سؤال سيخرجنا من منعطفات مآزق الروايات الموضوعة من قبل رواة زواج السيدة « آمنة » سكينة بنت الحسين ( عليهما السلام ) ، من هم آل الزبير ؟
يعد الزبير بن العوام مؤسس الخط الزبيري ـ إذا صح التعبير ـ فهو الذي سن توجهات آله ، وألقى لهم آراءه في علاقاته على المستوى الديني ، وطموحاته على المستوى السياسي .
كان الزبير بن العوام حليفا لعلي ( عليه السلام ) يوم السقيفة ، وكان من الذين انظموا إلى علي ( عليه السلام ) ، وممن أبوا بيعة أبي بكر ، بل كان من المعترضين الأشداء عليها ، فهو لن يغمد سيفه ما لم تستقر البعية لعلي بن أبي طالب ، بعد ما سمع من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أحقية علي ( عليه السلام ) في الخلافة ، لذا فإن ابن قتيبة في « الإمامة والسياسة » يصور لنا موقف الزبير المتصلب في رفض البيعة لأبي بكر ، وإصراره على أحقية علي ( عليه السلام ) في البيعة قائلاً :
وأما علي والعباس بن عبد المطلب ومن معهما من بني هاشم فانصرفوا إلى رحالهم وعمهم الزبير بن العوام ، فذهب إليهم عمر في عصابة فيهم أسيد بن حضير وسلمة بن أسلم فقالوا : انطلقوا فبايعوا أبابكر ، فأبوا ، فخرج الزبير بن العوام بالسيف ، فقال عمر : عليكم بالرجل فخذوه ، فوثب عليه سلمة بن أسلم فأخذ السيف من يده فضرب به الجدار . . .
(1) .
---------------------------
(1) الإمامة والسياسة 15 : 1 .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 85 _
وقال الطبري : أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فقال : والله لأحرقن عليكم أو لتخرجن إلى البيعة ، فخرج عليه الزبير مصلتا بالسيف فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه
(1) .
هذه الصورة تعطينا تصورا عن موقف الزبير إبان بيعة الشيخين ، ويبقى الزبير معارضا ملتزماً جانب الرفض لنظام الشيخين ، إلا أن ذلك لا يكون بالضرورة موقفا مناصرا للإمام علي ( عليه السلام ) ، حيث لم توقفنا النصوص التاريخية على مواقف النصرة للإمام بقدر ما كان معارضا معانداً ، لا يرى أهلية لشيخي تيم وعدي أن يتقدما على ابن صفية الذي عرف بأنه ابن عمة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فضلاً عن مواصفات الخلافة ؟ ! هذا ولم يكن للزبير إبان عهد الشيخين أية ميزات اجتماعية ، فضلاً عن إلغاء دوره السياسي كذلك .
لذا فإن عهد عثمان بن عفان يعد متنفساً لتوجهات الزبير الاجتماعية ، فبنى القصور واقتنى الأموال كما ذكر المسعودي فقال : وفي أيام عثمان اقتنى جماعة من الصحابة الضياع والدور منهم الزبير بن العوام ، بنى داره بالبصرة وهي المعروفة . . . وبلغ مال الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار ، وخلف الزبير ألف فرس وألف عبد وأمة . . .
(2) .
أي سيجد الزبير حينئذ متنفسا يستطيع من خلاله أن يمارس دوره الاجتماعي باقتنائه الأموال والقصور ، إلا أنه يبقى محبوساً سياسياً ، أي لا يزال ملغى الدور السياسي الذي يطمح أن يصل إليه الزبير بعد إشباعه ماليا ، وسيكون دوره الاجتماعي منقوصاً ما لم يكمله بحضوره السياسي في الأحداث العامة ، ولم يجد الزبير أفضل من فرصة يوم الدار ، يوم محاصرة عثمان تأليب الثوار عليه ، منضماً بذلك إلى الحركة الثورية التي قررت إيقاف انتهاكات عثمان الدينية والاجتماعية وحتى السياسية ، فرأى الزبير أن مناورة الانضمام إلى الثوار ستعطيه فرصة سياسية ناجحة ، يستغلها من أجل تثبيت موطئ قدم له .
---------------------------
(1) تاريخ الطبري 443 : 2 .
(2) مروج الذهب 350 : 2 .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 86 _
وكان حليفه طلحة كذلك ، وكان طلحة شديداً على عثمان حتى قال عثمان : اللهم اكفني طلحة بن عبيد الله فإنه حمل عليّ هؤلاء وألبهم ، والله إني لأرجو أن يكون منها صفراً ، وأن يسفك دمه . . .
(1) .
كتاب طلحة والزبير في تحريض المسلمين على قتل عثمان بل كان الزبير يعمل على قتل عثمان ، ولعل في ذلك أمنيته في انحياز الأمر إليه ، وهو ما كشفه الأشتر حين قرأ كتابه وكتاب طلحة في التحريض على قتل عثمان ، قال ابن قتيبة الدينوري : إن الأشتر قال لطلحة والزبير بعدما تظاهرا بعدم الرضا عن قتل عثمان ، وبعثوا إلى الأشتر في الكف عن محاصرته قال : تبعثون إلينا وجاءنا رسولكم بكتابكم وهاهو ذا ، فأخرج كتابا فيه : « بسم الله الرحمن الرحيم ، من المهاجرين الأولين وبقية الشورى ، إلى من بمصر من الصحابة والتابعين ، أما بعد : أن تعالوا إلينا وتداركوا خلافة رسول الله قبل أن يسلبها أهلها ، فإن كتاب الله قد بدل ، وسنة رسول الله قد غيرت ، وأحكام الخليفتين قد بدلت ، فننشد الله من قرأ كتابنا من بقية أصحاب رسول الله والتابعين بإحسان إلا أقبل إلينا ، وأخذ الحق لنا وأعطاناه ، فأقبلوا إلينا إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، وأقيموا الحق على المنهاج الواضح الذي فارقتم عليه نبيكم ، وفارقكم عليه الخلفاء ، غلبنا على حقنا واستولي على فيئنا ، وحيل بيننا وبين أمرنا ، وكانت الخلافة بعد نبينا خلافة نبوة ورحمة ، وهي اليوم ملك عضوض ، من غلب على شيء أكله » .
---------------------------
(1) تاريخ الطبري 411 : 3 .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 87 _
أليس هذا كتابكم إلينا ؟ فبكى طلحة ، فقال الأشتر : لما حضرنا أقبلتم تعصرون أعينكم ، والله لا نفارقه حتى نقتله . . .
(1) .
فكان الزبير ممن يحث الناس على قتل عثمان ، بل خاذلا له مؤلباً عليه ، خارجاً عن المدينة حتى لا يشهد قتله ويطالب بنصرته ،
قال ابن الأثير في كامله : إن الزبير خرج من المدينة قبل أن يقتل عثمان . . .
(2) أي أيام حصاره في الدار .
وهكذا حصل الزبير على مكسبه السياسي بعد قتل عثمان ، وتحول الأمر إلى علي ( عليه السلام ) ظنا منه أن الفرص السياسية قد سنحت له بعد أن قاد معارضته السياسية ضد نظام نقم عليه المسلمون ، وحسب أن سيكون له موطئ قدم في العهد الجديد حينئذ .
قال اليعقوبي في تاريخه : وأتى عليا طلحة والزبير فقالا : إنه قد نالتنا بعد رسول الله جفوة فأشركنا في أمرك ، فقال : أنتما شريكاي في القوة والاستقامة وعوناي على العجز والأود
(3) .
ومعنى ذلك أن علياً ( عليه السلام ) لم يشركهما في الأمر ، فسارا إلى البصرة يطالبان بدم عثمان ومعهما عائشة وهم من خلال ذلك يطمحون للوصول إلى مآربهم السياسية ، فكانت وقعة الجمل التي ذهب ضحيتها آلاف المسلمين ولقي طلحة والزبير حتفهما في مغامرة سياسية فاشلة ، ولعبة لم يحكما أمرها بعد ، فقتلا على يد من خرجا معهم ، وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ .
---------------------------
(1) الامامة والسياسية 34 : 1 .
(2) الكامل في التاريخ 87 : 3 .
(3) تاريخ اليعقوبي 77 : 2 .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 88 _
آل الزبير . . . تقليدية عداء ومنافسات سياسية محمومة وضعت الحرب أوزارها بعد هزيمة حلفاء الجمل عائشة وطلحة والزبير ، إلا أن العداء لآل علي لم ينته بعد ، والمنافسات السياسية لم تحط رحالها ، ورواد مدرسة الجمل قد بدأ نشاطهم توا ، فهذا عبد الله بن الزبير يتربص الأحداث ، ويتحين الفرص ، ولم يكن في همه إلا الحصول على مبادرات المناصب التي ستتركها أحداث ما بعد يزيد . فبنو مروان احتلبوا تقلبات ماتركته خطبة معاوية بن يزيد ، الذي أعلن عن عدم أهليته للخلافة مع وجود الشرعية الإلهية المتمثلة بالإمام زين العابدين عليه السلام ، فتركها منصرفا إلى حيث اختار له بنو أبيه من الموت قبل أن تكون تلك سُنّة يشيع أمرها فيخرج الملك من أيديهم . ويتسابق على الخلافة من لا خلاق له فيها من بني مروان وآل الزبير ، فيغلب بنون مروان على آل الزبير الذين حصلوا على مكة مقرا له ومكنوا عبدالله بن الزبير من أمرهم .
عرف آل الزبير بعدائهم لبني هاشم ، وقد مثل ذلك بأبشع صوره عبدالله بن الزبير .
قال اليعقوبي: وتحامل عبد الله بن الزبير على بني هاشم تحاملا شديدا ، وأظهر لهم العداوة والبغضاء حتى بلغ ذلك منه أن ترك الصلاة على محمد في خطبته ، فقيل له: لم تركت الصلاة على النبي ؟ فقال : إن له أُهيل سوء يشرئبون لذكره ، ويرفعون رؤوسهم إذا سمعوا به .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 89 _
وأخذ ابن الزبير محمد بن الحنفية وعبد الله بن عباس وأربعة وعشرين رجلاً من بني هاشم ليبايعوا له فامتنعوا ، فحبسهم في حجرة زمزم ، وحلف بالله الذي لا إله إلا هو ليبايعن أو ليحرقنهم بالنار . . .
(1) .
حدث المسعودي أن عبد الله بن الزبير تجاوز في عدائه لآل علي ( عليه السلام ) حتى إنه كان ينال من علي ( عليه السلام ) في خطبه ، قال : خطب ابن الزبير فنال من علي
(2) ، على أن عبد الله بن الزبير يفضح دخيلته في عدائه لبني هاشم في محاورته مع ابن عباس ، فقد ذكر المسعودي عن سعيد بن جبير أن عبد الله ابن عباس دخل على ابن الزبير ، فقال له ابن الزبير : أنت الذي تؤنبني وتبخلني ؟ قال ابن عباس : نعم ، سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : ليس المسلم يشبع ويجوع جاره ، فقال ابن الزبير : إني لأكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة . . .
(3) .
فضلاً عما كان يتظاهر به من الزهد والعبادة دجلا ومراء في كسب قلوب الناس والحرص على الملك . . . قال المسعودي : وأظهر ابن الزبير الزهد في الدنيا والعبادة مع الحرص على الخلافة ، وقال : إنما بطني شبر فما عسى أن يسع ذلك من الدنيا ، وأنا العائذ بالبيت والمستجير بالرب ، وكثرت أذيته لبني هاشم مع شحه بالدنيا على سائر الناس . . .
(4) .
---------------------------
(1) تاريخ اليعقوبي 178 : 2 .
(2) مروج الذهب 89 : 3 .
(3) المصدر السابق ، وأنت جد عليم بالخير الصحيح عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، وأبي ذر ، وابن عباس ، أنهم كانوا يقولون : ما كنا نعرف المنافقين إلا بتكذيبهم الله ورسوله ، والتخلف عن الصلوات ، والبغض لعلي بن أبي طالب ، بل ، أنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : « بغض بني هاشم والأنصار كفر » ، أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 118 : 11 ، ح 11312 ، وأحاديث الباب في الصحاح والمسانيد المعتمدة كثيرة ، فراجعها في مظانها .
(4) المصدر السابق : 87 .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 90 _
هذا حال آل الزبير ، وهذه سيرة شيخهم عبد الله ، فما ظنك بغيره ؟ وماذا عسى أن يكون مصعب بن الزبير في عدائه لبني هاشم ومخالفته لهم ؟ !
مصعب بن الزبير يؤوي قتلة الحسين ( عليه السلام ) :
مثل مصعب بن الزبير نموذجاً سيئاً في الانتهاكات المرتكبة بحق أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فهو لم يكتف بملاحقة شيعتهم فحسب ، بل بلغ من عدائه انضمام قتلة أهل البيت ( عليهم السلام ) إليه ؛ ليشكلوا قادة جيشه ، ورؤوس أنصاره .
ومصادر التاريخ تحدثنا أن مصعب بن الزبير استقطب قتلة الحسين ( عليه السلام ) وأهل بيته ، وجعلهم قادة جيشه ؛ لإحباط محاولات المختار بن أبي عبيد الثقفي ، الذي تصدى لملاحقة قتلة الحسين وأهل بيته ( عليهم السلام ) .
فإن المختار لما بعث غلاماً له في طلب شمر بن ذي الجوشن ، لحق الغلام بشمر ، وكان قد خرج من الكوفة في جمع من أصحابه ، ثم كان ما كان من قتل شمر غلام المختار ، ونزوله قرية الكلتانية ، ومنها بعث بكتاب إلى مصعب بن الزبير يعلمه الالتحاق به عنوانه : للأمير المصعب بن الزبير من شمر بن ذي الجوشن ، لكن إرادة الله لم تمهل اللعين بالالتحاق بابن الزبير ، إذا عثر على الكتاب ، وعرف مكان شمر فحوصر ، وجرت معركة قتل فيها شمر
(1) .
وكان سراقة بن مرداس البارقي قد اسره المختار ، فلما أحس القتل ، عمل حيلة للنجاة ، فنجا بها ، وقال : ما كنت في أيماني هذه حلفت لهم ـ يعني المختار وأصحابه ـ بها قط أشد اجتهادا ولا مبالغة في الكذب مني في أيماني هذه التي حلفت لهم بها أني قد رأيت الملائكة تقاتل معهم ، فخلوا سبيله ، فهرب ، فلحق بعبد الرحمن بن مخنف عند المصعب بن الزبير بالبصرة
(2) .
---------------------------
(1) تاريخ الطبري 52 : 6 .
(2) تاريخ الطبري 55 : 6 .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 91 _
وقال ابن خلدون : وبحث ـ أي المختار ـ عن مرة بن منقذ بن عبد القيس قاتل علي بن الحسين ، فدافع عن نفسه ، ونجا إلى مصعب بن الزبير . . . وطلب سنان بن أنس الذي كان يدعي قتل الحسين ، فلحق بالبصرة . . . وأرسل في طلب محمد بن الأشعث وهو في قريته عند القادسية ، فهرب إلى مصعب ، وهدم المختار داره ، وطلب آخرين كذلك من المتهمين بأمر الحسين ، فلحقوا بمصعب ، وهدم دورهم
(1) .
قال الطبري : وطلب ـ يعني المختار ـ رجلا من خثعم يقال له : عبد الله ابن عروة الخثعمي ـ كان يقول : رميت فيهم باثني عشر سهماً ضيعة ـ ففاته ولحق بمصعب ، فهدم داره
(2) .
مصعب بن الزبير : تركة العداء الزبيري لآل علي وشيعته :
قال المسعودي : فكان جملة من أدركه الإحصاء ممن قتله مصعب مع المختار سبعة آلاف رجل ، كل هؤلاء طالبون بدم الحسين وقتلة أعدائه ، فقتلهم مصعب وسماهم الخشبية ، وتتبع مصعب الشيعة بالقتل بالكوفة وغيرها ، وأتى بحرم المختار فدعاهن إلى البراءة منه ففعلن إلا حرمتين له : إحداهما بنت سمرة بن جندب الفزاري ، والثانية ابنة النعمان بن بشير الأنصاري ، وقالتا : كيف نتبرأ من رجل يقول ربي الله ؟ ! كان صائم نهاره قائم ليله ، قد بذل دمه لله ولرسوله في طلب قتلة ابن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأهله وشيعته ، فأمكنه الله منهم حتى شفى النفوس .
---------------------------
(1) تاريخ ابن خلدون 34 : 3 ، الكامل في التاريخ 243 : 4 ، 244 .
(2) تاريخ الطبري 65 : 6 ، الكامل في التاريخ 244 : 4 .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 92 _
فكتب مصعب إلى أخيه عبد الله بخبرهما وماقالتاه فكتب إليه : إن هما رجعتا عما هما عليه وتبرأتا منه وإلا فاقتلهما ، فعرضهما مصعب على السيف ، فرجعت بنت سمرة ولعنته وتبرأت منه وقالت : لو دعوتني إلى الكفر مع السيف لكفرت ، أشهد أن المختار كافر ، وأبت ابنة النعمان بن بشير وقالت : شهادة أرزقها فأتركها ؟ كلا انها موتة ثم الجنة والقدوم على رسول الله وأهل بيته ، والله لا يكون ، آتي مع ابن هند فأتبعه وأترك ابن أبي طالب ؟ اللهم اشهد أني متبعة لنبيك وابن بنته وأهل بيته وشيعته ، ثم قدمها فقتلت صبراً .
ففي ذلك يقول الشاعر:
إن من أعجب الأعاجيب iiعندي قتلوها ظلماً على غـير iiجـرم كـتب القـتل والقـتال iiعـلينا |
| قـتـل بـيضاء حـرة iiعطبول إن للـه درهـا مـن iiقـتيـل وعلـى الغانيات جرُ الذيول (1) |
هذا هو مصعب بن الزبير بصورته البشعة ، يؤوي قتلة الحسين ( عليه السلام ) ويسالمهم ، ويعدهم من قادة جيشه وحملة لوائه ، فضلا عما فعله بشيعته وأنصاره والآخذين بثأره ، مما يكشف عن مدى ما يحمله من حقد وعداء لأهل هذا البيت الطاهر ، واختلافه الشديد بينه وبينهم ، بل الفجوة بين أطروحتين متغايرتين ، الأطروحة الزبيرية التي تدين بالعداء لأهل البيت ، ودفعهم عن مقامهم ، بل محاولة تصفيتهم ، وبين توجهات الأطروحة العلوية المعروفة .
---------------------------
(1) مروج الذهب 113 : 3 ، وروى اليعقوبي في تاريخه 182 : 2 ، الحادثة بإضافات أخر ، ونسب الأبيات إلى عمر بن أبي ربيعة ، ومثله ابن عبد ربه الأندلسي في العقد الفريد 155 : 5 في ذكر دولة بني مروان ، خبر المختار ابن أبي عبيد ، مع اختلاف في ألفاظ البيتين الأولين .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 93 _
فأين التقارب إذن ؟
وإذا كان هذا حال مصعب بن الزبير ومواقفه من أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فمتى يتاح له التقارب مع بني هاشم ، الذين لا يزالون يحتفظون بمواقف التنكيل والتشريد التي ارتكبها عبد الله بن الزبير ، وقد عزم على إحراقهم وإفنائهم ، ومصعب بن الزبير هو إحدى الصنائع الزبيرية التي ما فتأت تعمل على إنجاح الأطروحة الزبيرية بالتنكيل والتقتيل لأهل البيت وأشياعهم ، فهل يمكننا بعد هذه المقدمات التاريخية من استعراض حال آل الزبير ، أن يجد علي بن الحسين ( عليهما السلام ) مبرراً لزواج مصعب بن الزبير من أخته « آمنة » سكينة بنت الحسين ؟ !
وإذا اعترض أحدهم قائلاً : بأن الزواج ـ خصوصا في ذلك الوقت ـ لا علاقة له بالمواقف الشخصية ، وأن مسألة المصاهرة لا تعدو عن اقتران بين زوجين ، لا يمثلان كل منهما توجها سياسياً أو فكرياً يناقض أو يوافق الطرف الآخر ،
فإن ذلك المقول غير دقيق ؛ إذ بالعكس فقد كان الزواج ـ خصوصاً في ذلك الوقت ـ يمثل حالات تقارب سياسي ، واستقطاب اجتماعي ، يحصل من خلاله الشخص على تأييد أصهاره أو محاولة منه لتأمين جانبهم وتخفيف احتمال الوقيعة به ، وهذا دأب ذي الشأن منهم .
وما زواج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من تشكيلات متعددة إلا صورة لهذه الحالة السائدة لدى المجتمع القبلي ، الذي يعيش تحت وطأة التعصبات القبائلية ، والأعراف العربية الملتزمة وقتذاك ، فقد كان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يستقطب في مصاهراته المتعددة بيوتات لها خطرها في التيارات السياسية المتربصة بالدين الحنيف .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 94 _
إذن ففي خضم أحداث التنافس الزبيري لبني هاشم وعدائهم إياهم ، بل وفي هذه الأحداث السياسية الهائجة المتوترة ، لا يمكننا قبول حكاية زواج مصعب بن الزبير لسكينة « آمنة » بنت الحسين ( عليهما السلام ) ، فإن ذلك محاولة قصصية يراد من وضعها وافتعالها إلغاء ما عرف من تقليدية العداء الزبيري ـ العلوي ، وإظهار التوافق بين البيتين ، ومحاولة إسباغ الشرعية على حركة آل الزبير ، هذا من جهة .
ومن جهة أخرى ، محاولة إضفاء الشبه بين تصرفات عائشة بنت طلحة زوجة مصعب بن الزبير المعروفة بلهوها وترفها ، وبين السيدة آمنة بنت الحسين ( عليهما السلام ) المعروفة بورعها وتقواها ، ومحاولة سلخ صفة التقوى هذه عن السيدة آمنة ، والتعامل معها على أساس ما يتعامل به مع نساء الزبيريين والأمويين ، والتقليل من شأن مسحة الاحتشام والتعفف على نساء أهل هذا البيت الطاهر ، وخلط ما يقع لنساء الزبيريين والأمويين من انتهاكات شعرية ومخالفات عرفية ورميها على أهل البيت ( عليهم السلام ) .
محاولات زبيرية للطعن على أهل البيت ( عليهم السلام ) :
ولم يكتف آل الزبير من أكذوبة زواج مصعب بن الزبير من السيدة آمنة ( عليها السلام ) ، بل أمعنوا في الانتقاص من مكانة أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، والازدراء بهم ، ورفع شأن مخالفيهم كما في الرواية الزبيرية التالية :
روى الاصفهاني : قال مصعب : وحدثني مصعب بن عثمان : أن علي ابن الحسين أخاها حملها إليه فأعطاه أربعين ألف دينار
(1) .
هكذا يصور الزبيريون ما يحلو لهم من انتقاص قدر أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وحاجتهم إلى آل الزبير ، فيستعطون أرزاقهم ويتقربون لهم للحصول على أعطياتهم ، وقد تنكر الراوي إلى حقائق تاريخية تظهر شأن علي بن الحسين عليهما السلام وقدره حتى من أعدائه ، وهو ( عليه السلام ) كان يعيش بعد واقعة الطف في أخطر ظرف سياسي يتربص لتحركاته ، ومع هذا فقد هيمن ( عليه السلام ) على قلوب أعدائه ، فضلا عن شيعته ومريدية .
---------------------------
(1) الأغاني 159 : 16 .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 95 _
فقد كانت وقعة الحرة في المدينة شاهدا على تعظيم علي بن الحسين ( عليهما السلام ) في أعين أعدائه فضلاً عن أتباعه ، وكان مسرف بن عقبة حين دخل المدينة لم يتعرض لعلي بن الحسين ( عليهما السلام ) ، بل قال حين رأي الإمام ( عليه السلام ) : إن أمير المؤمنين أوصاني بك خيراً .
وروى ابن سعد في الطبقات أن مروان بن الحكم ، وعبد الملك بن مروان كانا يحبان علي بن الحسين ( عليهما السلام ) ويجللانه
(1) .
على أن هذا التجليل لا يعني الاعتقاد ، بقدر ما يعني رضوخهما لواقع الأمر مما كان عليه الإمام ( عليه السلام ) ، من الهيمنة على قلوب المسلمين وتعظيمهم له ، بل كان له سيرته المعروفة في البر والعطاء ، وكان موفور المال غير محتاج إلى أحد ، بل كان ( عليه السلام ) يعطي للمحتاجين ، فقد روى ابن الجوزي أن علي بن الحسين ( عليهما السلام ) دخل على محمد بن أسامة بن زيد في مرضه فجعل محمد يبكي ، فقال علي : ماشأنك ؟ قال : عليّ دين ، قال : كم هو ؟ قال : خمسة عشر ألف دينار ، قال : فهو عليّ .
وما رواه أيضا من أن رجلا كان يتعرض لعلي بن الحسين ( عليهما السلام ) ، فأمر له الإمام بألف درهم وألقى عليه خميصة كانت عليه ، فكان الرجل بعد ذلك يقول : أشهد أنك من أولاد الرسول
(2) .
---------------------------
(1) الطبقات الكبرى 421 : 3 .
(2) صفة الصفوة 393 : 1 .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 96 _
إلى غير ذلك من كرائم صفاته وجليل عطاياه ، فهل كان بعد ذلك يحتاج إلى عطايا آل الزبير ليحمل أخته إلى مصعبهم فيعطيه ألف ألف درهم ؟ ! ومتى عرف آل الزبير بالعطاء ؟ إذ لم ير منهم سوى الشح والضيق على الرعية ، حتى ضج الناس من بخل آل الزبير ، فقال قائلهم وهو أبو وجزة مولى الزبير :
إن المـوالي أمست وهـي iiعـاتبة مـاذا عـلينا ومـاذا كـان يرزؤنا |
| عـلى الخليفة تشكو الجوع iiوالحربا أي الملوك على ما حولنا غلبا (1) |
وقال الضحاك بن فيروز الديلمي :
تـخـبـرنا أن سـوف تكـفيك iiقـبضة وأنـت إذا مـا نـلت شـيئا iiقـضمـته فـلـو كـنـت تجزي إذ تـبيت iiبنـعمة |
| وبـطـنك شـبرا أو أقـل من iiالشــبر كـما قضمت نار الـغضى حطب الـسدر قـريـبـا لـردتك العطوف على iiعمرو (2) |
وعمرو هذا هو أخو عبد الله بن الزبير ، قتله حرصا على الملك دون تحرج في سفك دماء حتى إخوته ومقربيه ، فروايات آل الزبير في الطعن على أئمة آل البيت ( عليهم السلام ) ، ورفع منزلة ذويهم ، تكذبها وقائع التاريخ ، وتناقضها شواهد أخر أعرضنا عن ذكرها .
والنتيجة : بعد استعراضنا لمقدمات تاريخية مهمة تشير إلى مواقف آل الزبير من أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وعدائهم لهم ، وعدم توافقهم ، فإن حكاية زواج مصعب بن الزبير من السيدة آمنة بنت الحسين ( عليهما السلام ) تمنعها مقتضيات دينية واجتماعية عدة .
---------------------------
(1) مروج الذهب 88 : 3 .
(2) المصدر السابق .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 97 _
أما المقتضيات الدينية :
فقد عرفنا عداء مصعب لأهل البيت ( عليهم السلام ) ، وعدم توافقه معهم ، حيث لاحق شيعتهم وقتلهم تبعا لأخيه عبد الله بن الزبير ، فقد نكل ببني هاشم وأراد تحريقهم ، فعداؤهم لآل البيت ( عليهم السلام ) يكشف عن انحرافهم عن ولايتهم ، ويدل على مخالفتهم لما أمر به الله ورسوله من الطاعة لهم والالتزام بنهجهم ، وبذلك فأي تخلف عنهم ( صلوات الله عليهم ) يعد تخلفا عن طاعة الله ورسوله ، فطاعة الله ورسوله تدور مدار ولاية علي وطاعته ، والإيمان مرهون بالتمسك بنهج أهل البيت ( عليهم السلام ) .
أخرج الحاكم في مستدركه عن أبي ذر ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع عليا فقد أطاعني ، ومن عصى عليا فقد عصاني »
(1) .
أخرج بسند صحيح عن أبي عبد الله الجدلي أنه دخل على أم سلمة زوج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الموسم مع جماعة من الناس ليسلموا عليها ، فسمعها تقول: ياشبث
(2) بن ربعي ، فأجابها رجل جلف جاف : لبيك يا أمتاه ، قالت : أيسب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في ناديكم ؟ قال : وأنى ذلك ! قالت : فعلي بن أبي طالب ؟ قال : إنا لنقول أشياء نريد عرض الدنيا ، قالت : فإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : « من سب علياً فقد سبني ، ومن سبني فقد سب الله تعالى »
(3) .
---------------------------
(1) المستدرك على الصحيحين 131 : 3 ، ح 4617 وصححه الذهبي في التلخيص .
(2) في المصدر : شبيب ، وأحسبه تصحيفا ، فالأوصاف التي وصف بها لا تنطبق إلا على شبث بن ربعي الرياحي التميمي اليربوعي .
(3) المستدرك على الصحيحين 130 : 3 ، ح 4616 ، سكت عنه الذهبي في التلخيص ؛ لأنه صحح الحديث الذي قبله ، وهو : « من سب علياً فقد سبني » . ولا يبعد أنه أراد تصحيحه ، لكن نفسه لم تطاوعه .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 98 _
وأخرج عن أبي ذر ( رحمه الله ) كذلك قال : قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « يا علي من فارقني فقد فارق الله ، ومن فارقك يا علي فقد فارقني »
(1) .
وإذا استعرضنا تاريخ آل الزبير ، وما كانوا عليه من المفارقة لعلي وانحرافهم عنه ، والنيل منه وسبه ، اتضح لنا جليا مدى عدائهم وعدم توافقهم مع آل علي بعد ذلك ، على أن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) يتحرى مواطن الاتفاق والالتزام بولاية علي عليه السلام دون موارد الانحراف والضلال ، هذا هو مقتضى سيرة المؤمنين ، فكيف بالإمام زين العابدين ( عليه السلام ) يتصاهر مع بيوت مخالفيه دون مراعاة جانب الإيمان والورع والتقوى ؟ ! مما يكشف لنا عن عدم إمكانية وقوع زواج مصعب من آمنة حسب المقتضيات الدينية التي كان يراعيها الإمام علي بن الحسين ( عليهما السلام ) .
أما المقتضيات الاجتماعية :
وهي التي تشمل المقتضيات السياسية كذلك ، فالزبيريون طلاب منصب وإمارة كما هو معروف ، وهم المنافسون لخصومهم السياسيين من بني مروان ، الذين انكفؤوا في استغلال الفرص السياسية بعد انعزال معاوية ابن يزيد عن السلطة ، وخلو الساحة السياسية عمن يشغل منصبه ، فتسارع مروان إلى اقتناص الفرصة السياسية هذه كونه الوريث السياسي للأمويين ، فنصب نفسه لرأس نظام أموي مرواني جديد ، وهو ما حدى بمنافسيه السياسيين إلى استغلال هذه الظروف السياسية ، فوثب عبد الله بن الزبير على مكة بعد صراعات دموية عنيفة ، مقتطعا بذلك مكة وما والاها ، وضاما إلى إمارته البصرة وما حاذاها ، حتى طمع في الكوفة ، فكانت وقعة مصعب مع المختار ، وما نجم عنها من سفك دماء شيعة علي ( عليه السلام ) ، وإعلانها إمارة زبيرية بعد ذلك .
---------------------------
(1) المستدرك على الصحيحين 133 : 3 ، ح 4624 ، قال الحاكم : صحيح الإسناد .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 99 _
لم يكن هذا الوضع الزبيري قد أراح عبد الملك بن مروان الذي يعد موطد الحكم الأموي المرواني فعلا ، فابن الزبير قد امتد نفوذه في أرجاء البلاد الإسلامية وشاع أمره ، وحيل ذلك بين نفوذ بني أمية المهدد كيانهم من آل الزبير ، وبين طموحاتهم المستقبلية التي ترنو إلى السيطرة على جميع الأنحاء الإسلامية دون منافس عسكري أو معارض سياسي له سطوته وآثاره ، وطبيعي أن يكون لهذا المنافس القوي في حسابات الأمويين الأولوية في تصفيته ، وانتزاع ما في يده من الإمارة ، وقد رافق ذلك تحسبا حذرا من تحركات الإمام علي بن الحسين ( عليهما السلام ) الذي فرغ توّاً من واقعة الطف ، وقد رأى مصارع أبيه وآل بيته أمامه ينفذه الأمويون بأبشع صوره ، ولا بد أن يكون علي بن الحسين ( عليهما السلام ) متربصاً لآل أمية متحيناً فرص الثأر والانتـقام ، فأية حركة مناقضة لبني أمية ستكون فرصة علي بن الحسين ( عليهما السلام ) بعد ذلك ، هكذا كان ظن الأمويين ، فكانوا يراقبون مواقف الإمام ( عليه السلام ) من الأحداث الجارية ، وكانوا يحسبون التأييد لآل الزبير ـ إن حصل ـ إسباغاً للشرعية على آل الزبير ، لذا فهم في وجل من أية تحركات ينجم عنها تأييد علي بن الحسين ( عليهما السلام ) لمنافسيهم الأقوياء ، إلا أن الإمام ( عليه السلام ) لم يتوافق مع الحركة الزبيرية أبداً ، وذلك لما ذكرنا من عداء عبد الله بن الزبير لبني هاشم عموماً ، وللإمام خصوصاً ، هذا من جهة .
ومن جهته علم الإمام ( عليه السلام ) ـ بغض النظر عما يكنه علمه اللدني المقدس ـ من عدم مصير الخلافة لآل الزبير ، فإن الأحداث السياسية الهائجة كانت توحي بفشل حركة آل الزبير ، وعدم رغبة الناس فيهم .