك حميد مجيد.

دعاء يوم الاثنين
  مرحباً بخلق الله الجديد وبكما من كاتبين وشاهدين ، اكتبا : بسم الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وأشهد أن الإسلام كما وصف ، وأن الدين كما شرع ، وأن القول كما حدث ، وأن الكتاب كما أنزل ، وأن الله هو الحق المبين ، حيّا الله محمداً بالسلام ، وصلى عليه وعلى آله ، اللّهم ما أصبحت فيه من عافية في ديني ودنياي فأنت الذي أعطيتني ورزقتني ووفقتني له وسترتني ، ولا حمد لي يا الهي في ما كان مني من خير ، ولا عذر لي منه.
  اللهم إنّه لا حول ولا قوّة لي على جميع ذلك إلا بك ، يا من بلغ أهل الخير وأعانهم عليه بلغني الخير وأعني عليه.
  اللّهم أحسن عاقبتي في الأمور كلها ، وأجرني من مواقف الخزي في الدنيا والآخرة ، إنك على كل شيء قدير.
  اللّهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك ، وأسألك الغنيمة من كل برّ والسلامة من كل إثم ، وأسألك الفوز بالجنّة ، والنجاة من النار.
  اللّهم رضّني بقضائك حتى لا أحب تعجيل ما أخرت ، ولا تأخير ما عجّلت عليّ.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 42 _

  اللّهم اعطني ما أحببت واجعله خيراً لي.
  اللّهم ما انسيتني فلا تنسني ذكرك وما أحببت فلا أحب معصيتك.
  اللّهم امكر لي ولا تمكر عليّ ، واعني ولا تعن عليّ ، وانصرني ولا تنصر عليّ ، واهدني ويسر لي الهدى ، واعني على من ظلمني حتى أبلغ فيه ثأري.
  اللّهم اجعلني لك شاكراً ذاكراً لك ، محبّاً لك ، راهباً ، واختم لي منك بخير.
  اللّهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أن تحيني ما كانت الحياة خيراً لي ، وإن تتوفاني إذا كانت الوفاة خيراً لي ، وأسألك خشيتك في السر والعلانية ، والعدل في الرضى والغضب ، والقصد في الغنى والفقر ، وأن تحبب إليّ لقاءك في غير ضرّاء مضرّة ، ولا فتنةٍ مضلّة ، واختم لي بما ختمت به لعبادك الصالحين إنك حميد مجيد.

دعاء يوم الثلاثاء
  مرحباً بخلق الله الجديد وبكما من كاتبين وشاهدين ، اكتبا : بسم الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وأشهد أن الإسلام كما وصف ، وأن الدين كما شرع ، وأن القول كما حدث ، وأن الكتاب كما أنزل ، وأن الله هو الحق المبين ، حيّا الله محمداً بالسلام ، وصلى عليه وعلى آله ، وأصبحت أسألك يا الله والعافية في ديني ودنياي وآخرتي وأهلي ومالي وولدي.
  اللّهم استر عوراتي وأجب دعواتي ، واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ، اللّهم إن رفعتني فمن ذا الذي يضعني ، وإن تضعني فمن ذا الذي يرفعني.
  اللّهم لا تجعلني للبلاء عرضاً ، ولا للفتنة نصباً ، ولا تتبعني ببلاء على اثر بلاء ، فقد ترى ضعفي وقلّة حيلتي وتضرّعي ، أعوذ بك من جميع غضبك فأعذني ، واستجير بك فأعنّي ، وأتوكّل عليك فاكفني ، واستهديك فاهدني ، واستعصمك فاعصمني ، واستغفرك فاغفر لي ، واسترحمك فارحمني ، واسترزقك فارزقني ، سبحانك من ذا يعلم ما أنت ولا يخافك ، ومن يعرف قدرتك ولا يهابك ، سبحانك ربّنا.
  اللّهم إنّي أسألك إيماناً دائماً ، وقلباً خاشعاً ، وعلماً نافعاً ويقيناً صادقاً ، وأسألك ديناً قيّماً ، وأسألك رزقاً واسعاً.
  اللّهم لا تقطع رجاءنا ، ولا تخيّب دعاءنا ، ولا تجهد بلاءنا ، وأسألك العافية والشكر على العافية ، وأسألك الغنى عن الناس أجمعين يا ارحم الراحمين ، ويا منتهى همّة الراغبين والمفرّج عن المغمومين ، ويا من إذا أراد شيئاً فحسبه أن يقول له كن فيكون.
  اللّهم إنّ كل شيء لك ، وكل شيء بيدك ، وكل شيء إليك يصير ، وأنت على كل شيء قدير ، لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ميسّر لما عسّرت ، ولا معقّب لما حكمت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجدّ ، ولا قوّة إلا بك ، ما شئت كان ، وما لم تشأ لم يكن.
  اللّهم فما قصر عنه عملي (رأيي) ، ولم تبلغه مسألتي من خير وعدته أحداً من خلقك ، وخير أنت معطيه أحداً من خلقك ، فإنّي أسألك وأرغب إليك فيه يا أرحم الراحمين.
  اللّهم صل على محمد وآله إنك حميد مجيد.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 43 _

دعاء يوم الأربعاء
  مرحباً بخلق الله الجديد وبكما من كاتبين وشاهدين ، اكتبا : بسم الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وأشهد أن الإسلام كما وصف ، والدين كما شرع ، وأن الكتاب كما أنزل ، وأن القول كما حدث ، وأن الله هو الحق المبين ، حيّا الله محمداً بالسلام ، وصلى عليه وعلى آله.
  اللّهم اجعلني من أفضل عبادك نصيباً في كل خير تقسمه في هذا اليوم ، من نور تهدي به ، أو رزق تبسطه ، أو ضرّ تكشفه ، أو بلاء تصرفه ، أو شرّ تدفعه ، أو رحمة تنشرها ، أو معصية تصرفها.
  اللّهم اغفر لي ما قد سلف من ذنوبي ، واعصمني فيما بقي من عمري ، وارزقني عملاً ترضى به عنّي.
  اللّهم إني أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك ، أو أنزلته في شيء من كتبك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أو علّمته أحداً من خلقك ، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، وشفاء صدري ، ونور بصري ، وذهاب همي وحزني إنه لا حول ولا قوّة إلا بك.
  اللّهم رب الأرواح الفانية ، ورب الأجساد البالية ، أسألك بطاعة الأرواح البالغة إلى عروجها ، وبطاعة القبور المشتقة عن أهلها ، وبدعوتك الصادقة فيهم ، وأخذك الحق بينهم وبين الخلائق مثلاً ينطقون من مخافتك ، يرجون رحمتك ، ويخافون عذابك ، أسألك النور في بصري ، واليقين في قلبي ، والإخلاص في عملي ، وذكرك على لساني أبداً ما أبقيتني.
  اللّهم ما فتحت لي من باب طاعة فلا تغلقه عنّي أبداً ، وما أغلقت عنّي من باب معصية فلا تفتحه عليّ أبداً.
  اللّهم ارزقني حلاوة الإيمان ، وطعم المغفرة ، ولذّة الإسلام ، وبرد العيش بعد الموت ، إنّه لا يملك ذلك غيرك.
  اللّهم إنّي أعوذ بك أن أضل أو أذل أو أظلم أو آمر أو أجهل أو يجهل عليّ ، أو أجور أو يجار عليّ ، أخرجني من الدنيا مغفوراً لي ذنبي ، ومقبولاً عملي ، واعطني كتابي بيميني ، واحشرني في زمرة النبي محمد وآله.

دعاء يوم الخميس
  مرحباً بخلق الله الجديد وبكما من كاتبين وشاهدين ، اكتبا : بسم الله أشهد أن لا إله إلا الله واشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وأشهد أن الإسلام كما وصف ، وأن الدين كما شرع ، والقول كما حدث ، والكتاب كما أنزل ، وإنّ الله هو الحق المبين ، حيا الله محمداً بالسلام ، وصلى عليه وعلى آله.
  أصبحت أعوذ بوجه الله الكريم ، واسمه العظيم ، وكلماته التامة ، من شر السامة ، والهامة ، والعين اللامة ، ومن شر ما خلق وذرأ وبرأ ، ومن شر كل دابة ربّي أخذ بناصيتها ، إنّ ربّي على صراط مستقيم.
  اللّهم إني أعوذ بك من جميع خلقك ، وأتوكّل عليك في جميع أموري ، فاحفظني من بين يدي ومن خلفي ومن فوقي ومن تحتي ولا تكلني في حوائجي إلى عبد من عبادك فيخذلني ، أنت مولاي وسيّدي فلا تخيّبني من رحمتك.
  اللّهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك ، وتحويل عافيتك ، استعنت بحول الله وقوّته من حول خلقه وقوّتهم ، وأعوذ برب الفلق من شر ما خلق ، حسبي الله ونعم الوكيل.
  اللّهم أعزّني بطاعتك ، وأذلّ أعدائي بمعصيتك ، واقصمهم يا قاصم كل جبار عنيد ، يا من لا يخيب من دعاه ويا من إذا توكل العبد عليه كفاه ، اكفني كل مهم من أمر الدنيا والآخرة.
  اللّهم إنّي أسألك عمل الخائفين ، وخوف العاملين وخشوع العابدين ، وعبادة المتقين ، وإخبات المؤمنين ، وإنابة المخبين ، وتوكل الموقنين ، ويسر المتوكلين ، وألحقنا بالأحياء المرزوقين ، وأدخلنا الجنة ، واعتقنا من النار ، واصلح لنا شأننا كله.
  اللّهم إني أسألك إيماناً صادقاً يا من يملك حوائج السائلين ، ويعلم ضمير الصامتين ، إنك بكل خير عليم غير معلم أن تقضي لي حوائجي ، وأن تغفر لي ولوالدي ولجميع المؤمنين والمؤمنات ، والمسلمين والمسلمات ، الأحياء منهم والأموات ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله إنك حميد مجيد (1) .

---------------------------
(1) راجع مصباح المتهجد للشيخ الطوسي ، ص 350 ـ 357.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 44 _

قيمة الدعاء
  والدعاء باب كبير يستحق الدراسة بعناية خاصة من جميع جوانبه : الأدبية والاجتماعية والنفسية والدينية والأخلاقية ...
  والدعاء راحة للنفس فيه اعتزاز وكبرياء وإخلاص ، لأن الداعي يدعو ربّ العالمين ، وفاطر السماوات والأرض ورب العرش العظيم وهل أعظم وأرفع وأفضل وأنبل من الله عزّ وجلّ ، الرحمان الرحيم ، الذي يقول للشيء كن فيكون ؟!
  ألم يخلق الإنسان بأحسن تقويم ، وخلق له جميع ما في الدنيا من الطيّبات إلا يحق أن يسبّحه في كل أوان ، ويدعوه عند اشتداد البلايا والأحزان ؟
  فالدعاء يصبح ذوب أنفاس أفعمت بحب الخالق ، وفيض أرواح تقطّعت في سبيل العشق الإلهي ، وهو ابتهالات تأخذ بمجامع القلوب ونبضات الجوارح وإطلالة شوق إلى عالم القدسية والطهارة.
  والدعاء هو الذي ينمي في روح الإنسان الصلة الروحية بالله حيث يشعر الداعي بأن الله عزّ وجلّ قريب منه وقريب من آلامه ، وحلال لمشاكله ، وملبّي حاجاته ، فيدعو ربّه ليفتح عليه أبواب رحمته ، وليخفف عنه ما ثقل عليه من ذلك ، ويقضي له ما صعب حله ، وبعدها يأتيه الفرج ، ويدخل إلى قلبه الفرح.
  يقول الإمام الكاظم : ( ... يا رحيماً بكل مسترحم ، ويا رؤوفاً بكل مسكين ، ويا أقرب من دعي وأسرعه إجابة ، ويا مفرّجاً عن كل ملهوف ، ويا خير من طلب منه الخير وأسرعه عطاءً ونجاحاً ، وأحسنه عطفاً وتفضّلاً ) والدعاء هو الفناء في الله جل وعلا حيث تعقبه حياة أبدية ، والرحيل إليه بشوق يبعث حرارة الشعور وصدق العاطفة ، ونبل الأحاسيس ، وشفافية الروح إلى من إليه ترجع الأمور.
  والدعاء أيضاً هو نموذج لنقاء السريرة ، وإخلاص القلوب ، وصفاء الرؤى.
  يقول الإمام الكاظم : (السر عندك علانية ، والغيب عندك شهادة ، تعلم وهم القلوب ، ورجم الغيوب ، ورجع الألسن ، وخائنة الأعين وما تخفي الصدور وأنت رجاؤنا عند كل شدة ، وغياثنا عند كل محل ، وسيّدنا في كل كريهة ، وناصرنا عند كل ظلم ، وقوّتنا عند كل ضعف ، وبلاغنا في كل عجز؛ كم من كريهة وشدة ضعفت فيها القوة ، وقلّت فيها الحيلة ، أسلمنا فيها الرفيق وخذلنا فيها الشفيق ، أنزلتها بك يا رب ولم نرج غيرك ، ففرّجتها وخففت ثقلها ، وكشفت غمرتها ، وكفيتنا إيّاها عمن سواك).
  ولا يخفى على الأدباء أن أدعية الإمام الكاظم (عليه السلام) كأدعية جده الإمام زين العابدين (عليه السلام) (1) جاءت محببة إلى النفوس بما انطوت عليه من فنون البلاغة والفصاحة ، وجمال الأسلوب ، وسعة العرض ، وحسب التعبير ، وهي خير منهل يغرف منه طلاب الأدب والبلاغة والفصاحة والبيان وصناعة الكتابة.
  وهذه الأدعية عند الأئمة المعصومين يمكن أن تعطى أطروحة دراسات عليا بعنوان : الفن الأدبي في الدعاء ، أو أدب الدعاء عند أهل البيت (عليهم السلام) أو قيمة الدعاء وأثره في الأدب العربي.

---------------------------
(1) الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين (عليه السلام) وقد عالج هذا الموضوع عدد من الباحثين العلماء منهم السيد عباس الموسوي في كتابه (في رحاب الصحيفة السجادية).

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 45 _

الإمامة
  الذي دفعني إلى الحديث عن الإمامة هو سؤال بعض الأساتذة الزملاء في الجامعة اللبنانية ، كلية الآداب قوله : لماذا الشيعة يعظمون دور الإمامة اكثر ممّا تستحق ؟ وما هو دور الإمام بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) ؟
  قبل الجواب على هذا السؤال أرى من الغريب جداً ما يدعيه غير الشيعة من أن النبي (صلّى الله عليه وآله) رحل من هذه الدنيا ولم يوص إلى أحد من بعده ليقوم مقامه ، ويتحمّل مسؤولية تنفيذ الدعوة الإسلامية ، فترك الأمة بلا إمام يدير شؤونها ، ويجمع شملها ، ويوضح السنن ، ويقوّم الاعوجاج ، ويقيم الحدود ، ويرشد الضالين عن الخط الإسلامي الصحيح ؟!!
  وما هو ثابت عند المؤرخين وكتاب السنن أنه (صلّى الله عليه وآله) كان يستخلف على المدينة إذا أراد سفراً ، ولا يرسل جيشاً في مهمة حتى يعيّن له قائداً ، وربّما عين لبعض جيوشه أكثر من قائد (1) .
  ومن المؤسف أنه عندما يريدون تنزيه شخص أو جماعة يخلقون أفضل المبررات في نظرهم ، ويعتذرون عنهم بأحسن الأعذار.
  من ذلك ابتدع معاوية فرقة القصاصين الذين يشيدون بمآثره ، ويعيبون على عليّ وأنصاره.
  ثم اخترع فرقة المرجئة الذين يرجئون معايب ونقائص الخليفة إلى يوم الحساب ، ويعفى من محاسبة الجماعة له إن ظلم أو أخطأ.
  كما نسب إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله) وإلى الله سبحانه وتعالى ما لم ينزل به سلطان ، كل ذلك من أجل تصحيح عمل قام به السلف ، أو من أجل مصالح دنيوية ضيّقة ، وقد نسوا أو تناسوا قول الله تعالى : ( ... أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (2) .
  ولو أنصف الناس الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) لاكتفوا بنص الغدير وحده دون غيره من النصوص الكثيرة ، فقد شهد بيعة يوم الغدير جل المسلمين ، وشاهدوا المراسيم التي اجراها الرسول (صلّى الله عليه وآله) في ذلك اليوم التاريخي ومن العجيب كيف نسيت الأمة بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ذلك اليوم ، هذا والعهد قريب والرسول (صلّى الله عليه وآله) بعد لم يدفن والشهود الكثر حضور ، ولا أريد أن أخوض في هذا الحديث المؤلم الذي دب الاختلاف بين المسلمين وفرّقهم فرقاً وشيعاً.
  ولا يخفى على كل ذي بصر أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وحده المنصوص عليه بالخلافة من قبل الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) ، وكذلك أولاده عليهم الصلاة والسلام (3) .

---------------------------
(1) ففي حرب مؤتة أمّر الرسول (صلّى الله عليه وآله) جعفر بن أبي طالب ، وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة ، وجعل القيادة للأول ، فإن أصيب فللثاني فإن أصيب فللثالث.
(2) سورة يونس ، الآية 35.
(3) راجع أئمتنا ج 1 تجد نصوص الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) على الأئمة (عليهم السلام).

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 46 _

  وقد التزم الأئمة (عليهم السلام) في نص بعضهم على بعض ، السابق منهم على اللاحق ، والوالد على ولده ، إقامة للحجة ، وإعذاراً للأمة.
  وهنا أحد النصوص الكثيرة في حق الإمام موسىالكاظم (عليه السلام) من قبل أبيه الصادق (عليه السلام) : قال محمد بن الوليد : سمعت علي بن جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) يقول : سمعت أبي جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول لجماعة من خاصته وأصحابه : استوصوا يا بني موسى خيراً ، فإنه أفضل ولدي ، ومن أخلفه من بعدي ، وهو القائم مقامي ، والحجّة لله تعالى على كافة خلقه من بعدي) (1) .
  والإمام موسى (عليه السلام) بلغ أعلى مستويات الإنسانية وقيمها في مواهبه وعبقرياته ، فكان عنواناً فذاً من أفذاذ العقل الإنساني ، ومثلاً رائعاً من أمثلة الخير والكمال في الأرض ، وذلك لما أثر عنه من الفضائل والمآثر كدماثة الأخلاق ، والإحسان إلى الناس ، والصمود أمام الأحداث ، وسعة العلم ، ونبل الحلم ، إلى غير ذلك من النزعات الكريمة التي يقدّسها كل إنسان يقدّر المثل العليا ، ويؤمن بالانسانية الكريمة ، وقد منحه الله تعالى الإمامة ، وخصّه بالنيابة العامة عن جده الرسول الأعظم ، فهو أحد أوصيائه المعصومين ، وأحد خلفائه على أمته.
  والإمامة حسب مفهوم الشيعة ، كالنبوة لا يمنحها الله إلا للذوات الخيّرة التي طهرت من الأرجاس والآثام.
  وهي من أسمى المناصب الإلهية لا يتوّج بها إلا أفضل الخلق وأكرمهم عند الله.
  وهنا لابدّ من توضيح معنى الإمامة.

معنى الإمامة
  الإمام لفظاً
  يقال للطريق الواسع الواضح ، ولدليل المسافرين ، ولحادي الإبل ، والقدر الذي يتعلمه التلميذ كل يوم في المدرسة يقال : حفظ الصبي إمامه ، والقرآن للمسلمين جاء في التنزيل : ( وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) (2) ، (3) .
  والإمامة اصطلاحاً
  (رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا لشخص إنساني).
  والإمام حسب هذا التحديد هو الزعيم العام والرئيس المتبع الذي له السلطة الشاملة على جميع شؤون الناس الدينية والدنيوية فالنبي (صلّى الله عليه وآله) أولى بالمؤمنين من أنفسهم فكذلك الإمام حسب ما نص عليه النبي (صلّى الله عليه وآله) في خطابه بغدير خم حينما نصب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) خليفة وإماماً على المسلمين من بعده.

---------------------------
(1) الإرشاد ، ص 310.
(2) المعجم ، ج 1 ، ص 27.
(3) سورة يس ، الآية 12.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 47 _

حاجة الإمة إلى الإمامة
  الإمامة اصل من أصول التشريع الإسلامي ، اتفق المسلمون على ضرورتها ، لأن الشريعة الإسلامية مجموعة من الأحكام والقواعد فيها الحدود والعقوبات ، وفيها الحكم بما أنزل الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفيها الجهاد في سبيل الله ، والدفاع عن حياض الدين ، والإرث والزواج وكل ما يتعلق بتنظيم الحياة الدنيوية والدينية تنظيماً سليماً مباركاً يعود بالفائدة على الفرد والمجتمع.
  جاء في السياسة الشرعية لابن تيمية : ( إن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين ، بل لا قيام للدين إلا بها ، ولأن الله أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونصرة المظلوم وكذلك سائر ما أوجبه الله من الجهاد والعدل ، وإقامة الحدود ، ولا تتم إلا بالقوة والإمارة ... ) (1) .
  فلابد لوجود المسلمين السياسي والديني والاجتماعي من إمام يسوس أمرهم ويعالج قضاياهم على ضوء كتاب الله ، وسنّة نبيه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) ، ويسير فيهم سيرة حسنة قوامها العدل الخالص ، وإظهار الحق وإرجاعه إلى مستحقه.
  وبذلك تصبح الإمامة ضرورة من ضروريات الحياة الإسلامية لا يمكن الاستغناء عنها ، فبها تتحقق العدالة الكبرى التي ينشدها الله في الأرض عن طريق الأئمة العلماء ، ومن هنا كان القول المأثور : العلماء ورثة الأنبياء.
  ومن الأمور الضرورية الداعية إلى قيام الإمامة : ايصال الناس إلى معرفة الله وطاعته ، وارشاد المجتمع إلى الخير والحق والصلاح وتغذيته بروح الإيمان والتقوى وإبعاده عن الشرور والمفاسد.

الاتفاق على وجوبها
  اتفق عامة المسلمين على وجوب الإمامة بمعناها القيادي للامة سوى الخوارج فإنهم قالوا : لا يلزم الناس فرض الإمامة ، وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق فيما بينهم (2)
  وقد أجمع المسلمون على زيف ذلك وبطلانه أما الأخبار التي تضافرت على ضرورتها هي كثيرة اخترنا منها :
  1 ـ قول الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) : ( من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية وقال (صلّى الله عليه وآله) : من فارق الجماعة فمات ، مات ميتة جاهلية ، ومن قاتل تحت راية عصبية يغضب لغضبها أو يدعو إلى عصبة ، أو ينصر عصبة فقتل فقتلته جاهلية ) (3) .
  وقال ابن خلدون : (إن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين ولم تترك الناس فوضى في عصر ... واستقر ذلك إجماعاً دالاً على وجوب نصب الإمام ... ) (4) .
  يبدو واضحاً ممّا تقدم أن المسلمين قد أجمعوا منذ فجر التاريخ على ضرورة الإمام ، وإنها من الواجبات الشرعية التي لا تستقيم الحياة في البلاد الإسلامية بدونها.

---------------------------
(1) السياسة الشرعية ، ص 172 ـ 173.
(2) الملل والأهواء ، ج 4 ، ص 87.
(3) روى الحديث مسلم وكذلك رواه النسائي.
(4) المقدمة ، ص 151.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 48 _

تعيين الإمام
  أجمع الشيعة أن الانتخاب في الإمامة باطل ، والاختيار فيها مستحيل ، فحالها كحال النبوة ، ليس بيد الأمة ، ولا بيد أهل الحل والعقد فكما أن النبوة لا تكون بإيجاد الإنسان ورغبته كذلك الإمامة ، لأنّ العصمة التي هي شرط من شروط الإمامة عند الشيعة ، لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى ، المطلع على دخائل القلوب وخفايا النفوس ، فهو عزّ وجلّ وحده يمنحها لمن يشاء من عباده ويختاره لمنصب الإمامة والخلافة.
  فالنبوة والإمامة ، كونهما منصباً إلهياً فإن تعيينهما من مختصاته تعالى ولا يجوز فيهما الترشيح والانتخاب.
  وقد أعلن ذلك في القرآن الكريم ، قال تعالى : ( يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ) (1) .
  وقال تعالى أيضاً : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (2) .
  والنصوص المتضافرة عن أئمة أهل البيت تدل بوضوح على وجوب تعيين الإمامة من الله عزّ وجلّ.
  من تلك النصوص ما استدل به حجة الله على أرضه وخليفته على عباده الذي يصلح ما فسد من نظام الدين ويقوم الاعوجاج ، مهدي هذه الأمة عجل الله فرجه الشريف وذلك عندما سأله سعد بن عبد الله عن العلة التي تمنع من اختيار الناس إماماً لأنفسهم فأجابه (عليه السلام) قائلاً :
  ـ يختارون مصلحاً أو مفسداً ؟ ـ بل مصلحاً.
  ـ فهل يجوز أن تقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد بما يخطر ببال غيره من إصلاح أو فساد ؟
  ـ بلى.
  ـ فهي العلة أوردها لك ببرهان يثق به عقلك ، اخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله وأنزل الكتب عليهم ، وأيدهم بالوحي والعصمة ، إذ هم أعلام الأمم ، وأهدى إلى الاختيار ، منهم مثل موسى وعيسى هل يجوز مع وفور عقلهما ، وكمال علمهما إذا هما بالاختيار أن تقع خيرتهما على المنافق وهما يظنان أنه مؤمن.
  ـ لا.
  ـ هذا موسى كليم الله مع وفور عقله وكمال علمه ، ونزول الوحي عليه اختار من أعيان قومه ، ووجوه عسكره لميقات ربه سبعين رجلاً ممن لا يشك في إيمانهم وإخلاصهم ، فوقعت خيرته على المنافقين.
  قال تعالى في ذلك : ( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ) (3) الى قوله تعالى : ( ... فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ) (4) فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه الله للنبوة واقعاً على الأفسد دون الأصلح ، وهو يظن أنه الأصلح علمنا ان الاختيار ليس الا لمن يعلم ما تخفي الصدور ، وتكن الضمائر ) (5) .
  من هنا نعلم أن الطاقات البشرية قاصرة عن إدراك الأصلح الذي تسعد به الأمة وإنما أمر ذلك بيد الله تعالى العالم بخفايا الأمور قال تعالى : ( إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (6) .

---------------------------
(1) سورة ص ، الآية 26.
(2) سورة القصص ، الآية 68.
(3) سورة الأعراف ، الآية 155.
(4) سورة النساء ، الآية 153.
(5) بحار الأنوار ، ج 13 ، ص 127.
(6) سورة آل عمران ، الآية 29.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 49 _

واجبات الإمام
  حمل الإسلام مسؤولية كبيرة على عاتق الإمام ، فأوجب عليه السهر على مصالح المسلمين ورعاية شؤونهم الدينية والدنيوية ، وأناط به العمل على تطوير حياتهم وارشادهم إلى الخير والصلاح.
  وقد ذكر المعنيون بهذه البحوث أهم الواجبات التي يجب على الإمام القيام بها من أجل صيانة الإسلام كما أراده الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) :
  1 ـ حراسة الإسلام وحفظ الدين وصيانته من المستهترين بالقيم الإنسانية والأخلاقي الحميدة.
  2 ـ حماية بيضة الإسلام لينصرف الناس في معايشهم وينتشروا في أسفارهم ، آمنين على أنفسهم وأموالهم.
  3 ـ الدفاع عن الثغور بالعدد والعُدَد حتى لا يطمع العدو بهم فينتهك محارمهم ، ويسفك دماء المسلمين ، من هنا وجب الجهاد.
  4 ـ الجهاد ضد الكفار المحاربين للإسلام حتى يسلموا أو يدخلوا في ذمة المسلمين قياماً بحق الله بظهور دينه على الدين كله.
  قال تعالى : ( وَيَأْبَى اللهُ إِلاَ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (1) .
  5 ـ تنفيذ الأحكام الشرعية بالحق ، وقطع الخصومات حتى لا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم ، وإقامة الحدود لتتوقى المحارم ، وتصان الأنفس والأموال.
  6 ـ اختيار الأمناء والأكفاء ، وتقليد الولايات للثقات النصحاء لتضبط الأعمال وتحفظ الأموال.
  7 ـ جباية أموال الفيء ، والخراج على ما أوجبه الشرع نصاً أو اجتهاداً من غير حيف ولا عسف.
  8 ـ العطاء المحق لكل واحد من بيت المال من غير سرف ولا تقتير ودفعه إلى المسلمين في وقت معلوم لا تقديم فيه ولا تأخير.
  9 ـ الإشراف على الأمور العامة بنفسه غير معتمد على ولاته وعماله ، فقد يغش الناصح ويخون الأمين فينجرف وراء أهوائه وأطماعه ، قال تعالى : ( يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) (2) .
  وجاء في الصحيحين من رواية ابن عمر قال : سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : (كلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالمرأة في بيت زوجها راعية ومسؤولة عن رعيتها ، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته ، والرجل في مال أبيه راع ومسؤول عن رعيته ، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) (3) .
  وأخرج الترمذي من حديث عمرو بن مرة الجهني قال لمعاوية : سمعت النبي (صلّى الله عليه وآله) يقول : ( ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجات والمسكنة إلا أغلق الله أبواب السماء دون خلته ) (4) .
  ومن يمعن النظر فيما أثر عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يرى أن واجبات الإمام أشمل من ذلك فانها تصل إلى إقامة مجتمع يعيش أفراده في ضلال العدل والحق والحرية ، ونشر الأخلاق والفضائل التي دعا إليها الدين الإسلامي ، ونبذ الرذائل والبغي والفساد التي نهى عنها ، فواجبات الإمام مهمة وشاملة نتمنى أن يأخذ بها رؤساء العالم اليوم أو ببعض منها.
  هذا من حيث الواجبات أما عن صفات الإمام ، فما هي الصفات التي نص عليها الفقه الإسلامي والتي يجب أن يتحلى بها الإمام ؟

---------------------------
(1) سورة التوبة ، الآية 32.
(2) سورة ص ، الآية 26.
(3) صحيح البخاري ، ج 9 ، ص 62 ، ومسلم ج 2 ، ص 213.
(4) صحيح الترمذي ، ج 6 ، ص 73 والخلة : الحاجة والفقر.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 50 _

صفات الإمام
  لابدّ أن تتوفر في الإمام جميع الصفات الرفيعة ، والنزعات الخيرة والمثل الكريمة ، من علم وتقوى ، ورجاحة في الرأي وأصالة في التفكير ودراية تامة بما تحتاج إليه الأمة في جميع مجالاتها وقد ذكر المعنيون بالفقه الإسلامي الشروط الأساسية التي يجب أن تتوفر في الإمام عند الشيعة ، أهمها (1) :
  1 ـ العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام.
  2 ـ العدالة بشروطها الجامعة وهي الامتناع من ارتكاب الذنوب ، وعدم الإصرار على صغائرها.
  3 ـ سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ... ليصح معه مباشرة ما يدرك بها.
  4 ـ سلامة الأعضاء من نقص يمنع من استيفاء الحركة ، وسرعة النهوض.
  5 ـ الرأي المفضي إلى سياسة الرعيّة ، وتدبير المصالح.
  6 ـ الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية بيضة الإسلام وجهاد العدو ، لأن الجهاد في سبيل إحقاق الحق باب من أبواب الجنة كما قال أمير المؤمنين في خطبة الجهاد.
  7 ـ النسب وهو أن يكون الإمام من قريش لأنها أفصح العرب وأعلمهم ويعتقد الشيعة أن الإمام يجب أن تتوفر فيه صفات أخرى فيكون أفضل الناس في ملكاته الفكرية وإبداعاته الشخصية ألا وهي العصمة.

العصمة
  العصمة عند الشيعة هي قاعدة أساسية في الإمامة ، وهي من المبادئ الأولية في كيانهم العقائدي وقد عرفها المتكلمون فقالوا : إنها لطف من الله يفيضها على أكمل عباده ، وأفضلهم عنده ، وبها يمتنع من ارتكاب الآثام والجرائم عمداً أو سهواً ... هذه العقيدة أثارت عليهم التهم والطعون ، فاتهمهم قوم بالغلو والإفراط في الحب ، حب أهل البيت (عليهم السلام).
  لكنا إذا رجعنا إلى الأدلة الموضوعية نجدها مؤيدة لما تذهب إليه الشيعة ، ويكفي في ذلك القرآن الكريم وآية التطهير : قال تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (2) .
  تدل هذه الآية الكريمة دلالة واضحة على عصمة أهل أئمة البيت (عليهم السلام) من الذنوب وطهارتهم من الزيغ والرجس (3) ، وذلك بما جاء فيها في علم صناعة الكلام من حصر وتأكيد.
  فحصر إذهاب الرجس بكلمة إنما التي هي من أقوى أدوات الحصر.
  ـ ودخول اللام في الكلام الخبري.
  ـ وتكرار لفظ الطهارة ، وكل ذلك يدل على الحصر والاختصاص.
  ـ كما أن إرادة الله بإذهاب الرجس عنهم يستحيل فيها أن يتخلف المراد عن الإرادة، قال تعالى : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (4) .

---------------------------
(1) راجع هذه الأوصاف في الأحكام السلطانية ، ص 4 والمقدمة لابن خلدون ، ص 135.
(2) سورة الأحزاب ، الآية 33.
(3) الرجس : المعاصي.
(4) سورة يس ، الآية 82.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 51 _

  وبهذا يتم الاستدلال الأكيد على عصمة أئمة أهل البيت من كل ذنب ومعصية.
  ومن منا لا يذكر حديث الثقلين الذي يدل بوضوح تام على العصمة فقد قرن الرسول (صلّى الله عليه وآله) بين الكتاب والعترة ، فكما أن الكتاب العزيز معصوم من الخطأ والزلل فكذلك العترة ، وإلاّ لما صحت المقارنة والمساواة بينهما.
  وبعد توفر الأدلة الموضوعية فلا مساغ للإنكار على الشيعة بذلك.
  وما نراه أن نصوص القرآن هي التي قادتهم إلى ذلك وصحاح السنة ودلائل العقل ، حتى أن طبيعة الإسلام ذاتها اضطرتهم إلى هذه العقيدة.
  ونحن لسنا في صدد الدفاع عن الشيعة ، لأننا نبغي الحقيقة أينما كانت فالعصمة التي يشترطونها في إمام المسلمين ، لا تخرج به عن مصاف البشر ، ولا تلحقه بعداد الآلهة كما يتقول المتقولون !
  ثم هل العصمة في ذاتها جزء الهي حتى إذا اشترطناها نكون قد قلنا في الخليفة بالحلول ؟!
  ولا يخفى على أحد من العلماء أن العصمة رصيد نفساني كبير يتكون من تعادل جميع القوى النفسانية ، وبلوغ كل واحدة منها أقصى درجة يمكن أن يبلغها الإنسان ، ثم سيطرة القوى العقلية على جميع هذه القوى والغرائز سيطرة كاملة حتى لا تشذ في أمر ولا تستغل دونها في عمل (1) .
  ثم يزيد فيقول : هذه الحصانة الذاتية التي يرتفع بها الإنسان الأعلى عن الاتضاع في طبيعته ، ويمتنع بها عن الانزلاق في إرادته وعن الانحرافات التي تترسب في منطقة اللاشعوري ، وتتحول عقداً نفسية تتحكم في دوافع المرء وفي سلوكه وفي اتجاهاته وملكاته وتسوقه من حيث لا يريد إلى النشوز عن الحق والشرود عن العدل.
  هذه الحصانة الذاتية التي توقظ مشاعر الإنسان الكامل فلا يغفل ، ويعتلي بملكاته واشراقه فلا ينزلق ، ولا يكبو ، والتي تحفظ له صحته النفسية من كل وجه ، هذه هي العصمة التي يشترطها مذهب أهل البيت في الرئيس الأعلى لحكومة الإسلام ، وفي ظني أنه شرط بمنتهى الجلاء كما أنه بمنتهى الحكمة ...) (2) .
  إن المنطق العلمي بجميع أبعاده يقضي بصحة ما تذهب إليه الشيعة من اعتبار العصمة في أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أما القول المعاكس فلا يستند إلى منطق عقلي ودليل علمي.
  وصفة أخرى هامة جداً يقول بها الشيعة وهي :
  العلم
  يعتقد الشيعة بأن الإمام لابدّ أن يكون أعلم الناس في عصره وأفضلهم في مقدراته العلمية ، وقد أوضح هذه الجهة توضيحاً دقيقاً سماحة المغفور له الشيخ محمد رضا المظفر فقال : (أما علمه ، فهو يتلقى المعارف والأحكام الإلهية ، وجميع المعلومات من طريق النبي (صلّى الله عليه وآله) أو الإمام (عليه السلام) قبله ، وإذا استجد شيء لابدّ أن يعلمه من طريق الإلهام بالقوة القدسية التي أودعها الله تعالى فيه ، فإنّ توجه إلى شيء وشاء أن يعلمه من طريق على وجهه الحقيقي لا يخطئ فيه ، كل ذلك مستنداً إلى البراهين العقلية ، ولا يستند إلى تلقينات المعلمين ، وإن كان علمه قابلاً للزيادة والاشتداد ، ولذا قال الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) : ( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ).

---------------------------
(1) حياة الإمام موسى بن جعفر ، ج 1 ، ص 112.
(2) المصدر نفسه ، ص 113.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 52 _

  وأضاف يقول بعد الاستدلال على ذلك : ويبدو واضحاً هذا الأمر في تاريخ الأئمة (عليهم السلام) كالنبي محمد (صلّى الله عليه وآله) فإنهم لم يتربوا على أحد ، ولم يتعلّموا على يد معلم ، من مبدأ طفولتهم إلى سن الرشد حتى القراءة والكتابة ، ولم يثبت عن أحدهم أنه دخل الكتاتيب أو تتلمذ على يد أستاذ في شيء من الأشياء مع مالهم من منزله علمية لا تجارى.
  وما سئلوا عن شيء إلا أجابوا عليه في وقته ، ولم تمر على ألسنتهم كلمة (لا أدري) ولا تأجيل الجواب إلى المراجعة أو التأمل أو نحو ذلك في حين أنك لا تجد شخصاً مترجماً له من فقهاء الإسلام ورواته وعلمائه إلا ذكرت في ترجمته وتربيته وتلمذته على غيره وخذ الرواية أو العلم على المعروفين وتوقفه في بعض المسائل أو شكه في كثير من المعلومات كعادة البشر في كل عصر ومصر) (1) .
  أما الإمام كاشف الغطاء فقد عرض إلى صفات الإمام (عليه السلام) وقال فيما يختص في مواهبه العلمية : (وأن يكون أفضل أهل زمانه في كل فضيلة ، وأعلمهم بكل علم ، لأن الغرض منه تكميل البشر وتزكية النفوس ، وتهذيبها بالعلم والعمل الصالح ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )(2) .
  والناقص لا يكون مكملاً ، والفاقد لا يكون معطياً ، فالإمام في الكمالات دون النبي وفوق البشر) (3) .
  وكما ترى هذا هو الرأي الصريح للشيعة في علم الإمام ، وليس فيه أي غلو أو هوى كما يتهمهم الخصوم.
  وهنا يحضرني قول من وصف كلام الإمام علي (عليه السلام) أمير المؤمنين في نهج البلاغة فقال : (كلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق).
  وأفضل كلام يقال في هذا المجال كلمة الإمام الرضا (عليه السلام) فهي من أعمق الأدلة على الإمامة ، واكثرها استيعاباً وشمولاً وبياناً لمنصبها فقال (عليه السلام) : هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم ؟
  إن الإمامة أجل قدراً ، وأعظم شأناً ، وأعلى مكاناً ، وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم ، أو ينالوها بآرائهم ، أو يقيمون إماماً باختيارهم.
  إن الإمامة خصّ الله بها إبراهيم الخليل (عليه السلام) بعد النبوة ، والخلّة مرتبة ثالثة ، وفضيلة شرفه بها ، وأشاد بها ذكره ، فقال عزّ وجلّ : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ) فقال الخليل سروراً بها : ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) ؟ قال عزّ وجلّ : ( لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (4) .
  فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة ، وصارت في الصفوة.
  ثم أكرمه الله تعالى وجعل ذريته أهل الصفوة والطهارة.
  فقال عزّ وجلّ : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) (5) .

---------------------------
(1) عقائد الإمامية للشيخ محمد رضا المظفر ، ص 51 ـ 54.
(2) سورة الجمعة : الآية 2.
(3) سورة الأنبياء ، الآية 72 ـ 73.
(4) سورة البقرة ، الآية 124.
(5) سورة الأنبياء ، الآيتان 72 ـ 73.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 53 _

  ولم تزل الإمامة في ذريته يرثها بعض عن بعض قرناً بعد قرن حتى ورثها النبي محمد (صلّى الله عليه وآله) قال عزّ وجلّ : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) (1) .
  فكانت الخلافة للنبي الأكرم محمد (صلّى الله عليه وآله) التي قلّدها علياً بأمر الله عزّ وجلّ فصارت له في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان بقوله عزّ وجلّ : ( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ) (2) .
  فالامامة أصبحت في ولد علي خاصة إلى يوم القيامة إذ لا نبي بعد النبي محمد (صلّى الله عليه وآله) ، فمن يختار هؤلاء الجهال ؟
  إن الإمامة هي منزلة الأنبياء ، وإرث الأوصياء ، وخلافة الله عزّ وجلّ وخلافة الرسول ومقام أمير المؤمنين ، وميراث الحسن والحسين (عليهما السلام) حتى وصلت إلى الإمام زين العابدين ، ومنه إلى الإمام الباقر ، ومنه إلى الإمام الصادق ، ومنه إلى الإمام الكاظم عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأزكى السلام ، وهكذا تتابعت في هذه الذرية الطاهرة إلى الإمام المهدي الثاني عشر عجّل الله فرجه الشريف.
  وتعرض (عليه السلام) بعد هذا إلى علم الأنبياء والأئمة فقال : (إن الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم يوفقهم الله ، ويؤتيهم من مخزون علمه ، وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم ، فيكون علمهم فوق كل علم أهل زمانهم ، ثم انظروا إلى قوله تعالى : ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (3) .
  وقال عزّ وجلّ : ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) (4) وقال عزّ وجلّ في الأئمة من أهل بيت نبيه (صلّى الله عليه وآله) وعترته وذريته ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً ) (5) .
  فالعبد الصالح الذي اختاره الله عزّ وجلّ لأمور عباده شرح صدره لذلك ، وأودع قلبه ينابيع الحكمة ، وألهمه العلم الهاماً ، فهو معصوم ، مؤيد ، موفق ، مسدد ، قد أمن الخطايا والزلل ، والعثار ، يخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده ، وشاهده على خلقه ، ( ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) (6) .
  فهل يقدرون على مثل هذا فيختارون ؟! أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدموه ، تعدوا وبيت الله الحق ، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون ، وفي كتاب الله الهدى والشفاء فنبذوه واتبعوا أهواءهم فذمهم الله ومقتهم وأتعسهم ، فقال عزّ وجلّ : ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (7) .
  وقال عزّ وجلّ : ( فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ) (8) .
  وقال عزّ وجلّ : ( كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ) (9) .
  انتهى بذلك حديث الإمام الرضا (عليه السلام) (10) وهو حافل بأكمل وأروع صور الاستدلال والحجة الدامغة على ضرورة الإمامة ، واستحالة الاختيار والانتخاب من قبل سائر الناس ، ووجوب رجوع التعيين في ذلك إلى الله تعالى وحده فهو الذي يختار لهذا المنصب الرفيع من يشاء من عباده ممن تتوفر فيه صفات العلم الغزير والمعرفة الواسعة الشاملة لشؤون الحياة الفردية والجماعية.
  وممن يتحلى بطهارة النفس ، وصفاء الذات ، وعدم الانقياد والخضوع لدواعي الهوى ، ونوازع الشرور والغرور ، وبهذه الصفات الكاملة الشاملة يصلح الإمام لهداية الناس واصلاحهم ، وارشادهم إلى طرق الخير والكمال ، وغرس روح الثقة والفضيلة في نفوسهم ليكونوا كما أرادهم الله عزّ وجلّ وكما أرادهم نبي الله (صلّى الله عليه وآله) : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) (11) .

---------------------------
(1) سورة آل عمران ، الآية 68.
(2) سورة الروم ، الآية 56.
(3) سورة يونس ، الآية 35.
(4) سورة البقرة ، الآية 269.
(5) سورة النساء ، الآية 54 ـ 55.
(6) سورة الحديد ، الآية 21.
(7) سورة القصص ، الآية 50.
(8) سورة محمد ، الآية 8.
(9) سورة المؤمن ، الآية 35.
(10) راجع عيون أخبار الرضا ، ج 1 ، ص 216 ـ 222 وأصول الكافي.
(11) سورة آل عمران ، الآية 110.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 54 _

النص على الإمامة
  ينحصر تعيين الإمام عند الشيعة في النص ، وعليه فيجب على النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يعين من يخلفه من بعده ، وكذلك يجب على الإمام أن ينص على الخلف من بعده الذي يجب أن يرجع إليه الناس.
  وقد أجمعت كل كتب الحديث التي تعرضت لهذه المواضيع بتدوين النصوص في ذلك فقد أوصى الرسول الأكرم (يوم الدار) في أمير المؤمنين فقال (صلّى الله عليه وآله) : (هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا) (1) وأخرج الطبراني الاستناد إلى سلمان الفارسي ، قال : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : إن وصيي وموضع سري ، وخير من أترك بعدي وينجز عدتي ، ويقضي ديني علي بن أبي طالب) (2) .
  وجاء في حلية الأولياء عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : يا أنس أول من يدخل عليك من هذا الباب إمام المتقين ، وسيد المسلمين ، وقائد الغر المحجلين ، وخاتم الوصيين قال أنس : فجاء علي ، فقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مستبشراً فاعتنقه وقال له : أنت تؤدّي عني ، وتسمعهم صوتي ، وتبيّن لهم ما اختلفوا فيه بعدي (3) .
  ووردت نصوص نبوية متواترة رواها الفريقان في إمامة السبطين والريحانتين (عليهما السلام) فقد قال (صلّى الله عليه وآله) فيهما : (أنتما الإمامان ولأمكما الشفاعة) (4) .
  وقال (صلّى الله عليه وآله) وهو يشير إلى الحسين : (هذا إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمة تسعة) (5) وجاء في المراجعات بالاستناد إلى سلمان قال : دخلت على النبي (صلّى الله عليه وآله) فإذا الحسين بن علي على فخذه وهو يلثم فاه ، ويقول : (أنت سيد ابن سيد ، أنت إمام ابن إمام أخو إمام أبو الأئمة ، وأنت حجة الله وابن حجته ، وأبو حجج تسعة من صلبك تاسعهم قائمهم) (6) .
  واستفاضت كتب الحديث بنصوص نبوية أخرى تحصر الإمامة في اثني عشر إماماً كلهم من قريش فقد روى جابر بن سمرة قال : سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : (لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة ، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش) (7) .
  وجاء في المراجعات أيضاً أخرج الصدوق بسنده إلى الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (الأئمة اثنا عشر أولهم علي وآخرهم القائم المهدي هم خلفائي وأوصيائي) (8) .
  وروى الحافظ أبو نعيم بسنده عن ابن عباس قال : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (من سره يحيى حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن غرسها ربي فليوال علياً من بعدي ، وليوال وليه ، وليقتد بالأئمة من بعدي فإنّهم عترتي خلقوا من طينتي ، ورزقوا فهماً وعلماً ، وويل للمكذبين بفضلهم من أمتي القاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم الله شفاعتي) (9) .
  ويضاف إلى هذه النصوص النبوية ، النصوص التي رواها الثقات والعلماء الأتقياء عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في نص كل إمام منهم على الإمام الذي يخلفه من بعده ، فقد أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما حضرته الوفاة إلى ولده الإمام الحسن (عليه السلام) وقال له : (يا بني أمرني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ودفع إليّ كتبه وسلاحه ، وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين) ثم أقبل على الحسين فقال : (وأمرك رسول الله أن تدفعها إلى ابنك هذا ـ وأشار إلى علي زين العابدين ـ ثم أخذ بيد علي بن الحسين وقال : (وأمرك رسول الله أن تدفعها إلى ابنك محمد فاقرأه من رسول الله السلام) (10) .
  هذه النصوص تدل بوضوح وتأكيد على لزوم النص في الإمامة ، وبطلان غيره وقد أخذت بها الشيعة واعتمدتها في بناء عقيدتها في الإمامة.

---------------------------
(1) كنز العمال ، ج 6 ، ص 392.
(2) نفسه ، ج 6 ، ص 154.
(3) حلية الأولياء ، ج 1 ، ص 63.
(4) الاتحاف بحجب الأشراف ، ص 129.
(5) منهاج السنة ، ج 4 ، ص 210.
(6) المراجعات ، ص 228.
(7) المراجعات ، ص 227.
(8) المصدر نفسه.
(9) حلية الأولياء ، ج 1 ، ص 86.
(10) كشف الغمة ، ص 151 ، وأصول الكافي للكليني.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 55 _

عصر الإمام الكاظم (عليه السلام)
  اتسم عصر الإمام الكاظم بموجات رهيبة من الاتجاهات العقائدية التي لا تمت إلى الإسلام بصلة ، كما تميز بالنزعات الشعوبية والعنصرية والنحل الدينية ، الإسلام بريء منها كل البراءة.
  وقد تصارعت تلك الحركات الفكرية تصارعاً بعيد المدى أحدث هزاتاً اجتماعية خطيرة.
  والسبب في ذلك كما يرى علماء الاجتماع يعود إلى الفتح الإسلامي الذي نقل ثقافات الأمم مع سائر علومها وعاداتها وتقاليدها إلى العالم إسلامي ، بالإضافة إلى أن الإسلام قد دعا المسلمين في الوقت نفسه إلى الاستزادة من العلوم والمعارف في شتى الحقول.
  وهذا ما أحدث انقلاباً فكرياً في المجتمع الإسلامي فتلقحت الأفكار وتبلورت بألوان من الثقافة لم يعهد لها المجتمع نظيراً في العصور السالفة.
  وقد حدث ما لابدّ منه حيث تسربت تلك الطاقات العلمية إلى الجانب العقائدي من واقع الحياة ، فحدثت المذاهب الإسلامية ، والفرق الدينية ، ممّا جعل الأمة تتشعب إلى طوائف وقع فيما بينها الكثير من المناظرات والمخاصمات والجدل ، فكانت النوادي التي حفلت بالمعارك الكلامية والصراع العنيف وبصورة خاصة : خلق القرآن ، وصفات الخالق الإيجابية والسلبية والقضاء والقدر ... وكان من أبرز المتصارعين في هذه الساحة علماء الكلام ، والفلاسفة ، علماء الحديث.
  من هنا نرى العديد من الكتب التي تناولت هذه المواضيع وهي حافلة بصور كثيرة من تلك الخصومات والمشاجرات والمناظرات.
  وكان من أخطر الدعوات المحمومة التي اندلعت في ذلك العصر هي (الإلحاد) قام به دخلاء حملوا في قرارة نفوسهم الحقد على الإسلام والكره للمسلمين ، وقد ثقل عليهم امتداد الحكم الإسلامي وانتشار سلطانه في الأرض ، وتثبيت شريعته الإنسانية السمحاء.
  فرأوا أن لا حول لهم ولا طول إلى محاربته بالقوة ، فأخذوا عن طريق الخداع والحيل يبثون سمومهم في نفس الناشئة الإسلامية ، وما زالوا حتى اليوم يلقون الشبه والأوهام في النفوس حتى أننا وجدنا من استجاب لهم من المسلمين المخدوعين والمغرورين ، وكان لهم بالمرصاد الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) وكبار رجال الفكر والقادة من أصحابه وطلابه فتصدوا لتلك الأفكار الوافدة بالأدلة العلمية القاطعة وبيّنوا فسادها وبعدها عن المنطق والعقل ، فكانت تحمل احتجاجاتهم طابع الجهاد في سبيل الحق والحرص على مصالح الأمة الإسلامية.
  بسبب ذلك قام علماء الشيعة الجهابذة فحاضروا وناقشوا وحاوروا الملحدين والخارجين على الدين حتى دان لهم عدد غفير وعادوا إلى حظيرة الإسلام مقتنعين راضين.
  لكن هذا الأمر لم يرق للحكام العباسيين فتصدوا لقاعدة الحركة العلمية من الشيعة واضطهدوهم ونكّلوا بهم ومنعوهم في أغلب الأحيان من الكلام في مجالات العقيدة خوفاً على مناصبهم عندما يظهر الحق الصريح ، حتى اضطر الإمام الكاظم (عليه السلام) في أيام المهدي أن بعث إلى هشام أن يكف عن الكلام نظراً لخطورة الموقف ، فكفّ هشام عن ذلك حتى مات المهدي.

باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) _ 56 _

سياسة الحكم العباسي
  قام الحكم العباسي في أكثر أدواره على الظلم والجور نهج فيه العباسيون منهجاً فردياً خاصاً بعيداً عن العدل السياسي والعدل الاجتماعي ، تسلموا جميع السلطات الإدارية والقضائية ، ولم يكن عندهم ثمة مجلس إداري أو استشاري تعالج فيه أمور الرعيّة ومصالحها ووسائل تطورها وتقدمها.
  فالخليفة يحكم بحسب رأيه وهواه وكأنّه ظل الله على الأرض ـ كما يقولون ـ فالطابع الاستبدادي للحكم العباسي واضح لا لبس فيه ، استبداد ونهب أموال ، ومصادرة الحريات ، وظلم ، وإرغام الناس على ما يكرهون.
  والواقع أن الحكم العباسي لا يختلف في مادته وصورته عن الحكم الأموي فالنظام الإداري العباسي هو نفسه في جوهره نظام الأمويين.
  الدوائر الرسمية في العصر العباسي أجحفت كثيراً بحقوق العامة في الوقت نفسه كانت تصانع ذوي النفوذ والوجوه المعروفة فتمارس الظلم والجور على الأهالي المساكين الذين يدفعون الضرائب ويلبون الدعوة للجهاد ، بينما كان الحكام ينفقون أموال الشعوب الإسلامية على شهواتهم وحواشيهم ، ولا نغالي إذا قلنا أن التاريخ يعيد نفسه في أكثر العصور.
  جاء في تاريخ الإسلام أن العتابي سُئل : لماذا لا تتقرّب بأدبك إلى السلطان ؟ فقال : (إني رأيته يعطي عشرة آلاف في غير شيء ، ويرمي من السور في غير شيء ، ولا أدري أي الرجلين أكون !!) ولما قتل المأمون ووزيره الفضل بن سهل ، عرض الوزارة على أحمد بن أبي خالد فأبى أن يقبلها وقال : (لم أر أحداً تعرض للوزارة وسلمت حاله) والسبب واضح في ذلك أن الحكم العباسي لم يكن جارياً على قانون معروف أو دستور مكتوب ، بل كان يجري حسب نزعات الحاكم ويمول الخليفة ، فهو الذي كان يوزع الموت أو الحياة على من كره أو على من أحب.
  فالأحكام بالإعدام كانت تصدر من البلاط بمجرد وشاية من غير أن يطمئن أو يوثق بقول المخبر ، مرة تصدر بالمفرد ومرة تصدر بالجملة.
  ونعطي مثلاً نموذجاً على ذلك : فقد وشي برجل يقال له : (الفضيل بن عمران) إلى أبي جعفر المنصور ، وكان كاتباً لابنه جعفر وولياً لأمره ، فقد وشي به أنه يعبث بجعفر ، فبعث المنصور برجلين أو جلادين ، وأمرهما يقتل الفضيل حيث وجداه ، وكتب إلى جعفر يعلمه ما أمرهما به وقال للرجلين : لا تدفعا الكتاب إلى جعفر حتى تفرغا من قتله .
  فلما انتهيا إليه ضربا عنقه ، وكان الفضيل عفيفاً صالحاً ، فقيل للمنصور : إنه أبرأ الناس ممّا رمي به ، وقد عجلت عليه ، فندم على ذلك ، ووجه رسولاً ، وجعل له عشرة آلاف درهم إن أدركه قبل أن يقتل ، فقدم الرسول فوجده جثة هامدة ، فاستنكر جعفر ذلك وقال لمولاه : (ما يقول أمير المؤمنين في قتل رجل ، مسلم ، عفيف ، دين ، بلا جرم ولا جناية ؟!) فأجابة مولاه سويد : (هو أمير المؤمنين يفعل ما يشاء ، وهو أعلم بما يصنع).
  هكذا كان يعتقد أصحاب العقول البسيطة الساذجة ، وهكذا كانت أرواح الناس يتصرفون بها حسب ما يشاءون ، وما العجب فالملك في نظرهم يفعل ما يحلو له ، فهو ظل الله على الأرض ، لا يسأل عن ذنب ولا عن جرم .
  فمن يحاسبه؟ ليس هناك من سلطة قضائية معروفة ، وليس عنده من ضمير يردعه عن المحرمات ، ومع ذلك يعد نفسه خليفة المسلمين ، أين هم وأين الإسلام ؟! هوة ساحقة تفصل بينما هم أشبه بالقياصرة والأكاسرة !! والحقيقة أن البلاد الإسلامية أيام الحكم العباسي كانت ترزح تحت كابوس ثقيل من الظلم والجور والتعسّف ، حيث كان حكام بني العباس ينفذون خططهم بالعنف والقتل على الظن.
  ولأوّل مرة في تاريخ الإسلام نجد النطع إلى جانب كرسي الخلافة ، كما نجد الجلاد أداة للوصول إلى العرش على حد قول المؤرخ المعروف فليب حتي.
  على هذه الحال كان الحكم العباسي في اكثر أدواره وعهوده ، وكان خاضعاً للأهواء الشخصية والعواطف القبلية ، فالغلمان والنساء والندماء والعابثون كان لهم الضلع الكبير في إدارة شؤون الحكم وتوزيع الهبات والجوائز على المغنين والمغنيات.
  فالحكم عندهم لم يخضع لمنطق الحق والعدل اللذين أمر بهما الإسلام.
  هذا الوضع غير السليم جعل العصر يحفل بقيام فرق إسلامية عديدة ومذاهب وطوائف اختلفت فيما بينها في أصول الدين وفروعه.