شباب أهل الجنة ـ سياستهم الحكيمة ، في توجيهها الهادئ الرصين ، كلما اعصوصب الشر ، فهي اذاً جزء من سياستهم الهاشمية الدائرة أبداً على نصرة الحق ، لا على الانتصار للذات فيما تأخذ او تدع .
تهيأ للحسن بهذا الصلح أن يغرس في طريق معاوية كميناً من نفسه يثور عليه من حيث لا يشعر فيرديه ، وتسنى له به أن يلغم نصر الاموية ببارود الاموية نفسها ، فيجعل نصرها جفاءاً ، وريحاً هباءاً .
لم يطل الوقت حتى انفجرت اولى القنابل المغروسة في شروط الصلح ، انفجرت من نفس معاوية يوم نشوته بنصره ، اذ انضم جيش العراق الى لوائه في النخيلة ، فقال ـ وقد قام خطيباً فيهم ـ : ( يا أهل العراق ، اني واللّه لم أقاتلكم لتصلوا ولا لتصوموا ، ولا لتزكوا ، ولا لتحجوا ، وانما قاتلتكم لاتأمر عليكم ، وقد أعطاني اللّه ذلك وانتم كارهون ! ، ألا وان كل شيء اعطيته للحسن بن علي جعلته تحت قدميَّ هاتين ! ) .
فلما تمت له البيعة خطب فذكر علياً فنال منه ، ونال من الحسن ، فقام الحسين ليرد عليه ، فقال له الحسن : ( على رسلك يا أخي ) ، ثم قام ( عليه السلام ) فقال : ( أيها الذاكر علياً! أنا الحسن وأبي علي ، وأنت معاوية وأبوك صخر ، وأمي فاطمة وأمك هند ، وجدي رسول اللّه وجدك عتبة ، وجدتي خديجة وجدتك فتيلة ، فلعن اللّه أخملنا ذكراً ، وألأمنا حسباً ، وشرنا قديماً ، وأقدمنا كفراً ونفاقاً ! ) فقالت طوائف من أهل المسجد : ( آمين ) .
ثم تتابعت سياسة معاوية ، تتفجر بكل ما يخالف الكتاب والسنة من كل منكر في الاسلام ، قتلاً للابرار ، وهتكاً للاعراض ، وسلباً للاموال ، وسجناً للاحرار ، وتشريداً للمصلحين ، وتأييداً للمفسدين الذين جعلهم وزراء دولته ، كابن العاص ، وابن شعبة ، وابن سعيد ، وابن ارطأة ، وابن جندب ، وابن السمط ، وابن الحكم ، وابن مرجانة ، وابن عقبة ، وابن سمية الذي نفاه عن ابيه الشرعي عبيد ، والحقه بالمسافح أبيه أبي سفيان ليجعله بذلك أخاه ، يسلطه على الشيعة في العراق ، يسومهم سوء العذاب ،
يذبح أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، ويفرقهم عباديد ، تحت كل كوكب ، ويحرق بيوتهم ، ويصطفي أموالهم ، لا يألو جهداً في ظلمهم بكل طريق .
ختم معاوية منكراته هذه بحمل خليعه المهتوك على رقاب المسلمين ، يعيث في دينهم ودنياهم ، فكان من خليعه ما كان يوم الطف ، ويوم الحرة ، ويوم مكة اذ نصب عليها العرادات والمجانيق ! .
هذه خاتمة أعمال معاوية ، وانها لتلائم كل الملاءمة فاتحة أعماله القاتمة .
وبين الفاتحة والخاتمة تتضاغط شدائد ، وتدور خطوب ، وتزدحم محن ، ما أدري كيف اتسعت لها مسافة ذلك الزمن ، وكيف اتسع لها صدر ذلك المجتمع ؟ وهي ـ في الحق ـ لو وزعت على دهر لضاق بها ، وناء بحملها ، ولو وزعت على عالم لكان جديراً أن يحول جحيماً لا يطاق .
ومهما يكن من أمر ، فالمهم أن الحوادث جاءت تفسر خطة الحسن وتجلوها. وكان أهم ما يرمي اليه سلام اللّه عليه ، أن يرفع اللثام عن هؤلاء الطغاة ، ليحول بينهم وبين ما يبيتون لرسالة جده من الكيد.
وقد تم له كل ما أراد ، حتى برح الخفاء ، وآذن أمر الاموية بالجلاء ، والحمد للّه رب العالمين .
وبهذا استتب لصنوه سيد الشهداء أن يثور ثورته التي أوضح اللّه بها الكتاب ، وجعله فيها عبرة لأولي الالباب .
وقد كانا عليهما السلام وجهين لرسالة واحدة ، كل وجه منهما في موضعه منها ، وفي زمانه من مراحلها ، يكافئ الآخر في النهوض بأعبائها ويوازنه بالتضحية في سبيلها .
فالحسن لم يبخل بنفسه ، ولم يكن الحسين أسخى منه بها في سبيل اللّه ، وانما صان نفسه يجندها في جهاد صامت ، فلما حان الوقت كانت شهادة كربلاء شهادة حسنية ، قبل ان تكون حسينية .
وكان يوم ساباط أعرق بمعاني التضحية من يوم الطف لدى اولي
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 13 _
الالباب ممن تعمق .
لان الحسن ( عليه السلام ) ، أعطي من البطولة دور الصابر على احتمال المكاره في صورة مستكين قاعد .
وكانت شهادة ( الطف ) حسنية أولاً ، وحسينية ثانياً ، لان الحسن أنضج نتائجها ، ومهد أسبابها.
كان نصر الحسن الدامي موقوفاً على جلو الحقيقة التي جلاها ـ لاخيه الحسين ـ بصبره وحكمته ، وبجلوها انتصر الحسين نصره العزيز وفتح اللّه له فتحه المبين .
وكانا عليهما السلام كأنهما متفقان على تصميم الخطة : أن يكون للحسن منها دور الصابر الحكيم ، وللحسين دور الثائر الكريم ، لتتألف من الدورين خطة كاملة ذات غرض واحد .
وقد وقف الناس ـ بعد حادثتي ساباط والطف ـ يمعنون في الاحداث فيرون في هؤلاء الامويين عصبة جاهلية منكرة ، بحيث لو مثلت العصبيات الجلفة النذلة الظلوم لم تكن غيرهم ، بل تكون دونهم في الخطر على الاسلام وأهله .
رأى الناس من هؤلاء الامويين ، قردة تنزو على منبر رسول اللّه ، تكشِّر للامة عن أنياب غول ، وتصافحها بأيد تمتد بمخالب ذئب ، في نفوس تدب بروح عقرب.
رأوا فيهم هذه الصورة منسجمة شائعة متوارثة ، لم تخفف من شرها التربية الاسلامية ، ولم تطامن من لؤمها المكارم المحمدية ، فمضغ الاكباد يوم هند وحمزة ، يرتقي به الحقد الاموي الاثيم ، حتى يكون تنكيلاً بربرياً يوم الطف ، لا يكتفي بقتل الحسين ، حتى يوطئ الخيل صدره وظهره ، ثم لا يكتفي بذلك ، حتى يترك عارياً بالعراء ، لوحوش الارض وطير السماء ، ويحمل رأسه ورؤوس الشهداء من آله وصحبه على أطراف الاسنة الى الشام ، ثم لا يكتفي بهذا كله ، حتى يوقف حرائر الوحي من بنات رسول اللّه على درج السبى !!! ...
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 14 _
رأى الناس الحسن يسالم ، فلا تنجيه المسالمة من خطر هذه الوحشية اللئيمة ، حتى دس معاوية اليه السم فقتله بغياً وعدواناً ، ورأوا الحسين يثور في حين أتيح للثورة الطريق الى أفهامهم تتفجر فيها باليقظة والحرية ، فلا تقف الوحشية الاموية بشيء عن المظالم ، بل تبلغ في وحشيتها أبعد المدى .
وكان من الطبيعي أن يتحرر الرأي العام على وهج هذه النار المحرقة منطلقاً الى زوايا التاريخ وأسراره ، يستنزل الاسباب من هنا وهناك بلمعان ويقظة ، وسير دائب يدنيه الى الحقيقة ، حقيقة الانحراف عن آل محمد ، حتى يكون أمامها وجهاً لوجه ، يسمع همسها هناك في الصدر الاول ، وهي تتسار وراء الحجب والاستار ، وتدبر الامر في اصطناع هذا ( الداهية الظلوم الاموي ) اصطناعاً يطفئ نور آل محمد ، أو يحول بينه وبين الامة .
نعم أدرك الرأي العام بفضل الحسن والحسين وحكمة تدبيرهما كل خافية من أمر ( الاموية ) وأمور مسددي سهمها على نحو واضح.
أدرك ـ فيما يتصل بالامويين ـ أن العلاقة بينهم وبين الاسلام انما هي علاقة عداء مستحكم ، ضرورة أنه اذا كان الملك هو ما تهدف اليه الاموية ، فقد بلغه معاوية ، وأتاح له الحسن ، فما بالها تلاحقه بالسم وأنواع الظلم والهضم ، وتتقصى الاحرار الابرار من أوليائه لتستأصل شأفتهم وتقتلع بذرتهم ؟ ...
واذا كان الملك وحده هو ما تهدف اليه الاموية ، فقد أزيح الحسين من الطريق ، وتم ليزيد ما يريد ، فما بالها لا تكف ولا ترعوي ، وانما تسرف اقسى ما يكون الاسراف والاجحاف في حركة من حركات الافناء على نمط من الاستهتار ، لا يعهد في تاريخ الجزارين والبرابرة ؟؟ ...
أما ما انتجته هذه المحاكمة لأولي الالباب ، فذلك ما نترك تقديره وبيانه للعارفين بمنابع الخير ، ومطالع النور في التاريخ الاسلامي ، على انا فصلناه بآياته وبيناته في مقدمة ( المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة )
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 15 _
فليراجع ، ولنكتف الآن بالاشارة الى ما قلناه في التوحيد بين صلح الحسن وثورة الحسين ، والتعاون بين هذين المظهرين ، على كشف القناع عن الوجه الاموي المظلم ، والاعلان عن الحقيقة الاموية ، فأقول عوداً على بدء : كانت شهادة الطف حسنية اولاً ، وحسينية ثانياً ، وكان يوم ساباط ، أعرق بمعاني الشهادة والتضحية من يوم الطف عند من تعمق واعتدل وأنصف .
الفضل في كشف هذه الحقيقة انما هو لمولانا ومقتدانا علم الامة ، والخبير بأسرار الأئمة ، حجة الاسلام والمسلمين ، شيخنا المقدس الشيخ راضي آل ياسين أعلى اللّه مقامه .
ذلك لان أحداً من الاعلام لم يتفرغ لهذه المهمة تفرغه لها في هذا الكتاب الفذ الذي لا ثاني له ، وها هو ذا مشرف من القمة على الامة ، ليسد في مكتبتها فراغاً كانت في فاقة الى سده ، فجزاه اللّه عن الامة وعن الائمة ، وعن غوامض العلم التي استجلاها ، ومخبآته التى استخرجها ، ومحص حقائقها ، خير جزاء المحسنين ، وحشره في أعلى عليين [ مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقاً ] .
حرر في صور ( جبل عامل ).
في الخامس عشر من رجب سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة والف من الهجرة.
عبد الحسين شرف الدين
الموسوي العاملي
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 16 _
بِسمِ اللّهِ الرَحمنِ الرَحيِم
الحمُد للّهِ ربَ العَالمين وَصلى اللّهُ على محَمد وآلهِ وصحبهُ
صلح الامام الحسن ( عليه السلام )
_ 17 _
المقدمة
وهأنذا مقدم ـ الآن ـ بين يدي قارئي الكريم ، عصارة بحوث تستملي حقايقها من صميم الواقع غير مدخول بالشكوك ، ولا خاضع للمؤثرات عن الحقبة المظلومة التاريخ ، التي لم يحفل في عرضها ، بما تستحق ـ مؤرخونا القدامى ، ولم يعن في تحليلها ـ كما يجب ـ كتابنا المحدثون.
تلك هي قطعة الزمن التي كانت عهد خلافة الحسن بن علي في الاسلام والتي جاءت بين دوافع الاولين ، وتساهل الآخرين ، صورة مشوهة من صور التاريخ. وتعرضت في مختلف ادوارها لما كان يجب ان يتعرض له امثالها من الفترات المطموسة المعالم ، المنسية للحقائق ، المقصودة ـ على الاكثر ـ بالاهمال او بالتشويه ، فاذا بالحسن بن علي ( عليه وعلى ابيه افضل الصلاة والسلام ) في عرف الاكثرين من المتسرعين باحكامهم ـ من شرقيين وغربيين ـ الخليفة الضعيف السياسة! التوفر على حب النساء! الذي باع ( الخلافة ) لمعاوية بالمال !! ... الى كثير من هذا الهذر الظالم ، الذي لا يستند في مقاييسه على منطق ، ولا يرجع في تحكماته الى دليل ، ولا يعنى في ارتجالياته بتحقيق او تدقيق.
وعمدت هذه الفصول الى تقلية هذه الحقبة القصيرة من الزمن بما هي ظرف احداث لا تقل بأهميتها ـ في ذاتها ـ ولا بموقعها ( الاستراتيجي ) في التاريخ ـ اذا صح هذا التعبير ـ عن اعظم الفترات التي مرّ بها تاريخ
صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) ـ 18 ـ
الاسلام منذ وفاة الرسول ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) والى يوم الناس ، لانها كانت ظرف الخلافة الفريدة من نوعها في تاريخ الخلائف الآخرين ، ولانها بداية اقرار القاعدة الجديدة في التمييز بين السلطات الروحية والسلطات الزمنية في الاسلام ، واللحظة التي صدَّقت باحداثها الحديث النبوي الشريف الذي انبأ برجوع الامر بعد ثلاثين عاماً الى الملك العضوض ، ولانها الفترة التي تبلورت فيها الحزازات الطائفية لاول مرة في تاريخ العقائد الاسلامية.
ولم يكن قليلاً من مجهود هذه الفصول ، ان ترجع ـ بعد الجهد المرتخص في سبيلها ـ بالخبر اليقين عن الكثير من تلك الحقائق ـ أبعد ما تكون تأتياً في البحث ، واكثر ما تكون تفسخاً في المصادر ، وأقل ما تكون حظاً من تسلسل الحوادث وتناسق الاحداث ـ فتعرضها في هذه السطور مجلوة على واقعها الاول ، او على اقرب صورة من واقعها الذي تنشأت عليه بين احضان جيلها المختلف الالوان .
فاذا الحسن بن علي ( عليه السلام ) ـ بعد هذا ـ وعلى قصر عهده في خلافته ، من أطول الخلفاء باعاً في الادارة والسياسة ، والرجل الذي بلغ من دقته في تصريف الامور ، وسموّه في علاج المشكلات ، انه استغفل معاوية بن ابي سفيان اعنف ما يكون في موقفه منه حذراً وانتباهاً واستعداداً للحبائل والغوائل ، واذا بزواجه الكثير دليل عظمته الروحية في الناس، واذا ( بالصلح ) الذي حاكه على معاوية اداته الجبارة للقضاء على خصومه في التاريخ ، دون ان يكون ثمة اية مساومة على بيعة أو على خلافة أو على مال ، واذا كل خطوات هذا الامام ، وكل ايجاب او سلب في سياسته ـ مخفقاً او منتصراً ـ آية من آيات عظمته التي جهلها الناس وظلمها المؤرخون.
وكان من أفظع الكفران لمواهب العظماء ، ان يتحكم في تاريخهم وتنسيق مراتبهم ، ناس من هؤلاء الناس المأخوذين بسوء الذوق ، او المغلوبين بسوء الطوية ، يتظاهرون بالمعرفة ويرتجزون بحسن التفكير ، ثم يتحذلقون
صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 19 _
بالتطاول على الكرامات المجيدة ، دون رويّة ولا تدقيق ولا اكتراث ، فلا يدلون بتفريطهم في احكامهم الا على فرط الضعف في نفوسهم .
وليس يضر الحسن بن علي أن تظلمه الضمائر البليدة ثم ينصفه التمييز ، وان لهذا الامام من مواقفه ومن مواهبه ومن عمقه ومن أهدافه ما يضعه بالمكان الاسنى من صفوة ( العظماء ) الخالدين .
وحسبنا من هذه السطور ، أن تجلو عن طريق المنطق الصحيح الذي لا ينبغي أن يختلف عليه الناس ، عظمة هذا الامام ، خالصة من كل شوب ، سالمة من كل عيب ، نقية من كل نقد .
وكانت النقود التي جرح بها وقاح الرأي سياسة الحسن ( عليه السلام ) ، أبعد ما يكونون ـ في تجريحهم ـ عن النصف والعمق والاحاطة بالظرف الخاص ، هي التي نسجت كيان المشكلة التاريخية في قضية هذا الامام ( عليه السلام ) ، وكان للشهوة الحزبية من بعض ، ولمسايرة السياسة الحاكمة من آخر ، وللجهل بالواقع من ثالث ، أثره فيما أسف به المتسرّعون الى أحكامهم .
ونظروا اليه نظرتهم الى زعيم أخفق في زعامته ، وفاتهم أن ينظروا الى دوافع هذا الاخفاق المزعوم ، الذي كان ـ في حقيقته ـ انعكاساً للحالة القائمة في الجيل الذي قدّر للحسن أن يتزعمه في خلافته ، بما كان قد طغى على هذا الجبل من المغريات التي طلعت بها الفتوح الجديدة على الناس ، وأيّ غضاضة على ( الزعيم ) اذا فسد جيله ، أو خانت جنوده ، أو فقد مجتمعه وجدانه الاجتماعي .
وفاتهم ـ بعد ذلك ـ أن ينظروا اليه كألمع سياسيّ يدرس نفسيات خصومه ونوازع مجتمعه وعوامل زمنه ، فيضع الخطط ويقرر النتائج ، ويحفظ بخططه مستقبل أمة بكاملها ، ويحفر ـ بنتائجه ـ قبور خصومه قبراً قبراً ، ويمرّ بزوابع الزمن من حوله رسول السلام المضمون النجاح ، المرفوع الرأس بالدعوة الى الاصلاح ، ثم يموت ولا يرضى أن يهرق في أمره محجمة دم
صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 20 _
تُرى ، فأي عظمة أجل من هذه العظمة لو أنصف الناقدون المتحذلقون ؟ .
وان كتابنا هذا ليضع نقاط هذه الحروف كلها ، مملاة عن دراسة دقيقة سيجدها المطالع ـ كما قلنا ـ أقرب شيء من الواقع ، أو هي الواقع نفسه ، مدلولاً عليه بالمقاييس المنطقية ، وبالدراسات النفسية ، وبالشواهد الشوارد من هنا وهناك ، كل ذلك هو عماد البحث في الكتاب ، والقاعدة التي خرج منها الى احكامه بسهولة ويسر ، في سائر ما تناوله من موضوعات أو حاوله من آراء ...
وسيجد القارئ أن الكتاب ليس كتاباً في أحوال الامام الحسن ( عليه السلام ) ، بوجه عام ، وانما هو كتاب مواقفه السياسية فحسب ، وكان من التوفر على استيعاب هذا الموضوع أن نتقدم بفصل خاص عن الترجمة له ، وأن نستطرد في أطوائه ما يضطرنا البحث اليه.
وان موضوعاً من العمق والعسر كموضوعنا ، وبحثاً فقير المادة قصير المدد كبحثنا ـ ونحن نتطلع اليه بعد 1328 من السنين ـ لحريّ بأن لا يدرّ على كاتبه باكثر مما درّت به هذه الفصول ، احرص ما تكون توفراً على استقصاء المواد ، وتنسيق عناصر الموضوع ، وتهذيبها من الزائف والدخيل ، ونحن اذ نومئ الى ( فقر المادة ) وأثره على البحث ، لا نعني بالمادة الا هذه ( الموسوعات ) التي كان بامكاننا التعاون معها على تجلية موضوعنا بما هي عليه من تشويش للتناسق أو تشويه للحقايق ، اما المؤلفات الكثيرة العدد التي وردت أسماؤها في معاجم المؤلفين الاولين ، مما كتب عن قضية الحسن ( عليه السلام ) فقد حيل بيننا وبين الوقوف عليها ، وكانت مع الكثير من تراثنا القديم قيد المؤثرات الزمنية ، وطعمة الضياع والانقراض اخيراً ، وكان ذلك عصب النكبة في الصحيح الصحيح من تاريخ الاسلام ، وفي المهم المهم من قضاياه الحساسة امثال قضيتنا ـ موضوع البحث ـ .
فلم نجد ـ على هذا ـ من مصادر الموضوع : كتاب صلح الحسن ومعاوية ، لاحمد بن محمد بن سعيد بن عبد الرحمن السبيعي الهمداني المتوفى سنة 333 هجري ، ولا كتاب صلح الحسن ( عليه السلام ) ،
صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 21 _
لعبد الرحمن بن كثير الهاشمي ( مولاهم ) ، ولا كتاب قيام الحسن ( عليه السلام ) ، لهشام بن محمد بن السائب ، ولا كتاب قيام الحسن ( عليه السلام ) ، لابراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال بن عاصم بن سعد بن مسعود الثقفي المتوفى سنة 283 هجري ولا كتاب عبد العزيز بن يحيى الجلودي البصري في امر الحسن ( عليه السلام ) ، ولا كتاب اخبار الحسن ( عليه السلام ) ووفاته ، للهيثم بن عدي الثعلي المتوفى سنة 207 هجري ، ولا كتاب اخبار الحسن بن علي ( عليه السلام ) ، لابي اسحاق ابراهيم بن محمد الاصفاني الثقفي
(1) ، ولا نظائرها .
اما هذه المصادر التي قدّر لنا ان لا نجد غيرها سنداً ، فيما احتاجت به هذه البحوث الى سند ما ، فقد كان اعجب ما فيها انها تتفق جميعها في قضية الحسن ( عليه السلام ) على ان لا تتفق في عرض حادثة ، او رواية خطبة ، او نقل تصريح ، او الحكم على احصاء ، بل لا يتفق سندان منها ـ على الاكثر ـ في تأريخ وقت الحادث او الخطبة من تقديم او تأخير ، ولا في تعيين اسم القائد مثلاً ، او ترتيب القيادة بين الاثنين او الثلاثة ، ولا في رواية طرق النكاية التي اريدت بالحسن ( عليه السلام ) في ميادينه ، او في التعبير عن صلحه ، او في قتله اخيراً ، ولا في كل صغيرة او كبيرة من اخبار الملحمة ، من ألفها الى يائها .
وللمؤثرات التي تحكمت في رقبة هذه المصادر ، عند نقاطها الحساسة اثرها المحسوس في الكثير الكثير من عروضها .
واذا كان من اصعب مراحل هذا التأليف ، ارجاع هذه الحقائق الى تسلسلها الصحيح الذي يجب ان يكون هو واقعها الاول ، فقد كان من أيسر
---------------------------
(1) تجد ذكر هذه المؤلفات ضمن تراجم مؤلفيها في كتب الرجال ، كفهرست ابن النديم والنجاشي وغيرهما ، وستجد معها اسماء كتب اخرى تخص موضوع الحسن ( عليه السلام ) في صلحه وفي مقتله ، لا نريد الاطالة باستقصائها بعد ان اصبحت اسماء بلا مسميات .
صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 22 _
الوسائل الى تحقيق هذا الغرض ، الاستعانة عليه بقرائن الاحوال ، وتناسق الاحداث ، اللذين لا يتم بدونهما حكم على وضع .
وكان من حسن الصدف ، ان لا نخرج في اختيار النسق المطلوب عن الشاهد الصريح ، الذي بعثرته هذه المصادر نفسها ، في اطواء رواياتها الكثيرة المضطربة ، فكانت ـ بمجموعها ـ وعلى نقص كل منها ، أدلتنا الكاملة على ما اخترناه من تنسيق أو تحقيق ، وذلك أروع ما نعتز به من التوفيق .
ووقفنا في فلسفة الموقف ـ عند مختلف مراحله ـ وقفاتنا المتأنية المستقرئة الصبور ، التي لا تستسلم للنقل اكثر مما تحتكم للعقل ، ورجعنا في كثير مما التمسنا تدقيقه ، الى التصريحات الشخصية التي جاءت ادلّ على الغرض من روايات كثير من المؤرخين .
وهي ـ بعد ـ بضاعتي المزجاة التي لا اريد منها الا ان تكون مفتاح بحوث جديدة ، من شأنها ان تكشف كثيراً من الغموض الذي دار مع قضية الحسن في التاريخ .
فان هي وُفِّقَتْ الى ذلك ، فقد أوتيت خيراً كثيراً .
وما توفيقي الا باللّه عليه توكلت واليه انيب .
المؤلف
صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 23 _
القسمُ الأوّل
الإمام الحسن ( عليه السلام )
صلح الامام الحسن ( عليه السلام ) _ 25 _
أبوه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. وامه سيدة نساء العالمين فاطمة بنت رسول اللّه ، صلى اللّه عليه وعليهم .
ولا أقصر من هذا النسب في التاريخ ، ولا أشرف منه في دنيا الانساب .
مولده :
ولد في المدينة ليلة النصف من شهر رمضان سنة ثلاث للهجرة.
وهو بكر أبويه.
وأخذه النبي صلى اللّه عليه وآله فور ولادته ، فأذن في اذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى ، ثم عق عنه ، وحلق رأسه ، وتصدق بزنة شعره فضةً فكان وزنه درهماً وشيئاً ، وأمر فطُلي رأسه طيباً ، وسُنَّت بذلك العقيقة والتصدّق بوزن الشعر.
وسماه ( حسناً ) ، ولم يعرف هذا الاسم في الجاهلية.
وكنّاه ( أبا محمد ) ، ولا كنية له غيرها.
القابه :
السبط ، السيد ، الزكيّ ، المجتبى ، التقيّ.
زوجاته :
تزوج ( ام اسحق ) بنت طلحة بن عبيد اللّه ، و ( حفصة ) بنت عبد الرحمن بن ابي بكر ، و ( هند ) بنت سهيل بن عمرو ، و ( جعدة ) بنت الاشعث بن قيس ، وهي التي اغراها معاوية بقتله فقتلته بالسم .
ولا نعهد انه اختص من الزوجات ـ على التعاقب ـ باكثر من ثمان أو عشر ... على اختلاف الروايتين ... بما فيهن امهات اولاده.