شط العرب وشط البصرة والتاريخ

الدكتور محمد طارق الكاتب


الأهداء
  لذكرى المرحوم والدي الدكتور محمد وداد الكاتب الذي أحب البصرة حباً جماً فقصدها وعاش فيها وعمل من أجل خدمة أهلها وضم جسده تراباً .

المقدمة
  لقد كان موضوع شط العرب وتاريخ البصرة والأبلة دائماً من المواضيع التي كانت تستهويني وكنت أقضي الساعات الطويلة في قراءة ماكتبه المختصون في مختلف العلوم بهذا الشأن ، وحاولت منذ سنوات أن أجمع لدي كل ما وصل إلى يدي من مطبوعات ومقالات وخرائط لها علاقة بالبصرة وشط العرب .
  ومنذ حوالي تسع سنوات تمكنت نتيجة لما تجمع لدي من معلومات من إعداد خارطة تظهر موقع البصرة القديمة العظمى قرب الزبير ومواقع الأنهر المندثرة التي كانت تمتد آنذاك من شط العرب أو من دجلة العوراء كما كانت تسمى آنذاك الى البصرة القديمة ، وقد ترددت كثيراً منذ أن إعددت هذه الخارطة في نشرها وضننت في إعطائها إلى من طلبها مني خشية الخطأ بسبب عدم وجود حفريات موقعية تثبت مابينت على هذه الخارطة ، ورغم أن الحالة بالنسبة لي لم تتبدل حتى الآن ولا زلت أعتقد أن هذه الخارطة لابد أنه بالإمكان جعلها أكثر دقة وإضافة معلومات جديدة أخرى إليها اذا ما تمت الحفريات الموقعية في المنطقة ، غير انه مع ذلك فهي اول محاولة من نوعها لتثبيت موقع البصرة القديمة واحيائها ومواقع الانهر التي مر فيها ، فقد حاول البعض اعداد مثل هذه الخارطة ولم يتمكن من ذلك فلعل في وجود هذه الخارطة في هذا الكتاب فائدة لمن يهتم بمثل هذه الامور .
  كذلك كنت بحكم عملي في مصلحة الموانئ العراقية من المهتمين في موضوع الترسبات والغرين الذي يحمله شط العرب سنوياً الى الخليج العربي ، وبالتالي تقدم شط العرب سنوياً بسبب هذا الطمى الذي تحمله اليه أنهر دجلة

شط العرب وشط البصرة والتاريخ   ـ 2 ـ

  والفرات والسويب وكارون ، ونتيجة لدراساتي في الكتب التاريخية والجغرافية والجيولوجية فقد تمكنت من التوصل إلى بعض الأستنتاجات المفيدة والتي تحدد موقع رأس الخليج العربي خلال القرنين الاول والثاني للهجرة وأن لهذه الإستنتاجات من فائدة لمن يدرس هذا الموضوع سواء من الناحية الجغرافية أو التاريخية أو الجيولوجية فقد وجدت من المفيد أن أرفق خارطة تبين نتيجة دراساتي هذه للموقع المحتمل لرأس الخليج العربي آنذاك .
  إن موقع مدينة الأبلة القديمة كان دائماً من المواضيع التي تثير النقاش والجدال بين من هم على إطلاع بالموضوع ، وأذكر أنني حضرت العديد من المجالس التي ترددت خلالها هذه النقاشات ، وكنت دائماً أود أن أضع كافة المعلومات المتوفرة حول الموضوع في شكل يمكن أن يستنتج منه وبصورة منطقية موقع مدينة الأبلة القديمة على دجلة العوراء وبصورة تنهي هذا النقاش أو الجدل بقدر الإمكان ، وقد حاولت في هذا الكتاب عرض الموضوع بصورة تفصيلية مع الإتنتاجات التي توصلت إليها والتي تشير الى أن مدينة العشار الحالية ( موقع جامع المقام ومحلة مقام علي وغيرها من مناطق العشار القديمة ) هي الأبله القديمة والتي قد يرقى تأريخها حتى زمان الأكديين كما سنرى فيما بعد .
  ولما كنت أرى ضرورة إلمام من يود دراسة هذه المواضيع بالتفاصيل التاريخية والجغرافية التي أعدها المؤلفون القدامى منهم والجدد ، فقد أوردت وبالنص ماكتبه هؤلاء ، وبالرغم من أن هذه الطريقة لها نقائصها وخاصة عندما يذكر المؤلف أمراً لا أتفق معه فيه ، بينت ملحوظاتي حولها بهوامش في بعض الأحيان وتركت التعليق على البعض الآخر لإنني لم أجد ما يثبت العكس أو لإنني لم أجد حاجة للخوض في تفاصيل كثيرة ما تكون لا علاقة لها بموضوعنا وقد جاءت عرضاً من قبل المؤلف الذي أترك له إثبات ما يقوله ، فما أورده مما جاء في بكتابات المؤلفين ليس على سبيل الإستشهاد بهم بل لبيان ماكتبه هؤلاء بما له علاقة بموضوعنا ويقع أمر إثبات أقوالهم عليهم إلا في الحالات التي أشير اليها إلى ذلك وعندئذ فإنني اؤيد ماورد بإقوالهم .

شط العرب وشط البصرة والتاريخ   ـ 3 ـ

  إن الفضل الأول لدفعي إلى الكتابة ونشر ما أعددت من دراسات حول شط العرب والبصرة والأبلة يعود إلى المهندس عدنان القصاب المدير العام لمصلحة الموانيء العراقية فقد طلب مني بمناسبة المباشرة بحفر شط العرب أن أكتب في مجلة الموانيء سلسلة من المقالات تبين علاقة هذا النهر الجديد بتاريخ المنطقة ، فكانت النتيجة أن نشرت سلسلة مكونة من ستة أقسام في محلة الموانيء من 30 تموز 1970 ، حتى 31 كانون الأول 1970 بعنوان ( شط العرب وشط البصرة والتاريخ ) فإلى الأخ الفاضل المهندس عدنان القصاب أوجه شكري الجزيل لتشجيعي ونشر هذه المقالات التي كانت أساساً إلى هذا الكتاب .
  كذلك أود أن أسجل هنا شكري العميق للأستاذ ألأديب عبد الجبار الضاحي الشمخاني والذي قدم لي كل المساعدة بتنقيح وتصليح ما كتبته وبإعطائي الآراء والأفكار وخاصة بترجمة الكلمات الفارسية العديدة التي وردت في هذا الكتاب وأوضح لي الكثير مما غلق فهمه علي من نصوص في كتابات الأولين .
  ولما لشط العرب من أهمية كبرى في الوقت الحاضر وحيث انه من مواضيع الساعة خاصة بالنسبة للعلاقات العراقية الأيرنية ، فقد وجدت من المفيد ان الحق بكتابي هذا فصلاً كنت قد كتبته عن ( شط العرب في قضايا الحدود العراقية الأيرانية ) والذي نشر في مجلة القوة البحرية العراقية لعام ( 1969 ) ثم أعيد نشره لمرة ثانية في كتاب محافظة البصرة لعام ( 1970 ) .
  فقد حاولت أن أعرض للقاريء الكريم أمر شط العرب وشط البصرة فيما يتعلق بجغرافيتها وتاريخها وآمل أن اكون قد أوفيت الموضوع بعض حقه وتمكنت من إيضاح بعض أجزاء مما خفي منها لعلني أكون بذلك قد خدمت الجغرافة التاريخية للبصرة العزيزة .

الفصل الأول
1 ـ تمهيد شط العرب في القرن العشرين

  يتكون شط العرب حالياً من إقتران نهري الفرات و دجلة في القرنة فيجري من هناك بإتجاه الجنوب الشرقي ولمسافة قدرها حوالي ( 204 ) كيلو مترات حيث يصب في الخليج العربي ويمتد مستمراً في قعر ذلك الخليج لحوالي ( 5 ) كم أخرى ناقلاً مياه أنهر دجلة والفرات والسويب وكارون إلى الخليج العربي بمعدل من التصريف يبلغ ( 35.3 ) الف مليون متر مكعب سنوياً وكميات هائلة من الغرين تقدر بملايين أطنان من الطمى سنوياً وقد إمتد خط الماء الواطيء في الخليج العربي للشاطيء الغربي لشط العرب بما معدله حوالي ( 150 ) متراً سنوياً وبما معدله حوالي ( 100 ) متر للشاطيء الشرقي خلال النصف الأول من القرن العشرين .
  وخلال رحلة الماء في شط العرب من القرنة حتى البحر فإنه يمر ببساتين النخيل التي تكون أكثر من ثلث عدد النخيل الموجود في العراق إذ يقدر عدد النخيل على طول شط العرب بحوالي 14 مليون نخلة حيث تنتج حوالي ( 100 ) إلى ( 150 ) ألف طن سنوياً من التمور وتمتد بساتين النخيل هذه على ضفتي شط العرب وعلى محاذاتها بعمق يتراوح بين كيلو مترين إلى ثلاثة أو أربعة فيدخل الماء الأنهار والسواقي الصغيرة ثم يخرج منها مرتين تقريباً يومياً بفعل المد والجزر تلك الظاهرة الطبيعية التي طالما حيرت العقل البشري لإسباب حدوثها

شط العرب وشط البصرة والتاريخ     ـ 4 ـ

  مع العلم إن الجغرافيين العرب ربطو هذه الظاهرة بحركة القمر حول الأرض فقال أبو القاسم بن حوقل النصيبي في كتابه ( صورة الأرض) ( ص 54 ) والذي كتبه خلال سفرته التي بدأت يوم الخميس لسبع خلون من شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة للهجرة .
  ( أما المد والجزر فإنه من أعجب الأشياء وذلك إنه يبتديء بالمد عند طلوع القمر ولايزال يتزايد إلى أن يصير القمر في وسط السماء ثم يبتديء بالجزر إلى أن يحصل القمر في أفق المغرب ثم يبتديء بالمد عند طلوع القمر ولايزال يتزايد إلى أن يصير القمر في درجة الرابع وتد الأرض يبتدأ بالنقصان إلى وقت طلوع القمر ويعود في الزيادة وتختلف أوقاته بإختلاف طلوع القمر ومغيبه وتبارك الله أحسن الخالقين ) .
  أما عرض شط العرب فيتراوح بين عدة مئات من الأمتار في أماكن مختلفة منها حوالي ( 400 ) متراً أمام مدينة العشار حتى حوالي ( 1500 ) متر عند مصبه بالخيج العربي أما عمقه فيسمح للبواخر الكبير بغاطس حوالي ( 9 ) أمتار بالوصول إلى المعقل وبغاطس ( 9.75 ) أمتار بالوصول إلى عبادان وحوالي ( 10.75 ) متراً إلى الفاو آخذين بنظر الإعتبار إرتفاع المياه في شط العرب بسبب المد .
  إن الأنهر الرئيسة التي تصب في شط العرب هي كما بينا سابقاً الانهر الاربعة دجلة والفرات ( بمجرييه الأعلى عند القرنة والاسفل عند كرمة علي شمال المعقل ) والسويب وكارون ، غير أن عدد الانهر والترع والسواقي الصغيرة التي تتفرع من شط العرب تقدر بالآلاف فمنها أنهار رئيسية معروفة مثل نهر الشافي ونهر الماجدية والرباط الخندق والعشار والخور والسراجي ومهيجران وحمدان والحمزة وأبو مغيرة وأبو الخصيب وأبو الفلوس وكلها على الضفة الغربية لشط العرب وأنهر تقع على الضفة الشرقية لشط العرب منها نهر كتيبان ونهر الكباسي وشط العرب الصغير والخيين وغيرها كثير .

شط العرب وشط البصرة والتاريخ   ـ 5 ـ

  وبمحاذاة شط العرب من الغرب وإبتداءٍ من القرنة ولمسافة سبعين كيلو متراً يمتد هور (1) الحمار بما فيه من قصب وبردي ومستنقع ماء مكوناً بحيرة كبيرة يمر بها ماء الفرات وما يصل إليها من شط العرب من الماء خلال المد .
  ثم نجد وبمحاذاة شط العرب أيضاً لنصفه الأسفل وعلى بعد منه يتراوح بين ( 20 ) و ( 50 ) كيلو متراً طريقاً للماء يعرف بخور الزبير يتصل مباشرةً بالخليج العربي عن طريق خور عبد الله وخور شيطانة (2) .
  ويمتد خور الزبير هذا شاقاً الأرض الصحراوية غرب شط العرب لمسافة قدرها حوالي ( 40 ) كيلو متراً مكوناً في نهايته الشمالية ( بما يشبه الكف ) حوضاً يجتمع فيه ماء البحر المالح بسبب فعل المد (3) من الخليج العربي .

**************************************************************
(1) الهور ( بفتح الهاء وسكون الواو ) وجمعه أهوار فهو البحيرة تجري إليها مياه غياض وآجام فتتسع فهي تتكون عادة من تجمعات المياه العذبة التي تنقلها الأنهار فيكثر فيها القصب البردي لدينا بهور الحمار وهور الحويزة وغيرها من الأهوار في جنوب العراق أمثلة عديدة لما يقصد بكلمة الهور .
(2) الخور ( بفتح الخاء وسكون الواو ) في اللغة هو المنخفض من الأرض بين النشزيين أي بين المرتفعين وتستعمل كلمة الخور أذا كان لدينا طريق للماء في الارض فهناك مثلاً خور عبد الله وخور الزبير وخور موسى وكلها ( أخوار ) تمتد من الخليج العربي في الأرض وهي جميعاً مداخل لماء البحر المالح وإضافة لذلك فإن المنخفض الموجود بين المرتفعين في قعر البحر يسيمى خوراً أيضاً فإذا بدأ المنخفض من البحر وإنتهى في اليابسة أو قربها فهو خور ولدينا مثل على ذلك بخور العمية ( بفتح العين وسكون الميم وفتح الياء ) حيث يوجد الميناء العميق لتحميل ناقلات النفط الضخمة في الخليج العربي قرب مدخل شط العرب ، وهناك أيضاً مثل خور العمية عبارة عن وادي تحت قعر البحر يبدأ في البحر وينتهي فيه .
(3) المد والجزر ظاهرة طبيعية تحصل مرتين يومياً تقريباً بعد المد في المدن الساحلية وكان أول من قام وبصورة علمية بإحتساب إرتفاعات المد والجزر العالم الرياضي الشهير ( نيوتن ) حيث وضع نظريتها العامة وقد تلاه عدد كبير من العلماء وبالإمكان حالياً تقدير الجزر والمد الذي يحصل في أية بقعة على سطح الأرض وإحتسابها بدقة كبيرة .
وفي الواقع إنني لاأريد الخوض في هذا الموضوع فهو أمر طويل ويتطلب كتابة الكثير عنه لإعطاء فكرة كاملة عن ذلك وقد أعود إليه في يوم من الايام .
أما الصيهود فبالغة هي الفلاة لاشيء فيها ولاماء ويقصد بذلك مواسم شحة الماء ففي جنوب العراق يعتبر الموسم من شهر تموز حتى حوالي شهر تشرين الأول موسم الصيهود أي شحة الماء ، فكمية المياه العذبة التي تصل شط العرب تكون قليلة وبالتالي فتشح المياه العذبة ويعتبر الموسم صيهود أي أن الجزر هو امر يومي بينما الصيهود هو امر موسمي .

شط العرب وشط البصرة والتاريخ   ـ 6 ـ

  ويتعرض شط العرب إلى الفيضان دورياً بسبب فيضانات أنهر دجلة والفرات وكارون وكرخة وكثيراً ما تتغطى الاراضي الزراعية على جانبيه كما حصل خلال الاعوام 1969 و 1654 و 1946 بمياه الفيضان فيصل تصريف شط العرب في مصبه إلى حوالي ( 4500 ) متر مكعب في الثانية وخاصة إذا ماحدثت فيضانات هذه الأنهر سوية وفي وقت واحد وبالرغم من السداد الذي تقام على الأرض فإن الماء يتسرب إليها بفعل تأثير المياه الجوفية وبسبب كسر بعض السداد بقوة مياه الفيضان .
  وإذا ما توغلنا غرباً عن شط العرب وبعد أن ننتهي من بساتين النخيل التي تحاذيه نجد أرضاً قاحلة لا نبت فيها ولا زرع تكسوها طبقة الأملاح غير أنها لاتزال تشير إلى أنها كانت في زمان ليس ببعيد أرضاً زراعية خصبة فآثار الأنهر القديمة المندرسة وآثار السدود والتلال التي تكونت بسبب رفعة الطبقة العليا من التربة قبل ألف عام لا زالت ظاهرة للعيان ومن يركب الطائرة من المعقل إلى الفاو أو إلى الكويت يجد مساحات واسعة من هذه الاراضي القاحلة مؤشرة بخطوط مستقيمة تتوالى الواحدة بعد الأخرى كل حوالي مائتي متر وخاصة في الشكل المثلث المكون بين أبي الخصيب حتى خور الزبير ومن هناك إلى أمام عبادان كذلك الحال في المنطقة الرباعية الشكل المحصورة بين الشعيبة والزبير والمعقل والبصرة ، فهنا آثار الترع والأنهار الصغيرة والسواقي والأنهار الكبيرة التي كانت في يوم من الأيام جنة من جنان الأرض بخضرة بساتينها وكثرة ثمارها .

شط العرب وشط البصرة والتاريخ   ـ 7 ـ

2 ـ دجلة والفرات وشط العرب لدى الجغرافيين الأغريق والرومان
  لم يكن شط العرب والأجزاء السفلى لنهري دجلة والفرات خلال القرون القليلة قبل وبعد الميلاد على ماهي عليه الآن فمثلاً كان نهر دجلة يصب في الخليج العربي مباشرةً وكذلك كان الحال لنهر الفرات ، ولهذا الامر شواهد عديدة فقد ورد في سجلات سنحاريب لحملته ضد عيلام عام 696 قبل الميلاد (1) بإن الأسطول الآشوري في طريقه من آشور إلى البحر المر (2) إنتقل من دجلة إلى الفرات في أوبس ( مجهولة الموقع ) ومن هناك إستمر الأسطول والمحاربون نزولاً في الفرات بينما سار سنحاريب محاذياً لهم بالبر ثم إلتقيا في باب سالمتي ( مجهولة الموقع ) (3) التي تقع مرتين ضعف الساعة بطريق البر من ضفة الفرات حتى ساحل البحر .
  هكذا جاء وصف الفرات في سجلات سنحاريب فهو قد إنتقل من دجلة إلى الفرات في محل ما من بابل ومن هناك إستمر حتى البحر تاركاً المسير في دجلة لإسباب نجهلها غير أن الواضح أن دجلة كان يسير في مجرى آخر عن الفرات وإن كلاً منهما يصب على حدة في البحر وإن باب سالمتي تبعد مسيرة أربع ساعات عن البحر على ضفة الفرات .

**************************************************************
(1) مجلة سومر ـ جورج رو ـ صفحة 31 المجلد السادس عشر .
(2) البحر المر ـ هو الإسم الذي كان يطلقه الآشوريون على الخليج العربي .
(3) قد تكون باب سلامتي ( أي باب سلامة ) هي البصرة القديمة فكما سنرى فيما بعد أن الإسم قريب من أسماء البصرة القديمة إضافة إلى أن بعدها يقع على مسافة أربع ساعات من السير أي حوالي عشرين كيلو متراً عن البحر وهي بعد البصرة القديمة عن نهاية خور الزبير .

شط العرب وشط البصرة والتاريخ   ـ 8 ـ

  كذلك الحال حينما نقرأ تاريخ سفرة ( نياكورس ) قائد إسطول الإسكندر المقدوني والذي غادر الهند في تشرين الثاني عام 326 قبل الميلاد بإسطول يحتوي على ( 1800 ) سفينة ( وبصحبته أندروسشينس من مدينة ثاسوس وأرستوبولس وأورثا غوراس وكانا من رجال البحر ) سارت بمحاذاة الضفة الشرقية للخليج العربي وبدلاً من دخوله نهر كارون ( وكان يسمى نهر يولايس ) من مصبه في الخليج العربي عبر نياركوس هذا المدخل ودخل في مصب الفرات حتى وصل مدينة ( ديريدوتس ـ تريدون ) وهنا في هذه المدينة أعلموه أنه قد أخطأ الطريق فعاد مرة أخرى إلى الخليج العربي ومنه إستمر حتى وصل إلى مصب نهر يولايس فدخل منه حتى وصل قرب الأحواز الحالية على الطريق المؤدية إلى شوش وكان ذلك يوم 24 شباط 325 قبل الميلاد بعد رحلة دامت 146 يوماً .
  لم يتوفق أكثر الكتاب الأجانب إلى تعيين موقع مدينة ديريدوس ( تريدون ) بصورة صحيحة وقد إعتمد أكثرهم على خارطة الكولونيل جنسي المطبوعة عام 1849 قبل ميلادية وبين موقع هذه المدينة قرب جبل سنام غير أن العلامة هارتمان في دائرة المعارف الإسلامية أشار إلى رواية ساقها الجوهري في تاج العروس فقال : ( البصرة بلد معروف وكانت تسمى في القديم تدمر والموئتفكة لانها أئتفكت بأهلها اي انقلبت في أول الدهر ) ويقول ظناً ويقول هي قلب لكلمة ( تردم ) أي تردن .
  ولو أضفنا إلى هذه الرواية ما جاء بمعجم البلدان لياقوت بما كتبه عن الخريبة وهو النص التالي : ( بلفظ تصغير خربة موضع البصرة وسميت بذلك فيما ذكره الزجاجي لإن المرزبان (1) كان قد إبتنى به قصراً وأخرب بعده فلما نزل المسلمون البصرة

**************************************************************
(1) المرزبان كلمة فارسية تتكون من المرز الحدود وبان أي الحارس ومعناها حارس الحدود .

شط العرب وشط البصرة والتاريخ   ـ 9 ـ

  إبتنوا عنده وفيه أبنية سموها الخريبة وقال حمزة بنيت البصرة سنة 14 من الهجرة على طرف البر إلى جانب مدينة عتيقة من مدن الفرس كانت تسمى ( وهشتا باذ أردشير ) فخربها المثنى بن حارث الشيباني بشن الغارات عليها فلما قدمت العرب إلى البصرة سموها الخريبة وعندها كانت وقعة الجمل بين علي وعائشة ) .
  فيظهر لنا أن الأسم الفارسي ( وهشتا باذ أردشير ) قد أطلق على مدينة ديريدوتس ( تريدون ) خلال الحكم الفارسي للمنطقة وكذلك كما اطلق اليونانيون اسم ( ديريدوتس ) على ( تردم ) بعد الإستيلاء عليها ثم خربت هذه المدينة فسماها العرب ( خريبة ) ثم دخلت في خطط البصرة بعد الفتح الإسلامي وكانت تقع في الجهة الشمالية الشرقية لمدينة البصرة القديمة .
  وإذن فالبصرة القديمة كانت تقع على مجرى الفرات القديم إلى البحر ومن يدرس التصاوير الجوية للمنطقة حالياً يرى مجرى لنهر قديم يمر بالبصرة القديمة نحو الجنوب إلى خور الزبير مخترقاً هذا الخور في منطقة يتفرع فيها الخور إلى عدة أقسام ثم يختفي أثره في الصحراء بالجزء المحصور بين شط العرب وخور الزبير حالياً وإن أسم البصرة قبل الفتح الإسلامي كان ( وهشتا باذ أردشير ) وقبلها ( ديريدوتس ) وقبلها ( تردن ) و ( تردم ) ولاندري إن كان إسمها قبل ذلك ( باب سالمتي ) ، ولو قارنا معاني هذه الأسماء المختلفة لمدينة البصرة القديمة نجد أن هناك علاقة وثيقة بينهما فمن الواضح أن إسم ( باب سالمتي ) يقصد به ( السلامة ) ويقصد به الوصول إلى السلامة نسبة إلى لراكب البحر عند نزوله الى البر في هذه المدينة .
  أما كلمة تريدون teredon وهي الصيغى التي ورد بها إسم هذه المدينة بكتابات المؤرخين الأغريق فلا شك أن أصل هذه الكلمة هي أما ( تردن ) بفتح التاء وسكون الراء وضم الدال وسكون النون أو ( تردم ) وقد كتب لي حضرة

شط العرب وشط البصرة والتاريخ   ـ 10 ـ

  العلامة الفاضل المطران جبرائيل كني رئيس أسقافة البصرة على الكلدان بمعاني الكلمات التالية باللغات الأرامية واليونانية ومنه أورد النص التالي :
  1 ـ تردم
  كلمة آرامية مركبة من ( ترعا ) أي ( باب ) و ( د ) حرف الإضافة و ( يم ) أي البحر بمعنى باب البحر وإن بعض القبائل الآرامية كانت تحذف حرف العين من الأسماء عند إضافتها مثلاً أربيل وأصلها ( إرع بيل ) أي أرض الإله بيل أو ( أربع إيل ) الآلهة الأربعة .
  2 ـ تردن
  كلمة آرامية مركبة من ( ترعا ) أي باب وفي حالة الجزم بالآرامية تكون ( ترع ) و ( د ) للإضافة و ( عدن ) أي عدن أو فردوس عدن وكما قلنا أعلاه حذف حرف ( ع ) من الكلمة الأولى ومن بداية الثانية فأصبحت ( تردن ) أي باب عدن .
  3 ـ طريدون
  هي تحريف لكلمة تردن من المؤرخين أو الرحالة الغربيين الذين قصدوا هذه الديار وبسبب التلفظ الحقيقي بإسماء المدن والمواقع التي مروا بها أو كتبوا عنها بلغاتهم وإكتفائهم بسمعها على لسان العامة دون التحقق عن لفظها الأصل وأخذوها على علاتها فتحرفت والأمثلة على ذلك عديدة منها ماجاء في رحلات الأفرنسي تافرنيه فطريدون وهي تحريف لكلمة تردن أي باب عدن ( أي الفردوس الأرضي ) .
  4 ـ ديريدوتس
  كلمة يونانية مركبة من ( ديرا ) أي ( باب ) و ( إيداتوس ) أي مياه كما جاء في كتب الصرف والقواميس الأغريقية فإن إسم ماء بالمفرد بالإغريقي هو ( أيدور )

شط العرب وشط البصرة والتاريخ   ـ 11 ـ

  وبما أن تصريف هذا الأسم هو شاذ فيصبح بالجمع ( إيداتور ) وتعريبه المياه فتكون كلمة ( ديريدوتس ) بالعربية ( باب المياه ) أي ( باب البحر ) أو للقادم من البحر إلى البر تكون باب المياه نهري دجلة والفرات العظيمين ) .
  ولو أضفنا إلى ما أوردناه أعلاه معنى الكلمة ( وهشتباذ أردشير ) فمن المحتمل أن أصل كلمة ( وهشتباذ ) هي ( بهشت آباد ) تعني ( مدينة الجنة ) أما أردشير فهي نسبة إلى أحد ملوك الفرس .
  فأعتقد أن العلاقة أصبحت واضحة بالنسبة لتسمية البصرة فهي قد تكون سميت أولاً ( باب السلامة ) ثم أصبحت ( باب البحر ) عندما سميت ( تردم ) ثم كانت ( باب عدن ) عندما تحرفت الميم وأصبحت نوناً فكانت ( تردن ) وعندما جاءها الإغريق بعد الإسكندر المقدوني ترجم إسم المدينة إلى ( ديريدوتس ) وهو ( باب المياه ) ثم عادت فسميت زمن الفرس ( مدينة الجنة ) ترجمة إلى الفارسية من كلمة ( تردن ) التي كانت تعني ( باب جنة عدن ) فهذه البصرة القديمة إذا كانت ( باب البحر ) أو ( باب المياه ) أو باب ( جنة عدن ) فالقادم من البحر إلى هذه المدينة يرى جنة الله في أرضه وبلاد ما بين النهرين أطلق عليها ( جنة عدن ) منذ قديم الزمان فليس غريباً إذا أن يكون إسم البصرة باب هذه الجنة .
  إن حقيقة كون نهري دجلة والفرات كانا يصبان في الخليج العربي مباشرةً قد ذكرها عدد من الجغرافيين الأغريق فمنهم إيراتوسثنس ( 276 ـ 194 قبل الميلاد ) الذي أشار إلى أن تريدون يقع قرب مصب الفرات في الخليج العربي كذلك الأمر بما أورده الجغرافي سترابوا ( ولد عام 63 قبل الميلاد ) ، فيقول ( أن الملاحة ممكنة في دجلة من مصبه حتى أوبس حتى سلوقيا كذلك الفرات فهو صالح للملاحة حتى بابل لمسافة تزيد عن 3000 ستاديا ) فلو

شط العرب وشط البصرة والتاريخ   ـ 12 ـ

  علمنا أن الستاديا اليونانية تقابل حوالي 197 متراً أي أقل ( 200 ) متر فتكون المسافة التي تصلح الملاحة فيها ذلك الوقت في الفرات ( 600 ) كيلو متر .
  أما بلايني ( 23 ـ 79 بعد الميلاد ) ففي الأجزاء الخاصة بجغرافية البلدان من كتابه ( التاريخ الطبيعي ) فإنه يشير إلى نهري دجلة والفرات بعض التفصيل فيقول عن الأجزاء الجنوبية لهذين النهرين مايلي : ( يقول نياركس وأوتيسكريتس أن المسافة نهراً من البحر حتى بابل عن طريق الفرات هي أربعمائة وإثنا عشر ميلاً ويقول بعض الكتاب أن الفرات يستمر مجراه في قناة واحدة لمسافة سبعة وثمانين ميلاً بعد بابل قبل إنقسامها إلى قنوات عديدة لإغراض الري وحينما يكف نهر الفرات خلال مرروره في مجراه عن المحافظة على من يسكن على ضفتيه كما هي الحال عندما يقرب من جاراكس يكثر في المنطقة ( الأتالي ) وهم سكانها العرب وبعد ذلك يسكن السيناتي ( البدو الرحل ) .
  ثم يتكلم بلايني عن نهر دجلة في أجزائه العليا ثم إنقسامها إلى قسمين ثم إلتقائها ويستمر بالنص التالي : ( يستمر مجرى النهر بين سلوقيا والمدائن فيصب في البحيرات الكلدانية والتي تمتد لمسافة ( 70 ) ميلاً ويخرج منها بقناة واسعة ( أي شط العرب ) فيمر يمين مدينة جاركس وثم يصب في البحر الفارسي ( الخليج العربي ) حيث يبلغ عرض المصب عشرة اميال ، كانت المسافة بين مصبي دجلة والفرات في البحر تبلغ سابقاً خمسة وعشرين ميلاً ويقول بعض الكتاب أنها تبلغ سبعة اميال فقط وكلاهما صالح للملاحة حتى البحر غير أن الأورجيني وغيرهم من سكنة هذه الضفاف قد أنشأ السداد على مياه الفرات لإغراض الري وفي الوقت الحاضر لايمكن لنهر الفرات التصريف إلى البحر إلا بواسطة دجلة ) .

شط العرب وشط البصرة والتاريخ   ـ 13 ـ

  ثم يصف بلايني مدينة جاراكس ( يعتقد البعض أنها مدينة المحمرة الحالية ) فيقول : ( تقع مدينة جاركس في أقصى نهاية الخليج العربي ( يلاحظ هنا إستعمال بلايني تعبير الخليج العربي وليس البحر الفارسي ) حيث تبدأ الأجزاء المهمة من بلاد العرب ( يوديمون أي السعيدة ) وهي مبنية على مرتفعات صناعية يمر على يمينها نهر دجلة وعلى يسارها نهر يولايس وتقع على قطعة أرض طولها ثلاثة أميال قريبة جداً من ملتقى هاذين النهرين وقد أسست هذه المدينة من قبل الأسكندر الأكبر وبأمر منه سميت الإسكندرية غير أن هذه المدينة دمرت بسبب فيضان النهرين وقد أعاد بناءها أنتيوكس وأسماها بإسمه ثم دمرت مرة أخرى ثم قام باسينس ( ملك البلاد العربية المجاورة ) بإعادة بناءها وإنشاء السداد للمحافظة عليها وأسماها بإسمه وتمتد هذه السداد لمسافة ثلاثة أميال أما عرضها فأقل قليلاً وتقع على بعد ( 10 ) ستاديا من الساحل ( أي كيلو مترين ) ولها ميناءها الخاص غير أنه بالنسبة إلى جوبا فإنها تبعد ( 50 ) ميلاً عن البحر وفي الوقت الحاضر فإن السفراء من بلاد العرب وتجارنا الذين قاموا بزيارة المنطقة يقولون إنها لم تقع على بعد مائة وعشرين ميلاً ساحل البحر ، ففي الحقيقة لايوجد موقع في العالم حيث ترمى الانهر الطمى اكثر هذه المنطقة والعجيب أن مياه المد والتي تمتد لمسافة بعيدة هذه المدينة لاتعيد هذه الطمى ) .
  ثم يصف بلايني الساحل العربي في الخليج العربي فيقول : سنصف الآن الساحل بعد تركنا جراكس والتي جرى كشفها بإمر الملك أنتيوكس إبيفانس ( 176 ـ 164 قبل الميلاد ) نصل أولاً إلى المحل الذي كان مصب الفرات وهو نهر سالسس ومنتهى بلاد الكلدان ، أن البحر في هذه المنطقة ولمسافة ( 50 ) ميلاً عبارة عن سلسلة من الدوامات بدلاً من البحر العادي ثم نصل نهر أرجينس ثم صحراء لمسافة مائة ميل حتى نصل جزيرة أكارا وخليج كابيوس ) .

شط العرب وشط البصرة والتاريخ   ـ 14 ـ

  ثم هناك كتاب آخر كتبه بحار أغريقي من برنيكة ( ميناء مصري على ساحل البحر الأحمر ) مجهول الإسم حوالي عام 80 بعد الميلاد يصف فيها التجارة في البحر الاحمر والخليج العربي فيصف الخليج العربي ويقول : ومن هذا المضيق ( أي مضيق هرمز ) يمتد الخليج إلى الداخل وفي نهايته ميناء تجاري يعرف بإسم مدينة أبولوكس ( الأبله ) وتقع قرب باسينو خاراكس ( جاراكس ) ونهر الفرات ) .
  ويقول الدكتور جواد علي في ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ) عن الأبله الصفحة ( 20 ) مايلي : ( أبو لوكس ) apologus هي ( أوبولم ) ubulum في الكتابات الأكدية وق ورد في نص أيام الملك ( تغلت فلاسر ) الثالث اسم قبيلة u - bu - lu كما ورد هذا الإسم على هذه الصورة : u - bu - lum في جملة أسماء القبائل التي إنتصر عليها ( سرجون الثاني ) ويرى ( كلاسر ) صلة بين apologus و ( أبلة ) وإسم هذه القبيلة التي تقع مواطنها على رأيه في جنوب العراق ) .
  فعلى ذلك فإن مدينة الأبلة قد ترقى نسبة إلى هذه القبيلة إلى العهد الأكدي وإن التسمية أبولوكس التي إستعملها الجغرافيون الأغريق هو تحريف لكلمة ( الأبلة ) الأكدية الأصل فقد حور الأغريق كلمة ( الأبلة ) هذه ، وجعلوها قريبة من إسم الآلهة ( أبولو ) ، بينما الظاهر مما أوردناه أعلاه أن ذلك غير وارد ، وفي الوقت الذي كانت توجد فيه بلدة الأبلة خلال العهد الأكدي فهناك وعلى بعد حوالي عشرين كيلو متراً وبإتجاه الجنوب الغربي منها كانت تقع ( باب سلامتي ) والتي أشرنا إلى إحتمال كونها البصرة القديمة فمدينة ( باب سلامتي ) كانت موجودة عندما مر بها سنحاريب عام ( 696 ) قبل الميلاد .

شط العرب وشط البصرة والتاريخ   ـ 15 ـ

  فيظهر لنا مما أورده الجغرافيون الأغريق والرومان أن دجلة كانت تصب مباشرةً في الخليج العربي وتقع على ضفتها الشرقية مدينة جاراكس وعلى ضفتها الغربية مدينة الأبلة وأن الفرات كان يصب في الخليج العربي مباشرةً كانت تقع مدينة ديريدوتس ( تريدون ـ البصرة ) أما شط العرب الحالي فكان جزءاً مما كان يسمى بنهر دجلة في ذلك الوقت ونهر كارون ( نهر يولايس ) والذي كان يصب في الخليج العربي مباشرةً فيحتمل أنه كان أيضاً على إتصال بدجلة وبقناة كانت تقع قرب ملتقاهما مدينة جاراكس .

3 ـ شط العرب في العهد الساساني وقبيلة فتح الاسلامي
  يعلمنا المؤرخون الجغرافيون القدماء أن دجلة أبدلت مجراها خلال العهد الساساني فيقول مثلاً أبو علي أحمد بن عمر بن رسته ( المتوفي عام 360 هـ ) في كتابه الأعلاق النفيسة صفحة 95 : ( ثم لأن دجلة هذه التي هي اليوم سكرت من عند الخيزرانية ليعود الماء إلى دجلة العوراء وينفذ إلى المذار ( موقع قبر عبد الله بن علي بن أبي طالب ( ع ) ـ جنوب العمارة ـ فيصير إلى بقية دجلة العوراء فخرقت وأنفق عليها كسرى مالاً عظيماً فاعياه ذلك وجرت دجلة في موضعها الذي هو اليوم بين يدي واسط فصارت البطائح ( الأهوار ) هذه التي تكون اليوم فأوعرت دجلة من ذلك الموضع المكسور الى مذار وبطلت تلك البطائح التي كانت بجوخي فبقي من دجلة العوراء من المذار إلى بحر الهند وذلك مقدار ثلاثين فرسخاً وهي دجلة البصرة وإليه ينتهي مد البحر ومنه يجزر إذا رجع الماء الى البحر ورام بعد ذلك خالد بن عبد الله ان يسكرها وأنفق الاموال فسفت دجلة ذلك البنيان وأصله اليوم يرى إذا قل الماء في دجلة من أجر وصاروج وربما طفت به السفن ) .
  وفي الواقع أن نهر دجلة قد إبدل مجراه عام ( 628 ) ميلادية فقد كان نهر دجلة قبل ذلك التاريخ يجري في موقع يماثل مجراه الحالي في القرن العشرين ويمتد حتى البحر جنوب عبادان غير أنه بسبب الفيضان الكبير الذي حدث في تلك السنة فقد أبدل دجلة مجراه إلى موقع غربي المجري الأصلي فصار يمر

شط العرب وشط البصرة والتاريخ   ـ 16 ـ

  بموقع مدينة واسط ، أما مجرى دجلة الواقع بين البصرة الحالية إلى قرب قلعة صالح الحالية فقد بقي كما هو ويصله الماء من الأهوار وبسبب المد فسمي ذلك الجزء دجلة العوراء إذ أن هذا الجزء من دجلة قد إعور أي أصبح بدون ماء ففي اللغة يقال : عار عين الماء أي دفنها وكبسها بالتراب حتى تنسد عيونها ، ويقال : فلات عوراء أي صحراء لا ماء فيها فعندما يقال أعورت دجلة أي أصبحت بدون ماء ويقصد الماء العذب الذي كان يجري إليها من دجلة ... أي أن النهر الذي كان يجري شرق مدينة الابلة القديمة كان يسمى نهر دجلة حتى عام 628 م ثم سمي بعدها دجلة العوراء وبقي كذلك طيلة حوالي اربعة قرون سمي بعدها شط العرب فلأنه نهر العرب وسيبقى كذلك أبد الدهر .
  ويقول لسترنج في كتابه بلدان الخلافة الشرقية ( 1905 م ) ـ ترجمة بشير فرنسيس وكوركيس عواد ـ ( صفحة 44 ) بهذا الشأن مايلي : ( ودجلة الحالي على مايرام في الخارطة الحديثة يجري في شط الحي مثلاً من عند قرية يقال لها اليوم كوت العمارة ( كوت ) وهي في موضع بلدة ماذرايا القرون الوسطى ومجرى دجلة الحالي هذا لى القرنة هو المجرى نفسه الذي كان أيام الساسانيين على مايبدو حين لم تكن البطيحة العظمى التي وصفها البلدانيون العرب قد تبطحت وقد ذهب المؤرخ البلاذري إلى أن نشأة البطيحة كانت في أيام قباذ الأول ( 488 ـ 531 بعد الميلاد ) الملك الساساني وقد تولى العرش في أوآخر المئة الخامسة للميلاد ، ففي أيامه أغفل امر السدود في دجلة إغفالاً دام سنين كثيرة وإرتفعت المياه فتدافقت من جملة بثوق فغلب الماء على ما كان من الأرضين منخفضاً في جنوبه وجنوبه الغربي ، وفي عهد أنوشروان العادل بن قباذ وخليفته ( 531 ـ 579 بعد الميلاد ) رممت السدود بعض الترميم حتى عادت تلك الارضين إلى عمارتها وزراعتها ، إلا أنه في عهد كسرى أبرويز ( 590 ـ 628 م ) وقد عاصر النبي محمد ( ص ) زادت الفرات ودجلة ثانية في نحو السنة السابعة والثامنة للهجرة ( 629 م ) ( يقول المترجمان هنا أن هذا التاريخ خطأ

شط العرب وشط البصرة والتاريخ   ـ 17 ـ

  والصحيح أن الزيادة حصلت سنة 628 م في آخر سنة لحكم كسرى أبرويز والتي تقابل سنة 6 و 7 للهجرة ) زيادة عظيمة لم يرى مثلها قبل ، وإنبثقت بثوق عظام في مواضع لا تحصى وغلب الماء على الارضين وعلى ما جاء في البلاذري أن كسرى أبرويز ركب بنفسه لسد تلك البثوق بعد فوات الأوان ، ونشر الأموال على الأنطاع وقتل الفعلة بالكفاية وصلب على بعض البثوق فيما يقال أربعين جساراً في يوم فلم يقدر للماء على حيلة ، ولما لم تعد المياه إلى حالها الأول أصبحت ماغمرته من بقاع بطيحة دائمة ، إذ أنه للفوضى التي سادت السنوات التالية ولقيام الجيوش الإسلامية بإكتساح بلاد مابين النهرين ولإنحلال المملكة الساسانية بقي حال السدود على ما آلت إليه مغفلة بطبيعة الحال ، فكانت البثوق تنفجر فلا يلتفت إليها ويعجز الدهاقين ( أي النبلاء الفرس الذين كانوا يملكون تلك الأرض ) عن سد معظمها فإتسعت البطيحة وعرضت ) .
  يقول ياقوت الحموي في معجم البلدان ـ المجلد (1) صفحة ( 668 ) عن البطيحة وكيف تكونت : ( البطيحة بالفتح ثم الكسر وجمعها البطايح والبطيحة والبطحاء واحد وتبطح السيل أذا إتسع في الأرض وبذلك سميت بطايح واسط لأن المياه تبطحت فيها أي سالت وإتسعت في الأرض وهي أرض واسعة بين واسط والبصرة وكانت قديماً قرى متصلة وأرضاً عامرة فإتفق في أيام كسرى أبرويز أن زادت دجلة زيادة مفرطة وزادت الفرات أيضاً بخلاف العادة فعجز عن سدها فتبطح الماء في تلك الديار والعمارات والمزارع فطرد أهلها عنها فلما نقص الماء واراد العمارة أدركته المنية وولى بعده إبنه شيرويه فلم تطل مدته ثم ولى نساء لم تكن فيهن كفاية ثم جاء الإسلام فإشتغلوا بالحروب والجلاء ولم يكن للمسلمين درية بعمارة الأرضين فلما ألقت الحروب أوزارها وإستقرت الدولة الإسلامية قرارها إستفحل أمر البطايح وإنفدت مواضع البثوق وتغلب الماء على النواحي ودخلها العمال بالسفن فرأوا فيها مواضع عالية لم يصل الماء إليها فبنوا فيها قرى وسكنها قوم وزرعوها

شط العرب وشط البصرة والتاريخ   ـ 18 ـ

  الأرز وتغلب عليها في أوائل أيام بني بويه أقوام من أهلها وتحصنوا بالمياه والسفن وجيرت تلك الأرض عن طاعة السلطان وصارت تلك المياه لها كالمعاقل الحصينة إلى أن إنتفضت دولة الديلم ثم دولة السلجوقية فلما إستبد بنو العباس بملكهم ورجع الحق إلى نصابه رجعت البطايح إلى أحسن نظام وجباها عمالهم كما كان في قديم الأيام ، وقال حسان بن السخت الجرجني حضرت الحسين بن عمرو الرستمي وكان من أعيان قواد المأمون وهو يسأل الموبذان من خراسان ونحن في دار ذي الرياستين عن النوروز المهرجان (1) وكيف جعلها عيداً أوكيف سميا فقال الموبذان أنا أنبئك عنهما : إن واسط كانت في ايام بن دارا تسمى إفرونية ولم تكن على شاطيء دجلة وكانت دجلة تجري على سننها في ناحية بطن جوخا فإنبثقت في أيام بهرام جور زالت على مجراها إلى المذار وصارت تجري إلى جانب واسط منصبة فغرقت القرى والعمارات التي كانت موضع البطايح وكانت متصلة بالبادية ولم تكن البصرة ولا ما حولها إلا الأبلة فإنها من بناء ذي القرنين وكان موضع البصرة قرى عادية مخوفاً بها لا ينزلها أحد ولايجري بها نهر إلا دجلة الأبلة فأصاب القرى والمدن التي كانت في موضع البطايح وهم بشر كثير وباء فخرجوا هاربين على وجوههم وتبعهم أهاليهم بالأغذية والعلاجات فأصابوهم موتى فرجعوا فلما كان أول يوم من فرودين ماه من شهور الفرس أمطر الله عليهم مطراً فأحياهم فرجعوا إلى أهاليهم فقال ملك ذلك الزمان هذا نوروز أي هذا يوم جديد فسمي به فقال الملك هذا يوم مبارك فأن جاء الله عز وجل فيه بمطر وإلا فليصب الماء بعضهم على بعض وتبركوا به وصيروه عيداً فبلغ المأمون هذا الخبر فقال إنه لموجود في كتاب الله وهو قوله ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ) الآية ( البقرة 243 ) .

**************************************************************
(1) عيد نوروز والمهرجان : شيير المسعودي في ( مروج الذهب ومعادن الجوهر ـ الجزء الثاني ـ ( مطبعة دار الأندلس ـ صفحة 186 ) يوم نوروز فيقول ( شهور الفرس كلها ثلاثون يوماً فأولها فرودين ماه وأول يوم منه النيروز ( بإستعمال الياء بدلاً من الواو ) وبينه وبين المهرجان مائة وأربعة وسبعون يوماً ( وفي نسخة أخرى مائة وأربعة وتسعون يوماً وفي نسخة أخرى مائة وأربعة وسبعون يوماً وقد سبق أن بينها مائة وتسعة وستين يوماً ) فالواقع أن عيد نوروز هذا يقابل يوم 21 آذار لكل عام وهو يوم بدء فصل الربيع حيث تتساوى يومها ساعات الليل والنهار أم يوم المهرجان فهو يوم آخر وهو عيد كاوه ( الحداد ) والضحاك ـ وسأشير إلى هذا العيد فيما بعد .»»»

شط العرب وشط البصرة والتاريخ   ـ 17 ـ

  أما متى عاد دجلة إلى مجراه الحالي فيبين لسترنج أيضاً أن التحول كان تدريجياً وإن المراجع الإسلامية في عهد تيمورلنك ( القرن التاسع عشر الهجري ) تبين لأن دجلة السفلى كانت لازالت تمر بواسط ومن طليعة الرحالين الذين تطرقوا إلى الفرع الشرقي لدجلة كان جون نيوبري ( 1581 م ) حيث قال أن الفرع الشرقي لدجلة صالح لسير السفن كذلك الأمر عندما إنحدر تافرنيه الفرنسي ( 1652 م ) إلى البصرة ماراً بالفرع الشرقي لدجلة في أيامه كان الفرع الغربي وهو المار بواسط غير صالح لسير السفن .
  أما عن نهر الفرات فيظهر أنها كانت لازالت في هذه الفترة تصب مياهها بالبطائح الواقعة شمال الأبلة ومنها تتصل عن طريق دجلة بالخليج العربي وذلك كما وصفها بلايني خلال القرن الأول بعد الميلاد .
  فعلى كل نجد أن أهم حدث خلال هذا العهد هو تحول مجرى نهر دجلة من موقعها الذي كان يماثل مجراها الحالي في القرن العشرين إلى موقع غربي ذلك يمر بمدينة واسط وبذلك أعورت دجلة للجزء الأسفل الذي يمر بمدينة الأبلة فأصبح نهر دجلة يمتد من مدينة المذار ( قبر عبد الله بن علي ) ماراً بميسان ( العزير الحالية ) ثم مكوناً مجرى عريضاً بعد إتصاله بالبطايح يسمى دجلة العوراء ماراً بالأبلة على يمينه وبعبادان على يساره حيث يصب في الخليج العربي بعد عبادان مباشرةً .

**************************************************************
( تتمة ) .
يقول المسعودي ( ج 1 ـ ص 264 ) مايلي بالفصل الخاص بذكر ملوك الفرس الأولى وجمل من أخبارهم وسيرهم ان بعد الملك طهمورث بن نوبجهان بن أرفشخد بن أشهنج ( ملك بعده أخوه جميشيد وكان ينزل بفارس وقيل إنه كان في زمنه طوفان وذهب كثير من الناس إلى أن النيروز في أيامه أحدث وفي ملكه رسم ) ( يظهر أن جمشيد هذا قد عاش حوالي القرن العشرين قبل الميلاد أو حتى قبل ذلك ) ، والذي أراه هنا هو أن العلوم الفلكية ورصد حركات النجوم والشمس والقمر كانت متقدمة في عصر هذا الملك ، حيث عرف فلكيوه بطريقة ما هذا اليوم وقاموا بتثبيته كبداية لفصل الربيع وسمي بالنوروز اي اليوم الجديد وبالنظر للجهل السائد في ذلك الوقت ولجعل اليوم ذات معنى ومفهوم شعبي ربط الكهنة والحكام هذا اليوم بحوادث اما أخترعت كأسطورة أو بالصدفة لتقريب أذهان الشعب إلى قبول هذا اليوم الذي أصبح بداية السنة الشمسية. »»» يتبع

شط العرب وشط البصرة والتاريخ   ـ 17 ـ

**************************************************************
(تتمه )
وبالطبع فقد إرتبط هذا اليوم كعيد بالنسبة للدين الذي كان سائداً أنذاك في بلاد فارس ، فبعد الفتح الإسلامي ولغرض ربط هذا اليوم الذي كان أصلاً يمثل ظاهرة طبيعية بحته أكثر من كونها يوماً دينياً فقد إختلفت القصص المختلفة حولها ومنها ما سبق ما أوردناه نقلاً عن ياقوت الحموي فيما قاله عن البطيحة حتى أن المأمون وهو الخليفة الذي كان متأثراً لدرجة كبيرة بالثقافة الفارسية أورد الآية القرانية الكريمة لتبرير الإحتفال بيوم نيروز .
إنني ما كنت أود أن أتطرق إلى هذا الموضوع فهو موضوع طويل وقائم بذاته لذلك أرجو العذر في الاستمرار لتوضيح بعض النقاط التي وردت خلال ماكتبناه حول الموضوع فمثلاً نجد أن ياقوت نفسه قد خلط بين النوروز والمهرجان فكما بينا أعلاه فالنوروز غير المهرجان وبينهما أكثر من مائة وستين يوماً .
أن التراث الشعبي يتحدث عن قصة الحداد ( كاوة ) وثورته على الضحاك فيقال ان الضحاك هذا كان ملكاً من ملوك الفرس القدامى الموصوفين بالظلم وكان يشكو من ورم جراحي على كتفيه فوصف له بوضع مخ إنسانين كل يوم على موضع الورم ، وإستمر الحال بذلك فضجر الناس حتى تمكن الحداد ( كاوة ) أن يثور على هذا الضحاك وأنخذ من جلد المنفاخ الذي يستعمله في الحدادة علماً لثورته وتمكن فعلاً من القضاء عليه فخلص الناس من شروره .
هذا مايقوله التراث الشعبي عندنا عن عيد كاوة الحداد والضحاك أما لو رجعنا إلى المسعودي ( ج 1 ـ ص 247 ) فنجد أنه بعد جمشيد ( الذي سبق ذكره ) ملك بلاد فارس ( بيوراسب ) وأنقل منه النص التالي :
(يتبع )
( ثم إن ملك بعده بيوراسب بن ارواسب بن رستوان بن نياداس إبن طالح إبن قروال بن ساهر فرس بن كيومرث وهو ( ألده آك ) وقد عربت أسماءه جميعاً فسماه قوم من العرب الضحاك وسماه قوم بهارست وليس هو كذلك وأنما إسمه على وصفناه بيوراسب وقتل جمشيد الملك وقد توزع فيه ) أمن الفرس كان من العرب ؟ فزعمت الفرس أنه منها وإنه كان ساحراً وأنه ملك الأقاليم السبعة وأن ملكه كان ألف سنة وبقي في الأرض وتمرد وللفرس فيه خطب طويل وإنه مقيد مغلل في جبل دباوند يبن الري وطبرستان وقد ذكرته شعراء العرب ممن تقدم وتأخر وقد إفتخر ابو نؤاس به وزعم أنه من اليمن لإن أبا نؤاس مولى لسعد العشيرة من اليمن فقال :

وكـــان  مـنـا iiالـضـحاك      تعبده الجمل والوحش في مساربها