المبحثُ الثالثُُ : منهجُيهُ في توثيقِ الأخبار اتّبع عمر بن شبَة منهجاً متميّزاً في استقاء المعلومات حرص من خلاله على توثيق صحّة الأخبار التي نقلها، وعلى النحو الآتي : أوّلاً : السَّنَدُ الجمعيُّ حرص عمر بن شبَة على إيراد أكثر من راوٍ واحد للرّواية الواحدة، وهو ما يُعرف بالسَنَد الجمعيّ ، زيادةً في توثيق الخبر وتوكيد مصداقيّتِهِ، ففي إحدى الروايات أدلى عمر ابن شبَة، قائلاً : (حدّثنا أبو عبيدة وأبو الحسن المدائنيّ وغيرهما) (1) ، وفي روايةٍ أخرى ورد قوله : (حدّثني أبو الحسن المدائنيّ ومخلّد بن يحيى بن حاضر) (2) ، ونقل روايةً جاء فيها قوله : (حدّثني أبو داحة وعبد الملك بنُ شيبان) (3) . وبشأن الرواية الخاصّة بشهادةِ الشهود في قضيّة المغيرة مع أم جميل، فقد نقل الرواية عن أكثر من موردٍ واحدٍ لتوكيد مصداقيّة ما ورد في الرواية، فقد أكّد أبو الفرج الأصفهانيّّ الذي نقل عن عمر بن شبَة، قائلاً : (حدّثنا عمر بن شبَة فرواه عن جماعةٍ من رجاله بحكايات متفرّقة) ،ثمّ يبدأ أبو الفرج الأصفهانيّّ في إيراد سند الرُواة الذي ************************************************* (1) الطبريّ، تاريخ : ج 4، ص 179 . (2) الطبريّ، المصدر نفسه : ج 5، ص 9 . (3) أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني : ج 14 ، ص 373 .
اعتمدهم عمر بن شبَة في نقل تلك الرّواية، بقوله : (وقال عمر بن شبَة : حدّثني أبو بكر العليميّ، قال : أخرنا هشام عن عُيينة بن عبد الرحّمن بن جوشن، عن أبيه عن أبي بكرة) ، وفي سندٍ آخر ذكر (وحدّثنا عَمْرو بن عاصم، قال : حدّثنا حمّاد بن سلمة عن عليّ بن يزيد عن عبد الرحّمن بن أبي بكرة) ، وسندٍ ثالثٍ (قال أبو زيد عمر بن شبَة : حدّثنا عليّ بن محمّد بن حبّاب بن موسى عن مجالد عن الشعبيّ، قال : وحدّثنا محمّد بن عبد الله الأنصاريّ، قال : حدّثنا عون عن قسامة بن زهير) ، وأورد سنداً رابعاً للرّواية (قال أبو زيد عمر بن شبَة : قال الواقديّ : حدّثنا عبد الرحمن بن محمّد بن أبي بكرة عن أبيه عن مالك بن أوس بن الحدثان) ، وسندٌ آخرُ ورد فيه (قال : وحدّثني محمّد بن الجهم عن عليّ بن أبي هاشم عن إسماعيل بن أبي بَجيلة عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس ابن مالك) (1) . وفي سبب توليّ كعب بن سور قضاء البصرة أدلى عبد الرحمن بن قدامة قائلاً : (روى ذلك عمر بن شبَة في كتاب قضاة البصرة -يقصد أخبار البصرة- من وجوهٍ هذا أحدُهما) (2) . وعن أحداث وقعة الجمل جاء ذكر عمر بن شبَة بسندٍ جيّدٍ ... وذكر بسند له آخر) (3) ، وضمن وفادة أهل البصرة إلى المهديّ في أمر عزل القاضي خالد بن طليق ، ذكر عمر بن شبَة النُمَيرْيّ قائلاً : (سمعتُ محمّد بن عبد الله الأنصاريّ، وخلاّد بن يزيد وعبد الرحمن بن عثمان بن الربيع يحدث عن أبيه، ومحمّد بن عبد الله بن حمَاد، ومن لا أحصي يخبُرون خبر خالد بن طليق وخبر الوفد ...) (4) . ************************************************* (1) الأغاني : ج 16 ، ص 104 - 105 . (2) الشرح الكبير : ج 8 ، ص 136 . (3) ابن حَجَر العسقلاني ، فتح الباري : ج 13 ، ص 47 . (4) وكيع، أخبار القضاة : ج 2 ، ص 28 .
ثانياً : إيرادُ أكثر من رواية للخبر الواحد مثلا كان عمر بن شبَة يذكر الرّواية الواحدة نقلاً عن أكثر من راوٍ واحدٍ لتوثيق صحّة الخبر، فإنَه كان ينقلُ أكثر من روايةٍ واحدةٍ للخبر الواحد، لتبيان أوجه الختلاف وللدلالة على أمانتِهِ وموضوعيّتِهِ، وعدم تعصّبِهِ جهةٍ ما، أو لجاهٍ معينٍّ، وعرضه للحقائق من مختلف وجهات النّظر، ففي سبب هروب القاضي إياس من البصرة ذكر عمر بن شبَة قائلاً : (وقد اختلف أبو عبيدة وأبو الحسن في سببِ ذلك) (1) ، ويبدأ بنقل رواية أبي عبيدة بتفاصيلها (2) ، وبعدها ينقل رواية المدائنيّ، بقوله : (وأمّا المدائنيّ فذكر) (3) ، وتتضمّن تفاصيل فيها اختلاف عن رواية أبي عبيدة. وبشأن خروج ابن عبّاس من البصرة أورد عمر بن شبَة روايتين، واحدة عن أبي عبيدة بقوله : (زعم أبو عبيدة) ، التي أكّد فيها أنَ ابن عبّاس لم يبرح من البصرة حتى قُتلَ الإمامُ عليٌ (ع) وأنّه شهد الصُلح بن الإمام الحسن ومعاوية، ثمَ عاد إلى البصرة، ثمَ أورد روايةً ثانيةً حول الموضوع نفسه عن المدائنيّ، وهي خلاف رواية أبي عبيدة، ورد فيها قول عمر بن شبَة (ذكرت ذلك لأبي الحسن فأنكره، وزعم أنّ عليّاً قُتل وابن عبّاس بمكّة، وأنّ الذي شهِد الصُلح بين الحسن ومعاوية عبيد الله بن عبّاس) (4) . وفي تحديد تاريخ استشهاد الإمام عليٍ (ع) أورد ثلاث روايات مختلفة عن المدائنيّ، الأولى ورد فيها أنّ الإمام عليّاً (ع) استشهد يوم الجمعة لإحدى عشرة، وقيل لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان عام ( 40 هـ - 660 م) ، وقيل في شهر ربيع الآخر عام ************************************************* (1) المزيّ، تهذيب الكمال : ج 3، ص 437 . (2) المزيّ، المصدر نفسه : ج 3، ص 347 - 348 . (3) المزيّ، المصدر نفسه : ج 3، ص 438. (4) الطبريّ، تاريخ : ج 4، ص 109 .
(40 هـ - 660 م) (1) ، ولا شكَ في أنّ إيراد أكثر من روايةٍ واحدةٍ للحدث الواحد هي محاولةٌ لعرض الأخبار كما هي متداولة آنذاك، لاستبعاد تهمة التعصُب، أو الميول، أو غير ذلك. وفي مقدار المدّة التي استمرّ بها سمُرة بن جندب على ولاية البصرة بعد وفاة زياد، ففي روايةٍ نقلها عن المدائنيّ بأنّ سمُرة حكم ( 18 ) شهراً، ورواية أخرى نقلها عن جعفر بن سليمان الضبُعيّ جاء فيها أنّ مدّة ولاية سمُرة كانت ستّة أشهرٍ فقط (2) . أمّا بالنسبة إلى موقف عمر بن شبَة أو رأيه من الاختلافات الواردة في الروايات، فإنَ ضياع كتاب أخبار البصرة جعل من الصّعب أن نقفَ على موقفٍ واضحٍ، أو رأيٍ محدّدٍ إزاء هذه الرّواية أو تلك، سواء كان في الترجيح لواحدة منها أم نقد وتفنيد أحدهما، إذْ إنَ ما توافر بين أيدينا مجرّد نصوصٍ من روايات الكتاب الضائع، فهي في الأغلب نصوص مقتطعة ومبتورة عن الأصل الكامل للروايات، لذا لا يمكن من خلالها الوقوف على رأي عمر بن شبَة إزاءها. وكلُ ما يمكن قوله هو مجرّد استنتاج بأنّ عمر بن شبَة ربمّا استعمل منهجاً نقديّاً تحليليّاً، إذْ إنَ اهتمامه في عرض الرّوايات المتضاربة، أو المختلفة، أو نقلها من أكثر من مصدرٍ واحدٍ، دليلٌ على أنّه كان يُبدي رأيه بالترجيح، أو التعليق، أو الرد والتفنيد. ثالثاً : توثيقُ الأخبار غير المسندة استعمل عمر بن شبَة منهجاً متميّزاً قلمّا نجده عند غيره من المؤرّخين، ويمكن القول إنّه يُعَدّ من روّاد ذلك المنهج المتميّز، ففي الوقت الذي أبدى عمر بن شبَة تساهلاً ************************************************* (1) الطبريّ، المصدر نفسه : ج 4، ص 110 . (2) الطبريّ، تاريخ : ج 4، ص 217 .
في إيراد سند معلوماته ومصادره، نجده يستعمل صيغاً وألفاظاً لتوثيق صحّة الأخبار التي ينقلها، وتأكيد ثقة ومصداقيّة الرّواة، وإن لم يشُر إلى أسمائهم، كقوله على سبيل المثال : (سمعتُ غر واحدٍ من علائنا، منهم خاّد بن يزيد يذكرون) (1) ، وهنا لم يحدّد عمر بن شبَة أسماء العلماء الذين سمع منهم الخبر، سوى الإشارة إلى واحدٍ منهم، وربّما قصد اختصار سند رواته، فأشار إلى أكثرهم شهرةً وثقةً، وبذلك يكون قد دلَ على وثوق وصحّة الخبر المنقول. والأمر نفسه قد أورده عمر بن شبَة في روايةٍ عن إياس حينما كان في واسط، قال : (حدّثني غير واحدٍ من أهل واسط، منهم إسماعيل بن إبراهيم بن هود ...) (2) ، وهنا أشار بنقل الرّواية عن أكثر من راوٍ واحدٍ، إلاّ إنّه لم يحدّد أسماءهم واكتفى بالتأكيد على أنهّم من أهل واسط، على اعتبار أنّ الحدث وقع في واسط، وهذا نوع من التوثيق لصحّة الرواية، ومن جهةٍ أخرى اكتفى بذكر اسم واحدٍ من علماء واسط لشهرته (3) ، وهذا أيضاً للدلالة على توثيق الخبر. ومن الروايات التي تساهل في مصدرها، قوله : (وحدّثني محدثٌ أصدقه ذهب اسمُه عنّي) (4) ، فهنا المسألة واضحة، إذْ أشار عمر بن شبَة إلى أنّ سبب عدم ذكره اسمَ المحدث، هو نسيانُ اسمِه بالضبط، إلا أنّه في الوقت نفسِه أكَد ثقتَه وصدقَه. ومن ألفاظ التساهل قوله : (وحدّثني مَن لا أُحصي من علمائنا) (5) ، وصيغة التوثيق ************************************************* (1) المزيّ، تهذيب الكمال : ج 3، ص 429 . (2) المزيّ، المصدر نفسه : ج 3، ص 431 . (3) هو إسماعيل بن إبراهيم بن هود الضرير أبو إبراهيم الرابطيّ. ينظر، ابن حَجَر العسقلاني، لسان الميزان : ج 1، ص 391 . (4) المزيّ، تهذيب الكمال : ج 4، ص 271 . (5) المزيّ، المصدر نفسه : ج 4، ص 280 . |