ويديرها الغلمان ، ويحف بها المغنون والشعراء والمثقفون وكنا نشاهد مضيف الشيخ ( محمد عريبي ) وهو يضم العديد من الفلاحين الذين يتواجدون ليلا والذين يربو عددهم على خمسمائة رجل تقريبا وهم الحوشية يحيطون بالقصر لحماية الشيخ محمد عريبي ويتصدر تلك الدار ( مضيف ) واسع جدا مشيد ايضا ن الحصران والقصب يجتمع فيه العديد من الاشخاص المختصين بالشؤون الاستشارية الذين يعتمد عليهم الشيخ محمد ويتشاور معهم يوميا مثل الوكلاء والسراكيل ، امثال ملا كريم ، وملا لازم ، وغيرهم .
 ثم يستمر ذلك النهر مخلفا وراءه مقاطعات كثيرة ممتدة على ضفافه حتى يصل الى نهر ( الطلعة ) الذي كان يأوي العديد من الفلاحين في سابق عهده ، ومن مميزات ذلك النهر التي شيدت بجانب ( دار الشيخ فالح الصيهود ) انها اصبحت مبزلا رئيسيا لبعض الروافد المتفرعة من نهر ام الطوس .

عاشرا ـ نهر العديل
 يتميز نهر العديل بروافده التي تنبع من ( نهر الكحلاء ) الممتد من ناحية الكحلاء حتى الاهوار ، وكان نهر العديل يحتوي على
 العديد من المقاطعات واعداد كبيرة من السكان ، ففي السنوات التي سبقت عام 2045 كانت جميع المقاطعات التابعة له قد عهد بها الى الشيخ ( مجبل بن فالح ) وبعد وفاة الشيخ ( فالح الصيهود ) اعطيت تلك المقاطعات الى الشيخ محمد عريبي بسبب مطالبته المتكررة لدى السلطات الادارية في محافظة العمارة ونفوذه الواسع ، وبعد ان تم التصديق على امر عائديتها له امر بنقل اشقائه وهم حمود عريبي وغضبان عريبي ، وضمد عريبي ، ومشتت عريبي ، وصيهود عريبي ، وعزت عريبي اليها حيث كان يخش ى امور اشقائه الذين كانوا يقطنون ، في اراض غير صالحة للزراعة مثل الهبشية ، وحمور ، وام عظيمات وغيرها .

 
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 54 ـ
 
 وعلى هذا الاساس تم استزراع جميع الاماكن في هذه المقاطعات بسبب وجود العنصر البشري هناك وتم امر التوزيع على الوجه التالي :
 1 ـ تصبح مقاطعات الصفيجي الواقعة في الجانب الايسر بعهدة غضبان عريبي ، وضمد عريبي ، ومشتت عريبي .
 2 ـ تصبح مقاطعات ابو الحميري الواقعة في الجانب الايمن الى حمود عريبي ، وفعل عريبي ، وعزت بن عريبي .
 وطبيعي ان مقاطعات نهر العديل كانت غنية بانتاج الرز بنوعيه العنبر ، والنعيمة وتربية المواشي والاغنام والجاموس وبساتين النخيل ، مثل بستان عبد النبي ، وبستان دخيل ، وبستان السيد عباس .
 واصبح ( مبزل الجري ) مبزلا رئيسيا للروافد الصغيرة في تلك المقاطعات ومن ثم تم تحويلها الى الاهوار مباشرة .
 وبعد الحديث عن نهر العديل ومقاطعاته والملاكين والسراكيل الذين اشرفوا على تهيئة زراعة الاراضي ، حيث حصل عليها كذلك عدد هائل من الاسر الفلاحية التي تنتمي الى قبائل واعراق كثيرة مثل آل الشامي ، والغرة ، والسودان ، وبني مالك ، وبيت عطية وغيرهم ، وبعد ان ينتهي نهر العديل لابد لنا من متابعة سير نهر الكحلاء نحو الشرق حيث يصل الى مقاطعات بلوى ثم مقاطعات ( الزريبات ) حتى نصل الى مقاطعات ( المعيل ) التي تظم العديد من
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 55 ـ

 الفلاحين الذين هم تحت ادارة ( جيجان بن فالح ) ( ومجيد بن دواي ) ( وخريبط الفالح ) ويوسف بن جالي .
 ولا يقتصر الامر فقط على نوعية تلك المقاطعات التي خصصت للزراعة فهناك اشياء ابعد واهم من ذلك وهي وجود العنصر البشري الذي يتفاعل مع وجود الاخرين وبهذه الكثافة السكانية ذات الميول والطبائع المختلفة فنراهم يقطنون بيوت القصب دون حواجز كما ان جميع فعاليات حياتهم اليومية وتصريف امورهم كانت تشاهد دون اماكن مسيجة ، فالكل يجتمع ويتحدث مع الاخرين في هذه البيوت فالحياة كانت بالنسبة اليهم حياة جماعية وهادئة ووديعة ودون احقاد ، ففي الامسيات نشاهد اماكنهم التي يدعونها السلاف تقام دون حواجز جميعها مصطفة على ضفاف الانهر وتعيش في داخلها هذه الاسر ، كما نشاهد ذلك التفاعل اليومي المستمر وحياة الافراد الذين يقطنون على
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 56 ـ
 ضفاف نهر المعيل ، وفي الجهة المقابلة من ذلك النهر كانت تسمع اصوات الناس وهي تخاطب السكان في الجهة المقابلة والزوارق تجوب النهر اثناء الليل ، ويسمع الغناء باستمرار ، اما المواشي التي تعود الى هؤلاء السكان فكانت موضوعة في اماكن خاصة بجوار بيوتهم ، ولعدم وجود ادوية لقتل البعوض الذي كان يشكو منه السكان وبسبب الاذى الذي يلحق بالماشية لان الدواء غير موجود فكانت الاسر الفلاحية تصنع حرائق ليلية يتصاعد منها الدخان لقتل ( حشرات البق ) وهكذا كنا نشاهد المداخن الليلية باستمرار ، وكان جميع السكان يرون ان ذلك هو حالة مألوفة على مر السنين ، وحتى بعض الامراض كانت تقع ضمن حالات التكيف في هذه المنطقة وتصبح من بين الامور وكانها حالة مالوفة

4 ـ نهر العيوج
 لا يعرف سبب تلك التسمية لنهر ( الاعيوج ) الذي يعد واحدا من بين الروافد الصغيرة التي تنبع من نهر الكحلاء في الجانب الايسر عند امتداد النهر حتى مصبه في الاهوار ، اي انه يقع في الجهة المقابلة لنهر الطلعة عند الموقع الحقيقي لدار الشيخ ( فالح الصيهود ) ، وربما يعود ذلك الاسم للاعوجاج الذي يمتاز به ذلك النهر .
 وفي السنوات الماضية كان نهر ( الاعيوج ) ، يبهر الناظرين بما يمتاز به من جمال مناظره الخلابة وكثافته السكانية وفي كثرة البساتين المنتشرة على امتداده حيث كانت الاشجار تحمل الاصناف العديدة من الاعناب ، والتين واثمار النخيل بكافة انواعه .
 الا ان الامر كان لا يقتصر فقط على جمال الطبيعة المتميزة بكثرة الاشجار المصطفة على جانبيه والمتدلية نحو وسطه ، فهو كان ايضا موقعا مهما للمحاصيل الزراعية والكميات الهائلة من التمور والاصناف العديدة من الاشجار التي تستفيد المنطقة من اثمارها ، حتى اصبحت هذه المنطقة المصدر الوحيد لتسويق المحاصيل المثمرة الى الاسر الفلاحية المحيطة
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 57 ـ
 بها ، فقد كان الرجال يصدرون هذه الاثمار بواسطة الزوارق نحو مناطق المعيل وابو زمور ونهر العديل على مدار السنة ، ومما يذكر ان معظم هذه البساتين الممتدة على طول النهر كانت قد منحت الى اشخاص يدعون السادة ، وهم السيد ( محمد العايد ) ، والسيد نور الدين ، والسيد محمد ، والسيد عباس وبمرور الزمن اصبح هؤلاء السادة ( مغارسين ) لتلك البساتين واصبح جميع المحاصيل الزراعية والاشجار المثمرة ملكا لهم بموجب نظام التسوية .
 اما الاراضي غير المغروسة والتي تقع ضمن مقاطعات ( الاعيوج ) فقد عهد بامر الاشراف عليها الى ابناء ( عبد الكريم الصيهود ) وهم ( درعم بن عبد الكريم )، ( وادعير بن عبد الكريم ) وبعد ان عهد اليهم بهذه الاراضي احتاجوا الى فلاحين لزراعتها وبدأ اهتمامهم بطلب الفلاحين من اماكن اخرى مجاورة ، وفعلا فقد نزح الكثير من الفلاحين الذين لم يحصلوا على اراض زراعية نحو تلك الاراضي لان اهتمام الناس في تلك السنوات كان في الزراعة فقط ، وبمرور الايام اصبحت تلك الاراضي غير مستثمرة بصورة تامة مع انها عرفت على انها كانت سابقا من بين انشط الاراضي الزراعية في محيطها ، وقد فضل الكثير الاستيطان فيها حتى عرف عنها انها كانت تحتوي على مراعي شاسعة مما ساعد على تسهيل تربية المواشي والاغنام فيها بكثرة ، اما المناطق الشرقية من هذه الاراضي فكانت شهيرة بصيد الاسماك لكونها قريبة ( من الاهوار ) وخصوصا عند مصب النهر في هور ( الجكة ) القريب من الاهوار ، الامر الذي سهل الصيد هناك لسنوات طويلة وخصوصا في مواسم الصيف ، اما السكان المحليون الذين يقطنون هناك فهم من عشيرة السواعد ، وآل الشامي ، وبيت عبد السيد السواعد ، وهم حسون بن جابر ، وحسن بن جابر ، وبيت امعين وجاسم بن محمد بن عشيرة آل الشامي ، واشخاص اخرون جميعهم متواجدون هناك بصورة واسعة وقد تزايد عدد الاسر الفلاحية في هذا النهر بسبب تجديده وحفره من قبل شركة ( ومبي ) التي قامت بذلك سنة 1962 .
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 58 ـ
5 ـ نهر المشرح
 من المعروف ايضا ان نهر المشرح هو واحد من بين الانهر المهمة في شرق العمارة ( الحلفاية ) نظرا لما يمتاز به في العديد من الروافد المرتبطة به على الجانبين ، ففي السنوات الماضية التي سبقت عام 2058 كان يحضى باهمية بارزة من حيث عد السكان والثروة الحيوانية في ذلك التاريخ ومع عدم وجود احصائيات دقيقة عن عدد السكان والثروة الحيوانية ، الاّ ان هناك بعض الاشخاص الذين زودونا ببعض المعلومات ومن خلال الزيارات الميدانية للمقاطعات المذكورة ابان ازدهارها فيما كنا نزور المقاطعات في الاعوام السابقة لعام 2051 وهذا ما اعطانا فكرة ملائمة ومتقاربة عن ما نتحدث عنه ، كما ان عدد الروافد ومسميات الاشخاص الذين سنتحدث عنهم في هذا الموضوع هو ايضا امر متمم للواقع الزراعي والاقتصادي في هذه المقاطعات ، وعلى كل حال فان معظم المقاطعات المرتبطة به كانت تمثل اعلى نسبة في زيادة انتاج الرز بنوعيه العنبر والشتال ، كما عن عن نهر المشرح ومقاطعاته انه يحمل معاني كبيرة نظرا لكونه مستودعا هائلا للاسر الفلاحية المستوطنة هناك والتي كانت تنتمي الى فروع عديدة من قبيلة السواعد التي كانت تقطن الاراضي الواسعة الممتدة من الشرق الى الجنوب والشمال نظرا للتربة الخصبة ووجود المياه واماكن صيد الاسماك وغيرها ، علما انه يفصلها عن اراضي البو محمد ( هور الجكة ) ، اما الاراضي الشرقية فانها ممتدة باتجاه النهر حتى مصبه في الاهوار ، وهي ايضا اراضي خصبة جدا ، ومن الطبيعي ان تكون لذلك اهمية سياسية واقتصادية فالحدود الممتدة بمثابة خطوط اتصال بين مقاطعات المشرح وبعض المناطق المجاورة طيلة الفترات التاريخية السابقة ، فقد كانت المحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية والاسماك محل طلب متزايد من قبل السكان ، وذلك كان سببا في ازدياد الرخاء المعتمد على الزراعة .
 الى ذلك فقد حافظت بعض المعايير على المحتوى الاصلي لتلك المجاميع السكانية ضد الضغوط النفسية والاقتصادية التي كادت ان تؤدي بهم الى حالات تبدل في التفكير والاتجاه الى غير الزراعة ، وبقيت هذه الاسر
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 59 ـ
 الفلاحية محتفظة بحيويتها ما حال دون حدوث الانشطار والفراغ الحاصل في الريف ، حيث ان الفترات السابقة التي مرت بها قدمت لها فرصة ثمينة لدراسة الانقسام الحاصل فيما بين الحقائق الواقعية للحياة والطموحات بجميع اجزائها ، نظرا للروابط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المنطقة والتي كانت تحرك الطموحات الواسعة لتنظيم العلاقات الانتاجية الطبيعية المرتبطة مع النشاطات والفعاليات الحرة المختلفة على نحو من الاصالة ومن دون قهر او اضطهاد لجميع السكان بالرغم من عهود السيطرة الاقطاعية في بقية المناطق ، لكن هذه المقاطعات كانت تخضع لابناء عمومتهم وهم رؤساء السواعد حيث كانت تؤدي الى طموحات زراعية متبادلة ، وبذلك اصبح الفلاحون يتبادلون بيع المواشي وصيد الاسماك والطيور وغيرها من دون اعتراض .
 وفضلا عن ذلك فقد فرضت مجموعة من التاثيرات والتقاليد الاجتماعية على التقاليد المحلية وهي تاثيرات مشابهة لباقي التاثيرات والتقاليد المتوازنة حسب التنظيم الاجتماعي الذي فرضته الاصالة الريفية على مر الزمان والمتداخل مع النظرة الحية للزعامة القبلية ، وكذلك التصورات للجوانب الاساسية للحياة الدينية والسياسية على حد سواء .
 واذا توغلنا عميقا عزيزي القارىء فسوف نجد انفسنا نستشف بعض المعلومات من واقع الحياة ، خصوصا فيما يخص الدور الاقتصادي وحياة السكان من كافة الوجوه ، كما يبرز لنا ايضا من تاريخ هؤلاء السكان اهمية الدور الفعال الذي هيأه لهم بعض الشخصيات ، حيث دونت لهم احاديث وحكايات ومواقف عديدة لم نعثر عليها كلها ، ويعزى تطور الثروة الحيوانية لمواجهة مشكلاتهم البيئية بحزم وفي عهودها المختلفة ، وكان عليها ان تكافح باستمرار في سبيل التوصل الى حل مشكلاتها الاقتصادية والسياسية ايضا .

الانهر والمقاطعات في المشرح
 تمتد مقاطعات ( المشرح ) والانهر والفروع التابعة لها الى منطقة واسعة
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 60 ـ

اهل الريف في جنوب العراق  ـ 61 ـ
 ذات تربة خصبة محاذية ( الى هور السناف ) من الجانب الايسر اذا كنت متجها من محافظة ميسان وحتى ( هور الجكة ) من الجانب ( الايمن ) اي عند مصبه من الجهة الشرقية وهو يصب في الاهوار ايضا ، وطبيعي ان ذلك له اهمية اقتصادية ، كما هناك خطوط اتصال بين الانهر والفروع المتدة على طول ذلك النهر الذي اثبت عدم وجود ارتباط مع تلك الارض السهلة ، كما اصبحت بعض الموارد التجارية كالاسماك والطيور في تزايد مستمر من قبل السكان المحليين وبطريقة المقايضة ، وقد ساعد ذلك في وجود الاسر الفلاحية وتجمعها فوق ضفاف الانهر وقرب الاهوار لانها تحصل على الامن والاستقرار ، وكونت لها ممرات وبعض الصلات مع بقية المناطق ، ان تلك الميزة التي تمتعت بها مقاطعات المشرح ادى بها الى الطموح المستمر في حياتها الاقتصادية نحو الاصالة والنقاوة ، ولولا ذلك لحدث العكس ، واعتبرت هذه المعايير هبة للانسان الريفي في تلك المقاطعات .
 وعليه فان التعامل الذي كان يجري هناك قد ربط اجزاء الحياة بشيء بسيط ومتكامل ، فالعلاقات الاقتصادية الناجمة عن المداخيل الزراعية وغير الزراعية كانت انعكاسا للحياة بكل انماطها ، ان تلك الميزة التي تمتعت بها الاسر الفلاحية في مقاطعات المشرح وغيرها ادت بها الى الطموح المستمر الذي عم حياتها الاقتصادية والدينية والثقافية .
 ويعتقد ان مقاطعات المشرح مرت كغيرها بفترات من الازدهار ومن اهم الفترات التي عرفناها كانت الاعوام التي سبقت عام 2058 وهي فترة عدم حدوث الهجرة ، كما يبرز التاريخ اهمية الدور الفعال الذي قامت به بعض الشخصيات الذين يدعونهم زعماء لهم مثل محمد الموسى ، وشبل الثامر ، وغيرهم من امثال شيوخ السواعد ، كعزيز بن شياع ، واخوته حيث يعرف عنهم كونهم من اهم الشخصيات في تلك المقاطعات ، لقد دونت لهم احاديث وحكايات ومواقف عديدة لم نعثر عليها كاملة كما ان التوسع السكاني بهذه الاعداد ادى الى ظهوره بشكله الطبيعي ، وينطبق ذلك ايضا على الزراعة ، ويعتقد ايضا ان بعض السكان اعتمدوا على شيوخ المنطقة لكي يتمكنوا من
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 62 ـ
 معالجة امورهم ، وعلى هذا النحو الذي استمرت تلك الاسر بزراعة الاراضي الواقعة على جانبي نهر المشرح والفروع المرتبطة به ، كما توافدت اسر جديدة نحو المنطقة بسبب وجود الرخاء ( والتربة الخصبة ) وقد خلقت لنفسها فيما بعد على مدى سنوات طرقا زراعية اخرى متجددة .
 وصفوة القول ان التحدث عن نهر المشرح وروافده يظهر التغير او الفارق الحاصل بين سكان المدينة واولئك الذين عاشوا في الريف والاختلاف في النظرة الخاصة الى العلاقات فيما بينهم جميعا ففي احوال كثيرة كان اهل الريف لا يرغبون حياة المدن وقد يرون في ذلك تاثيرا كبيرا على حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والنفسية .
 ويعزى تطور الثروة الحيوانية في هذه المنطقة وغيرها الى وقوف الريف على مايحيط بالمنطقة مع معرفة تاريخها وتركيبها البيئي ، وكان هذا يعد ظاهرة نموذجية نابعة من تاريخ بلاد الرافدين ، طالما كان على كافة المناطق الجنوبية ان تواجه مشكلاتها البيئية بحزم وفي عهودها المختلفة ، وكان عليها ان تكافح باستمرار في سبيل التوصل الى حل مشكلاتها السياسية ، ويمكن الاشارة بهذا الصدد الى معرفة مسميات الروافد التي تنبع من نهر المشرح من كلا الجانبين ، ولا شك ان الغرض من مواصلة ذكر هذه الروافد هو من اجل الوقوف بدقة على اهمية نشاط الثروة الزراعية والحيوانية بجميع اشكالها ، وكذلك من اجل الحفاظ على تلك المواقع من الناحية التاريخية وتثبيتها ، ومعرفة الاسس والاساليب المتبعة في تلك العهود .
 كما اعتادت الاسر الفلاحية على الاستيطان بصورة جماعية مع الاخرين ، فعند كل رافد من هذه الروافد نجد هنا وهناك تجمعات سكانية واسعة يجمعها هديف واحد هو زراعة الارض واستثمارها بصورة طبيعية وهي تظم العديد من الفلاحين ، فكانت البيوت تشيد من مادة القصب والبردي التي يطلقون عليها كلمة ( السلاف ) وتبدو مصطفة على ضفاف الانهار وتحيط بجوانبها ( اعلاف الماشية ) وبعض اكداس المواد الغذائية للفلاحين وقد وضعت في الحصران التي عملت على هيئة مخروط لتكديسها ، ويقوم الفلاحون
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 63 ـ
 بتخصيص اماكن للماشية ، اما الجاموس فقد شيدوا له بيوتا خاصة تكون ايضا قريبة من اماكن سكناهم وقد اطلق على هذه الحظائر كلمة ( السترة ) وهذا ما كنا نشاهده حتى الملاكين الذين تشكل لديهم الماشية والجاموس اعدادا كبيرة قد تصل الى ( 40 ) او اقل نم ذلك العدد بالنسبة ( للجاموس ) ، لغرض الحصول على كميات كبيرة من الحليب الطازج واحضروا الرجال والنساء الذين تنسب اليهم مهنة التخصص باستخراج الحليب وما يتعلق بهذه المادة الغنية والاعتناء بها على مدى السنوات الطويلة من حياة الريف ، وطبيعي ان جميع الافراد وحتى هذه التجمعات السكانية تقع تحت وصاية الملاكين وابنائهم من الوجهة السياسية والاقتصادية ، لذلك نرى ان التوجه العام يهدف الى توزيع الاعمال الزراعية على الفلاحين بصورة مباشرة او بواسطة ( السراكيل ) او ( المامورين ) وخصوصا فيما يتعلق بتنظيم السدود والمبازل والحصاد ، اما الاعمال الاخرى التي لا تستدعي عادة ذلك فانها تنجز من قبل الافراد مثل الذهاب الى اعماق الاهوار لقطف البردي والقصب لعمل البيوت وكذلك صيد الطيور والاسماك ، او في زراعة شتلات الرز من جميع الاصناف .
 وفي الريف ايضا كانت الاسر الفلاحية تسد بنفسها معظم حاجاتها اليومية من الاسماك وتربية الماشية والدواجن وزراعة الخضراوات وغيرها ، اما بعض المواد التي يحتاجها السكان من الاقمشة وغيرها فكانت تاتيهم بواسطة ايلباعة المتجولين الذين يجوبون الانهر باستمرار .
 ومع مرور الايام اعتاد السكان المحليون الذين يطلق عليهم في هذه المنطقة عشيرة ( السواعد ) حسن الكرم والضيافة ، ولربما جاء ذلك بسبب التاثيرات المستمدة من مشايخ المنطقة الذين انفردوا بهذه الخاصيات وهذه الصفات اما فيما يتعلق ببعض الفعاليات التي تكون متممة لنظام الاستيطان والتي تكون عادة اثناء الاعياد وفي حفلات الزفاف التي تحدث في الريف فنجد الكثير من النساء اللواتي اشتهرن ايضا بالغناء وقد وصل الكثير منهن الى مصاحبة بنات الملاكين لاحياء حفلات الغناء ، كما شاع في الريف ايضا ان
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 64 ـ
 معظم النساء يقمن بالغناء في هذه المناسبات حتى في داخل الزوارق واثناء ( الاعراس ) وغيرها ، وكما يلاحظ ان معظم الشباب يقومون بالغناء من داخل الاهوار والانهار اثناء الليل والنهار ، وهذه من بين العادات والتقاليد المتعارف عليها من قبل الاهالي في عموم الريف سواء كان ذلك في نهر المشرح او الانهر الاخرى من مقاطعات ( البو محمد ) ، وفي هذه المناطق نجد الاطباء الشعبيين والعرافات وجميع هؤلاء المهنيين ينفردون باعمالهم وبتخصصاتهم التي يؤمنون بها ويؤمن بها جميع السكان المحليين قبل اعطاء الوصفات الطبية المتعلقة بمادة الاعشاب والكي بالنار وغيرها .
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 67 ـ
الفصل الثالث

1 ـ الظواهر الاجتماعية في الريف

 لافرق ايضا بين ما هو مؤرخ وما هو مروي بالنسبة لبعض الجوانب التي تدخل في البناء الخاص بكل منهما ، كعرض نفسية الجماعات والمؤثرات التي تحركها ، وكذلك تشخيص المسيرات الرئيسية ، بالنظر الى الطبيعة والوراثة والبيئة ، هذه هي الامور التي يفترض اشتراكها علميا او بالاعتماد على التطور الهام والمثال الاخلاقي وعلى مايدور في نقطة مركزية بكل ما يحيط بها ، غير مغفلين حساب نسبة البعد عنه او القرب منه ، وهذه النسبة ذات تاثيرات مباشرة في ابداء الصور والمراحل الزمنية السابقة على وجه الحركة والاسفار ، وهذه النتائج تقودنا الى النظر الى دقة الموازين للتطورات النفسية والعقلية والاجتماعية حتى اصبح بحثها اقرب الى ان يكون من اشياء العلوم ، ويحسن بنا ان نعنى بفهم وجهة ذلك الاستيطان وتلك الظواهر الاجتماعية لان ذلك بداية سلسلة طويلة لتاريخ الريف وفهم للحالات الثقافية للمراحل الزمنية السابقة ، ان اجيال الريف قبل اتشداد الانشطار الذي حصل من جراء هجرتهم نحو المدن كان لهم وضع اجتماعي خاص ومثل اخلاقي وألسنة ادبية معينة وطريقة وطبيعة ذات مميزات خاصة خاصة وهذه الاشياء وغيرها من البسائط تشبه امثالها التي كانت تتصل بحياة الجيل السابق ،
 فالمفارقات بين هذه الاشياء كانت ثابتة من حيث التركيب ثبوت الاشتراك من حيث التحليل ، وثبت من القضايا المبرهن عليها في العلوم الاجتماعية ، ان هناك نوعين رئيسيين من المجتمعات لكل منهما طابع خاص مميز هو مجتمع الريف البسيط ذي الثقافة التقليدية ومجتمع المدنية الذي يمتاز
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 68 ـ
 بخاصية معينة ، والواقع ان المجتمع الريفي يشبه في خصائصه وطابعه الفى حد كبير المجتمع العائلي ، فكأن المجتمع الريفي تزداد فيه العلاقات بين الافراد ، لذلك يجوز للمؤرخ ان يدرس اجياله الماضية على ضوء الجيل الذي يعيش فيه وان يوصل بعض الحوارات وينسقها مستلهما محيطه وعصره ونفسية من يشاركونه الحياة ، وانه لصحيح ان كل فرد هو عنصر بشري وله دائرة خاصة يضع فيها جيله في نقطة مركزية ثم ينتقل الى اجيال سابقة ، وبالنسبة لدراسة المجتمع الريفي فيتعين علينا ان نضع ميزانا بين يدي القارىء لحالات النشوء والتكامل في الاستعدادات النفسية والاجتماعية ، والميزان التاريخي الذي كان يرسم حياة الريف ، كان انعكاسا لواقع حياتهم اليومية في ظل العلاقات الانتاجية الطبيعية ، وفي كثافة العنصر البشري واستيطانهم الذي الذي يصبح في الحقيقة علامة لواقع حركتهم الاجتماعية ويعد ، الاساس لتكوين حياتهم ، وكتسلسل تاريخي للنشاط الحر في تصريف الحياة اليومية التي بقيت ملازمة لهم حسب تنوع الاساليب والطرق العديدة في عاداتهم وتقاليدهم على مرالايام في هذه البيئات / الزراعية / النفسية فان دراسة المجتمع الفلاحي في الجنوب تصبح ذات اهمية بالغة في تكوين الفكرة الواضحة عن ذلك المجتمع الذي هو اشبه بباقي المجموعات البشرية التي تفاعلت بظروفها وتقاليدها وعاداتها ، والتي اتصفت بخصائص متعددة نابعة من ارتباطها بنظام البيئة وتتحدد بنظام مشترك ينظم علاقاتها الاجتماعية في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية .
 وعلى هذا الاساس استطاع الريف ان يجد لنفسه علاقات اجتماعية من خلال استيطانه في تلك البيئات وهو يتلمس السمات الاساسية لفكره ونظمه العشائرية التي تجمع فيما بين ظروفهم الاقتصادية والسياسية على حد سواء ، وانها مطابقة ايضا لدراسة المجتمعات الصغيرة التكوين في الاصل والجنس الواحد والسمات البشرية الواحدة والتي تكاملت فيها اهم العناصر اللازمة لتكوين وحدة النظام الاجتماعي الذي هو روح الريف ، ومن خلال استيطانهم قرب الانهار والاهوار والمبازل وفوق اليابسة اوجد الريف لنفسه تركيبا بيئيا خاصا فهو متجانس في الميول والطبائع ، وفي جميع الخصائص الفكرية
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 69 ـ
 والدينية ، وطبيعي فان هذه الظواهر والسمات الميزة من قبل غير المجتمعات الريفية على وجه التحديد لها اهمية بعلاقة ايصال الماضي بالحاضر والذي يساعدنا على تفهم حقيقة مثله واتساع اهدافه ونشاطاته الفكرية .
 لقد درس علماء الاجتماع المجتمعات البشرية وقدموا فيها تعابير شتى تتكلم عن المجتمعات ، منها المجتمع الفلاحي الذي عرّفه البعض بانه مجموعة من الافراد تربطهم علاقات اجتماعية تهدف الى تحقيق مصالحهم المشتركة وهذا ما ينطبق تماما على المجتمع الفلاحي الذي ارتبط بصلات معينة وظل ابناؤه مؤمنين بقيم معينة واحدة ، ويحصل منهم تجاوب في شؤون الحياة الفكرية والمادية ، ويدعي آخرون بان المجتمعات البشرية مجموعة من الافراد تقطن في بقعة جغرافية محددة من الناحية السياسية ومعترف بها ولها مجموعة من التقاليد والعادات والمقاييس والقيم والاحكام والاهداف ، ويشكل هذا ايضا وحدة سكانية متجانسة ، وهناك بعض الآراء التي تتحدث بان الانسان منذ نشاته لم يكن متوحشا كما قيل بل انه كان ميالا بطبعه الى الالفة ، والتعاون والعيش مع اخيه الانسان ، ويعتقد اصحاب هذه الفكرة بان الانسان مدني واجتماعي بالطبع ، لانه لا يستطيع الاستغناء عن معونة الآخرين في سد حاجاته المادية وغير المادية ، ولهذا فقد تبنى بعض المفكرين اعتقادهم على ان الانسان وجد منذ البداية على شكل جماعات يتعاون افرادها على سد حاجاتهم والدفاع عن انفسهم امام هجمات الجماعات الاخرى من البشر ، حتى غدت هذه المجموعات وحدة اجتماعية متماسكة ، ويؤكد علماء الاجتماع ايضا انه من الصعب ان نتصور تكاثر الجنس البشري وتجديد نوعه واستمراره عضويا دون العيش مجتمعا .
 وبذلك يصبح من الصعب ابراز قدرات الانسان ونمو خبراته الاجتماعية في حالة عيشه منفردا ، وان اقدم تنظيم دعت اليه الحاجة الانسانية وادركته المعرفة البشرية ادراكا وثيقا سواء في شكله او في وظيفته يقصد به على وجه التحديد ( التآلف الاجتماعي ) ، والانسان سواء أعاش في بداية حياته وهو يعتمد على نفسه فقط ، ام انه عاش داخل الجماعات لا يمكن اعتباره انسانا بالمعنى
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 70 ـ
 الصحيح الاّ في تقيده بقواعد منظمة لسلوكه ، وسط الجماعات التي ينتسب اليها ، فالمجتمع الفلاحي الذي نتحدث عنه وفي مراحله التاريخية المنصرمة في واقع اجتماعي معين ، ومع مرور الزمن تبلور ذلك النظام الاجتماعي ، واصبح ككل شكلا من اشكال هذا النظام ، تنوع في العرف والتقاليد ، وقواعد للسلوك الذي ارتبط بهذه الوظائف ثم تتشابك المصالح للافراد حيث تعتبر العائلة في الريف هي النواة الاولى للمجتمع ، والمراة الريفية تحتل مركز الصدارة في هذه الاسرة بحكم موقعها بتدبير المنزل وتربية الابناء وفي مشاركتها للرجل في اعمال الزراعة وجمع المحاصيل .
 وفي ميادين اخرى يؤكد بعض الباحثين ان تحليل الواقع الاجتماعي في البلدان الزراعية اداة منهجية طورها علم الاجتماع في تلك البلدان عبر دراستهم لمجتمعاتهم الخاصة ، لان الجهود الموضوعية المبذولة في سبيل ذلك قلما كانت منهجية وهو امر هام ، فتحليل الطبقات حتى في البلدان الصناعية كثيرا ما كان يقتصر على الاطار الاجتماعي الصناعي والمدني لغرض القضاء على النظم والتقاليد السابقة ، واضهار ذلك المجتمع في صورته العصرية واحلال نظام اجتماعي جديد ، وكان في بادىء الامر ذا دراسة قصيرة بالنسبة للمجتمعات الريفية ، واذا ما قسنا هذه الدراسات التي عالجت الظواهر الاجتماعية للطبقات غير الريفية لانها قريبة من مراكز الحكم تكون خاضعة الى الدساتير والتشريع وكذلك تنوع وسائل الانتاج ، ثم جرت اكتشافات لمفكرين اخرين لغرض ابراز بعض الاكتشافات الحديثة لتشريع علوم الاجتماع واظهار مفهوم ( التراتب الاجتماعي ) على الطريقة التي يجري فيها ترتيب العائلات والفئات الاخرى وفق سلم بعضهم بعضا ، ونذكر من بين هؤلاء ( رودولفو ستانغن ) في كتابه عن الطبقات الاجتماعية في المجتمعات الزراعية ، ان بعض المفكرين من يقول ان التراتب الاجتماعي في المجتمعات شامل وعام ، ويتوقف عمله على التوزيع غير المتساوي للواجبات والحقوق في مجتمع معين ، ويقول ايضا ان حركة المجتمع تكون دائما بحاجة الى تحديد مكانة الافراد في البيئة الاجتماعية ، وهذه المكانة تتمثل في هذه المواقع باربع مكانات حسب رأي الباحث :
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 71 ـ

اهل الريف في جنوب العراق  ـ 72 ـ
 1 ـ رأي الفرد بنفسه .
 2 ـ رأي الفرد بموقع الاخرين .
 3 ـ القبول الاجتماعي بالموقع من جانب المجتمع باكمله .
 ويقول الكاتب في كتابه المذكور بان هناك مدارس اخرى تعاقبت في عرض بعض الاراء لمفكرين اخرين ودرست نشاط الانسان والتراتب الاجتماعي وتضاربت اراؤهم في تشذيبها وجود الحلول لها فظهر وجود خمسة عوامل تحدد التراتب الاجتماعي وهنا مؤشرات خاصة لتحديد ذلك وهي :
 أ ـ مصدر الدخل
 ب ـ مقدار الدخل
 ج ـ الثروة والعمل الذي يشغله الفرد
 د ـ الاطر الجغرافية
 هـ ـ عوامل بيئية
 و ـ الاصل والعرق
 ويتابع المؤلف في كتابه ذلك آراء بعض المفكرين وآراء باحثيها ومخبريها في العديد من تلك المقاييس للمجتمعات الزراعية ويراها مطابقة لبعض المقاييس التي جاء بها وحصر بحوثه على المجتمع الصناعي وصوره بعدم المساواة ، على ان الطبقات الاجتماعية الزراعية هي مجتمع المساواة الذي تجاوز الظواهر البالية واصبح لديه الهدف هو صعود السلم الاجتماعي وان الانتقال من طبقة الى طبقة حل مكان الصراعات بين الطبقات ، غير ان هذه الآراء وهذه البحوث قد تعرضت من قبل كثير من النقاد لنقد هذه النظرية حيث يرى بعض علماء الاجتماع من الاشتراكيين ان جميع الظواهر الاجتماعية في البلدان مرتبط ارتباطا وثيقا بالانتاج الذي يشكل اهم نشاطاتها العلمية والاساسية ويقرر نشاطاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، فالانسان بالاعتماد بصورة رئيسية على نشاطه في الانتاج المادي يتفهم تدريجيا ظواهر الحياة ، وكذلك يتفهم تدريجيا وبدرجات متفاوتة عن طريق نشاطه في الانتاج
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 73 ـ
 وما يربط بين الانسان واخيه الانسان في الانظمة المعنية من علاقات معينة ، ولا يمكن الحصول على اية معرفة من هذه المعارف بمعزل عن هذا النشاط في الانتاج ، وعلى هذا الاساس فان الواقع الاقتصادي هو الذي يعكس الواقع الاجتماعي والسياسي ، وبما ان العلاقات الانتاجية في الريف هي علاقات زراعية تقليدية فهي التي تعكس اوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، وبما ان المجتمع الفلاحي في الريف هو مجتمع مختلف ويعيش معتمدا على نشاطه الاقتصادي الزراعي في ظل ظروف اقتصادية يعاني فيها ذلك الاقتصاد من حالة انخفاض في مستوى انتاجية خالية من التقنية مع فيض واسع في السكان ، يبقى الواقع الاجتماعي كما هو عليه اي ذات الاغلبية من حيث النسبة التي تحتلها ضمن المجموع السكاني في العراق للسنوات السابقة انما هي الطبقة الاكثر تخلفا في سلم التطور الحضاري والاجتماعي دون ان يكون ذلك الوضع لافتا للنظر ومثيرا للاستغراب طالما اننا ندرك مدى عدم استغلال الزراعة بصورة واسعة ومتطورة بالمعنى الصحيح .
 وقد نخطئ اذا جعلنا الفلاحين في عداد الشريحة البرجوازية الصغيرة لكونهم يحتلون طبقة كادحة تشكل مع العمال القاعدة المادية للبلاد ، ولان الارض ليست ملكا لهم واذا كانت هذه الطبقة معرضة للاستغلال فان ذلك من الطبيعي ان ينعكس على اوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية بسبب وضعهم الذي بقي في اطار طبقي يجتمع فيه الكثير من التناقضات ، فلقد كانت الزراعة بدائية في طريقة الارواء والسيطرة على السدود وتشييد البيوت وعدم وجود المكننة وغيرها وحتى عدم وصول الكهرباء الى تلك المناطق .
 وفي الريف نجد هناك فقراء من الفلاحين الذين لا يملكون ارضا زراعية لزراعتها وكذلك بعض الفلاحين الذين امتهنوا مهنة الصيد والفلاحين الذين يزرعون الارض بطريقة اللزمة .
 وبهذا فان حالة الانسجام يمكن ملاحضتها في التراتب الاجتماعي للفلاحين ولكونها غير متساوية مع الاقطاعيين ، والوكلاء والسراكيل والحوشية .
 وفي الريف نجد التقسيم الاجتماعي ( العشائري ) يطغى على المفاهيم
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 74 ـ
 الاجتماعية لكن اعمالهم كانت تنسجم مع طبيعة الانتاج تبعا لخبرة الفلاحين وطبيعة ونظام الارض ، ومستوى المدارك والمفاهيم ونوعية العلاقات الاجتماعية والانتاجية التي يخضعون لها ، وهذا كله يميز هذه الطبقة دون غيرها من الطبقات ولا يفقدها تجانس ودون ان يفرط في البناء العام للفلاحين كبناء طبقي موحد ومميز لانه لا يمتلك الوحدة في القوانين الاجتماعية التي يتحكم بها ذلك النطام باعتباره بناء طبقيا متجانسا وواضح المعالم في ظل الهيمنة الاقطاعية .
 ومن خلال رؤية البيوت المصنوعة من القصب والبردي التي اصطفت على ضفاف الانهر وهي من دون حواجز فيما بينها يمكننا معرفة مفهوم الواقع الاجتماعي ، يضاف الى ذلك تفاعلهم فيما بينهم في العلاقات الانتاجية الطبيعية وكذلك في مشاركتهم لجميع المناسبات التي تحدث في وسطهم وخارج وسطهم وتصريف حياتهم اليومية .
 ولا يفوتنا ان نبين ان هنالك فئات فلاحية فقيرة انسلخت من بينها فرديات اجتماعية ضارة بسبب فقرها وبؤسها لانها لا تملك ارضا كافية يستخدمها هؤلاء الفلاحون ابعد من الاستثمار الشخصي لسد الحاجة السنوية في معظم المناطق ، وبسبب ضعف الانتاج لهذه المساحة نرى ان العديد من افراد هذه الشريحة اصبحوا في واقع اجتماعي معين لانهم كانوا يجمعون بين تمنياتهم للحصول على قطعة اكبر وبين عملهم كفلاحين يقطنون على ضفاف المبازل بسبب كثافة السكان في تلك المناطق .

2 ـ الغناء في الريف
 يصعب على المرء الذي لا يعرف شيئا عن الريف وضواحيه ان يتخيل مبلغ ما يسود القرية في الريف من النشوة والمرح في مناسبات عديدة ، ولا ريب في ان جهل المرء لبعض الامور في الريف هو السبب في انتشار بعض الترهات والاوهام عنه ، وانه ليصعب على مثل هذا المرء ان يتخيل عظمة الطبيعة الساحرة ، فكيف يتسنى لفلاح تلقي قلة موارده على حياته ظلا من
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 75 ـ
 الكآبة ان يختلس لحظات من حياته يستسلم فيها للمرح والحبور ؟ وفضلا عن انتقال ذهنه الى التهذيب والتشذيب فقد جعل منه ايضا انسانا رقيقا لطيف المعشر منطلقا في طبيعته ، ففي الريف تنطلق الفرحة الى صميم النفوس ويعكسها طرب المغنين الذين استمدوا ذلك من واقعهم الريفي المرتبط بطبيعتهم واحوالهم ، لان الذي اعلمه هو ان الغناء الريفي تغلب عليه اللوعة وتشيع فيه الشكوى ولم يكن غناؤهم هذا الاّ تنفيسا للمعاناة الشديدة التي كان الفلاحون يعانونها ، لذلك فقد برز ذلك الغناء بجميع الوانه وظهرت فيه الوان جديدة وترانيم كثيرة اختص بها العديد من المغنين ، ومن ضمن الوانه الغنائية الشائعة ، المحمداوية ، والابوذية ، والبستة ، والحياوي ، والموال ، والركبانية ، التي ترتبط هي ايضا بواقعهم الاجتماعي المميز .
 ومن المغنين في الريف السيد فالح الذي اشتهر في ركبانية ( جاسم بن محمد ) وعبادي وآلوس ، والمغنون كريري ، ومجيس ، والسيد محمد ، واغويض ، وكرز ، والعيبي ، وخلف ، فضلا عن مشاهير المغنين الاخرين الذي كانوا يزورون الريف ، بين حين واخر ، امثال المغني ( داخل حسن ) الذي كان له علاقة وثيقة مع فالح بن الشيخ مجيد ، وكذلك المغني المرحوم شهيد كريم وغيرهم .
 ففضلا عن بساطة معيشتهم وفقرهم ، نجد ان حياة القرية لا تخلو من جوانب المرح المتصل بعظمة الطبيعة الساحرة .
 واذا توغلنا في حياة الفرد الريفي في وسط تلك الاماكن النائية بجنوب العراق نجدهم جميعا وهم قدلا شيدوا لهم بيوتا من القصب مصطفة على ضفاف الانهر لتقيهم شر الطبيعة القاسية وهذه كانت حياتهم وحياة اسلافهم على مر السنين ، وبمرور الزمن وحتى السنوات الاخيرة من عصرنا الحالي اي الى ما قبل عام 2058 اعتاد معظمهم على تجديد بيوتهم سنويا من الداخل والخارج ولربما يعود ذلك الى التكيفات التي طرأت عليهم ، كما ازداد اهتمامهم بتشييد المضايف التي كانت تقام بجانب هذه البيوت .
 وفي مناسبات عديدة نجد الانسان الريفي يلغي اي حواجز مع جيرانه
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 76 ـ

 واي فواصل مسيجة ، وهذا يعود بالطبع الىالحياة الريفية ذات العلاقات الاجتماعية الخالصة والخالية من اي لون من الوان التعقيد ، وهم جميعا لا يظهرون اي اهتمامات بالمظاهر الخارجية لمساكنهم ، فالفلاحون يزاولون اعمالهم اليومية في وسط الحقول ومن ثم يهجعون الى بيوتهم وقت المساء ، وهذه الاوقات هي التي كانت تزيد من اهتماماتهم في علاقاتهم الاجتماعية وكانت الماشية تهجع ايضا بالقرب منهم ، وكثيرا ما كان الفلاحون لا يطمئنون عليها الا اذا كانت بالقرب منهم .
 ولابد من الاشارة هنا الى بعض المظاهر الفنية التي دخلت في حياة الريف وابرازها وهي المضايف ، ان تشييد المضايف لم يكن الاّ تعبيرا حيا لواقعهم الاجتماعي ايضا .
 ان الصورة الفنية التي يتم فيها تشييد المضايف تعد ايضا جزءا من تراثهم الاثري ورمزا للظواهر الاجتماعية والثقافية التي كانت بمثابة عرفهم وتقاليدهم
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 77 ـ

 في رحلتهم الفكرية والنفسية على مر السنين ، وتجري في المضايف مختلف الاحاديث عن امورهم العامة والخاصة ، كالتدوال في امور الزراعة ، وامور الغناء والشعر وفي ذكر الاخبار التاريخية والامور الدينية والاقتصادية لجيرانهم واسلافهم من الملاكين وبعض الشخصيات الهامة في الريف .
 وكثيرا ما كانت تتصدر الامور هي الاحاديث الزراعية ، فذهاب الفلاحين الى المضايف كان يعد واجبا مهما بالنسبة للفلاحين ويذهبون اليهم بألبستهم الجيدة ، وحينما يدخلون يرمون التحية على الجالس ثم ترد لهم التحية ، وبعدها تدار فناجين القهوة على الجالسين حسب الاعراف الاجتماعية الموروثة ، وهناك تقاليد اخرى موروثة ففي ايام الاعياد يذهب معظم الفلاحين الى الملاكين لزيارتهم في مناسبات الاعياد وبعد تقديمهم التهاني لهم يقومون بعد ذلك بوضع مبالغ نقدية بسيطة في داخل الفناجين للشخص الذي يبيع القهوة ، وفي مناسبات كثيرة يقوم الفلاحون بابراز المشاعر والعواطف عن طريق نشر البيارق امام المضايف في حالات الاعراس او التطوع للذهاب الى محاربة بعض القبائل المتاخمة لهم ، او في حالات انهاء المنازعات بين
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 78 ـ
 القبائل ، فكان الفصل لا يتم احيانا الاّ في داخل المضايف وامام رؤساء المقاطعات اي ( الملاكين ).

3 ـ الزواج في الريف
 في هذا الباب نتحدث قليلا عن حالات الزواج في الريف حيث تتحدد العلاقات الزوجية وقوانينها الاجتماعية العامة في اساليب وتقاليد معينة ، فطبيعة الزواج كانت وما زالت تدخل ضمن اساليب بسيطة وغير مشروطة بمطاليب باهظة تثقل كاهل الافراد لكي تطبق على الذين لا تمكنهم مداخيلهم السنوية من التغلب على ذلك ، فلقد كان الاختيار والزواج الريفي في عموم المناطق الجنوبية محددا بالظرف الاجتماعي ، وطبيعي فان الفرد الريفي الذي كان يعيش وسط هذه المقاطعات كان ذا دخل محدود ولا تسمح له ظروفه الاقتصادية بتقديم مبالغ كبيرة لكي يحصل على الزوجة المطلوبة ، لان الزواج الريفي كان من بين الامور المبسطة .
 ويتم بطريقة الاختيار والبحث عن الزوجة المطلوبة التي يشترط فيها ان تكون منحدرة من عائلة ذات مواصفات ريفية في تقاليدها الاجتماعية ، وعلى عكس ذلك فان الشروط والمواصفات المطلوبة تصبح غير متممة بذلك الزواج ، اذ يتعين على الفرد الذي يسعى لطلب الزواج ان يكون قد وقع اختياره بشكل مرض ومقبول حسب التقاليد والعادات المتبعة في الجنوب ، وهنالك اعتبارات تتعارض مع بعض هذه الحالات لافشال ذلك وتسبب الرفض للزوجة المطلوبة كان تكون عائلتها من الذين امتهنوا حرفة ( زراع الخضر ) وينعتونهم بكلمة ( الحساوية ) او غيرها من الحرف الاخرى التي تنتمي الى عائلة صيادي الاسماك ، فيطلقون عليهم كلمة ( البربرة ) وكذلك مثل تلك التي كان ابوها يدعى ( بقال )فينعتونه بكلمة ( عطار ) ، وكذلك تلك التي تنتمي الى عائلة الذين يقومون باعمال الحياكة فيدعونه ( حائك ) ، ومن النسا اللواتي لا يتقدم اليهن ابناء الريف بنات ( السادة ) والصابئة المندائيون الذين استوطنوا في جنوب العراق منذ عهود طويلة وهم باعداد كبيرة في الريف وانفردوا بمهن فنية خاصة في اعمال بناء
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 79 ـ
 القوارب واعمال الصياغة وغيرها من الاعمال الفنية التي تدخل في حياة الريف ، اما فيما يتعلق بزواج الاقطاعيين فانهم ابعد بنظر الفلاحين كونهم طبقة ذات نفوذ وينتمون الى قبائل ارفع من هذه القبائل ، وعلى هذا الاساس فان معظم السكان كانوا يتحاشون التحدث معهم في امور الزواج من بناتهم ونسائهم ، اما الملاكون فكان لهم الحق في اخذ من يقع عليها الاختيار من بنات الفلاحين دون معارضة وبلا تردد وبموجب ذلك فان نسائهم وبناتهم يصبحن مخدرات وتحيط بهن ثلة كبيرة من الحرس والغلمان يحرسونهن ويقدمون لهن الخدمات المتواصلة في الزينة والثياب الجميلة والاغذية .

الاعراس والاعياد
 نحن نعلم عن الاغاني الريفية المتداولة في المدن والمناطق المحلية وخصوصا في المناطق الشعبية انها امتداد للاغاني في الريف ، وكذلك فان معظم العادات والتقاليد التي نسمع عنها ونراها في الحفلات والاعراس هي ايضا مقتبسة من التقاليد القومية في الريف ، وتصبح مثل هذه البيئة للفرد مطابقة للعلاقات التي كانت سائدة هناك ، الاّ ان هنالك فوارق بين ما هو معروف في طبيعة المقارنة بين هذه وتلك ، فان ما نشاهده الان في المدن من حالات تختلف بين الرغبة البسيطة المنبعثة في اظهار الفعاليات وبين ما كان يحدث في الريف بشكلها الصحيح والمعبر عن العلاقات الانسانية الخالية من التعقيد ، فنلاحظ ان هنالك اختلافا واضحا فيما بين الفعاليات التي كان يعمل فيها الافراد بكل احاسيسهم ومشاعرهم ، لذلك فان ما نعتقده ان تلك الشخصية التي اوردتها من خلال رحلتي الاجتماعية الطويلة والتي يتفاعل فيها الانسان مع الواقع المنظور والمعبر عن حياة الريف بعدا صادقا الذي تم تاكيده في اهمية الغناء والافراح في الاعياد ، وبواسطة المجاميع التي تتمثل في اغاني المغنين المتنوعة ، اضافة الى ان هنالك اشارات ضمنية عن ممارسات فنية ترتبط بالشعر الغنائي لقد استعملت تلك الاغاني في اماكن عديدة من الريف في كل من مقاطعات ( البو محمد والسواعد ، وآل ازيرج ، ومقاطعات المجر ) والمناطق المجاورة وفي قلعة صالح وغيرها ، كما اهتمت بالشعر الغنائي
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 80 ـ