تأليف
الاستاذ جمعة عيسى صبري الطرفي

المقدمة
 لعل من الخصائص التي تميزت بها النفس البشرية هو تطلعها وتشوقها الى معرفة ما هو مخبأ في طي القدر ، ولاسيما فيما يتعلق بالاعمار او الدول ومصائرها وما الى ذلك ، ولكن الشيء الذي يجب ان يكون موضع اهتمامنا والذي يجب ان نفكر فيه هو كيف يجب ان تكون حياتنا حافلة بالخصب والعطاء الحضاري ، اقول هذا ، وانا اضع هذه الدراسة الميدانية للخلفية التاريخية للواقع الاجتماعي لسكان المناطق الجنوبية في ميسان واماكن استيطانها في تلك الحقبة الزمنية المنصرمة للفترة التي سبقت عام 2068 مع ابراز التغيرات الهامة التي شملت بقاعا واسعة من الريف العراقي وعلى راس تلك التغيرات هي الهجرة من الريف الى المدينة .
 ان مرحلة الاقتراب من دراسة احوال الفلاحين في مراكز استيطانهم تتيح لنا الوصول الى مجمل الظواهر الخلفية التي تكشف الواقع المنظور وغير المنظور في وسطهم وخارج وسطهم ، لان الخيال التاريخي لدراسة مراحل حياتهم هو خلاصة مكثفة لذلك الواقع بعد ان تكشف في الوضوح والتفكير .
 اننا نشاهد احيانا وفي زوايا كثيرة وبفترات متقطعة لتاريخنا الحالي اننا بحاجة الى معرفة وتحليل هذه الظواهر عن سكان الريف ، لكي نقارن بين المؤثرات الاساسية لعوامل البيئة ، وسلوك الافراد ، في حالة وجودهم وعند انتقالهم نحو المدن ، كما تناولنا ايضا بعض الامور المتعلقة بتصريف الحياة اليومية لهذه الاسر الفلاحية ضمن المناطق الواقعة في كل من ( المشرح ) و ( الكحلاء ) و ( آل إزيرج )، ( وقلعة صالح )لان الوصول الى هذه النقطة يدفعنا ولإول مرة الى ايضاح اهمية تلك الظواهر ، حيث جرى على امتداد السنوات
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 6 ـ
 الطويلة الماضية تدفق اعداد كبيرة من هذه العائلات ومن مواطنها الاصلية نحو المدن ، نظرا لتراكم العديد من التاثيرات العامة التي ساهمت في تخلخل وانشطار المواقع ، وتعطيل النشاط الانساني والعلاقات الانتاجية بين السكان ، ان تحليل الظواهر الاجتماعية والنفسية لعموم السكان قد لايمكن اكتشافها ودراستها وتحديدها دون معرفة الاطر الكاملة لتلك الدوافع ، وفي كثير من الحالات نجد المواقف الغريبة والتطورات والتفسيرات لتعابير نفسية تقليدية متوازنة كانت قد صيغت في قوالب مكيفة تمكننا من معرفة اوجه النشاط للحياة الاقتصادية والاجتماعية ، وهي تمثل جانبا مركبا ذا عناصر مختلفة في زمن محدد ، حيث لابد لكل ناحية من وجود مصطلحاتها الخاصة متمثلة بمعادلات قديمة ( بدائية ) باتجاه التكوين ، وبهذا فاننا حتى وان ذهبنا بعيدا في الزمن الماضي لتاريخ الريف يجب ان لا نفترض بانه قد وصل الى مرحلة حضارية بحيث يبرز من وراء ذلك تميز كلمة الريف ( الحضاري )لكنه يتمثل بخصوصية المعرفة وتكيفه في الحياة الريفية ، وفي الادوار الفعالة التي يلعبها الوعي في عملية التفاعل في العلاقات الانتاجية الطبيعية وبين البيئة وفي ميادين الصراع بين القوى الانتاجية والاقطاعيين والذي تجلى بوضوح في موضوع ( الادارة الذاتية ) والتي تمكنت من احتواء الاسر الفلاحية لعدة سنين ، لذلك فاننا بحاجة لدراسة قرانا والتي لم تكن قد تمرست بعد بمعرفة النظم الزراعية وغيرها ، وحلات الزواج ، والغناء والتي مر بها الانسان الريفي صغيرا ثم كبيرا وهو متارجح بين نوع من الزهو والمرح والفقر والالم.
 كما اننا بحاجة الى معرفة بعض العلاقات الانسانية فيما بين الفلاحين .
 وحالات التفاعل داخل العمليات الزراعية للسنوات الماضية حتى قيام ثورة 14 تموز 2058 والتي كان فيها الواقع السياسي يفرض نفسه على مسيرة الفلاحين الزراعية خلال تلك العهود بين رواسب التخلف والسيطرة على مجمل الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، وبقدر ما اسعفتني تجاربي عملت على تحليل ما اراه واجبا في ابراز هذه الدراسة الميدانية المهمة لكونها تتحدث عن موقع هام يقع على بقاع نهرية

اهل الريف في جنوب العراق  ـ 7 ـ

 واراضي خصبة جديدة تضم العديد من السكان المحليين ، انهم سكان ريف العمارة التي كان يقطن فيها الغعديد من الاسر الفلاحية والتي تعود في تسميمتها الى اصول عشائرية مختلفة .
      وختاما نساله تعالى ان يمن علينا بكل ما هو نافع .
المؤلف

اهل الريف في جنوب العراق   ـ 11 ـ
الفصل الاول
اصل الزراعة في جنوب العراق

 لابد لنا ان نتحدث اولا عن اصل الزراعة في جنوب العراق وعن المراحل الزمنية الطويلة التي مرت بها ثم نقف على التاثيرات الخلفية التي شعر بها معظم السكان المحليين في ريف العمارة ومن هذه الامور الفنية في الزراعة منذ القدم :

اولاً:

 ان الحياة الزراعية في الجنوب مرت بثلاث مراحل في مجرى تقدمها أولاها بدأت في اوائل عهد استيطان السومريين الاصليين وتوطيد حياتهم الزراعية البدائية في منطقة الاهوار ، والمتفق عليه ان هذه المنطقة شبه البطحائية في جنوب العراق ، وقد سكان تلك المناطق من القلة بحيث لم يستطيعوا ان يمارسوا الزراعة على نحو واسع فاستغلوا ما هيأته لهم الطبيعة وبذلك اقتصرت على الاستفادة من سواحل الهور وجزره واحراشه المنتشرة لسكناهم وإعاشة ماشيتهم ، فكانت الادغال في المستنقعات والجزر ونباتات القصب الطري المواد التي تكون الغذاء لماشيتهم وكانت سيقان القصب هي مادة البناء لمساكنهم ، وكان السمك ايضا غذائهم الرئيسي كما هو عليه اليوم بالنسبة لسكان الاهوار في جنوب العراق ، وعلى هذا الاساس فقد مارسوا الزراعة بمعيار غير محدد وبشكل بدائي من ارواء ومن دون الاستفادة من رطوبة الارض في الزراعة وهي الطريقة المتبعة في بعض المناطق الاخرى من وادي الرافدين وهي طريقة ( الري الحوضي ) وهناك من الدلائل على ان ( النخل ) كان موجودا في تلك المناطق على ضفاف الانهار والجداول ، كما دلت الاكتشافات الاخيرة على ان ( الجاموس ) الذي كان يوجد في مناطق الاهوار الحالية كان موجودا منذ عهود زمنية طويلة وهو يؤلف اهم مورد

اهل الريف في جنوب العراق   ـ 12 ـ


 اقتصادي لسكان الاهوار حيث كان موجوداً في ( أهوار ومستنقعات جنوب العراق )منذ اقدم الازمنة في حالته الوحشية وفيما بعد ( دجن ) في منتصف الالف الرابعة قبل الميلاد .
 كما استطاع السومريون ان يجعلوا من ( الثور الوحشي ) ذي القرون الطويلة الملتوية والضأن حيوانات داجنة بالاضافة الى الطيور ، كما يؤكد الدكتور احمد سوسة رأي الدكتور ( جارلس ريد )استاذ علم الحيوان في احدى الجامعات ( الاميركية ) الذي اكتشف في ( الوركاء ) الناصرية بجنوب العراق ما يدل على ان ( الاغنام والابقار والماعز ) قد دجنت هناك بحدود عام ( 4000 ق.م ) اما طريقة الفتدجين فيرى الدكتور ( جارس ريد ) انه من الممكن ان بعض الحيوانات الاولى كانت تؤخذ صغيرة وترضع كالطفل من ثدي النساء المرضعات ولما كانت تؤخذ صغيرة فيصبح من السهل تربيتها بإطعامها من الحليب المتوفر .

اهل الريف في جنوب العراق   ـ 13 ـ


 ولما كانت الزراعة متركزة على الري آنذاك فقد اصبحت حافزا لحث الانسان على حل المشاكل المعقدة التي تنطوي عليها عملية ايصال المياه الى الارض وكان ذلك يعتبر بدء العهد الحضاري الحقيقي .
 انه في قيام ذلك الانسان بهذه المهمة الحضارية المعقدة بنجاح فائق ، استطاع ان ينجز اعمالا لا تبدو مدهشة بالنظر للمعرفة السائدة آنذاك ، ولقد ادى ذلك ايضا الى اتساع الانتاج وظهور الفائض فيه حيث ادى هذا الفائض بدوره الى اول انقسام اجتماعي وظيفي واضح ، اذ ان هناك طبقة اصبحت تعيش على فائض الانتاج الزراعي ، و طبقة تعمل وتكدح في الزراعة ، وهذا كله كان بحاجة الى نوع من التنظيم المركزي انبثق من خلاله تكوين المدينة ثم ظهور الدولة التي تتولى نيابة عن المجتمع الاعمال الانشائية العامة وتحمي مصالح مختلف طبقات السكان .
 ان الاهتداء الى الزراعة هو الذي اوجد نظام ( الملكية )، حيث كانت

اهل الريف في جنوب العراق   ـ 14 ـ

 الفلاحة من المشقة بمكان ، لان معظم الرجال لم يباشروها الاّ ومعهم اولادهم ونساؤهم .
 ان النظرية التي لاقت تاييد اكثرية الباحثين هي ان الزراعة بدات اول ما بدات بشمال العراق حيث المطر الوفير والمناخ البارد مع ان هناك من يرى ان الزراعة بدأت اول مرة في منطقة الاهوار في ( الاقليم الجنوبي ) من العراق الذي كان حسب احدث الآراء ومنذ اقدم الازمنة منطقة الاهوار والمستنقعات كما هو الامر عليه اليوم ، ويرى الخبير الآثاري ( ملاون ) انه من المحتمل العثور على آثار في الجنوب لاتقل عما هي عليه في الشمال وان وجود الفخار في ( اريدو )( الوركاء ) يدل على ان من يصح ان نسميهم ( اهل المدن )قد اخذوا يتطورون في نفس الوقت الذي كان يتطور فيه اهل الشمال ومن المحتمل العثور على الآثار في الجنوب ، فالجرار الذي اكتشف في ( اريدو ) من نوعية جيدة ومخطوطة من فخار منذ اقدم الازمنة مثل صورة الجرار وهذا في رايه قريب الصلة مما هو في سدة سامراء /تل حلف وذلك في الالف الخامسة قبل الميلاد ، ويضيف الأستاذ ( ملاون ) قوله :
 علينا ان ننظر الى الماء الذي يغطي هذه المناطق التي كانت من قبل براً يابساً ، وننتهي الى القول ، وأخيراً واني حسب قوله ان البحث في منطقة الجنوب قد يكشف عن بعض المعلومات هناك التي تبعث الامل في إمكان القول ان الجنوب قد نمى حضارة تلي حضارة الشمال ، والجنوب في الحقيقة لايقل قدما عن الشمال في حضارته ومن عصور ما قبل التأريخ ، وفي السهول الرسوبية عثر على مايشير الى قدم الاستيطان في بقايا مدينة ( أريدو ) في حدود منتصف ( 6500 ) ق.م وهو ما يمثل القسم الاول في جدول إثبات الملوك السومرية .
 وفي الوقت نفسه كانت الهجرات السامية تتوافد من الجزيرة العربية نحو ضفاف الفرات وقد استوطنت اعداد كبيرة من الناس في منطقة ( الاهوار ) ( في جنوب العراق ) لغرض الزراعة وذلك دون ان يكون لهذه الاسر في اول الامر اي اتصال بالمستوطنات السابقة على ضفاف الفرات ، وقد سموا انفسهم

اهل الريف في جنوب العراق   ـ 15 ـ

 فيما بعد ( بالسومريون ) نسبة الى احدى مدنهم التي صارت تعرف بهذا الاسم في العصور التي تلت ، شأنهم في ذلك شان السامية في الفرات الذين سموا انفسهم بملوك ( الاكدين ) وقد مر السومرين بادوار عديدة في طموحهم مع الارض كما كانوا في صراع مستمر من عزلتهم ثم اصبحوا في انضج مرحلة من مراحل التطور الزراعي واكثرها انتجا في جنوب العراق ، حيث غيرت هذه المرحلة من حياتهم تغييراً جوهريا في الاسلوب الزراعي وهي انتقالهم من تجفيف الارض للأهوار الى استصلاح الارض وطريقة زراعتها وشق ( الانهر والجداول والمبازل ) وايصال المياه الى الارض الزراعية ، كما انهم استخدموا طريقة ارسال المياه بواسطة نواعيرهم المائية لرفع المياه الى الارض الزراعية .

ثانياً : زيادة السكان
 بعد ازدياد حجم السكان الذين نزحوا الى السهول المجاورة اسسوا مستوطناتهم على ضفاف الانهار مقتبسين من مجاوريهم ( الساميين ) اساليب الري في استغلال الارض الزراعية وبهذه الطرق ازدهرت دويلات المدن السومرية الشهيرة حتى نشأت الحضارة السومرية بتعاون العنصرين السامي والسومري ، وبذلك فقد اتفق معظم علماء الآثار ان مدنية الانسان القديم وحضارته البشرية بدأت في اول الامر بإكتشاف الزراعة ، وان بلاد العرب وبخاصة شبه جزيرة العرب هي الوطن الاصلي الذي تم فيه اكتشاف الزراعة التي اعتمدت على ( نظام الري ) في تاريخ الحضارات الانسانية خلال الفترات الجليدية الرابعة التي دامت اكثر من الف سنة ، اما جزيرة العرب فكانت تتمتع بجو رطب وتكثر فيها الامطار في معظم ( فصول السنة ) وفي تلك الفترة من الزمن لم تكن توجد ايضا اية مظاهر للزراعة في جميع انحاء العالم ، وفي جزيرة العرب تم اكتشاف الزراعة التي تعتمد على الري وازدهرت الحضارة النهرية التي ادت الى انتشار المدنية في جميع انحاء العالم ، وقد كانت (الزراعة النهرية ) في مراحلها الاولى تعتمد على زراعة القمح والشعير من الانواع البرية التي كانت تنمو بصورة طبيعية حينما كان الاعتماد كلياً على الامطار وهي بيئة طبيعية وقد اشتهروا بزراعة الحبوب البرية الى ان اخذوا

اهل الريف في جنوب العراق   ـ 16 ـ

 يمارسون الزراعة التي اعتمدت مؤخرا على الري وكانوا يستعملون المناجل من ( حجر الصوان والزجاج ) البركاني لهذا تم جمعها في اكوام ( كما استعملوا الرحى الحجرية ) لطحن الحبوب ( وخزنوا الفائض ) من الناتج الزراعي في مخازن د فنوها في الارض وسيجوها بالطين وطمروها بالتبن كما يفعل المزارعون في الوقت الحاضر .
  وحينما توالت هذه المراحل التاريخية ومنها مرحلة الزراعة التي تعتمد على الري اقيمت الحضارة التي تستقي من الانهر ، حيث كانت الاودية الحالية الجافة المنتشرة في صحارى جزيرة العرب انهارا جافة وانهارا جارية من المياه ، هذا وقد اكتسب سكان الجزيرة العربية خبرة فنية في تنظيم وتاسيس مشاريع ( الري والبزل والسدود )منذ آلاف السنين حتى عرفوا بانهم اقدم من مارس الزراعة التي اعتمدت على الري المنتظم ولهم يعود الفضل في اختراع الزراعة اثناء هجرتهم من شبه الجزيرة العربية ، وفي اعقاب الدورة الجليدية الرابعة اثر الجفاف الذي حل ببلادهم حيث نقلوا معه حضارتهم الزراعية والنهرية الى مستوطناتهم الجديدة في الهلال الخصيب وفي المستوطنات التي سكنوا فيها في وادي الرافدين وجنوب العراق والتي أسميتها حضارة ( سومر ) وأريدو .

ثالثاً : أعمال الري
 اما في مجال الري من جراء الفيضانات في تلك المناطق منذ زمن قديم فقد تبين خلال الادوار التاريخية القديمة التي مرت على العراق ان فيضانات الانهار كانت من ابرز المشاكل التي شغلت تفكير الانسان في تلك المراحل بالاضافة الى كيفية رفع اخطارها ، لذلك كانت اولى الجهود التي بذلها بناة الحضارة العراقية القديمة تتناول مسالة السيطرة على الانهار وتنظيم شؤون الارواء ودرء اخطار الفيضانات ، كما ان سكان وادي الرافدين ضلوا في صراع دائم ضد الطبيعة القاسية ، حتى جاءت ثورتها العارمة فطغت مياه وادي الرافدين وغمرت ارض الدلتا وما فيها من حضارة ونفوس ذلك الطوفان كان

اهل الريف في جنوب العراق   ـ 17 ـ


 ( طوفان نوح )الذي تناقلته الالسن لآلاف السنين وما زالت ذكراه باقية ،مع ما خلفه مفكرو تلك العصور السحيقة من التراث الفلسفي الاول وكان الاعتقاد السائد عند اهل الفرات الأوائل هو ان الطوفان بعثه غضب ( الآلهة ) بسبب فساد البشر وآثام الانسان وخطاياه فعزمت الآلهة على محوه من الوجود بإرسال طوفان كبير على الارض ، وهذا هو الطوفان الذي نقلت اخباره المعروفات البابلية والسومرية القديمة والكتب الدينية وقد حدد علماء الآثار زمن حدوث الطوفان بالالف الثالث قبل الميلاد اي قبل حوالي ( خمسة آلاف عام ) ، وقد صار هذا التاريخ يرمز الى الحد الفاصل بينر تاريخ احداث ما ( قبل الطوفان ) واحداث ما بعده .
 ومن الجدير ذكره في هذا الصدد هو اننا لانريد ان نحصر حديثنا في جوانب اخرى ، لذلك فالحديث عنه له دلالته لانه امتداد تاريخي للحضارات البشرية التي اعتمدت الزراعة والري ، وعليه فانه حتى قصة الطوفان السومرية

اهل الريف في جنوب العراق   ـ 18 ـ

 الاصل نقلت باشكال متعددة فيما بعد العصر السومري ، ومنها الرواية الاكدية والبابلية ورواية ( التوراة ) التي تتفق تماما مع النص السومري الاصل وخاصة فيما يتعلق بالاعتقاد بان الآلهة هي التي احدثت الطوفان نتيجة لفساد البشر وآثام الانسان وخطاياه ، ويبدو ان السومريون كانوا يعتقدون بان العالم يقتصر على بلادهم ، فقالوا ان ( الطوفان ) غطى الارض التي هي بلادهم ، وقبل ذلك تشير التوراة الى ان الطوفان قضى على كل ذي جسد كان يدب على الارض كما يرى الباحثون ان الطوفان كان مقتصرا كليا على سهول العراق الجنوبية ذات الرسوب الغرينية ، وكان سيلا عارما طغى على وادي دجلة والفرات واغرق كل المنطقة الماهولة في تلك الانحاء وكانت هذه المنطقة بانسبة لسكانها هي الدنيا باسرها ، وتقدر مساحة الارض التي غمرها الطوفان في هذا الوادي بنحو ( 400 ميل طولاً ) و 100 ميل عرضا اي حوالي ( 40000 ميل ) مربع ، ويشير الدكتور احمد سوسة في كتاب ( حضارة وادي الرافدين ) الى قول الدكتور ( رالف كنتون ) ان الطوفان الذي تحدثت عنه كتب التوراة وغيرها منذ 3500 ق.م قد دمر بعض المدن السومرية ، كما اصبحت تاثيراته اشد على الجماعات التي كانت تستوطن المناطق الجنوبية وهو الذي قضى على معظم قراهم ، لذلك فانهم كانوا يشيدون المدن على مرتفعات ( داخل الاهوار ) بعد الطوفان وقبله تحسبا لدرء خطر الفيضان ، الذي كانوا يدعونه ( اليشان او اليشن ) كما هو معروف حتى الوقت الحاضر ، كما ورد حديث الطوفان ايضا في القرآن الكريم .
  ولم تحصل هناك انكسارات نفسية داخل الاسر السومرية فيما بعد الطوفان فقد باشروا بإعادة بناء بلادهم ، ليس هذا فقط بل انتشروا وحلوا في جميع المناطق الجنوبية واسرعوا في بناء حضارتهم من جديد ، وملاءوا الزمن بفعاليات مختلفة واخرجوا فيها الطاقة الاساسية الخلابة ، وتوصلوا في وقت مبكر جدا الى معرفة طرق فنية جديدة في جميع ( المناطق الجنوبية ) مثل شق القنوات وبناء السدود الهائلة ونظام الري والطرق وقد ساعدت هذه القنوات التي شيدوها على تحويل الكثير من أراضي الاهوار الى اراضي برية خصبة

اهل الريف في جنوب العراق   ـ 19 ـ


  وغنية بحيث كانت تنتج محصولين وافرين في العام دون حاجة الى استخدام السماد ، وزاد فيما بعد سكان الجنوب زيادة سريعة منذ عام ( 3000 ) ق.م وتم تنظيم قنوات الري وشق الانهر الكبيرة التي مازالت ماثلة للعيان في الجنوب حتى وقتنا الحاضر ، لهذا ( يعتبر الجنوب ) امتدادا للحضارات السامية والسومرية والاكدية والبابلية التي استوطنت في وادي الرافدين
  وبهذا فقد اصبحت الجزيرة العربية مهد الحضارات حيث قذفت بابنائها الى ما وراء الصحراء ووادي الرافدين في جنوبه وشماله وقدمت لهم خبراتها الفنية في مضمار الزراعة وغيرها وسنة تاريخ البقاء كي يحققوا لانفسهم العيش الرغيد في الاوطان الجديدة ، بفضل تشابك مصالح القبائل مع بعضها بعضا وتفاعل نشاطاتها المختلفة وشكلها البيئي في سبيل الحصول على حياة افضل وقد توطدت اسس الحضارة السامية الكبرى التي كان لها شأن كبير في التقدم البشري والتي امتدت حضارتها الى جنوب العراق .

اهل الريف في جنوب العراق   ـ 20 ـ

 وليس غريبا اذا قلنا ان بعض الباحثين يرى ان الساميين الذين وفدوا الى وادي الرافدين في جنوب العراق ايام العصور الجليدية المتاخرة في اوروبا اي بين حوالي عشرة آلاف واثني عشر الف سنة ، وهذا جاء نتيجة وجود الحفريات التي عثر عليها في الوركاء ( وأور ) وهذا التاريخ يرجع ايضا الى اواخر ايام الرعي اي في بدء عهد الاستيطان والاستقرار والاشتغال بالزراعة ، بعد ان كانت اوروبا مغطاة بالثلوج ويستدل من ذلك ( ان الحضارة السامية ) التي امتدت الى هذه المناطق في بادىء الامر قد ادت الى عيش اهلها عيشة مدنية ( وسياسية واجتماعية) منذ اقدم الازمنة التي سجل فيها الجنس البشري حياة مماثلة لبعض الاقطار الاخرى ، وبتعبير ادق انه في زمن اقدم من التاريخ الذي كتبت فيه الآثار المكتشفة ولا سيما ان هذه الاثار دلت على تقدم عظيم في مضمار ( التطور الزراعي ) الذي كان يهيمن على الحياة الاقتصادية ، حيث لايمكن ان يكون قد تم ذلك إلا نتيجة تطور وتدرج يرجعان الى قرون بعيدة قبل الزمن الذي دونت فيه ، كما يرى بعض الباحثين ان هذه الجاعات التي جاءت من الجزيرة العربية الى حوض دجلة والفرات والتي اتجهت الى شماله وجنوبه نقلت معها خبرات عن زراعة قبل اربعين او خمسين قرنا ( قبل الميلاد ) اذ ليس غريبا ان هذه الجاعات جلبت معها حضارة زراعية وفنية واجتماعية ولناخذ مثلا ما قدمه الكنعانيون في فلسطين الذين هم من اصل الساميين الذين اتجهوا صوب تلك المناطق في مدنهم ( اريحا ونابلس واورشليم ) مدن الكروم والنخيل والجبال الساحلية المحيطة بأورشليم قبل وجود اليهود اي ما قبل عهد التوراة بعد قرون حيث ترجع هذه الحضارة الكنعانية الى العصر الحجري القديم (7000 ـ 5000 ق.م )حتى اصبحت هذه الحضارة تنمو وتتقدم في جميع ميادين الحياة ، وكان الكنعانيون اول من تقدم في مضمار الزراعة وهم اول من اكتشف الذهب والنحاس الطري ثم اهتدوا الى الجمع بين النحاس والقصدير وانتاج البرونز ، كما كانوا السباقين في استخدام صناعة ( الذهب والتعدين ) وقد تاثر بهم ( السومريون ) في صنع التماثيل للملوك وغيرها ، حتى اصبح استعمال هذه المعادن النفيسة شائعا في المدن الكنعانية والمدن

اهل الريف في جنوب العراق   ـ 21 ـ

 المجاورة وتم نقله الى كافة الاقطار المجاورة ، كما نقل الكنعانيون الى بلاد الرافدين كافة ، معرفة غرس النخيل والكروم والزيتون ، وقد تجلى ذلك بما جلبه الفراعنة المصريون عند وضعهم للغنائم التي جلبت من ارض كنعان سنة (1504 ـ 1450 )ق.م ( في عهد رمسيس الثاني ملك مصر ) ، وهي تشمل العربات المطعمة بالذهب واوتادا لتثبيت الخيم مطعمة بالفضة وسرائر من العاج ومضاجع مطلية بالذهب ومن خشب الابنوس، وترجع هذه الغزوات الى ارض كنعان قبل مجيء موسى واليهود الى ارض فلسطين ، وفي كنعان ايضا عثر على ما يدل على ان مدنهم كانت تتقدم على باقي الاقطار المجاورة بزراعة الكروم والتين وغيرها في عهد مليكهم ( بيبي الاول ) ( 2500 ) ق.م حيث وجدت هناك معاصر للزيت والعنب في منتهى الدقة والاتقان بالاضافة الى تقدمهم في مضمار فن صناعة النسيج الصوفي والقطن وصناعة العاج والارجوان الذي اقترن باسمهم .

رابعاً : فن العمارة والبناء

 تناقلت جميع المناطق في وادي الرافدين فن العمارة والبناء وهناك حضارة اخرى متممة للحضارة الكنعانية هي حضارة العموريين لعصور ماقبل التاريخ من عصر فجر السلالات في الالف الثالث قبل الميلاد والتي اصبحت هي ايضا رافدا مهما للمعرفة في مضمار الزراعة وغيرها في جنوب العراق ، والتي تتمثل بالتماثيل السومرية وعبد الإله ( عشتار ) كما كشفت عن برج مدرج وقصر عظيم من العهد البابلي القديم في القرن العشرين قبل الميلاد يحتوي على ( 300 ) غرفة وقاعة واسعة مساحتها تربو على ( 15 دونما ) عراقيا وفيها مجموعة كبيرة من الالواح الطينية بلغ عددها ( 24000 ) لوح وهي تشتمل على انواع مهمة من الوثائق والسجلات توضح حجم الحاصلات الزراعية وتوزيع الارض والنظم الاروائية وحقوق الزراع .
 ويفيد الدكتور احمد سوسة بان بعض التقسيمات الآثارية اظهرت ان هناك سلالة سومرية في جنوب العراق بزعامة ( لوكال ) زاكري ( 2400 ـ

اهل الريف في جنوب العراق   ـ 22 ـ

 2371 ق.م ) امتدت من شمال العراق حتى جنوبه كانت مزدهرة ازدهارا باهرا في تشييد القصور وتطورها الزراعي الهائل وتربية المواشي بكافة انواعها ، وبهذا يؤكد الباحثون ان الاسس لانتقال الحضارة في مجال الزراعة والري في وادي الرافدين عموما هي ان اللغات المتداولة في جميع السلالات لتلك الدويلات كانت متقاربة ، فلغة العموريين من اللغات السامية وهي تشبه اللغة الكنعانية وغيرها ، فالالواح التي ذكرناها في قصر الملك ( زوي ـ ليم ) قد كتبت باخط المسماري وباللغة الاكدية ولهجتها تميل الى السامية اما ديانة الكنعانيين ـ العموريين فقد كانت متشابهة ايضا حيث ان اللذي يجمع بين العموريين والسومريين وغيرهم من الاقوام المتجانسة في تلك الدويلات ( هو تقديس نهري والفرات دجلة ) لأنهما يعدان بالنسبة اليهم مصدر حياتهم ووجودهم حيث عرف لديهم ان هذين النهرين كانا من اقدس آلهتهم التي عبدوها حيث عثر على تمثال في حفائر ( ماري ) تؤكد ذلك .
 فلقد كانت عبادة ( الماء ) عن طريق ( الآلهة ) معروفة منذ اقدم الازمنة في الشرق فقد عبد المصريون ( الإله النيل ) وعبد السومريون في جنوب العراق الإله ( أبا ) إله المياه واتخذوا ( دجلة والفرات ) شعارا مقدسا حيث يتالف هذا الشعار من كأس يتدفق منه مجريان رأيسيان يتكون كل منهما من ثلاثة فروع يعتقد انها تمثل الروافد الرئيسة الثلاثة التي تصب في كل من نهري دجلة والفرات ، اما ( العين الفوارة ) فهي تمثل منبع دجلة والفرات حيث كان السومريون يتصورون ان دجلة والفرات ينبعان من منبع واحد ، وقد عثر على هذا الشعار في تمثال امراة وهي تحمل قارورة ضمتها الى صدرها ولها ثلاثة فروع مكتوبة بهذا الشكل ( دجلة والفرات ) وهذا يدلل على مدى حبهم وتعلقهم بالزراعة .
 كما ازدهرت حضارة اخرى تخص الآراميين نسبة الى( آرام ) ابن سام بن نوح وقد اشتقت كلمة ( أرمَ) الواردة في القرآن الكريم من اسمهم ( أرم ذات العماد ) وجاء في ذكرهم ( آرام النهرين ) اي بلاد ما بين النهرين ، حيث بدأ استقرارهم ايضا في منطقة الفرات الاوسط حتى نهر ( الخابور جنوبا ) في اواخر ( 3000 ق.م ) ، وقد اهتموا بالزراعة اهتماما بالغا كما استصلحوا الاراضي

اهل الريف في جنوب العراق   ـ 23 ـ

 ونظموا طرق الري الى جميع المناطق المحيطة بنهر الخابور حتى جنوبه اي في منطقة الطيب الحالية ، وفي هذه المنطقة نمت لغتهم وثقافتهم حتى وصلت هجرتهم الى الفرات الاوسط وهم من الاقوام الذين تروي التوراة عنهم بان ( النبي ابراهيم الخليل ) الذي كان بنتمي الى القبائل الآرامية قد اتصل بهم قبل ذهابه الى فلسطين ، وهذا ما يؤكد ان النبي ابراهيم كان موجودا في سنة ( 2000 ـ 1850 ق.م ) .
 ويقول الدكتور دايرتكز ( ان الآرامية ) فرع رئيسي من الهجرة السامية الثانية التي اندفعت صوب بلاد ما بين النهرين ووزعت شمالا وجنوبا لخصوبة ارضها وغزارة مياهها وامطارها والتربة الصالحة في جنوب العراق وان اسم ( آرام )ورد في كتاب مسماري يرجع الى عهد الملك الاكدي ( ترام ـ سين ) والتي وردت في الالواح الطينية في قرية دولهم ( آرام ) قرب مملكة ( أشتوتا ) الواقعة في جنوب العراق .
 وقد انتشرت التجارة الآرامية في جنوب وغرب العراق والى الاقطار الاخرى ثم امتدت لتنمو تجارتها ومنها تجارتها الزراعية الى الدويلات المجاورة وحتى الى آسيا الصغرى وحدود الحجاز ـ وبقيت سنين طويلة تشتهر في الزراعة وتربية الابل والاغنام والابقار والجاموس وتقوم بتصديرها الى جميع الممالك ، وبذلك فان الحضارة الآرامية لم تقتصر على التطور الزراعي فقط بل اهتم الآراميون في تنظيم الري والسدود وقد اخذ العرب في هذه الدويلات الخط ( النمطي ) الذي هو شكل من اشكال الخط الآرامي وهو الخط الذي كتب فيه ( القرآن الكريم ) كما اخذ الآراميون والفرس والهنود خطوطهم من اصل آرامي والذي نشأ منه القلم الحميري العربي الذي اصبح منه فيما بعد ( القلم الكوفي ) ( والقلم النسخي ) لغرض التداول .

خامساً : لغة التخاطب والسجلات

 في المخاطبة وضبط السجلات الزراعية وغيرها ، لقد كانت اللغة ( الاشورية ) الى جانب اللغة الاكدية لغة التخاطب في العهد البابلي القديم

اهل الريف في جنوب العراق   ـ 24 ـ


 والعهد الاشوري وحتى العهد البابلي الاخير في اواخر القرن السابع قبل الميلاد ، حتى جاءت اللغة الارامية وازاحتها من التداول بعد ان دونت وترجمت الالواح الطينية السابقة التي تحتوي على شروحات الامور الفنية في الزراعة وغيرها ، كأسماء الزراع واصحاب البساتين .
 وقد عثر في متحف ( اللوفر )بفرنسا على مايدل على عظمة الاعمال الفنية التي اخرجتها يد رجل من الجنس البشري السامي وهو يمثل ( رأس سرجون الكبير )بلحيته الكبيرة وعليه خوذة مصنوعة من معدن البرونز المخطوط بالحديد ، وهذا يعتبر من اجمل ما توصل اليه الانسان بهذا الصنع الدقيق في الفن من العصور الاكدية ( 2255 ق.م ) بفضل ذلك التعامل اللغوي الذي استفاد منه الاقوام في لغة التخاطب وبتبادل الخبرات الزراعية والتجارية لذلك فان الآراميين الذي انتشروا في عموم العراق شكلوا فيه ممالك مستقلة
اهل الريف في جنوب العراق   ـ 25 ـ

 موحدة في وسط وجنوب العراق ( مملكة بابل ) ومملكة ( أشتوتا ) وفي مناطق الخابور اعتمدوا على الزراعة وشق الانهر والمبازل وتنظيم الري الذي مازال ماثلا للعيان حتى يومناهذا وهو الري البدائي.
 وصفوة القول ان جميع الاقوام التي استوطنت في جنوب العراق كلهم من اصل واحد هو الاصل السامي وقد اسهموا مجتمعين في نشر الحضارة في مختلف جوانبها الزراعية والاقتصادية والثقافية وبفضل العوامل الاقليمية والبشرية مستلهمين العبر في جميع نواحي الحياة ، وبالرغم من الغزوات التي حلت في هذه الاوطان عبر العصور والتي كانت تجري بين الآراميين والبابليين والآشوريين والكلدانيين والسومريين فان جميع الدويلات حافظت على اعمار الاراضي وتدفق الهجرات نحو المناطق المحاذية الى الوسط والجنوب ، كما انها لم تؤثر ايضا في نمط الحياة الزراعية ولم يعتمد هؤلاء السكان على كميات الامطار فقد اهتموا بشق قنوات الانهار ( من نهري الفرات ودجلة ) ومن
اهل الريف في جنوب العراق   ـ 26 ـ
 مساحات بعيدة في مقدمة النهر وجر المياه جراً الى مستعمراتهم الزراعية الجديدة لغرض زراعة الرز واصبحت فيما بعد تتلقى مياه الامطار.
 وهكذا دفعت الحاجة السكان الى اعمار الارض الى ان تعلموا اساليب الري بواسطة انشاء جداول تؤخذ من نهري دجلة والفرات الى مسافات بعيدة حتى يوصلوا المياه نحو الاراضي الزراعية بواسطة النواعير وغيرها .
 كما حملتهم الحاجة فيما بعد الى ان يتعلموا حصر مياه ( الفيضانات ) ضمن سدود ومن ثم توزيعها ، كما جرى ذلك في ( سد ) مأرب في تلك العهود ، وذلك كي تؤمن لهم تلك السدود خزن المياه الوفيرة للزراعة ، كما استعملوا القوة المائية المتولدة من الشلالات التي يحدثها هبوط مياه النهر في تدوير النواعير الضخمة ، ويستدل من ذلك ان هذه الامبراطوريات التي وصلت الى حالات التطور شملت قسما من آسيا الصغرى وحتى ساحل البحر المتوسط ، ويروى عن ( سرجون الاكدي ) انه وصل الى جزيرة كريت ـ اما في الشرق فقد ضمت بلاده جميع الاراضي التابعة لعربستان ـ وخوزستان ـ كما اشتهرت الدويلات ( السومرية ) التي اسسها سرجون بسعة طولها الكبير الذي كان مهيمنا على الخليج العربي ( وبحر عمان ) وضم جميع الجزر الى مملكته في العراق وهنا غسل يديه في مياه البحر كحاكم على ( أكد وسومر ) ويعود الفضل الكبير الى هذا الرجل الذي ساهم في توطيد دعائم اركان الحضارة القائمة على ( الزراعة المرتكزة على الري الدائم ) ( PeRe Nnid ـ IRRI gatarion ) في ضفاف الفرات وجنوب العراق والتي سماها بعض الباحثين ( الحضارة الاروائية ) او ( الحضارة النهرية ) ويذكر العالم الالماني الدكتور ( أنطون مورتكان ) ، الذي ورد ذكره في بحوث الدكتور احمد سوسة ، ان الاكديين هم من اهم الاقوام اللذين نقلوا الحضارة الى جميع بلاد الرافدين وهم من أسرة الشعوب السامية في اراضي ( سومر ) وهي المنطقة التي يقترب منها ( دجلة والفرات ) اليم اقترابا شديدا وبالقرب من المناطق المجاورة من مدينة ( كيش القديمة ) ( مدينة بابل سابقا ) ، اي منطقة ( القرنة والعزير ) حاليا .
 ولتوجيه حديثنا فان ما اوردناه عن اصل الزراعة في جنوب العراق ما هو
اهل الريف في جنوب العراق   ـ 27 ـ
 الاّ مساهمة في توضيح معالم ذلك التطور ، كما يبرز امامنا ان هؤلاء السكان الاوائل قد ملأوا الزمن بفعاليات مختلفة واخرجوا منها الطاقات الانسانية الى اعلى المراحل المنظورة في جميع مراحل الحياة الزراعية والاقتصادية ، واذا كان هذا الفصل القصير والمسهب قد خصص لتوضيح المراحل التاريخية للزراعة في جنوب العراق فسوف نبين فيما بعد الاماكن التي توضح التوزيع الجغرافي وحجم السكان في تلك المناطق أي مناطق الريف المحيط بناحية ( الكحلاء ) و ( المشرح ) و ( قضاء المجر الكبير ) و ( قلعة صالح ) و ( قضاء آل إزيرج ) وغيرها ، كما سنبيّن العرف العشائري واهمية الاهوار الاقتصادية واسباب الهجرة من الريف الى المدينة ومعالجتها معالجة فعالة لانها تعتبر من متطلبات العصر الذي جعل من الزراعة صناعة في عصرنا الراهن وفي الدول المتطورة مثل الولايات المتحدة او بريطانيا او روسيا او الصين والدول الاوربية الاخرى مثل النمسا ، وفرنسا ، والمانيا وغيرهم .
اهل الريف في جنوب العراق   ـ 31 ـ
الفصل الثاني
التوزيع الجغرافي وحجم السكان

  لابد لنا من استعراض بعض الآراء والافكار قبل الحديث عن التوزيع الجغرافي وحجم السكان في المناطق ( الجنوبية ) من العراق وخصوصا في المناطق المحيطة ( شمال وشرق العمارة ) وكذلك حجم السكان في المناطق الغربية والجنوبية منها .
  لقد مرت ادوار كثيرة على حيازة الارض في تلك المناطق بعد المراحل التاريخية التي تم بحثها في الفصل الاول من هذا الكتاب ، ان تملك العرب للاراضي فيما بعد وظهور الملكيات الكبيرة عندهم غيرت كثيرا من احكام الملكية وحيازة الارض وبرزت كظاهرة اجتماعية جديرة بالدراسة وضع القوانين الشرعية لتوضيح معنى الملكية وتحديدها في العصور التي تلت وقد لجأوا الى بعض الفقهاء في امر دراستهم للارض ومشاكلها ، فقد كانت تعقد مشكلة الارض ظاهرة لابد لها من الظهور ذلك لان العرب في عهد فتوحهم ، وخاصة في هذه المناطق الجنوبية ، كانوا قبل ذلك طبقة واحدة تقريبا عدا التمايز الفردي الذي يتكون من طبقة تكوين الجيوش وان الارض وكل البلاد التي تم فتحها ( ملك للدولة الاسلامية ) اما عن طريق استملاكها مباشرة او عن طريق الضرائب ، فمثلا نظام الخراج لايعتبر الارض من ( الغنائم ) لكي يجري عليها حكم الغنائم فلهذا الامر تغير اهتمام الخلفاء حيث قرروا في بادىء الامر ضرورة تقسيمها على المحاربين كملك صرف او جعل حكمها حكم اي اسلاب يحصل عليها المحارب في الحرب الاّ ان بعض الصحابة الكبار رأوا رأيا آخر في تقسيم الارض حيث قالوا ( احبس الارض بعلوجها وضع عليها الخراج ) وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئا للمسلمين المقاتلين وذريتهم ولمن ياتي