( للمحمداوية ) وبقية الاغاني المتداولة في الاعياد والاعراس وقد اصبح الريف مدرسة تمثل الاغاني التي تعود عليها المغنون في جميع المناطق واصبحت نوعا من فنون الاتصال بين معظم المقاطعات ، وهي ترسم بذلك تاريخ الفرد والمجموعة ويستلزم ذلك الاعتقاد المتمثل في الاعراس وفي وسط الانهر
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 82 ـ
 واليابسة لن هذه الحالات لها القدرة والرغبة في ايصال مقاصدها لكونها تهتم بجزء من سعادة الفرد الريفي والمجموعة ، وبمعنى آخر ، اذا ما نظر اليها على انها امتداد تاريخي لنظام البيئة ولانها كانت متداخلة في حياتهم وتتطلب الاتصال مع الافكار باساليب فنية خاصة ومتنوعة ، كمرا كان يقصد به عن طريق غناء المحمداوية وغيرها ، وفي الحقيقة فقد تمت معرفة فنانين في الريف اشتهروا وانفردوا بتلك الاغاني .
 ومن خلال رحلة الريف الطويلة فقد واكب بعض المغنين تطورات هامة ، حيث انه لم يتغير الاّ بعض الالوان فقط بمرور الزمن ، بل ان الاساليب قد اختلفت من زمن الى اخر ومن منطقة الى اخرى ، وان الشيء المهم هو نوع الطرق المستندة الى المكانة الاجتماعية ، هناك ممارسات خاصة بالملاكين وممارسات خاصة بالفلاحين وممارسات خاصة بالمغنين على ضفاف الانهر خلال الليل وفي وسط النهار ، وممارسات الغناء في داخل الحقول واثناء عمليات الحصاد ، وحالات الزفاف بين الانهر في الريف ، وفي حالات مالوفة نشاهد الشخص الذي يقدم للملاكين الجالسين فرصة التاثير المباشر في شيء اجتهده ، وفي هذا الاتجاه فان رحلة الغناء الريفي كانت تنفرد بمراحل من التطور الداخلي للحياة الاجتماعية في تلك المناطق .

اهل الريف في جنوب العراق  ـ 85 ـ
الفصل الرابع

النظم الاروائية والزراعية في الجنوب

 في سياق تطور جميع التشكيلات الاجتماعية بين الناس فان العلاقات الانتاجية بينهم تعبر عن العلاقات الاجتماعية بسبب التبادل بين القوى المنتجة كافة بحيث تصبح انعكاسا لهذه التاثيرات وبهذه العلاقات ، ووفقا لذلك التطابق في الافكار والمهن الذي تفرضه ضرورة هذا النوع او ذاك من التفاعل مع اي نوع من العلاقات الانتاجية وبين مستوى وطابع ذلك والكيفية التي تختارها تلك القوى في كل من طرفي الانتاج فهذا التفاعل فيما بينها يختلف من دور لاخر ، لان القوى المنتجة هي الطرف المحدد لهذا التفاعل .
 مثلا على ذلك فان الاسر الفلاحية في الجنوب كانت ذات علاقات انتاجية تقليدية متاخرة لكن علاقاتها الانتاجية كانت تتحدد في واقعها الطبقي ونوعيتها وخصائصها التي كانت تتميز بالمكان والزمان الذي احتلته في داخل نظام الانتاج المحدد تاريخيا ، وفي علاقاتها الاجتماعية والسياسية المحددة والمكرسة قانونا وبوسائل الانتاج مع دورها في التنظيم الاجتماعي تحت الادارة الاقطاعية ومع قوى الانتاج .
 وعلى هذا الاساس فان النظم الاروائية والزراعية تعد واحدة من ابرز العلاقات الانتاجية ولانها من صنع المجمتع الفلاحي الذي لايمكن اعتباره مجرد اجتماع بين افراد بل عبارة عن نظام مترابط ومتكامل ، وعلينا ان ندرس طابع هذا النظام ، وحسب اية علائم كانت تسير العلاقات الانتاجية الزراعية ، فهو ليس نظاما بيولوجيا بل نظام اجتماعي تتشكل فيه فوارق وعلاقات شانه شان اي نوع من القوى المنتجة وعلاقاتها الانتاجية ، حيث لا يمكن دراسة القوى المنتجة بصورة مجردة دون علاقات انتاج او علاقات اجتماعية ، وعلى
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 86 ـ

 العكس فان دراسة علاقات الانتاج هي الشكل المادي الضروري الذي يبرز شكلها وعملها وتطورها ، ولغرض الايضاح فان طبيعة تحالف القوى المنتجة تتمثل في شكل استيطانها المتواجد على ضفاف الانهر ومنعزلة عن اماكن الاقطاعيين ، اما العلاقات الانتاجية التي كان يمارسها الفلاحون متميزة في اعمالهم الزراعية اليومية وان هذا النشاط الرامي الى الحفاظ على وجودهم بحيث يصبحون بعض الشيء متحدين فيما بينهم بهذه العلاقات الانتاجية ، لان وسائل العمل ليست مقياسا لتطور قوة العمل فحسب بل علامة على العلاقات الاجتماعية السائدة ، حيث اصبحت هذه العلاقات ملازمة لهم في اماكنهم هذه ، وفضلا عن بروز بعض التناقضات التي كانت تطرأ على انشطار العلاقات الاّ انها تصبح متماسكة ضمن علاقات التعاون لنشاطهم في ظروفهم الزراعية وغير الزراعية ، ففي الريف تتطلب العلاقات الانتاجية كما كان الامر يجري في شق المبازل وحفر بعض الانهر واقامة السدود والنواظم ، ففي تلك المناطق
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 87 ـ
 تصبح الزراعة هي قاعدة الانتاج المحلي المستخدمة بصورة رئيسية للاستهلاك المحلي والتصدير ، وحينما يعمل هؤلاء المزارعون فان زراعة الرز والقمح والشعير وتربية الماشية هي قاعدة النشاط الزراعي الهام التي لا يستطيع السكان العيش من دونها ، ولانها هي ايضا واحدة من ابرز وسائل الانتاج في المنطقة ، فلا يمكن تامين العيش من دونها نظرا لكون اراضي تلك المناطق فقيرة واساليب الزراعة فيها بدائية ومردودها ضعيف وموسم الماء فيها يتيح المجال لموسم واحد في السنة ، وهو موسم زراعي اول يقع في الصيف ، انه موسم زراعة الرز ، واخر ثانوي هو موسم الامطار الشتوية الذي يهتم بخاصة في زراعة القمح ، لبعض الاقسام من ( مقاطعات الكحلاء ) ، ( وآل ازيرج ) و ( المجر الكبير ) ، ( وقضاء المشرح ) ، وجميع الاراضي الواقعة في تلك المناطق والذي يبدأ في شهر تشرين الاول ويهتم المزارعون الذين يزرعون الارض بطريقة المنافعة في الانتاج السنوي بزراعة الارض بتلك الطريقة المبحوثة ، فيحصل لديهم الاشباع ويرسل النصف الى الملاكين وهو ناتج عن عملهم ومجهودهم الفعلي المتأتي ايضا عن طريق عملهم العائلي الذي كان يشارك فيه ابناؤهم وعوائلهم ، وخصوصا بما كان يجري في ايام زراعة الرز ( الشتال ) وتحتفظ العائلة ببالمحصول لتستهلكه بنفسها ، ونادرا جدا ما كان يقوم الفلاح ببيع قسم من المحصول وهو حين يفعل ذلك فانه يكون بحاجة الى المال ، فبعض الاسر الفلاحية اختصت بانتاج الرز وبيع بعض الكميات القليلة الموجودة لديها مع ابقاء القدر الكافي لسد حاجتها في موضعه ، ومثال ذلك فان اراضي القمح التي تتيح بصروة عامة فائضا من هذه الكميات في بعض الاماكن تبيعه في الاسواق والاقضية المحلية ، وهكذا كانت تتزود مدن المنطقة بما تحتاج اليه من هذا الغذاء الضروري ، وفي هذه الحالة يتحول الفلاح الى فلاح منتج للسوق ويبقى جزءا لديه ، ان الاراضي التي اعتمدت على زراعة القمح والشعير هي اراضي الصياغية ، وصدر المشرح ، ونهر ام الطوس ، ومقاطعات آل ازريج ، والمجر الكبير .
  وعلى صعيد السوق المحلية تمثل تربية الماشية وصيد الاسماك والطيور
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 88 ـ

 والدجاج المحلي بحركة واسعة في هذا المجال حيث التفاوت الكبير بين سكان المدن واهل الريف .

طبيعة الارواء
 يعتبر موضوع الارواء من المواضيع ذات الاهمية البارزة التي يجب ان نوليها اهتمامنا وذل لاهميتها الكبيرة التي كانت تتعلق بحياة الريف في مناطق الكحلاء ، والمشرح ، والمجر وآل ازيرج ، ففي المواضيع السابقة حينما بينا عدد الانهر وحجم السكان لكل من نهر المشرح ونهر الكحلاء ونهر آل ازيرج ونهر المجر وبقية الروافد والانهر الصغيرة المرتبطة بها والتي تصبح بلا فائدة اذا ماتركت وشانها دون التحكم بها وحصر الكميات الكافية من المياه وعدم تسربها الى الاهوار ، كما تكون من غير فائدة الاّ حينما يوجد العديد من الشبكات والسدود المقامة محليا لغرض السيطرة على المياه وحصرها
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 89 ـ
 وطبيعي ان مثل هذه السدود تتطلب ايادي كثيرة وامورا فنية دقيقة للتحكم بها .
 فقبل البدء بالعمل كانت توجه الدعوات الى كافة الفلاحين وتهيئتهم للعمل المطلوب من قبل السراكيل والمأمورين في الصباح الباكر ويتم لاجل اخراج الفلاحين من بيوتهم عنوة ، ولا يسمح بالبقاء الاّ للمرضى والعجزة فقط ، وهذه الدعوة نجدها تتم بالطرق القسرية احيانا ، لان معظم العمليات الزراعية لا يتم نجاحها الاّ في تنظيم السدود حيث ان معظم الانهر الفرعية والرئيسية كانت تخلو من النواظم كالتي نشاهدها في مقاطعات الغراف وعلى الانهر الموجودة في الناصرية وغيرها ، لذلك فان حاجة تلك المقاطعات الواقعة ضمن المنطقة الجنوبية كبيرة الى تلك النواظم المعمولة من البردي والتي يربو عددها على ما يقرب من ( 200 ) سد تقريبا ، موزعة على الانهر الرئيسية والفرعية لكل من نهر ( المشرح ) و ( الكحلاء ) و ( المجر ) ونهر ( آل ازيرج ) ، ومن الطبيعي ان الاهتمام بتلك السدود كان يتطلب استحقاقات كبيرة من اجل عدم تسرب المياه الى الاهوار مباشرة وخصوصا في ايام الصيهود وهي الايام التي تصبح فيها حقول الرز وحياة السكان احوج الى المياه اكثر من اي وقت مضى ، فكان لايسمح بارسال مثل هذه المياه الصافية الى الاهوار والمياه المالحة التي تصب في المبازل الرئيسية فقط كان لا يسمح بابقائها اكثب من ثلاثة ايام في حقول الرز وهي المدة المطلوبة ، حيث ان شتلات الرز تحتاج الى كميات كافية من المياه تغطيها باستمرار ، ولغرض توجيه الحديث نعود الى الدعوات التي تتطلب التهيئة لتنظيم السدود ، فعند تجمع الفلاحين تهيأ الزوارق ويذهب العديد من الفلاحين الى الاهوار لقطف شجيرات البردي بكميات هائلة جدا وتركها هناك مدة ثلاثة ايام ، ثم العودة الى الاهوار ثانية الى المكان الذي تم تكديسها فيه ، بعد فترة عمليات تنظيم ما يعرف بكلمة ( الجلج ) والجلج عبارة عن كميات واسعة من البردي اليابس عملت بطريقة فنية وكانها على ( هيئة حلقات ) متصلة الواحدة مع الاخرى يتم جمعها وتجلب بواسطة الفلاحين الى الاماكن المطلوبة ، وطبيعي ان يرتدي الفلاحون الملابس الممزقة ويكونون تحت وطأة الحر الشديد وغذائهم الوحيد الخبز اليابس والتمر فقط وتحت تاثير الرطوبة الكثيفة المنبعثة من الاهوار وداخل صراع الانسان مع الطبيعة
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 90 ـ
 القاسية تصل هذه الكميات من البردي اليابس وتوضع قرب السد المطلوب لحين التهيؤ كاملا ليوم الحشر ، لذلك فلا بد من الاستراحة للفلاحين الذين جلبوا ( الجلج ) عن طريق الانهر خلال هذه الفترة ، ويوم الحشر يعتبر من الايام المعروفة والصعبة لذلك سمي ( يوم الحشر ) نسبة الفى يوم المحشر ولاّ فكيف وصلت هذه التسمية الى هذا اليوم المشهود حيث يحتشد فيها العديد من الفلاحين وكبار الاقطاعيين والفنيين بالامور الزراعية والوكلاء والسراكيل والمامورين وتتم فيه الذبائح والولائم ويطلب من الفلاحين حشد الهمم لانجاح ذلك السد الذي يعد بالنسبة للفلاحين والاقطاعيين مطمح آمالهم ومستقبل نجاح زراعتهم التي كانت تعتمد على ذلك الارواء البدائي ، فمنذ الاف السنين وريف العمارة يطبق تلك العمليات التي تخلو من النواظم الحديثة كالتي نشاهدها في سد الكوت او غيرها ، وفضلا عن القسوة الموجهة ضد الفلاحين الاّ ان البعض منهم يرى في ذلك عملا مهما يعود عليهم بالخير التام لكونهم يعتقدون انهم شركاء وهميون في حيازة الارض والعمل الجماعي الذي يرتبط فيه الانسان مع اخيه الانسان في تلك البقاع ، وعلى هذا الاساس كان التوجه يستمر نحو هذه العمليات بشكل طوعي او بدوافع ذاتية وفي هذا العمل نجد اراء الاقطاعية جادة في مثل هذه الاعمال فكان لا يتم الاّ بتواجدهم مع الفلاحين من الصباح الباكر وحتى انجاز السد المطلوب .
 وكثيرا ما كنا نسمع ان ( الشيخ فالح الصيهود ) مثلا كان في مرات عديدة يتواجد لمراقبة عمل السدود وكان يذهب ايضا ومع العديد من الفلاحين والحوشية ( والسراكيل ) وينصب ( خيمة ) قرب السد ويجلب معه كميات كبيرة من الاغذية تطهى هناك ويتم توزيعها على الفلاحين وياكل معهم ، ويتحدث كثيرا عن هذه الظاهرة من ان كميات الغذاء كانت تنتشر على الحصران وفي العراء لياكل منها فيما بعد جميع الفلاحين الذين ساهموا في بناء السد ( الحمل ) ، اما فيما يتعلق بتنظيم السد فيعمل بما يدعى بـ ( الهيسية ) والهيسية عبارة عن جمع كميات كبيرة من البردي على شكل بيضوي ومضغوط ضغطا هندسيا قويا بواسطة ( حبال غليظة ) من القصب مصنوعة ايضا بايادي الفلاحين وتحت اشراف اشخاص لهم خبرة بهذه الاعمال ، وفبل البدء في وضعها بقلب
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 91 ـ
 النهر ترسل مجموعة من الفلاحين الى الطرف المقابل نم ذلك النهر لتربط هذه الحبال على الاوتاد الخشبية الموضوعة في الحافة السفلى منه ثم تبدأ عملية الربط ربطا محكما ، وبعد التاكد من نجاحها يقوم معظم الفلاحين بوضع الاتربة فوق ( الهيسية ) ، وبذلك تكون الهيسيسة قد وصلت الى قعر النهر وهكذا حتى تتكرر الاتربة ، وبعد الفراغ من ذلك يشاهد الجميع ان كميات المياه بقيت محصورة في الجانب الاخر من النهر ولم يبق من المياه التي كانت تجري بحرية قبل السد الاّ منفذ صغير يسمح بمرور زورق صغير او زورق كبير فقط ، وكذلك لغرض تزويد المناطق السكنية بهذه المياه ، وبهذه الطريقة تتم السيطرة على المياه وعدم تدفقها نحو الاهوار لكي يتم ابقاء المياه عند شتلات الرز وقتا كافيا لان محصول الزراعة بغير هذه الطريقة ينعدم ، وهذه الاساليب الفنية هي التي استطاع الفلاحون بموجبها التحكم بالمياه وحجزها في الجانب الاخر لانجاح زراعة الرز التي تحتاج الى احتجاز كميات مستمرة من المياه في وقت الصيف ، لان موسم الصيف تشح فيه المياه المطلوبة ، وبعد الانتهاء من اعمال السد تقدم الولائم المطلوبة وتبدأ الافراح ثم تراقب هذه العملية لكي لا تفشل جهود الفلاحين وتبوء بالفشل ، وفي حالة انجراف هذه الكميات من البردي والاتربة وعدم السيطرة عليها تتكرر العملية مرة ثانية ، وطبيعي ان هذه السدود كانت منتشرة في جميع الانهر والروافد التابعة الى ( نهر الكحلاء ) و ( نهر المشرح وروافده ) و ( نهر ابو زمور ) و ( نهر الاعيوج ) و ( نهر آل ازيرج ) و ( المجر ) و ( نهر العسيكي ) و ( ونهر ام الطوس ) والروافد التابعة له ، وبقيت هذه السدود تقام بهذه الطريقة منذ مئات السنين وظلت مع مرور الزمن ذات فائدة هامة لمنع تسرب مياه الانهر نحو الاهوار مباشرة ، وعلى هذا الاساس فان معظم رؤساء المقاطعات والملاكين قد اتخذوا من هذه الانجازات منهجا خاصا تم اعلانه سنويا للسيطرة على المياه لغرض توزيعها على الانهر الصغيرة لسقي شتلات الرز التي تكون بحاجة ماسة الى هذه المياه في موسم الصيف وكذلك ايصال المياه الى القرى الفلاحية ( السلاف ) المنتشرة على مختلف الاراضي الزراعية وعلى ضفاف المبازل ، فكانت هذه المياه توزرع بدقة
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 92 ـ
 عالية لحين انتهاء موسم الحصاد وجمع ( البيادر ) المنتشرة في داخل الاراضي .
 وعلى هذا الاساس فان اهتمام العرب واهل الجنوب في موضوع الارواء كان وما زال امرا مهما في حياة الريف ، فلو تتبعنا طيبعة سير نهر دجلة نرى انه عند وصوله الى نقطة ( نهر البتيرة ) يزود الروافد الصغيرة على جانبي ( نهر آل ازيرج ) ومقاطعات المجر وما عليها من فروع وكيفية التحكم بهذه ( السدود ) البسيطة المعمولة من البردي وكذلك فرعي الكحلاء والمشرح اللذين ينبعان نم نهر دجلة ايضا عند ملتقى ( مدينة العمارة ) وفي تغذية الروافد الصغيرة التي تنبع من ( نهر الكحلاء ) وهي ( نهر العسيكي ) ، و ( نهر ام الطوس ) و ( ونهر الطليعة ) و ( العديل ) والفروع التابعة الى مقاطعات ( فالح الصيهود ) التي تصبح روافد مهمة ، على الجانب الايسر لنهر الكحلاء مثل ( نهر ابو زمور ) ونهر الاعيوج وفروعهما لنجد هناك سدا كبيرا في نهاية ( نهر ابو زمور ) يمنع تسرب المياه نحو الاهوار وسدا في ( نهر الاعيوج ) والسد الكبير والواسع / هو ( سد المعيل ) الذي يمنع ايضا تدفق المياه نحو الاهوار كل ذلك يعطينا وقفة تأمل في كيفية ودقة تنظيم هذه السدود في هذه المقاطعات ( ومقاطعات المشرح ايضا التابعة الى قبيلة السواعد ، كل ذلك قد ساعد على حفظ مناسيب المياه وعدم تسربها نحو الاهوار مباشرة بعد حصول الموافقات اللازمة لغلق البوابات وفتحها في ( سد الكوت ) والغراف الذي يزود المياه الى اراضي ( موحان الخير الله ) و ( الشيخ بلاسم الياسين ) و ( اراضي الناصرية ) .
 وبموجب ذلك فان مناطق الجنوب كانت عبارة عن شبكة واسعة من الانهر الفرعية والرئيسية في عموم المقاطعات وكان شيوخ المنطقة على اتفاق دائم بهذا الشأن ، ولا غرابة من قول الخبير الامريكي ( Mr. Lanke )الذي كان مديرا لمشروع قصب السكر ( في العمارة ) للعاملين العراقيين في عام 2066 ، حينما قال : كم هي اراضيكم عظيمة لان الانهر الموجودة لديكم ( ملتوية ) واراضيكم منبسطة وغير وعرة وخصبة وكذلك لكونها ذات تربة ( متشققة ) .
 اذن فللعرب تاريخ طويل في اعمال السدود وطرق الري ، فهناك عمليات ارواء في مصر مثل السد العالي الذي شيد على عدة مراحل لغرض حصر
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 93 ـ
 مناسيب مياه نهر النيل قرب الحدود السودانية المصرية ومن اجل ذلك اقيم هذا السد العظيم على ( نهر النيل ) الذي ينبع من الحبشة ويصل الى السودان ثم الى الاراضي المصرية ، وبالاضافة الى ذلك العقل الجبار الذي بنى السد العالي فقد نظمت هناك روافد كبيرة وعميقة لخزن المياه وفتحها عند الحاجة من اجل تسهيل ارواء الاراضي الواسعة غير الصالحة للزراعة وكذلك الاراضي الجديدة ، كما تم في العراق انجاز سد ( حديثة ) والثرثار ، وخزن المياه في بحيرة الحبانية ، وسد دوكان وان كنا بحاجة ماسة الى خزن المياه ووفقا لما ذكرناه فان عمليات الارواء في الجنوب كانت تسير وفق قواعد معينة لان حياة الفلاحين وزيادة نسبة السكان في مقاطعات العمارة كان بسبب وجود المياه وتوفرها على مدار السنة .
 ففي مناسبات عديدة كان ( الشيخ محمد عريبي ) مثلا يذهب بنفسه للاجتماع مع شيوخ المنطقة من ( قبائل السواعد ) وابلاغهم بضرورة التحكم في عمليات السدود بالنسبة الى نهر المشرح ، حيث ان نهر المشرح يعد نهر واحدا من بين الروافد التي تنبع من نهر دجلة قرب ملتقى محافظة العمارة ، وكذلك كان يطلب منهم اي من بيت فالح التحكم والسيطرة على سد ( المعيل ) القريب من الهور التابع الى مقاطعات فالح الصيهود وابنائه وكذلك التحكم في نهر ابو ( ازمور ) والانهر الفرعية الاخرى التابعة له ايضا .
 وهكذا فان السيطرة على عمليات الارواء كانت تتطلب جهودا جبارة والاّ فكيف اصبحت محافظة العمارة من اهم المحافظات في جنوب العراق من حيث نسبة السكان الموجودة في المدن حاليا بعد القدوم اليها والاصرار على حصر المياه وعدم تدفقها نحو الاهوار مباشرة .
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 97 ـ
الفصل الخامس

الإدارة الذاتية في الريف

 1 ـ دور الاقطاع
 2 ـ الاقتصاد الريفي
 3 ـ العرف العشائري

معنى الإدارة الذاتية في الريف
 قبل البدء في الحديث عن الادارة الذاتية ودور الاقطاع في الريف ومثلما شرحنا في الفصول السالفة ، نتحدث عن هذا الموضوع على الضوء المستنتج من حركة الريف وظروفه وما كان يحيط به حيث لا توجد هناك ادارة مركزية بالمعنى الكامل بعرفها ويدركها ابناء الريف مثلما يدركها الملاكون او الاقطاعيون ، لذلك فاننا بحاجة الى نقطة واحدة اساسية هي التحليل المرئي الملموس لغرض ايجاد الربط بينه لتكوين الصورة الواضحة امام القارىء للسنوات الطويلة من عمر الريف وتقديم رؤية حقيقية عن دور البيئة التي ترعرع عليها ذلك الانسان الريفي طيلة السنوات الماضية والتي شهدت تزايدا كبيرا حجم الاسر الفلاحية هناك .
 لذلك فان التعريف عن حالة الاقطاع يحتاجه المواطن والاختصاصيون والمؤرخون فعندما يظهر التحليل من خلال ربط جميع الظواهر الاجتماعية والاقتصادية ومن خلال الاستنتاج من الحالة الميدانية نكون قد وقفنا على واقع ودقة الموازين عن سكان وعشائر جنوب العراق .
 ولكي يكون الجميع على بينة ونحن نتحدث عن الجانب الزراعي علينا ان ندرس معنى الادارة الذاتية من خلال الاقطاع والاقتصاد الريفي والعرف العشائري فلقد كان الاقطاعيون لا يصدرون قرارا مهما الاّ بعد ان يبعثون به الى المعنيين ليسمعوهم فضلا عن وجود المستشارين الذين يحيطون بهم ، يفعلون ذلك لانهم كانوا متصلين مع الميدان الزراعي بصورة مباشرة بواسطة ( ابنائهم والوكلاء والسراكيل ) الذين يسكنون بجانب الاسر الفلاحية عموما لانه لا يوجد هناك اي مؤرخ او كاتب يستطيع ان يكتب عن حياة امة او شعب ما لم
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 98 ـ
 يعش في المكان المعين ليكون بمقدوره ان يتلمس نبض الحياة بنفسه .
 وعلى هذا الاساس فحينما نبدأ بشرح معنى الادارة الذاتية فذلك لانها كانت تمثل حياة الاسر الفلاحية بكل ما يحيط بها من مفردات لا سيما في نظام كان يخلو من الكهرباء ، ووسائل النقل البرية ، ولا توجد شبكات للمياه بل يقتصر امر العبور على الجسور التي تربط الانهر وغيرها ، كما لا توجد هناك بيوت مشيدة من الطابوق وشوارع مبلطة ، انه نظام يسير وفق اقتصاد المقايضة .

اولاً : دور الاقطاع في الريف
 يمكننا ان نستعرض بعض الآراء في موضوع التطبيقات المنهجية في ميدان التنظيم ( الادارة الذاتية ) في الريف ودور الاقطاع في عموم المناطق الجنوبية التابعة الى ريف العمارة في السنوات الماضية اي الفترات التي سبقت عام 2058 نظرا لاهمية الوقوف على موضوع هذه التطبيقات والعوامل الرئيسية التي كانت تحرك ميادين العمل الجماعي التي تاتي من خلال المشرفين والمتنفذين وعلى رأسهم الشيوخ ( الاقطاعيون ) ، ان استيعاب الصورة الشاملة للنسق ككل يتطلب قدرا كافيا من مستوى التحليل المرتكز على الفرد كوحدة للدراسة ، باعتبار ان هؤلاء الافراد هم الذين يشغلون المركز المهم ويلعبون الادوار المهمة في الحياة الريفية بما اننا نتحدث عن الزراعة والفلاحين لانهم القاعدة التي يتالف منها البناء ، لذلك يحتاج هذا المستوى من التحليل الى معرفة دراسة سلوكيات الافراد واتجاتهم ودوافعهم ضمن تلك البيئات ذات النشاطات الزراعية المختلفة ، وتصبح هذه الدراسة ذات فائدة عظيمة ... اننا نعلم ان جميع هؤلاء الفلاحين هم جماعات صغيرة تترتب عليها نتائج على المستوى السلوكي تختلف عن تلك النتائج المترتبة على دراسة سلوك كل فرد في داخل المدن فالحياة الريفية تصبح حياة جماعية وموجهة توجيها ذا مستوى خاص في المجال الاجتماعي والزراعي الكبير الذي كان يحوي مجاميع سكانية واسعة .
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 99 ـ
 وهنا يبرز امامنا مستوى مختلف من مستويات التحليل هو مستوى تحليل الجماعات او العلاقات الشخصية المتبادلة ،ومن خلال العلاقات الانتاجية التي يرتبط بها الفلاحون يتناول هذا المستوى دراسة واسعة لجماعات الصداقة ، والنساء العاملات مع ازواجهن والعلاقات الاجتماعية فيما بين النساء والفلاحين انفسهم وعلاقاتهم الاقتصادية مع الاقطاعيين ، ويعد هذا المستوى من التحليل اوسع نطاقا الى حدٍ ما من المستوى الذي يترك الجانب العلمي ويمكن ان نصفه بانه المستوى واسع النطاق ، على ان الامر لا يقتصر على هذيين المستويين فحسب بل لوحدات اكبر من مجموع الجماعات التي يتالف منها ذلك ، اذ لا يمكن باي حال من الاحوال اعتماد هذا المستوى على دراسة الافراد والجماعات الصغيرة لوحدات التحليل انما يقتضي ان ناخذ من التنظيم الاشمل اسبابا للتحليل ، حيث يدور الاهتمام هنا حول مسائل مثل ذلك البناء ( غير الرسمي ) الذي مارس ادواره المختلفة سنين طويلة ، واصبح على مر السنين هو الدستور الرسمي ، وبذلك يبدو امامنا بوضوح ان الادارة الذاتية في الريف كانت منتشرة في جميع الاجزاء ويمكننا القول اننا بحاجة الى هذا المنظور لدراسة عوامل مقومات هذا النظام الشامل ، وفي الامكان ايضا ان نوسع بؤرة التحليل اكثر من ذلك نحو الاقتصاد الريفي ، والعرف العشائري ، والنشاط الانساني ، لقد تحدثنا عن العلاقة بين النظام الاقطاعي ككل وبين البقية والمجتمع الفلاحي الكبير الذي يدخل معه في علاقات اجتماعية وسياسية ، والاّ فكيف يمكنه التحكم والسيطرة على ذلك التوزيع السكاني الهائل وتوجيههم توجيها صحيحا في الزراعة لعموم المقاطعات المنتشرة في جميع الانهر والمقاطعات المرتبطة بكل من ( نهر العسيكي ) ، و ( نهر آل ازيرج ) ، و ( المجر الكبير ) ، و ( نهر الكحلاء ) ، و ( نهر المشرح ) ، والتحكم بسير المياه بصورة تامة وبشكل طوعي في اعمال تنظيم السدود للانهر وتواجد الاقطاعيين واولادهم بجانب تلك المناطق السكنية معهم دوما ؟
 لذلك فما من شك ان كل مستوى من مستويات التحليل له اهميته وله مشكلاته الخاصة فيما يتعلق بكيفية ذلك التركيب الاجتماعي الذي سيطر على ملكية ووسائل الانتاج ، وفي هذه الدراسة تتجلى معرفتنا بمقدار ما نحصل عليه
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 100 ـ

 من معلومات في ميدان معنى ( الادارة الذاتية ) حينما نتجول لأول مرة بإظهار كلمة ( النظام ) التي يعتقد انها حقيقة واقعة بوصفها وحدة للدراسة والتحليل سواءً على المستوى الداخلي او الخارجي في تلك المقاطعات الواسعة التي شملت اجزاء كبيرة في ريف العمارة ، ويتم التركيز عليها لانها كانت تخضع الى تلك الهيئات الادارية المتمثلة بـ ( الشيوخ والسراكيل ) الذين اصبحوا في نظر الفلاحين الهيكل الهرمي الكبير الذي ينسلخ منه النظام الاقطاعي وحصر القوانين كافة التشريعية والتنفيذية والتقليدية به في عموم تلك المقاطعات الريفية ، مثل ( العقوبات وطرد الفلاحين من اراضيهم ) للذين يقومون باعمال ضارة وفرض الغرامات ، ومع ذلك فان نظام البيئة عوّد الفلاحين على اطاعة ذلك النظام بحيث ينظرون الى هذه الادارة على انها طبيعية وقانونية وقائمة بحد ذاتها ، وقد جاءت هذه الانظمة ببعض الاسس والمفاهيم التي تلائم امزجة الفلاحين ، في ذلك النظام المغلق ورد في العلوم الاجتماعية الحديثة اعتراف
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 101 ـ

 ضمني بموضوع الادارة في المدن الصناعية وفي علاقات العمل وحتى في النواحي الاجتماعية ، واستشف العلماء الاجتماعيون من النظريات العامة نظريات جديدة برهانية نافعة يمكن تطبيقها واخضاعها للاختبار في مواجهة الواقع ، واذا جاءت نتائج تلك الاختبارات غير متعارضة مع الوقائع الاجرائية فيعني ان تلك النظريات تصبح مقبولة بصورة تامة ، وخلال هذه العملية يسعى الاجتماعيون الى احقاق الحقيقة الموضوعية في المدن الريفية ، ومن هنا فانهم يواجهون بمطلب هام وهو تحديد المقصود من الموضوعية وكيفية ثبوتها وادراكها اثناء عملية البحث عن العلاقات المتبادلة بين الواقع الاجتماعي والتركيب البيئي ، وعلى هذا الاساس فان حجم الاقطاع الذي نتحدث عنه والموزع على عموم المقاطعات كان من بين ابرز الاسس التي يرتكز عليها ذلك النظام في المناخ التاريخي لثقافة اهل الريف الامر الذي جعله يفرض سيطرته والتحكم والسيطرة الفعلية على سد الانهر ومعظم عمليات الارواء وغيرها
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 102 ـ
 والتي كانت زراعة تقليدية بدائية ، ولتوجيه حديثنا فقد كانت المسؤوليات والواجبات تمر بطريقة تسمح باداء الوضائف المناطة بهم ، ويسهل ادراك ذلك البناء لانه يمثل الواقع وخارطة نظام ( الادارة الذاتية ) في المفهوم العام والمتعارف عليه في الريف ، لانه كان يفصح عن علاقات متبادلة بين مختلف الوضائف والمتمثلة فيما بعد بالاقتصاد الريفي والعرف العشائري والتسلسل الرئاسي للسلطة الاقطاعية( الشيوخ ) والقوانين شبه الرسمية وتوزيع المسؤليات لابناء الاقطاعيين المنتشرين في عموم المقاطعات ، وكذلك ضمن قنوات الاتصال فيما بين الفلاحين والسراكيل والوظائف المتدرجة لبعض الشرائح المرتبطة بالاقطاعيين ، فكل هذه الادوار المختلفة كانت تهدف الى الاسلوب الذي يعرف بشكل الحياة الزراعية والاجتماعية في الريف والذي تمثل في مشيخة ( محمد عريبي ، وفالح الصيهود ، و شيوخ السواعد ، وآل ازيرج ) ( ومشيخة المجر ) وغيرها وطبيعي ان يصبح هذا النموذج من التنظيم الشامل خاليا من اية اشارة فكرية تقوم بتعبئة الفلاحيننحو طريقة العلاقات الانتاجية ، انه عبارة عن وجود نمطين من التشكيلة الاجتماعية هما الفلاحون والاقطاعيون ، تجمعهم اهداف مشتركة مستمدة من مقومات الواقع السياسي الذي شهدته المنطقة الريفية عبر آلاف السنين ، والذي يؤكد نفسه بانه امتداد للنظم السابقة ، واياً كان الوصف الذي يقدم لهذه الانماط او المصطلح الذي يطلق عليها ، فان اهم ما يميزها انها تاريخية واولية هدفها كان لغرض اشباع الحاجات الاقتصادية لسكان المنطقة وانتعاش المدن العراقية ، كما كان يؤدي وظائف اخرى فوق ذلك كله تعبر عن علاقة يطورها الاعضاء داخل بيئتهم وادامة الظروف الداخلية والخارجية في عالم الريف ، وهي ايضا خاضعة لمفهوم حركة تطور المجتمعات الريفية في العالم ، وعلى هذا الاساس فاننا لم نجد جانبا من جوانب ذلك الواقع الاجتماعي قد حظي باهتمام الاسر الفلاحية في الجنوب طيلة فترات تاريخية طويلة لانه كان يمثل مرحلة زمنية ملائمة لحياة السكان ، كما كانت تعبر بوضوح عن تصريف الحياة اليومية في تلك البيئات ، وكثيرا ما كنا نطالع بعض آراء الكتاب والباحثين الذين لم يكشفوا عن
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 103 ـ
 عناية خاصة بدراسة المشكلات الواقعية المتعلقة به ما يحيط به من غموض في ذلك النظام المغلق ، كما لم تتناول هذه البحوث العلاقة بين الفلاحين والاقطاعيين والفوارق بين القوى الانتاجية المتبادلة في عهد الاقطاعيين ، ولم تحاول تقديم ادلة للحركة والزمن لكي نكتشف اسباب تقدم رفع الكفاءة الانتاجية والروح المعنوية للفلاحين والتي كانت تعتمد بالاساس على علاقاتهم فيما بينهم وعلى حاجاتهم الفردية والاجتماعية ، فضلا عن كون الريف كان يخلو من جميع الخدمات العصرية التي تجعله يواكب عصرنا الحالي الحديث كما يمكن ابعاد الاتجاه الحديث عن الاهتمام الخاص بالفرد والعوامل الاجتماعية في موقع العمل والذي بدأ مع بداية ظهور اتجاه العلاقات الانسانية السائدة في المنطقة ويتم اتساع نطاق ذلك البناء لتلك الجماعات ، ويرجع السبب في ذلك ايضا الى عدم التغيرات في هيكل التحولات الاجتماعية المتكيفة مع الواقع الذي يحدث بين حين وآخر في عالم الريف ، كذلك من خلال الفكرة الواضحة الخالصة الموجهة والتي كانت تتجاوز في بعض الحالات تفسير الاعمال القسرية التي ينظر اليها السكان المحليون على انها واحدة من حالات اتساع نطاق صلاحيات التنظيمات الكبرى التي كانت تسيطر على مجالات الحياة المختلفة ، وكدليل على صحة وحقيقة بحثنا وربطا بالمتغيرات والنظريات الاجتماعية الحديثة في العصر الحالي منه مثلا :
 لقد اجرى بعض الباحثين الاجتماعيين تجارب اولية على بعض العمال في مصنع هارتون التابع لشركة ( تيسرف بشيكاغو ) وقد اثبت في النهاية ملاحضاته ، ومن هذه التجارب توصل الى نتيجة مؤداها ان تزايد الانتاجية لا يرجع الى تحسن الاضاءة في المصانع او الخدمات ، لكنه اكتفى بالاشارة الى ان فشل جميع التجارب التي اثبتت ان عدم الحصول على معدلات انتاجية عالية جدير بان يوجه الانظار نحو الاهتمام باجراء دراسة تنظيمية للعلاقات الانسانية والاجتماعية .
 وبعد ذلك اجريت ايضا تجربة سميت ( مجرة الاختبار ) والتي تم فيها عزل ست فتيات اعطيت لهن فترات للراحة ونظاما خاصا للعمل ، واستمرت
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 104 ـ
 هذه التجربة فترة تزيد عن العام ، وسجل الباحثون ارتفاعا مستمرا في معدلات انتاجية كبيرة طوال فترة هذه التجربة ، وكانت النتيجة العامة التي خلص اليها الباحثون مناقشة مجموعة افتراضات هي ان زيادة الانتاجية راجع الى تحسن العلاقات الانسانية وتغير الموقف الاجتماعي باكمله ، لان ذلك التغير يعمل على تدعيم صلات وروابط اجتماعية بينهم وتحدد قدرة الفرد من خلال احترامه وتقدير آرائه واتجاه الافراد نحو الخضوع له في التفاعل الاجتماعي ، كما يظهر ذلك ايضا من خلال التماسك الواضح في اوضاع الاعضاء داخل الجماعة وداخل المجتمع ، ويتحدد هذا التكامل بواسطة القبول الاجتماعي بالاعمال التي يمارسها السكان في تلك الاماكن سنين طويلة ، وتتمثل ايضا في درجة تفاعل الفرد مع زملائه ، واذا كنا قد ادركنا الآلاف ممن عرض بعض الشواهد التي تدعم هذه الآراء والتي تدلل على وجود انماط من العلاقات الاجتماعية والتلقائية داخل ذلك المحيط الريفي فان التساؤل الذي يحق لنا ان نطرحه بعد ذلك مؤداه هو : ما دلالة هذه العلاقات وما الوظائف التي تؤديها هذه التجمعات او تلك الاسر الفلاحية فيما بينها داخل تلك المقاطعات العديدة ؟
 وفضلا عن طرح العديد من الشواهد التي عرضت في هذا البحث والتي مكنتنا من حسم الكثير من التساؤلات بصورة قاطعة فان الريف كان يقع تحت تاثير واقع نظام الاقطاع الذي يعد محور اهتمامنا في البحث عن معظم الامور التي تحيط بعالم الريف والذي اسهبنا فيه بصورة اوسع من خلال معايشتنا الميدانية هناك ، وضربنا مثلا على ذلك في اهمية السيطرة على اعمال تنظيم السدود التي عليها يتوقف امر الزراعة لدى هذه التجمعات الكبيرة من الفلاحين ، وعملية السدود هي واحدة من المهام الرئيسية التي تنتظم فيها علاقات الفلاحين مجتمعين ، بغية ايقاف مجرى المياه المتدفق نحو الاهوار ، ففي كثير من الاحيان كنا ننظر الى اعمال السدود لنهر كبير وروافد صغيرة ، فان قوة دفع المياه نحو الاهوار تصبح شديدة اذا تركت لشأنها وبعدم استفادة شتلات الرز من هذه المياه يحل الجفاف وتفشل زراعة الرز ، وكنت انظر
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 105 ـ
 بنفسي شخصيا الى ( المعيل ) وسد نهري ( العديل ) و ( الاكرح ) اللذين يعدان من الانهر الهامة في الريف ، والتي يصعب السيطرة عليها من دون التجمع الفلاحي الهائل للقيام ببناء السد مع حضور الاقطاعيين ، ولم يقتصرالامر على اعمال السدود وري الانهر والسيطرة على المياه فقط ، بل ان الاهمية التي تدخل في حسابات الريف والامور المرتبطة بحياة السكان تحت نظام الاقطاع هي الاهمية البالغة في اوضاع الاستحقاقات من قبل الاقطاعيين انفسهم ، فيروى عن الشيخ فالح الصيهود انه كان يراقب سير العمليات الاروائية المهمة التي تتعلق بحياة الزراعة والسكان ويشحذ الهمم فيهم وهو جالس في وسط خيمة كبيرة نصبت له قرب السد المطلوب ويحف به كبار مستشاريه ، وبعد اتمام عملية السد التي قد تمت بنجاح يذهب جميع الفلاحين الذين شاركوا في تلك العمليات لتناول وجبة الغداء الكبرى التي اقامها الشيخ فالح او بعض الاقطاعيين ، وكانت كميات الرز تطهى مع الطيور او اللحوم ومنها ما كان يطهى مع الاسماك بطريقة فنية رائعة من قبل طباخين مهرة جلبوا لهذا الغرض ثم توضع فوق الحصران الجديدة ، والكل ينادي باصوات عالية وتسمع هنا وهناك النكات والاغاني اثناء هذه الوليمة ، وفي كثير من الاحيان يقوم الشيخ فالح بتوزيع المبالغ الرمزية على الفلاحين ، لذلك فان اعمال السد هذه كانت لا تتم الاّ بوجود هيئة منفذة تقوم باصدار الاوامر للفلاحين رسميا او تلقائيا وراضية باعمال الهيئة الاداريو التي تصدر الاوامر ، والاّ فكيف كانت تتم السيطرة على تنظيم شق المبازل والارواء وغيرها ثم التوافق والقول بما تتطلبه منهم هذه الهيئة ؟
 وعلى هذا الاساس نستطيع ان ننظر الى المجتمع الريفي لا في الجنوب فقط بل حتى في الوسط على انه يمثل نسقا اجتماعيا يحقق وظائف عديدة زراعية وغير زراعية وحتى انتاج السلع المحلية والتي جاءت عن طريق خطة عملية خاصة مقبولة في الريف كانت تحقق اهدافا معينة بغرض اشباع الحاجات الاجتماعية والنفسية لاعضاء ذلك ( النظام الفلاحي ) المغلق الذي هيأ لنفسه جميع مستلزمات وجوده ، ويمكن ان نطلق على الاولى انها اقتصادية
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 106 ـ

 لانها تنظم علاقات انتاجية مرتبطة بنظام الاقطاع ، اما الثانية فهي ما يمكن وصفه بانه الوظيفة الاجتماعية ، طالما انها تهدف الى تحقيق التعاون والرضا بين الاعضاء ، فكان الاقطاع او من نسميهم ( الشيوخ ) ينظرون بذكاء لتحفيز التوازن الداخلي الذي يتعلق اساسا بتدعيم ذلك وهم يدعمونه ماليا وتقديم بعض الخدمات لكي يستطيع الفلاحون من خلال حصولهم على ذلك الدعم الابقاء على هذا التعاون والمثابرة ، وهذا ما كان يحصل فعلا للحفاظ على التوازن الاقتصادي الداخلي ، وبالتالي يتم اشباع حاجاتهم ورغباتهم داخل تركيبهم البيئي البعيد عن السلطة المركزية ولذلك فان الفكرة الاساسية التي تحكم نظام الريف هي ان نجاحه في تحقيق اهدافه يقاس في ضوء مواجهته لمشكلاته الخاصة والعامة داخل البيئة ونظام ( الادارة الذاتية ) الذي يخضع بالاساس الى نظام الاقطاع ..فالمهم لديهم هي الفكرة التي كانت قائمة في الريف رغم القيود المفروضة احيانا ، ومع ذلك فانه كان يحقق توازنا في رفع مستوى الانتاجية وتحقق الاهداف العامة باقصى درجة ممكنة طالما ان النظام الاداري قائما ، وكان التوزيع الاداري ظل لابناء الاقطاعيين قرب الفلاحين له
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 107 ـ
 اهمية كبرى في تثبيت دعائم استيطان الاسر الفلاحية هناك لكونهم ملزمين بالاشراف الفعلي على جميع احتياجات الفلاحين وايصالها الى مسامع كبار الاقطاعيين ، وبموجب ذلك استمر التوازن الداخلي والخارجي للانتاج حيث كان يرتبط كل منهما بالآخر ارتباطا وثيقا ، ويوفر درجة عالية من التجانس بين الفلاحين والاقطاعين من جهة اخرى ، كما ان للمشاعر النفسية والولاء حالات خاصة تكمن في داخل الفرد .
 ونحن لا نستطيع ان نجزم ان نظام الاقطاع هو الحالة الجيدة لحياة السكان ولكن الواقع الريفي كان قائما بذاته وان ارتباطهم بالموطن الاصلي هو الذي مكن الاقطاعيين من الهيمنة على رقاب الفلاحين ، اضف الى ذلك ان النظام الاقطاعي كان مرتبطا ارتباطا وثيقا بنوعية النظم القائم آنذلك ، ففي هذا الصدد نجد ان معظم الفلاحين كانوا يتقاسمون فيما بينهم نظام الفلاحة ونظام الادارة الذاتية حيث لا يوجد هناك تباين في مستوى ما يحصل عليه الافراد من حصة المزروعات وحتى بيوتهم فكانت بالمقارنة لا تختلف عن بيوت اقرانهم من الفلاحين ، اما بيوت الاقطاعيين وحياتهم الخاصة كانت لا تضاهي الفلاحين ، ومع ذلك فالفلاح الريفي كان لا يتفاخر في ما يحصل عليه من موارد مالية او زراعية ، كان انسانا قنوعا وهو يدرك تماما ان ما يحصل عليه متأت من نظام الحصص ، اي زراعة الارض بطريقة المناصفة لان الارض تعود للملاكين ، وان ما يحصل عليه من موارد يصبح من اجل القوت فقط ، ولكن بقي ان ندرك شيئا هاما لتدعيم ذلك وهي ان العلاقة القائمة بين اجزاء النسق الاجتماعي ككل كانت مرهونة في التفاعل اليومي لعوامل البيئة باعتبارها جزءا لا ينفصل عن ذلك المحيط المتكامل ، فهذه البيئة هي بيئتهم استمدوا منها جميع مقومات وجودهم ، ومن انهارهم الملتوية كانت علامة الرضا والقناعة والنصيب وهذا الجزء من البيئة في جنوب العراق كان يملي شعورا بانه منتظم بصورة تامة ومنطقية لتحقيق الاهداف التي من اجلها وجد في اماكن اخرى من العالم حيث الاصالة والنقاوة الطاهرة والبراءة .
 لذلك يتعين علينا ان نميز بين ذلك النظام وبين الانظمة الزراعية الاخرى
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 108 ـ

 المتباينة التي نسمع عنها في اماكن اخرى من العالم ، فهي كانت تحقق اداءً اكثر فعالية وانجاز الاهداف الاقتصادية ، وياتي دور الاقطاع في هذا الصدد من اجل الكشف عن العوامل الرئيسية في استقرار الاسر الفلاحية واسباب الرضا بين اعضاء ذلك المجتمع وهو يقوم بادارة الاعمال الزراعية وغير الزراعية ، كل ذلك يقدم لنا معلومات كافية عن الخلفية التي طبعت الحياة الاجتماعية وغيرها هناك .
 وفي تلك الاماكن تحصل احيانا بعض التغيرات التي تطرأ بين حين وآخر على شكل منافسات بسيطة داخل المضايف وفي المجالس الاخرى ثم يحصل توافق فيما بعد من جانب الفلاحين وفق الواقع الاجتماعي المعين الذي ينطوي على مجموعات من الافراد يعملون من اجل الاهداف المشتركة وهو الهدف اليومي العام ، لان معظم الافراد هم ضمن التشكيلة العامة وملتصقون بنظام الارض والادارة الذاتية ومحملون بخلفية من الخبرات الريفية
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 109 ـ
 والاجتماعية ، وكان لا يحصل في الريف ان يقوم فرد واحد بنفس متطلبات العمل طالما ان هذه المتطلبات تعتمد على البيئة والمناخ والري والسدود وانما تشترك في ذلك الجماعات الاخرى .
 ونجد ايضا الجانب الانساني يشع في جوانب عديدة ونجده عند اصحاب الفراضة وهو تنظيم اجتماعي انساني يضم كبار السن والخبراء الذين اشرفوا مرارا على حل المنازعات والاقتتالات التي كانت تحدث بين السكان ، وفي داخل هذه الاسر الفلاحية نجد ايضا نماذج حية من الانماط والعلاقات والرموز التي هي اجزاء من الظواهر الاجتماعية الموروثة ، ويصبح كثير من هؤلاء الافراد الذين عاشوا هذه الخبرة وتلك الانماط والرموز في حالة استقرار في جميع المقاطعات المذكورة ، وفي كل يوم يسلكون مسالك اجتماعية على اساسها يتمثل البعض منها في تطوير الاغاني الريفية والافراح والاعياد والزواج والاعراس ، وفي داخل الاهوار كان يلاحظ ان هناك افرادا ومجموعات يرتبطون باعمال جماعية في العمل ، ويسلكون طرقا مقبولة محددة نحو بعضهم بعضا .
 وفي الريف لم نجد هناك تجانسا مطلقا في السلوك بين الافراد او بين جماعة معينة ، كانت هناك فروقات في السلوك بين الاقطاعيين والنساء والشباب ، والملاحظ ان هذه الفروقات في السلوك لدى الانسان الريفي كانت تعبر عن اختلاف في العلاقة بين السراكيل والفلاحين والوضع النفسي لكل منهم ووضع التعامل هناك .
 وبديهي ان هنالك شرائح اجتماعية عديدة مثل الصابئة والحياك والبقالين والصيادين والادوار المختلفة لكل منهم ، كل ذلك يعتمد على وعي الافراد بعضويتهم في جماعات محددة ، فهم يسكنون ويتصرفون بطرق مختلفة ازاء الافراد الاخرين الذين يمثلون جماعات معينة ، وكما ذكرنا فهناك ممارسات تمثل نوعا اخر من السلوك مع الرئيس الاعلى الذي ينظرون اليه وهو الاقطاعي الكبير او رئيس العشيرة او من يسمونهم بـ ( السادة ) وحتى من كانوا يشغلون وظيفة المراجعة والمراقبة ( المأمورين ) بين الشيوخ والفلاحين لهم انماط معينة
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 110 ـ
 من هذا السلوك ، ومعنى ذلك ان كل جماعة لها ميزة اجتماعية تستند الى الاقدمية ، والسن ، والمكانة ، والعشيرة وظروف البيئة ، لذلك فان كل انماط التفاعل التي كانت تظهر بين الافراد او بين مختلف الجماعات يمكن اضافتها كحصيلة نافعة وفقا لدرجة الالفة والقرابة في العلاقات ، بحيث يصبح من اليسير بعد ذلك وضع مقياس خاص للعلاقة الاجتماعية المرتبطة بتعدد القبائل وسلوك الافراد النحدرين من هذه القبائل والزمن الذي سرت خلاله تلك العادات والتقاليد وبنظام التركيب البيئي فضلا عن المحيط الجغرافي الذي يغطي السكان ، لذلك هناك مسميات عديدة للقبائل التي تخضع لهذه المقاييس ويتم التعرف على الفروقات والتصرفات والعواطف والمصالح التي كانت تفصل بين الافراد والجماعات ، فلم تكن هناك مسافات اجتماعية كبيرة تفصل بين الفلاحين والملاكين ، كما يلاحظ وجود مجالات عديدة للنقاش والحوار معا في جلسات مفتوحة بين الفلاحين والاقطاعيين وبين الرؤساء المباشرين انفسهم ، ويلاحظ ان المسافة الاجتماعية تقوم بنفس الدور الذي تقوم به المسافات القصيرة بالنسبة للمكان ، وعلى العموم فان الشيء الذي يتبادر الى الاذهان ان جميع العناصر وسلوك الافراد والطبيعة التي كانت تسسير عليها الحياة في الريف هي جزء اساسي للنسق الاجتماعي ، فحتى الادوات المادية وظروف البيئة والعلاقات الانتاجية وساعات العمل ليست ظواهر قائمة بذاتها ، بل يمكن تفسيرها بوصفها موضوعات كانت تنطوي على عليها قيم اجتماعية معينة ، فالنعوت التي يطلقها البعض على الريف وما يحيط بها من غموض في معنى حياتهم وواقعهم الاجتماعي الغامض كانت تتحدد من خلال الموقف الاجتماعي الذي نشأ وسط هذه البيئة ، وهو يفصح عن وجود تساند بين ذلك النظام ( شبه الرسمي ) في الظرف المحدد والمتمثل في الدناميت الداخلي ، وواقع الحياة داخل نظام الادارة الذاتية التي كانت تديرها مجموعة كبيرة من الاشخاص والمدعوم من العرف العشائري وخصائصه التقليدية يدعم وجودهم مع باقي المرتكزات ، فكثيرا ما كنا نلاحظ المناقشات الجارية بين الفلاحين والاقطاعيين في داخل المضايف ، وكذلك حالات النقد الذي يوجه للسركال والفلاحين وابناء الاقطاعيين .