البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 78 ـ

ثالثاً : حركة عبد الله بن علي (*) ( 137 ـ 139 هـ / 754 ـ 756 م )

   على الرغم من ان هذه الحركة التي اعلن فيها عبد الله بن علي عصيانه على المنصور متذرعاً بأحقيته بالخلافة (1) ، لم تؤثر بصورة مباشرة على البصرة ، لكونها بدأت في الشام وانتهت في اعالي الفرات بعد القضاء عليها من قبل القوات التي ارسلها الخليفة ابو جعفر المنصور في معركة نصيرين (2) ، الا ان لهذه الحركة تأثير خاص انتقل الى البصرة بعد هروب عبد الله بن علي اليها في عام ( 137 هـ / 754 م ) .
   استطاع عبد الله بن علي من اصطحاب عائلته ومواليه الى البصرة ، والاختباء فيها عند اخيه والي البصرة سليمان بن علي الذي كان يشعر بالتعاطف مع اخيه اذ تذكر المصادر انه آوى عبد الله واتباعه في البصرة دون اشعار الخليفة بذلك (3) ، لذا كان على سليمان ان يعمل جاهداً للمحافظة على النظام

**************************************************************
(*) هو عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي ، عم ابي العباس والمنصور ، يعد من القادة المشهورين استطاع هزيمة مروان بن محمد آخر خلفاء بني امية في معركة الرا ، ثم استمر في ملاحقته وقلته على يد اخيه عبد الصمد بن علي ، ثم عين بعدها اميراً على الشام من قبل ابي العباس ، انظر : البلاذري ، انساب الاشراف ، ق 3 ص 103 ـ 104 . الطبري ، المصدر السابق ، ج 7 ص 474 . الخطيب البغدادي ، المصدر السابق ، ج 7 ص 8 .
(1) عن ادعاء عبد الله بن علي بأن ابي العباس قد وعد بالخلافة بعده ، لقتله مروان بن محمد ، انظر : اليعقوبي ، التاريخ ، ج 3 ص 104 . البلاذري ، انساب الاشراف ، ق 3 ص 105 . الطبري ، المصدر السابق ، ج 7 ص 474 .
(2) للأطلاع عن تفاصيل المعركة ، انظر : اليعقوبي ، التاريخ ، ج 3 ص 108 . البلاذري ، انساب الاشراف ، ق 3 ص 106 فما فوق . الطبري ، المصدر السابق ، ج 7 ص 476 .
(3) الطبري ، المصدر السابق ، ج 7 ص 479 . ابن الاثير ، المصدر السابق ، ج 5 ص 468 . للتفصيلات ينظر : العاني ، المرجع السابق ، ص 101 ـ 162 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 79 ـ

المركزي من ناحية ، ومساعدة اخيه من ناحية اخرى فكان عليه تقديم الولاء والطاعة للخلافة وحل الازمة التي كانت تمس آل سليمان بشكل خاص .
   بقي عبد الله بن علي ما يقارب السنتين ( 137 ـ 139 هـ / 754 ـ 756 م ) ، رغم مبايعته للمنصور بالخلافة وهو في البصرة في عام ( 138 هـ / 755 م )(1) ، اذ شعر ان الخليفة كان يسعى للخلاص منه ، بعد ان اورد المنصور شرطاً لمنحه الامان وهو رؤيته قبل اعطاءه الامان(2) .
   والسؤال هنا ما هي تحركات عبد الله اثناء وجوده في البصرة وما هو موقف الاهالي من تواجده معهم ؟
   من الواضح خلال هذه الحقبة ان عبد الله بن علي تمكن من الحصول على مكانة لدى ابناء البصرة ، فهو شقيق واليهم المحبوب سليمان بن علي ، الذي استمر على ولايتهم ما يقارب الستة سنوات ( 133 ـ 139 هـ / 750 ـ 756 م ) ، والذي كان يحضى بأعجاب البصريين نتيجة لما قدمه من اعمال جليلة ومشاريع عمرانية مثمرة وناجحة لهم(3) .
   لذا كانت هذه الاسرة العباسية محبوبة لدى ابناء البصرة ، وعليه حاول عبد الله بن علي استغلال جهود اخيه فيها وتكريسها لصالحه ، فقد حاول عبد الله التقرب الى اهالي البصرة عن طريق مجالسه ففقهائها والتحدث معهم ، وحضور حلقاتهم النقاشية ومن اهمها حلقة عبد الله بن يحيى الرقاشي في البصرة(4) ،

**************************************************************
(1) الطبري ، المصدر السابق ، ج 7 ص 497 . ابن الاثير ، المصدر السابق ، ج 5 ص 11 .
(2) البلاذري ، انساب الاشراف ، ق 3 ص 111 .
(3) انظر : الفصل الرابع ( العلاقات ) .
(4) البلاذري ، انساب الاشراف ، ق 3 ص 111 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 80 ـ

فضلاً ملازمته لأخيه في مواصلة الناس ، ومشاركتهم في احزانهم في حضور الجنائز في البصرة فقد حمل عبد الله بن علي جنازة احد فقهاء البصرة وهو يونس بن عبيد(*) على كتفه مع اخيه سليمان وابناء محمد وجعفر ، وكان عبد الله يقول اثناء حمله للجنازة هذا والله شرف(1) .
   كما ذكر البلاذري ان عبد الله بن علي كان يجمع الناس عند الصلاة في البصرة(2) .
   ومن الواضح ان تقرب عبد الله من الفقهاء في البصرة كان بسبب مكانتهم الكبيرة بين العامة .
   وقد تكللت جهوده هذه بعد مدة من مقامه فيها ، اذ اعلن بعض اهالي البصرة عن استعدادهم لمبايعة عبد الله بن علي بالخلافة وكان السبب في ذلك ان المنصور اراد ان يتخذ مزارع في البطيحة ، فضج الناس من ذلك خوفاً على مائهم من الملوحة بعد ان كان اهالي البصرة تستعذب الماء منه ،

**************************************************************
(*) يونس بن عبيد ، ابا عبد الله موالي لعبد قيس ، وكان ثقة ، كثير الحديث ، توفي في سنة ( 139 هـ / 756 م ) ، ابن سعد ، المصدر السابق ، ج 7 ص 27 .
(1) المصدر نفسه والصفحة .
(2) انساب الاشراف ، ق 3 ص 111 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 81 ـ

فاجتمع بعض الناس في البصرة قرب الدار التي يسكنها عبد الله بن علي ، وطالبوه بالخروج لمبايعته بالخلافة ، لكن سليمان سارع في تفريق الجموع وتشتيتهم(1) .
   ويبدو ان سبب قيام سليمان بتفريق الجموع البصرية المتجمعة لمبايعة عبد الله ، هي على ما يبدو شعوره بخطورة الموقف المتأزم من جراء ذلك لا سيما وان المفاوضات التي اجراها مع الخليفة باءت بالفشل فأن قيام اي حركة في البصرة قد تفهم ان لسليمان نصيباً فيها ، كذلك انه والي البصرة فأن تهاونه ازاء هذه الحركة يعد خرقاً على السلطة المركزية لذا عمل على تجنب غضب الخلافة .
   وعلى الرغم من ان سليمان قد حد من توسع هذه الحادثة الا اننا لا يمكن ان نغفل عن وجود عيون للمنصور في البصرة او صاحب بريد نقل هذه الحادثة الى الخليفة ، والذي يسعف هذا الاستنتاج هو ان المنصور طوال السنين من اقامة عبد الله بن علي في البصرة لم يطلب من سليمان تقديم اخوه ، لكننا نرى ولأول مرة وبعد الحادثة مباشرة ، يصمم الخليفة على القبض على عبد الله في البصرة ، فقد اتخذ الخليفة قراراً مفاجئاً حول مصير عبد الله ووجوده في هذه المدينة ،اذ طالب الخليفة سليمان بتسليم اخيه الى مبعوثه سليمان بن مجالد ، لكن سليمان رفض تسليمه قائلاً ( قد جعلت له عهد الله ان اتوثق له )(2) .
   وازاء ذلك لم يكن امام الخليفة من بد سوى استعمال القوة في اجبار اخويه سليمان وعيسى بن علي ، وكان الاخير قد ايد سليمان في حماية اخيه ، على اخراج عبد الله من البصرة ،

**************************************************************
(1) البلاذري ، فتوح ، ج 2 ص 457 . انظر التفصيلات : العاني ، المرجع السابق ، ص 46 فما فوق ،
(2) البلاذري ، انساب الاشراف ، ق 3 ص 111 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 82 ـ

والقاء القبض عليه ، خاصة وان جميع الحلول السليمة قد باءت بالفشل لذا شعر الخليفة ان وقت تدخله قد حان ، وعليه قام الخليفة بوضع الاستعدادات كافة لتطويق البصرة ، ووضعها تحت سيطرته ، فأرسل المنصور سليمان بن مجالد على بريد البصرة واخبارهم ، ووجه روح بن حاتم الى البصرة مع اربعة آلاف مقاتل من اهل البأس والنجدة والطاعة ، واظهر انه ولاه عمان ونواحيها كما بعث قائده ابا الاسد بن المرزبان للاقامة على آخر البطيحة ، واتخذ معسكراً لقواته هناك(1) .
   ان هذا الاستعداد المكثف الذي قام به الخليفة له دليل على مدى خطورة الموقف الذي شعر به الخليفة من آل سليمان كما يظهر ايضاً نوع الاجراء الذي كان يظمره الخليفة نحو سليمان ، وهو عزله من ولاية البصرة عام ( 139 هـ / 756 م ) ، وتعيين سفيان بن معاوية بدلاً عنه(2) .
   ان هذا الامر الاداري الذي اتخذه المنصور بحق سليمان ، كان بمثابة تهديد خطير لحياة عبد الله في البصرة ، بعد زوال حماية اخيه له ، لذلك خشي على نفسه هو واتباعه من قبض الخليفة عليهم ، فتوارى عن الانظار ، لكن ما ان شعر الخليفة بأختفاءه حتى ارسل الى والي البصرة المعزول سليمان وحثه على اظهار

**************************************************************
(1) البلاذري ، انساب الاشراف ، ق 3 ص 111 .
(2) الطبري ، المصدر السابق ، ج 7 ص 501 . مجهول ، العيون والحدائق ، ج 3 ص 226 . العاني ، المرجع السابق ، ص 146 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 83 ـ

اخيه(1) ، ويبدو ان المنصور خشى من اختباء عبد الله ان يكون وراءه حركة اخرى جديدة ، لذا اعرب عن استعداده لأعطاءه الامان المناسب له(2) .
   ففكر عيسى بن علي بصيغة امان تجعل الخليفة يفي بوعده ولا يتراجع عنه ، لذا كلف كاتبه عبد الله بن المقفع بكتابة نص الامان ، الذي كان من اسباب مقتله فيما بعد ، وطلب منه في كتابه ان يحترز من كل تأويل حتى لا يجد المنصور منفذاً للاخلاء بعهده(3) ، وقد وصف هذا النص فيما بعد بأنه كان شديد اللهجة على الخليفة مما اثار غضبه ، ويقال اشد مااغاض المنصور هو هذا النص ( ومتى غدر امير المؤمنين بعمه عبد الله فنساؤه طوالق ، ودوابه حبس ، وعبيده احرار ، والمسلمون في حل من بيعته )(4) .
   لكن الخليفة وافق على ما ورد في كتاب الامان ، من اجل الانتهاء من عبد الله نهائياً ، واشترط لنفاذ الامان رؤيته لعمه قائلاً ( هذا الامان نافذ ان رأيت عبد الله )(5) ، وبذلك وضع المنصور شرطاً للاخلال بعهد الامان .

**************************************************************
(1) الطبري ، المصدر السابق ، ج 7 ص 501 . مجهول ، العيون والحدائق ، ج 3 ص 236 .
(2) المصدر نفسه والصفحة .
(3) ابن اعثم : احمد بن اعثم الكوفي ، كتاب الفتوح ، نشورات دائرة المعارف العثمانية ، ط 1 ، 1395 هـ / 1975 م ، ج 8 ص 214 .
(4) الازدي ، المصدر السابق ، ص 178 ـ 180 .
(5) البلاذري ، انساب الاشراف ، ق 3 ص 112 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 84 ـ

   ومن اجل الاسراع في اخراج عبد الله من البصرة ، كتب المنصور الى سفيان بن معاوية واليه الجديد يحثة على اجبار سليمان وعيسى بن علي على اخراج عبد الله وتسليمه اليه ، لذا اخذ سفيان يعمل على ازعاجهما ، فقرروا الخروج من البصرة والذهاب الى الخليفة(1) .
   ويبدو ان المنصور خشي من هروب عبد الله مجدداً ، وعدم حضوره اليه ، لذلك ارسل معهم قائداً من قواد سفيان ، وهو عقبة بن عازب على رأس الف مقاتل ، اخذهم من البصرة الى واسط ثم قام والي واسط بتسليمهم الى قائد المنصور ابا الاسد المرابط في البطيحة ، الذي اخذ بدوره الى الكوفة حيث مقر الخليفة(2) ، وهناك التقى بسليمان وعيسى بن علي ، بينما امر اتباعه بحبس عبد الله بن علي في مكان تم تحضيره لحبسه فيه(3) ، فحاولا اخويه التوسط لأخراجه ، لكن الخليفة رفض الاستماع اليهما قائلاً ( اقسمت عليكما لما تكلموني فيه فأنه اراد ان يفسد علينا امرنا )(4) ، فعلم سليمان انه لا امل لأطلاق سراح اخيه لذا غادر الكوفة ورجع الى البصرة الى ان توفي في عام ( 142 هـ / 760 م )(5) .
   اما عبد الله بن علي فقد بقي في حبسه ما يقارب التسع سنوات توفي بعدها على اثر سقوط الدار الذي حجز فيه عليه(6) .

**************************************************************
(1) الطبري ، المصدر السابق ، ج 7 ص 501 .
(2) البلاذري ، انساب الاشراف ، ق 3 ص 111 ـ 112 .
(3) مجهول ، العيون والحدائق ، ج 3 ص 236 ـ 237 .
(4) البلاذري ، انساب الاشراف ، ق 3 ص 112 .
(5) ابن كثير ، المصدر السابق ، ج 5 ص 497 .
(6) الازدي ، المصدر السابق ، ص 170 . الذهبي ، تاريخ الاسلام ، ج 6 ص 89 ـ 90 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 85 ـ

رابعاً : حركة ابي السرايا(*) واثرها على البصرة ( 199 ـ 200 هـ / 814 ـ 815 م )

   تعد حركة ابي السرايا من اخطر الحركات التي جابهتها الخلافة العباسية في زمن الخليفة المأمون ، لا سيما وانها ظهرت بعد الصراع بين الامين والمأمون في عام ( 198 هـ / 813 م ) واضطراب الاوضاع في العراق من جرائها ، فأستغل ابو السرايا بقاء المأمون في مرو ، وتذمر الناس على غلبة السهل عليه .
   وعلى الرغم من قيام هذه الحركة في الكوفة الا ان ظلالها امتدت الى البصرة ، التي عانت لمدة سنة كاملة من جراء هذه الحركة ، فقد اعلن ابو السرايا وقوفه المطلق الى جانب محمد بن ابراهيم بن طباطبا ، وتأييده الكامل له ، وفشلت جهود وزير المأمون الحسن بن سهل للقظاء عليه ، وبذلك تمكن ابو السرايا من توطيد دعائم حركته ، وفي هذه الاثناء توفي ابن طباطبا على اثر مرض اصابه ، فرشح ابو السرايا محمد بن محمد بن زيد(**) ليكون القائم الجديد بالحركة(1) ، وبعد اخذ البيعة له ، فرق رجاله على الامصار ، فأرسلهم الى البصرة ، المدينة ، الاحواز وواسط ،

**************************************************************
(*) هو السري بن منصور ، من ولد هاني بن قبيصة بن مسعود بن عامر بن عمرو الشيباني ، حارب الى جانب الامين في جيش احمد بن مزيد ، ثم التحق بجيش المأمون ، بعد ان نجح في استمالته اليه ، وبعد انتهاء الصراع وانتصار المأمون ، غادر البو السرايا جيش هرثمة بسبب نقص هرثمة لأرزاقه وارزاق اصحابه واستولى على عامل عين تمر ، واخيراً سار الى الرقة حيث كان التقاؤه مع ابن طباطبا ، حيث تولى قيادة جنده ، لمزيد من الاطلاع انظر : ابن قتيبة ، المعارف ، ص 169 . اليعقوبي ، التاريخ ، ج 3 ص 173 . الطبري ، المصدر السابق ، ج 8 ص 528 ـ 530 . رفاعي ، احمد مزيد ، عصر المأمون ، مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة ، ط 4 ، 1928 ، ص 260 ـ 262 . فوزي ، تاريخ العراق ، ص 148 ـ 153 .
(1) المصادر نفسها .
(**) هو محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب ( ع ) ، انظر : الاصفهاني ، مقاتل الطالبيين ، ص 343 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 86 ـ

فكان على البصرة العباس بن محمد بن عيسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن ابي طالب (ع)(1) ، الذي استطاع من دخول البصرة في عام ( 199 هـ / 815 م ) .
   وقد اختلف المؤرخون في كيفية استيلاءه ، فيذكر ابن خياط ان مدينة البصرة قد ( صارت اليهم بغير قتال )(2) ، اما ابن كثير فانه يرى عكس ذلك بقوله ( ثم بعث ابو السرايا جيوشه الى البصرة وواسط والمدائن فهزموا من فيها من نواب ودخلوها قهراً )(3) وعلى الارجح ان رواية ابن خياط كانت اكثر دقة ، لأن المصادر لم تذكر وجود اي مقاومة لأبي السرايا عدا هذا المصدر ، كما ان الاوضاع في العراق كانت مضطربة بعد انتهاء الصراع ومساندة العراق للامين ، الذي هزم على يد اخيه المأمون ، جعلت من الادارة في العراق غير مستقرة ، لا سيما بعد وضع الادارة في العراق تحت سيطرة الحسن بن سهل(4) ، وبقاء المأمون في مرو ، لذلك لم يكن هناك ولاة اقوياء يستطيعون الوقوف بوجه قوات ابي السرايا ، وما يدل على ذلك سرعة استيلاء ابي السرايا على الامصار في العراق وخارجها .
   لم تستقر البصرة نهائياً للعباس بن محمد ، اذ اثناء تولية ابي السرايا لزيد بن موسى(*) على الاحواز ، قام زيد هذا بتغيير طريقه ، وانحدر نحو البصرة ، وقام بالأستيلاء عليها وضمها اليه مع الاحواز .

**************************************************************
(1) خليفة بن خياط ، التاريخ ، ص 506 . ابن حزم ، المصدر السابق ، ص 59 .
(2) المصدر نفسه والصفحة ،
(3) ابن كثير ، المصدر السابق ، ج 10 ص 244 .
(4) الطبري ، المصدر السابق ، ج 8 ص 527 .
(*) هو زيد بن موسى بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب ( ع ) ، انظر : ابن حزم ، المصدر السابق ، ص 61 ـ 64 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 87 ـ

   وقد عرف زيد بن موسى ( بزيد النار ) وقد سمي بهذا اللقب ( لكثرة ما حرق من دور بالبصرة من دور بني العباس ، واتباعهم ، وكان اذا اتى برجل من المسودة كانت عقوبته بأن يحرق بالنار وانتهبوا بالبصرة اموالاً )(1) .
   وخلال هذه الحقبة ، وكمحاولة للخلافة العباسية باسترجاع المدن التي وقعت تحت سيطرة ابي السرايا ارسل الحسن بن سهل ، قائده علي بن ابي سعيد الى البصرة لأسترجاعها في عام ( 199 هـ / 815 م ) ، بعد ان تمكن من استرداد واسط والمدائن ، لكنه فشل في دخول البصرة فبقيت في سيطرة زيد بن موسى حتى انتهاء هذا العام(2) .
   وقد كانت المعلومات قليلة فيما يتعلق بأوضاع البصرة ، اثناء وجود زيد بن موسى فيها ، لكن الملاحظ بأن هناك جو من الارهاب قد ساد البصرة في هذه الحقبة ، نتيجة للأعمال التي قام بها زيد من تعذيب وحرق ومصادرة الاموال ، حتى ان المأمون ارسل الى زيد اخيه الإمام الرضا ( ع ) ، ليكفه ويأنبه عن اعمال العنف التي مارسها في البصرة ، فأنب الإمام زيداً قائلاً له ( ويلك يا زيد فعلت بالمسلمين بالبصرة ما فعلت ، وتزعم انك ابن فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (3) .

**************************************************************
(1) الطبري ، المصدر السابق ، ج 8 ص 535 . ينظر : ابن الاثير ، المصدر السابق ، ج6 ص 310 . ابن مسكويه ، ابي علي احمد بن محمد بن يعقوب ، تجارب الامم ، ملحق بكتاب العيون والحدائق ، وكتبة المثنى ، بغداد ، ليدن ، بريل ، 1871 م ، ص 424 .
(2) الطبري ، المصدر السابق ، ج 8 ص 533 .
(3) ابن خلكان ، المصدر السابق ، ج 3 ص 271 ، ابن العماد الحنبلي ابو فلاح عبد الحسن بن احمد ، شذرات الذهب في اخبار من ذهب ، عن النسخة المحفوضة في دار الكتب المصرية ، القاهرة ، 1932 . ج 2 ص 6 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 88 ـ

   وفي عام ( 200 هـ / 815 م ) استطاع قائد المأمون علي بن ابي سعيد دخول البصرة ، بعد ان كان في قواته من ملاحقة ابي السرايا الذي فر من الكوفة بعد دخول هرثمة بن اعين اليها(1) ، لكن علي بن ابي سعيد لم يتمكن من القبض عليه ، فأنحدر الى البصرة واستطاع اقتحامها والقبض على زيد بن موسى ، وقيل انه طلب الامان منه فآمنه(2) .
   وبذلك استطاعت الخلافة العباسية من القضاء على هذه الحركة وارجاع البصرة اليها ، كما فعلت سابقاً بحركة ابراهيم بن عبد الله بن الحسين في عام ( 145 هـ / 762 م ) .

**************************************************************
(1) لمزيد من الاطلاع على هذه المعركة انظر : الطبري ، المصدر السابق ، ج 8 ص 530 .
(2) المصدر نفسه .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 89 ـ

خامساً : حــركــة الـــزط(*)
   تعرضت البصرة وضواحيها لخطر جديد اخذ يهدد مصالح اهلها التجارية ، وهذا الخطر تمثل بالزط ، ويظهر تأثير هذه الاقوام السيء على البصرة خاصة ، والعراق عامة ، عندما استوطنت هذه الاقوام منطقة البطائح(**) ، ولعبت هناك دوراً كبيراً في قطع خطوط الملاحة الداخلية للعراق بالسيطرة على الطريق التجاري بين البصرة وبغداد .
   اعتمد هؤلاء في معيشتهم في بداية امرهم بالقيام ببعض الاعمال اللصوصية ، وهي ترقب السفن القادمة من البصرة ، والمتجهة الى بغداد ، والتعرض لها ، واخذ ما يمكن اخذه من الشيء الطفيف(1) .

**************************************************************
(*) الزط : اصل هذه الاقوام هو بلاد السند احدى اقاليم الهند تحولت من موطنها الاصلي ، وانتقلت الى جنوب فارس ، بعد تعرضها للمجاعة والفقر الشديد ، وبعد مجيء الاسلام اسلم الزط وشاركوا في الانضمام للجيوش العربية المتأهبة لقتال الفرس ، ثم استقروا بعد ذلك في البطيحة عندما احضرهم الحجاج هم وعوائلهم وجواميسهم اسفل كسكر في البطائح ، ولم تكن اعدادهم كبيرة في بداية امرهم فأخذوا بالتناسل والتكاثر حتى غلبوا على البطيحة ، انظر : البلاذري ، فتوح ، ج 2 ص 358 ـ 359 . المسعودي ، التنبيه والاشراف ، ص 207 ، للاستزادة عن هذه الحركة ، انظر : النعيمي ، عماد اسماعيل ، السياسة الداخلية والخارجية للدولة العباسية في عهد اسحق المعتصم ، اطروحة ماجستير غير منشورة ، القاهرة ، 1979 ، ص 207 .
(**) سميت البطائح لأنبساطها على وجه الارض ، وهي مستنقعات واقعة في القسم الاسفل ، بين الفرات والكوفة ، وواسط شمالاً ، والبصرة جنوباً ، اليعقوبي ، البلدان ، ص 323 . ياقوت ، معجم البلدان ، ج 1 ص 450 ـ 451 . انظر : محسن ، ابراهيم جدوع ، امارة البطائح العربية ، رسالة ماجستير غير منشورة جامعة البصرة ، 1986 ، ص 24 ـ 25 .
(1) البلاذري ، فتوح ، 3 / ص 462 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 90 ـ

   ولكن على الرغم من قيامهم بأعمال السرقة هذه ، الا انها لم تكن ذات تأثير كبير على البصرة في بداية الامر ، لكن الخطر الحقيقي ظهر في اثناء ، وبعد انتهاء الصراع بين الامين واخيه المأمون الذي عم بالخصوص العراق ، فاستغل الزط سوء الاوضاع ، وعدم الاستقرار السياسي في المنطقة ، فقد اصبحت منطقة البطائح ، بفعل موقعها ملجئاً لأعداء السلطة المركزية ، بوصفها المنطقة الاكثر اماناً لهم ، فأنضم اليها الموالي من قبيلة باهلة ، وخولة محمد بن سليمان الوالي العباسي على البصرة(1) .
   ولم تسع الخلافة للحد من ذلك الانتشار بعد ظهور هذا التوسع في البطيحة ، ويبدو ذلك بسبب انشغال السلطة في قمع حركة ابي السرايا ( 199 هـ / 814 م ) ، لكن بعد استقرار الاوضاع في العراق ، بدأت التدابير العسكرية لمواجهة هذه الحركة ، فقد عهد الخليفة المأمون في عام ( 205 هـ / 826 م ) ، لقائده عيسى بن يزيد الجلودي ،(2) ، مهمة القضاء على هذه الحركة ، ثم عين بدلاً عنه داود بن ماسجور بعد ان ولاه اعمال البصرة ، وكور دجلة ، واليمامة ، والبحرين(3) ، ويبدو ان تعيين المأمون لداود بن ماسجور على البصرة واعمالها هو للحفاظ على خطوط التجارة العباسية ، من ان تتعرض لهجوم الزط لها .
   ويظهر ان محاولات الخليفة المأمون للقضاء على هذه الحركة لم تثمر بأي نجاح فتجار البصرة كانوا يغيرون مسالك طرقهم

**************************************************************
(1) البلاذري ، فتوح ، ج 2 ص 462.
(2) الطبري ، المصدر السابق ، ج 8 ص 580 .
(3) المصدر نفسه ، ج 8 ص 581 . الكامل ، ج 8 ص 379 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 91 ـ

اثناء المسير الى بغداد ، لتجنب الوقوع في ايدي الزط ومن ثم فقدانهم لتجارتهم ، كما ان البصرة لم ترسل بعد ذلك اي سفينة الى بغداد ، فانقطعت المؤن عنها(1) .
   وقد لاحظ العديد من المؤرخين تأثير هذه الحركة السيء على البصرة ، عندما اكدوا ان الزط ( قد عاثوا في طريق البصرة ، فقطعوا فيه الطريق ، واحتملوا الغلات من البيادر الى كسكر ، وما يليها من البصرة )(2) .
   فالبصرة كانت في تلط الحقبة موطن التجارة ، وكان اعتماد سكانها الاساسي على هذه المهنة ، ومن الطبيعي ان سيطرة الزط على هذه المواقع الحساسة في طرق التجارة الداخلية ، كان له تأثير سيء على سكانها ، لذا لم تتوقف محاولات الخلفاء للحد من هذه الحركة ، فبعد تولي المعتصم الخلافة ، كرس جل اهتمامه للقضاء على الزط ، فأرسل قائداً من قواده وهو احمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي لتولي هذه المهمة، لكنه لم يستطع القضاء عليهم(3) .
   وفي عام ( 219 هـ / 834 م ) ، عين الخليفة قائداً آخر وهو عجيف بن عنبسة بعد ان ضم اليه العديد من المقاتلين ، وجاز اليه استخدام الاموال لقمع هذه الحركة ،

**************************************************************
(1) البلاذري ، فتوح ، ج 2 ص 462 .
(2) الطبري ، المصدر السابق ، ج 9 ص 219 . المسعودي ، التنبيه والاشراف ، ص 207 .
(3) اليعقوبي ، التاريخ ، ج 3 ص 206 . الطبري ، المصدر السابق ، ج 9 ص 219 ـ 220 . ابن الاثير ، الكامل ، ج 6 ص 443 ـ 444 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 92 ـ

وبالفعل استطاع عجيف بن عنبسة القضاء نهائياً عليهم واسر العديد منهم بعد سبعة اشهر ، انتهت بمقتل قائدهم محمد بن عثمان ، وقام عجيف بأرسال الاسرى الى بغداد ، ومن ثم نقلهم نهائياً الى عين زربة(*)(1) للتخلص منهم ، وتلافى حدوث اي اضطرابات في المستقبل(2) .

**************************************************************
(1) المسعودي ، التنبيه والاشراف ، ص 208 .
(*) عين زربة : بلدة بالثغور قرب المصيصة ، انظر : البلاذري ، فتوح ، ج 2 ص 202 ـ 203 . ياقوت ، معجم البلدان ، ج 4 ص 177 .
(2) لمزيد من الاطلاع حول تدابير عجيف بن عنبسة للقضاء على هذه الحركة انظر : البلاذري ، فتوح ، ج 2 ص 462 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 93 ـ

اولاً : تحديد ولاية البصرة

   ان المعلومات التي توفرت لدينا تعطينا صورة واضحة عن حدود ولاية البصرة في العصر العباسي الاول ( 132 ـ 247 هـ / 749 ـ 861 م ) خاصة بعد التطورات التي حدثت في التقسيم الاداري للعراق بعد مجيء العباسيين بصورة عامة ، والبصرة بصورة خاصة ، والذي يرجع الى اهمية البصرة بحكم موقعها المطل على الخليج العربي والذي يكسبها اهمية كبيرة في السيطرة على الولايات التابعة للسلطة المركزية خصوصاً المناطق الواقعة على الخليج العربي كعمان والبحرين والاحواز ، مما ادى الى ان تمر حدودها بحقب من التقلص والتوسع ، وذلك تبعاً للتبدلات الادارية التي حدثت في المنطقة .
   وكانت التقسيمات التي استخدمت في العراق في صدر الاسلام هي التقسيمات نفسها التي كانت متبعة في زمن الساسانيين(1) ، حيث كان العراق مقسماً الى استانات عدة يتكون كل منها طساسيج عدة ، والذي يقسم بدوره الساتيق(*) ، ثم الى قرى وضياع ولم يكن الاشراف الاداري للبصرة واسعاً في زمن الخليفة عمر بن الخطاب (رض) ،

**************************************************************
(1) الراوي ، ثابت اسماعيل ، العراق في العصر الاموي ، مطبعة النعمان ، ط 2 ، بغداد ، 1970 ، ص 48 .
(*) الاستان والكورة واحد ، وينقسم الاستان الى الرساتيق ، وينقسم الرستاق الى الطساسيج ، لفظة فارسية اصلها تسو ، عربت بقلب التاء طاء وزيادة الجيم في اخرى واكثر ما تستعمل هذه اللفظة في سواد العراق ، وطسوج اقل من كورة ، وبذلك يكون الطسوج جزءاً من اجزاء الكورة ، انظر : ياقوت ، معجم البلدان ، ج 1 ص 38 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 94 ـ

لكن البصرة في خلافة عثمان بن عفان ( رض ) اصبحت تشرف على العديد من الكور ، وذلك بفضل فتوحات المسلمين في الشرق(1) .
   وعلى هذا النحو قسم العراق الى ولايتين لكل منهما الحرية في ادارة شؤونها ، واستمر هذا الوضع في العصر الاموي ، الى سنة ( 50 هـ / 670 م ) ،عندما جمع العراق لزياد بن ابيه من قبل معاوية بن ابي سفيان(2) .
   وبعد مجيء العباسيين ادخلوا تعديلات على الادارة في العراق ، وازدادت البصرة الادارية في هذا العصر بعد ان اصبحت مركز الدولة التجاري عبر الخليج العربي ، والمحيط الهندي ، لذا اتسعت دائرتها الادارية اتساعاً كبيراً فتم الحاق العديد من الولايات لأعمال البصرة ، ففي ولاية سليمان بن علي ( 133 ـ 139 هـ / 750 ـ 756 م ) ضمت الى البصرة(3) ، كلاً من كور دجلة والبحرين ، وعمان ، ومهرجان قذق(*) (4) ، وفي ولاية محمد بن سليمان توسعت حدود ولاية البصرة لتشمل كور دجلة والبحرين ، وعمان ، والغوص واليمامة ، وكور الاهوار ، وكور فارس ، وهذا لم يجمع لغيره(5) .

**************************************************************
(1) الراوي ، المرجع السابق ، ص 49 .
(2) اليعقوبي ، تاريخ ، ج 2 ص 218 .
(3) الطبري ، المصدر السابق ، ج 7 ص 448 . ابن خلدون ، التاريخ ، ج 30 ص 177 .
(*) كورة كبيرة ذات مدن وقرى في الجبال تقع يمين القاصد من حلوان العراق الى همدان في تلك الجبال ، ياقوت ، البلدان ، ج 5 ص 233 .
(4) البلاذري ، انساب الاشراف ، ص 89 .
(5) الخطيب البغدادي ، تاريخ بغداد ، ج 5 ص 291 . ابن الاثير ، المصدر نفسه ، ج 6 ص 49 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 95 ـ

   كما حدث ايضاً تغيير اداري في البصرة ، اذ اصبح والي البصرة لاحيان مسؤولاً فقط على البصرة ، وتعهد اعمال البصرة الى والي آخر ، الا ان تلك المناطق تكون باقية ضمن ادارة البصرة لها ، ففي ولاية روح بن حاتم المهبلي، ابقى صلاحياته على البصرة فقط ، واسندت اعمال البصرة في عام ( 166 هـ / 782 م )الى المعلى وهو مولى المهدي فضلاً عن كور دجلة ، وكسكر والبحرين ، وكور الاحواز ، وفارس ، وكرمان ،(1) ، وفي عام ( 167 هـ / 783 م ) اسندت ولاية البصرة لمحمد بن سليمان ، واعمال البصرة اسندت الى المعلى مولى المهدي(2) ، كما منح الخليفة المأمون اعمال البصرة الى ابن ابي عينية(*) ، فأصبح والياً على اليمامة والبحرين والغوص(3) .
   الا اننا لا نستطيع القول بأن الحدود الادارية للبصرة خلال العصر العباسي الاول ( 132 ـ 247 هـ / 749 ـ 861 م ) ، كانت ثابتة ومستقرة فهي طيلة المدة التي تناولها البحث في حالة تناوب تمتد حدودها الادارية الى مناطق بعيدة ، ثم تتقلص حدودها الادارية لحدوث ارتداد في بعض اقسامها او بسبب ما تعرضت له البصرة للعديد من الحركات المعارضة(4) .

**************************************************************
(1) الطبري ، المصدر السابق ، ج 8 ص 163 . ابن الاثير ، الكامل ، ج 6 ص 74 .
(2) المصدر السابق ، ج 8 ص 166 ،
(*) هو عبد الله بن محمد بن ابي عينة ، وابو عينة هو ابن المهلب بن ابي صفرة ، ويكنى ابا جعفر ، انظر : ابن قتيبة ، الشعر والشعراء ، ج 2 ص 750 .
(3) المبرد ، المصدر السابق ، ج 2 ص 26 .
(4) انظر : الفصل الثاني ( الحركات ) .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 96 ـ

   ففي حركة ابراهيم بن عبد الله في عام ( 145 هـ / 762 م ) ، انفصلت البصرة ادارياً عن الخلافة العباسية ، واصبحت بمعزل عنها ، فكانت وحدة ادارية مستقلة بحد ذاتها ، واصبح لها وظائفها الادارية الخاصة بها(1) لمدة عدة اشهر ، وبعد القضاء على هذه الحركة ادخلت في البصرة الاقاليم الاخرى السابقة(2) ، وفي حركة ابي السرايا الطالبي استطاع زيد النار(3) من دخول البصرة وضمها مع الاحواز(4) ، وبقيت منفصلة عن الادارة المركزية ما يقارب سنة كاملة ( 199 ـ 200 هـ / 814 ـ 815 م ) .
   اما بالنسبة للاحداث السياسية التي تعرضت لها الخلافة فالقت ظلها على مدينة البصرة والتي كانت سبباً في تغيير مساحتها الادارية وهو الصراع الذي حدث بين الامين واخيه المأمون في عام ( 193 ـ 196 هـ / 808 ـ 811 م ) والذي ادى الى تغير واسع في الادارة في العراق بشكل عام .
   فالتطور الاداري الذي حصل في المنطقة في هذه الحقبة هو ان المأمون امر بجعل المناطق التي افتتحت من قبل طاهر بن الحسين كافة وهي كور الجبال ، وفارس والاحواز ، والبصرة والكوفة ، والحجاز ، واليمن تحت ولاية الحسن بن سهل(5) ، ويبدو ان سبب هذا الاجراء هو الوضع المتدهور وغير المستقر الذي عم

**************************************************************
(1) عين ابراهيم على البصرة قبل خروجه منها ابنه الحسن بن ابراهيم نائباً له وعين نفيلة بن مرة على شرطتها ، وعباد بن منصور على قضائها . انظر : البلاذري ، انساب ، ص 124 ـ 127 . ابن الاثير ، المصدر السابق ، ج 6 ص 49 .
(2) الخطيب البغدادي ، المصدر السابق ، ج 5 ص 291 . ابن الاثير ، المصدر السابق ، ج6 ص 49 .
(3) سبق ان عرف ، انظر : الفصل الثاني ( الحركات ) .
(4) الطبري ، المصدر السابق ، ج 8 ص 535 . ابن الاثير ، المصدر السابق ، ج 6 ص 305 .
(5) الطبري ، المصدر السابق ، ج 8 ص 527 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 97 ـ

المنطقة بعد انتهاء الصراع بين الامين والمأمون ، لذا اراد الخليفة المأمون احتواء المنطقة بوضعها تحت سيطرة قائد قوي يشرف عليها ادارياً لحين استقرار الاوضاع فيها .
   اما بالنسبة للمعلومات التي تحدد علاقة المناطق التابعة ادارياً للبصرة فأننا لم نجد سوى ان تلك المناطق كانت ملزمة بتقديم الضرائب الى والي البصرة ، وعلى اهلها تقديم صدقات اموالهم اليها ، واعطاء الجزية على رؤوس اهل الذمة فيها ، وتكون البصرة ملزمة بجمع تلك الضرائب ومعاقبة المناطق التي تمتنع عن تقديم تلك الاموال للخلافة العباسية لكونه يشكل معارضة صريحة من جانبها للسلطة المركزية(1) .
   ومن خلال هذا الاستعراض الموجز نستطيع القول ان للاحداث السياسية التي مرت بها البصرة دوراً كبيراً في تشكيل حدودها الادارية التي كانت كثيراً ما تتوسع عندما تأخذ الدلة في الاستقرار ثم تاخذ بالتقلص عند حدوث الحركات السياسية ، والتمردات في المنطقة .

**************************************************************
(1) قدامة بن جعفر ، الخراج وصناعة الكتابة ، ( تح محمد حسين الزبيدي ، دار الرشيد للنشر ، بغداد ، 1981 ) ، ص 277 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 98 ـ

ثانياً : التطورات الادارية لمناطق البصرة في العصر العباسي

   لا يسعنا الخوض في تفاصيل دقيقة حول جغرافية البصرة وخططها ، وذلك لأن العديد من المؤرخين المعاصرين قد تناولوا هذه الناحية تناولاً جاداً ومثمراً حتى انهم لم يتركوا ناحية الا عالجوها(1) .
   لذا سوف نهتم بأظهار اهم التغيرات التي حدثت في معالم البصرة خلال حقبة موضوع البحث .

1 ـ الابلة

   وهي من اهم المناطق التجارية القديمة في البصرة تقع على دجلة العوراء ( شط العرب ) عند فم نهر البصرة(2) ، اي تقع في ( زاوية الخليج الذي يدخل مدينة البصرة )(3) .
   استخدمها الفرس كميناء رئيس لتجارتهم مع الهند ، واسسوا فيها اكبر حامية عسكرية ، وبقيت الابلة ميناء تجارتهم الى ان حررت من قبل المسلمين في سنة ( 12 هـ / 633 م )(4) .

**************************************************************
(1) ينظر : العلي ، خطط البصرة ، مقال كتب في مجلة سومر مجلد 8 ، بغداد ، س 1952 ، ص 72 ـ 83 ، 281 ـ 303 . العيداني ، هدية جوان ، تخطيط مدينة البصرة في القرن الاول ، رسالة ماجستير غير منشورة ، جامعة بغداد ، 1983 ، ص 52 ـ 55 . العلي ، خطط البصرة ومنطقتها ، مطبعة المجمع العلمي العراقي ، بغداد ، 1986 ، ص 28 ، السوداني ، جبهة البصرة ، ص 10 ـ 13 .
(2) المقدسي ، المصدر السابق ، ص 118 .
(3) ياقوت ، معجم البلدان ، ج 1 ص 77 .
(4) البلاذري ، فتوح ، ج 2 ص 419 ـ 420 . ابن رسته ، المصدر السابق ، ص 95 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 99 ـ

   في العصر العباسي وهي حقبة موضوع البحث حضيت هذه المنطقة بأهتمام واسع من لدن الخلفاء العباسيين ، فقد اهتم الخلفاء في الطرق البحرية وتشجيع التجارة ، حتى بلغت تجارة العراق في العصر العباسي اوج عظمتها ، ولما كانت البصرة الميناء الرئيسي للعاصمة الجديدة ، اكتسبت الابلة تبعاً لذلك اهمية كبيرة بحكم موقعها المطل على الخليج العربي(1) ، لذا نظر الخلفاء لهذه المنطقة بعين الاهتمام ، وبذلوا جهوداً كبيرة لتحسين الملاحة في نهر الابلة بتنظيف النهر وكريه ، وانشاء المرتكزات على جانبي النهر ، لغرض تسهيل مهمة انزال بضائع السفن في الابلة(2) ، فاننتعشت الابلة واصبحت كما يصفها الاصمعي ( حشوش(*) الدنيا خمسة : الابلة وسيراف ، وعمان ، واردبيل وهيت )(3) ، فاخذ سكانها يمارسون حرفة التجارة ، ووصلوا الى مناطق تجارية ، ومسالك بحرية لم يعرفها احد غيرهم(4) .
   فانتشرت في الابلة سلع وبضائع لم يكن لها مثيل ، كانت تجلب اليها عن طريق البحر من اهمها المسك الصيني والهندي(5) .


**************************************************************
(1) ياقوت ، معجم البلدان ، ج 1 ص 77 .
(2) الدوري ، تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري ، المطبعة الكاثولوكية ، ط 2 ، بيروت ، 1974 ، ص 139 .
(3) ياقوت ، البلدان ، ج 1 ص 77 .
(4) النويري ، المصدر السابق ، ج 12 ص 11 ـ 12 .
(*) اي المداخل ، ينظر : ابن منظور ابو الفضل محمد بن مكرم ، لسان العرب ، قدم له الشيخ عبد الله العلايلي ، دار لسان العرب ، بيروت ، د . ت ، ج 12 ص 24 .
(5) النويري ، المصدر السابق ، ج 12 ص 24 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 100 ـ

   ويصف خالد بن صفوان مدى التوسع التجاري لمنطقة الابلة قائلاً ( ما رأينا ارضاً مثل الابلة اقرب مسافة واطيب نطفة ، ولا أوطأ مطية ، ولا اربح لتاجر ، ولا اخفى لعابد )(1) ، حتى ان الخليفة ابو جعفر المنصور عندما اراد بناء مدينة بغداد اكد على اهمية هذه المنطقة بقوله ( مارأيت موضعاً اصلح لبناء مدينة في هذا الموضع بين دجلة والفرات وشريعة البصرة والابلة . . . )(2) .
   لذا اهتم الخلفاء العباسيون بأمن وسلامة هذه المنطقة ، بوضع اسطول بحري جاهز للتصدي لأي هجوم من القراصنة على هذه المنطقة ، فأرسلت الخلافة قوة بحرية سنة ( 210 هـ / 825 م ) استطاعت تأديب القارصنة ، ومنع سفنهم من الاغارة على البصرة(3) .
   كما شجع الخليفة الواثق ( 227 ـ 232 هـ / 841 ـ 846 م ) الاعمال التجارية عن طريق منح التجار قروض مالية ، والغاء ضريبة العشر على السفن القادمة من بحر الصين(4) .
   ولأهتمام الخلفاء بأهمية هذه المنطقة عينت الخلافة على الابلة عاملاً من قبلها يكون مسؤولاً امام الخليفة مباشرة ، ولم يكن لوالي البصرة اي تأثير عليه لا سيما وان تعيينه وعزله كان من قبل الخليفة مباشرةً (5) .
**************************************************************
(1) الجاحظ ، البيان والتبين ، ج 2 ص 297 .
(2) اليعقوبي ، البلدان ، ص 237 .
(3) السامر ، السفارات العربية الى الصين في العصور الاسلامية ، مقال في مجلة الجامعة المستنصرية ، ع 2 ، س 1971 ، ص 19 .
(4) اليعقوبي ، التاريخ ، ج 2 ص 483 .
(5) انظر : الفصل الاداري ( الولاة ) .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 101 ـ

2 ـ المربــــد

   محلة عظيمة في البصرة تقع في القسم الغربي منه بأتجاه البادية(1) ( كان يجتمع فيها العرب من الاقطار ويتناشدون الاشعار ويبيعون ويشترون )(2) وكانت تجارة الابل هي التجارة الرائدة في هذه المنطقة(3) .
   فضلاً عن اهميتها التجارية فقد اكتسبت ايضاً اهمية ثقافية بسبب التوسع العمراني الذي شهدته البصرة ، لذا اصبح المربد مقراً للشعراء والادباء واللغويين ، حيث يقال ان الزندقة التي ظهرت بالبصرة في العصر العباسي الاول كان مقرها المربد ، فقد كان ابن المقفع وغيره من الكتاب ، والشعراء يتواجدون في اسواق المربد ليظهروا تفاخرهم باصولهم الفارسية او الرومية او الهندية(4) .
   ان اهمية المربد التجارية قد ازدادت كثيراً في العصر العباسي ، بعد ان اصبحت البصرة الميناء المباشر للخلافة ، فاصبحت المربد بوصفها سوق البصرة الرئيسي منطقة تصريف البضائع ، لذا ازدادت مكانتها واصبحت هذه المنطقة هي عين البصرة كما يصفها والي البصرة جعفر بن سليمان الذي يقول :

**************************************************************
(1) ياقوت ، معجم البلدان ، ج 5 ص 98 .
(2) ياقوت ، المشترك وضعاً والمفترق صقعاً، ليدن ، بريل ، 1846 م ص 393 .
(3) الجاحظ ، البيان والتبيين ، ج 1 ص 187 .
(4) ابن عبد ربه ، العقد الفريد، ج 3 ص 324 ـ 325 .

البصرة منذ بداية العصر العباسي حتى سنة ( 247 هـ / 861 هـ )   ـ 102 ـ

( العراق عين الدنيا، والبصرة عين العراق ، والمربد عين البصرة )(1) .
   ومن ناحية اخرى فقد ازدادت اهمية هذه المنطقة بوصفها مقراً للولاة العباسية في البصرة ـ فقد ذكرت المصادر ان سليمان بن علي كان مقره الاول في البصرة في دار الامارة ، ثم سرعان ما غادرها الى المربد فنزلها(2) .
   واستمر ابناؤه من بعده في اتخاذ المربد مقراً لهم ، فقد بنى اسحاق بن سليمان داره في المربد(3)    ودار محمد بن سليمان كانت في المربد ايضاً حتى قيل انه بعد وفاته اخرج من داره كمية من الاطعمة الفاسدة ، كان الناس لا يستطيعون دخول المربد لشدة رائحة هذه الاطعمة النتنة(4) .
   كما كان قصر جعفر بن سليمان من اجمل القصور التي بنيت هناك وكان قصره يدعى العوراء ، ويصفه جعفر بأنه عين المربد(5) وكان في ضله يقام سوق الضباب في المربد(6) .
   كما اكتسبت المربد اهمية روحية ، فقد اتتخذ البصريون في منطقة المربد مقبرة لهم سميت ( الجبان ) ، تقع في القسم الجنوبي الغربي من المربد(7) ، وفيها دفن العديد من البصريين والشخصيات المهمة فيها(8) .
   ولم تكن منطقة الجبان خاصة بالمراقد فقط ، اذ شملت بعض النواحي العمرانية ايضاً .
   فقد بنى محمد بن سليمان فيها حوضاً للمياه(9) ، كانت تصل اليه المياه بواسطة قنوات من رصاص تمتد مسافة فرسخ(10) .

**************************************************************
(1) الجاحظ ، رسائل، ج 4 ص 139 . الدينوري ، عيون الاخبار ، ج 1 ص 222 .
(2) البلاذري ، فتوح ، ج 3 ص 429 .
(3) الطبري ، المصدر السابق ، ج 8 ص 50 .
(4) المصدر نفسه ، ج 8 ص 237 ـ 238 .
(5) ابن قتيبة ، عيون الاخبار ، ج 1 ص 222 .
(6) الجاحظ ، الحيوان ، ج 6 ص 78 .
(7) الطبري ، المصدر السابق ، ج 2 ص 451 .
(8) انظر : ابن حجر ، تهذيب التهذيب ، ج 3 ص 250 .
(9) البلاذري ، فتوح ، ج 3 ص 455 .
(10) ابن الجوزي ، ابو الفرج عبد الرحمن بن علي بن احمد ، المنتظم في تاريخ الملوك والامم ، مطبعة دائرة المعارف العثمانية ، حيدر اباد ـ الدكن ، ط 1 ، 1359 هـ ، ج 9 ، ص 53 .