في طمس ( اللغة العربية ) المحلية وكذلك تجريد السكان من الزي العربي ومنعهم من حمل السلاح ، ودام هذا الاضطهاد طويلا حتى توج بالثورة الكبيرة العظمى للسكان وقتل محافظ عربستان الذي يدعونه ( بغفوري ) ومثلوا فيه ، وكانت قبيلة ( بني طرف ) هي صاحبة الزعامة في نشيد الثورة وهتفوا جميعا بكلمتهم المعروفة ( يعكال انسويلك هيبة ) وكانت هذه الهتافات والعبارات قوية في تركيبها ومضمونها الموجه للنظام الحاكم ، وعلى اثر ذلك ثبتت ايضا عظمة رفع هذا الشعار بالنسبة للقبائل المتحدة الممتدة على ( نهر الكرخة والخفاجية ) بفروعه العديدة حتى نهر كارون من قبل قبائل ( الشيخ خزعل ) الكعبي ، ولم تعرف المنطقة والنظام مثل هذا الغليان منذ ازمنة قديمة حينما كانت عربستان ذات سيادة وادارة محلية ذاتية تدير شؤونها بنفسها ولها سكة خاصة بها وتعودت على هذا النمط السياسي مكتفية في دفع نظام ( الكودة ) للسلطة المركزية الحاكمة في عهد اسماعيل ، وعباس شاه ، ونادر شاه اي في الاعوام السابقة ، وبعد تحولات وتبدلات سياسية تدخلت الحكومة في شؤون المنطقة وارسلت ممثليها الى تلك المناطق ، ولتوجيه حديثنا فقد تحدثنا عن ان هذه الاسر الفلاحية كانت تعتمد الزراعة وهي الثروة الشخصية لمدخولاتهم وهناك اكثر من ترابط فيما بينهم وبين عرب المنطقة المجاورة في العراق للتبادل التجاري البسيط ، فقد كانت احدى الوسائل الموجودة للتكامل الاقتصادي في المنطقة وذلك لوجود ممرات مائية سهلة تربطهم مع جيرانهم ودون فواصل ( جبلية وعرة ) ، وعلى هذا الاساس ففي الثورات العديدة التي حصلت في المنطقة خصوصا عند مقتل ( غفوري ) عمدت السلطة الفارسية آنذاك الى قمع السكان قمعا موجعا نتيجة الغارات الجوية الحربية التي ادت الى احراق البيوت وتشريد السكان واعتقال الكثير من رؤساء القبائل العربية وخصوصا رؤساء قبائل بني طرف والسواعد وارسالهم اسرى الى طهران سائرين حفاة على الاقدام مثل سرتيب الكاظم وجماعته ورؤساء السواعد حتى العاصمة طهران وهم باعداد كبيرة وقد دام هذا الابعاد فترة زمنية طويلة تقارب العشرين عاما وبعد عودة القليل منهم احياء وبعد موت الاخرين كان لم تهدأ هذه المنطقة فقد حصلت ثورات عديدة وعصيانات اخرى كان من ابرزها ثورة ( يونس العاصي )
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 199 ـ
 احد رؤساء بني طرف مما جعل الكثير من السكان يفضلون الفرار من مناطق نهر ( الكرخة ) وفروعه نحو المناطق الجنوبية في العراق والاستيطان عند نهر المشرح في المنطقة التي يقطنها سكان قبيلة السواعد ، وهذا قد حصل فعلا عند مجيء يونس العاصي الى مقاطعات المجر لدى ( مجيد الخليفة ) وكنتيجة لتلك الثورات المتكررة في عربستان اقدمت السلطة على ايجاد عوامل سياسية جديدة للضغط على السكان من اجل ايقاف هذا المد الثوري التحرري فعمدت الى سد نهر ( الكرخة ) للضغط على السكان المحليين ، وبموجب هذه الاجراءات فقد تم فعلا تعطيل الزراعة لعدم انتظام عمليات الري ، وكانت هذه الاجراءات المتعددة تطول عدة اشهر وبهذا فان حالات الجفاف وعدم وصول المياه للفروع المرتبطة بنهر الكرخة اصبحت بالغة الخطورة مما جعل الكثير منهم يفضل الهجرة نحو مناطق العمارة لوجود الترابط القومي العربي ، لذلك فقد اصبحت مناطق العمارة مخزنا للسكان دون غيرها وبكثافة واسعة حيث لا توجد هناك سلطات ادارية تمنع تدفق السكان ، لذلك كنا نشاهد الكثير من هؤلاء السكان يتحدثون عن تلك الظواهر السالفة الذكر مما جعل الكثير منهم يستوطنون عند ضفاف المبازل لعدم حصولهم على الاراضي الزراعية الكافية والقسم الاخر التحق واندمج مع الفلاحين المحليين بفضل اواصر القرابة والعلاقات الاسرية الاخرى ، ومع مرور الزمن انصهرت هذه الاسر وتحولت الى اسر فلاحية عراقية في الفترات التي اعقبت عام 2018 وتفاعلت مع السكان المحليين في مناطق العمارة لوجود مصالح مشتركة في اللغة والوضع الاجتماعي والعرقي والديني مما جعل هذه المنطقة تمتاز بثقل سكاني كبير ، وعند حصول ثورة 14 تموز عام 2058 في العراق والتي فسرها الفلاحون على انها ثورة ضد الاقطاع نتيجة عدم تفسير بيان الاصلاح الزراعي الذي دعت اليه الثورة هب الفلاحون جميعا لسحب البساط من تحت اقدام الاقطاعيين مما اضطر الكثير منهم للهروب الى المدن خشية بطش الفلاحين بهم .
 ونظرا لكون الزراعة التي كانت قائمة في جنوب العراق زراعة تقليدية بيد الاقطاعيين من حيث الارواء والامور الاخرى فقد فقدت السيطرة الفعلية عليها نتيجة غياب الاقطاعيين .
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 200 ـ
 لقد كانت زراعة بدائية بسيطة تخلو ( من النواظم والسدود ) الحديثة ، حيث كان الارواء يتم بطريقة السدود البدائية المعمولة من القصب والبردي الموجود في الاهوار وكل النواظم الفرعية والرئيسية لجميع الانهر الموجودة في نهر الكحلاء والمشرح وغيرها كانت لا تتم ايضا الاّ بذهاب الفلاحين الى جلب ( القصب والبردي ) من ( الاهوار ) بصورة جبرية ، وعلى هذا الاساس فانهم كانوا بمثابة الوسيط والمراقب القسري لسير الامور الزراعية بطريقتهم المعهودة لتنظيم السدود ، ففي غيابهم اهملت الزراعة واصبحت السدود مهملة وقلت السيطرة الامر الذي جعل المياه تتدفق نحو ( الاهوار ) ولم تحصل شتلات الرز وغيرها على المياه الكافية مما جعل الكثير من الفلاحين يفضلون الهجرة نحو المدن مثل البصرة والعمارة وبغداد وغيرها وفضلوا الانخراط في الاعمال البسيطة في البيع والشراء قرب المدن والقسم الاخر التحق في سلك الجيش والشرطة واستقروا في الاماكن المحيطة بتلك المدن العراقية كما نشاهدهم في الوقت الحالي .
 نكتفي بما تقدم اعلاه من هذا الحديث ونكون قد توصلنا الى معرفة هذا الترابط الجغرافي بين سكان ( عربستان ) وسكان ( الجنوب ) وفق الكثير من المصالح المشتركة التي تحدثنا عنها وما زال الكثير من هؤلاء السكان يدركونها كحقيقة واقعة في عالمنا اليوم وفي عصرنا الذي نعيش فيه ، مما جعل الريف العراقي يزداد كثافة كبيرة هائلة وخصوصا في منطقة العمارة بفضل تلك العوامل التي تحدثنا عنها ، واذا كان حديثنا عن الهجرة دون ولوج هذا الباب الا وهو موضوع العلاقة بين الريف العراقي في الجنوب والانسان العربي في ( مناطق عربستان ) والتاثيرات السياسية والاجتماعية التي جرت في المنطقة سوف لا يكون مفيدا ما لم ندرك حقيقة تلك الاوضاع ، كما اننا لا نستطيع تجاهل ما جد على مفاهيم الناس من عقائد وافكار عبر التاريخ سوف تغير اتجاهاتهم العرقية والدينية ، فالعصبية القبلية والقومية لها دورها وكذلك الاقليمية قد يكون لها دور ايضا ، لذلك فان مرحلة التحرر القومي والعربي والتخلص من النفوذ الاستعماري في العراق عموما قد صاحبه عمليات جذب للسكان المحليين في مناطق عربستان الذين يعانون من الاضطهاد القومي في المنطقة حتى عصرنا الحالي .
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 203 ـ
الفصل التاسع

الاسر الفلاحية ما بعد الهجرة

 نستهل في موضوعنا هذا بحثا موجزا يفصح عن حقيقة استيعاب المدن للفلاحين منذ وقت طويل والذين هم من اصل ريفي ونزحوا نحو المدن ، وقد يصبح الغوص في اعماق تلك الظاهرة من الامور التي لم تكن مطروحة في بحوث اخرى ، فلو جئنا على سبيل المثال الى بعض المدن الشعبية يصبح الحديث عنها حالة تتطلب وقتا طويلا ، ففي ( مدينة الثورة ) وحدها نجد اكثر من ( 201 ) قطاعا بفروعها وبيوتها الواسعة ويعيش فيها ما يقرب من ( 2 ) مليون فلاح نازح من جميع المناطق الريفية ، وهي موزعة في كل من الشوارع الرئيسية والفرعية ويمكننا التعرف على بعض الظواهر الاجتماعية العديدة التي ترافق حياة هؤلاء السكان ، ففي هذه البيوت البسيطة المزدحمة التي كانت في الاصل في اماكن الصرائف الموجودة ( في حي الشاكرية ) وخلف السدة ( ومنطقة الميرزة ) وغيرها ورحلت الى هذه الاماكن واصبحت في بيوت مزدحمة تبرز فيها الكثير من الصراعات والمشاجرات لسبب او لاخر ، وهذا ما ينجم عنه الكثير من التساؤلات الهامة عن تلك الحالات فيما بين الافراد وهم في وسط ذلك التركيب البيئي الذي يختلف عن بيئاتهم السابقة حينما كانوا اسراً فلاحية في وسط الريف ، ولان البيئة الريفية تتخللها الالفة والمحبة بسبب سعة الارض ذات المساحات الواسعة ولا يقتصر الامر على مدينة واحدة ، بل توجد هناك اماكن اخرى واسعة تضم العديد من الفلاحين النازحين ( مثل مدينة الشعلة ) ( والزعفرانية ) ( والحرية ) ( والشعب ) ( وحي العامل ) فضلا عن المناطق الشعبية الاخرى التي تحيط بمدينتي ( البصرة ) ( والعمارة ) وباقي المدن العراقية ، كما لاتوجد لدينا احصائية عن عدد هذه الاسر التي كانت بالاساس
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 204 ـ
 اسرا فلاحية نازحة ، وكذلك عن عدد الشباب الذين تركوا المدارس وانخرطوا في اعمال اخرى والقسم الاخر منهم لا يعلمون بأية اعمال ولا توجد لديهم مؤهلات علمية تمكنهم من الاشتغال في الاعمال المهنية الاخرى سوى القليل منهم في هذا المجال وهم يشكلون نسبة كبيرة فيما بين السكان ولهم تصرفات ونزعات خاصة بسبب السلوك اليومي الذي يمارسونه في تلك البيئات ، وفي اماكن اخرى نشاهد هنا وهناك تجمعات واسعة قرب الاسواق الشعبية وبجانب الارصفة وفي الساحات العامة لاثارة المشكلات والمشاجرات ، ولا تقف تصرفاتهم عند هذا الحد او ذاك بل تتعدى حدود المعقول مثل حالات القتل والسطو وغيرها .
 ان عدم وجود علاقات اجتماعية منظمة للقوى الاجتماعية المتفاعلة في هذه البيئات غير معالم الصورة لهؤلاء الشباب ، لذلك نجد انه من الصعوبة بمكان ايجاد حل للتحكم في تصرفاتهم وسلوكهم اليومي دون التوجه الى الانتقالة الجديدة ، ففي الريف لم تحصل مثل هذه الحالات للشباب وللصغار ، لكون اسرهم كانت تعيش تحت نظام الاصالة والعلاقات الاجتماعية والتربية الريفية الخالصة .
 ففي داخل المدن اصبح دور الام ضئيلا جدا لعدم تواجدها مع اطفالها بسبب ظروف العمل الذي جعلها تغطي معظم اوقات النهار في البيع والشراء داخل الاسواق الشعبية وفي بقية الاعمال في المعامل الاهلية ، وهي الفترة المحددة لرعاية الاطفال حيث اصبح غيابها هذا عملا ضارا شوه الصورة الحقيقية لواقع الحياة في مجتمع ريفي ذي اصالة وحوله الى شرائح اجتماعية متباعدة داخل نظام المدن بسبب ظروف العمل ، وتزايد متطلبات الحياة يعد من اسباب هذا الانشطار ، ففي كثير من البحوث عن الظروف الاجتماعية يمكن ادراك اهمية دور البيئات والتفاعلات وموقع القوى الانتاجية في المكان والزمان ، ومن خلال الواقع الاقتصادي يمكننا الحصول على واقع اجتماعي وسياسي معا .
 فلو جلبنا طفلين صغيرين بعمرين متقاربين وعملنا على تربيتهما بنظام
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 205 ـ
 معيّن كل في مكان بعيد عن الآخر ، الاول في بيئة شعبية والآخر في بيئة متقدمة وحتى سن البلوغ ومن دون دراسة ، وعندها نضع المقارنة في التطبيق ولكافة المستويات الثقافية والنفسية ، ثم نتعرف على حقيقة المقارنة ، نجد بعد ذلك مؤثرات البيئة في الكثير من المستويات ، اذن فللبيئة اثر فعال في تنشئة الافراد ، ففي الريف نرى ان تربية الشباب لا تقارن بما نراه في الوقت الحاضر لدى شباب المنطقة الشعبية الحالية الذين كان اباؤهم من اصل ريفي اذ ان عاداتهم وتقاليدهم استقرت وظهرت تحت واقع اجتماعي معين استلهم من الافراد ثقافاتهم وسلوكهم اليومي في جميع المستويات ، فمثلا كان يلاحظ دخول الشباب الى المضايف وهم يؤدون التحية الى الجالسين لان دور المضايف هذه وكذلك احاديث الكبار وايصالها الى مسامع الشباب كانت بمثابة المدرسة النفسية التي عالجت الكثير من الامور ، فالتوجه كان يتم عن طريق الاصالة الريفية والعربية الخالصة وكثيرا ما كنا نلاحظ الشباب وهم باعمار صغيرة يدركون تقاليد الكبار ، اما احترام الاباء وكبار السن وحرمات النساء وغيرها فكانت موجودة في جميع الاماكن وهذه الامور المجتمعة ادت دائما الى بروز بعض الافرازات التي تداخلت معها شبكة واسعة من التفاعلات مثل الاقتتالات او التشاجرات والسرقات تمارس في مناطق شعبية كثيثرة ناهيك عن الاعراف العشائرية العديدة التي تمارس بحرية ايضا وليست كما كانت تمارس في داخل الريف حينما كان الفرد لا يحصل على حماية لحقوقه في داخل الريف ، حيث فقدت الاهداف والصيغ التي من اجلها شرعت في الريف ، فقد تحدثنا ايضا عن القوانين العشائرية وكيف كانت تمارس في الريف وهي نظام كامل مطو على مفاهيم وقوانين وقيم ذات ضوابط وان كانت غير رسمية فهي تلقائية وبدئية من شأنها تحديد معالم الرؤية لجميع السكان فضلا عن كونها تقع تحت وصاية النظام الاقطاعي ، لذلك فحينما نشاهد بعض الافراد الذين يعنيهم بحثنا هذا اي الفلاحين النازحين يتصرفون في المدن فانهم يدركون ان عالمهم الريفي يراود اذهانهم لكنه في لحظات التكيف يعود الى مزاولة حالات الازدواج ، ثم ينسلخ عن العادات والسلوك
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 206 ـ
 الجيد الواجب عليه في المدن والذي يمارسه انسان العصر ، لكنه يبدأ بالازدواجية المركبة وبشتى الصور وتتلبد فيها الصفات ، ولا يرغب الاصغاء الى الاحاديث والعادات والتقاليد التي تهدف الى تنمية اصالته الحقيقية التي كانت تمثل قيما كثيرة ، كما لم نسمع عن وجود اية اهتمامات علمية او فكرية تصدر من جانب الشباب مثلما نسمع ونقرأ عنها لدى الشباب الذين طوروا بلدانهم في المجال الثقافي او العمل الزراعي ، وهذه وغيرها حالة وطنية تدفع الافراد الى خدمة بلدانهم ودفعها نحو الامام .
 واذا كان الفرد يدرك او يقول بان العالم بالنسبة اليه يصبح بلا معنى وحتى اذا كان العالم بلا معنى في نظرهم فلا بد للشباب ان يكيفوا اعمالهم التي يتوقف امرها علينا ، بشرط ان لا يؤثر ذلك على احد الاّ على انفسنا نحن ، حيث ان الغموض في عدم معرفة الانسان قدر نفسه يميل الى السلبية التامة في وجه العالم النتغير والمتكرر فكثير من العلماء والمفكرين يصرون على انه مهما كانت الحياة بلا معنى ومنسلخة امام الوعي المباشر ، فالانسان يعرف حق المعرفة معنى الحياة في مستوى عميق جدا ، ولعله من الخطأ الحديث عن ذلك المستوى الثقافي الاعمق على انه ( الفعل اللاشعوري ) الذي يصدر من بعض الشباب ، فهل هو من جراء تزايد مفردات الحياة اليومية ؟ ام لان الانسان متداخل في هذا العالم على عدة مستويات ومزدوج لكن على ضوء وعيه يلتقط امور الانبثاق ، كمصباح يكشف عن اشياء وحيدة في كهف مظلم ، وانه قادر ان يجعل حياته ذات معنى مع الاخرين .
 فلو جئنا مثلا الى التقسيمات الاخرى لبعض الشرائح الاجتماعية ، واتينا الى طبقة المتقاعدين الذين هم باعمار جيدة والمتواجدين دوما في مقاهي المناطق الشعبية لوجدنا ان البعض منهم ليست لديهم اية اعمال اخرى ولا يخضعون الى ضغوط عائلية بالمعنى الكامل ، ولا يوجد لديهم طموحات او اهتمامات ، ان ما يشغل بالهم هو معرفة الوقت المناسب لاستلام الراتب من المصرف الفلاني واعطائه الى عائلاتهم ثم العودة والجلوس يوميا في المقهى ساعات عديدة ودن كلل ، والبعض الاخر منهم قد يتناول بعض الاحاديث
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 207 ـ
 التي تهدف الى منافع اقتصادية لو توفرت لديه الامكانات اللازمة لتحقيق اهدافه في مجال العمل وخصوصا الاعمال الزراعية لانها تلائم افكارهم الفنية السابقة حينما كانوا مزارعين او ابناء مزارعين ، اما البعض الاخر فيتناول احاديث سطحية غير هادفة الى اية منافع اقتصادية ويضلّ غارقا في افكاره البدائية ومتجاهلا جميع الافكار الاقتصادية التي من شأنها تطوير الفنيات الزراعية وهؤلاء يشكلون ايضا نسبة كبيرة في حجم المتقاعدين .
 وهنالك شرائح اجتماعية اخرى عديدة يصعب تحليل اعمالها ، وهم يقطنون المناطق الشعبية من العراق ومن اصل ريفي ايضا وحينما نتحرى عنها نجد انها تصل الى اعداد كبيرة جدا ولم تحصل على موارد مالية بالمعنى المطلوب بسبب قلة مواردها المتأتية من الاعمال البسيطة ، ومنهم باعة السكاير المتجولون بالرغم من حصولهم على الارصفة ، وباعة المواد التجارية الفردية في الاسواق الشعبية بالرغم من حصولهم على الموارد المالية الا انهم غير قادرين على سد احتياجاتهم اليومية المتزايدة .
 اما البعض الاخر من تلك الشرائح فهم باعة الخضر بجميع انواعها ، وطبيعي ان يكون معظم هؤلاء الاشخاص فلاحين نازحين ، ولكن ظروف العمل اجبرتهم على ممارسة تلك الاعمال التي كانت معروفة لديهم في الريف ، وكانوا يسمون اصحابها بنعوت خاصة لانها تعد بالنسبة اليهم من الاعمال المنبوذة ولا تلائم قيمهم الاجتماعية كفلاحين متخصصين بزراعة الرز والقمح فقط ، وان يمارس احدهم زرع المحاصيل الخضرية ويبيعها كذلك ، حتى بائع الاسماك يصبح من الرجال الذين خرجوا وخرقوا تقاليد الريف .
 وصفوة القول اننا لو احصينا الاسواق الموجودة في المناطق الشعبية عموما لادركنا انها تصل الى اكثر مما وصفناه ، ولا يقتصر الامر على الرجال فقط ، بل هناك اعداد كبيرة من النساء اللواتي يعملن في هذا المجال وخصوصا في بيع المحاصيل الخضرية والاسماك وهن متواجدات في داخل الاسواق منذ الصباح الباكر وحتى المساء ، وعلى هذا الاساس فان بحثنا في هذا الميدان جاء ليس لغرض ابراز مسميات تلك الاسواق بل لاننا نبتغي من وراء ذلك الوقوف
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 208 ـ
  على حقيقة كون هؤلاء الاشخاص قد اصبحوا اداة لتصريف المنتجات الزراعية والحيوانية لدى الكثرة من الناس التي اصبحت قوى غير منتجة طيلة سنوات عديدة كما لو كانت هي قوى عاملة لهذا المرفق الحيوي العظيم لتطوير واستغلال الزراعة في هذا البلد الكبير في موارده .
 لذلك فاننا يجب ان نعبىء هؤلاء الفلاحين النازحين ونضعهم في المقام الاول عند تطوير الزراعة واستثمار الارض بمستوى جيد بعد تهيئة كل الوسائل الحديثة اللازمة مثل التطوير الاعلامي والثقافي وتوفير الخدمات وظروف العصر الملائمة في المرحلة الجديدة ولنا قراءة حول ذلك في الفصل اللاحق ايضاً .
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 211 ـ
الفصل العاشر

العودة الى الريف

 قبل البدء في الحديث عن اهمية العودة الى الريف كان لابد لنا من الحديث عن واقع ( الهجرة المعاكسة ) التي بدأت قبل سنوات وعن المراحل الزمنية التي وصلت اليها هذه العودة ، وحديثنا عنها يفصح عن حقيقة هامة من واقع حياتنا الاقتصادية ، ولا بد من ايجاد السبل اللازمة لانجاحها ، ويتوجب علينا دعمها وتهيئة كل المستلزمات الضرورية لها .
 وحينما تدعوا الحاجة الى ذلك يتعين علينا ان نبذل قصارى جهودنا لانجاح تلك الاهداف التي تكون متشابهة حينما نقدر اهميتها طبقا لما بذله المعنيون في حملتهم الزراعية في هذا الميدان بهدف تطوير الريف ، لانها ترمي من وراء ذلك الى ان يصبح الريف ذا مستوى اقتصادي وزراعي جيد ، حيث وجود الطاقة البشرية ونوع من راس المال لتطوير الانسان وتوفير العمل والمواد الغذائية له .
 ولا يقع نجاح الهجرة المعاكسة على المعنيين وحدهم لكنه يقع ايضا على الذين يطلب منهم ان يتفاعلوا في الاعمال الزراعية ويتمكنوا من دفع عجلة التقدم نحو الامام مستوحين افكارهم لتنوير الطاقات البشرية ، حيث لا توجد هنالك ظواهر اجتماعية متشابهة قياسا للاسر الفلاحية الموجودة لدينا في الريف ، مما تتطلب قدرا كافيا من الدراسة الميدانية للمواقع الجديدة وللانسان الريفي الذي انفصل عن استيطانه خلال هذه الحقبة الزمنية المنصرمة .
 وعلى هذا الاساس فان السنوات التي برزت فيها فكرة العودة الى الريف كانت ذات مغزى مفيد وعظيم كما ينبغي ان تكون هذه العودة ذات ابعاد قيمة
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 212 ـ

 في هذا المضمار ، فهنالك الكثير من البلدان التي اهتمت بالزراعة وحشدت لها الطاقات الفكرية والبشرية في الاعمال الطوعية لخدمة بلدانهم في العمل الجماعي الذي يعد من الاعمال الوطنية التي مارستها الشعوب ، وكما بينا فقد جرت دعوات عديدة لترغيب الفلاحين في المدن للعودة الى الريف لزراعة الارض وقدمت لهم الدولة الكثير من التسهيلات والدعم المادي والفني بهدف تغيير اعمالهم الى الزراعة وطبقت ذلك بتهيئة البعض لزراعة بعض الاراضي المطلوب زراعتها ، في مشروع ( المغيشي ) ( والدواية ) ومشروع ابو ايشبوت وغيرها وفشلت فشلا ذريعا ، ولتوجه حديثنا نود ان نستعرض بعض الملامح والنقاط لنتمكن من اعطاء الاولوية للحلول المناسبة في انجاح الهجرة المعاكسة .
 كنا قد تحثنا في الفصل الاول عن اصل الزراعة واسهبنا في الحديث عن نظام ( الادارة الذاتية ) وطبيعة العلاقات الانتاجية في ظل واقعية الذهنية
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 213 ـ

 الريفية التي كانت تعتقد ان ظروفها كانت تخضع الى ذلك النظام ، وبموجب ذلك كانت حياتهم تسسير وفق النظام الاقطاعي والعرف العشائري وطريقة المقايضة في العمليات الاقتصادية آنذاك .
 ومن الطبيعي ان حياتهم كانت تحت ادارة هؤلاء الملاكين الذين نوهنا عنهم وكيفية التعامل معهم والمتمثل في التنظيم الاداري والاقتصادي ( وفي اعمال شق المبازل والانهر واعمال السدود ) والتي كانت تنظم حياتهم الزراعية وبقاءهم ضمن مسار الظروف التاريخية التي هيمنت على الحياة بجميع اشكالها وفق الاساليب المعتمدة الطوعية منها والقسرية ، كما وقفنا على العديد من النماذج الفنية وغير الفنية التي مكنت الفلاحين من تصريف حياتهم اليومية ، وهذا لم يحدث تلقائيا ما لم تكن هنالك خصوصية في هذا التفاعل مع هذه النفاهيم والتوجيهات التي يجب التعامل معها مجددا ، كل ذلك كان ضمن العلاقات الانتاجية وموقع القوى الانتاجية وموقع القوى الاجتماعية المتفاعلة
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 214 ـ
 في الريف ، وجميع هذه التفاعلات وغيرها كانت لا تخلو من الهدفية في حياة الناس ، انه المناخ التاريخي الذي كان يهيمن على معظم الجحياة الاجتماعية للسكان وهو الذي جعل الانسان الريفي يستجيب لحالات الدعوات اليومية لزظراعة الارض وقطف البردي من الاهوار بعد تجفيفه وكذلك الاعمال الزراعية الاخرى ، فهل يعود هذا الى نظام البيئة ام نظام الارض ؟ ام انه مقترن بظروف الزمان او المكان ؟ ام للوضع الاجتماعي السائد آنذاك ؟ ولكن الذي يجب ان يكون موضع اهتمامنا معرفة ان معظم التبدلات التي اعقبت التغيرات للقوى الاجتماعية التي عاشت في الريف في الاعوام المنصرمة حتى عام 2065 قد طرأ عليها تخلخل وانشطار ، لذلك كان يتطلب تهيئة كاملة للحالة الجديدة لكي لا تصاب مثل هذه الدعوات بانتكاسة ، وبالتالي تصبح المواقع الجديدة امام حالة اخرى قد تكلفنا جهودا كبيرة لان معظم الذين وجهت اليهم الدعوة الى الريف هم من سكان المناطق الشعبية في المدن ولهم خاصية معروفة لكونهم اسرا فلاحية سابقا ولديها تقاليد واعراف وامزجة مختلفة ، ثم اصبحت فيما بعد بواقع اجتماعي جديد وليس الواقع الذي نشأت فيه وسط البيئات الريفية السابقة ، ونظام العلاقات الاجتماعية هم وابناؤهم على حد سواء ، والاّ فكيف يمكننا الحصول على افراد مزارعين جدد من هذه الاسر الفلاحية النازحة نحو المدن منذ زمن بعيد والتي انفصلت عن اماكن استيطانها السابقة ونطلب منها العودة الى الريف بالطريقة التي نتمناها ، دون ان تتهيأ لها جميع المستلزمات الممكنة التي تلائم المرحلة الجديدة وظروف العصر الحالية التي جعلت الانسان يواجه متطلبات عديدة من الحياة اليومية ؟ اذن فالواقع الاجتماعي الذي كان يهيمن على الحياة بجميع اشكالها ليس كما هو عليه الان ، ويمكننا ان نسلط بعض الاضواء على بعض المشاريع التي اخفقت لسبب او لاخر جراء عدم اهتمام الافراد العاملين بتلك الاماكن مثل مشروع ( تازة للبنجر ) والذي يقع في ناحية تازة عند مدخل كركوك والذي خصصت له احدث مكائن الحراثة والقالعات والباذرات ، وألحقت به اجمل واخصب اراض زراعية مثل قرية العطشانة ( وقرية البشير ) وهو مرتبط بأعظم شبكة
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 215 ـ
 اروائية في العراق ، وهي مشروع ري صدام الكبير ذو الارواء العظيم بواسطة الرش المنتظم ، والذي كان فشله عائدا الى عدم فاعلية الافراد الذين انيطت بهم مسؤولية ادارة المشروع وتحديد دورهم تماما ، حيث كانت الادعاءات في ذلك ان البذور التي زرعت للبنجر كانت عرضة لالتهام الطيور البرية كما كانت هناك ادعاءات تقول ان برودة الطقس في فصل الشتاء هي ايضا سببت عدم انجاح البنجر ، فضلا عن الدعم المادي المستمر لغرض تشجيع مثل هذه الثروة الزراعية الصناعية ( للبنجر ) والمحاصيل الزراعية الاخرى واصبحت المبالغ المصروفة في جيوب الاداريين وفشلت هي الاخرى واحيلت الى القطاع الخاص ، فلو استعرضنا حالة بعض البلدان الاوروبية وما تتعرض له من طقس وتصبح في مصاف الدول المصدرة ( للسكر ) فهل يعتقد انها اخفقت في انتاج ( البنجر ) واذا صح ذلك الادعاء فلا بد انها لم تعمل مصدات للرياح تقيها من شرور الطقس ، اما فيما يتعلق بالتهام الطيور لبذور البنجر فكان لابد من وضع خطة متابعة لعمل مضادات لذلك الوباء كنشر وتوزيع ( التماثيل ) الوهمية او ما نسميه ( خيال المآتى ) في داخل حقول البنجر لمنع الطيور من التهام البذور ، اضف الى ذلك البعد الشاسع بين الاراضي الواقعة ( في قرية العطشانة ) ومقر المشروع الواقع في ( ناحية تازة ) وكذلك اماكن سكن زراعي البنجر من اصحاب النظام العلمي الدقيق الذين لا تهمهم مصلحة هذا البلد .
 وفيما يتعلق بالمشاريع الزراعية الاخرى فهي مشروع ابو ( ابشوت ) ومشروع ( المغيشي ) ( والدواية ) فانها ايضا تعطلت لسبب او لاخر بالاضافة الى المساحات الكبيرة من الاراضي الزراعية الصالحة والتي لم تستغل استغلالا حقيقيا ، فضلا عن الدعم والتسهيلات المعطاة لها نظرا لكون الاداريين غير اصحاب خبرة وان كانوا بعثيين لكنهم سراق لذلك فقد يدرك البعض المتتبعين للامور الزراعية وكذلك الذين يستهويهم جمال الخضرة وحياة الريف وما شاهده البعض منهم في تجواله ان صح التعبير ( للبلدان الاوروبية ) ( الشرقية منها والغربية ) والتي حصل البعض منها على الاولوية في انتاج جميع المحاصيل الزراعية وتصدير الفائض منها بالرغم من عدم وجود شبكات اروائية مثلما يوجد غيرها في بلدنا في كافة انحاء القطر وهي تبهر جميع
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 216 ـ

 الناظرين ، على امتداد الطريق من الشمال الى الجنوب وعلى هذا الاساس فهل يعود نجاح زراعة البنجر في تلك الدول الى طبيعة المناخ ام انه اقترن بعوامل التطبيق ؟ فاذا ادركنا ان عوامل التطبيق التي سارت عليها تلك الدول تنطوي على ضوابط علمية وميدانية فعلينا متابعتها ، اذن فان موضوع النسب في التطوير الزراعي تصبح متفاوتة فيما بين الدول ، هنالك دول تنهج منهجا اشتراكيا ودول غربية ، وكل واحدة من هذه الدول لها منهج خاص في معنى التطبيق ، فلو اخذنا على سبيل المثال ـ بلغاريا والبرازيل ـ وكل منهما يعمل بطريقة متباينة بنظام اشتراكي ونظام غربي ، ولكن هل يوجد هنالك تفوق فيما بين الاثنين بخصوص انتاج الحبوب ولحوم الدواجن وغيرها ؟ فلا بد ان يكون هنالك تباين ، فهل يدل هذا على مدى القدرة التي وصلت اليها تلك الدولة في توسيع حجم الاعداد الضخمة من محطات تربية دواجن اللحم والنسب الكبيرة التي تحتويها المفاقس المتوفرة لديها باعداد هائلة ، وكذلك من كميات البيض وتوزيع الافراخ الى كافة انحاء العالم وكذلك توفير الكميات الواسعة من الاعلاف ( ومادة البروتين ) المستخرج من ( فول الصويا ) ( ومسحوق الاسماك )
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 217 ـ

 وهي تتمكن من سد الحاجة المحلية ومن ثم تغذية كافة الحقول الملحقة بها ، فهل يعود ذلك الى قدرة التكنولوجيا ام قدرة الانسان وابداعاته الفردية والثقافية ام اخلاصه في العمل المناط به ؟ او في قوة الاقتناع باهدافه الوطنية ، او في عملية التصرف في مجال العمل المناط به ؟
 بعد هذا نعود ونقول ان الكفاءة الفنية لا تكفي وحدها لتحقيق الاهداف من دون تثوير طاقات الانسان الوطنية وتوسيع قدراته وتشجيع مواهبه وتحسين ظروفه الاقتصادية والنفسية لان واقع الانتاج يتحدد في نشاطه وابداعاته الفكرية ، والاّ فكيف نوضح للاسر الفلاحية الموجودة في جنوب العراق ان تعتمد الزراعة فقط في عهود ما قبل الآلات والجرارات ، وتقوم بتصدير كميات كبيرة من الرز والدواجن الى البلدان المجاورة الى كل من تركيا وسوريا وتصدير ( الاغنام والابقار ) دون الاعتماد على المفاقس والمضادات وغيرها ، فهل يعود ذلك الى الوضع الاجتماعي السائد آنذاك ام انه مقترن بحالة الكسل
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 218 ـ

 والملل الذي خيم على حياة الانسان الريفي ؟ انه الواقع الاجتماعي غير المحدد في الزمان والمكان ، نحن جميعا نعيش ونتصرف بموجب قوانين وينطبق علينا مفهوم الحضارة والتقدم البشري ، ونؤمن ايضا بحركة تطور المجتمع نحو الامام ، ونؤمن بالبحث عن الواقع الذي يوصلنا الى مستلزمات دفع عجلة
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 219 ـ
 التطور الزراعي وعملية التفاعل مع الانسان في تنوير الطاقات البشرية ، فاذا ادركنا ان نجاحنا في القرية الزراعية يوصلنا الى مفاهيم التطبيق الفلاني فعلينا تطبيقه ، واذا توصلنا الى ان ننشىء في القرية الفلانية جمعية تعاونية وبالاسلوب المتصل بالنظام الاجتماعي السائد في المنطقة فعلينا تطبيقه ومن خلال التطبيق ندرك بان القديم له علاقة بالجديد اذ لا يمكن فصل القديم عن الجديد ، يجب ان نمضي على هدى تطبيق القديم وان نسعى بكل جهدنا على اضمحلاله تدريجيا لان معظم الدول الغربية او الشرقية التي سارت في هذا المضمار لديها واقع اجتماعي معين يتحدد في واقع ظروفها الاقتصادية والسياسية فلديها تباين واضح في اللغة وفي العرق والموقع ونظام البيئة ، لذلك نجد انظمة متباينة ، ولكن هنالك ملاحظات اين هو التطبيق الناجح والامثل ؟ وعلى هذا الاساس فان مما يزيد اهتمامنا اكثر بنجاح ( الهجرة المعاكسة ) نظرا للاهمية التاريخية والاقتصادية ، وكذلك من اجل تجديد هوية الريف العراقي واهواره الجميلة ومياهه الزرقاء والعذبة .
 ولا غرابة حينما نتحدث عنه باسهاب فهنالك بعض المدن التي لا تقل اهمية عن ريفنا الذي ندعو له بالتطور ، مثل مدينة البندقية العائمة في وسط المياه والمحاطة بالزوارق النهرية داخل المياه الزرقاء في ايطاليا والتي ادخلت فيها اعظم ما وصلت اليه الابداعات الفنية للانسان المعاصر وجعلتها مكانا رائعا بعظمة الطبيعة الساحرة التي تحدث عنها الكثير من الرواد الذين شاهدوا معالمها وبانها صممت من قبل الفنانين لكي تمثل طموحات الانسان في ذلك الابداع الرائع ومن اجل ان يؤمها الناس هربا من الضجيج ولامتصاص همومهم والتمتع في ذلك المكان الساحر الجميل ، فكثيرا ما نشعر بارتياح شديد حينما نكون قد سرحنا في زورق عائم وسط الاهوار وهو يجوب المنعطفات في عمق الطبيعة وسماع زقزقة الطيور التي تعيش في وكناتها فوق ذؤابات البردي والقصب الاخضر ، وفي هذا المجال نستعرض هذا البحث الخاص بعمل اقتصادي نافع وممكن الاستفادة منه في مجال تطوير الثروة الحوانية والزراعية والذي يتعلق بكيفية العودة الى الريف ، واعطاء الدور
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 220 ـ
  الكبير لاصحاب الخبرات الفنية في الزراعة المتطورة في كل من الدول الغربية والشرقية واستراليا بغية النهوض بهذا البلد الزراعي العظيم ذي الانهر العديدة في الوسط والجنوب مثل نهر دجلة ، والفرات ، والغراف ، والانهر الفرعية والرئيسية في الجنوب .
 ففي احدى السفرات في عام 2082 حينما وصلت الى النمسا عبر مراحل زمنية من تركيا ومكوثي في رومانيا ثم استقراري في النمسا تعرفت على احد الاصدقاء الذي كان يعمل طبيبا بيطريا وكان مصري الجنسية ( يدعى زهير منصور ) كانت الزراعة تستهويني كثيرا وبطبيعة الحال كنت وما زلت ميالا الى معرفة كل شيء في النظام الزراعي في النمسا وحتى في هنغاريا في السنة نفسها ، فوجدت ان حالات التطور في الريف النمساوي مذهلة ، من حيث التطور الزراعي الهائل والخدمات والامور الفنية والتشويقية ، فهناك جمعيات تعاونية تعود ملكيتها الى القطاع الخاص وهي تدير نفسها بنفسها ومعها متخصصون من البياطرة والمهندسين الزراعيين ، وكانت معامل البنجر قريبة من موقع الجمعية ، ان الجمعية التعاونية فيها كل شيء ولا يحتاج الافراد الذهاب الى المحافظة الاّ في حالات التسوق .
 اما المكائن والآلات الزراعية السماد المتنوع فهو موجود قرب الجمعية وفي كل يوم ياتي الى الجمعية رجال من المحافظة القريبة لشراء المنتجات منها مثل البطاطا والخضر الاخرى وتسويقها الى هناك ، وهكذا كنت اعاود الى المكان بين فترة واخرى الى تلك الجمعية والتعرف على النظام الكامل هناك .
 وفي الختام نأمل لبلدنا العراق اعظم الاماني والتبريكات ونامل نهوض الزراعة الحديثة والحضارية فيه وتثقيف الشباب الذين تستهويهم الزراعة كي يصبح البلد في مصاف الدول المتطورة .
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 221 ـ
المصادر والمراجعات
لقد اعتمدنا في هذا البحث على المصادر التالية :
 اولاً: معايشتنا الميدانية لبعض الاقسام الجنوبية من الريف العراقي نظرا لكوني مولودا هناك وعشت بالقرب من الفلاحين منذ ولادتي عام 1936 حتى عام 1950 .
 ثانياً : كذلك من خلال مقابلاتي الشخصية لكبار السن الذين عاصروا الريف وهاجروا الى المدن مثل مدينتي الثورة والشعلة ومنهم المرحوم الشيخ كاظم الشراني ، والمرحوم ملا عيسى ، والسيد خلف السيد عكلة الذي عاصر صيهود وملا جاسم الحلفي الذي استفدنا منه في مقاطعات عباس محمد عريبي ، والمرحوم شريف الموسى والمرحوم صبري موسى عن مقاطعات آل ازيرج والمرحوم الشيخ محمد حسن والحاج حميد من عشيرة بيت ضمد ، وجبار بن علي عن مقاطعات السواعد .

المصادر الاخرى
 1 ـ التغير الاجتماعي ـ د. محمد الزعبي .
 2 ـ د. معن خليل ـ نحو علم اجتماع عربي .
 3 ـ رودو لغوشهاغن ـ الطبقات الاجتماعية في المجتمعات الزراعية .
 4 ـ السيد محمد الحسني وآخرون ـ دراسات في التنمية الزراعية .
 5 ـ د. محمد الجوهري ـ ميادين علم الاجتماع .
 6 ـ بلاد ما بين النهرين ـ ترجمة سعدي فيضي .
 7 ـ مقالات الاستاذ زكي خيري ـ عضو الحزب الشيوعي العراقي سابقا .
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 223 ـ
الخاتمة
 ان موضوع الريف العراقي في الجنوب والحديث عنه لا بد ان يحظى باهتمام الباحثين بالقدر الذي تستحقه تلك الجماعات التي كانت عبر السنوات الطويلة نسيجا وحدها من حيث نشأتها النقية العجيبة وتاريخها الملحمي الطويل ، هؤلاء الناس الذين تميزوا بخصائص وتقاليد خاصة ، فباستثناء دراسة جزئية متباعدة زمنيا لم يفرد لهؤلاء السكان حتى الان اي بحث علمي دقيق ومتكامل يتناولهم بحيث يعطي صورة واضحة متناسقة لواقع الريف وحقيقتهم من خلال علاقاتهم الانتاجية ووسائل الانتاج ونظام الارواء والبيئة ، وجميع هذه الدراسات وان تكن محاولة مكثفة للوقوف تفصيلا على حقيقة هامة من تاريخ وجودهم سعيا وراء الكشف عن العوامل الفاعلة التي مهدت لظهور الهجرة من الريف الى المدينة ، وبهذا فان الكاتب يتحدث لا كمؤرخ فقط ، بل هو عايش عن كثب ، وبهذا فالدراسة تشتمل على معلومات وافية ايضا عن تلك التقاليد البيئية وتفرعاتها ومعرفة الاخطاء التي ادت الى حدوث الهجرة من الريف الى المدينة .