من الحياة الفكرية في البصرة

الدكتور عبد الجبار ناجي


  دون شك ان موضوع الحياة الفكرية في البصرة في العهد الاسلامي موضوع غير محدود ومتشعب لانه يتناول ميادين فكرية وعلمية متنوعة وقد الف عدد من المؤلفين المحدثين كتباً ورسائل جامعية عن اسهامات علماء ومفكري البصرة وشعرائها خلال مدد تاريخية محدودة كالقرن الاول الهجري او في العهد الاموي او في القرن الثالث الهجري او غير ذلك من هذا المنطلق فأن هذا المبحث المتواضع سوف يركز على خصائص النهضة الفكرية في مدينة البصرة ويلقي الضوء على الامكانات الثقافية بله المراكز التي ساعدت على تنمية الفكر والثقافة في المدينة المشهورة في عالم الادب والشعر والنحو والتاريخ والعلوم النقلية الاخرى .
   وقد كان للبصريين ، من نحاة وادباء كتاب ومؤرخين ومحدثين وعلماء ، اسهامات رائدة عملت بجد على وضع اسس المعرفة الانسانية في ميادين اللغة والنحو والادب ميادين علمية اخرى ، ومن الطريف ذكره فأن كتاب تراجم اللغويين والنحاة والرجال والعلماء من امثال كتاب اخبار النحويين واللغويين لمحمد بن الحسن الزبيدي وكتاب اخبار النحويين البصريين للسيرافي ( المقتبس في اخبار النحويين واللغويين والناسبين ) لعبيد الله بن عمران بن موسى المرزباني ، وكتاب ( اخبار العلماء باخبار الحكماء )

من الحياة الفكرية في البصرة   ـ 2 ـ

للقفطي وكتاب ( معرفة القراء الكبار ) للذهبي وكتاب ( طبقات المفسرين والقراء ) للسيوطي يوفرون قوائم طويلة باسماء الرجال العلماء في حقول المعرفة الانسانية ، اولئك الذين انجبتهم مدينة البصرة بشكل يدعوا الى الفخر والاعتزاز بما اسهمت به هذه المدينة في النهضة الحضارية العربية من هذا كله فأنه بالامكان القول بان اوليات علوم النحو والدراسات اللغوية والادبية ، واوليات الفكر العقلي الفلسفي لمدرسة المعتزلة واوليات الكتابة التاريخية الشاملة والكتابة عن الفتوح والمدن واوليات الدراسات الخاصة بعلوم القرآن والتفسير وعلوم الحديث الشريف قد ظهرت في ارض البصرة ، ففيها اسهم ابو الاسود الدؤلي احد الفصحاء العرب الاربعة ، كما ذكر ابن الاعرابي ، بالكتابة عن نقط المصحف الكريم (1) ، وظهر فيها ابو عمر بن العلاء الذي وصفة النحوي البصري يونس بن حبيب في بيت شعر يعزي اولاده بوفاته اذ قال :
نعزيكم   وانفسنا  بمن  iiلا      نرى شبهاً له اخرى الزمان

   والذي قيل فيه أيضاً بأن لو قسم على أبي عمرو بن العلاء وزهده على مائة إنسان لكانوا كلهم علماءاً وزهاداًَ (2) .
   والبصرة انتجت الخليل بن احمد الفراهيدي الذي لم يكن ، كما يقول ابن سلام ، في العرب اذكى منه بعد صاحبه رسول الله ( ص ) ، وفي البصرة ظهر ابو سعيد عبد الملك بن قريب بن عبد الملك الاصمعي الذي وصفه اسحاق الموصلي قائلاً ( ما رأيت احداً قط مثل الاصمعي في العلم بالشعر ولا مقارناً له ) (3) .
   والمدينة انتجت ابا الحسن علي بن محمد المدائني الموصوف بصدقه وعلو كعبه في معارف انسانية مختلفة ، والذي قال فيه ابن معبد ( من اراد اخبار الجاهلية فعليه بكتب ابي عبيدة ـ وهو بصري ايضاً ـ ومن اراد اخبار الاسلام فعليه بكتب المدائني ) (4) .

**************************************************************
(1) انظر المحكم في نقط المصحف ، ص 4 ، المرزباني : نور القبس المختصر من المقبس ( اختصار اليغموري ) ، تحقيق زلهايم فيبادن 1964 ص 8 .
(2) المرزباني : ص 37 .
(3) المرزباني : 126 ، ابو الطيب اللغوي : مراتب النحويين ( تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم ، ط 2 ) ص 80 .
(4) المرزباني : ص 182 .

من الحياة الفكرية في البصرة   ـ 3 ـ

   وفيها ظهر ابو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ المعروف بكثرة مؤلفاته من كتب ورسائل في ميادين عدة ، وهناك ابو يوسف يعقوب بن اسحاق الكندي الموصوف بثقافته الواسعة وبانصرافه لطلب العلم والتتبع والتحري فكان يسمى لعلمه بفيلسوف العرب ، وقد وصفه ابن النديم بأنه ( واحد عصره في معرفة العلوم القديمة بأسرها ) (5) ، فقد ألّف الكندي كتباً كثيرة تراوحت بين المائتين الى الثلثمائة كتاب ورسالة في الجوانب الفلسفية والمنطق والآهيات والجوانب العلمية الاخرى ، واشتهرت البصرة بعالمها ابي علي محمد بن الحسن بن الهيثم الذي وصفه الكتاب بالفيلسوف صاحب المصنفات الكثيرة في علوم الاوائل وفي الهندسة والبصريات (6) .
   وسكن المدينة الصحابي الجليل القدر انس بن مالك الانصاري الخزرجي الذي خدم رسول الله ( ص ) ولازمه مدة عشر سنين ونهل من معين الرسول الكريم وعلمه فاشتهر برواية حديثه الشريف (7) ، وسكنها ايضاً محمد بن سيرين الذي وصف بحدة ذكائه وبانه جمع بين رواية الحديث والفقه والزهد (8) .
   وكذلك استوطنها الزاهد العابد الحسن بن ابي الحسن البصري الذي اشتهر بالفقه ورواية الحديث ، وقد وصف الحسن البصري الخليفة الاموي الورع عمر بن عبد العزيز بقوله انه ( سيد التابعين الحسن البصري ) (9) كما ان هناك علماء اجلاء آخرين كثيرين اشتهروا بعلوم الفقه والحديث وتفسير القرآن والتصوف والفلسفة والتاريخ والعلوم العقلية .
   الواقع ان هناك عدة عوامل اساسية تظافرت من اجل تهيئة تربة صالحة في البصرة لتطوير الحياة الفكرية والثقافية ، وهي بدورها كانت عوامل مشجعة ساعدت بمرور الزمن على توسيع افق المفكر البصري وعلى تفاعله مع المتغيرات التي شهدتها المدينة والمجتمع العربي على حد سواء بما فيها المتغرات الاجتماعية والاقتصادية ، اذ ان تحول وظيفة مدينة البصرة مثلاً ، من مدينة عسكرية ذات طابع قبلي في التخطيط والسكان الى مدينة تجارية قد جلب معه الكثير من النتائج الحضارية وهي حالة انعكست كثيراً على توسيع خصائص الفكر والثقافة في المدينة ، وعلى اية حال فأن العوامل التي سنقف عليها في ادناه تعد بحد ذاتها العناصر الاساسية لواقع الحياة الثقافية في المدينة عبر التاريخ العربي الاسلامي .

**************************************************************
(5) ابن النديم : الفهرست ص 255 ـ 261 .
(6) ابن ابي اصيبعة : عيون الانباء في طبقات الاطباء ص 550 ، 559 .
(7) ابن سعد : الطبقات الكبرى ج 7 ف 25 .
(8) ن . م . ج 7 ص 142 .
(9) ابن خلكان : وفيات الاعيان ( تحقيق احسان عباس ) ج 2 ص 71 .

من الحياة الفكرية في البصرة   ـ 4 ـ

   تميزت البصرة ، مع غيرها من الامصار الاسلامية الاخرى بتعدد المراكز الفكرية والثقافية الامر الذي ادى الى ازدهار الفكر والى زيادة اهتمام اهالي المدينة بهذه الامور الثقافية ، ويقف المسجد الجامع في البصرة على راس هذه المراكز الثقافية فالمسجد الجامع ، كما هو معروف ، يعد اول وحدة عمرانية اسسها مؤسس المدينة عتبة بن غزوان وقد احتل موضعاً مركزياً وسطاً في هيئة المدينة الطوبوغرافية ، والجدير ذكره ان المسجد الجامع مع هذا لم يكن في بداية امره بناءاً معقداً ، وقد اكتفى عتبة بن غزوان ، بعد حصوله على موافقة الخليفة عمر بن الخطاب ( ر ض ) في تمصير البصرة ، ببنائه بالقصب وهي مادة عمرانية غير ثابتة لمدة طويلة ، غير ان بناءه بمرور الزمن ، لا سيما عندما تبدلت احوال المدينة العمرانية ، قد اعيد بناؤه باستخدام اللبن والآجر بدلاً من القصب ، وقد شملت حركة التجديد في عمارة المسجد هذا ادخال صنوف من التحسينات العمرانية فيه ومن بينها بناء مجموعة كبيرة من الاساطين الضخمة .
   وقد عملت هذه الاساطين من حجارة صلبة جلبت من جبال الاحواز ، والمهم في الموضوع ان المسجد الجامع لم تقتصر وظيفته على الوظيفة الاساسية الدينية وهي اداء فريضة الصلاة والصلاة الجامعة انما توسعت لتشمل الجوانب السياسية والاعلامية والقضائية وبصورة اهم بالنسبة الى هذا المبحث الفكرية والثقافية فقد صارت اساطينه تلك مواضع يتجمع حولها العلماء والشيوخ والحدثين والطلاب والمتشوقين للمعرفة ، فتشكلت حول كل اسطوانه من اساطينه حلقة دراسية اذ كان يجلس الشيخ عندها ويتحلق حوله تلاميذه ومن يتشوق الاستماع لاحاديث هذا الشيخ او ذاك ، فهناك حلقات عنت بصورة خاصة بالامور اللغوية والادبية ، واخرى اختصت بالفتيا وتفسير القرآن الكريم ، وحلقة ثالثة عنت بالحديث النبوي الشريف ، وهناك حلقة رابعة التف التلاميذ للاستماع الى محاضرات ومعارف في الفلسفة وعلم الكلام ، ومن بين هذه الحلقات حلقة الاصمعي وحلقة الحسن البصري وحلقة الرياشي وحلقة التوزي وحلقة ابي زيد الانصاري وحلقة واصل بن عطاء ، وفي كتاب مجالس العلماء للزجاجي اخبار مهمة عن الفعاليات العلمية لهذه الحلقات الفكرية .

من الحياة الفكرية في البصرة   ـ 5 ـ

   فالمسجد الجامع في البصرة يعد من اهم مراكز التقاء الفكر ونشره ، وانه كان بصورة مدرسة جامعة لنشر العلم والثقافة ، وقد ذاعت شهرة حلقات المسجد الجامع والمناظرات التي عقدت فيه في الامصار الاسلامية فكانت تشيد اليه الرحال من شتى اطراف العالم الاسلامي لتلقي العلم في رحابه والاستماع الى العلماء والمحدثين الذين يترأسون حلقات المناظرة فيه او لاخذ الرواية من افواه علماء الرجال والتراجم والحديث والتفسير ، فقد ذكر الخطيب البغدادي رواية تتعلق بصاحب الصحيح الامام البخاري في احدى رحلاته الى البصرة وكان يوسف بن موسى المروروذي حاضراً آنذاك في المسجد الجامع ، اذ سمع يوسف ( منادياً ينادي يا اهل العلم قد قدم محمد بن اسماعيل البخاري فقاموا في طلبه وكنت معهم فرأينا شاباً لم يكن في لحيته البياض يصلي خلف الاسطوانة فلما فرغ من الصلاة احدقوا به وسألوه ان يعقدهم مجلس الاملاء فاجابهم الى ذلك فقام المنادي ثانياً فنادى في جامع البصرة : قد قدم ابو عبد الله محمد بن اسماعيل البخاري فسألناه ان يعقد مجلس الاملاء فقد اجاب بان يجلس غداً في موضوع كذا . . .
   قال فلما ان كان بالغذاء حضر الفقهاء والمحدثون والحفاض والنظار حتى اجتمع قريب من كذا وكذا (10) الف ، وهي رواية توضح بجلاء الدور الذي لعبه المسجد الجامع في تحريك الحياة الثقافية في المدينة ، اذ كان في ركن من اركانه الفسيحة حلقة اعتاد ان يتحلق حولها المنشدون لتلقي العلم من شيخ البصرة وناسكها الحسن بن يسار بن ابي الحسن البصري ( المتوفي 110 هـ / 728 ) ، والحسن البصري ، كما هو معروف ، عالم جليل اشتهر بكونه فقيهاً ثقة وعابداً وناسكاً وزاهداً ، وعندما اختار البصرة تكون مدينته ومستقره اخذ يتردد على مسجدها وعلى حلقة عبد الله بن عباس ، وكان ابن عباس يترأس حلقة يحاضر فيها على الناس في تفسير القرآن ، والواقعه ان حلقة الحسن البصري كانت ، لا سيما عند اكتمال ثقافته وارتفاع مكانته العلمية ، معنية بتدريس بتفسير القرآن ورواية الحديث النبوي الشريف والفقه (11) ولم تكن حلقة الحسن البصري هي الحلقة

**************************************************************
(10) الخطيب البغدادي : تاريخ بغداد ( ط / السعادة ) ج 2 ص 15 .
(11) ابن سعد : الطبقات الكبرى ج 1 ص 158 ، ابن النديم : الفهرست ص 202 .

من الحياة الفكرية في البصرة   ـ 6 ـ

الوحيدة انما يجد المرء في زاوية اخرى من المسجد ابا عمر العلاء او الخليل بن احمد الفراهيدي او يونس ابن حبيب ، وكان الخليل بن احمد الفراهيدي الازدي من اعلام البصرة الاجلاء وواحداً من النحاة الذائعي الصيت حتى ان ابا الطيب اللغوي يصفه قائلاً بانه كان مفتاح العلوم ومعرفتها (12) ووصفه اديب البصرة المشهور الحريري بوصف مشابه ، ومن المناسب ذكره فان الفراهيدي ( المتوفي 175 هـ / 791 ) هو الآخر قد طور معارفه في المسجد الجامع واخذ يتدرج في سلم الارتقاء العلمي إلى ان صار يترأس حلقة مستقلة عنيت بشؤون اللغة والعروض والنحو ، كانت حلقة عبد الملك بن قريب الاصمعي ( المتوفي 216 هـ / 831 ) من اكثر الحلقات الثقافية شعيبة لما كان يتمتع به هذا المؤرخ اللغوي من افق واسع وثقافة في فنون المعرفة الانسانية ، من الجانب الآخر فقد كان واصل بن عطاء ( المتوفي سنة 131 هـ / 749 ) في بداية نشأته الثقافية والعلمية تلميذاً يتردد على حلقة الحسن البصري وظل كذلك الى ان اختلف مع شيخه في مسألة فلسفية ، مسألة مرتكب الكبيرة ، فأسس حلقة مستقلة به ومن كان يميل الى رأيه ومن بينهم المعتزلي عمرو بن عبيد الذي كان شغوفاً بالمسائل الفلسفية ، وقد تطورت حلقة واصل هذه لتصبح نواة للتثقيف في ميادين الاعتزال العقل .
   وقد ظهر في البصرة مركز آخر للاشعاع االثقافي والفكري ذلك الذي تطور ليصبح سمعة البصرة المميزة والتي صارت تعرف به وهو سوق المربد فقد لعب دوراً لا يقل اهمية عن دور الذي اضطلع به المسجد الجامع ، وظلت ذكرى المربد واصالته قائمة ترمز الى شهرة المدينة في عالم الادب والشعر وما زالت تظاهرة المربد الثقافية خالدة حتى وقتنا هذا ، وسوق المربد يعد ، كما هو الحال بالنسبة الى اسواق العرب في تاريخ العرب قبل الاسلام ، مركزاً التقت فيه البادية بجميع ما فيها من موروثات حضارية وفصاحة لغوية واصالة في القيم والعادات والتقاليد وبين حاضرة البصرة ، الحاضرة التي اسسها العرب وخططوا معالمها العمرانية وشكلوا هيأتها السكانية والاجتماعية ، فكان بحق سوق للعطاء الفكري والاقتصادي على حد سواء ، وقد تحول السوق بمرور الزمن الى محلة كبيرة مشهورة كانت تسمى بمحلة المربد .

**************************************************************
(12) ابو الطيب اللغوي : مراتب النحويين ( ت . محمد ابو الفضل ابراهيم ) ص 55 .

من الحياة الفكرية في البصرة   ـ 7 ـ

   واشار الادباء والكتاب العرب الى اهمية السوق الفكرية ووظيفته فوصفه ياقوت الحموي فقال ان هناك شارعاً كان من اجل شوارع البصرة وسمي ايضاً بشارع المربد ، اما السوق فانه كان من اجل اسواق المدينة وكان محل اجتماع الشعراء والخطباء يتفاخرون بأشعارهم وقبائلهم وانسابهم ولأهمية هذا السوق وسمعته التاريخية فقد انتسب عدد من العلماء والرواد والقضاة والمحدثين الى تسميته بنسبه المربدي ، فهناك سماك ابن عطية المربدي البصري ، وابو الفضل عباس بن عبد الله بن الربيع المربدي المحدث ، وابو عمرو القاسم بن جعفر المربدي القاضي (13) .
   وامتدح الجارود بن ابي سبرة احد اعيان البصرة ووجهائها المربد فقال ( عليكم بالمربد فانه يطرد الفكر ويجلو البصر ويجلب الخير ويجمع بين ربيعة (14) ومضر ) والمعروف ان نحاة البصرة وعلمائها كانوا يترددون على سوق المربد ويختلطون بالاعراب القادمين اليه فياخذوا روايتهم اللغوية وتخريجاتهم النحوية من الاعراب ، بعد ان يستفسروا عن انسابهم القبلية ومواطن سكناهم في الجزيرة العربية لان نحاة البصرة لم يأخذوا الروايات والتفسيرات كيفما اتفق انما كانوا يتشددون بأخذها من القبائل العربية التي عرفت بفصاحتها كقبيلة عبد القيس وقبيلة تميم قبيلة هذيل وقبيلة بني اسد وغيرها ، فكان عبد الله بن اسحاق الحضرمي من نحاة البصرة المشهورين ( ت 117 هـ / 730 ) الذين يرتادون دائماً سوق المربد يستفسرون من الاعراب عما يجول في خاطره منت استفسارات نحوية ، كما كان عيسى بن الثقفي ( ت 149 هـ / 766 ) وهو عالم النحو والقراءة وافصح الناس كثير السماع الى الاعراب في المربد ، اما الفراهيدي وابو عمرو بن العلاء فانهما كانا ايضاً معتادين على الالتقاء بالاعراب اعراب البادية وفصائحها بالمربد ، وفي رواية لابي حاتم السجستاني يقول فيها ( كنت اختلف مع ابي عبيدة والاصمعي الى الاشراف بالمربد من رهط سليمان ابن علي للاستماع الى ما يقرأ عليهما من كتب ) وكان الجاحظ شيخ الفصاحة والادب يقول بصراحة انه كان يتلقى الفصاحة شفاهاً من افواه الاعراب الذين كانوا يقدمون المربد (15)

**************************************************************
(13) ياقوت الحموي : معجم البلدان ( طبعة اوربية ) ج 4 ص 484 .
(14) الجاحظ : البيات والتبين ( ط 4 ) ج 2 ص 345 .
(15) انظر الجاحظ : البيان والتبين ( ط / 4 ) ج 1 ص 145 ـ 146 ، 320 ـ 321 الزبيدي :
طبقات النحويين واللغويين ( تحقيق محمد ابو الفضل ) ص 49 ، ياقوت الحموي معجم الادباء ج 16 ص 17 .

من الحياة الفكرية في البصرة   ـ 8 ـ

   والمركز الثقافي الاخر الذي اسهم كثيراً في تطوير الحياة الفكرية في المدينة هو التعليم ، والحقيقة ان هذا المركز يعد اساس الحركة الفكرية فلو لا التعليم لما نشطت الحركة الفكرية في مسجد جامع المدينة او في سوق المربد ، صحيح ان التعليم مسألة تتعلق بتعليم معارف منهجية او بتعليم القراءة والكتابة لكنه من الجانب الآخر سهل عملية انتشار الفكر وتحبيبه الى النفوس ، فكان معلموا البصرة يعملون بدأب لتعليم الناس فنون القراءة والكتابة والحساب والشعر ، اي التعليم العام او تعليم الكتاتيب ، وان عدداً منهم من الذين اشتهروا بعلو كعبهم في التربية والتعليم قد انخرط في تعليم اولاد الامراء الولاة والاثرياء ، او ما يسمى بالتعليم الخاص ، وقد عرف بعض معلمي البصرة بسعة أفقهم الثقافي فيذكر الجاحظ في رسالة المعلمين قولاً نصه ( وما كان عندنا بالبصرة رجلان اروى لصنوف العلم ولا حسن بياناً من ابي الوزير وابي عدنان المعلمين (16) ).
   وقد لعبت المجالس الادبية والشعرية واللغوية دوراً مهماً في توسيع دائرة النشاط الفكري في المدينة ، فجالس وبصورة خاصة مجالس العلماء من ادباء ونحاة وشعراء ، تعد من الوسائل الكثيرة النفع في نشر المعرفة بين صفوف الناس على الرغم من انها كانت مقصورة على فئة قليلة من الناس ، وان حضورها لا يقارن بالحضور الذي كان يرتاد المسجد الجامع او سوق المربد ، وعلى الرغم من انها كانت مجالس خاصة بالامراء والتجار فأنها لعبت دوراً في تحريك الحركة الثقافية والادبية في البصرة اذ دأب الولاة وابناؤهم والتجار على عقد مجالس للادب واللغة والحديث في دورهم وكان بعض الولاة يعتمد في جمع الشعراء واللغويين العلماء المختلفين في اَرائهم واشعارهم ليعقد جلسات مناظرة ومناقشة بين الاراء المتباينة لاظهار خطل بعضها او لاظهار قوة الاراء المعروضة ، وكثير ما كانت هذه المجالس تتحول الى منتديات ادبية وشعرية .
   لقد اشتهرت البصرة بكثرة مجالس الادب فيها من امثال : المجلس الذي كان يعقد في دار بلال بن ابي بردة والي البصرة سنة 110 / 728 ، ومجلس سليمان بن علي العباسي وقد تولى ولاية المدينة زمن العباسيين

**************************************************************
(16)الجاحظ : رسالة المعلمين ، مجلة المورد مجلة 7 عدد 2 ص 149 ـ 150 .

من الحياة الفكرية في البصرة   ـ 9 ـ

وكان ابو عمرو بن العلاء المازني عالم النحو واللغة وأحد القراء السبعة المشهورين من بين الذين يترددون على هذا المجلس ، كما كان ابو عبيدة معمر بن المثنى والاصمعي ، وهما عالمان مشهوران في اللغة والنحو والتاريخ ، ممن ارتاد مجلس ابن سليمان بن علي وهناك دار العالم ابي عمرو بن العلاء ، الذي عده بعض المؤلفين من اشهر دور العلم في البصرة الذي احتضن عدد من الادباء والعلماء من المدينة ومن خارجها ، ومما يجدر ذكره ان دار ابي عمرو هذه قد شهدت ندوات حوار علمية جادة بين ابي عمرو نفسه وبين عيسى بن عمر الثقفي النحوي وابي خيرة الاعرابي وعمرو بن عبيد المعتزلي والاخفش (17) .
   وفي الوقت نفسه اتخذت قصور بعض الوجهاء مجالس ومنتديات ادبية عقدت فيها المناظرات في الادب والشعر ومن بين هذه القصور قصر اوس البكري ، وباب بكر بن محمد بن حبيب المازني (18) .
   ولعبت المدارس وخزائن الكتب دوراً متميزاً في تنمية مدارك المثقفين والادباء والعلماء في المدينة ، اذ تحدث بعض المؤلفين العرب عن كتّاب البصرة المرموقين كالجاحظ وغيره بمطالعة الكتب واقتنائها ، بالاضافة الى ذلك فان هناك معلومات تبين بان عدد من ولاة المدينة ووجهائها كانوا ايضاً من المهتمين بجمع الكتب وتأسيس المكتبات العامة والخاصة ، فكان لإسحاق بن سليمان بن علي مكتبة تضم كتباً نادرة ، وقد انتفع منها ادين البصرة اللامع الجاحظ ، كما كان ابو عمرو بن العلاء من بين العلماء الذين اقتنوا كتباً كثيرة وقد وضعها في غرفة قيل ان تنضيد الكتب فيها بلغ الى سقفها (19) .
  وقد أشتهر سهل بن محمد السجستاني البصري بشغفه بجمع الكتب والمتاجرة بها كما كان ابو بكر الصولي يمتلك مكتبة كبيرة وقد اعتنى بجمع كتبها وزخرفتها فصبغ جلودها بالوان مختلفة ، ومما يذكر ان الجاحظ هو الآخر كان يمتلك مكتبة كبيرة في داره (20) .

**************************************************************
(17) الزجاجي : مجالس العلماء ص 161 ، 234 ، 247 .
(18) انظر حمزة الاصفهاني : التنبيه على حدوث التصحيف ص 29 ، ابو الفرج الاصفهاني : الاغاني ج 22 ص 261 .
(19) انظر انباه الرواة ج 1 ص 59 ، ج 3 ص 235 ، ياقوت الحموي : معجم الادباء ج 6 ص 76 .
(20)انظر انباه الرواة ج 3 ص 235 ، ياقوت الحموي : معجم الادباء ج 6 ص 56 .

من الحياة الفكرية في البصرة   ـ 10 ـ

   ومن الجانب الآخر فان المؤلفين قد اوردوا معلومات تفيد بوجود مكتبات عامة في البصرة اضافة الى ما موجود فيها من مكتبات شخصية ، ومن بين مكتبات البصرة العامة المشهورة دار كتب ابن سوار الكاتب ( المتوفي سنة 372 هـ / 982 ) ، وكان ابن سوار هذا من بين الاداريين في حاشية عضد الدولة البويهي ، وتعد مكتبته اول دار كتب اوقفت في الاسلام من الجدير بالذكر ابن ابن سوار قد عمل على تاسيس دارين للكتب اولهما هذه في مدينة البصرة الاخرى في مدينة رامهرمز ، قد خصص في هاتين المكتبتين اجراء لمن كان يقصدها من العلماءولزم القراءة والنسخ فيها ، واعتماداً على ما ذكره الجغرافي المقدسي فان خزانة الكتب التي كانت بالبصرة هي ( اكبر واعمر واكثر كتباً ) ، ومن تلك التي اسسها في مدينة رامهرمز (21) وقد تعرضت دار كتب ابن سوار في البصرة الى النهب عندما هاجم تليا المنجم واعوانه المدينة في سنة 483 هـ / (22) 1090 .
   بالاضاف الى دار كتب ابن سوار فقد كانت البصرة تحتوي على مكتبة عامة تنسب الى حبش بن معز الدولة البويهي ، وكانت تحتوي على كتب ثمينة ، ومن المحتمل جداً ان حبش هذا قد استحوذ على احدى مكتبات البصرة العامة او جمع الكتب من المكتبات المحلية في مكتبة واحدة ، وقد ظلت هذه المكتبة تقدم خيراً علمياً وساعدت على تنمية الحركة الفكرية في البصرة في عهد تسلط فيها البويهيون الاجانب على مقاليد الامور في بغداد عاصمة الخلافة العباسية .
   وبقية المدن العراقية الاخرى ، وبالفعل فإنها ، اي مدينة البصرة ومكتبتها ، لم تنج من مساوئ النظام البويهي فقد زحف الوزير ابو الفضل الشيرازي وزير عم حبشي ، بختيار ، نحو المدينة وهاجمها سنة 357 هـ / 967 بهدف قمع تمرد حبشي ضد عمه ، فكانت الكتب التي احتوتها مكتبة البصرة واحدة من الاهداف التي تعرض اليها هذا الهجوم اذ صادرها الوزير ونقل كتبها الى بغداد وكانت تضم خمسة عشر الف مجلد ما عدا الاجزاء المتناثرة وما عدا الكتب المشرسة غير المجلدة (23) ، ايضاً فقد كان في البصرة في فترة متأخرة مكتبة عامة

**************************************************************
(21) المقدس : احسن التقاسيم في معرفة الاقاليم ص 413 .
(22) ابن الجوزي : المنتظم في تاريخ الامم ( ط / حيدر اياد ) ج 9 ص 3 .
(23) مسكويه : تجارب الامم ج 2 ص 246 ـ 247 .

من الحياة الفكرية في البصرة   ـ 11 ـ

اسسها والي البصرة باتكين ( 607 ـ 630 هـ / 1232 ـ 1257 ) ، وقد ذكر وجود هذه المكتبة صاحب كتاب الحوادث الجامعة المنسوب لابن الفوطي ، ومن المحتمل جداً ان هذه المكتبة ظلت هي المكتبة الوحيدة في المدينة خلال العهود المتأخرة ، وانها المكتبة نفسها التي زارها الرحالة ابن بطوطة ووصفها خلال زيارته للمدينة في سنة 728 هـ / 1347 ، ومن بين نفائس الكتب التي احتوتها مكتبة باتكين مصحف الخليفة عثمان بن عفان ( رض ) الذي كان يقرأ به اثناء مقتله (24).
  وقد اضطلعت مدارس البصرة بمسؤولية مهمة في توطيد دعائم الفكر والثقافة ، والبصرة مدينة اشتهرت بمدارسها المتعددة بالاضافة الى ما كان يقوم به المسجد الجامع من وظيفة متميزة في نشر التعليم والثقافة العامة ، فلقد ورد ذكر مدرسة في البصرة عنيت بتدريس الطب ، ويبدوا ان مدرسة الطب هذه قد تأسست بصورة تلقائية ، وان الحاجة الماسة الى معالجة اصناف من المرض كالمجذومين والمجانين هي التي دعت الى وجود هذه المدرسة ، فقد جمع هؤلاء المرضى في دار واحدة هي المستشفى ، وكان يسمى بالبيمارستان ، وكان هذا البيمارستان مقسماًَ حسبما يبدو الى اقسام او دور منها دار المجانين ودار المجذومين (25) ، وقد تخرج في مدرسة الطب هذه عدد من اطباء البصرة من بينهم الطبيب الحاذق محمد بن غسان (26) ، وفي سنة 482 هـ / 1089 اسس القاضي ابو العباس احمد بن محمد الجرجاني مدرسة ، وكان احمد هذا من فقهاء البصرة وادبائها ويبدوا انها عنيت بتدريس الفقه وعلوم القرآن ، كذلك اسس قاضي البصرة ابو الفرج محمد عبد الله البصري ( المتوفي سنة 499 هـ / 1105 ) مدرسة وصفت انها كانت في غاية الحسن والزخرفة وقد اوقف عليها خزانة كتب ثمينة (27) .
   ومن بين مدارس البصرة الاخرى المهمة مدرسة النظامية التي بادر في تأسيسها مع مدارس النظامية الاخرى في مدن بغداد وبلخ ونيسابور وهراة واصبهان ومرو وآمل والموصل الوزير نظام الملك .

**************************************************************
(24) الحوادث الجامعة المنسوب لابن الفوطي ص 181 ، ابن بطوطة : رحلة ص 186 .
(25) السيرافي : اخبار النحويين البصريين ، ص 97 .
(26) التنوخي : نشوار المحاضرة ج 8 ص 233 .
(27) ابن الاثير : الكامل في التاريخ ج 10 ص 411 ، الاسنوي : طبقات الشافعية ج 1 ص 242 .

من الحياة الفكرية في البصرة   ـ 12 ـ

   كان تاسيس مدرسة النظامية في البصرة عام 485 هـ / 1092 وتشير الدلائل التاريخية ان النظامية هذه قد بنيت في محلة المربد ، وذلك اعتماد على حادثة تاريخية وقعت في سنة 499 هـ / 1105 عندما لجأ اليها العباسيون وامتنعوا بها حين هاجم صدفة بن مزيد الاسدي امير الحلة البصرة ، وقد اتى على المدرسة الخراب في اواخر ايام الخليفة المستعصم فنقلت احجارها وموادها الانشائية الاخرى الى جهة ثانية من المدينة حيث شيدت مدرسة نظامية اخرى (28) ، وفي سنة 629 هـ / 1231 امر الخليفة العباسي المستنصر بالله والي البصرة ان يعمل على تأسيس مستشفى واسعاً وان يضم مدرسة لتعليم الطب وقد اوقف الخليفة على هذه المستشفى وقوفاً سنية ، وعملت هذه المدرسة على تدريس الطب (29) .
   ان عوامل كالتي وقفنا عليها في الصفحات السابقة قد عملت بجدية على تنمية الحركة الفكرية في البصرة واغنائها وعلى توسيع افق ادباء المدينة وعلمائها وتشجيعهم في عرض ارائهم وتفسيراتهم ونظرياتهم ، وهي حالة قد تجلت بوضوح في الاسهامات العلمية المتميزة التي اسهم بها ادباء ومحدثون وعلماء ونحاة ومؤرخون وفلاسفة ، ويرجع الفضل الى بعض هؤلاء العلماء في ميادين معينة الى التوصل الى انتاجات اصيلة ومبدعة ، ومع كل هذا فان مفكري البصرة وعلماءها لم يتقوقعوا في حدود مدينتهم ولم ينعزلوا عن التطورات العلمية التي شهدها تاريخ العلم والثقافة في عصر النهضة العربية الاسلامية انما نشطوا في طلب العلم وتجشم متاعب السفر الى بلدان مختلفة بهدف تحشيد امكانات علمية اضافية واكتساب معارف جديدة ، فقام علماء البصرة وادباؤها برحلات علمية الى بغداد والامصار الاسلامية الاخرى ، ومن جانب آخر فقد دأب الخلفاء العباسيون على توفير كل عوامل التشجيع والمساندة لعدد من المتميزين من ادباء البصرة ونحاتها للتوجه الى بغداد للاسهام في المناظرات العلمية التي اعتاد الخلفاء على عقدها في مجالسهم وكذلك للانتفاع من علومهم وآدابهم ، ومن بين هؤلاء العلماء البصريين الذين تركوا البصرة ووفدوا على الخلفاء ابو عبيدة معمر بن المثنى والاصمعي والجاحظ والمازني والمبرد وابن دريد وغيرهم .

**************************************************************
(28) ابن الاثير ج 10 ص 44 .
(29) الحوادث الجامعة المنسوب لابن الفوطي ص 33 ، ابن الكازروني : مختصر التاريخ ص 261 .

من الحياة الفكرية في البصرة   ـ 13 ـ

   ولما صارت المدينة المدينة تعج بالنشاطات الادبية والعلمية فقد اضحت المدينة وكأنها مدرسة إنجذب اليها العلماء والمحدثون والمفكرون من شتى ارجاء العالم الاسلامي ، فهذا محمد بن اسماعيل البخاري صاحب الصحيح المشهور مؤلف عدة كتب اهمها التاريخ الكبير والتاريخ الصغير فقد قام بعدة رحلات الى المدينة بغية تتبع بعض الروايات والاحاديث الشريفة وقد وقد انتفع منه البصريون عند قدومه في عقد المجالس العلمية في المسجد الجامع ، وهذا بقي بن مخلد العالم الاندلسي يزور البصرة فينقل نتاجات خليفة بن خياط في التاريخ والطبقات الى بلده ويستنسخها ، وهذا ابو حاتم الرازي صاحب كتاب الجرح والتعديل يقدم الى المدينة بهدف علمي كذلك فقد زارها الكسائي النحوي الكوفي وهناك ادلة كثيرة جداً في كتب التاريخ والادب تفيد في هذا المجال وتعكس اهمية مدينة البصرة فكرياً في نظر علماء ومفكري المجتمع العربي الاسلامي عبر التاريخ الاسلامي لا مجال الى الخوض في تفصيلاتها .
   ومن الثابت تاريخياً ان النظريات والطروحات التي عرضها مفكروا المعتزلة وعلماء الكلام البصريين في مسائل صفات الله عز وجل والعرض والجوهر وخلق القرآن الكريم لها فضل كبير على تطوير الفكر الفلسفي العربي فمدرسة الاعتزال في البصرة تعد المدرسة الرائدة في عرض هذه الاسهامات العقلية وهي بدورها قد اثرت تأثيراً غير محدد على مدارس الاعتزال التي ظهرت في مدن اخرى كمدينة بغداد ، ولم يقتصر هذا التاثير على صعيد التاليف اي تأليف المؤلفات عن الاعتزال انما تجاوزه الى المجال الفكري اي في الاراء والتفسيرات ، والواضح ان مؤلفي الفرق الاسلامية كالشهرستاني والبغدادي وغيرهما ينسبون اصول المعتزلة الى واصل بن عطاء الذي كان ـ كما مر بنا في بداية امره ـ تلميذاً يرتاد حلقة الحسن البصري ، غير انه حينما اعتزل حلقة شيخه التف حوله انصاره فنشأت الحركة المعتزلية ويرجع الفضل الى واصل بن عطاء في وضع العناصر الاساسية لمبادئ نفي الصفات عن الله عز وجل والقول بالقدر والقول بالمنزلة بين المنزلتين وهي مبادئ صارت اساسية في فكر المعتزلة .
   كما نشطت مدينة البصرة في مجال آخر الا وهو الكتابة التاريخية والكتابة في علم الانساب والطبقات وتراجم الرجال والنساء ، وليس مبالغاً القول ان اول كتاب يصل الينا في علم الطبقات ، طبقات الرجال والنساء ،

من الحياة الفكرية في البصرة   ـ 14 ـ

كان من تأليف محمد بن سعد البصري وخليفة بن خياط العصفري البصري ، ومن الواضح ان محمد بن سعد كان تلميذاً لمحمد بن عمر الواقدي الذي كان له قصب السبق في الكتابة عن الطبقات غير ان الكتاب لم يصل الينا وان طبقات محمد بن سعد قد سدت تلك الثغرة ، وفي الوقت نفسه فأنه ليس من قبيل المبالغة ان نذكر بان اول تاريخ شامل عن الامة العربية وصل الينا كان من اسهام مؤرخي البصرة ، فقد الف علي بن محمد المدائني البصري تاريخاً شاملاً اطلق عليه ( تاريخ الخلفاء ) لكنه لم يصل الينا بينما خليفة بن خياط تاريخاً شاملاً جامعاً ، وقد كتبه في الاصل في عشرين مجلداً لكن ناسخ الكتاب بقي بن مخلد عمل على اختصاره فصار في مجلدين وهما قد حققا ونشرا .
   واسهمت مدينة البصرة اسهاماً جاداً في علوم اللغة والنحو وقد احتلت اسهامات نحاتها مرتبة الريادة فيما توصلوا اليه من اراء وتفسيرات نحوية ولغوية صارت سمة متميزة بمدرسة البصرة النحوية ، وقد درس عدد من الكتاب المحدثين هذه المدرسة في كتب ورسائل جامعية شخصوا فيها الابعاد العلمية النحوية لهذه المدرسة مقارنة بمدرسة النحو الكوفية .
   وشهرت المدينة بتبؤ مكانه مرموقة بين المدن والامصار الاسلامية والاخرى في العلوم التي لها صلة وثيقة بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ، والواقع ان هناك عدة عوامل ساعدت في ازدهار علوم القرآن والفقه والتفسير والحديث في البصرة اهمها ان المدينة منذ تأسيسها صارت تربه صالحة لسكن العديد من صحابه رسول الله ( ص ) والتابعين وتابعين التابعين ، فاعتماداً على القوائم التي اعدها كل من ابن سعد وخليفة بن خيلط في طبقاتهما فان عدد الصحابة الاجلاء الذين قطنوا البصرة تراوح بين مائة وستة وثلاثين وبين مائة وخمسين صحابياً من امثال انس بن مالك وعمران ابن حصين وابو موسى الاشعري وعبد الله بن عباس (30) وغيرهم ، ان هذا العدد الكبير من الصحابة قد اعطى دفعاً كبيراً الى دعم كمانة البصرة العلمية في ميدان العلوم النقلية ، حتى صارت مركز اشعاع في العالم الاسلامي .


**************************************************************
(30) ابن سعد : الطبقات ج 7 ص 1 ـ 64 ، خليفة بن خياط : الطبقات ص 409 ـ 443 .

من الحياة الفكرية في البصرة   ـ 15 ـ

   فضلاً عن هذا العامل المهم فان البصرة احتضنت بعض الصحابة الذين تميزوا بعدد من السمات هذا هو الصحابي ثابت بن زيد الانصاري يقطن البصرة وكان من بين الصحابة الذين اضطلعوا باعباء مسؤولية كريمة وكبيرة وهي جمع القرآن الكريم اثناء حياة الرسول ( ص ) ، وان الخليفة عثمان بن عفان ( رض ) حين عمل على جمع القرآن الكريم وكتب عدة نسخ موحدة فانه خص مدينة البصرة بنسخة من المصاحف التي كتبها ، ولهذا فلا عجب ان يكون والي البصرة الصحابي ابو موسى الاشعري ، قاريء القرآن معلماً في هذا المجال وقد جهد نفسه في تعليم اهالي البصرة القرآن الكريم واهتم بذلك فخـرج اكثـر من ثلثمـائـة قاريء للقرآن الكريم (31) .
   وقد الف علماء البصرة وقرائها الكثير من الكتب الخاصة بالقراءات واخرى عن نزول القرآن والتفسير والناسخ والمنسوخ ، وقد ذكر ابن النديم وغيره من المؤلفين العديد من كتب القراءات والتفسير قام بتأليفها قرّاء البصرة ومفسريها من امثال كتاب الوقف والابتداء للسجستاني وعبد الله اليزيدي وكتب في الحروف والادغام ككتاب ( الادغام ) الكبير لابي عمرو بن العلاء ، وكتب خاصة بالنقط والتنقيط ككتاب ابي الاسود الدؤلي ( في منقط المصحف ) وكتب اخرى عن اعجاز القرآن كالكتاب الذي وضعه الجاحظ وكتب عن غريب القرآن ككتاب مؤرخ السدوس البصري ، وكتب في التفسير ككتاب قتادة بن دعامة السدوسي البصري وتفسير مقاتل بن سليمان وتفسير قطرب وتفسير يحيى بن سلام التميمي البصري .
   اما في علوم الحديث فقد اضطلع الصحابة الاوائل ومن جاء بعدهم من تلامذتهم التابعين بمهمة رواية الحديث النبوي الشريف وصارت مدرسة البصرة للحديث من المدارس المهمة التي خرجت العديد من التابعين وتابعي التابعين ممن روى الكثير من الاحاديث من امثال الحسن البصري وجابر بن زيد وثابت بن العلاء وحماد بن سلمة ومعمر بن راشد ، واشتهر منهم في القرنين الثالث والرابع الهجريين علي بن عبد الله بن جعفر المديني صاحب التصانيف في علل الرجال ويعقوب السدوسي صاحب المسند وزكريا بن يحيى الساجي وابو مسلم ابراهيم بن عبد الله صاحب السنن وابو داود صاحب سنن ابي داود .

**************************************************************
(31) ابو نعيم الاصبهاني : حلية الاولياء ج 1 ص 256 .

من الحياة الفكرية في البصرة   ـ 16 ـ