أخبارُ القاضي خالد بن طليق

  (حدّثنا عبد الله بن الحسن المؤدب عن النُمَيرْيّ، عن خالد بن عبد العزيز، قال : رأيتُ خالد بن طليق يوم جلس للقضاء مقدمه من بغداد جلس في صحن المسجد عند الطّست، وأمر بعبيد الله بن الحسن فأُحضرِ، وأمر مناديه أن ينادي : أينَ عبيد الله بن الحسن ؟ فدعا النّاس على خالد، فلماّ قعد بين يديه، قال : هذه الكُتُب فمَن يتسلَمُها ؟ فقد كان مَن قبلي يسلمُونها، وقد رأيتُ أن أجعلَها نسختين بمحضرٍ من شهودٍ عدولٍ، فتأخذُ واحدةً، ويكون عندي واحدة، وعليّ غرامةُ ذلك، فابعثْ مِن الشهود مَن يُعدَلُ، ومِن الكُتَاب مَن أحببت، ثمّ قام ودعا له النّاس، ونسخ الكُتب على نسختين لئلا يغيرَ شيئاً مِن أحكامه، قال : وكان عفيفاً عن الأموال، لا يأخذ على القضاء درهماً) (1) .
  (قال خالد بن عبد العزيز : وكان يطلب الأموال التي في أيدي النّاس من الوقوف والصدقات، حتى جعل لمن دلّه على شيءٍ من ذلك عشر العشر، فأخبر عن مال عبد الوهّاب بن عبد المجيد (2) ، فأرسل إليه، فسأله عنه ؟ فأقرَ له به، وقال : هو مِن وقوفٍ في يدي، فأمر بتثبيت الوقوف، فأحيا الوقوف بما أمر به في تثبيتها، وحمُِدَ ذلك منه) (3) .
  (أخبرني عبد الله بن الحسن عن النُمَيرْيّ، عن محمّد بن عبيد الله بن حمَاد، عن عبد الوهاب الثقفيّ، قال : قال لي محمّد بن سليمان الأمويّ : ما يكونُ من هذا الجاهل من العجائب ؟ قال : فقلتُ له : إنّ هذا ينسى فوكلْ به مَن يحفظه ويكتبه ويحصيه عليه، قال : فوكَل به جماعة يكتبون عجائبه التي يحكم بها، فكان مّا حفظوا عنه أنّه شهد عنده رجلٌ عدّله وثلاثةٌ لا يعرفهم، فقال : العَدْلُ يبقى بمكانه والثلاثة برجلٍ آخرَ عدْلٍ،

*************************************************
(1) وكيع أخبار القضاة: ج 2، ص 125 .
(2) عبد الوهّاب بن عبد المجيد الثقفيّ، يكنى أبا محمّد، كان ثقةً، وفيه ضعف، ولد سنة 108 هـ ، وتوفي بالبصرة سنة 194 هـ . ابن سعد، الطبقات : ج 7، ص 289 .
(3) وكيع أخبار القضاة : ج 2، ص 125 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 402 ـ

  فحكم بشهادتهم، وكان نهى الذّرّاع أن يذرعوا إلاّ بخاتمٍ يدفعه إليهم ويأذن في ذلك، فأتاه عاصم بن عبيد الله بن الوداع الكلابيّ، وهو أبو عمر بن عاصم الكلابيّ، المحدث بسورجي (1) ، قد كسح له أرضاً، فقال : أصلحك الله، إنَ هذا كسحَ لي أرضاً، وأنا أريد أن أذرعها عليه، فأقبل السورجيُ، فقال : أنت كسحتَها ؟ قال : نعم، قال : لَكَ بينة ؟ فقام إليه بعضُ مَن حضر، فقال : إنمّا هو أجيرٌ لهذا، فقال للسورجي : أ كذاك ؟ قال : نعم، قال فهي له إذاً، ثمَ أذِن له في ذَرْعِها) (2) .

وفادة أهل البصرة الى المهدي في أمر القاضي خالد بن طليق

  (أخبرني عبد الله بن الحسن عن النُميَرْيّ، قال : سمعتُ محمّد بن عبد الله الأنصاريّ، وخلاّد بن يزيد، وعبد الرّحمن بن عثمان بن الرّبيع يحدّثُ عن أبيه، ومحمّد بن عبد الله بن حمَاد، ومَن لا أُحصي، يخبرون خبر خالد بن طليق، وخبر الوفد الذين خرجوا في أمره، ولا أخلص حديث بعضهم من بعض، أنّ أخبار خالد وعجائبه انتهت إلى المهديّ، وكان محمّد بن سليمان لا يألوا ما أنهي ذلك إليه، وكان عبد الله بن مالك (3) يقوم بأمره للجراية عنه، فخرج محمّد إلى المهديّ في بعض خرجاتِه، فأكبّ على المهديّ يسأله عزله، حتى أجابه إلى ذلك، فقدم محمّد البصرة ووجده جالساً في المسجد يحكم، قال ابن حمّاد : فحدّثني محبوب بن هلال صاحب الدّيوان، قال : قال لي محمّد : ائتِ خالداً فانهَه عن الجلوس فقد عزله أمير المؤمنين، قال : فأتيتُه فأبلغتُه ذلك عن محمّد، فقال : (أمعه رسالة ?) قال : فأتيتُ محمّداً فأخبرتُه، فقال : لهفي على قاضي كذا، أنا أحمل إليه رسالة، أيا عمر

*************************************************
(1) سورجيّ : السّورجيُ رُحبة من رحاب البصرة في جانب بني ربيعة . ياقوت الحمويّ، معجم البلدان : ج 3، ص 79 .
(2) وكيع أخبار القضاة : ج 2، ص 127 _ 128 .
(3) عبد الله بن مالك الأزديّ، تولّى الشرطة لغاية خلافة هارون . خليفة بن خيّاط، تاريخ خليفة : ص 382 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 403 ـ

  انطلق حتى تسحبَ برجله من المسجد، فسبقَ الخبر إليه عميراً، فدخلَ داره، ثمَ خرج مُغِذَاً إلى المهديّ، فوجَه محمّد في أثره عثمان بن الرّبيع الثقفيّ، وإسحاق بن إبراهيم (1) الخطّابي، ومحمّد بن عبدالله الأنصاريّ، ويوسف بن خالد السّمتيّ (2) ، ويزيد بن عوانة الكلبيّ (3) ، وعيسى بن حاضر الباهليّ (4) ، وقد كان أمرهم قبل خروجهم أن يسمعوا مِن كلّ مَن شكا أو شهد عليه بشيءٍ، وقال بعضهم : إنّ المهديّ أمر محمّداً بذلك، فجعلوا ذلك كلَه في كتاب، ثمَ خرجوا، فركب كلُ رجلين في سفينةٍ، فكان الخطابيّ وعيسى بن حاضر في سفينةٍ، والأنصاريُ ويزيد بن عوانة في سفينةٍ، وعثمان بن أبي ربيع ويوسف ابن خالد في سفينةٍ، وخرجوا من البصرة ليلاً ، لكثرة النّاس، حتى انتهوا إلى بغداد، قال بعضهم : وقد كان خالد رُدّ على عمله، فلماّ بلغه سيرهم إلى بغداد، قال : لا أبرح حتى أفضحُهُم فأقام.
  وقال بعضهم : لم يُردد على عملِه، وأُمر بالمقام حتى يجمعَ بينهم، قال حمَاد : فحدّثني أبو يعقوب الخطّابي، قال : قال لي محمّد بن سليمان : قد أعياني الأنصاريّ إن بحثت إلى المعونة على خالد، قلتُ له : أطمِعه في القضاء، فأطمَعَه، فكان أشدّنا عليه، قالوا : فصرِنا إلى باب المهديّ، فلم نصل في أوّل يومٍ، فعُدنا من الغد، فجلس لنا ودخلنا عليه بُكرة، فلَم نزل بين يديه إلى قريبٍ من الظهر، فكان أوّل مَن تكلّم الخطّابيّ، فأثنى على أمير

*************************************************
(1) إسحاق بن إبراهيم بن كامجار، أبو يعقوب الخطابيُ، من أبناء خراسان من أهل مَرْو، رحل إلى اليمامة، ثمّ قدم البصرة. ابن سعد، الطبقات : ج 7، ص 353 .
(2) يوسف بن خالد بن عمر السمتيّ، ويكنى أبا خالد، مولى سهل بن صخر اللَيثي من بني كنانة، ولد سنة ( 120 هـ) في ولاية يوسف بن عمر، وسُمّي باسمه، كان له بصر بالرأي والفتوى والكتب والشروط، وقيل له السمتي للحيته وهيأته وسمتِه، والدّار التي كان فيها يوسف بالبصرة هي دار سهل بن صخر، توفي بالبصرة سنة 189 هـ . ابن سعد، الطبقات : ج 7، ص 293 .
(3) يزيد بن عوانة الكلبيّ، محدث ضعيف لا يتابع عليه. الذهبيّ، ميزان الاعتدال : ج 4، ص 436 .
(4) عيسى بن حاضر الباهليُ، لم نعثر على ترجمته .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 404 ـ

  المؤمنين، ثمّ ذكر خالداً، وكان خالد قد ساء بصرُه وكان تائهاً مستكبراً، فقال : مَن المتكلم ؟ فقيل له : إسحاق بن إسماعيل الخطابيُ، قال : إنَ هذا قدم علينا من الجزيرة طارئاً مختلاًّ، فولي قسم مالٍ فاختار أكثره، وبنى داراً بحضرة المسجد، فحمل على طريق المسلمين، وأدخل في داره منه أذرعاً، فهُدِمت عليه دارُه، وردت في طريق المسلمين ما أخذ منه، فتكلّم عثمان بن أبي الرّبيع، فقال : مَن هذا ؟ قيل : عثمان بن أبي الرّبيع، فقال : ليس هذا مِن مجُالسي هذا يا أمير المؤمنين، هذا صاحبُ سخطٍ وهوٍ وباطلٍ، هذا قُيّض على هر حمارٍ بدرهم.
  فقال المهديّ : دعوا الفحش واقصدوا ما جئتم له، فقال عثمان : يا أمير المؤمنين إليَ يقول هذا ؟ فإذا لم يكن هذا من مجالسي مَن يكون ؟ فو الله إنيّ لعالمٌ وإنّه لجاهلٌ وسترى مصداق ما أقول يا أمير المؤمنين، فلنبحث في رجلٍ ترك ثلاثَ بناتٍ وأوصى بمثلِ نصيبِ إحداهُنَ، فسكت.
  فقال المهديّ : أجِب، فقال : لمَِ أجيبُه يا أمير المؤمنين ؟ هذا إنمّا بحسْبِه الذراع ! فتبسّم المهديُ، وعلم ألاّ علمَ له، فقال الأنصاريُ : يا أمير المؤمنين، وما يصلُح هذا لولاية سوقٍ من الأسواق، فقال السّمتيُ : صدق يا أمير المؤمنين ما أعلمُه يصلُح لسوقٍ من الأسواق، فقال خالد : يا أمير المؤمنين، أمّا الأنصاريُ فرجلٌ حقودٌ كان يتولىّ وقفاً من وقوف أهلِهِ، فكان يسُيء الأثر فيه فإذا أدخلتُ معه رجلاً فحسُن أثرُ الرّجل فحقد ذلك، وأمّا ذاك فيُدعى السّمتيَ، وليس بالسَمتي، ولكنّه السّبتيُ، يحلقُ شاربَه، ويبيع الكنائس والبِيَع، يخاصم اليهود والنصارى، فقال يوسف : نعم إنيّ لأُخاصمُهم فأردُ كثيراً عن ضلالهم وكفرهم.
  فقال المهديّ : ولمَِ يحلق شاربَك ؟ قال السُنّة يا أمير المؤمنين، قال ليست بالسُنَة، ولو كانت السُنَةُ كنّا أعلم بها، حدّثني أبي عن جدي عن ابن عبّاس، قال : إحفاءُ الشارب

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 405 ـ

  الأخذ منه على أطرته.
  ولم يكن لي القوم أحدٌ أشدَ عليه من عثمان بن أبي الرّبيع ، أنّه كان يُظهر جهله، وقال : يا أمير المؤمنين، إنّ هذا سأله سائلٌ عن اسم أم النبي (ص) فلم يدرِ ما اسمُها، فكتب له بعضُ مَن يعني به في الأرض : آمنة، فقال : أميّة، فصحّف في اسمِها، فلماّ كثر كلام القوم، قال لهم عبد الله بن مالك، وهو قائمٌ على رأس المهديّ : قد غممتُم أمير المؤمنين بلغطكم، فكفُوا واسكتُوا، فنظر أمير المؤمنين إلى عيسى بن حاضر، وكان صامتاً لا يتكلّم بشيءٍ، فظنَ عيسى أنّه يستطمعه الكلام، فقال : أنْ أدنُ مِن أمير المؤمنين، فَدَنا حتى قرُب منه، فقال : يا أمير المؤمنين، اصطنعتَه وشرّفتَه ورفعتَه، فإن رأيتَ أن تسترَه فافعل، فقال نعم أسترُهُ وأصرفُهُ.
  وقام عيسى إلى مجلسه، وقال : يا أمير المؤمنين، إنيّ خلّفتُ رجلاً مريضاً دَنِفَاً فإنْ رأى أمير المؤمنين أن يأذَن لي فعل، قال : قد أذِنتُ لكم جميعاً، وأمر لكل رجلٍ منهم بثمانية آلف درهم، وقال بعضهم : خرجُوا وقد أقام صاحب الشرُط الصّلاة للظهر، فتقدّم خالد إليه فصلىّ ركعتين، وقال : أتمُوا الصلاة فأنا سَفَرٌ، ويقال : لقد قال وهو في المجلس وهم يتصمون : مِن ههنا ؟ كأنّه كان يريد أن يأمرَ ببعض خاصَتِهِ، قال : فكان المهديُ يقول : ندِمتُ ألاّ أقولَ أنا ههنا فما تأمر ؟
  وقال بعضُهم : خرجوا مرعوبين لم يتبينّ لهم في أمر خالدٍ شيءٌ، فذهبوا، فخرج عليهم المعلّى، فسألوه، فقالوا له : هل ظهر لك رأي أمير المؤمنين في صاحبنا، فقال : أنتم عيون أهل مصركم تسألوني عن أمرٍ سرَهُ أمير المؤمنين عنكم ليخبركم بسره ؟، ثمَ خرج عليهم ليث أخو المعلّى فسألوه، فقال : مثل ذاك، ثمّ خرج عليهم الفضل بن الرّبيع فقاموا إليه، فبدأهم، فقال : قد عزله أمر المؤمنين عنكم، فاختاروا رجلاً نوليه عليكم، فقال له السمتيُ : إن قام هذا أشرت، يعني : الأنصاريّ، قال يوسف : هذا عفيفٌ شريفٌ

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 406 ـ

  فقيهٌ، فقال عثمان بن أبي الرّبيع : صدق، هو كما قال، ولكنّه لم يُصِب في المشوَرَة به، هذا رجلٌ يأتمُ بأبي حنيفة ويميلُ إلى رأيه، ولنا في بلدنا أحكامٌ يُبطلها أبو حنيفة، لا يصلحنا غيرها، فإن حكم فينا بغير أحكامِنا بطَلَت وذهَبَت أموالُنا، كأنّه يذهب في الوقوف، وانصرفُوا عن الأنصاري ، وولىّ المهديُ عمر بن عثمان التيميَ (1) ، ويقال : إنَ خالداً أنشد يومئذٍ بين يدي المهديّ :
إذا القرشيُ لم يضرب بسهمٍ      خـزاعيّ فليس مِن الصَميمِ
  فهمّ به المهديُ، ثمّ أضرب عنه، وتمثّل :
إذا كنتَ في أرضٍ وحاولت غيرَها      فـدَعْـها وفـيها إن أردتَ iiمـعادُ
  وكان خالد بن طليق لا يزول عن مقامه إلا إذا أُقيمت له الصّلاة، فربمّا كان الصفُ أمامه، فقال له رجلٌ مرّةً : استوِ بالصف، فقال : بل يستوي الصفُ بي، وقال محمّد بن مناذر (2) في الذي كان بين يدي المهدي :
لـما التقَوا عند إمامِ الهدى      أفـحم  بـين الستّة iiالوافدُ
وصار كالكركي لما انبرت      لـه  غـزاةٌ كـلُها iiصائدُ


*************************************************
(1) عمر بن عثمان بن موسى بن عبيد الله بن معمر التيميُ، ولاّه المهديُ بعد خالد بن طليق، واستمرَ حتى أيّام هارون العبّاسي، كان من وجوه قريش وبلغائها وفصائحها وعلمائها، خرج حاجَاً ولم يرجع، إذْ أقام في المدينة ولم يزل بها حتى مات . وكيع أخبار القضاة : ج 2، ص 133 ، 134 .
(2) محمّد بن مناذر مولى بني جبير بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، يكنى أبا جعفر، وقيل : أبا ذريح، وقيل : أبا عبد الله، كان من أهل عدن، قدم إلى البصرة طلباً للعلم والأدب، وقد ظلَ في البصرة زمناً، وكان أوّل أمره ناسكاً يتألّه، ثمَ ترك ذلك وهجا النّاس وتهتّك، فوعظه المعتزلة فلم يتّعِظْ، فهجاهم، حتى نفي إلى مكّة، حيث توفي هناك سنة 198 هـ، وصف بأنّه كان شاعراً فصيحاً مقدّماً في العلم واللُغة وإماماً فيها . ينظر : ابن قتيبة الدينوريّ، الشّعر والشّعراء : ج 2، ص 747 ، ياقوت الحمويّ، معجم الأدباء : ج 5، ص 447 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 407 ـ

يــأخـذه ذا مــرّةً ثــمَ iiذا      كـأخذِ عـبدٍ آبـقٍ فـاسدِ (1) ii
بـاراه  مـنهم حـليف iiالـتقى      ذو الإرْبِ والأكرُومةُ الماجدُ (2)
أعـني  أبـا يعقوب أهل iiالحِجا      نِـعْمَ  لَـعمري الـكهلُ iiوالوافدُ
ثـمَ  انـبرى عـثمان في iiقولِه      ذاك الأديــبُ الـسيدُ الـراشدُ
فـقال : يـا خـالدُ مـاذا iiترى      فــي مـيتٍ يـفقِدُهُ الـفاقدُ ii؟
خـلّـى بـنـاتٍ كـلُهم عـالةٌ      يـرحـمهُنَ  الـصادرُ الـواردُ
وقـال : أعطوا ذا الفتى مثل iiما      يـأخذُ بـنتٌ إن مـضى iiالوالدُ
قـال  أخو الأنصار : هذا iiالذي      تــاهَ  ومـا أرشَـدَهُ iiالـرّاشدُ
قـال  لـه عيسى : وما إن iiأسا      لا يـكـذبَنْ أصـحابَك iiالـرائدُ
اسـتره يـا خـيرَ بـني iiهاشمٍ      سـرَك  ربـي الـصّمدُ iiالواحدُ
فـقال  : إنـيّ عـازلٌ iiخـالداً      إذْ  لـم يـكن مـنكم لـهُ iiحامدُ
  ودخل معاذُ بن معاذ (3) المسجد، وهو يومئذٍ قاضٍ، فرأى خالداً جالساً قد كُفَ بصرُه، فعدل إليه وسلّم، وقال : كيف صبحت يا أبا الهيثم ؟ فعرف صوتَه، فقال : أ معاذٌ ؟ قال : نعم، قال أشدُد يدك بالأوصياء، فإنهّم أكَلَةُ أموالِ اليتامَى، فعجب معاذ مِن تَيهِهِ وكِبرِه، وقال : لا سلّمتُ على هذا أبداً) (4)

*************************************************
(1) هكذا في الأصل، وفي البيت إقواءٌ عروضيٌ . (الناشر) .
(2) هكذا في الأصل، والبيت فيه اضطرابٌ بالوزن . (الناشر) .
(3) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان بن الحرّ بن مالك العنبريُ التميميُ، يكنى أبا المثّنى، ولد سنة 119 هـ ، وولي قضاء البصرة هارون العبّاسيّ سنة (173 هـ) ، وعزل وولي مرةً ثانية سنة (181 هـ) ، وتوفي بالبصرة سنة (196 هـ) . بن سعد، الطبقات : ج 7، ص 293 ، وكيع، أخبار القضاة : ج 2 ، 137 ، 145 ، 147 .
(4) وكيع، أخبار القضاة : ج 2، ص 129 ـ 132 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 408 ـ

أخبارُ أبي دلامة (1)
خبرُ كتاب أبي دلامة لسعيد بن دعلج


  (وذكر ابن شبَة في كتاب أخبار البصرة، أنّ أبا دلامة كتب إلى سعيد بن دعلج، وكان يومئذٍ يتولىّ الأحداث بالبصرة، وأرسلها إليه من بغداد مع ابن عمٍ له :
إذا جـئتَ الأمير فقُل : iiسلامٌ      عـليكَ  ورحـمةُ اللهِ iiالرّحيمِ
وأمّـا بـعد ذاك فـلي iiغريمٌ      مِـن  الأعرابِ قُبّح مِن غريمِ
لـه ألفٌ عليَ ونصفُ iiأخرى      ونصفُ النصفِ في صكٍ قديمِ
دراهـمُ  ما انتفعتُ بها iiولكن      وصـلتُ بها شيوخَ بني iiتميمِ
  فسيرَ إليه ابن دعلج ما طلب (2) .

قتالُ أبي دلامة في خراسان مع والي البصرة روح بن حاتم المهلبي (3)

  (ومن كتاب أخبار البرة... وكان روح بن حاتم امهلَبيّ والياً عل البرة، فخرج إى حرب اجيوش اخراسانيّة، ومعه أبو دُلمة، فخرج مِن ص ي ف العد ي و مبارزاً، فخرج إليه ماعةٌ فقتلهم واحداً بعد واحدٍ، فتقدَم روح إى أي دُلمة مبارزتِهِ فامتنع، فألزَمَه ذلك، فاستعفاهُ فلم يُعْفِه، فأنشد شعراً:

*************************************************
(1) أبو دلامة : هو زند بن الجون مولى قصاقص الأسديّ، صحِبِ السَفّاح والمنصور، ومدحهما، وبقي إلى أوّل خلافة هارون العبّاسيّ، وقيل : لم يبلغها، كان عبداً حبشيّاً، صالِح الفصاحة، كثير النوادر بالشعر، وصاحب بديهة . الخطيب البغداديّ، تاريخ بغداد : ج 1، ص 104 ، ج 8، ص 490 .
(2) ابن خلّكان، وفيات الأعيان : ج 2، ص 322 .
(3) روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلَب، أبو خلف، ويقال : أبو حاتم الأزديّ، قدِم مع المنصور إلى دمشق وولاّه أفريقية، ثمَ تولّى البصرة، ثمَ الكوفة للمهديّ سنة 166 هـ ، وتوفيّ سنة 174 هـ . ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق : ج 18 ، ص 234 ، 236 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 409 ـ

إنـي أعـوذُ بـروحٍ أن iiيُقدّمني      إلـى  القتال فيُخزى بي بنو iiأسدِ
إني  المهاب حب الموت iiأورثكم      ولم أرِث قطُ حبَ الموتِ من أحدِ
إنَ الـدُنُوَ إلـى الأعـداء iiأعلمُهُ      مـمّا يـفرقُ بين الرُوحِ iiوالجَسَدِ
  وأصحابه) (1) .
  فأقسم عليه ليخرجَنَ، وقال : لماذا تأخذُ رزق السُلطان ؟ قال : لأقاتلَ عنه، قال : فما بالُك الآن لا تبرز إلى العدو، فقال : أيهُا الأمير، إن خرجتُ إليه لحقتُ بمَن مَضى، وما الشرَطُ أن أُقتَلَ عن السُلطان، بل أُقاتلُ عنه، فحلَف روح لَيَخرُجَنَ إليه فتقتله، أو تأسره أو تقتل دون ذلك، فلماّ رأى أبو دلامة الجدَ منه، قال : أيهُا الأمير، تعلمُ أنَ هذا أوّلَ يومٍ مِن أيّام الآخرة، ولابُدَ فيه مِن الزّوادة، فأَمَرَ له بذلك، فأخذَ رغيفاً على دجاجةٍ ولحمٍ وسطيحةٍ (1) من شرابٍ، وشيئاً من بقلٍ، وشهر سيفَه وحمل، وكانت تحته فرسٌ جوادٌ، فأقبل يجولُ ويلعبُ بالرُمح، وكان مليحاً في الميدان، والفارس لا يلحظُه، ويطلب منه غرّة، حتى إذا وجدها حمل عليه، والغُبَار كاللَيل، فأغمَد أبو دلامة سيفَه، وقال للرَجل : لا تعجل، واسمَع منّي عافاك الله كلماتٍ ألقيهنَ إليكّ، فإنمّا أتيتُك في مهمٍ، فوقف مقابلَه، وقال : ما المهمُ، قال : أتعرفني ؟ قال : لا، قال : أنا أبو دُلامة، قال : سمعتُ بك حيّاك الله، فكيف برزت إليَ وطمِعت فيّ بعد مَن قتلتُ من أصحابك ممّن رأيت ؟ قال : ما خرجتُ لأقتلك ولا أقاتلك، ولكنّي رأيتُ لياقتك وشهامتك فاشتهيتُ أن تكونَ لي صديقاً، وإنيّ لأدلُك على ما هو أحسنُ مِن قتالنا، قال : قل على بركة الله تعالى، قال : أراك قد تعبت وأنت سقيانُ ظمآنُ، قال : كذلك هو، قال : فما علينا من خراسان والعراق، وإنَ معي خبزاً ولحماً وشراباً بقلاً كما يتمنّى المتمنّي، وهذا غديرُ ماءٍ تميّز بالقرب منّا، فهلُمَ بنا إليه نصطبح، وأترنَمُ إليك بشيءٍ من حَدْي الأعراب، فقال : هذا غايةُ أملي .

*************************************************
(1) سطيحة : السَطيحة والسَطيح، المَزادة التي مِن أديمينِ قُوبِل أحدُهما بالآخر، وتكون صغيرة وتكون كبيرة ... أو المزادة أكبر منها، وهي من أواني المياه . لسان العرب : ج 2، ص 484 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 410 ـ

  قال : فها أنا أنتظرُ ذلك فاتّبعني حتى تخرج من حلقة النضال، ففعلا، وروح يتطلَبُ صاحبه فلا يجدُهُ، والخراسانيّة تتطلَبُ فارسها فلا يجدُهُ، فلماّ طابت نفس الخراساني قال له أبو دلامة : إنَ روحاً كما علمت من أبناء الكرام، وحسبُك بابن المهلّبِ جودا،ً وإنّه يبذلُ خِلعةً فاخرةً، وفرساً جواداً، ومركباً مغضضاً، وسيفاً محدّاً، ورمحاً طويلاً، وجارية بربريّة، وإنّه ينزلك في أكبر العطاء، وهذا خاتمه معي لك بذلك، فقال : ويحك وما أصنع بأهلي وعيالي، قال : استخر الله تعالى وأسرع معي، ودَعْ أهلَكَ، فالكلُ يخلُفُ عليك، فقال : سرِ بنا على بركة الله تعالى.
  فسارا حتى قدما من وراء العسكر، فهجما على روح، فقال : يا أبا دلامة أينَ كنت ؟ قال : في حاجتك، أمّا قتلُ الرّجل فما أُطيقه، وأمّا سفُك دمي فما طبتُ به نفساً، وأمّا الرّجوع خائباً فلم أقدم عليه، وقد تلطّفتُ وأتيتُك بالرّجلِ أسير كرمِك، وقد بذلتُ له عنك كيت وكيت، فقال : يمضي إذا وثق لي، قال : بماذا ؟ قال : ينقلُ أهلَه، فقال الرّجل : أهلي على بعدٍ ولا يمكنني نقلهم الآن، ولكن أمدُد يديك أصافحك، وأحلف لك متبرعاً بطلاق الزّوجة أنيّ لا أخونك، فإن لم أفِ إذا حلفتُ بطلاقها لم ينفعك نقلها، قال : صدقت، فحلف له وعاهده، ووفى بما ضمنه أبو دلامة وزاد عليه، وانقلب الخراسانيُ معهم يقاتل الخراسانيّة وينكأ فيهم أشدَ نكاية، وكان أكثرَ أسبابِ ظَفَر روح) (1) .

أخبارُ القاضي عبد الرحمن بن محمد المخزومي (1) (172 هـ / 788 م)

  (فأخبرني عبد الله بن الحسن عن النُمَيرْيّ، قال : حدّثني عبد الواحد وأبو بحر، قال : حدّثني صقر صاحب النجايب، قال : والله إنيّ لَعند محمّد بن سليمان يكلمني في

*************************************************
(1) اليافعيّ، مرآة الجنان : ج 1، ص 343 _ 345 .
(2) عبد الرّحمن بن محمّد بن أبي بكر بن عبيد الله بن عبد الرّحمن بن الحارث بن هشام المخزوميّ، ولاه محمّد بن سليمان قضاء البصرة أيّام هارون العبّاسي . وكيع، أخبار القضاة : ج 2، ص 140 .


اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 411 ـ

  أمر النجايب (1) إذ دخل عليه محمّد بن منصور، فقال : هذا عبد الرّحمن المخزوميّ، قال : أدخله، وجلس، فقال له محمّد : إنيّ قد أردتُ أن أرفعك وأشرفك فقد ولَيتُك القضاء، قال : إنيّ والله ما أُحسنه وما أصلح له، فقال محمّد : هذا كلام قد تعلّمتُوه، ولابدَ من أن تقولوه، انهض فإنيّ غير معفِيك، فقال : إذن والله أُفتضَحَنَ، فقال محمّد بن منصور : أنظر منذراً على الباب، فقال : قد انصرف، فقال : لو كان حاضراً لأمرته أن يأخذ بيدك فيُقعدك في مقعدك، فقال : إنيّ أسألك بحق أبي أيّوب إلاّ أعفيتني، فقال : والله لا أعفيك.
  فقام وانصرف، فأتى أباه، وكان شيخاً سهلاً سمْحاً، فيه أخلاقُ قريش، جلس على بابه، فإذا حضر وقت غدائه دعا بخِوانه، فإنْ كان عنده لحمٌ أكل، وإلاّ اجتزى بما حضر، فأكل ويأكل معه الرّجلُ والرّجلانِ من جلسائه، فأتاه ابنه، فقال : يا أبَه أرانا والله قد أفتُضِحنا، قال : وما ذاك يا بني نعوذُ بالله من الفضيحة، قال : قد عزم هذا على توليتي القضاء، وولله لئن وُلّيتُه لاُفتضَحنَ، قال : قال فهنّاك الله ما ولاّك، ركبت البغلة الشهباء، وتساندت إلى الأسطوانة، ووضعت إحدى رجليك على الأخرى، وقلت : قال أبو حنيفة، وقال زفر طلباً هذا الأمر، وقد بلغته فهنّاك الله.
  قال : يا أبه أنا أعلم بنفسي، والله لئن وليت لأُفتضَحَنَ، فقال : يا بني أعوذ بالله من الفضيحة، والله ما قلت لك ما قلت إلاّ مازحاً، فأمّا إذا كان هذا منك الجِدَ فسأبلغ جهدي إن شاء الله، قال صقر : فو الله إنيّ لَعِندَ محمّد بن منصور وهو يلقي الباب بوجهه إذْ قال : هذا المخزوميُ، فدخل عليه، فقال : استأذن لي على الأمير، فقال : إنَ الأمير يريد الدخول، فقال : والله إنَ مؤنتي عليه لخفيفة، فتذمّمَ منه، وقام فاستأذن له فأذِن له.
  فقال : أصلح الله الأمير، إنّ لنا أنّك ولّيته القضاء، وإنيّ لأعلمُ أنّك لم تُرد إلاّ خيراً

*************************************************
(1) النجايب : جمعُ نجيبة، والنّجيب من خيار الإبل، والنجابة إذا كان فاضلاً نفيساً في نوعه، والنجابة في نجائب الإبل، وهي عِتاقُها التي يُسابَق عليها . ابن منظور، لسان : ج 1، ص 748 _ 749 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 412 ـ

  وقد حلف لي أنّه لا يضبطُ ما ولَيته، ولئن تمّمت على رأيك فيه ليُفتضِحنَ، فإنيّ رأيتُ ألاّ تهتك أستارنا فافعل، فقال : والله ما أردتُ إلاّ تشريفكم ورفعكم، فإذا كان هذا رأيك ورأي ابنك قد أعفيتَه، قال عبد الواحد : فكرّ عليه فالتزمه فقبِلَه، قال عبد الواحد : فأقام شيئاً يسيراً، وكان هو يكتبُ شهادةَ الشهود بيده، فيكتبُ ما يُملى عليه، ثمَ يسأل هو عن الشهود بنفسه، ويقول : إنَ الذَراع (1) لا يكون إلا الشهادة القاطعة، حتى ربمّا اضطرُوا الشاهد إلى أن يحورَ شهادته، ثمّ استعفى فأُعفِي، قال عبد الواحد : فحدّثني خلف بن عَمْرو أخو رياح العنسيّ، قال : كنتُ أُبالغ في أمرٍ من الأمور إلى القضاء، فتنازعت فيه إلى ثلاثةٍ، كلُهم يُعزَل قبل أن يقطَعَه، وكنتُ أُشاور فيه المخزوميَ، وكان به عالماً، فلماّ ولي نازعتُ إليه فيه، قال : فو الله إنّه لجالسٌ يوماً ينظر بين الخصوم، إذ نظر إليَ قائلاً فصاح، فأتيتُه، فقال : أوه، قد عُزِل ثلاثةٌ من القضاة قبل أن يقطعُوا أمرَك، وقد ضرب إلى فِيه، والله إنيّ لأرجُو أن أُعزل قبل أن ينقطِعَ على يدي، قال فو الله ما أتى عليه أسبوع حتى عزله، وما قطعه، وإنماّ ولي أربعة أشهر، وكان أوّل مَن قضى على البصرة ممّن يقول بقول أبي حنيفة) (2) .

أخبارُ القاضي عمر بن حبيب العدويّ (3) (172 _ 181 هـ / 788 _ 797 م)

  (وقال عمر بن شبَة : كان عمر بن حبيب في ولايته محموداً صُلْباً سائساً، هابه النّاس هيبةً لم يهابوها قاضياً، وكان مِن قيامِه في أمر الضياع ورد شهادات مَن شهِد حتى صرف

*************************************************
(1) الذّراع، ذرع بالشيء أقرّ به. ابن منظور، لسان العرب : ج 8، ص 96 .
(2) وكيع، أخبار القضاة : ج 2، ص 140 _ 141 .
(3) عمر بن حبيب بن محمّد العدويّ القاضي، تولّى قضاء البصرة، ثمَ الرقيّة للمأمون، وكان صُلْباً في القضاء، توفي سنة 207 هـ . الذهبيّ ،سير أعلام النبلاء : ج 9، ص 490 _ 491 ، الزركليّ، الأعلام : ج 5،ص 43 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 413 ـ

  الله به عن النّاس في ضياعهم بلاءً عظيماً) (1) .

خبر التنازع على ولاية البصرة والشكوى ضد القاضي العدويّ

  (فأخبرني عبد الله بن الحسن عن النُميَرْيّ، قال : أخبرني الفضل بن جعفر، قال : خرج أمير المؤمنين هارون حاجّاً، ووجَه بخزيمة بن خازم (2) رابطة بالبصرة، وعلى البصرةِ يومئذٍ عيسى بن جعفر (3) ، وخليفتُه بها المهلَب بن المغيرة، فلما حضرت الجمعة أرسل خزيمة إلى المهلَب يأمره بالاعتزال، فأرسل إليه المهلَب : اجئتني بكتابٍ أعتزِل ؟
  فأرسل خزيمة شعبة بن ظهير أحد بني عمه، فقال : إنْ دنا المهلَب من المسجد فاضرب عنقَه، وأقبل المهلَبُ يريد الجمعة، قال الفضل : فأرسل إلى عمر بن حبيب، وهو يومئذٍ قاضي البصرة، فأتاه، فقال له : إلقَ المهلَب، فقل له : إنَ مثل المهلَب لا يسأل كتاباً بولايته، فلقِيَه عمر وهو مقبلٌ إلى المسجد فردَهُ، وصلىّ خزيمة، وشكا عمر بن حبيب إلى الرشيد، ونصب له أبو عَمْرو بن حميد السعافيّ (4) ، فكتب الرشيد إلى عيسى بن جعفر وأمره أن يجمعَ عشرة من أهل الحِجَا من أهل البصرة فيسألهم عنه، فأحضر محمّد بن

*************************************************
(1) ابن حَجَر العسقلاني، تهذيب التهذيب : ج 7، ص 379 .
(2) خزيمة بن خازم النهشيُ القائد، كانت له منزلة عند العبّاسييّن، أصله خراسانيٌ، إلاّ إنّه نزل بغداد وأقام بها، ودَرْبُ خزيمة ببغداد يُنسب إليه، ولي البصرة هارون، والجزيرة للأمين، وخلال الحرب بين الأمين والمأمون انحاز للمأمون، واشترك في حصار بغداد، توفي سنة 203 هـ . الخطيب البغداديّ، تاريخ بغداد : ج 8، ص 336 _ 337 ، الزركليّ، الأعلام : ج 2، ص 305 .
(3) عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور، من وجوه بني هاشم وسراتهم، ولي إمارة البصرة وخرج من بغداد يقصد هارون، وهو إذْ ذاك بخراسان، فأدركه أجله بالدّسكرة من طريق حُلوان، توفي سنة 172 هـ . اخطيب البغداديّ، تاريخ بغداد : ج 11 ، ص 158 .
(4) لم نعثر على ترجمته.

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 414 ـ

  حفص (1) ، وإسحاق بن إبراهيم الخطّابي (2) ، وبكّار بن محمّد بن واسع السّلميّ، ومعاذ ابن معاذ، ومحمّد بن عبد الله الأنصاريّ، وعبد الرحّمن بن محمّد المخزوميّ، وبشِر بن المفضّل بن لاحق (3) ، وعثمان بن أبي الرّبيع، وعثمان بن الحكم الثقفييّن، وآخر ذهب عن أبي بكر اسمُه، فسأهم عنه ؟ فقال المخزوميُ : لا أعرف خيراً ولا شرّاً، وقال الأنصاريُ : خيرٌ له أن يتركَ مجلسه، فقد سمعتُ مَن يشكوه، وخرج عثمان إلى الحيرة، وبها الرشيد، بغير إذنه، فغضِب عليه، ثمَ رضيَِ عنه، وأمره بالرُجوع، وقد حجَ واستخلف عثمان بن عثمان (4) الغطفانيَ، خال أبي عبيدة النحوي) (5)

أخبار السيّدِ الحميريِّ (6)

  (أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، حدّثنا عمر بن شبَة، قال : أتيتُ أبا عبيدة مَعمر بن المثنّى، وعنده رجلٌ مِن بني هاشمٍ يقرأُ عليه كتاباً، فلماّ رآني أطبَقَهُ، فقال له أبو عبيدة : إنَ أبا زيدٍ ليس ممّن يحُتشَمُ منه فاقرأ، فأخذ الكتابَ وجعل يقرؤه، فإذا هو شعرُ السيد، فجعل أبو عبيدة يعجَبُ منه ويستحسنُه، قال أبو زيد : وكان أبو عبيدة يرويه، قال : وسمعتُ محمّد بن أبي بكر المقدّميَ يقول : سمعتُ جعفر بن سليمان (7) الضبعيَ يُنشد

*************************************************
(1) محمّد بن حفص بن عَمْرو بن موسى، من أهل البصرة، محدث ثقة. ابن حِبّان البستيّ، الثقات : ج 9، ص 71 .
(2) تنظر ترجمته ص 421 .
(3) بشر بن المفضّل بن لحق مولى بني رقاش، يكنى أبا إسماعيل، توفي سنة 187 هـ . ينظر، خليفة بن خيّاط، طبقات خليفة : ص 387 ، ابن حِبّان البستيّ، مشاهير علماء الأمصار : ص 254 .
(4) عثمان بن عثمان الغطفانيُ، أبو عَمْرو القاضي البصريّ، صدوق. ابن حَجَر العسقلاني، تقريب التهذيب : ج 1، ص 662 .
(5) وكيع، أخبار القضاة : ج 2، ص 142 _ 143 .
(6) السيّد الحميريُ، شاعرٌ بصريٌ توفي سنة 173 هـ . ينظر ترجمته في الباب الأوّل، الفصل الأول.
(7) جعفر بن سليمان الضبعيُ، وهو مولى لبني الحريش، ويكنى أبا سليمان، كان شيعيّاً ثقة، توفي سنة

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 415 ـ

  شعرَ السيد) (1)

خبرُ عزل عمر بن حبيب العدويِ وتولية معاذ بن معاذ العنبريِ قضاء البصرة للمرّة الثانية (181 _ 191 هـ / 797 _ 806 م )

  (أخري عبد اه بن احسن عن النُمَرْيّ، عن خالد بن عبد العزيز الثقفيّ، قال: ما وي معاذ بن معاذ، قال أبانُ بن عبد احميد) 2( الاّحقيُ:
يا  معاذُ بن معاذِ الخير      يــا خـيـرَ iiحـكيم
اتّـقِ الله فقد iiأصبحت      فــي  أمـرٍ عـظيم
لا تولي الدهرَ مَن أنت      بــه  جِــدُ iiعـليم
قـد  تـهيّا iiاللاحقيون      وأبــنـاء  iiتـمـيم
شمَروا  القُمْص iiوحلُوا      مـوضع الـسَجْدِ بثوم
لـزِموا  مـسجدنا iiمع      ضـيـعته أي iiلـزوم
صـام مـن أجلك iiمَن      لـم يـكُ منهم iiلِيصوم
وهو ذئبٌ يرقُبُ iiالغِرّة      فــي الـلَيل الـبَهيم
كـلُهم يأمل أن iiيودعَه      مــــال iiيـتـيـم
  وقال آخر ما عزل بن حبيب وولي معاذ :

*************************************************
178 هـ ، ابن سعد، الطبقات : ج 7، ص 288 .
(1) أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني : ج 7، ص 255 .
(2) أبان بن عبد الحميد بن لاحق بن عفير، مولى بني رقاش، شاعر من أهل البصرة، مقدّم في العلم بالشعر والحفظ له، قدم بغداد فاتّصل بالبرامكة وانقطع إليهم، وحمل لهم كتابَ كليلة ودمنة، وله مدائح في هارون العبّاسي، والفضل بن يحيى البرمكي. ينظر الخطيب البغداديّ، تاريخ بغداد : ج 7، ص 47 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 416 ـ

يـا مَـن لدهرٍ أتى iiبحاجتِنا      أعـقـبنا  ريـبُه iiومـنقلبُه
أعـقبنا  مِـن قضاتِنا iiرجلاً      كـالثَور مـسترسل له غببُه
كـنّا نشقُ الجيوبَ من iiعمر      حتى  ابتلينا بمَن خلا iiعجبُه
يـا  شـؤم قومٍ أتوا iiخليفتنا      هُـمُ أشـاروا به وهُمْ iiسببُه
مـا  وفـقوا للسَداد فيه iiولا      أفـلحَ مَـن ساقَه ومَن iiجَلبَه
أحـولُ  مـثلُ البَعيرِ iiجثَتُه      لا عقلُه يُرتجى ولا أدبُه (1)
  (وأخبرني عبد الله بن الحسن عن النُميَرْيّ، عن قثم بن جعفر بن سليمان، قال : كان معاذ سيّء الرأي في مؤنس بن عمران (2) ، قد همَ أن يمنعه من دخول المسجد الجامع، فكلّم مؤنِس بنجاب (3) أن يجعلَ أرزاقَه إليه، فكانت تجري مِن تحت يدَي مؤنِس لابتياعه الطعام، فأدرَها مؤنِس عليه، فحسُن رأيُه في مؤنس، حتى كان يقول : مؤنِس مؤنِس ويضمّنه الأموال) (4) .

خبرُ وفاة العبّاس بن الاحنف (5) (188 هـ / 803 م)

  (وقال عمر بن شبَة : توفي سنة 88 – يعني ومائة – وقال غيره : بقي بعد الرّشيد) (6)

*************************************************
(1) وكيع، أخبار القضاة : ج 2، ص 147 .
(2) مؤنس بن عمران، هو مويس بن عمران، أحد المتكلّمين. ابن ماكول، إكمال الكمال : ج 7 ، ص 300 .
(3) ربَا كان المقصود المنجاب وليس بنجاب، والمنجاب هو ولد أبي عيينة بن المهلَب، كان له قدر بالبصرة . ابن حزم الأندلسيّ، جمهرة أنساب العرب : ص 246 .
(4) وكيع، أخبار القضاة : ج 2، ص 153 .
(5) العبّاس بن الأحنف بن الأسود بن قدامة بن هميان، من بني ذهل بن الذيل بن حنيفة، الشاعر، كان ظريفاً حلواً حسن الشعر، وشعره في الغزل، وله أخبار كثيرة مع الرشيد، وذكر الصوليُ أنّه توفي سنة 192 هـ . الخطيب البغداديّ، تاريخ بغداد : ج 12 ، ص 232 .
(6) الخطيب البغداديّ، تاريخ بغداد : ج 12 ، ص 132 ، ابن الجوزيّ، المنتظم : ج 9، ص 208 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 417 ـ

أخبار الشاعر ابن مناذر (1) (188 هـ / 803 م)

  (قال العنزيُ، حدّثني عمر بن شبَة، قال : بلغني أنّ عبيد الله بن الحسن لقيَ ابن مُناذر، فقال له : ويحك ما أردت إلى بكر بن بكّار (2) ففضحته، وقلتَ فيه قولاً، لعلَك لم تتحقَقه ؟، فبدأ ابن مُناذر يحلف عليه بيمين، ما سمعتُ قطُ أغلظ منها، أنَ الذي قاله في بكر شيء يقول معه كلُ مَن يعرف بكراً، ويعرف الخُشَنْشار (3) ، ويجُمِع عليه ولا يخالفه فيه، فانصرف عبيد الله مغموماً بذلك قد بان فيه، فلماّ بعُد عنّا، قلتُ لابن مناذر : برئ الله منك، وَيلك ما أكذبَك ! أكُلُ مَن يعرف بكر بن بكّار يقول فيه مثل قولك حتى حلفتَ هذه اليمين ؟، قال : سخِنت عينُك، فإذا كنت أعمى القلب أيّ شيء أصنع، أ فتراني كنتُ أكذبُ نفسي عند القاضي، إنمّا موّهتُ عليه وحلفت له أن كلَ مَن يعرفها يقول مثل قولي، وعنيتُ ما ابتدأت به من الشعر وهو قولي :
أعوذُ باللهِ مِن النّارِ
  أفتعرفُ أنت أحداً يعرفها أو جهلها إلا يقول كما قلتُ، أعوذُ بالله من النّار، إنمّا موّهتُ على القاضي وأردتُ تحقيق قولي عنده) (4) .
  (حدّثني ابن عماّر، قال : حدّثنا عمر بن شبَة، قال : حدّثني أبي، قال : خرج ابن

*************************************************
(1) تقدّمت ترجمتُه في صفحةٍ سابقة .
(2) بكر بن بكّار، المحدث العالم الكبير، أبو عَمْرو القيسيُ البصريُ، وثّقة أبو عاصم النبيل. الذهبيّ، سير أعلام النبلاء : ج 9، ص 583 .
(3) الخُشنشار : هو معاوية الزياديُ المحدث، ويكنّى أبا الخضر، كان جميلَ الوجه، وقيل : الخُشنشار غلامٌ أمرد جميلُ الوجه، وهذا لقبه، وكان بكر بن بكّار يتعشّقه، فكان يجيء إلى أبي إسحاق بن عبد الحمرانيّ فيذاكره الحديث، ويجالسه، وينظر إلى الخُشنشار. ينظر : أبو الفرج الأصفهانيّ، الأغاني : ج 18 ، ص 192 .
(4) أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني : ج 18 ، ص 192 _ 193 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 418 ـ

  مُناذر يوماً من صلاة التراويح، وهو في المسجد بالبصرة، وخرج عبد المجيد بن عبد الوهاب خلفه، فلم يزلْ يحدثه إلى الصُبح، وهما قائلان، إذا انصرف عبد المجيد شيّعه ابن مُناذر إلى منزله، فإذا بلغه وانصرف ابنُ مُناذر شيَعه عبد المجيد، لا يطيبُ أحدهُما نفْسَاً بفِراق صاحبه حتى أصبحا، فقيل لعبد الوهاب بن عبد المجيد : ابن مُناذر قد أفسد ابنَك، فقال : أوَ ما يرضى ابني أن يرضى بما يرضى به ابن مُناذِر) (1) .
  (أخبرني حبيب بن نصر المهلَبيُ، قال : حدّثنا عمر بن شبَة، قال : كان محمّد بن عبد الوهاب الثقفيّ أخو عبد المجيد يعادي محمّد بن مُناذر بسببِ ميلِه إلى أخيه عبد المجيد، وكان ابن مُناذرٍ يهجوه ويسبُه ويقطعُه، وكلُ واحدٍ منها يطلب لصاحبه المكروه ويسعى عليه، فلقِيَ محمّد بن عبد الوهاب ابن مُناذر في مسجدِ البصرة ومعه دفترٌ فيه كتابُ العَروض (2) بدوائر، ولم يكن محمّد بن عبد الوهاب يعرفُ العَروض، فجعل يلحظ الكتاب ويقرؤه فما يفهمُهُ، وابن مُناذر متغافلٌ عن فِعله، ثمَ قال له : ما في كتابك هذا ؟ فخبَأه في كُمه، وقال : وأيُ شيءٍ عليك ممّا فيه، فتعلّق به ولبَبَه، فقال له ابن مُناذر : يا أبا الصّلتِ، الله الله في دمي، فطمِع فيه وصاح يا زنديق، في كمكَ الزّندقة، فاجتمعَ النّاس إليه، فأخرج الدّفترَ مِن كمه وأراهم إيّاه فعرفُوا براءته ممّا قذفَه به، ووثبوا على محمّد بن عبد الوهاب واستخفُوا به، وانصرف بخزيٍ، وقال ابن مُناذرٍ يهجوه :

*************************************************
(1) أبو الفرج الأصفهاني، المصدر نفسه : ج 18 ، ص 182 .
(2) استنبط علمَ العروض الخليلُ بن أحمد الفراهيديُ، وحصر أقسامَه في خمس دوائر، يستخرج منها خمسة عشر بحراً، الدائرة الأولى فيها ثلاثة أبواب (الطويل والمديد والبسيط)، والدائرة الثانية فيها بابان (الوافر والكامل)، والثالثة فيها ثلاثة أبواب (الهزج والرّجز والرّمل)، والرابعة فيها ستّة أبواب (الرّيع، المنرح، الخفيف، المضارع، المقتضَب، المجتث)، والدائرة الخامسة فيها (المتقارب) فقط. ابن خلّكان، وفيات الأعيان : ج 2، ص 244 ، ابن منظور، لسان العرب : ج 4 ، ص 297 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 419 ـ

إذا أنـــتَ iiتـعـلّقتَ      بـحبلٍ  من أبي iiالصَلتِ
تَـعـلَقتَ  بـحـبلٍ iiوا      هــنِ الـقبُوَة iiمـنبَت
إذا  مــا بـلغ الـمجدَ      ذَوُو الأحـسابِ iiبـالمت
تـقاصرَْتَ  عـن المجدِ      بـأمرٍ  رائـبٍ iiشَـختِ
فـلا تـسمُ إلـى iiالمجدِ      فـمـا أمـرُك iiبـالثبْتِ
فـلا  فَـرعُك في iiالعِيدا      ن عُـودٌ نـاضرُ iiالنَبتِ
ومـا يـبقى لـكم يا iiقو      م  مـن أثـلتِكم iiنـحتِي
فـها  فاسمَع قريضاً iiمن      رقـيقٍ حـسنِ iiالـنَعتِ
يـقولُ الـحقَ إن iiقـال      ولا يـرمـيك iiبـالبَهتِ
وفـي  نـعتٍ iiلِـوَجعاء      قـد  استرخت من iiالفت
فـعندي  لـك يـا iiمأبُو      ن مـثل الـفالج iiالبُختِي
عـتُـلٌ يـعمل iiالـكُومَ      مـن  السَبتِ إلى السَبتِ
لـــه فَـيْـشَلةٌ إن iiأُد      خِـلت واسـعةُ iiالخَرْتِ
وإلاّ  فـأطـل iiوجـعاءَ      ك بالخضخاضِ iiوالزفتِ
ألــم  يـبلغك تـسآلي      لـدى  الـعلامة iiالمرْتِ
فقالَ الشيخُ سرجُوَي (1)       ه  : داء المرءِ من iiتحتِ
فـخُذ مِـن ورقِ iiالدفلى      وخُـذ  مِـن ورقِ iiالقت
وخُـذ مـن جَعرِ iiكيسانٍ      ومـن أظـفارِ iiنِـسَخْتِ
فـغَرغِرهُ بـه iiواسـعط      بـذا في دائه أُفتِي) (2) ii

*************************************************
(1) هو الطبيبُ البصريُ ما سرجويه، كان يهوديَ المذهب. ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطبّاء : ص 232 .
(2) أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني : ج 18 ، ص 194 _ 195 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 420 ـ

أخبار ابي نواس (1) والحسين بن الضحاك (2) الخليع في البصرة

  (أخبرني حبيب بن نصر المهلَبيُ، وأحمد بن عبد العزيز الجوهريُ، قال : حدّثنا عمر ابن شبَة، قال : حدّثني حسن بن الضحّاك الخليع، قال :
  كنتُ في المسجد الجامع بالبصرة، فدخل علينا أبو نواس وعليه جبّةُ خَزٍ جديدة، فقلتُ له : مِن أينَ هذا يا أبا نواس ؟ فلم يخبرني، فتوهَمتُ أنّه أخذها من موسى بن عمران ، لأنّه دخل من بابِ بني تميم، فقمتُ فوجدتُ موسى قد لبِسَ جبَةَ خزٍ أخرى، فقلتُ له :
كيفَ أصبحت يا أبا عمران ؟
  فقال : بخير صحبّك اللهُ به، فقلتُ :
يا كريم الإخاءِ والإخوانِ (3)


*************************************************
(1) أبو نواس الحسن بن هانئ بن عبد الأوّل بن الصباح، أبو علي الحكميّ، نسبة إلى الحَكَم بن سعد العشيرة، وهي قبيلة كبيرة، وسمي بأبي نواس لذؤابتين كانتا له تنوسان على عاتقه، والذؤابة، الضّفيرةُ من الشعر إذا كانت غير ملوِيّة، وناس ينوس إذا تدلىّ وتحرّكَ، ولد بالبصرة سنة 145 هـ ، وقيل 136 هـ، نشأ فيها، ثمَ خرج إلى الكوفة، وقدم بغداد ومات فيها سنة 195 هـ ، وقيل : سنة 198 هـ . وكان في الشعر من الطبقة الأولى من المولدين . ينظر : الخطيب البغداديُ، تاريخ بغداد : ج 7، ص 449 ، البغداديُ، خزانة الأدب : ج 1، ص 338 _ 339 .
(2) الحسن بن الضحّاك، باهليٌ، وقيل : إنّه مولى لباهلة، أصلُه من خراسان، ولد ونشأ بالبصرة، كان من شعراء الدولة العبّاسيّة وأحد ندماء الخلفاء، وقيل : إنّه أوّل من جالس فيهم الأمين، كان شاعراً أديباً ظريفاً حلوَ المذهب، كان يلقّب بالخليع والأشقر، وله غزلٌ كثيرٌ، عَمّرَ طويلاً حتى قارب المائة سنة، ومات في أيّام المستعين أو المنتصر. أبو الفرج الأصفهانيّ، الأغاني : ج 17 ، ص 163 _ 164 .
(3) أورد أبو هلال العسكريُ الرواية ذاتها، إلاّ أنّه ذكر قول الحسن بن الضحّاك ضمن الأبيات الشعريّة (يا كريم الإخاء والإخوان)، بقوله : .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 421 ـ

  فقالَ : أسمعَك اللهُ خيراً.
  فقلتُ :
إنَ لي حاجةً فرأيكَ فيها      إنَـنا في قضائِها iiسِيّانِ
  فقال : هاها عل اسم اه وبركتِهِ.
  فقلتُ :
جـبَةٌ مِن جبابك الخَز iiحتى      لا يراني الشتاءُ حيثُ يَراني
  قال : خُذها على بركةِ الله، ومَدَ كُمَه فنزعها، وجئتُ وأبو نواس جالسٌ، فقال : مِن أينَ لَكَ هذه ؟ فقلتُ : مِن حيثُ جاءتْكَ تِلكَ) (1) .
خبر عزل عبد الله بن سوار (2) وتوليِ محمّد بن عبد الله الأنصاري قضاء البصرة (3) (198 - 199 هـ / 813 - 814 م) (4)

  (حدّثني أحمد بن محمّد بن أبي بكر بن خالد، قال : حدّثنا أبو زيد، قال : حدّثنا محمّد

*************************************************
كيف أصبحتَ يا أبا عمران      يـا  كريم الإخاءِ والإخوانِ
أبو هلالٍ العسكريّ، ديوان المعالي : ج 2، ص 225 .
(1) أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني : ج 7، ص 202 ، أبو هلالٍ العسكريّ، ديوان المعالي : ج 2 ، ص 225 .
(2) عبد الله بن سوّار بن عبد الله بن قدامة العنبريّ، أبو سوّار، تولّى قضاء البصرة سنة 192 هـ ، ولم يزل على القضاء حتى وفاة المأمون، وقرَظَ محمّداً الأمين مّا أضغن المأمون عليه، فلماّ قُتِل الأمين وخلُص الأمر للمأمون عزله سنة 198 هـ . ينظر : ابن سعد الطبقات : ج 7، ص 307 ، وكيع، أخبار القضاة : ج 2، ص 154 ، 155 ، 157 .
(3) تولّى محمّد بن عبد الله الأنصاريّ القضاء للمرّة الثانية سنة 191 هـ ولمدّة سنة، ثمَ عُزل فتولى القضاء عبد الله بن سوّار العنبريّ (192 _ 198 هـ) ، ثمّ تولّى الأنصاريّ القضاء للمرّةِ الثالثة سنة (198 _ 199 هـ) . ينظر : وكيع، أخبار القضاة : ج 2، ص 154 ، 155 ، 157 _ 158 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 422 ـ

  ابن عبد الله الأنصاريّ، قال : كانت الفارعة بنت المثنّى بن حارثة الشيباني عند أنس بن مالك، فولدت عبد الله، فولد عبد الله المثنّى وبه سُمي ثمُامة) (1) .
  (وأخبرني عبد الله بن الحسن عن النُمَيرْيّ، قال : سمعتُ يزيد بن عبد الملك النُمَيرْيّ، يقول : شاورني إسماعيل (2) في رجلٍ يوليه، فأشرت عليه بتولية أبي عاصم الضحّاك (3) بن مخلّد، فاعتلّ بعلَة،ٍ وقال : إنَ أصحابك من العرب يكرهونه هذه العلَة، قلتُ : لكنّي لا أكرهُهُ لها، فمكث زمناً يشاوِر، ثمَ أرسل إلى الأنصاري يوماً فأتاه في نفرٍ يسير، فقال له : قد عزمتُ على توليتِكَ، فامتنع عليه واستعفى، وشكا إليه الضَعفَ.
  قال : فأخرَج إلينا العهدَ مكتوباً إلاّ موضعَ اسمِ القاضي، وأمره بإثبات اسمِه بين يديه، فأبيت، فانصرفَ الأنصاريُ مِن عنده في جمعٍ كثيرٍ حتى أتى منزِلَه.
  فقال له ابن أبي عنبسة (4) في عزل ابنِ سوَار وولاية الأنصاري :
أتانا عن البصرة iiالمخبرون      بـما  سرَ ذا النّعلِ والحافِيا
بعزلِ ابن سارق عنزِ النبي      وصـار  ابن خادمةٍ iiقاضيا
فلا  رضي اللهُ عن كل iiمَن      لـحاليهما لـم يكن iiراضيا
فقد سكن النّاس iiواستوسقُوا      وأصـبح  أمـرُهُمُ iiهـاديا
فـكم لـلأمير من iiالمسلمي      ن والـمسلمات بـها iiداعيا


*************************************************
(1) وكيع، المصدر نفسه : ج 2، ص 157 .
(2) إسماعيل : هو إسماعيل بن جعفر بن سليمان العبّاسيُ، كان والي البصرة أيّام المأمون، وكتب إليه يأمره أن يلبس الخضُرة، فامتنع، فبعث المأمون عسكراً لحربه، فسلَم نفسه دون قتال، فحمل هو . وولده إلى خراسان، وبها المأمون، فمات هناك . الذهبيّ، تاريخ : ج 14 ، ص 5 .
(3) أبو عاصم الضحّاك بن مخلّد. ستأتي ترجمته في ص 444 من متن الكتاب .
(4) هكذا في الأصل المطبوع، ولعلّه تصحيف ابن أبي عُيينة الشاعر، و (هو أبو عيينة بن محمّد بن أبي عيينة بن المهلَب، شاعرٌ مطبوعٌ له أخبارٌ وحكاياتٌ) . ابن ماكولا، إكمال الكمال : ج 6، ص 125 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 423 ـ

بأن يُعلي اللهُ كعبَ الأمي      رِ ولا يـزال لـنا iiوالياً
  فكان الأنصاريُ قاضياً إلى أن ظهرت المبيضَة (1) في سنة تسعٍ وتسعينَ ومائة، فلزم الأنصاريُ بيتَه، والقائمُ على البصرة يومئذٍ من قبل المبيضَة العبّاس بن محمّد بن عيسى (2) ابن محمّد بن علي بن جعفر، فأكره عبيد الله (3) بن محمّد بن حفص بن عائشة، وأخرجه إلى المسجد الجامع، فصلّى ركعتين في مجلس القاضي، ثمَ انصرف على أن يعودَ، فاختفى ولم يعُد، ولم يحكم على البصرة حاكمٌ حتى انقضى أمرُ المبيضَة.
  فعاد الأنصاريُ يحكُم بينهم، وكان في عملِهِ الأوّل أحمَدُ منه في العمل الثاني، غلب عليه ابنُه ومولَيانِ له، وعدّةٌ من أعوانه، فقال أبو الأحوص العنبريُ يهجوه :
قل لأبي ريشةَ يا ذا iiالذي      أصبحَ في الأحكام iiجوَارا
لـو كنتَ ذا علمٍ بأحكامِنا      أشبهتَ في الأحكام سوَارا
  وكتب إلى إسماعيل بن جعفر في عزله، فأرسل رسولاً، فقال له : إن وجدته جالساً في المسجد فاحمل القِمَطْر على رأسه وائتني به، فبلغ الأنصاريُ ذرو من قوله، فبادر

*************************************************
(1) المبيضة : وهم الفرقة التي خالفت بني العبّاس في البيعة والرأي، وكان شعارهم لبس البياض خلافاً للعبّاسييّن المعروفين بالمسودَة، وقيل : إنَ المبيضَة فرقةٌ من الثنويّة، سُمُوا بذلك لتبييضهم ثيابهم خلافاً للمسودة من أصحاب الدولة العبّاسيّة. ينظر الطوسي، الفهرست (تحقيق : الشيخ جواد القيومي، ط 1، مؤسّسة النشر الإسلامي - 1417 هـ) : ص 75 ، وينظر، ابن منظور، لسان العرب : ج 7، ص 128 .
(2) ذكر اليعقويُ أنَ الذي كان على البصرة هو العبّاس بن محمّد بن موسى الجعفريّ. ينظر : تاريخ اليعقوي : ج 2، ص 445 .
(3) عبيد الله بن محمّد بن حفص بن عمر بن موسى، أبو عبد الرحّمن التيميُ، يُعرف بابن عائشة ، لأنّه من ولد عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، كان من أهل البصرة، فقدم بغداد وحدّث بها، ثمَ عاد إلى البصرة، كان فصيحاً غزيرَ العِلم عارفاً بأيّام النّاس، توليّ سنة (228 هـ) . الخطيب البغداديّ، تاريخ بغداد : ج 10 ، ص 313 _ 314 ، 317 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 424 ـ

  فدخل داره، وأرسل إليه إسماعيل بن محمّد بن حرب، وكان على شرَُطه، وأمرَه أن لا يفارقَه إلا تكفّلاً، فأبى الأنصاريُ أن يعطيَه كفيلاً، فأقام معه حتى ذهب من اللَيل هوى، ثمَ انصرف ابن حربٍ ووكّل به مَن يحرسُه في داره، وأخذ جبلة بن خالد (1) بن جبلة، وكان من أصحاب مزينة (2) ، فانطلق به وطلب ابنَه فلم يجده، وطلب صيرفيّاً كان خليطاً (3) لابنه، كان يضع المال عنده فهرب منه وأرسل إلى ثمن لمؤنس بن عمران فأخذه وباعه، وأحسبه تصدَق بثمنه، فزعم الأنصاريُ أنَ سبَبَ غَضَبِ إسماعيل أنّه كان يسألُهُ أن يسجلَ له سجلاًّ بمقام الوصي المأمون في وقوف جعفر ومحمّد (5) ابني سليمان فلم يجبه إلى ذلك.
  قال : وغضب عليّ أنّه ذكر لي أنَ كتاب وقف أم ابيها بنت جعفر (5) ، وكان عُرض عليه، وفيه أنهَا جعلت إسماعيل بن محمّد ستينَ ألف درهمٍ وبأكثر منها في كل سنةٍ، ثمَ شرطت في كتابها أنَ لها أن تخُرج مَن شاءت ممّن سمّت، وتُدخلُ مَن شاءت ممّن لم

*************************************************
(1) جلبة بن خالد بن جلبة بن عبد الرّحمن، أبو عبد الرّحمن الباهليُ. ينظر : ابن أبي حاتم، الجرح والتعديل : ج 5، ص 221 .
(2) مزينة : نسبة إلى قبيلة مزينة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن عدنان واسم مزينة عَمْرو وإنما سمي باسم أمه مزينة بنت كلب بن وبرة، السمعاني، الأنساب، ج 5، ص 277 _ 278 .
(3) الخليط : المخالِط، كالنديم المنادِم، والجليس المجالِس . الجوهريُ، الصحاح : ج 3، ص 1124 .
(4) جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العبّاس، أبو القاسم العبّاسيُ، ابن عم المنصور، تولّى المدينة ثمَ مكّة معها، ثمَ عُزل وتولىّ البصرة هارون، كانت له أوقافٌ على المنقطعين، تولي سنة 174 هـ . ينظر : الذهبيّ، سير أعلام النبلاء : ج 8، ص 239 _ 240 .
ومحمّد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العبّاس بن عبد المطّلب، ولد بالحميمة من أرض البلقاء، وكان ذا جلالةٍ، ولي الكوفة والبصرة للمنصور، ثمّ ولي البصرة للمهدي مرّتين، ووليها للهادي . والرشيد. ابن عساكر، تاريخ دمشق : ج 53 ، ص 128 .
(5) أمُ أبيها بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، زوجة عليّ بن عبد الله بن عبّاس. ابن عساكر، تاريخ دمشق : ج 70 ، ص 202 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 425 ـ

  تُسم إلا إسماعيل بن جعفر فإنَه ليس لها أن تخُرِجَه، ثمَ أعادت في كتابها هذه الشريطة، فقالت : ولها أن تخُرج مَن شاءت ممّن سَمّت ولم تستثنِ إسماعيل، قال الأنصاريُ : أنا جعلتُ ذلك في وقْفها ، لتكونَ من أمر إسماعيل بالخيار، وإنَ ذلك من أسباب غضب إسماعيل عليه) (1) .

أخبار شوكر (2) (في المائة الثانية للهجرة / الثامنة للميلاد)

  ذكره عمر بن شبَة في أهل البصرة، وقال : كان يضعُ الأخبار والأشعار، وقد قرنه خلفٌ الأحمر (3) في شعرٍ له بابنِ داب (4) يقول فيه أحاديث ألَفها شوكر، وأخرى مؤلّفة لابنِ داب) (5) .

أخبار القاضي يحيى بن أكثم (6) (202 - 210 هـ / 817 - 825 م)

  (وذكر أبو زيد عن سعيد بن مريم، قال : كنّا عند المأمون فجلسنا عنده، فذُكِر يحيى

*************************************************
(1) وكيع، أخبار القضاة : ج 2، ص 157 - 159 .
(2) شوكر : أخباريٌ مؤرّخ بصريٌ شيعيٌ . الذهبيّ، ميزان الاعتدال : ج 2، ص 285 .
(3) خلف الأحمر : هو خلف بن حيّان الأحمر مولى أبي بردة بن أبي موسى الأشعريّ، يكنى أبا حرز، كان من أعلم النّاس بالشعر . الزبيديّ، طبقات النحويين واللّغويين : ص 161 .
(4) ابن داب : هو عيسى بن يزيد بن بكر بن داب، أبو الوليد، أحد بني ليث بن بكر المدينيّ، قدم بغداد وأقام بها، كان وافر الأدب، عالماً بالنسب، عارفاً بأيّام النّاس، حافظاً للسيّر، جالس الهادي والرشيد. الخطيب البغداديّ، تاريخ بغداد : ج 11 ، ص 150 ، 152 .
(5) ابن حَجَر العسقلاني، لسان الميزان : ج 3، ص 158 .
(6) يحيى بن أكثم بن محمّد بن قطن من ولد أكثم بن صيفي التميميّ، يكنى أبا محمّد، كان عالماً بالفقه، بصيراً بالأحكام، ولاّه المأمون قضاء بغداد، وكان قد تولّى قضاء البصرة وهو بعمر 21 سنة، فاستصغروه، توفي سنة 242 هـ . الخطيب البغداديّ، تاريخ بغداد : ج 14 ، ص 195 - 196 ، 202 ، 205 .