البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 150 ـ


اولاً : علاقة ولاة البصرة بالسلطة المركزية

   يرى من خلال الاطلاع على ما ورد في المؤلفات العربية عن علاقة الولاة في البصرة مع السلطة المركزية من ان طبيعة العلاقة تختلف من واحد الى الآخر ، وربما يعود ذلك الى تنوع ولاة البصرة ما بين ولاة من أسر معروفة في البصرة ، وولاة من أسر عباسية ، او بعض الشخصيات الاخرى التي استوجب تعيينهم لظروف خاصة .
   كانت طبيعة العلاقة السائدة ، تسير وفق الظروف الخاصة التي تخدم مصلحة السلطة بشكل خاص فلعبت تلك الظروف دوراً في سرعة عزل الولاة في كثير من الاحيان ، ومن اهم تلك الظروف هو تبدل الخلفاء ، فضلاً عن عامل آخر مهم ساعد على ذلك هو ظهور العديد من الحركات في العراق والبصرة بشكل خاص (1) .

   ولتوضيح العلاقة أكثر بين السلطة المركزية والولاة الذين تولوا البصرة فقد عمدنا الى تقسيم الولاة على :

أ ـ الولاة من خارج الاسرة العباسية
   كان اول والي على البصرة في حكم العباسيين هو سفيان بن معاوية الذي يرجع نسبه الى المهلب ، تولى البصرة في عام ( 132 هـ / 749 م ) (2) .
   ويظهر ان تعيينه جاء نتيجة للجهود التي قام بها في خدمة الدعوة العباسية ، بعد ان كان اول من سود لهم

**************************************************************
(1) انظر ، الفصل الثالث ( الولاة ) .
(2) خليفة بن خياط ، التاريخ ، ج 2 ص 430 . ابن خلدون ، تاريخ ، ج 3 ص 177 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 151 ـ

بالبصرة ، وقاتل والي الامويين عليها (1) ، وقد ذكر البلاذري(2) ان سفيان قد كتب كتاباً الى ابي العباس يذكره بجهوده التي بذلها في خدمة دعوتهم فطلب ابي سلمى الخلال من الخليفة بتوليته البصرة ، فعين عليها .
   وبعد ان اطمأن العباسيون لأستقرار الحكم وثبات دعوتهم ، اصدر ابو العباس امراً ادارياً بعزل سفيان بن معاوية عن منصبه ، وتعيين عمه سليمان بن علي والياً على البصرة في عام ( 133 هـ / 757 م )(3) ، على الرغم من ولاية سفيان القصيرة على البصرة .
   لكن ما هو السبب الرئيسي وراء عزل سفيان عن منصبه ، على الرغم من اعماله السابقة في خدمة العباسيين ، والتي راح صحبتها ابنه معاوية بن سفيان (*) .
   واشار البلاذري الى سبب عزل سفيان بقوله : ( فلما قتل ابو سلمة امر ابو العباس بعزل سفيان وقال هو من عمال الناكث ابي سلمة ) (4) .
   ان هذا النص يتهم سفيان بأنه كان من اتباع ابي سلمة الخلال ( حفص بن سليمان ) ومن المقربين اليه ، وان اتصاله الأول

**************************************************************
(1) انظر : الفصل الاول ( موقف البصرة من الثورة العباسية ) .
(2) انساب الاشراف ، ج 3 ص 176 .
(3) البلاذري انساب الاشراف ، ج 3 ص 176 ـ 177 .
(*) قتل معاوية بن سفيان المهلبي اثناء الصدام الذي وقع في البصرة بين القبائل التي ايدت اباه سفيان بن معاوية والدعوة العباسية وبين القبائل التي وقفت مع عامل الامويين على البصرة سلم بن قتيبة الباهلي ، ينظر : المدائني ابو الحسن علي بن محمد ، كتاب التعازي ، تحقيق ابتسام مرهون الصفار ، وبدري محمد فهد ، مطبعة النعمان ، بغداد ، 1971 ، ص 30 31 . البلاذري ، انساب الاشراف ، ق 3 ، ص 176 .
(4) البلاذري ، المصدر السابق ، ق 3 ، ص 174 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 152 ـ

كان معه حول رفع المسودة في البصرة(1) ، لذا عندما اراد ابو العباس التخلص من ابي سلمة سعى الى اقضاء اتباعه ، والولاة الموالين له(2) فجاء عزل سفيان في محور هذه السياسة .
   لكن اتصال سفيان اولاً بأبي سلمة لا يؤكد موالاته له ، فالذي يتتبع بدايات الثورة العباسية يلاحظ ان العباسيين كانوا متوارين عن الانظار خوفاً من قبض الامويين عليهم ، ولم يكن يعرف امامهم بين الناس بعد ، وكان دعاة العباسيون هم يشكلون حلقة الوصل بين الناس والثورة ، وان اتصاله الاول بأبي سلمة الخلال لكونه حلقة الوصل بين الحميمة(*) ، ومرو ، ومن الطبيعي ان يكون اتصاله معه في مدة اختفاء ابي العباس عن الانظار ، كما ان تعيينه من قبل ابي سلمة كان نتيجة لأتفاقه معه حسب رواية البلاذري التي جاء فيها ( كتب سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب الى ابي سلمة حفص بن سليمان الداعية : انك ان وليتني البصرة اخذتها لك ، فكتب اليه بولايتها ، فسود )(3) ، والحقيقة ان العباسيين كانوا على علم بهذه الامور لكن اصرار ابي العباس على اتهامه هذا يدعو الى ان هناك اسباباً خفية يعرفها ابو العباس عن سفيان لم تظهرها المصادر ، ويبدو ان ابا العباس كان على حق باتهامه هذا لسفيان ، فقد ظهرت ميول سفيان العلوية بعد وفاة ابي العباس واعتلاء المنصور الخلافة الذي امر بتعيين سفيان للمرة الثانية على البصرة

**************************************************************
(1) البلاذري ، انساب الاشراف ، ق 3 ص 176 .
(2) فوزي ، العباسيون الاوائل ، ج 1 ص 37 .
(*) بلد من اعمال عمان في اطراف الشام كانت منزل بني العباس انظر : ياقوت ، معجم البلدان ، ج 2 ص 307 .
(3) البلاذري ، أنساب الاشراف ، ق 3 ص 174 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 153 ـ

عام ( 139 هـ / 757 م )(1) .
   ويبدو ان السبب الرئيسي الذي دعا المنصور لتعيينه من جديد هو تعاطفه معه لكونه انقذ حياته قبل اعتلاء العباسيين الحكم ، بعد ان قبض عليه سليمان بن حبيب عامل عبد الله بن عمر على الاحواز ، الذي اراد قتله بسبب مساندته لحركة معادية للامويين(*) ، اقيمت ضد عبد الله بن عمر بن عبد العزيز والي العراق ليزيد بن الوليد الخليفة الاموي ، فتحدث سفيان بن معاوية مع سليمان بن حبيب لأطلاق سراح المنصور قائلاً له ( انما افلتنا من بني امية امس افتريد ان يكون لبني هاشم عندنا دم ، فخلى سبيله )(2) ، فيبدو ان هذا هو السبب الذي جعل المنصور يأمر بتعيينه من جديد .
   استمر سفيان في ادارة البصرة الى عام ( 145 هـ / 763 م ) وهو العام الذي اعلن فيه ابراهيم بن عبد الله عن حركته ، ومن المثير للاستغراب ان سفيان يفسح المجال لأبراهيم لنشر حركته فيها ، دون التدخل والقضاء عليها بل ساعد في بعض المواقف على توسيع نطاق الحركة(3) .
   ولم تذكر المصادر السبب الرئيسي في قيام سفيان بهذا التهاون مع حركة تعد من اخطر الحركات التي واجهتها الخلافة

**************************************************************
(1) خليفة بن خياط ، تاريخ ، ج 2 ص 461 .
(*) هي حركة عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن ابي طالب : من شجعان الطالبيين ، طالب في الخلافة اواخر بني امية سنة 127 هـ بالكوفة ، فقاتله عبد الله بن عمر ، فخرج الى المدائن ، ولحق به جمع من اهل الكوفة ، فغلب بهم على حلوان ، والجبال وهمدان ، واصبهان ، والري ، فسير امير العراق ابن هبيرة الجيوش لقتاله ، فأنهزم الى شيراز ، ومنها الى هداة فقبض عليه عاملها ، وقتله بأمر ابي مسلم الخراساني ، انظر : الطبري ، المصدر السابق ، ج 5 ص 599 ، ابن الاثير ، الكامل ، ج 5 ص 324 .
(2) البلاذري ، انساب الاشراف ، ق 3 ص 128 .
(3) انظر ، الفصل الثاني ( الحركات ) .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 154 ـ

العباسية ، وهنا يظهر مدى صحة الاتهام الذي وجهه ابو العباس الى سفيان تجاوباً واسعاً مع هذه الحركة عن طريق التمهيد لقيامها بالخفاء ، حتى تستقر وتأخذ بالانتشار وقد اكد المؤرخون هذا الادعاء ، عندما اشاروا الى ان ابراهيم بعد دخوله لدار الامارة قيد سفيان بقيد خفيف لأبعاد شبهة تواطئه امام المنصور(1) ، كما ان سفيان اظهر ميوله العلوية من خلال المحادثة التي كانت بينه وبين احد اتباع ابراهيم عندما اكد عليه عدم معرفة اتباعه بما كان بينه وبــين ابراهيم مـن امور(2) ، وقد الّبه المنصور فيما بعد على هذا التهاون ، وعده بمثابة معاونة الاعداء ، وشق عصا الطاعة ، ولعل كلامه عن تواطؤ سفيان يظهر بحق نوعية العلاقة بينهما التي حددناها سابقاً لكون المنصور يشعر بالتعاطف معه لأنقاذ حياته ، وسفيان الذي كان يكبت في داخله ميوله العلوية وهذا هو النص الذي بين العلاقة بينهما ذكره لنا الجاحظ ( ولما داهن سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب في شأن ابراهيم بن عبد الله وصار سفيان الى المنصور ، امر الربيع فخلع سوادة ، ووقف به على رؤوس اليمامة في المقصورة يوم الجمعة ، ثم قال : يقول لكم امير المؤمنين : قد عرفتم ما كان من احساني اليه ، وحسن بلائي عنده ، والذي حاول من الفتنة والعذر ، والبغي وشق العصا ومعاونة الاعداء ، وقد رأى امير المؤمنين ان يهب مسيئكم لمحسنكم ، وغادركم لوفيكم )(3) ، وبذلك انتهت من حياة البصرة شخصية فذة كان لها دور كبير في حياتها السياسية .

**************************************************************
(1) ابن الاثير ، الكامل ، ج 5 ص 563 .
(2) الطبري ، المصدر السابق ، ج 7 ص 633 .
(3) الجاحظ ، البيان والتبيين ، ج 2 ص 112 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 155 ـ

   تولى البصرة بعد سفيان ، سلم بن قتيبة الباهلي في عام ( 145 هـ / 763 م )(1) .
   ولم تكن هذه ولايته الاولى عليها ، فقد ولي البصرة زمن الامويين عندما كان ابن هبيرة والياً على العراق ، ثم تولاه مرة اخرى في العصر العباسي في زمن الخليفة ابي جعفر المنصور (3) .
   اظهر سلم ومنذ البداية عدم رغبته بأساءة العلاقة بينه وبين العباسيين فقد طلب من سفيان اثناء قيامه بالدعوة العباسية في البصرة التريث لحين وصول انباء تفيد بأنتصار العباسيين ، وانه لا يمانع من تسليم البصرة بعد ذلك ، لكن اعلان سفيان بن معاوية الحرب عليه حال دون ذلك (4) .
   كما ان سلم ابن قتيبة عندما غادر البصرة لإنتصار العباسيين على ابن هبيرة عيين عليها احد الاشخاص الذين ينتسبون للبيت العباسي (5) ، وهذا بدوره يؤكد حسن نيته امام العباسيين ، واعلان صريح منه بعدم معارضته للدعوة الجديدة .
   لذا شعر العباسيون بأمكانية الاستفادة من هذه الشخصية البارزة في حياة الامويين والتي تحضى بمكانة جيدة في

**************************************************************
(*) كان ابوه الامير قتيبة بن مسلم الباهلي عامل الحجاج على الري ومن ثم خراسان ، واستمر في ولايتها لمدة ثلاثة عشر عاماً ، واستطاع خلال هذه المدة من فتح خوارزم وسمرقند ، وبخري ، وبعد عزله قتل في منطقة فرغانة في عام 97 هـ ، انظر : ابن قتيبة الدينوري ، المعرف ص 178 ـ 188 .
(1) خليفة بن خياط ، تاريخ ، ج 2 ص 451 . ابن الاثير ، الكامل ، ج 5 ص 572 .
(2) ابن قتيبة الدينوري ، المعرف ، ص 178 ـ 188 .
(3) خليفة بن خياط ، تاريخ ، ج 2 ص 430 .
(4) البلاذري ، انساب الاشراف ، ق 3 ص 174 ، الطبري ، المصدر السابق ، ج 7 ص 419 .
(5) البلاذري ، انساب الاشراف ، ق 3 ص 176 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 156 ـ

البصرة ، لذا ارسل العباسيون كتاب الامان الى سلم بعد التجائه في البادية من غير طلب منه لذلك ، جاء الى البصرة ، وارسل الى سليمان بن علي والي البصرة ليعلمه بمجيئه فآمنه بعد ان اخذ بيعته (1) ، وبعد ذلك اخذ العباسيون بتوظيفه لصالحهم .
   كان سلم بن قتيبة مرابطاً مع قواتة في منطقة الري قبل ان يعينه المنصور على البصرة ، ولحاجه المنصور لكفائته استدعى سلم هو وقواته للانظمام لقوات محمد وجعفر بن سليمان في ميسان التي كانت على اهبه الاستعداد لمواجهة قوات ابراهيم بن عبد الله في البصرة (2).
   وقبل القضاء على حركة ابراهيم عينه المنصور والياً على البصرة ، وفي الوقت نفسه عين جعفر بن سليمان عليها ايضاً على الرغم من ان البصرة كانت ما تزال تحت سيطرة ابراهيم بن عبد الله ، فقد (( قدم على المنصور جعفر بن سليمان فولاه البصرة ، وكتب له عهده عليها ، وبعث سلم بن قتيبة ، وكتب له ايضاً عهداً على البصرة (3))) ، ويبدو ان المنصور اراد من تعيينه على البصرة لإثنين من ابرز رجالاتها في هذا الوقت المحرج هو لكسب ابر عدد ممكن من مؤيديهم لصالحه ، فاولاد سليمان كانوا يحضون بمكانه مميزة في البصرة ، وقد اشرنا سابقاً (4) الى خروج ما يقارب ستمائة رجل من اهل البصرة كانوا مع اولاد سليمان لقتال ابراهيم بن عبد الله ، وعلى الرغم من هزيمتهم فقد اتخذوا من ميسان قاعدة لهم ، ومن الطبيعي ان هؤلاء الرجال ينتسبون الى قبائل في البصرة قد اغاضهم قتل ابراهيم

**************************************************************
(1) البلاذري ، انساب الاشراف ، ق 3 ص 177 .
(2)الطبري ، المصدر نفسه ، ج 7 ص 639 ، ابن الاثير ، الكامل ، ج 5 ص 567 .
(3)البلاذري ، انساب الاشراف ، 126 ـ 127 . مجهول ، العيون والجدائق ، ج 3 ص 252 .
(4) انظر الفصل الثاني ( الحركات ) .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 157 ـ

لأبنائهم وابعاد البقيه منهم ، لذا اراد الخليفة ان يستثمر سخطهم ، وكسب تأييدهم له ، بتوليه جعفر بن سليمان على البصرة ، اما بالنسبة لسلم بن قتيبة فقد ساعد تعيينه على البصرة لإنضمام قبيلة كبيرة وهي باهلة اليه وبذلك استطاع المنصور زعزعة موقف ابراهيم في البصرة ، والى هذا اشار المنصور بقوله (( انما وليت جعفراً و سلماً وابراهيم في البصرة ليقاتلاه ويؤمنا الناس )) (1)    وبعد مقتل ابراهيم بن عبد الله اصدر المنصور امراً ادارياً بتعيين سلم بن قتيبة والياً على البصرة ، ويزيد بن سلم على شرطتها وذلك في عام (145هـ \ 762 م ) (2) .
   وبعد ان عين سلم على البصرة ارسل اليه المنصور كتاباً يأمره فيه بهدم دور من خرج مع ابراهيم ، لكن سلم ماطل في تنفيذ اوامر الخليفة (3) ويرى احد الباحثين ان سبب مماطلة سلم لاوامر الخليفة هو حفاظاً على سلامة قبيلته من العقاب الذي سيوجه اليهم (4) .
   ولكن يمكن القول الصحيح هو عكس ذلك فقبيلة باهلة هي القبيلة الوحيدة التي سوف تحضى بمكرمة الخليفة وامانه ، لما ابدته من مساعدة كبيرة في الانضمام الى سلم في ميسان ومساندة العباسيين في قتالهم مع ابراهيم على الرغم من كون هذه الحركة هي الاكثر شيوعاً وتوسعاً ، لكنها فضلت الخروج من البصرة ، والانضمام الى الجيوش العباسية .

**************************************************************
(1) مجهول ، العيون والحدائق ، ج 3 ص 254 .
(2) ابن خياط ، التاريخ ، ج 2 ص 462 .
(3) الطبري ، المصدر السابق ، ج 7 ص 655 .
(4) العاني ، المرجع السابق ، ص 321 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 158 ـ

   اما قوله بان هناك في البصرة بعض ابناء باهلة ايدوا حركة ابراهيم فهذا الخبر لا تذكره المصادر بل هو عكس ما ذكره الطبري بأنضمام جميع قبيلة باهة الى سلم بقوله ( وكتب سلم الى البصرة فلحقت به باهلها ، عربها ، ومواليها ) (1) ، وهذا النص يبين ان قبيلة باهلة انضمت بكافة فئاتها سواء من العرب او الموالي لجيوش الخلافة العباسية .
   اما السبب الرئيسي على ما يبدو لمماطلة سلم بتنفيذ اوامر المنصور هو نكث المنصور لوعده الذي اخذه منه سلم بن قتيبة عندما ولاّه البصرة وهو اعطاؤه امان اهل البصرة ، عندما قال له سلم ( اجعل لي امان اهل البصرة ، فقال ائمانهم اليك ) (2) ، لكن الخليفة تراجع عن ذلك الشرط ، بعد اخراج ابراهيم من البصرة وهزيمته .
   ومن الامور التي ادت ايضاً الى اساءة العلاقة بينه وبين المنصور الذي تم تعيينه على كور دجلة والابلة ، لذا توعد الخليفة ، واراد انزال اقصى العقوبة به لو لا تدخل احد اصحابه الذي استطاع من تهدأة الخليفة ، وجعله يصفح عن سلم (3) ، وكان امر المنصور في عزل سلم بن قتيبة عن ولاية البصرة في عام 146 هـ وتعيين محمد بن سليمان بدل عنه (4).
   هذا بالنسبة لأهم الشخصيات البصريه التي تولت البصرة في هذه الحقبة ، اما بالنسبة لبقية الولاة فقد كانت العلاقة تسير

**************************************************************
(1) الطبري ، المصدر السابق ، ج 7 639 .
(2) البلاذري ، انساب الاشراف ، ص 127 .
(3) ابن قتيبة الدينوري ، عيون الاخبار ، ج 1 ص 291 .
(4) الطري المصدر السابق ، ج 7 ص 656 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 159 ـ

وفق الظروف الخاصة للسياسة العامة التي انتهجتها الدولة ، فرغم اهتمام العباسيين بالشخصيات البارزة والدعم المتواصل لها الاّ ان الخلفاء كانوا في بعض الاحيان يقفون ازائهم موقف الحزم ، والتي تصل الى حد معاقبتهم او عزلهم ، فقد عزل المنصور عقبة بن سلم الهنائي ، (147 ـ 151 هـ \ 765 ـ 769 م ) عن ولاية البصرة عام 151 هـ ، لقيامه بقتل اعداد كبيرة من ربيعة في البحرين ، (1) ، (حتى كان ذلك سبب انحلال الحلف بين الازد وربيعة ) (2) فعندما علم المنصور ما فعله عقبة بأهل البحرين كان يقول ( لا يراني الله اتبوء بائمة ولا ارضي فعلة ) (3) ، لذا عزل المنصور عقبة بن سلم عن ولايته على البصرة والبحرين ، وكانت نهايته هي قتله على يد رجل من ربيعة ، في جامع البصرة امام الناس ، فقد كان الخلفاء يؤكدون على وحدة الامة وسلامتها ، لذا كانوا يحاسبون عمالهم على كل تقصير تجاههم .
   وفي سنة 156 هـ \ 776 م عزل الخليفة عامله على البصرة الهيثم ابن معاوية العتكي ، على الرغم من قيامه بالقبض على عمر بن شداد عامل ابراهيم بن عبد الله على فارس ، ثم قتله وطبة في مربد البصرة (5) ، ولم تذكر المصادر سبب عزله الاّ ان مما يبدو ان تصرف الهيثم بن معاوية كان تصرفاً منفرداً في قتل عمرو بن شداد دون استشارة الخليفة او انتظار اوامره على الرغم من ان الخليفة امره بدفعه اليه ، وهكذا فان الخلافة العباسية

**************************************************************
(1) اليعقوبي ، التاريخ ج 3 ص 134 . الطبري ، المصدر السابق ، ج 8 ص 39 ـ 40 .
(2) ابن حزم ، المصدر السابق ، ص 134 .
(3) اليعقوبي ، تاريخ ، ج 3 ص 134 .
(4) ابن حزم، المصدر السابق ، ص 380 .
(5) الطبري المصدر السابق ، ج 8 ص 50 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 160 ـ

كانت لا تتوانى في معاقبة اي والٍ قد اخل بالنظام المركزي للدولة .
   ان العلاقة بين الخلفاء العباسيين والولاة في البصرة سواء من الاسر البصرية او غيرها ، كانت تحددها الظروف العامة التي احيطت بالدولة ، لذا كانت العلاقة غير مستقرة ، وعليه فقد تغير العديد من ولاتها غير العباسيين في مدة زمنية قصيرة اذا ما قورنت مع مدة ولاة البصرةالذين ينتسبون للاسر العباسية .

ب ـ الاسر والشخصيات العباسية التي تولت البصرة
   تولت البصرة العديد من الشخصيات العباسية ، التي كانت لها مواقف كبيرة مع السلطة المركزية اثناء مدة تعيينهم وجاء تعيينهم مماشياً مع سياسة ابي العباس في الاعتماد على اهل بيته في تولية الامصار نتيجة لقيام الحركات المعارضة ، ولتتبع الامويين اينما كانوا (1) ، لذا عين العديد من الولاة العباسين في العديد من الامصار ، كالشام ، وواسط والبصرة التي ايضاً دخلت في محور هذه السياسة .
   هذا وقد اتبع المنصور سياسة اخيه نفسها في تولية اهل بيته الامصار والاعتماد عليهم في شؤون الدولة ويظهر ذلك جلياً من خلال مخاطبته لاهل بيته (( اني لا اجهل موضعي حتى احذر منكم لانه ما فيكم الاّ عم واخ وابن عم وابن اخ فأنا اراعيكم في بصري واهتم بكم بنفسي فالله الله في

**************************************************************
(1) علي ، محمد كرد ، الادارة الاسلامية ، ص 122 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 161 ـ

انفسكم فصونوها . . . )) (1) وسار بقية الخلفاء العباسيين الاوائل على السياسة التي انتهجها آباؤهم فقد عين ابو العباس عمه سليمان بن علي على البصرة وكان اول والي عباسي عليها في هذا العصر (*) ، و بقي سليمان في علاقة طيبة مع الخلافة مدة ابي العباس ولم تذكر المصادر اية خلافات حدثت بينهما ، بل على العكس فقد ذكرت المصادر ان سليمان ولما يمتاز به من مكانه وتقدير لدى الخليفة ابي العباس استطاع من اقناعه لمنح الامويين الامان (2) ، اما بالنسبة لعلاقته مع ابي جعفر المنصور فقد كانت حسنة في البداية ثم اصبحت على النقيض من علاقته بابي العباس ، فعلى الرغم من ان المنصور اعطى لسليمان الاموال التي يحصل عليها من خلال الجباية في مناطقه التابعة له ادارياً (3) ، الا انه من ناحية اخرى اخذ من آل سليمان الصفة الروحية التي اكتسبوها من خلال قيامهم بالسقاية والرفادة في الكعبة المشرفة ، فقد ذكر البلاذري ان السقاية والرفادة قد قام بها (( سليمان بن علي ثم عيسى بن علي ، فلما استخلف ابو جعفر المنصور قال : انكم تقلدون هذا الامر مواليكم فموالي امير المؤمنين احق بالقيام به فولى السقاية ونفقات البيت مولى له يقال له (( من ذي وجعلت الرفادة من بيت المال )) (4) ، ثم جاء بعد ذلك هروب عبد الله بن علي الى البصرة لتزداد العلاقة سوءاً بين سليمان والخليفة لا سيما وان المنصور لم يكن ليقبل اي تهاون من جانب الولاة او ابدائهم الاستياء لسياستهم التي انتهجوها ، لذا عزل المنصور

**************************************************************
(1) اليعقوبي ، تاريخ ، ج 3 ص 131 ـ 132 .
(*) كان اول والي عباسي على البصرة هو عبد الله بن عباس في زمن امير الؤمنين علي ابن ابي طالب ( عليه السلام ) ، انظر : الطبري ، المصدر السابق ، ج 5 ص 109 .
(2) انظر الفصل الاول ( موقف البصرة من الثورة الاسلامية ) .
(3) البلاذري ، انساب الاشراف ، ق 3 ص 94 .
(4) المصدر نفسه ، ق 3 ص 16 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 162 ـ

سليمان بن علي على ولايته للبصرة ، ولم ينته دور آل سليمان في البصرة بعد تنحيته عن الولاية ، اذ تولى البصرة اثنان من اولاده هما محمد وجعفر بن سليمان ، وكان الاثنان بعيدين عن الساحة السياسية ولم تكن لهم نشاطات بارزة بعد وفاة والدهما سليمان بن علي في عام ( 142 هـ \ 795 م ) لكن ظهور ابراهيم بن عبد الله في البصرة عام ( 145 هـ \ 763 م ) كان فرصة لهما للبروز في الساحة السياسية فعلى الرغم من تعيين المنصور جعفر بن سليمان على البصرة ، الا انه رفض توليته عليها بعد الانتهاء من حركة ابراهيم ، ويظهر ان سبب عدم توليته الخليفة لأولاد سليمان هو للاسباب الاتية :
1 ـ الموقف السابق لعبد الله بن علي واخيه سليمان ، بقيامهما برفض اوامر الخليفة ، وتأليب اهالي البصرة عليه ، كذلك اذا ما علمنا ان هناك رواية للطبري تؤكد ، بان سليمان بن علي التقى بعبد الله بن الحسن في المدينة ، ونصحه بعدم تسليم اولاد محمد وابراهيم الى المنصور ، والا فان مصيرهم سيكون مصير اخيه نفسه عبد الله بن علي على الرغم من كونه عم المنصور (1) ، فيبدو ان المنصور قد شعر بان حادثة عمه عبد الله بن علي ما زالت مخيمة على اذهان آل سليمان ، فاستوجب ذلك بقاءهم بعيداً عن تولي المناصب في البصرة .
2 ـ اهمال محمد واخيه جعفر بن سليمان تتبع الاخبار التي تحدث بالبصرة وعدم معرفتهم بقدوم ابراهيم ونشاطه فيها من عام ( 143 ـ هـ \ 760 ـ 762 م ) الاّ بعد ان ظهر امرهم واستفحل على الخلافة فشعر الخليفة بعدم صلاحيتهم لتولي مصر مهم كالبصرة ، لذا (( كتب اليهما بعجزهما وضعفهما ويوبخهما على طمع ابراهيم في الخروج الى مصرهما فيه ، واستثار خبره عنهما ، وكتب اليهما في آخر كتابه .

**************************************************************
(1) الطبري ، المصدر السابق ، ج 7 ص 519 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 163 ـ

ابـلغ بـني هـاشم عني مغلغلة      فـاستيقضوا ان هـذا فعل iiنوائم

تعدو الذئاب على من لا كلاب له      و تتقي مربض المستنفر iiالحامي

ويظهر ان لهذه الاسباب عين المنصور سلم بن قتيبة على البصرة عام ( 154 هـ \ 762 م ) ورفض تعيين ابناء سليمان عليها ، لكن رفض سلم لتنفيذ اوامر الخليفة بهدم دور من خرج مع ابراهيم سنح مرة اخرى لآل سليمان باظهار حسن نيتهم امام الخلافة لذا شدد محمد بن سليمان باتخاذ اجراءاته بمعاقبة اهل البصرة (2)
   وبعد تولي محمد بن سليمان لولاية البصرة عمل على التقرب للخلافة حتى حضى بمكانة مميزة لدى الخلفاء ، فكان الخليفة ابو جعفر المنصور يميزه عن اخيه جعفر بن سليمان فقد (( وهب لمحمد بن سليمان عشرين الف درهم ولاخيه جعفر عشر آلاف درهم ، فقال جعفر : يا امير المؤمنين ، تفضله علي و انا اسن منه : قال وانت مثله : إنّا لا نلتفت الا وجدنا من اثر محمداً شيئاً)) (3) واستمر محمد على هذه السياسة حتى بعد وفاة المنصور ، فقد ارسل في ولايته الثانية على البصرة عام 136 هـ الى الخليفة المهدي قبة ضربت في قصره في صحن الابواب (4) ، كما اهتم ايضاً باحوال الخلفاء وراحتهم اثناء مقدمهم لاداء مناسك الحج ، ففي عام ( 160 هـ \ 776 م ) ، حج الخليفة المهدي ، فارسل اليه محمد من البصرة الثلج الى مكة ، وهذا شيء لم يتهيأ لاحد (5) .

**************************************************************
(1) المصدر السابق ، ج 7 ص 640 .
(2) انظر : الفصل الثاني ( الحركات ) .
(3) الطبري ، المصدر السابق ، ج 8 ص 77 .
(4) المصدر نفسه ، ج 8 ص 77 .
(5) المصدر نفسه ج 8 ص 134 . الذهبي تاريخ الاسلام ، ج 6 ص 167 . حبوش ، جليل طاهر ، اوائل العرب ، دار الكتب والوثائق ببغداد ط 1 ، 1991 ، ج 4 ص 18 _ 19 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 164 ـ

   ولم يقتصر اهتمام الولاة بالخلفاء فقط ، بل امتد اهتمامهم للاسرة الحاكمة ايضاً فقد ذكرت المصادر ان محمد بن سليمان قد ((اهدى الى الخيزران مائة وصيف بيد كل وصيف جام من الذهب مملوء مسكاً ، فقبلت ذلك منه )) (1).
   وكتعبير عن امتنان الخلافة لسياسة الولاة ، فقد منح محمد بن سليمان في عهد الخليفة هارون الرشيد ما لم يمنح والي من قبل حيث (( عندما بويع الرشيد بالخلافة قدم عليه محمد بن سليمان وافداً ، فاكرمه وعظمه ، وبره وصنع به ما لم يصنع باحد وزاد فيما كان يتولاه من اعمال البصرة كور دجلة والاعمال المفردة والبحرين ، الغوص وعمان واليمامة وكور الاحواز وكور فارس ، ولم يجمع هذا لأحد غيره )) (2).
   كما زوجه الرشيد ايضاً اخته العباسة بنت المهدي (3) ، ليجعل من العلاقة بينهم اكثر تماسكاً له وتقوية للروابط الاسرية فيما بينهم .
   ان هذا التوسيع الكبير الذي اضيف لادارة البصرة في زمن واليها محمد بن سليمان ، والذي شمل مقاطعات عديدة تقع تحت ادارة والي واحد ، كانت سبباً في اقتناء محمد لثروات طائلة فقد حصل على الكثير من الهدايا من مختلف المناطق بلاد السند ، مكران فارس ، الاحواز واليمامة ، والري ، وعمان (4)، فازدادت تبعاً ، لذلك ثرواته والتي تكونت بفعل الضرائب الطائلة التي كانت تجبى من تلك المنطق ، واخذت ثرواته الطائلة تنافس على ما يبدو ثروات الخلفاء ، فعندما توفي محمد

**************************************************************
(1) ابن الزبير ، المصدر السابق ، ص 17 . الاربلي ، المصدر السابق ، ص 116 .
(2) الخطيب ، البغدادي ، المدر السابق ، ج 5 ص 291 .
(3) المدر السابق ، ج 8 ص 237 .
(4) المصدر نفسه والصفحة .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 165 ـ

بن سليمان توفي عام ( 173 هـ \ 879 م ) ، صادر الرشيد اموالهم ، وارسل رجاله ليحصوا ثروته ، وجلبها الى بغداد فاخذ رجال الخليفة امواله من الرفيق ويقال كان لديه ما يقارب خمسين الف منهم عشرين الفاً عتاق ، واخذوا كذلك من املاكه الدواب والفرش والجوهر وجميع ما يصلح للخلافة الا المال فان الرشيد لم يقبل اخذه او ارساله الى الديوان ، بل امر بانفاقه الى الندماء والمغنين وغيرهم (1) .
   وقد ذكر حسب رواية بعض المؤرخين ان سبب مصادرة الرشيد لأموال محمد هي لكون اخيه جعفر بن سليمان يسعى به الى الرشيد حسداً له ويقول : انه لا مال له ولا صنيعة الا وقد اخذ اكثر من ثمنها ليتقوى به على ما تحدثه به نفسه يعني الخلافة (2) .
   لكن يبدو ان تلك الرواية تحتاج الى وقفة ما : فلو كان الخليفة يخشى من قيام محمد بن سليمان باستخدام امواله الطائلة ، لمنافسته على الخلافة لقام الرشيد بمصادره امواله اثناء حياته ، وليس بعد ان وآفاه الاجل ، اي بعد زوال خطره ان صح ذلك .
   ولمعرفة اسباب قيام الرشيد بمصادرة اموال محمد بن سليمان لا بد لنا من عودة لسياسة الرشيد ، والخلفاء من قبله تجاه ثروات الرجال البارزين في الدولة ، وهل هناك سياسة معينة كانت متبعة لذلك .
   لم تبدأ سياسة مصادرة العمال بعد عزلهم في العصر العباسي في عهد الخليفة الرشيد بل ظهرت هذه المصادرات منذ عهد

**************************************************************
(1) الطبري ، المصدر السابق ، ج 8 ص 238 . مجهول ، العيون والحدائق ج 3 ص 292 . ابن الزبير ، المصدر السابق ، ص 221 .
(2) ابن الاثير ، الكامل ، ج 5 ص 199 . ابن تغري بردى ، المصدر السابق ، ج 2 ص 75 .

البصرة منذ بداية العصرالعباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 166 ـ

الخليفة المنصور الذي انشأ ديواناً خاصاً لهذا الغرض اسماه ديوان المصادرات يسجل فيه اسماء من صودرت اموالهم مع كمية ما ورد منهم (1).
   وفي عهد الخليفة المأمون انشأوا ديواناً جديداً ، سمي ديوان النظر في المظالم ، ومهمته النظر في شكوى العامة من الولاة وحمايتهم في حالة تعرضهم لإجحاف من الولاة في الجباية والضرائب (2).
ان انشاء مثل هذه الدواوين لهو دليل على ظهور حالات من التعسف والاجحاف بحق العامة في جباية الولاة للضرائب ، اذا اراد الخلفاء الحد من هذه الظاهرة لمعاقبتهم للالتزام بالمصلحة العامة ، لذا كان المنصور ومن بعده من الخلفاء يصدرون الاوامر لمصادرة اموال الولاة في حالة ثبوت استيلائهم على الاموال بالطرق غير الشرعية سواء كانت بالابتزاز او بالقوة مستغلين بذلك موقعهم في السلطة (3).
   لذا يبدو ان ثروة محمد بن سليمان قد اثارت الشكوك في نفس الرشيد فاراد استرجاعها لإعتقاده بانه استولى عليها بغير حق ، والذي يؤكد ذلك رفضه لاخذ اموال محمد وامر بتوزيعها على المغنين ، فقد ظن ان هذه الاموال قد جبيت بغير حق ، لكنه قبل اخذ املاك محمد من رقيق وعطور واثاث لمعرفة بان مصدرها كان الهدايا التي جلبت لمحمد من المناطق التابعة ادارياً له او المناطق التي تربطه بها علاقات اقتصادية .

**************************************************************
(1) اليعقوبي ، التريخ ، ج 3 ص 127 . الفخري ، المصدر السابق ص 115 . الدوري ، النظم الاسلامية، ج 1 ص 199 .
(2) الطبري ، المصدر السابق ، ج 10 ص 11 .
(3) ابو يوسف ، يعقوب بن ابراهيم ، المطبعة السلفية ، ط 4 ، القاهرة 1392 هـ ص 111 ـ 112 .
انظر : رضا ، الآثار السياسية والاجتماعية ، ص 66 ـ 67 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 167 ـ

   كذلك ذكر الطبري ان الرشيد كان يسعى الى توزيع الاموال على الأُسر العباسية بالتساوي دون فرق بينهم ، فقد ذكر انه في سنة 170 هـ (( امر هارون بسم ذوي القربى فقسم بين بني هاشم بالتسوية )) (1) ، وهو دلالة على ان الرشيد كان يسعى الى مساواة افراد الاسرة العباسية في احوالهم المعاشية ، وتقسيمها عليهم بالتساوي ، لذلك استولى على اموال محمد بن سليمان لا سيما وانه في حالة عدم اخذه لتلك الاموال فانها ستذهب الى آل سليمان مما يؤدي الى ازدياد قوة هذه الاسرة ، وهذا ما لا ترضاه سياسة الخلفاء .
   لكن علاقة الولاة بالخلافة لم تكن دائماً تسير في النهج السياسي للخليفة اذ كان الوالي يعارض الخليفة ، اذا وجد في سياسته ما يعارض او يهدد مركزه السياسي ، فقد اعلن اسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي والي على البصرة عن رفضه لمبايعة علي بن موسى الرضا بولاية العهد ، بعد ان اعلن المأمون عن اسناد ولاية العهد له ، فاعلن والي البصرة عن خلعه للمأمون ، الذي امر بلبس الخضرة ، فارسل اليه المأمون عيسى بن يزيد الجلودي لقتاله واستطاع عيسى القبض على والي البصرة ، وارساله الى خراسان (2).

**************************************************************
(1) الطبري ، المصدر السابق ، ج 8 ص 234 .
(2) اليعقوبي ، التاريخ ج 3 ص 183 ـ 184 . ابن تعزي ، بردى ، المصدر السابق ، ج 2 ص 169 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 168 ـ

ثانياً : علاقة ولاة البصرة بالعامة

   استطاع ولاة البصرة في العصر العباسي الاول من كسب احترام العامة وتأييدهم فقد اهتم بعض الولاة اهتماماً كبيراً بشؤون العامة ، والدفاع عن مصالحهم ، حتى كان لبعض الولاة منزلة كبيرة لديهم .
   فكان الولاة يحرصون على اتصالهم المباشر مع الناس ليكونوا على مقربة منهم ليسهل عليهم اظهار سياستهم التي انتهجوها معهم ، ومعرفة اخبار الناس ليكونوا موضع ثقة العامة ، لذلك كان الولاة في البصرة يجتمعون في كل يوم جمعة مع الناس في المسجد الجامع ، وهناك يقوم الوالي بالقاء خطبة امام العامة (1) والتي تكون اساس تعامله معهم ، كما حرص بعض الولاة على ان يكونوا على مقربة من الرعية لمعرفة شؤونهم ، فقد كانت بعض بيوتهم تبنى بقرب الناس ، وكان لديهم جيرانهم من الرعية الذين يهتمون بامرهم ، ويسألون عن احوالهم ، فهذا سليمان بن علي والي البصرة يسأل خالد بن صفوان عن ابنيه جعفر ومحمد اللذان هما جارا خالد فيقول له (( كيف احمادك جوارهما يا ابا صفوان )) (2) ، لذا فقد كان الولاة يهتمون بإمور الرعية حتى لو كان على حساب راحتهم .
   وكذلك حرص الولاة على مظهرهم امام العامة ، وعدوه جزئاً مكملاً من مكملات سياستهم للرعية ، لإضفائه الهيبة في


**************************************************************
(1) الجاحظ ، البيان والتبيين ، ج 2 ص 129 ـ 130 .
(2) المرد ، المصدر السابق ، ج 2 ص 34 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 169 ـ

نفوس الناس ، فقد اشتهر ولاة البصرة كمحمد بن سليمان ، واسحاق بن عيسى وسليمان بن ابي جعفر ، بلبس القناع امام العامة حتى وهم في الطرقات لما يمثله ذلك من رهبة وتقدير امام الناس (1) ، كذلك للاطلاع على احوال الرعية دون كشف هويتهم واكتشاف ما يصدر من امور ضد السلطة .
   كما تمكن بعض الولاة من الحصول على منزلة كبيرة بين العامة ، لما قدموه من خدمات جلية ، فقد تمكن سليمان بن علي من الحول على عفو الخليفة للاموين في البصرة ، واعكائهم الأمان ، وذلك عندما كتب سليمان الى الخليفة ابي العباس قائلاً له (( يا امير المؤمنين ، فانا حاربنا بني اميه على عقوقهم ، ولم نحاربهم على ارحامهم ، وقد دنت الي منهم دانة لم يشهروا سلاحاً ولم يكثروا جمعاً ، وقد احسن الله اليك فأحسن ، فأن رأى امير المؤمنين ان يكتب لهم اماناً ويأمر بانفاذه فليفعل )) (2) ، فأجابه الى ذلك : فكان هذا (( اول امان لبني امية )) (3) ، فقد عامل سليمان الامويين في البصرة معاملة حسنة (4) ، مما ادى الى لجوئهم اليه لحمايتهم ، فيقول ابن عبد ربه مات سليمان وعنده بضع وثمانون حرمة لبني امية (5) .

**************************************************************
(1) الجاحظ ، البيان والتبيين ، ج 3 ص 118 .
(2) ابن عبد ربه ، المصدر السابق ، ج 2 ص 152 .
(3) حول نص كتاب الامان ، انظر الزبير بن بكار ، ابو عبد الله الزبير بن بكار بن عبد الله ، الاخبار الموفقيات ، ( تح د . سامي مكي العاني ، مطبعه العاني ، بغداد 1972 ) ، ص 472 ـ 473 .
(4) البلاذري ، انساب الاشراف ، ق 3 ص 91 . انظر : فوزي ، العباسيون الاوائل ، ج 1 ص 27 .
(5) المصدر السابق ، ج 2 ص 152 . انظر : ابن الاثير ، الكامل ، ج 5 ص 431 ـ 432 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 170 ـ

كما وصف ايضاً بانه كان (( كريماً جواداً ممر برجل قد حمل عشر ديات فهو يسأل فيها فأمر له بها كلها ، وسمع وهو على سطح له نسوة يغزلن في سطح لهن بقربه يقلن ليت الامير اطلع علينا فاغنانا ، فقام فجعل يدور في قصره فجمع جلجاً من ذهب وفضة وجوهر وصير ذلك في منديل له ثم امر فالقى اليهن فماتت احداهن فرحاً)) (1) .
   كما اشتهر بعتقه عشية عرفة من كل موسم مائة نفر وعطاؤه لقريش والانصار خمسة الاف الف درهم وهم في كل موسم حج (2) .
   كما عرف عن الوالي محمد بن سليمان جوده وكرمه وسخاؤه وحسن منزلته وعظم قدره عند الناس ، لذلك لجأ اليه الناس في قضاء حوائجهم ، حتى كان الناس يتزاحمون على بابه(3) ، فقد كان يتصدق في كل عام بخمس مائة الف دينار وفي كل ليلة الف دينار(4) .
   كما استخدم الولاة الشعراء في البصرة للتقرب من العامة فقد كان لمدح الشعراء اثر كبير في محبة الناس لهم ، فكان الولاة في البصرة يبذلون الاموال عليهم حتى كان الشعراء يتزاحمون على قصورهم ، فقد عرف عن عقبة بن سلم الهنائي (5) ،

**************************************************************
(1) البلاذري ، انساب الاشراف ، ق 3 ص 90 . (2) الصفدي ، صلاح الدين خليل بن ايبك ، الوافي بالوفيات ، اعتناء س . ديدونيغ ، مطابع دار صادر ، ط 2 ، بيروت ، 1974 ، ج 2 ص 71 ، الذهبي ، العبر في خبر من غبر ، تح ابو هاجر محمد سعيد ، دار العلميه ، بيروت د . ت ج 1 ص 148 . ابن عماد الحنبلي ، المصدر السابق ج 1 ، ص 210 .
(3) ابن عبد ربه ، المصدر السابق ج 1 ص 70 .
(4) ابن الزبير ، المصدر السابق ، ص 222 .
(5) الاصفهاني ، الاغاني ، ج 3 ص 178 . الجاحظ ، البيان والتبيين ، ج 1 ص 49 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 171 ـ

والهيثم بن معاوية العتكي (1) . وروح بن حاتم المهلجي ، كثرة عطاياهم للشعراء اثناء مجيئهم الى قصورهم لمدحهم .
   كما ان بعض الولاة كانوا لا يقارنون الشعراء ، فوالي البصرة محمد بن ابي العباس ( 147 هـ ـ 687 م )، كان يلازمه الشاعر حماد عجرد في كل اماكن تواجده (2) .
   ومن اشعار حماد بن عجرد في مدح محمد بن ابي العباس :
ارجــوك بـعـد ابـي الـعباس اذ iiبـانا
يــا اكــرم الـنـاس اعـراقاً iiوعـيدانا
فـانـت  اكـرم مـن يـمشي عـلى iiقـدم
وانـظـر الـناس عـند الـمحل iiاغـصانا
لــو مـج عـود عـلى قـوم iiغـضارته
لـمج عـودك فـينا الـمسك والـجانا (3) ii

   وعلى الرغم من اهتمام الولاة بالشعراء كوسيلة علامية لهم ، الا انهم تعرضوا في بعض الاحيان لذم الشعراء لهم ، في حالة عدم تقديم المعونات لهم مما كان له اثراً على سمعتهم امام العامة .

**************************************************************
(1) الاغاني ، المصدر السابق ، ج 3 ص 199 ـ 100 .
(2) الصولي ، اشعار اولاد الخلفاء ، ص 4 .
(3) البلاذري ، انساب الاشراف ، ق 3 ص 181 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 172 ـ

فقد تجمع عدد من الشعراء امام باب محمد بن سليمان ، لكنهم لم يحصلوا عطاياه لهم ، لذا اخذ احد الشعراء بالقائه شعراً في ذمه يبقى على مرور الايام وهذا الشعر هو :
لا تـقبلن  الـشعر ثم iiتعيقه      وتـنام و الشعراء غير iiنيام
و  اعلم بانهم اذا لم iiينصفوا      حكموا  لانفسهم على iiالحكام
و جنايه الجاني عليه iiتنجني      و هجاؤهم يبقى على الايام 
   لذا بعد نتهاء الشاعر من القائه ، سارع محمد بن سليمان بجزل العطاء لهم ليتكفى اشعارهم (1) ، كما تعرض الوالي روح ابن حاتم المهلبي لهجاء شديد من قبل الشاعر بشار بن برد لعدم حصوله على هباته (2) .    اما والي البصرة صالح بن داود فقد تعرض لهجائه ايضاً في بداية توليته البصرة لكونه اخو وزير المهدي يعقوب بن داود(3) .
   حتى كان الشعراء في بعض الاحيان سبباً في اطلاق الناس لالقاب على الولاة فقد سمي اهالي البصرة واليهم محمد بن ابي العباس بابي الدبس ، لكثرة ما يضع من الروائح وملاء لحيته بالغالية ، لذا عندما هجاه شعراء البصرة قالوا :
صرنا من الريح الى وكس      اذ ولـى الصر ابو iiالدبس
ما شئت من لوم على نفسه      و  جنسه من اكرم iiالجنس(4)
   لم يقتصر اهتمام الولاة بالعامة عن طريق تقديم الهبات لهم فقط ، بل ان اهم الامور التي ساعدت على ازدياد مكانة

**************************************************************
(1) الاغاني ، ج 14 ص 118 .
(2) المصدر نفسه ، ج 14 ص 120 .
(3) الطبري ، المصدر السابق ، ج 8 ص 181
(4) الصولي ، اشعار اولاد الخلفاء ، ص 3 ـ 5 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 173 ـ

الولاة بين العامة هو ما قدموه من آثار عمرانية خدمت اهالي البصرة .
   فقد اهتم سليمان بن علي بخدمة الناس ، فقام باصلاح المساجد في البصرة ، حتى قال فيه الشاعر :
كــم مـن يـتيم ومـسكين و iiارمـلة      جـبـرته بـهـد فـقـر يـا سـليمان
  ومــسـجد ضــرب لـلـه تـعمره       فـيـه شـوخ واشـــياخ وشـبان (1) ii
   ثم زاد محمد بن سليمان من مساحة المسجد ، وجعلها اوسع بعد ان ضم اليها مساحة جديدة اخذت من الدور القريبة منها بعد شرائها ، وكان ذلك بامر الخليفة المهدي الذي شجعه على ذلك ، ثم قام بعد ذلك الوالي عيسى بن جعفر بأدخال دار الامارة في مسجد البصرة (2) .
   كما بنى سليمان منارة بين البصرة ومكة لتهدي المسافرين اثناء رحلتهم ، فقال فيه الشاعر :
ان الامـيـر قــد بـنـى iiالـمـنارة      واضـحـة يـهدي بـها الـسفارا (3) ii
   كما قام سليمان بن علي ايضاً بحفر وادي العقيق بالبصرة فخرجت دور عديدة كانت هناك، لذا ارسل سليمان مبلغاً قدره الف درهم واعطاه لجرير بن حازم لتعمير البيوت التي خربت (4) .    الا ان اهم عمال الولاة التي خدمت اهالي البصرة ، هي تخليص ماء البصرة من الملوحة ، بعد ان كان اهالي البصرة تستعذب الماء من الابلة فقط ، فجاء سليمان فاتخذ المغيشة وضرب مسنتها على البطيحة وسكر القندل فعذب ماء اهل البصرة ،

**************************************************************
(1) البلاذري ، انساب الاشراف ، ق 3 ص 90 .
(2) البلاذري ، فتوح البلدات ج 2 ص 429 .
(3) البلاذري ، انساب الاشراف ق 3 ص 90 .
(4) المصدر نفسه ، والصفحة .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 174 ـ

واتفق على المغيثة ، الف الف درهم حتى استخرجها من بطن البطيحة (1) .
   وعلى الرغم من المكانة التي حصلت عليها الادارة في البصرة ، الا ان ذلك لا يؤكد ان اهالي البصرة كانوا على وداد دائم مع النظام الاداري ، فقد تعرضت العامة فيها لظلم محمد بن سليمان ، فذهبوا الى ابي سعيد الضبي ، وكلموه قي امرهم فانتظر سعيد الضبي الى يوم الجمعة ، وهو يوم محمد بن سليمان للعامة في جامع البصرة ، فما ان بدأ لخطبته في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والاحسان ، والعدل حتى تعرض له سعيد قائلاًً له (( يا ابن سليمان لم تقولون ما لا تفعلون ؟ يا ابن سليمان ليس بينك وبين ان تتمنى ، انك لم تخلق الا ان يدخل ملك الموت من باب بيتك ، فخنقته العبرة ولم يتكلم ، فقام اخوه جعفر الى جانب المنبر فتكلم عنه ، فأحبه النساك ، حين خنقته العبرة ، وقالوا مؤمن مذنب ))(2) لكن وبشكل عام كانت علاقة ولاه البصرة بالعامة حسنة لما قدموه من اعمال جليلة لأهاليها .

**************************************************************
(1) المصدر نفسه ، ق 3 ص 90 .
(2) الصفدي ، المصدر السابق ، ج 3 ص 122 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 175 ـ

ثالثاً : علاقة قضاة البصرة بالخلافة

   يعد القضاء من اهم مسؤوليات الخليفة تجاه العامة بوصف الخلافة هي (( حراسة الدين وسياسة الدنيا )) (1) لذا كانت توجيهات من قبل الخليفة للقاضي قبل التعيين ، وعلى الاكثر توجيه مكتوب ، يتضمن القواعد العامة للقضاء ، واحكام مهمة و مبادئ عامة . . . الخ من التنظيمات الاساسية فقد بعث الخليفة المنصور بتوجيهات الى عبيد الله ابن الحسن العنبري عند توليه قضاء البصرة واشار اليه في كتابه الى أهم القواعد والاحكام التي يجب ان يتبعها القاضي في حكمه بين الناس ، وهذا ما جاء في الكتاب (( اني قلدتك مما قلدني الله طوقاً ، فاغلقت في عنقك طرفه ، وأبقيت في عنقي ربقته ، واني لم آل جهداً اذ وليتك ، لما ظهر لي منك ، من حسن فعلك وعلى الله اصلاح باطنك لا اعلم الغيب فلا اخطئ ولا ادعي معرفة ما لم يعلمني ربي ، فاتق الله ، واطعني اذا لم اعد بطاعتي من فوقي ، ولا يحملنك خوفي ، واتباع محبتي ، على ان تطيعني في معصية ربي فأني لا اغني عنك من الله شيئاً ، ولا تغنيه عني انك حجاب بين الله و بيني ، وامانة مني على رعيتي ، قلدتك احكامهم ان كنت إمامهم ، فلا يعدلن الحق عندك شيء ، ولا يكونن احد اكرم عليك من نفسك ، سلط الله عليها عزمك ، قبل تسلطها عليك في حكمك ، قد ابلغتك ، وما بلغني الا الجهد )) (2) .
   لذا كان للقاضي الشروع في مشاورة الخليفة في اي امر ما لإلتماس الحقيقة ، ومن ثم يترك له الخيار في الحكم ، فالقاضي

**************************************************************
(1) الماوردي ، الاحكام السلطانية ، ص 5 .
(2) وكيع ، المصدر السايق ج 2 ص 91 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 176 ـ

سوار بن عبد الله كان كثير الاتصال بالخليفة ، ويخيره بالتفاصيل التي مرت عليه كافة ، وقد اكد ذلك بقوله : (( ما تركت في نفسي شيئاً الا كلمت به ابا جعفر )) (1) ، والقى عبيد الله بن الحسن العنبري بحث الى الخليفة المهدي اشخاصاً جاؤا اليه بشكوى فارسلهم القاضي الى الخليفة ينظر في امرهم ، ويرسل الى القاضي بخبرهم ، عندما استعصى على القاضي حل مشكلتهم ، فبعث المهدي اليه كتاباً يوضح فيه ما يجب اتباعه لحل ذلك النزاع (2) .
   يتضح من ذلك ان مساندة الخليفة للقاضي لم تقتصر على ازداء النصائح فقط ، بل شملت في بعض الاحيان دراسة الخليفة للحالة المقدمة للقاضي ، والتي استعصيت عليه ، بوجود خلفاء لدى الخليفة على الاكثر يساعدونه على إعطاء الحلول المناسبة للخصومة المقدمة اليه .
   وكان الخلفاء حريصين على اجراء العدل في دولتهم بين الرعية لذا كانوا شديدي الاهتمام بأمور القضاء ، والبحث عن سيرهم في المجتمع ، فلا يقبل ظلماً على احد ، ولا يغفر لهم عوجاجاً او اسرافاً الا كان عن خطأ ، فأن اسرف القضاة عن عمد في قضاياهم ارسل الخليفة يستدعيهم الى بغداد ليحاسبم اذا ورد اليه عنهم ما يخل بالمصلحة العامة ، فقد استدعى المنصور القاضي سوار بن عبد الله عندما وصلت اليه انباء تفيد بأنه يحابي الناس في عمله ، فأستدعاه المنصور ليرى مدى صحة ذلك ، فما ان دخل سوار مجلس الخليفة (( . . . حتى عطس المنصور فلم يشمته سوار ، فقال : ما يمنعك من التشميت ؟ قال

**************************************************************
(1) وكيع ، المصدر السابق ، ج 2 ص 62 .
(2) المصدر نفسه ، 2 ص 39 ـ 94 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 177 ـ

لانك لم تحمد الله ، فقال قد حمدت الله في نفسي ، قال : شمتك في نفسي ، قال : ارجع الى عملك فأنك ان لم تحابني لم تحابي غيري ))(1) .
   ولحرص الخلفاء على ضبط الامن وضمان العدالة للرعية ، فقد كان هناك للخلفاء من يراقبون عمل القضاة وينقلون اليه اخبارهم ، وما ورد عليهم فإن ظلم احد الرعية كان الخليفة على علم بذلك ومن ثم استدعاه لمحاسبته ، فقد ورد في المصادر انه كان للخليفة (( صاحب الخبر )) يحضر مجلس القضاء ويطلع على ما يجري هناك من احداث ، ثم يخبر الخليفة بما حدث في المجلس ، فقد ارسل الخليفة المهدي كتاباً الى عبيد الله بن الحسن ، يأمره فيه بالحكم بالبينة على اثنين من المتخاصمين ، ولما شعر احد المتخاصمين بأن القاضي عبيد الله بن الحسن مستاء منه ذهب ، واحضر صاحب خبر الخليفة الى مجلس القاضي ، وقال للقاضي ، (( اقرأ كتاب امير المؤمنين فهذا صاحب خبره ، وهؤلاء وجوه المصر . . . )) (2) ، وبذلك يضمن المتخاصمين ورود مشاكلهم الى مسامع الخليفة في حالة عدم انصافهم من جانب القاضي فإن شعر الخليفة بإن القاضي قد اخفق في حكمه اصدر امراً باعادة النظر في القضية ودراستها من جديد من أجل ضمان العدالة في المجتمع ، فقد ارسل الخليفة المهدي إلى قاضي البصرة عبيد الله بن الحسن العنبري ، كتاباً أمره فيه باعادة نظره في قضية قد سبق وأن حكم فيها ، لكون الخليفة شعر بأن القاضي قد حكم بغير حق فيها ، وهذا ما جاء في الكتاب (( . . . والله الذي لا اله الا هو لتجلسن في مجلس الحكم ، ولتجمعن عليك الناس ثم لتخبرني ، إنك خالفت

**************************************************************
(1) السيوطي ، تاريخ الخلفاء ، ص 265 - 266 .
(2) وكيع ، المصدر السابق ، ج 2 ص 94 .


البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 178 ـ

الحق ، وحكمت بغيره على محمد بن سليمان (*) ، ولتردن قضاءك )) (1) .
   وبذلك اهتم الخلفاء بهذه المؤسسة لكونها تخدم الرعية وتحافظ على اركان الملك بنشر العدل ، والأمان بين الناس .
   كما اهتم الخلفاء بشخصية القاضي ، ونزاهته وسيرته الحسنة والعلم بالكتاب والسنة ، والاجتهاد لذا لم يهتم الخلفاء بمدى عمر القاضي المراد تعيينه ، فقد عين ابو جعفر المنصور القاضي سوار بن عبد الله ، وعمره سبعة عشر سنة (2) ، وعين الرشيد القاضي عمر بن حبيب العدوي على البصرة على الرغم من كونه اصغر الوافدين عليه لاختيار قاضياً للبصرة ، الاّ ان اعجاب الرشيد بثقافته وحفظه للاحاديث النبوية والسير ولباقته في الكلام ، رجحت كفته على بقية الوافدين للخليفة ، فعينه قاضياً على البصرة (3) ، وعين المأمون القاضي يحيى بن اكثم على قضاء البصرة ، وهو في سن مبكرة ، اذ قيل ان عمره كان عشرين سنة ، وذلك في عام ( 202 هـ \ 817 م ) (4) .
   ولم تكن هناك سنن محددة لعمل القاضي بل قد تتجاوز اعمار بعض القضاة الحد المطلوب ، ولا يقدم الخليفة بعزله ما دام يتمتع بصحة جيدة وعقلية سليمة ، فكان يباشر عمله ولا داعي لعزله ما دام قادراً على اداء عمله ، فقاضي البصرة خالد بن طليق استمر في عمله على قضاء البصرة ، على الرغم من كبر سنه

**************************************************************
(*) ليس المقصود هنا محمد بن سليمان والي البصرة ، بل المقصود في هذه الرواية احد التخاصمين من اهل البصرة ، وهو محمد بن سليمان النوفلي ، انظر : وكيع ، المصدر السابق ، ج 2 ص 93 .
(1) المصدر نفسه ، ج 2 ص 94 ـ 95 .
(2) ابن خياط العصفري ، الطبات ، ص 221 . الخطيب البغدادي ، المصدر السابق ، ج 9 ص 210 .
(3) التنوخي ، المصدر السابق ، ج 6 ص 177 ـ 179 .
(4) وكيع ، المصدر السابق ، ج 2 ص 148 . الخطيب البغدادي ، المصدر السابق ، ج 2 ص 288 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 179 ـ

وسوء بصره (1) ، اما القاضي معاذ بن معاذ فعلى الرغم من عدم مقدرته على الوقوف وكبر سنه وسوء بصره ، فقد استمر على القضاء زمناً طويلاً ما يقارب عقد من الزمان ( 181 - 191 هـ \ 797 - 806 م ) (2) .
   ومثلما حرص الخلفاء على الاهتمام بالعدالة بين الناس ، فقد حرص قضاة البصرة ايضاً على نشر العدل والامان بين الرعية ، حتى وان كان الخصم هو الخليفة نفسه فمن الامور التي تؤكد على عدالة القضاة مواقفهم من القضايا التي تكون على مساس مع السلطة فقد (( كتب ابو جعفر امير المؤمنين الى سوار في شيء كان عنده خلاف الحق فلم ينفذ سوار كتابه ، وامضى الحكم عليه ، فأغتاظ امير المؤمنين عليه وتوعده ، فقيل له يا امير المؤمنين انما عدل سوار مضاف اليك وتزيين خلافتك ، فأمسك )) (3) .
   ان هذه الواقعة تدل على نزاهة القضاة واستقلال السلطة القضائية عن السلطة السياسية حتى وان كان الخصم هو الخليفة نفسه فقد (( روي ان المهدي امير المؤمنين ، محمد بن منصور ، تقدم مع خصوم له وهو امير المؤمنين الى قاضي البصرة ، عبيد الله بن الحسن العنبري ، فلما رآه القاضي اطرق الى الارض حتى جلس المهدي مع خصومه مجلس المتخاصمين فلما انقضت الحكومة بينهم ، قام القاضي فوقف بين يديه ، فقال المهدي : والله لو قمت حين دخلت اليك لعزلتك ولو لم تقم حين انقضى الحكم لعزلتك . . . )) (4) .

**************************************************************
(1) ابن تعزي بردى ، الصدر السابق ، ج 2 ص 317 .
(2) وكيع ، المصدر السابق ، ج 2 ص 129 .
(3) المصدر نفسه ، ج 2 ص 60 .
(4) الماوردي ، ادب القاضي ، ج 1 ص 111 . ابن ابي الدم ، اسحق ابراهيم بن عبد الله ، ادب القاضي ، تح محمد الرخيلي ، دمشق ، ص 85 ـ 86 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 180 ـ

   فقد كانت العدالة محور القضاء ، وهي أساس حكمهم لذلك لم يكونوا يلينون في احكامهم حتى ولو تدخل الخليفة نفسه وما يدل على عدالة قضاة البصرة ما ذكره السيوطي (1) : (( كتب المنصور الى سوار بن عبد الله قاضي البصرة : انظر الارض التي تخاصم فيها فلان القائد وفلان التاجر فادفعهما الى القائد ، فكتب اليه سوار : والله الذي لا اله الا هو لا اخرجتها من يد التاجر إلا بحق ، فلما جاء الكتاب قال : ملأتها والله عدلاً ، وصار قضاتي تردني الى الحق )) .
   نستدل من ذلك إن كلاً من الخليفة القاضي قد ساهما في خدمة الرعية ، في الحفاظ على مصالحهم وحياتهم ونشر العدالة بين المجتمع وامتدت مساهماتهم في الحفاظ على أمن الدولة والنظام المركزي فيها ، ولبعض القضاة مواقف اشاد بها الخلفاء واثنوا عليها ، فقد اسهم القاضي سوار بن عبد الله في القضاء على حركة الزنج التي ظهرت في البصرة في عهد الخليفة ابي جعفر المنصور ، عندما جمع اشراف البصرة وذهب لملاقاتهم وقتل العديد منهم وقضى بذلك على تلك الحركة فأستحسن الخليفة ذلك (2) .
   وفي حركة ابراهيم بن عبد الله عام ( 145 هـ \ 762 م ) في البصرة اعلن سوار بن عبد الله عن اعتزاله القضاء ، ولزم بيته (3) ، ويبدو ان قوة هذه الحركة ، واختلافها عن بقية الحركات ، حالت دون تدخل سوار ففضل الإعتزال عن القضاء.

**************************************************************
(1) تاريخ الخلفاء ، ص 265 ـ 266 .
(2) وكيع ، المصدر السابق ، ج 2 ص 60 ـ 61 .
(3) البلاذري ، انساب الاشراف ، ص 124 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 181 ـ

   أما في حركة ابي السريا (*) عام 199 هـ ، وعندما استولى العباس بن محمد بن عيسى على البصرة اعتزل قاضيها محمد بن عبد الله الانصاري القضاء ، ولزم بيته ، ولم يخرج للناس ، لذا اجبر العباس بن محمد القاضي عبيد الله بن محمد بن حفص على الخروج والقضاء بين الناس فخرج عبيد الله بن محمد وصلى في مجلس القضاء ، ثم خرج من المجلس على ان يعود لكنه اختفى بعد ذلك عن الانظار ، ولم يعد ليزاول مهنة القضاء (1) ، وبذلك اعرب قضاة البصرة عن رفضهم لأي حركة معارضة للسلطة المركزية ، وهذا يدل على ان للقضاة دوراً كبيراً في الحياة السياسية شأنه شأن دورهم في الحياة العامة وحل مشاكل الناس .

**************************************************************
(*) ذكر محقق كتاب وكيع بأن هذه الحركة هي حركة المبيضة وهي فرقة من فرق الزنادقة اصحاب المقنع الخراساني ، انظر : هامش وكيع ، المصدر السابق ، ج 2 ص 158 ، والحقيقة ان هذه الحركة التي ظهرت في عام ( 199 هـ \ 814 ) في الكوفة والتي امتدت الى البصرة هي حركة ابي السرايا الطالبي وهي حركة علوية وليس لها علاقة باصحاب المقنع الخراساني ، انظر : الفصل الثاني ( حركة ابي السرايا الطالبي ) .
(1) وكيع ، المصدر السابق ، ج 2 ص 158 .