دور البصرة في نشأة الدراسات اللغوية
ـ المعجم العربي ـ

الدكتور عبد الحسين المبارك

1 مقدمة
2 مووسوعة البصرة الحضارية
3 معجم العين
14 الخليل يوضح منهجه
16 جمهرة اللغة لابي بكر محمد بن الحسين بن دريد 321 هـ
17 منهج ابن دريد في الجمهرة
20 شواهد الجمهرة
23 المصادر والمراجع
المقدمة
  مع امتداد عصور الحضارة العربية ظلت اللغة العربية حينا من الزمن تدور على الألسن غير مكتوبة في صحائف , أو مدونه في رسائل ، أو مجاميع للمفردات غير إن النهضة الشاملة التي أوجدها الدين الإسلامي في حياة المجتمع العربي حتمت عليه إن يحافظ على ثروته اللغوية من ضياع والتشبث ، لا سيما إن الحالة تتبدل يوما بعد أخر ، ومستجدات الحياة تفرض أصنافا من المفردات والمصطلحات ، وتهجر ألفاظا كانت سيئة سائغة في حياتهم اليومية . مما حدا باللغويين إن يولوا لغتهم اهتماما كبيرا ويهبوا لجمعها مفردات وتعابير من أفواه الناس الموثوق بعربيتهم بادئ ذي بدئ , فكانت الرسائل اللغوية الفريدة التي اختصت بخلق الإنسان والحيوان ، ومما يتعلق بألوان من حياتهم ، وعدتهم فيها ، منها ما تفرد بحصر الألفاظ الخاصة بالشاة والنعم ، ومنها الإبل ، والخيل ومنها ما قيل في الحشرات والهوام وجمع ما قيل في كل عضو منها ، ومنها ما تبسط في سرد أسماء النبات والشجر وما يتعلق بها . ومنها ما اختصر بالمكان وصفات ديارات أو دارات العرب . وفد حفظت المكتبة العربية تراثا ضخما من تلك الرسائل التي شملت نتائج اللغويين البصريين أمثال الأصمعي ، وأبي زيد الأنصاري ، وأبي حاتم السجستاني وأبي عبد الله ألتمري ، وغيرهم ( وكان هؤلاء الذين توغلوا في الصحراء أول من دون معارف لغويه ، ومرت على هذا التدوين مراحل أثرت في مادته وهيأته )(1).

**************************************************************
(1)المعجم العربي - د. حسين نصار ص 10 وينظر ( أصول في فقه العربية ص 234 وما بعدها ) فقيه
غناء للباحث والقارئ ، ومن شاء المزيد من الاطلاع يمكنه الرجوع إلى تلك الرسائل واغلبها مطبوع

دور البصرة في نشأة الدراسات اللغوية   ـ 2 ـ


  وهؤلاء اللغويون وضعوا أساس المرحلة الأولى من مراحل صنع المعجم العربي حيث تهيأت لهم وسائل الاتصال البدائية بالبدو فملاؤا كراساتهم بما دونوه بصوره عشوائية عن مفردات اللغة، فكانت تلك الرسائل والدراسات الميدانية مادة المعجمات العربية .
  ومن تلك المفردات والألفاظ ما أختص بموضوعات القرآن الكريم لأنه الكتاب المهم لدراساتهم ، فقد خلق في نفوسهم الاهتمام وخلاص النية لتفسير أيه وتتبع غريبة ، واستقصاء ما في ألفاضه من اشتقاق وتصريف ودلالة ، وإعراب ، وغريب ، لاسيما في مدينة البصرة التي شهدت مجتمعاً عظيم الاختلاط بالعناصر غير العربية التي كانت بحاجه ماسة إلي نمن يفهمها لغة القرآن الكريم .
  وكما أشرت سابقاً إلى إن اللغويون الأوائل كانوا حريصين على التقاط الألفاظ طريق المشافهة ، والدراسات الميدانية بلا منهج واضح أو خطه مدروسة، فجاءت مدوناتهم في رسائل صغيره تخص جانباً وجوانب متعددة من حياتهم اليومية، وقد ضاع بعضها ، ووصل قسم منها إلينا مسجلاً في رسائل صغيره ، أو أراء متفرقة في مصنفات المتأخرين أو التالين لعصرهم . فأراء أبي عمرو بن العلاء 154 هـ لم تصل في كتاب مستقل خاصة انه احرق كتبه في فتره متأخرة من حياته .
  ورسائل أبي زيد والأصمعي حظيت بمن عني بها من المشرقين والعرب فوصلت إلينا ، فقد نشرت رسائل الأصمعي التالية : ـ
1 ـ خلق الإنسان
2 ـ الدارات
3 ـ النبات والشجر
4 ـ النخيل والكرم

كما نشرت رسائل أبي زيد :
1 ـ اللبأ واللبن

دور البصرة في نشأة الدراسات اللغوية  ـ 3 ـ

2 ـ المطر
3 ـ الهمز
  ونشر كذلك أضداد أبي حاتم السجستاني ، والملمع لأبي عبد الله التمري .
وهؤلاء لغويو البصرة الذين كان لهم فضل كبير في إثراء الدراسات اللغوية في البصرة أما عن نشأة المعجم العربي بمفهومه اللغوي وبوصفه وعاء للغة يحفظ مفرداتها ، ويبين استعمالها ، وشاذها ، وغريبها فللبصرة دور الريادة في هذا الميدان فالخليل بن احمد الفراهيدي 175 هـ وضع معجمه، ( العين ) ورتبه على المخارج الصوتية ، وكان مدرسه معجميه خاصة اتبعها قسم من أصحاب المعجمات الذين جاءوا بعده ، وهذا وصف موجز لطريقه ، وبيان مزاياها وعيوبها ، وما قيل في المعجم وصاحبه قديماً وحديثاً

معجـم العـين
  هو أول معجم لغوي يصل إلينا على وفق الترتيب الصوتي ، وبعد الخليل رائداً لهذه الطريقة الرياضية ( والذي يعد معجم من أي نوع عرفته اللغة العربية )(2).
  وطريقة ( العين ) من جميع المفردات اللغوية تعتمد التقليبات أساسا ، فقد وجد الخليل إن اللغة لا تتجاوز 29 حرفاً ، والكلمات العربية أما ثنائية أو ثلاثية أو رباعية أو خماسية . وعن طريق التبادل بين المواقع حروف اللفظة الواحدة أمكنه الحصول على ضربين في الثنائي ، وستة من الثلاثي ، وأربع وعشرين ضربة من الرباعي ، ومائة وعشرون من الخماسي ، وبهذا استطاع حصر المفردات في اللغة غير انه وعن طريق إحساسه اللغوي الصوتي ، ومعرفته بكلام العرب ، وثقافته اللغوية الواسعة توصل إلى معرفته المستعمل من حاصل التقليب . فالعين لم يعتمد مصادر مدونه قبله

**************************************************************
(2) البحث اللغوي عند العرب 122

دور البصرة في نشأة الدراسات اللغوية  ـ 4 ـ

ولا اعتمد الروايات اللغوية أساسا لهذا العمل الضخم . فالألفاظ التي تتكون من حرفين مثلاً : ردّ تكون معها درّ ، وحد تكون معها
دح أما في الثلاثي فمثل : جبر ، جرب ، بجر ، برج ، رجب ، ربح ، وفي الرباعي مثل : بعثر ، بثرع ، بثعر ، برعث . . . = 24 أما الخماسي مثل سفرجل = 120 تقليباً وطريقته في الإحصاء ضرب 28 وهو عدد حروف الهجاء في 27 أي عدد الحروف بعد طرح الحروف من التركيب المراد ، وبالتالي نحصل على 756 تركيباً يدخل ضمنها المهمل .
وقد أهمل في الثنائي التركيب الذي يضم حرفين متماثلين مع انه ورد في العربية ققّ ، وصصّ ، و ددّ(3).
ويقرن كلامه عند كل حرف بلفظه ( مستعملات ) وحين يترك الباقي فأن ذلك يعني انه المهمل . وحين فكر بترتيب العين حسب المخارج الصوتية وجد إن الألف لا يمكن إن يبدأ به : يقول عبد الله درويش في مقدمة العين :
( لأن الألف حرف معتل فلما فاته الحرف الأول كره إن يبتدئ بالثاني وهو الباء إلا بعد حجة واستقصاء النظر ، فدبر ونظر إلى الحروف كلها وذاقها فصير أولاها بالابتداء ادخل حرف منها في الحلق )(4) .
   ثم يأتي الدكتور عبد الله درويش على طريقة الخليل في تحديد مخارج الأصوات بقوله : (وإنما كان ذواقة أيها انه كان يفتح فاه بالألف ثم يظهر الحرف ،
نحو : أب ، أت ، أخ ، أع ، أغ ، فوجد العين ادخل الحروف في الحلق فيجعلها أول

**************************************************************
(3) انظر الصحاح ومدارس المعجمات العربية 70
(4) مقدمة العين - بتحقيق د . عبد الله درويش 52

دور البصرة في نشأة الدراسات اللغوية  ـ 5 ـ

الكتاب ثم ما قرب منها الأرفع ، فالأرفع، حتى أتى على آخرها وهو الميم . فإذا سئلت عن كلمه وأردت إن تعرف موضعها فأنظر إلى حروف الكلمة فمهما وجدت منها واحداً في الكتاب المقدم ـ يعني الباب ـ فهو في ذلك الكتاب(5).
وترتيب العين بحسب مخارج الأصوات من الحلق وهي :
ع ح ه خ غ \ ق ك \ ج ش ظ \ ص س ز \ ط د ت \ ض ذ ث \ ر ل ن \ ف ب م \ وأي همزه .
وجاء في تعليق الدكتور حسن ظاظا(6) على هذا الترتيب قوله :
( وقد سقط في هذا الترتيب الغين ، والتاء ، والذال ، والظاء ) ولا ادري كيف توهم الدكتور ظاظا ، علماً لأن جميع من تحدث عن ( العين ) لم يذهب هذا المذهب ، وقد رتبها ابن منظور في مقدمة ( اللسان )(7) خلال وصفه كتاب العين على النحو التالي :
ع ح خ غ \ق ك \ ج ش ض \ ص ز س \ ط د ت \ ظ ذ ث \ر ل ن \ ف ب
م \ ي و ا .
ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا : إن الخليل كان رائداً للطريقة الصوتية في ترتيب المعجم العربي حسب مخارج الحروف ( والمتصلون بعلم اللغات يحدثوننا إن اللغة السنسكريتية فيها هذا المنحني الذي ينظر إلى مخارج الحروف.
ولقد كانت للعرب صلات بالهند ، وكانت البصرة . . . محط رجال الكثيرين من هنا ومن هناك . وقد يكون الخليل قد لقن شيئا من هذا عن السنسكريتية فأخضع له لغته العربية ، كما قد يكون هذا من بدع الخليل ، ولقد كان الرجل رجل صوت فلم لا تملي عليه فطنته الصوتية هذا المنحى اللغوي كما أملت عليه المنحى

**************************************************************
(5) المصدر نفسه 52_53
(6) كلام العرب 129
(7) اللسان 1\7

دور البصرة في نشأة الدراسات اللغوية  ـ 6 ـ

العروضي فأبدع هنا وهناك )(8).
   وجد الخليل إن أبنية الكلام العربي المستعمل والمهمل على مراتبها الأربع قد بلغ ( 12,305,412 ) على وفق الجدول التالي :ـ
الثلاثي 19,656
الرباعي 591,400
الخماسي 11,738,600(9).
   على حين عد السيوطي أبنية الثلاثي ( تسعة ملايين وستمائة وخمسون ) ، والرباعي أربعمائة وواحد وتسعين ألف وستمائة ، والخماسي احد عشر مليون وسبعمائة وثلاثة وتسعين ألف وستمائة ، نقلاً عن حمزة الاْصبهاني في كتاب الموازنة(10) وهو يناقض ما هو معروف عن عدد ألفاظ ( العين ) ، وعما ذكره السيوطي نفسه في موضع آخر من ( المزهر ) .
وما ذكره المهتمون في الدراسات اللغوية من المستشرقين بأن ( العين ) اتبع نمط المعجمات السنسكريتية في الهند من حيث الترتيب ومخارج الحروف ( ابتداء من أقصى الحلق إلى الشفتين )(11) أمر لا يقوم على دليل مشهود ، وستعرض لهذا فيما بعد(12)
  والخليل في كل هذا آمل إن يحوي معجمه جميع المفردات العربية ( وكان من رأى الخليل إن يجمع معجمه الواضح المشهور ، والغريب من المواد على السواء ، لأن ذلك أصون للغة وأحفظ لها ، وما يكون مشهوراً لدى جماعه ربما كان غريباً عند آخرين )(13).

**************************************************************
(8) تراث الإنسانية م 11 ص 894
(9) تراث الإنسانية م 11 ص 836
(10) المزهر 1\74
(11) كلام العرب 129
(12) انظر ص
(13) المعاجم العربية د. عبد السميع محمد احمد 1\38

دور البصرة في نشأة الدراسات اللغوية  ـ 7 ـ

  تلك الطريقة والأسلوب اللذان اتبعهما الخليل وألزم نفسه يهما جعل الدارسين يذهبون كل مذهب في تتبع نشأة المعجم العربي ،واثبات ريادة الخليل لها أو تقليده ما هو شائع عند الأمم الأخرى لاسيما تلك التي احتك بها العرب ، وهم الهنود واليونان ، كما إن عسر الطريقة و صعوبة المنهج اوحت لهم إن ينكروا على الخليل هذا العمل الجاد .
يقول الدكتور حسن ظاظا (14) :
( ويبدو لنا إن الخليل قد فكر في متن اللغة تفكيرا ، حسابيا ، رياضيا ، فتصور إن حروف المعجم يمكن تتبعها فيما يجوز إن يتركب منها من الكلمات ، ابتداء من الكلمة ذات الحرف الواحد إلى الألفاظ المزيدة المركبة من ثمانية أحرف . ثم تتبع ما عليه شاهد من كلام العرب من هذه التركيبات فيشتبه على انه ( مستعمل ) وما لم يجد علي شاهد يشتبه على انه ( مهمل ) وهو منهج دقيق جدا ولكنه يستوعب من الجهد والوقت ما يتجاوز الشخص الواحد إلى عشرات من الباحثين ، ولذا فمن المحتمل إن يكون الخليل قد مات دون إن ينجز هذا العمل الضخم . ثم جاء بعض تلامذته من بعده ، فاختصروا الطريق وكتبوا شيئاً مستمداً من فكرة الخليل دون إن يكون تنفيذه لتخطيطه بدقة ) .
ويضيف الدكتور حسن ظاظا قائلاً :
  ( وهذه الفكرة في تأليف الحرف مع الحرف هي التي جعلت كتاب العين لا يقف عند الاشتقاق العام المبني على القواعد المقررة في علم الصرف بل كان كثيراً ما يخوض في الاشتقاق الكبير فيتكلم مثلاً عن المواد ضام ، وضمن ، وضم وأمضى ، في موضع واحد ، وعلى ذلك يكون الخليل أول من فتح عيون تلاميذه على ظاهرة الاشتقاق الكبير قبل إن يفطن عليها أبو علي الفارسي وابن جني ) .
  ولكي يكون الخليل أمينا لمنهجه الذي سلكه في تبويب العين حسب المخارج الصوتية ، قسمه إلى أقسام على عدد حروف العربية ، وسمي كل قسماً كتاباً

**************************************************************
(14) كلام العرب 129

دور البصرة في نشأة الدراسات اللغوية  ـ 8 ـ


مبتدئاً بها حسب الترتيب ألمخرجي للأصوات أي : كتب العين ثم الحاء ثم الخاء . . . الخ .
  ثم قسم كل كتاب إلى أبواب تبعاً لهيئة الألفاظ التي يشتمل عليها الباب وهي ستة أبواب :
1 ـ الثلاثي الصحيح المضاعف ، وسماه الثنائي الصحيح أو المضاعف مثل : قد وعف . . . الخ .
2 ـ الثلاثي الصحيح ـ وهو ما اشتمل على ثلاثة أحرف صحيحة من أصل الكلمة مثل : جعل وبحر وعلم .
3 ـ الثلاثي المعتل بحرف واحد ، ومنه أمثال ( وعد ) والأجوف ( قال ) والناقص (مشي) .
4 ـ الثلاثي المعتل بحرفين وهو اللفيف نحو ( وشي ) من اللفيف المفروق، و (شوي) من اللفيف المقرون.
5 ـ الرباعي ـ مثل : دحرج .
6 ـ الخماسي ـ مثل : سفرجل ، و جمحرش .
ونظراً لقلة الألفاظ الواردة في الرباعي والخماسي جعلها باباً واحداً وادخل الهمزة في المعتل محتجاً بتسهيلها مثل : ذئب وذيب ، وبئر وبير . إن هذه العقلية الرياضية المتميزة اصطدمت بتقولات كثيرة من الدارسين وأثارت شكوكهم على النحو الآتي :
1 ـ العين للخليل .
2 ـ فكرة العين للخليل والتنفيذ لليث (190 هـ ).
3 ـ العين لليث .
4 ـ ابتدأه لخليل وأتمه الليث .
قال الأزهري(15) : كان الليث رجلاً صالحاً عمل كتاب العين ونسبه إلى

**************************************************************
(15) تهذيب اللغة 1 \ 28 بتصرف

دور البصرة في نشأة الدراسات اللغوية  ـ 9 ـ


الخليل لينفق كتابه باسمه ، ويرغب فيه من حوله .
وذكر السيوطي(16) : ( قال الإمام فخر الدين في المحصول : أصل الكتب المصنفة في اللغة كتاب العين ، ولقد أطبق الجمهور من أهل اللغة على القدح فيه ).
وقال السيرافي(17) في ترجمة الخليل : ( عمل أول كتاب العين المعروف المشهور الذي به يتهياُ ضبط اللغة ) .
   وعقب على ذلك السيوطي(18) بقوله : ( وهذه العبارة من السيرافي صريحة في إن الخليل لم يكمل كتاب العين ، وهو الظاهر لما سيأتي من نقل كلام الناس في الطعن فيه ، بل أكثر الناس أنكروا كونه من تصنيف الخليل ) .
   وقال بعضهم(19) : ( عمل الخليل من كتاب العين قطعة من أوله إلى حرف الغين ، وكلمة الليث ، ولهذا لا يشبه أوله آخره ).
وهناك قصة طريفة حول كتاب العين نسجت إلى خيوطها في دار الليث تلميذ الخليل فحواها إن الخليل كان منقطعاً إلى الليث ، فلما صنف كتابه العين خصه به ، فحظي عنده جداً ، ووقع منه موقعا عظيماً ، ووهب له مائة ألف درهم ، واقبل على حفظه وملازمته ، فحفظ منه النصف ، وكانت تحته ابنة عمه ، واتفق إن اشترى جاريه نفيسة ،فغارت ابنة عمه وقلت : والله لأغيضنه ، وان غظته بالمال فذاك مالا يبالي ، ولكني أراه مكباً ليله ونهاره على هذا الكتاب ، والله لافجعنه به ، فأحرقته . فلما علم اشتد أسفه ، ولم يكن عند غيره منه نسخه ، وكان الخليل قد مات ، فأملى النصف من حفظه ، وجمع علماء عصره ، وأمرهم إن يكملوه على نمطه ، وقال لهم : مثلوا عليه واجتهدوا ، فعملوا هذا التصنيف الذي بأيدي الناس(20) .

**************************************************************
(16) المزهر 1 \ 76
(17) أخبار النحويين البصريين 30
(18) المزهر 1 \ 77
(19) المصدر نفسه 1 \ 77
(20) معجم الأدباء 17 \ 46 ، والمزهر 1 \ 77

دور البصرة في نشأة الدراسات اللغوية  ـ 10 ـ


  أما أبو الطيب اللغوي(21) فقد قال فيه : ( وأبدع الخليل بدائع لم يسبق إليها فمن ذلك تأليفه كلام الرب على الحروف في الكتاب المسمى بكتاب العين فأنه هو الذي رتب أبوابه ، وتوفي من قبل أن يحشوه ) .
  وقال أيضا(22) : اخبرنا محمد بن يحيى قال : سمعت احمد بن يحيى ثعلباً يقول : إنما وقع الغلط في ( كتاب العين ) لان الخليل رسمه ولم يحشوه ، ولو كان حشاه
ما بقي فيه شيئاً لان الخليل رجل لم يرد مثله ) . وقال(23) ( اخبرنا محمد بن الواحد الزاهد قال : حدثني فتى قدم من خراسان ، وكان يقرأ على كتاب العين ، قال : اخبرني أبي عن إسحاق بن راهويه قال : كان الليث صاحب الخليل بن احمد رجلاً صالحاً ، وكان الخليل عمل كتاب العين وحده ، فأحب الليث أن تنفق سوق الخليل ، فصنف باقي الكتاب ، وسمى نفسه الخليل ، وقال لي مره أخرى : فسمى لسانه ( الخليل ) منة حبه للخليل بن احمد ، فهو إذا قال في الكتاب : قال الخليل بن احمد ) فهو الخليل وإذا قال : ( مطلقاً فهو يحكي عن نفسه . فكل ما كان في الكتاب من خلل فأنه منه لا من الخليل بن احمد ) .
  وقد عقد السيوطي(24) باباً في ( المزهر ) لذكر آراء المصنفين والعلماء فيه سماه ( ذكر قدح الناس في كتاب العين ) وذكر أبي فارس ، وابن جني ، والزبيدي ، وإسحاق بن إبراهيم ، وثعلب ، والصولي ، وأبو علي القالي ، وأبو الحسن الشاري ، والمفضل بن سلمه ، وابن كيسان ، وابن ولاد ، وغيرهم .
وقال ابن جني (25) :
( أما كتاب العين ففيه من التخليط والخلل والفساد مالا يجوز أن يحمل على اصغر أتباع الخليل ، فضلاً عن نفسه ، ولا محال أن هذا التخليط لحق هذا الكتاب من قبل

**************************************************************
(21) مراتب النحويين 57
(22) المصدر نفسه
(23) المصدر نفسه في 57-58
(24) المزهر 1 \ 79
(25) الخصائص 2 \ 288


دور البصرة في نشأة الدراسات اللغوية  ـ 11 ـ


غيره ورحمه الله ، وان كان للخليل فيه عمل فعله أو ما إلى عمل هذا الكتاب إيماء ، ولم
يله بنفسه . ولا قرره ولا حرره . . . ) .
وقال :- إسحاق ابن إبراهيم(26):
ونحن نربأ الخليل على نسبة الخلل إليه أو التعرض للمقاومة له ، بن نقول : أن الكتاب لا يصح له ، ولا يثبت عنه ، وأكثر الظن فيه أن الخليل سبب أصله ، وثقف كلام العرب ، ثم هلك قبل كمال ، فتعاطى في إتمامه من لا يقوم في ذلك مقامه ، فكان ذلك سبب الخلل الواقع فيه ، والخطأ الموجود فيه .
وقال أبو علي القالي(27) :
( . . . ولو صح الكتاب عن الخليل لبدر الأصمعي ، واليزيدي ، وانب الإعرابي وأشباههم إلى تزيين كتبهم ، وتحليه عملهم بالحكاية عن الخليل ، والنقل لعمله ، وكذلك من بعدهم كابي حاتم ، وأبي عبيد ، ويعقوب ، وغيرهم من المصنفين ، فما علمنا أحدا منهم نقل في كتابه عن الخليل من اللغة حرفاً ) .
وأشار السيرافي(28) إلى أن الخليل لم يعمل الكتاب كاملاً ، فقد قال :
( وعمل أول كتاب العين المعروف المشهور ، الذي به يتهيأ ضبك اللغة ) .
وقال القفطي(29) :
( وأما كتاب العين فقد اختلف الأمة فيه فمنهم من ينسبه إليه ، ومنهم من يحيل نسبته إلى الخليل ، وقد استوفى ابن درستويه الكلام في ذلك في كتاب له مفرد هذا النوع ، ملكته بخط تيزون الطبري ، وهو تصنيف مفيد ، ثم قال(30) : ( والذي تحقق أن الخليل صنفه : كتاب العين . . . ) .

**************************************************************
(26) المزهر 1 \ 82
(27) المزهر 1 \ 84 ـ 85
(28) اختبار النحويين البصريين 30
(30) المصدر نفسه 1 \ 346

دور البصرة في نشأة الدراسات اللغوية  ـ 12 ـ

  والخلاف حول كتاب العين ونسبته إلى الخليل امتد زمناً طويلاً حتى وقتنا الحاضر . وقد خصصت مجلة المجمع العلمي(31) بدمشق مساحة لمثل هذا الجدل .
ومن الباحثين الأولين من يرى أن كتاب العين يتبع نمط الهند في المعاجم السنسكريتية من حيث الترتيب على مخارج الحروف ابتداء من الحلق إلى الشفتين(32) .
   وقد كثر الحديث حول نسبة الكتاب ، ومنهجه ، وطريقة تأليفه بين مادح وقادح معتمدين علي الكتاب نفسه ، وما فيه من خلل أحيانا يبرئ الخليل عن عمل مثله ، وما رأوه من هنات لا تخفي عن اللبيب لاسيما أن الطريق التي اسند فيها الكتاب إلى صاحبه واحده حملت معها بوادر التشكيك والإنكار لهذه النسبة ، وان كنا لا نقف في صف المتشككين .
   وربما كانت بعض الشكوك مبنية على أساس مخطوء ، وأوهام وبخاصة ما ذهب إليه المستشرق الألماني( اهملوارت ) في تصوره قطعتين مخطوطتين من المحكم
إنهما من العين فجاءت أحكامه مجانية للحقيقة .
وقد رد الدكتور عبد الله درويش(33) على تلك الآراء وفندها في مقدمة نشرته للعين .
كما أشار الدكتور احمد مختار عمر(34) إلى أسباب تشكيك في نسبة كتب العين إلى الخليل ونفيها كليا أو جزئياً حين ذكر أنهم بنوا أرائهم على ما يأتي :
1 ـ اختفاء معجم العين منذ عصر المؤلف حتى منتصف القرن الثالث الهجري ، وحين ظهر على أيدي احد الوراقين الخراسانيين أنكره أبو حاتم السجستاني 255 هـ .

**************************************************************
(31) في بحث الأستاذ يوسف العش عن ( أولية تدوين المعاجم وبتاريخ كتاب العين المروي عن الخليل ) في ج 9،10،11،12،م16 سنه 1941 وقد نفي أن يكون الخليل قد تأثر باليونان في منهجه .
(32) انظر : كلام العرب _ د. حسن ظاظا 129 .
(33) انظر العين _ الجزء الوحيد الذي نشره د. عبد الله درويش .
(34) البحث اللغوي عند العرب _ 127 وما بعدها ؟


دور البصرة في نشأة الدراسات اللغوية  ـ 13 ـ


2 ـ وجود فجوه بين معجم العين وثاني معجم يظهر في اللغة العربية ، وهو معجم الجمهرة لأبن دريد 321 هـ ، مما يشكك في تأليف العين في القرن الثاني الهجري ، فلا بد أن يكون مؤلفه لغوياً متأخراتً .
3 ـ لم يذكر احد تلامذة الخليل أو معاصريه لهذا المعجم ، ولم يحك عنه ، مما يدل على انه ليس من مصنفات الخليل .
4 ـ تشكيك كثير من العلماء في نسبته للخليل أو إنكارهم هذه النسبة ، ومن هؤلاء الأزهري 370 هـ ، وأبو الطيب اللغوي 305 هـ .
5 ـ استخدام العين لبعض المصطلحات الكوفية مع أن الخليل أستاذ مدرسة البصرة . ومن ذلك إدخاله الرباعي المضعف في باب الثلاثي المضعف .
6 ـ ما يوجد من خلاف في الترتيب الصوتي ومخارج الحروف بين ما جاء في العين وما جاء في كتاب سيبويه ، فلو كان المؤلف هو الخليل لتطابق ما في الكتابين لأن سيبويه حامل علم الخليل .
7 ـ كثرة الأخطاء والمأخذ في العين .
8 ـ نسخ العين التي عثر عليها كلها حديثة .
9 ـ لا إسناد لكتاب العين .
  أن تلك الافتراضات لا سند لها من الصحة ، لاسيما أن الخليل لم يدون عمله بيده كما أن ظهور فجوه في التأليف بين العين والجمهرة ، وعدم رواية التلامذة لكتاب العين ، وموقف الأزهري منه هي الأخرى لأتقوى على نفي نسبته للخليل .
وكثرة الآراء المتأخرة ، وتسرب الخطأ إليه هي من تعليقات النساخ عليه واختلاطها بآراء الخليل .
  أما عن الزاعم التي ترى أن الخليل كان يعرف اليونانية أو انه تأثر بالهنود في ترتيب معاجمهم ، فلا تملك دليلاً يؤكد ما ذهب إليه ، ونحن مع الأستاذ احمد عبد الغفور عطار(35) حين قال : أن الخليل مبتكر في معجمه المنهج والطريقة

**************************************************************
(35) الصحاح ومدارس المعجمات العربية 79

دور البصرة في نشأة الدراسات اللغوية  ـ 14 ـ


والترتيب حتى يثبت ثبوتاً علمياً انه مقلد لا مبتكر ، ومتبع لا مخترع ) .
أن الباحث المنصف حين يقف أمام هذا العمل اللغوي الضخم لا يملك إلا أن يقول : أن العربية بخير ، وان المقولات التي أرادت النيل من عباقرة العربية لا تعدوا أن تكون فقاعات على أمواج البحر الهادر ، وليس أدل على ذلك من أن البعض المستشرقين ومن جرفهم تيار الاستشراف منة علمائنا المتحدثين ، ومن أكلت قلوبهم الغيرة والحسد من علمائنا القدماء الذين راحوا يشققون القول ويظلمون الآخرين ويسلبون حبهم لهذه العربية ،وجدهم الرائد في ميدان المعرفة الإنسانية لم تقف مزاعمهم في وجه الحقائق العلمية الناصعة .

الخليل يوضح منهجه
قال ابن كيسان (36) : ( سمعت من يذكر عن الخليل انه قال : لم ابدأ بالهمزة ، لأنها يلحقها النقص ، والتغيير والحذف. ولا بالإلف لأنها لا تكون في ابتداء الكلمة ، ولا في اسم ولا فعل إلا زائدة أو مبدله ، ولا بالهاء لأنها مهموسة خفيه لا صوت لها فنزلت إلى الحيز الثاني ، وفيه العين والحاء ، فوجدت العين انصح الحرفين ، فابتدأت به ليكون أحسن في التأليف ، وليس العلم بتقدم شيء على شيء ، لأنه كله مما يحتاج إلى معرفته ، فبأي بدأت كان حسناً ، وأولاها بالتقديم أكثرها تصرفاً ) .
  وقال السيوطي(37) ( وذكر حمزة الأصفهاني في كتاب الموازنة فيما نقله عنه المؤرخين قال : ذكر الخليل في كتاب العين أن مبلغ عدد أبنية كلام العرب المستعمل والمهمل على مراتبها أربع من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي من غير تكرار ( 12،305،412 ) اثنا عشر وثلاثمائة إلف وخمسه آلاف وأربعمائة واثنا عشر : الثنائي 756 سبعمائة وستة وخمسون ، والرباعي أربعمائة إلف واحد وتسعون إلفا وأربعمائة . والخماسي احد عشر ألف وسبعمائة إلف وثلاثة وتسعون إلفا وستمائة ).

**************************************************************
(36) المزهر 90 \ 1
(37) المصدر نفسه 1 \ 74 ـ 75


دور البصرة في نشأة الدراسات اللغوية  ـ 15 ـ


وكان الخليل ذكياً في تبويبه ( فقد فطن إلى شيء في التطور التاريخي للعربية ، لقد بدأ الخليل بذكر المضعف الثلاثي وهو يشعرنا بهذا البدء أن المضاعف الثلاثي قائم على الثنائي الذب يصار منه الثلاثي . وهو من اجل ذلك يدعوه بالثنائي )(38).
  أما عن بدئه بحرف العين أو صوت العين فلا يعني أن العين أول الحروف مجردا ، ولكنها أكثر ثباتاً وانصاعا . والخليل يعرف أن الهمزة أولها مخرجاً لكنه لم يبتدئ بها ) لأنها لا يلحقها النقص والتغيير والحذف . . . ) .
  أما طريقة البحث عن الكلمة في ( العين ) فأمر يحتاج إلى فهم بالتصريف أولا ، وبالمخارج الصوتية ثانياً ، أي أن تجرد الحروف الزائدة ، ويعاد ترتيب المجرد حسب المخارج الصوتية التي اتبعها الخليل ، فمثلاً حينما تريد البحث عن كلمه ( تواصل ) تحذف التاء والألف ويبقى المجرد ( وصل ) ثم يعاد ترتيبها على وفق مخارجها فتكون ( صلوا ) ، وتجدها في كتاب الصاد باب الثلاثي المعتل مادة الصاد من اللام وأحد حروف العلة .
  والعين بعد مفتح التأليف المعجمي ، ومعتمد المعجمات التالية ، والمورد الأول للغويين .
هذا وقد طبع الكتاب لأول مرة عام 1913 ، فقد قام بنشر قطعة منه الأب الأستاذ ماري الكرملي على عجل منه ، ولم تحظ بالانتشار . ثم جاءت المحاولة الثانية من قبل الدكتور عبد الله درويش عام 1967 م ، فقام بطبع الجزء الأول منه ، وتوقف عن إصدار بقية الأجزاء على أمل أن يعاود إصدارها فيما بعد .
  والمحاولة الأخيرة لإستاذينا الفاضلين الدكتور مهدي المخزومي ، والدكتور إبراهيم السامرائي حيث قاما بتحقيقه ونشره في ثمانية أجزاء مابين عام 1980 وعام 1985 .

**************************************************************
(38) العين - تح د . المخزومي ود . السامرائي 1\9

دور البصرة في نشأة الدراسات اللغوية  ـ 16 ـ

وللعين مختصر مشهور اختصره أبو بكر الزبيدي ، وهو من المختصرات الأربعة التي فضلت على الأمهات (39).
وقد تأثر بترتيب الخليل في معجمه عدد من أصحاب المعجمات العربية مادة ومنهجاً ، منهم أبو علي القالي :
هـ ح ع خ غ \ ض ج ش \ ل ر ن \ ط د ت \ ص ز س \ ض ذ ث \ف ب
م \ و ا ي \ .
  كما تأثر بطريقة الأزهري ( 360 هـ ) في (تهذيب اللغة العربية ) والصاحب بن
عباد ( 385 هـ ) في ( المحيط في اللغة ) . وابن سيده الأندلسي ( 458 ) في ( المحكم والمحيط الأعظم ) .

جمهرة اللغة لأبي بكر محمد بن الحسين بن دريد 321 هـ
  اتبع ابن دريد الترتيب الهجائي العادي ، وقد رتب الكلمات حسب الحرف الأول منها ، غير انه استعمل نظام التقليبات الذي سنه الخليل ، ومعنى هذا إننا لا نجد الكلمة تحت حرفها الأول ، وإنما تحت اسبق حروفها في الترتيب الهجائي مهما كان مكان هذا الحرف ، فكلمة ( عبد ) توجد في الباء لأنها اسبق الحروف في الترتيب ، وكلمة سمع توجد تحت السين وهكذا ) (40) .
وسبب تسميته بالجمهرة لأنه جمع المعروف المشهور من اللغة التي تدور في الاستعمال ، وتجنب الغريب والحوشي من الألفاظ ، وقد أشار إلى ذلك في مقدمته بقوله :
( هذا كتاب جمهرة الكلام واللغة ، ومعرفة جمل منها تؤدي الناظر فيها إلى معظمها ،

**************************************************************
(39) المزهر 1 \ 87
(40) البحث اللغوي عند العرب 140

دور البصرة في نشأة الدراسات اللغوية  ـ 17 ـ

أن شاء الله تعالى ، وقال أبو بكر : وإنما أعرناه هذا الاسم لان اخترنا له الجمهور من كلام العرب ، وأرجأنا الوحشي المستنكر )(41) .
  وليس له من المصادر سوى العين الذي أشار إليه في المقدمة ، ولهذا ) لم يستطيع ابن دريد أن يفلت من بقية المصاعب في المدرسة السابقة - أي مدرسة
العين - فبقي مكبلاً في أغلال الأبنية والتقاليب(42) ) .
  أن كتاب ( الجمهرة) بالرغم من الجهد الذي بذله ابن دريد في تصنيفه دخلته فوضى وشابه الارتباك في بعض الأبواب ، ويعود ذلك إلى انه أملاه إملاء سري باب الهمزة واللفيف . واعتمد في عللا العين حتى في منهجه الذي اتبعه في تقسيمه مواده إلى الثنائي والثلاثي والرباعي ، ومضعف الرباعي ، والمعتل الصحيح . . . الخ .
  يعد كتاب ( الجمهرة) من المعجمات المهمة في جمع الصحيح من كلام العرب ، ونبذ المرذول ، واطراح الحوشي ، والنادر بعكس ما فعل الخليل فـ ( العين ) . كما أن طريقه أسهل من طريقة العين ، وترتيبه ، ومصادر تختلف عن ( العين ) في الاعتماد على الرسائل اللغوية التي اطلع عليها ابن دريد ، وغيره من أصحاب ابن دريد كالقالي وابن سيده . وكما هوجم ( العين ) انتقد كذلك الكتاب ( الجمهرة ) وهوجم من قبل ( الأزهري ) .

منهج ابن دريد في الجمهرة
  كان الخليل بن احمد ـ كما وضحنا سابقاً ـ أول من وضح منهجاً لعمل المعجم العربي على وفق أسس علميه ورياضيه رسمها بعقليه عربيه مبدعه . وقد اتبعها من اتبعها من اللغويين العرب ، كما حاول بعضهم إدخال تحوير أو تطوير عليها نظراً لصعوبتها ، وعسر فهمها . وكان ابن دريد قد حور في طريفة الخليل بعد أن أدرك

**************************************************************
(41) الجمهرة 1 \ 4
(42) المعجم العربي ـ د . حسين نصار 40

دور البصرة في نشأة الدراسات اللغوية  ـ 18 ـ

صعوبتها على من يطلب ضالته في ( العين ) . غير أن ابن دريد لم ينكر فضل السبق للخليل قائلاً ولم اجر في إنشاء هذا الكتاب إلى الإزراء في علمائنا ولا الطعن في أسلافنا ، واني يكون ذلك ، وإنما على مثالهم نجتدي ، وبسبيلهم نقتدي ، وعلى ما أصلوا نبتني وقد إلف أبو عبد الرحمن الخليل بن احمد الفرهودي ـ رضوان الله عليه ـ كتابه العين فاتعب من تصدى لغايته وعنى من سما إلى نهايته ، فالمنصف له بالقلب معترف ، والمعاند متكلف ، وكل من بعده اقر بذلك ، أم جحد ولكنه رحمه الله إلف كتاباً مشكلاً لثقوب فهمه ، وذكاء فطنته ، وحدة أذهان أهل دهره )(43) .
  وسبب ذلك الصوتية المرتبة على مخارج الحروف ومدارجها .
ولهذا اعدل عنها ابن دريد إلى الطريقة الأبجدية العادية ، وأبقى نظام الأبنية والتقليبات. وقد شرح طريقته بقوله :
( قال أبو بكر إذا أردت أن تؤلف بناءً ثنائياً أو ثلاثياً أو رباعياً أو خماسياً فخذ من كل جنس من أجناس الحروف المتباعدة ثم ادر دائرة فوق ثلاثة أخرى حواليها ثم فكها عند كل حرف يمنة ويسرة تفك الأحرف الثلاثة فتخرج من الثلاثي ستة ابنيه ثلاثيه ، وتسعه ابنيه ثنائيه . وهذه الصورة :

**************************************************************
(43) مقدمة الجمهرة 1 \ 3 طبعة الهند

دور البصرة في نشأة الدراسات اللغوية  ـ 19 ـ

فإذا نقلت ذلك استقصيت من كلام العرب ما تكلموا به ، وما رغبوا فيه(44) ) وإذا استخدمنا الشكل السابق شكل الدائرة أو المثلث :
وأدرنا حروف مادة عبد المكتوبة حوله أمكن التوصل إلى الوجوه الستة التي أشار إليها ابن دريد ، وهي ع د ب ، ع ب د ، د ع ب ، د ب ع ، ب ع د ، ب د ع .
  وقد خالف ابن دريد في كتابه في تسمية اللفيف المعروف عند المصرفين بأنه ما اجتمع فيه حرف علة ، فقد عرفه بقوله : ( وهو ما التف بعضه على بعض )(45) .
  وفي مقدمة الجمهرة قدم ابن دريد تعريفاً شاملاً بحروف العربية التسعة والعشرين . ويشير إلى أن العربية اختصت من سائر اللغات الحاء والغاء . ثم أتى من ذكر أقوال النحاة في مخارج الحروف ومجاريها ، وهي ستة عشر مجرى ، ثلاثة منها للحاق أقصاها الهاء والهمزة والألف ، ثم العين وللفم القاف والكاف والجيم الشين ، ثم الباء من وسط اللسان، ثم السين والصاد والزاي والنون من أسفل اللسان ، ثم اللام والراء ادخل بطرف اللسان وأصول الثنايا ثم الفاء من بطان الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا ، ثم الواو والباء والميم من بين الشفتين ، ثم النون الخفيفة ، وهي من

**************************************************************
(44) الجمهرة 3 \ 513
(45) الجمهرة 3 \ 406

دور البصرة في نشأة الدراسات اللغوية  ـ 20 ـ

الخياشيم ، ثم الظاء والذال والثاء بطرف اللسان ، ثم الضاد من وسط اللسان(46)
  وشرع بعد ذلك بذكر صفات الحروف من حيث الهمس والجهر والرخاوة والشدة ، والمد واللين ، والإطباق ، إلى غير ذلك مما يدخل في اهتمام علم الأصوات اللغوية ، وهو أن كان مقلداً للخليل في سرد الدراسة الصوتية غير انه أفاد في تنوع الأمثلة وذكر الحروف الزائدة .
  وقد عقد ابن دريد أبوابا للفيف ذكر فيها بعض المواد خروجاً عن ميدان المعجم ، وألحقها في الثلاثي والخماسي .
  فمن الخلط الذي شاب كتاب ( الجمهرة ) ضمه إليه كتاباً بعنوان :
( باب في صفة النعل وهو خلط للنظام الأبجدي بنظام الموضوعات والمعاني )(47) .
ومن مواطن الارتباك فيه ( استخدامه المصطلحات الصرفية استخداماً مخالفاً للعلماء . فقد أطلق على أبواب المعتل من الكلمات اسم الصحيح دون حرج . . . ولم يرد بهذا الاسم إلا مجرد قصر هذه الأبواب )(48) .

شواهد الجمهرة
استشهد ابن دريد بآيات القرآن الكريم ، والحديث الشريف ، والشعر
  وفي استشهاده بالشعر لم يستشهد بشعر المولدين إلا مره واحده استشهد
فيما يشعر بشار بن برد(49).
وأهتم ابن دريد باللغات اهتماماً كبيراً ، ولعل اهتمامه بلغات اليمن يثير
التساؤلات عن تعصبه لقومه ( وركز عنايته باللغة اليمنية خاصة وذكرها في قريب من
220 موضعاً ، ولعل السبب في ذلك أنها لغته الأصلية ، وانه كان متعصباً لأهله من

**************************************************************
(46) محمد بن دريد وكتابه الجمهرة 275
(47) فصول في فقه العربية ط 2 ص 274
(48) المعجم العربي ـ د . حسين نصار 46
(49) الجمهرة 1 \ 127


دور البصرة في نشأة الدراسات اللغوية  ـ 21 ـ

اليمن )(50) .
أما التهم التي وجهت لأبن دريد في الجمهرة فأهمها :
1 ـ كثرة التصحيف
2 ـ افتعال العربية
3 ـ فساد التصنيف
4 ـ اضطراب التصنيف
 وقد أثرت ( الجمهرة ) في المصنفات التي ألفها من جاء بعده ، فأفادوا منها وأهمها :
1 ـ فائت الجمهرة لأبي عمر الزاهد 345 هـ
2 ـ جوهرة الجمهرة للصاحب بن عباد 385 هـ
3 ـ شرع شواهد الجمهرة لأبي العلاء المعري 449 هـ
4 ـ نظم الجمهرة لأبن معط 608 هـ
5 ـ مختصر الجمهرة لشرف الدين محمد بن نصر الله بن عنين الأنصاري الشاعر
630 هـ
  كما أفاد منه أصحاب المعجمات التي تلته من أمثال ابن فارس في
( المقاييس ) و ( المجمل ) والمقالي في ( البارع ) وغيرها ممن نهل منه ، وخاصة من تصدى لدراسة اللغات والفصيح من كلام العرب .
  وبعد فلارتباك الذي اشرنا إليه ، وسوء استخدام المصطلحات الصرفية ، وعسر الطريقة جعلت الرجوع إلى كتاب ( الجمهرة ) أمرا صعباً ، ولولا الفهارس الفنية التي جاءت متممه لجهد المؤلف لضل كتاب الجمهرة وعر المسلك لمن يريد الكشف عن الألفاظ فيه ، حيث كان عمل الناشر المضاف إلى جهد ابن دريد في صنع الجزء الرابع الخاص بالفهارس قد سهل ذلك كثيراً على المراجعين .
  غير إن الفهرس لا ينفع كثيراً إذا لم ترافق الباحث معرفه بطريقه ابن دريد

**************************************************************
(50) محمد بن دريد وكتابه الجمهرة 299 ، والمعجم العربي ـ د . حسين نصار 2 % 429

دور البصرة في نشأة الدراسات اللغوية  ـ 22 ـ

في مصنع الكتاب ، كذا فأول ما يجوزه طالب الكشف عن المفردات في الجمهرة معرفته بالزيادة التي تطرأ عليها ، وتجريد اللفظة منها أولا، وبعد ذلك ترتيب حروف المادة حسب الترتيب الهجائي ا ب ت ث مع الإلمام بنظام التقليبات ، وأسبقية حروف اللفظ في الترتيب الهجائي ، مع علمه بأن حرف الواو سابق لحرف الهاء في ترتيب ابن دريد ، رد على ذلك المعرفة التامة بالأبنية الثنائية والثلاثية والرباعية . . الخ ونوع الألفاظ صحيحة أو معتلة أو مهموزة . . . الخ .
طبعت الجمهرة في حيدر آباد بالهند بعناية المستشرق كرنكو عام 1344 هـ وأعيد طبعها بتحقيق الدكتور رمزي منير البعلبكي في بيروت عام 1987 .
أن الخليل بن احمد الفراهيدي ، وابن دريد حمل إلى العالم الإسلامي والعربي في البصرة وسائر الأمصار علم البصرة ، وذخيرة علمائها ، وعلما الأجيال اللاحقة صناعة المعجم العربي .

دور البصرة في نشأة الدراسات اللغوية  ـ 23 ـ

المصادر والمراجع


اختبار النحويين البصريين ـ السيرافي ـ تحقيق طه الزيني وعبد المنعم
خفاجي ـ مطبعة مصطفى ألبابي الحلبي ـ مصر ط 1 1955
ـ أثناء الرواة على أنباء النحاة ـ القفطي ـ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ـ
مطبعة دار الكتب القاهرة 1952
ـ أولية تدوين معاجم وتاريخ كتاب العين المروي عن الخليل ـ يوسف العش
ـ مجلة المجتمع العلمي بدمشق م 16 1941
ـ البحث اللغوي عند العرب ـ د . احمد مختار عمر ط2 عالم الكتب ـ
القاهرة 1976
ـ تراث الإنسانية ـ مجلة ـ م(1) عدد 11 ( العين للخليل بن احمد بقلم
الأستاذ إبراهيم الابياري 1963
ـ تهذيب اللغة ـ الأزهري ج1 ـ تحقيق عبد السلام محمد هرون ـ الدار
المصرية للتأليف والترجمة ـ 1964
جمهرة اللغة - ابن دريد ـ تحقيق كرنكو و محمد السيد الندوي ـ حيدر
أياد ـ الدكن 1334 هـ
ـ جمهرة اللغة تحقيق د . رمزي منير البعلبكي ـ دار العلم للملايين ـ
بيروت 1987
الخصائص ـ ابن جني ـ تحقيق د . محمد علي النجار ـ دار الكتب المصرية
ـ الصحاح ومدارس المعجمات العربية ـ احمد عبد الغفور عطار ط2 ـ
بيروت 1979
ـ العين ـ الخليل بن احمد الفراهيدي ـ تحقيق د . عبد الله درويش ج 1 ـ
بغداد
ـ العين ـ تحقيق د . مهدي المخزومي ـ و د . إبراهيم السامرائي ـ وزارة الثقافة
دار الرشيد للنشر 1980 ـ 1985

دور البصرة في نشأة الدراسات اللغوية  ـ 24 ـ

فصول في الفقه العربية ـ د . رمضان عبد التواب ـ دار الجليل للطباعة ـ القاهرة ط2 1980
ـ كلام العرب ـ د . حسن ظاظا ـ دار النهضة العربية ـ بيروت 1976
ـ لسن العرب ـ ابن منظور ـ طبعه مصوره عن طبعة بولاق
ـ المزهر في علوم اللغة وأنواعها ـ السيوطي ـ تحقيق محمد احمد جاد المولى
ورفيقه ألبابي ـ الحلبي ـ القاهرة
ـ مراتب النحويين ـ أبو الطيب اللغوي ـ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ط2
ـ محمد بن دريد وكتابه الجمهرة ـ د . شرف الدين ألراجحي ـ دار المعرفة
الجامعية ـ القاهرة 1985
ـ المعجم العربية ـ دراسة تحليليه ـ د . عبد السميع محمد احمد دار
الفكر العربي ـ ط 2 القاهرة 1974
ـ معجم الأدباء ـ ياقوت الحموي
ـ المعجم الربي ـ نشأته وتطوره ـ د . حسين نصار ـ ط 2 ـ القاهرة 1968