بسم الله الرحمن الرحيم تُعدُ البيئةُ مِن أهمِ المظاهر الحياتيّة المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالإنسانِ، ومن أشدِ ما حولَهُ التصاقاً به، وتُشكِلُ أيضاً الفضاءَ المكانيَ الذي يحتويه، إذ إنّه – أي الإنسان – ينمُو ويرعرعُ في كَنَفِه، وتحتَ أفيائه، فتتشكّلُ شخصيّتُهُ من ذلكَ الفضاء، فيتركُ بصماتِه واضحةً على تكوينِه الذَاتيِ، فضلاً عن التّكوين البدنيِ، إذ كلمّا كانت البيئةُ المحيطةُ بالإنسان نقيّةً خالصةً من الشّوائبِ، كانت انعكاساتُ هذا الأمر إجاباً على نموِه وتكوينه، ببعدَيه الماديّ والمعنويّ. من هنا وَرَدَ الحثُ من الشرّيعةِ الإسلاميّةِ المقدّسةِ، ورواياتِ أهلِ بيتِ العصمةِ والطّهارة (ع) على تأكيد أهميّة الحفاظ على البيئةِ بكلِ تفاصيلِها ومكوّناتها، من النّباتِ والحيوان والأرضِ والفضاءِ وغيره، فعَن رسولِ الله (ص) (ما مِن نبتٍ ينبُتُ إلاَ ويحُفُه ملَكٌ موكَلٌ به حتّى يحصُدَه، فأيُما امريءٍ وطِئ ذلك النَبت يلعنُهُ ذلكَ الملَك) (1) . كما جاء التّأكيد على إحياء الأراضي الموات واستعمارها ، (فمَن أحيا مَوَاتاً فهيَ له) ، (2) بل أصبحت البيئةُ مظهراً من مظاهر التّأمّل في عظمة اللهِ وبديعِ صُنعِهِ، فغدَت مَرامي تفكِر الأولياء، ومَيدان نظرِهم في التّوصّلِ إلى وصفِ مَعشوقِهم، والتّدبُر في جميلِ صُنعِهِ، ولطيفِ تدبرِه، جَذْباً للعبادِ إلى ساحتِهِ، وتقريباً لهم إلى رواشحِ فيضِهِ، ومَظاهرِ لُطفِهِ تعالى، مِن ذلك ما قال أمير المؤمنين (ع) في صفةِ السمّاء : ************************************************* (1) كنز العماَل : 9068 ، 9122 ، 9119 . (2) بحار ألانوار : 104 / 255 .
(ونظمَ بلا تعليقٍ رهوات فُرَجِها، ولاحَمَ صُدوعَ انفراجِها، ووشّجَ بينها وبين أزواجِها، وذلّلَ للهابطينَ بأمره والصّاعدينَ بأعمالِ خلقِهِ حُزونةَ معراجِها، ناداها بعد إذْ هيَ دُخانٌ فالتحمَت عُرى أشراجِها، وفتقَ بعد الارتتاقِ صوامتَ أبوابهِا، وأقامَ رَصَداً مِن الشُهُبِ الثّواقبِ على نقابهِا، وأمسكَها مِن أنْ تمورَ في خرْق الهواء بأيدِهِ، وأمرها أنْ تقفَ مُستسلمةً لأمرِه، وجعلَ شمسَها آيةً مبصرةً لنهارِها، وقمرَها آيةً ممحُوَةً مِن ليلِها، فأجراهما في مناقلِ مجراهما، وقدّر سيرهَما في مدارج دَرَجِمها ... ليميِز بين اللّيلِ والنّهار بهما، وليُعلم عددُ السِنينَ والحساب بمقاديرهِما، ثمَ علَق في جوِها فلكَهَا، وناط بها زينتَها مِن خفيّات درارِيها ومصابيحِ كواكبِها، ورمى مُسترِقِي السَمعَ بثواقبِ شُهُبِها، وأجراها على إذلالِ تسخيرِها، من ثباتِ ثابتِها ومسيرِ سائرِها، وهبوطِها وصعودِها، ونحوسِها وسُعودِها) . مِن هنا يأتي هذا الكرّاس ليقدِم للمجتمع البصريّ واقعَ جانبٍ من أخطرِ جوانبِ مصادرةِ البيئة الطّبيعيّة، وقد كتب في هذا المجال الكثير، وتناولته الأقلام، ولكنّه لم يقع في متناول أغلب أفراد مجتمعِنا، وعليه ارتأى مركز تراث البصرة، إخراجه ليعمّ النّفع ويرفد الوعي، تأكيداً على هذا الجانبِ المهمِ في سلامةِ الإنسان، ومستقبلِهِ، ومِن اللهِ التوفيقُ.
مُقدّمة بدأ نِفط البصرة بالتدفّق في العام 1949 م من البئر رقم (1) في حقل الزبير، وعلى عمق ( 11000 ) قدم، بعدما تمكّنت شركة نفط البصرة (BPC) ، وهي فَرع مِن شركة نفط العراق (IOC) ، على امتياز استثمار نِفط البصرة، واستخراجه، وتصديره في تمّوز 1938 م، إذْ بلغت مساحة الامتياز نحو (246000) كيلو متراً مربّعاً، وجرى تحميلُ أوّل ناقلةٍ بالنّفط من رصيف الفاو آنذاك في كانون الأوّل مِن العام 1951 م. وبذلك يُعدُ حقلُ الزبير العِملاق هو أوّلُ حقولِ البصرة المكتَشَفة، والمنتِجَة، ثمَُ توالت الاستكشافات التي تقومُ بها شركة نِفط البصرة، حتّى اكتُشف النفط في حقلِ الرميلة الجنوبيّ في العام 1953 م، ثمَ بقيّة الحقول. ويُمكن القول هنا إنّ العمليّات النّفطيّة في البصرة توسّعت بعد تأسيس شركة النّفط الوطنيّة العراقيّة في العام 1964 م، ثُمّ تأميم عمليّات الشركات الأجنبيّة في العراق في العام 1972 م.
نِفطُ البصرة ، وحقولها تُعدُ محافظةُ البصرة المدينةَ النفطيّة الأولى في العراق، فهي تضمُ (15 حقلاً) ، منها ( 4 حقول ) فوق العِملاقة (Ultra Super Giant) ، من ضِمن ستّة حقول في العراق، ويبلغُ احتياطي النِفط المؤكّد فيها نحو ( 95 ) مليار برميل، أي نحو 70 % من احتياطيّ العراق، فضلاً عن الغاز المصاحب، وكذلك الغاز الحر في حقل (السِيبة) . تضمُ هذه الحقول مئات الآبارِ والشّعلات التي تنفثُ الغازات السّامّة القاتلة، ولا يبعُدُ حقلُ الزّبير عن مركز المدينة سوى ( 20 ) كيلو متراً، وهو قريبٌ جدّاً من مساكن قضاء الزبير، على حين أنّ القوانين الدوليّة تؤكّد على ضرورة أن تبعُدَ الحقول عن مساكن المواطنين بمعدّل ( 50 _ 100 ) كيلو متراً، كما هو معمولٌ به في مدينة هيوستن في ولاية تكساس، التي تُعدُ مدينة النّفط في الولايات المتّحدة، فضلاً عما تخلِفه محطّات الكهرباء، التي تعملُ بالوقود مِن غير الغاز الجاف من غاز (CO2) ،
وكذلك عوادم السيّارات، ومخلّفاتُ إشعاع اليورانيوم المنضَب، التي استخدمت في حرب تحرير دولة الكويت في العام 1991 م. وبذلك تكون محافظةُ البصرة من أكثر المدن الملوّثة بيئيّاً في العراق، وربمّا في منطقة الشرق الأوسطِ كلِها، وهو ما تؤكِده المؤشرّات التي سنأتي عليها في الفقرات الآتية : أوّلاً : التلوّث الناتج عن العمليّات النِفطيّة. ثانياً : التلوّث الناتج عن مخلّفات اليورانيوم المنضَب. ثالثاً : التلوّث الناتج عن عوادم المركّبات. رابعاً : التلوّث الناتج عن المولدات الأهليّة. وسنذيَل هذه الفقرات بالمعالجات والتوصيات
أوّلاً : التلوّث الناتج عن العمليّات النفطيّة في البصرة : إنّ إنتاج النّفط الخام تسبقُه وترافقُه العديدُ من العمليّات، مثل : استكشاف النِفط بواسطة المسوحات الزلزاليّة، وحفر الآبار الاستكشافيّة، وآبار الحقن والاستصلاح، ثُمّ بعد ذلك عمليّاتُ عزلِ الغاز المصاحب (Gas Associated) في محطّات العزل، وتأمين الشُعلات (Flares) ، ويعقُب ذلك عمليّات لاحقه (Doun Stream) ، مثل : تكرير النّفط لأغراض المستنقعات النفطيّة،
والخَزن، والتّسويق، وغيرها من العمليّات . وينتجُ عن ذلك عددٌ من الغازات السّامّة، وهناك نوعانِ أساسيّانِ من الغاز، همُا الغاز الحلو (Sweet Gas) ، والغاز الحامضيّ (Sour Gas) ، والحامضيُ أخطر ، لأنّه يحتوي على كمّياتٍ كبيرةٍ من مادّة الكبريت، ويحتوي على نحو (32) من المركّبات الغازيّة، والكيمياويّة، كما في الجدول رقم (2) . ولعلَ أخطر هذه الغازات، وأكثرها شيوعاً، هو غاز (كبريتيد الهايدروجين H2S) ، الذي ينبعثُ مِن الشُعلات في الحقول، من مصافي التكرير، ومحطّات عزل الغاز، وتشير ( منظّمة أوبك ) إلى أنَ العراق حرقُ سنويّاً نحو (6_8) مليار مترٍ مكعّبٍ من الغاز، منها نحو ( 5 _ 4 ، 5) مليار مترٍ مكعّبٍ في محافظة البصرة (1) ، وتبلغُ نسبة استثمار الغاز الطبيعيّ المنتَج في العراق لسنة 2012 م نحو 47 % ، بمعنى أنّ هناك هدراً واضحاً في هذا المورد الحيويّ المرغوب عالميّاً. غاز كبريتيد الهيدروجين ... مخاطرُه، ومعالجة المخاطر سنسوقُ الكلامَ عن غاز كبريتيد الهيدروجين على وفق النِقاط الآتية (2) : 1 ـ ما هو كبريتيد الهيدروجين H2S ؟ يمكنُنا التعرّف على هويّة غاز كبريتيد الهيدروجين من خلال الإشارات الآتية : ************************************************* (1) ينظر : مجلّة النّفط والتعاون العربي – أوابك، المجلّد 34 العدد 126 صيف 2008 م . (2) أُخذت جملةٌ من المعلوماتِ عن غازِ كبريتيدِ الهيدروجين الواردة ضمن هذه النِقاط من (موقع النِفط والغاز الطّبيعيّ العربيّ ONG) . |