اتصل بنا مؤمنــــة البطاقات انتصار الدم مساجد البصرة واحة الصائم المرجعية الدينية الرئيسية

  المثل الخامس عشر: البلد الطيّب

  يقول الله في مثله الخامس العشر، في الآية 58 من سورة الاعراف:
  ( وَالبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بإذْنِ رَبِّهِ وَالّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إلاَّ نَكِداً كَذَلك نُصَرِّفُ الآياتِ لِقَوْم يَشْكُرُونَ ) .

  تصوير البحث
  إنَّ هَذه الآية الشريفة التي جاءت مباشرة بعد المثل الرابع عشر هي في الواقع استمرار لبحث المعاد وجواب عن سؤال مقدّر قد تتداعى معانيه في أذهان البعض، وسنأتي به في الصفحات المقبلة .
  إشارة للمثل السابق
  في المثل الرابع عشر (الآية 57 من سورة الاعراف) جاء القرآن في بيان جميل ببرهان على المبدأ وأصل التوحيد، كما استدل على المعاد وعالم الاخرة.
  إنّ حركة الرياح واجتماع الغيوم الثقيلة ونزول المطر وإحياء الأرض بعد مماتها، وتوفّر الثمار المتنوّعة والأزهار والنباتات والاشجار المختلفة كلها أدلة قاطعة على التوحيد، وهي أدلة لو لم يكن غيرها لكانت كافية في إثبات المراد.
  مِمَّا لا شك فيه أنَّ آثار موت تبدو على البستان كله بحلول فصل الشتاء بحيث تصبح

  الأمثال في القرآن _ 162 _

  الاشجار وكأنها مهمومة وجرداء من الروح، لكن بعد فترة من الزمن أي بعد حلول فصل الربيع تبدأ الحياة الجديدة تنبض في البستان، فتخضرّ الاشجار و تتفتح الزهور وتنمو النباتات المختلفة وتثمر الاشجار فواكه حامضة وحلوة بألوان متنوّعة بحيث تضفي طراوة على روح الإنسان.
  هذه الطبيعة المدهشة دليل قاطع على وجود الله القادر المطلق، واذا ما فكّر الإنسان بورقة خضراء فقط لكان ذلك كافياً لمعرفة الحق.
  إنَّ هذه الورقة ـ كما يقول العلماء ـ إذا قصت من العرض فيبدو فيها سبع طبقات، كل طبقة منها تحضى ببناء خاص ومهام خاصة ، إذا دققنا قليلا نجد خطوطاً رَفِيعة على هذه الورقة الظريفة وكأنها تشبه تأسيسات الماء في مدينة ، وهي تتكفل بايصال الأغذية والماء إلى الاقسام المختلفة من الورقة .
   مَن الذي خلق هذه الطبقات الظريفة والجميلة ؟! يا له من خالق حكيم صمَّم هذه الشبكة العظيمة والدقيقة .
  إنَّ الورقة وما فيها يُعدُّ كتاباً لمعرفة الخالق لمن كان أهلا للعلم المعرفة .
  إذن، صدر الآية يدل على التوحيد، أما ذيلها ( كَذِلك نُخْرِجُ المَوْتَى ) فيدل على مسألة المعاد ويرشدنا إليها .

  الشرح والتفسير
  كما قلنا سابقاً: إنّ الآية الشريفة جواب لسؤال مقدّر يمكن أن يتداعى في ذهن الذي يلتفت إلى الآية السابقة، وهو: إذا كان الماء واحداً والهواء واحداً والتراب واحداً فلماذا تنبت الزهور والنباتات في بعض البقاع، وتنبت الأدغال والأشواك في البعض الآخر ؟ وإذا كان وابل الرحمة الإلهية يصبُّ على القلوب جميعاً بشكل متساو، فكيف أنَّ بعض القلوب تهتدي وتكون مصداقاً للبلد الطيّب وبعضها الآخر يكون مصداقاً للبلد الخبيث، لأنها ظلّت ولم تهتدِ ؟
  إنّ الآية في صدد الأجابة على هذا السؤال، حيث تقول: ( وَالبَلَدُ الطَّيِّبَ يَخرُجُ نَبَاتُهُ بإذنِ رَبِّهِ ) فإنَّ التربة الطاهرة وغير المالحة تكون مناسبة ولائقة وتُخرج باذن الله نباتات مناسبة وجيّدة، كذلك القلوب المستعدة والطاهرة ينمو فيها الثمار الحلو من الاخلاص والصفاء، ذلك كله بوحي من الله.

  الأمثال في القرآن _ 163 _

  ( والَّذي خَبُثَ لا يَخْرِجُ إلاَّ نَكِداً ) فإنَّ الأرض غير المناسبة لا تنبت إلاّ النكد.
  والنكد يعني الإنسان البخيل، ويُطلق على النباتات غير المفيدة التي تنمو في الأراضي المالحة، فكما أنَّ البخيل لا يصل نفعه إلى غيره، كذلك الأراضي المالحة لا يخرج منها الشيء المفيد ولا ينتفع بها أحد .
  ( كَذَلك نُصَرِّفُ الآياتِ لِقَوْم يَشْكُرُونَ ) أي أنا نبيّن آيات الله للناس بعبارات وأمثله بسيطة ليستفيدوا منها ويشكروا ربّهم عليها ، وعلى هذا ، فلا اشكال على وابل الرحمة الإلهيّة ولا على الوحي السماوي، وذلك لأنَّ هذين الرحمتين تنزلان على القلوب كلها بشكل متساو ، واذا كان هناك قصور أو تقصير فمن نفس القلوب والأراضي ذاتها، فإنَّ بعض الأراضي غير مستعدة وغير مؤهّلة لنمّو النباتات فتنمو فيها الأشواك والأدغال فحسب ، كذلك بعض القلوب فإنَّها غير مؤهلة للهداية وترى نفسها في غنى عن الوحي الإلهي.

  لِمَن هذا المثل ؟
  هناك بحث في هذا المجال بين المفسرين، فالكثير منهم يعتقد أنَّ الآية جاءت في الكفار والمؤمنين ، أي شُبِّه الوحي الإلهي هنا بالغيث ، باعتباره ينزل على جميع القلوب، لكن لا يفيد منه إلاّ ذلك البعض الذي يكون مصداقاً للبلد الطيّب، أي يحضى بقلب طاهر ، وتكون ثمار هذه الاراضي الطاهرة هي الاخلاق الحسنة والايمان القوي والشوق إلى أولياء الله، والاخلاص في العمل، والعمل بما تستدعيه الوظيفة و... وفي مقابل هؤلاء هم الكفّار الذين قلوبهم تشبه الأراضي الملوّثة التي لا تستفيد من المطر شيئاً .

  خطابات الآية
  1- فاعلية الفاعل وقابلية القابل كلاهما ضروريان إنَّ الآية الشريفة وكذا آيات أخرى تشير إلى مطلب مهم، وهو: ضرورة توافر شيئين لبلوغ الكمال:
  الف - فاعلية الفاعل.
  باء - قابلية القابل.

  الأمثال في القرآن _ 164 _

  لأجل بلوغ الكمال والرقي ينبغي توافر العوامل كما ينبغي توفير الأرضية .
  وعلى هذا، ففاعلية الفاعل (الغيث) ليس كافياً، بل ينبغي أنْ يَكُون القابل قابلا (استعداد الأرض وشأنها) فإنَّ المطر لو هطل مدة مأة عام على الأرض المالحة لما أنبتت هذه الأرض ولا زهرة واحدة .
  إنَّ الرسول (صلى الله عليه وآله) كما دعى سلمان وأبا ذر والمسلمين الآخرين للإسلام كذلك دعى أبا جهل وأبا لهب وباقي الكفار، فالقلب الطاهر لسلمان أنبت الإيمان، لكنّ الدعوة لم تنبت في قلوب أبي جهل وأبي لهب إلاَّ البخل والبغض .
  2 - مردودات القرآن والوحي على الكافر عكسية
  آيات القرآن في بعض الأحيان لا أنها لا تكون هادية فحسب، بل قد تكون ضالة لأولئك الذين ساءت طينتهم من الكفار، فإنّهم بسماعهم للآيات يزدادون ضلالة .
  إنّ هذا الأمر بيّنته آيات من القرآن، منها الآية 124 و 125 من سورة التوبة: ( وإذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَنْ يَقُولُ أيُّكُم زَادَتْهُ هذِهِ إيمَاناً فأمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فزَادَتْهُم إيْمَاناً وَهُم يَسْتَبْشِرُونَ وأمَّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُم رِجْسًاً إلى رِجْسِهِم وَمَاتُوا وَهُم كَافِرُونَ ) .
  سؤال: كيف يمكن للآيات القرآنية المنيرة أن تكون سبباً لضلال البعض ؟
  الجواب: أنّ القرآن المجيد بمثابة المصباح الذي اذا وقع بيد أحد العلماء أفاد منه لأجل العلم والاكتشاف والاختراع والتقدّم ، وهو بذاته اذا وقع بيد لصّ أفاد منه لأجل سرقة أشياء ثمينة ، وبذلك تزداد ذنوبه وآثامه .
  الإشكال هنا ليس من المصباح ذاته ، بل من قابلية القابل، كذا الحال بالنسبة للغيث حيث إنتاجه يتوقف على نوعية الأرض، فاذا كانت جيدة نبتت فيها الزهور والنباتات الصالحة واذا كانت مالحة وغير مؤهلة نبت فيها الأدغال والأشواك .
  ( فَزَادَتْهُم رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ ) فإنَّ الآية اذا نزلت فزعوا للمخالفة والعناد والعداوة، لذلك لا عجب إذا قلنا: إنَّ آيات القرآن قد تسبب للضالين ضلالة أكثر.

  الأمثال في القرآن _ 165 _

  الناس ثلاثة أصناف

  لإِيضاح هذا المطلب (الذي يتناول قابليات الناس المختلفة) نأتي بكلام لأمير المؤمنين (عليه السلام) مخاطباً فيه كميل بن زياد بعد ما دعاه إلى المقبرة، وعند بلوغهما الصحراء قال الإمام له بعد أن تأوّه: «يا كميل بن زياد إنّ هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها» .
  وكمثال نقول:
  إنَّ الناس يختلفون في إفادتهم من المطر، واحد منهم يفيد من المطر بمقدار بحيرة ماء ، وذلك لسعة ظرفيته والآخر يفيد منه بمقدار كأس صغير ، وذلك لأنه لا يستوعب أكثر من ذلك ، وقد يكون هناك شخص لا يفيد من المطر أبداً، لأنه قد قلب إناءه على ظهره .
  والمثال يوضح أنَّ الإشكال ليس من جانب الله بل من جانب الأوعية التي تُهيّئ للافادة من ماء المطر.. ثمّ يخاطب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كميل قائلا: «فاحفظ عنّي ما أقول لك النّاس ثلاثة: فعالم ربّاني ومتعلم على سبيل نجاة وهمجٌ رُعاعٌ» أي أنَّ الناس ثلاثة أصناف:
  1 - الصنف الأول هو صنف العلماء الذين طووا طريق الحق والحقيقة ويسعون لارشاد الناس وتربيتهم .
  2 - والثاني هم الذين يفقدون العلم لكنهم يسعون في سبيل تحصيله العلم وكسب المعرفة.
  3 - والثالث هم الحمقى من الناس الذين لا يعلمون ولا يسعون لأن يعلموا ولا يسألون أهل الطريق لإرشادهم إليه .
  يوضح الإمام خصال الصنف الثالث في أربع:
  الف - أتباع كلّ ناعق ، أي يتّبعون أصحاب الرايات المختلفة دون علم وبصيرة .
  باء - يميلون مع كلّ ريح ، فهم كالريح تهزّهم الدعوات المختلفة وتميلهم إلى جنبها، ومثلهم كمثل الذين قاتلوا تحت راية الرسول في عصره ، وقاتلوا تحت راية معاوية بعد وفاته، ولو كان الأجل يسمح لهم لقاتلوا تحت راية يزيد كذلك ، وذلك كله لأجل أن الريح آنذاك كان بهذا الاتجاه.
  جيم - لم يستضيئوا بنور العلم، فهم المستضعفون المحرومون من العلم.
  دال - لم يلجؤوا إلى رُكن وثيق، أي لا أنهم يفقدون العلم فحسب ، بل لا يعتمدون على أعمدته المحكمة.(1)


------------------------------------
(1) نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 147.

  الأمثال في القرآن _ 166 _

  إنَّ الصنف الثالث وهم ذووا الأوعية الصغيرة أشخاص خطرون، كما أنَّهم مصداق للآية الشريفة ( والَّذي خَبُثَ )، إلاّ أنَّ الصنف الأوّل والثاني مصاديق للآية الشريفة: ( البَلَدُ الطيَّبُ ) .

  الفاعلية اكتسابية أم جبرية ؟

  قابلية القابل ـ التي هي شرط الكمال ـ اكتسابيه أم جبرية ؟ وبعبارة أخرى: هل أنّ الله خلق بعضاً بقابلية ضخمة وخلق آخرين مع قابلية ضعيفة ؟ إنّ قابلية القابل اكتسابية لا جبريّة ، وذلك لأنّ القول بجبريتها يعني عدم ترتب الذنب على الشخص الذي ينبت قلبه الرياء بدل الاخلاص، وما عليه من عقاب، كما أنّه لا فائدة في بعثة الأنبياء .
  من هنا نقول: إن الإنسان كلّما سعى لكسب التقوى والمعرفة الإلهية أكثر، كلّما استعدّ قلبه أكثر لقبول الوحي الإلهي والآيات القرآنية.
  إنّ القرآن يُوكّد على كون الإنسان مخلوقاً بأفضل شكل وصورة ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أحْسَن تَقْوِيم )،(1) ووفقاً لهذه الآية فانه لا فرق في خلق الناس، والهداية والضلالة يتوقفان على الإنسان ذاته ، وحتى الشيطان لم يُخلق خبيثاً ، ولذلك كان في صفوف الملائكة وعبد الله ستة آلاف عاماً .(2)
  نعم ، انَّ الناس يختلفون عن بعضهم البعض، ليس بمعنى أنَّ بعضهم خلق حسناً وبعضهم الآخر خلق سيئاً، بل في أن بعضهم خلق حسناً وبعضهم الآخر أحسن، لذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «الناس معادن كمعان الذهب والفضة».(3)
  في النتيجة لم يخلق إنسان شقياً أو خبيثاً، وقابلية القابل اكتسابية لا جبرية . إنَّ المطر يهطل شفافاً وزلالا لكنّه يتسخ عندما يلتقي بالأرض الوسخة، لكنه يبقى نظيفاً عندما يقع على الأرضي النظيفة، فيبقى على فطرته وطهارته .


------------------------------------
(1) (1) سورة التين الآية 4.
(2) ميزان الحكمة، الباب 2005، الحديث 9365.
(3) بحار الأنوار 58: 65.


  الأمثال في القرآن _ 167 _

  إنّ البيئة الموبوئة والكتب المنحرفة والمفاهيم الفاسدة والأصدقاء السيئين والعائلة غير السليمة هذه كلها بمثابة الأرض الملوّثة، تلوّث قلب الإنسان الطاهر وفطرته النقية.
  أيُّها الشباب الاعزة! يا أمل الإسلام والثورة والوطن!
  إن الله خلقكم كقطرة المطر الشفافة الطاهرة، إسعوا للحفاظ على هذه الطهارة، واحذروا معاشرة صديق السوء، لأن هذا الصديق قد يغيّر مستقبل الإنسان بالكامل .
  من وجهة نظر الإسلام، ليس أداء الذنب لوحده معصية ، بل الحضور في مجلس يرتكب فيه الذنب يُعدُّ محرماً ومعصية .
  أي إذا حضر الإنسان في مجلس يُعصى فيه الله فإنَّ حضوره في هذا المجلس يُعدُّ معصية كذلك ، رغم أنّه لم يفعل الذنب الذي اقترف في المجلس، وذلك لأنَّ المحيط الملوّث يؤدي إلى التلوث تدريجياً ، ويفقد الذنب آنذاك قبحه تدريجياً الأمر الذي قد يؤدي إلى اقتراف الذنب في المستقبل.
  إنَّ المتعاطين للمخدرات تعاطوها بهذا الشكل وبهذا الاسلوب.
  وعلى هذا ، ينبغي السعي لأجل الحفاظ على نقاء الباطن ، وتهيئة أرض القلب وإعدادها للافادة من وابل الرحمة اقصى إفادة .

  الأمثال في القرآن _ 169 _

  المثل السادس عشر: العالم المنحرف

  يقول الله تعالى في الآيات 175 و 176 و 177 من سورة الأعراف في مثله السادس عشر:
  ( واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ الَّذي آتَيْنَاهُ آياتِنَا فانْسَلَخَ مِنْهَا فأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلكنَّهُ أخْلَدَ إلى الأرْضِ واتَّبَع هويَهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَث أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَلك مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بآيَاتِنَا فاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ ) .

  تصوير البحث
  الحديث في الآيات الثلاث عن العالم الذي كان في الطريق الصواب والصحيح وبلغ في هذا الطريق مقامات رفيعة ، إلاّ أنّه تدريجياً انحرف وطُرد من الساحة الربانية، فيشبّه الله هذا العالم بالكلب ليعتبر الآخرين منه .

  شأن نزول الآية
  هناك بحث وخلاف بين المفسرين حول المراد من هذا العالم الذي تحدثت عنه الآية. وأكثر المفسرين يعتقد أنَّه (بلعم بن باعورا) فهو من علماء بني اسرائيل وقد نال بعبادته مقامات عليا إلى مستوى انه حصل على اسم الله الأعظم، وأصبح مستجاب الدعوة. وعندما بعث موسى (على نبينا وآله وعليه السلام) نبيّاً ونال هذا المقام الشامخ، كانت بعثته قد اثارت حسد بلعم ،

  الأمثال في القرآن _ 170 _

  وقد كان الحسد يزداد كل يوم، ويأكل حسناته شيئاً فشيئاً ، كما أنَّ هذا الحسد من جهة ، وحب الدنيا من جهة اخرى بلغا به إلى مستوى أن لجأ إلى فرعون وبلاطه ليصبح من وعّاظ السلاطين.
  ففقد بذلك كل افتخاراته وكانت عاقبته السوء، فبيّن القرآن قصة هذا العالم المنحرف ليكون عبرة للآخرين .
  يعتقد مفسرون آخرون أنَّ العالم في الآيات هو (أمية بن الصلت) فهو من الشعراء المعروفين في عهد الجاهلية، أسلم في البداية، لكنه بعد ذلك شاكس وخالف، حسداً للرسول ومقام نبوّته .
  ويعتقد مفسرون آخرون أنَّ العالم هنا هو (أبو عامر النصراني) فقد كان راهباً مسيحياً أسلم ثم التحق بركب المنافقين، ثم سافر إلى الروم للتحالف مع سلطانه ، ثمّ رجع إلى المدينة والتحقق بدينه بعض المنافقين، وبنى مسجد (ضرار) المعروف.
  إنَّ القول الأوّل هو أصح الثلاثة، والآخران مستبعدان من حيث أنَّ صدر الآية ( واتْلُ عَلَيْهِم نَبَأ الّذي... ) قرينة على حكاية قصة تتعلق بالأقوام السالفة.(1)

  الشرح والتفسير
  ( واتْلُ عَلَيْهِم نَبَأ الَّذي آتَينَاهُ آياتِنَا ) يطلب الله من الرسول أن يحكي للأصحاب قصة ذاك العالم.
  المراد من الآيات هو أحكام التوراة ومواعظها ، فإنَّ هذا العالم كان عالماً باحكام التوراة ومواعظها، كما كان عاملا بها .
  ويعتقد البعض أنَّ المراد من الآيات هو الاسم الأعظم، ولهذا كان بلعم بن باعورا مستجاب الدعوة وكان صاحب نفوذ وجاه رفيع في المجتمع .
  ( فانْسَلَخَ مِنْهَا فأتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِيْنَ » إنَّ مادة السلخ تعني نزع جلد الحيوان، ولذلك قيل لمن ينزع جلد الخروف سلاّخاً . إلاّ أنَّ كلمة (فاتبعه) لها معنيان:


------------------------------------
(1) مما لا شك فيه أنّ الآية تعني كل شخص يحمل نفس المواصفات المذكورة في الآية، وشأنها شأن باقي الآيات حيث نزلت في مورد خاص لكن شأنها يعم... وبخاصة بالنسبة للآيات هذه فإنَّ هناك حديثاً للإمام يقول فيه: ((إنَّ الآية تعم جميع أهل القبلة)). للمزيد راجع الأمثل ج5 ذيل الآية 175.

  الأمثال في القرآن _ 171 _

  الف - تعني تبع ولحق ، أي أنَّ الشيطان جعل العالم تبعاً له .
  باء - أنَّ الفعل استخدم هنا بمعناه لو كان ثلاثياً مجرداً بحيث يكون المعنى أنّ الشيطان اتّبع هذا العالم، بعبارة اخرى: أنّه سبق الشيطان في الضلالة، وتجاوزه مهارة في هذا المجال .
  مثله مثل ذلك الشخص الذي كان يفعل عملا قبيحاً جداً بطريقة جديدة وكان يلعن الشيطان دائماً على فعله هذا ، فظهر له الشيطان وقال: اللعن عليك لا عليَّ، لأني رغم مهارتي في الشيطنة ما كنت أعلم بهذه الطريقة، بل انت الذي علمتني إياها .
  وعلى هذا ، فالآية تعني أنّ بلعم بن باعورا خُلِّي من آيات الله، وانسلخت هذه الآيات عنه رغم أنَّه كان يحيط بها جميعاً ، لكنها انسلخت واتّبع الشيطان ، أو أنَّ الشيطان اتّبعه ، وكانت عاقبته الشر والشقاء فكان في عداد الاشقياء والضالين .
  ( وَلَو شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أخْلَدَ إلَى الأرْضِ واتّبَعَ هَوَاهُ ) أي أنا لو أردنا إجباره على البقاء على الحق لفعلنا لكنّا تركناه لنرى ما يفعل باختياره وإرادته، وذلك لأنَّ في الإسلام الاختيار لا الاجبار، ( إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًاً وإمَّا كَفُورَاً )(1) فالله يستطيع أن يجعل جميع الاعمال من قبيل الحج والصوم والصلاة جزءاً من غرائز الإنسان، كما جعل الأكل والشرب ، لكنّه لم يفعل ذلك، بل خلق الإنسان حراً ومختاراً ليكون هناك هداية وتكامل وتقدّم واختبار وثواب وعقاب و ... ولكي لا تفقد هذه المفاهيم معانيها .
  وفي النهاية يكون معنى الآية هو : أنّا تركنا بلعم بن باعورا إلى نفسه ، إلاّ أنَّ هذا العالم المنحرف ـ الذي سبق وأن كان مبلغاً قوياً لموسى (عليه السلام) ـ تبع الهوى والهوس حباً للدنيا وحسداً من موسى (عليه السلام) وانجذاباً بوعود فرعون ، وكان عاقبته الطرد من الساحة الربانية. وعلى هذا، فإنَّ شيئين كانا سبباً لسقوط بلعم بن باعورا هما: أوّلا: حبّ الدنيا والميل إلى فرعون. وثانياً: الهوى واتباع الشيطان.
  ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِل عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ )، إنَّ الكلاب عادة ذات منفعة متعارفة يفيد منها الإنسان ولذلك يصح اجراء معاملة عليها في الفقه الإسلامي، إلاّ أنَّ بعض


------------------------------------
(1) الإنسان: 3.

  الأمثال في القرآن _ 172 _

  الكلاب تكون مسعورة دائماً إثر ابتلائها بداء الكَلَب، وهو مرض يجعلها تلهث دائماً وتصيح، وتفرز سماً، وإذا عضت الإنسان يمكن أن تؤدي هذه العضة إلى موته أو ابتلاءه بالجنون .
  والكلاب تُعد حينئذ فاقدة للقيمة لا تُجرى معاملة عليها; لأنَّها تفقد الفائدة اضافة إلى ما فيها من مضايقة للآخرين .
  علائم هذا المرض في الكلاب هو أنَّها تفتح فمها وتحرك لسانها دائماً ، وذلك لتخفِّف من الحرارة الداخلية التي تشعر بها، وحركة اللسان عندها بمثابة المروحة التي تدفع بالهواء لتبرّد الجسم. ومن علائمه أيضاً العطش الدائم... وعلى كل حال يكون هذا الكلب مهاجماً .
  والقرآن بمثله الجميل هذا يشبِّه العالم المنحرف بالكلب الذي يفقد القيمة ويحمل أخطاراً كثيرة... فحب الدنيا والهوى والهوس يُحرف العالم ويفقده البصر والبصيرة بحيث يصبح لا يميز صديقه عن عدوّه .
  ( ذَلك مَثَلُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )(1) أي أنَّ هذا مثل المجتمعات التي كذّبت بآيات الله فاقصص ـ أيها النبيّ ـ على الناس وبخاصة اليهود والنصارى هذه القصص ليعتبروا منها ، ولكي يعلموا أنَّهم إذا كذّبوا بايات الله فإنَّ مصيرهم سيكون كمصير بلعم بن باعورا .

  خطابات الآية

  خطر العلماء المنحرفين

  لقد سقط بلعم بن باعورا من مقامه الرفيع من جراء حبه للدنيا وتبعيته للشيطان، وقد كان سقوطه بدرجه أن شبّهه القرآن بالكلب المتوحش الذي لا يرحم شخصاً وكأنّه مجنون .
  إنّ حب الدنيا والهوى والتبعية للشيطان أجنّت عالماً كان قد حصل على الاسم الأعظم، وكان جنونه بشكل يبدو عطشاناً للدنيا دائماً ولا يبدو مرتوياً منها أبداً، إنَّ عالماً مثل هذا يحمل معه


------------------------------------
(1) إنّ هذا الجزء من الآية يدل على حكايتها للعصور السالفة لا عصر النبيّ، لذا كانت الآية تدل على بلعم بن باعورا لا غيره .

  الأمثال في القرآن _ 173 _

  أخطاراً جمّة نشير إلى بعض منها هنا:
  الف - أنَّ عالماً كهذا يكون في خدمة الظلمة، كما هو الحال بالنسبة إلى وعّاظ السلاطين الذين كانوا في خدمة أهل الجور من الحكام والملوك. ومن الواضح أنَّ خطر علماء كهذا لا يقل عن خطر الظلمة ذاتهم .
  أراد سلطان في العصور الماضية أن ينفذ مشروعاً خاصاً ، فطلب أحد علماء البلاد يسأله عن رأي الشارع في المشروع، فأجابه العالم: (إن رأي الشارع متسع ، والأمر يتوقف على إرادة السلطان) أي يمكنه أن يجعل مخرجاً شرعياً لكل ما يريد السلطان.
  نعم، انَّ علماء كهذا يمكنهم أن يبرروا ظلم السلاطين الظلمة!
  هؤلاء هم الذين يحكّمون أسس الظلم ، ويصرفون الناس عن أي رد فعل تجاه الظلم. إن علماء كهؤلاء ، استطاعوا فترة حكومة بني امية وبني العباس أن يزوّروا أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله)والأئمة(عليهم السلام) ويمتدحوا في بعضها سلاطين ظلمة من سلسلة بني العباس وبني امية!
  باء - أنّ علماء كهذا يمكنهم أن يزلزوا الأسس الاعتقادية للناس; فإنَّ الناس العوام، عندما يشاهدون عالماً غير عامل ، يتزلزل اعتقادهم في الدين، بل قد يترددون في حقائق من قبيل الجنة والنار ويوم الحساب والقيامة فيقولون لأنفسهم: (إذا كانت هناك قيامة فالآمرين بالدين والتدين أولى بأن يعملوا لذلك اليوم).
  وعلى هذا ، فالسلاطين إذا أظلموا على الناس دنياهم ، فالعلماء المنحرفون يُظلمون على الناس أُخراهم .
  جيم - العالم المنحرف يجرُّ الناس نحو الذنب، إنَّ الدول المخالفة للإسلام أسسوا في القرن الأخير ـ لأجل مواجهة الإسلام ـ فرقة ضالة ، ولأجل تقوية هذه الفرقة ربُّوا في أحضانهم عالماً منحرفاً استطاع تأليف كتاب أيّد فيه الفرقة واستفاد في تأييده للفرقة من الآيات، وكان كتابه بدرجة من الضلالة بحيث عدّت خدمته للفرقة أكثر من خدمة مؤسسها لها .
  من هنا على متعلمي المعارف الإلهية أن يعلموا أن سبب هكذا انحراف هو عدم الإخلاص، فإنَّ بعض الطلاب يبغي العلوم لا لوجه الله تعالى بل لأغراض دنيوية مثل الهوى والهوس وحب الدنيا، وبهذه الأغراض تتهدم آخرته لتصبح جحيماً .

  الأمثال في القرآن _ 174 _

  الإنسان مهما بلغ من مقام ، عليه أن لا يرى نفسه في أمان من وساوس الشيطان، فإنَّ هذا الاحساس هو بداية الانحراف والسقوط ، بل على الإنسان أن يكون دائماً بين الخوف والرجاء ، الخوف من الهوى والهوس والوساوس الشيطانية، والرجاء والأمل برحمة الله ولطفه ، فهو أرحم الراحمين.

  عالم الدين من وجهة نظر الإمام الحسن العسكري(عليه السلام)

  ينقل الفقيه الشيخ الأعظم الأنصاري ـ رضوان الله عليه ـ في كتابه القيّم (فرائد الأصول) حديثاً جميلا من التفسير الجليل المنسوب للإمام الحسن العسكري(عليه السلام) نأتي به هنا:
  (ومثل ما في الاحتجاج عن تفسير العسكري (عليه السلام) في قوله تعالى: ( وِمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكِتَابَ... ) الآية من أنَّه قال رجل للصادق (عليه السلام): فاذا كان هؤلاء القوم من اليهود والنصارى لا يعرفون الكتاب إلاّ بما يسمعون ، ومن علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره فكيف ذمهم بتقليدهم والقبول من علمائهم، وهل عوام اليهود إلاّ كعوامنا يقلدون علمائهم ؟ فإنْ لم يجز لأولئك القبول من علمائهم لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم .
  فقال (عليه السلام) :«بين عوامنا وعلمائنا وبين عوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة ، أمّا من حيث استووا فإنَّ الله تعالى ذمَّ عوامنا بتقليدهم علمائهم كما ذمّ عوامهم بتقليدهم علمائهم . واما من حيث افترقوا فلا».
  قال: بيّن لي يا بن رسول الله!
  قال: «إن عوام اليهود قد عرفوا علمائهم بالكذب الصريح وبأكل الحرام والرشاء وتغيير الاحكام عن وجهها... فلذلك ذمّهم لما قلدوا من عرفوا ومن علموا أنه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه ولا العمل بها بما يؤديه إليهم عمّن لا يشاهدوه ، ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله)... وكذلك عوام امتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبية الشديدة... فمن قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمهم الله تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم ، فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً على هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم ، فأمّا من

  الأمثال في القرآن _ 175 _

  ركب من القبائح... وآخرون يتعمدون الكذب علينا... فضلوا أو أضلوا اولئك أضرّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد (لعنة الله عليه) على الحسين بن علي(عليه السلام)».(1)
  سؤال: لماذا كان العلماء المنحرفون أسوأ حالا من جنود يزيد؟
  الجواب: إنَّ جند يزيد أعلنوا بصراحة عدائهم ، إلاَّ أنَّ علماء السوء بمثابة الذئاب الذين تقمصوا قمصان الرعاة وهم يكيدون بالدين باسم الدين. وواضح أنَّ خطر هؤلاء أشدّ من خطر من أعلن عدائه بصراحة .
  إنَّ ما يفتخر به الشيعة هو أنّهم خلال العصور الماضية كانوا تبعاً للمراجع والعلماء الذين اجتمعت فيهم شرائط الزعامة حسب ما أراده الأئمّة(عليهم السلام)، وأنَّهم كانوا ولا زالوا تحت مضلّة وألطاف هؤلاء العظماء.
  ولا شكّ أن تقليد علماء زهّاد ذوي بصيرة لا أنّه غير مذموم فحسب بل واجب حسب ما نستشفه من آيات القرآن وروايات أهل البيت (عليهم السلام).


------------------------------------
(1) فرائد الاصول: 58، طبعة المجلد الواحد، رغم أنَّ هناك بحثاً في سند الرواية، لكنها ـ كما قال الشيخ الأعظم ـ من حيث النص بدرجة من الاستحكام والجمال حيث تجعلنا نطمئن بمصدرها، كما هو الحال بالنسبة لمضمون نهج البلاغة والصحيفة السجادية، فان مضامينها تكشف عن صحة مصادرها .

  الأمثال في القرآن _ 177 _

  المثل السابع عشر: مسجد ضرار

  يقول الله تعالى في الآيات (107 - 109) من سورة التوبة:
  ( والّذِيْنَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَارَاً وَكُفْراً وَتَفْرِيْقاً بَيْنَ المُؤمِنِينَ وإرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحلِفُنَّ إنْ أرَدْنَا إلاَّ الحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لاَ تَقُمْ فيه أبَدَاً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلى التَّقْوَى مِنْ أوّلِ يَوْم أحَقَُّ أنْ تَقُومَ فيهِ فيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ أفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَه على تَقَوى مِنَ اللهِ ورِضْوَان خَيْرٌ أمْ مَنْ أسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُف هَار فانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ واللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .

  تصوير البحث
  إنَّ الآيات الثلاث التي تعتبر المثل السابع عشر للقرآن تحدثت عن مسجد ضرار الذي اسّسه أعداء الدين لأجل مواجهة الدين الجديد واعتبروه متراساً ومرصداً محكماً لهم لمواجهة الدين بالدين .

  شأن النزول
  أشار أكثر المفسرين إلى شأن نزول الآية،(1) ونحن هنا نذكر شأن النزول أيضاً:


------------------------------------
(1) راجع تفسير الميزان 9: 391، وكذا تفسير مجمع البيان 5: 72.

  الأمثال في القرآن _ 178 _

  إنّ بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قبا، وبعثوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأتيهم فأتاهم وصلّى فيه فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غنم بن عوف فقالوا: نبني مسجداً فنصلي فيه ولا نحضر جماعة محمد، وكانوا اثني عشر رجلا، وقيل: خمسة عشر رجلا، منهم: ثعلبة بن حاطب ومعتّب بن قشير ونبتل بن الحارث فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قبا .
  فلّما بنوه أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يتجهّز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله إنّا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة الممطرة والليلة الشاتية، وإنّا نحب أن تأتينا فتصلي فيه لنا وتدعو بالبركة فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «انّي على جناح سفر ولو قدمنا أتيناكم إن شاء الله فصلّينا لكم فيه»، فلمّا انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من تبوك نزلت عليه الآية في شأن المسجد.

  الشرح والتفسير
  ( والّذِيْنَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَارَاً وَكُفْرَاً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المُؤمِنِينَ وإرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْل )، نعم إنّ جبرئيل(عليه السلام) نزل على الرسول مانعاً إياه عن الصلاة في هذا المسجد، وذلك رغم أنَّ ظاهره للعبادة، لكن واقعه معبد للأصنام ومركز للتآمر ضدّ المسلمين، فالآية هنا بيّنت أربعة أهداف من وراء بناء هذا المسجد.
  1 - ( ضِرَارَاً ) إي أنَّ مؤسسي هذا المجسد كانوا يستهدفون الإضرار بالمسلمين من خلاله وذلك بجعله متراساً لأعداء الإسلام.
  2 - ( كُفْراً ) إنّ الهدف الآخر لهم من وراء بناء هذا المسجد هو تقوية أسس الكفر، والمسجد دوره هنا كمركز لدعم الشرك والكفر .
  3 - ( تَفْرِيقَاً بَيْنَ المُؤْمِنِينَ ) الهدف الآخر لهم وهو من أخطر الاهداف عبارة عن إيجاد الفرقة بين المسلمين، واستهلاك الطاقة الموحدة التي يمتلكونها، في النزاعات فيما بينهم ، الأمر الذي يُضرّ بالاطراف الإسلامية المتنازعة أكثر من اضراره في شيء آخر، وهذا مبدأ يحكم جميع الاختلافات.
  4 - ( إرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْل ) إي إعداد مركز للاعداء في قلب الدولة الإسلامية، الأعداء الذين يكنون العداء لله ورسوله من ذي قبل .

  الأمثال في القرآن _ 176 _

  أبو عامر النصراني العدّو اللدود للإسلام

  عن (مجمع البيان): «إنّه كان قد ترهّب في الجاهلية ولبي المسوح فلمّا قدم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة حسده ، وحزّب عليه الأحزاب ثم هرب بعد فتح مكّة إلى الطائف، فلمّا أسلم أهل الطائف لحق بالشام ، وخرج إلى الروم وتنصر وهو أحد المسبيبين والموقدين لحرب أحد.
  وسمّى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا عامر (الفاسق)، وكان قد أرسل إلى المنافقين ان استعدوا وابنوا مسجداً فإني أذهب إلى قيصر وآتي من عنده بجنود ، وأخرج محمداً من المدينة، فكان هؤلاء المنافقون يتوقعون أن يجيئهم أبو عامر فمات قبل أن يبلغ ملك الروم».(1)
  وبعد هذا طلب هؤلاء من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يفتتح المسجد، لكن جبرائيل نزل ونهاه عن ذلك بهذا الخطاب:
  ( وَلاَ تَقُمْ فِيهِ أبَدَاً ) والرسول (صلى الله عليه واله وسلم) لم يقم فيه ولم يصلّ فيه أبداً.
  ( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أوَّلِ يَوْم أحَقُّ أنْ تَقُومَ فِيْهِ ) أي أنَّ مسجد ضرار ليس محلا مناسباً لعبادة الله الواحد، والمسجد المؤهل لذلك يتسم بالسمات التالية:
  1 - أن يكون أساس تأسيسه هو الإيمان والتقوى ، وهذا القسم من الآية يعلمنا أن يكون أساس تأسيس مراكز مثل الحسينيات والمدارس الدينية والسياسية والاقتصادية والادارية هو الايمان والتقوى ، فهما روح الأعمال.
  2 - السمة الاخرى هي أن يكون الحضور من المتقين والطاهرين ، وذلك لأن المصلين في المسجد يعدون معرّفاً للمسجد .
  إن السمتين حاصلتان في مسجد قبا ، فقد كان أساس تأسيسه الإيمان والتقوى ، كما أنّ مصليه كانوا من المؤمنين عكس ما كان في مسجد ضرار فلا أساسه كان يعتمد الإيمان والتقوى ولا حضوره كانوا من المؤمنين.

  الأمر بتخريب مسجد ضرار

  الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكتف بعدم افتتاح المسجد والصلاة فيه، بل أمر المسلمين بإحراقه ثم


------------------------------------
(1) تفسير الأمثل 6: 200 - 201.

  الأمثال في القرآن _ 180 _

  تخريب جدرانه وتهيئته ليكون مرمى للنفايات .
  ( أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَه عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوان خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرْف هَار ) .
  (الشفا) يعني الطرف من كلّ شيء، واطلقت هذه المفردة على شفاه الفهم لأجل ذلك .
  (الجرف) يعني الجنب فجرف الشيء أي ما يجانبه ولذلك اطلق على شاطئ النهر جرف .   (هار) يطلق على الشيء الآخذ بالسقوط .
  إنَّ النهر قد يفرغ جرفه من الداخل ليصبح الجرف أجوف، والإنسان الذي لا يعلم بذلك قد يقدم على المشي على هذا الجرف فيسقط فيه ويغرق .
  الله تعالى يشبّه بناء مسجد ضرار ببناء على جرف نهر ، والجرف لا يشرف على ماء النهر، فانّ ذلك قد لا يؤدي بالإنسان إلى موته وهلاكه الحتمي لانه قد يكون عارفاً بالسباحة، بل إنَّ هذا الجرف مشرف على جهنّم ذاتها بحيث إذا سقط إنسان فيه فذلك يعني هلاكه الكامل وانتفاء احتمال نجاته ...
  وهل الإنسان إذا كان عاقلا يرضى باقامة بنيانه في أرض رخوة كهذا الجرف ويتحمل ما فيه من مخاطر ؟
  نعم ، إنَّ المسجد الذي أساسه التقوى ورضاء الله فبناؤه يكون محكماً جداً ولا يؤدي بالإنسان إلاّ إلى النجاة، أمَّا المسجد الذي يؤسّس على أساس الكفر والشرك ويكون مقراً للأعداء فهو بدرجة كبيرة من الخطورة ويؤدي بالإنسان إلى السقوط، وحسب ما تذكر الآية إنه سقوط في جهنّم .
  هل يمكن العثور على تعبير أجمل ومَثَل أوضح لمصادر الشرك والنفاق مثل التعبير الذي تضمنته الآية الكريمة ؟!

  خطابات الآية
  1 - إنّ المستفاد من الآية هو ضرورة مراقبة المسلمين أعمالهم، وأنَّ الأعداء قد يواجهون الدين بالدين نفسه وبآلياته ذاتها... ولهذا عندما نقرأ تاريخ الإسلام نعثر على الكثير من الفرق

  الأمثال في القرآن _ 181 _

  التي أسسها الأعداء لضرب الإسلام الخالص.
  من المذاهب الموضوعة (فرقة البهائية الضالة) التي اتضح حالياً للجميع مكان تأسيس هذه الفرقة وشخصيات المؤسسين والمستفيدين من تأسيس هذه الفرقة.(1)
  2 - على المسلمين أن يكونوا كيّسين وأن لا تغرّهم الظواهر ، ما أن تحصل فتنة فعلى المسلمين أن يتعرّفوا على متوليها ومموّليها والمستفيدين والمتضررين منها ، وذلك خوف الاغترار باولئك الذين ينوون تخريب البلاد باسم استعماره، أو أسر المسلمين باسم تحريرهم أو سلب الدين عنهم باسم الدين نفسه .
  وقد قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا المجال: «المؤمن كيّسٌ فطن حذرٌ».(2)

------------------------------------
(1) للمزيد راجع الكتابين (ارمغان استعمار) و (باى سخنان بدر) - بالفارسية.
(2) ميزان الحكمة، الباب 291، الحديث 1449.


  الأمثال في القرآن _ 183 _

  المثل الثامن عشر: الدنيا العابرة

  يقول الله تعالى في الآية 24 من سورة يونس:
  ( إنَّمَا مَثَلُ الحَياةِ الدُّنْيَا كَمَاء أنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّماءِ فاخْتَلَطَ بِهَ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأكُلُ والنَّاسُ وَالأنْعَامُ حتَّى إذَا أخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وازّيَّنتْ وظَنَّ أهْلُهَا أنَّهُم قَادِرُونَ عَلَيْهَا أتَاهَا أمْرُنا لَيْلا أوْ نَهَارَاً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدَاً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بالأمْسِ كَذَلك نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ ) .

  تصوير البحث
  الحديث في المثل عن الحياة الدنيا العابرة، والتذكير بها خوف أن يغتر الإنسان بظاهرها الخلاّب ويتعلّق بها ، فإنَّ الإنسان قد يفقد كل شيء في وقت يتصوّر أنّ كل شيء قد تهيّأ وأُعد لصالحه .
  ويدعو الله في نهاية الآية الإنسان للتفكير لعلّه ينقذه ويجد لنفسه من خلاله مخرجاً .

  الشرح والتفسير
  ( إنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) استخدمت عبارة (الحياة الدنيا) ما يقرب السبعين مرة في القرآن، والدنيا قد تعني أحد المعنيين التاليين:
  الف - أن تعني القرب، ودنيا مؤنث (أدنى)، وذلك باعتبار أن الحياة الدنيا أقرب قياساً للحياة الآخرة التي هي بعيدة نسبياً .
  باء - أن يراد منها السافلة أو التافهة، ومنها اطلاق (الدني) على الإنسان الساقط

  الأمثال في القرآن _ 184 _

  والسافل.
  وباعتبار أنَّ الحياة الدنيا حياة تافهة وتفقد القيمة الكافية فهي حياة دنيا عكس ما عليه الحياة الآخرة فإنَّها عليا وتمتاز بالقيمة المتفوّقة .
  هذا، اضافة إلى أنَّه يستفاد من آيات قرآنية مثل الآية التالية: ( وإنّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ )(1) أنَّ الحياة هي الحياة الآخرة فحسب ، أمّا الدنيا فهي لا تستحق من الحياة إلاّ الاسم، بل هي موت تدريجي!
  على كل حال، فإنَّ الحياة الدنيا إمّا أنّها حياة لا قيمة لها ، أو أنّها ليست حياة بالكلية .
  ( كَمَاء أنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فاخْتَلَطَ بِهَ نَبَاتُ الأرْضِ ) أي مثل هذه الحياة العابرة كمثل الماء الذي ينزل من السماء بقطراته الشفافة والفاقدة للون، وباختلاطه بالأرض تنمو نباتات ومحاصيل متنوّعه .
  المراد من الاختلاط في الآية هو تنوّع النباتات .
  إنّ النباتات على ثلاثة أقسام:
  1 - القسم الذي يشكل الأغذية للإنسان مثل الفواكه والخضروات والحبوب ( مِمَّا يَأكُلُ النَّاسَ ) .
  2 - القسم الذي يشكل أغذية للحيوانات ( مِمّا يَأكُلَ... الأنْعَامُ ) وهي قد تشترك ـ نوعاً ما ـ بين الحيوان والإنسان كالاشجار التي يفيد الإنسان من ثمارها ، والحيوان يفيد من أوراقها وغصونها ، وقد تكون خاصة بالحيوانات مثل العلف .
  3- القسم الآخر هو النباتات والأشجار التي تزيّن الطبيعة مثل الأزهار والحشائش الاخرى ( حَتَّى إذا أخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وازيَّنت وَظَنَّ أهلُهَا أنَّهُم قَادِرُونَ عَلَيْها ) .
  أي في الوقت الذي هطل فيه المطر وأثمرت الاشجار وحان الوقت لجني الثمار في هذا الوقت تحدث حادثة وتخلبط كل حسابات الإنسان وتحول دون جنيه ثمار ما زرع ، وهذا أمر مؤلم لمن تعلّق بالدنيا .
  ( أتَيها أمْرُنَا لَيْلا أو نَهَارَاً ) نعم، في الوقت الذي يرى الإنسان أن الدنيا أقبلت عليه


------------------------------------
(1) العنكبوت الآية 64.


  الأمثال في القرآن _ 185 _

  وكشفت عن وجهها الخلاب والخادع ، ويجد أنَّ كل شيء حسب ما يرام ، في هذا الوقت يصدر أمر الله بالعذاب ليلا أو نهاراً لتتدمر بذلك كل الآمال والزحمات ، بحيث تبدو الدنيا لم تكن شيئاً مذكوراً .
  إنّ كلمة «أمْرُنَا» في الآية الشريفة تدعونا للدقة والتأمل الوافر من حيث إنّها تضمُّ موارد ومصاديق كثيرة وتشمل كل أنواع العذاب الذي يصدر من الله.
  نشير إلى بعض من تلك المصاديق.
  1 - قد تؤمر مجموعة من الحيوانات تبدو كأنها ضعيفة مثل الجراد ، فتؤمر الجراد لتهجم على مزرعة بشكل كتلة، لم تبقِ منها شيئاً إلاّ أكلته أو دمرته ، كما يحصل ذلك بين الحين والآخر في بعض الدول.
  2 - وقد يلقى هذا الأمر على عاتق السموم من الرياح، فيؤمر بتنفيذ مهمة العذاب الإلهي، وهو عندما يمرّ بشيء يسمّه ويجفّفه، بحيث إذا مرّ من مزرعة أبدلها إلى رماد يذهب مع الريح.
  3 - وقد يتكفل بتنفيذ المهام الإلهية موجود هو أخطر من ريح السموم، مثل الصاعقة(1)التي تدمّر كل شيء تصطدم به مثل الجبال والاشجار والانعام والناس، أو مثل موجودات أخرى نشير إليها في البحوث المقبلة.
  هناك نقطة مثيرة تضّمنتها عبارة ( لَيْلا أوْ نَهَارَاً ) وهي أنَّ الإنسان لا خيار له غير التسليم والخضوع للعذاب الإلهي. ولا يفرق في ذلك الليل والنهار ولا يتصّور أن الإنسان سوف يخضع للعذاب في الليل باعتباره مسلوب القدرة آنذاك، بل انَّ العذاب إذا نزل سيستسلم له الإنسان سواء كان نازلا في الليل أو في النهار.
  ( فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدَاً كَأنْ لَمْ تَغْنَ بالأمْسِ ) أي عندما يصدر أمر بالعذاب تتهدم ممتلكات الإنسان وتدمّر مزارعه في آن، بحيث لا تبدو الأرض وكأنها كانت مزروعة قبل لحظات ، بل تبدّل إلى كومة من الرماد.
  ( كَذَلك نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ ) أي أنَّ اهداف هذا المثل لا يدركها إلاّ الذين


------------------------------------
(1) لقد مرَّ التعريف العلمي للصاعقة وفرقها مع الرعد والبرق في البحوث السابقة.

  الأمثال في القرآن _ 186 _

  يتفكّرون فيه، ولا يدرك غور هذه الآيات الإلهية إلاّ بالتفكّر والتأمل الذي لا توجد عبادة أرفع مستوى منه .(1)

  فلسفة المثل

  لأجل استيعاب فلسفة المثل نشير هنا إلى ثلاث من خصائص الحياة الدنيا:
  1- الحياة الدنيا عابرة ولا ثبات ولا دوام فيها.
  2 - الحياة الدنيا جوفاء، ظاهرها فاتن وباطنها خال من المحتوى، وقد تبلورت بوضوح في حياة بعض الناس الذين تجذبنا حياتهم من بعيد وتجعلنا نأسف على حياتنا ونتحسّر على حياتهم، لكن عندما نقترب لهم نحمد الله كثيراً على كون حياتنا ليست مثل حياتهم من حيث كثرة المساوىء والابتلاءات .
  3 - الحياة الدنيا تُُغرُّ الإنسان وتخدعه .
  وفي حديث للرسول(صلى الله عليه وآله) أشار فيه إلى هذه الخصائص الثلاث: «الدّنيا تغر وتضر وتمر» .(2)
  من هنا نستوعب فلسفة المثل في أنَّه من دونه لا يمكننا إدراك ماهية الحياة الدنيا، والإنسان من خلال المثل يدرك حقيقة الدنيا وماهيتها أفضل، ولذلك تمسك الله به إيضاحاً وبياناً .

  تفسير وتطبيق للمثل المذكور

  في الآية الشريفة شُبِّه الإنسان وحياته الدنيا بالمطر ، وبذلك يشير القرآن إلى قابليته وأهليته العالية، فاذا فُعّلت هذه الأهلية لأمطرت عليه ثماراً من قبيل الابتكار والخلاقية المتنوّعة، ولاستخدم كل طاقته في سبيل الحياة الأفضل، ولنشط في مختلف المجالات، ولاستهلك طاقات جمة في سبيل بلوغ الأهداف الخاصة، إلاّ أنَّ حادثة تحصل فجأة تخيّب كل


------------------------------------
(1) جاء ما يلي في ميزان الحكمة، الباب 3253، الحديث 15920: «لا عبادة كالتفكّر في صنعة الله عزّوجلّ».
(2) بحار الانوار 7: 911، وقد نقل هذا الحديث كأحد كلمات الإمام علي(عليه السلام) القصار في نهج البلاغة الكلمة 385.


  الأمثال في القرآن _ 187 _

  آماله وتدمّر كل ما جناه في حياته حتى هذه اللحظة ليبدو وكأنه لم يفعل شيئاً لحياته أبداً ولم يكن قد فعل وتحمّل لأجل ضمان المستقبل.
  إنَّ هذه الحوادث هي (الأمر الالهي)، وقد تتبلور في داخل جسم الإنسان ويسلّم لها الإنسان رغم ضعتها وصغرها ، وعلى سبيل المثال قد تحصل جلطة في دم الإنسان تسري في الشرايين لتصل إلى القلب فتحدث سكتة فيه ، أو تصل إلى الدماغ فتحصل سكتة فيه أيضاً قد تتسبب في شل جزء من جسمه إذا لم تمته .
  والأبسط من ذلك هو أن يأمر الله تعالى خلية من خلايا جسم الإنسان للتتكاثر بشكل غير متعارف وبتصاعد هندسي كأن تصبح الخلية خليتين والخليتان أربع خلايا والأربع ثمانية والثمانية ستة عشر وهكذا إلى أن تتبدّل فجأة إلى غدة سرطانية تنتشر في جميع بدنة شيئاً فشيئاً لتجعل من الإنسان قعيد البيت ( فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كأنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ ) فيبدو وكأنه قد مات منذ سنوات وآماله قد اندثرت منذ ذلك الحين.
  وقد يلقى الأمر الإلهي في عهدة حادثة خارجية مثل الزلزلة أو الطوفان أو الاعصار أو الشهاب السماوي او غير ذلك .
  هذا المثل وما شابهه من الحوادث التي شهدناها طوال عمرنا مرات عديدة بمثابة صافرة الانذار تحذرنا أن لا تغرّنا الحياة الدنيا ولا نتعلّق بها ولا نرتكب الجرائم لأجل بلوغ الأهداف الدنيوية الآنية.
  من المناسب أن نفكر بعمق في هذه الآية الشريفة وفي أمثالها، ونعدّها كالمصباح نستنير به الطريق.

  خطابات الآية
  1 - معرفة الله
  إنّ الله بتشبيهه الحياة بقطرات المطر علمنا شيئاً من دروس المعرفة ، ورسّخ في قلوبنا الايمان بالله ، الآية تعلّمنا أنَّ الله بواسطة هذا الماء الشفاف الذي لا لون له يستطيع أن يخلق ألواناً مختلفة .

  الأمثال في القرآن _ 188 _

  إنّ الأرض تُسقى بماء واحد ( يُسْقَى بِمَاء وَاحد )،(1) لكنّ الثمار والفواكه والاشجار تنبت متنوّعة، فيخرج من هذا الماء أحلى الفواكه وأشدّها حموضة وأشد السموم مرارة، وأجمل الأزهار و... هذه كلها من ماء واحد وتراب واحد. إنَّ قدرة الله عجيبة حقاً! لكن أسفاً للعادة لكونها تحجبنا وتمنعنا دون أن نفكر في هذا الكتاب الناطق لله .

  2 - كل ما في الكون مخلوق على أساس من النظم
  إنَّ الله جعل ماء المطر سبباً للبركة والعمران ، وهو بذاته إذا زاد عن حدّه المتعارف سبب الدمار والكوارث ، وإذا قلّ عن مقداره المتعارف سبّب الجفاف والقحط .
  وهذا درس آخر للإنسان في أن يكون معتدلا ومنتظماً في جميع مجالات حياته ويجتنب الإفراط والتفريط .
  على الإنسان أنْ لا يفرط حتى في العداء والخصومة ، ولهذا فرض الإسلام آداباً للحرب وهي عبارة عن أوامر جميلة ولطيفة محذراً من خلالها المسلمين التفريط في العداء.
  وعليه ، فالمسلم يكون منتظما ومبرمجاً في جميع شؤونه .

  3 - قد تتبدّل النعمة إلى نقمة
  أي قد يكون الشيء الذي يمنح الإنسان الحياة هو بذاته يكون سبباً لدمار الإنسان وموته ، وذلك بأمر من الله تعالى ، إن الماء يمنح الإنسان حياة في هذه الدنيا لكنّه قد يتبدل إلى سيل جارف وقاتل .

  4 - إذا جرى الماء كان سالماً وهنيئاً وذا طعم لذيذ
  أمّا اذا ركد الماء تعفّن وتلوّث ويكون غير صالح للشرب ، ففي هذه الحالة لا أنَّه لا يمنح الحياة فحسب ، بل يكون سبباً للتلوّث ، إنَّ الاموال والثروات ذات نفس الخصلة هذه ،


------------------------------------
(1) الرعد الآية 4.

  الأمثال في القرآن _ 189 _

  فيمكنها أن تنمّي اقتصاد البلاد إذا كانت جارية ويتداولها الناس، إلاّ أنها عندما تحتكر وتركد في مكان واحد فقد تسبب السقم في اقتصاد البلد.

  5 - بعض النباتات سامة رغم جمالها
  بعض النباتات تبدو زينة جميلة مثلما تبدو بعض الزهور لكنها في الواقع سموم قاتلة .
  لهذا كان علينا أن لا نغتر بالظاهر وإن كان جميلا، بل علينا سبر الغور والتفكّر فيه لكشف الواقع ثم انتخاب المناسب.
  وفي نهاية الآية وصية للتفكير ، ومدح للعلماء والمفكّرين .
  يقول رسول الله(صلى الله عليه وآله): «أعطوا أعينكُم حظها من العبادة».
  قالوا: وما حظها من العبادة يا رسول الله ؟ قال: «النظر في المصحف والتفكّر فيه والاعتبار عند عجائبه» .(1)
  فكّروا في آيات القرآن لكي لا تبتلوا بما ابتلى به النماردة والفراعنة وامثال ابو لهب كما فكروا من جهة اخرى بامثال سليمان وموسى وداود و... توقفوا وتأملوا في عجائب آيات القرآن .
  لا تكتفوا بقراءة القرآن رغم ما لهذه القراءة - وبخاصة في شهر رمضان المبارك - من أجر وثواب جزيل ، بل لتقترن مع التدبّر والتأمّل .


------------------------------------
(1) المحجة البيضاء 2: 231، تفسير البرهان 1: 331، الحديث 11.

  الأمثال في القرآن _ 191 _

  المثل التاسع عشر: الكافر والمؤمن

  يقول الله تعالى في الآية 24 من سورة هود:
  ( مَثَلُ الفَرِيْقَيْنِ كالأعْمَى والأَصَمّ والبَصِيْرِ وَالسَّميعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثلا أفلا تَذَكَّرُونَ ) .

  تصوير البحث
يقارن الله العظيم في هذا المثل بين الكافرين والمؤمنين، ويشبِّه أحد الفريقين   بالأعمى والأصم والآخر بالبصير والسميع، وذلك لأنَّ الايمان والتقوى يورثان السمع والبصر، أما اللجاجة والتعصب والكفر فيحجبان عن هذين الموهبتين الالهيتين.

  إشارة إلى الآيات ما قبل آية المثل
  الآيات التي تسبق آية المثل هذه تبيّن أحوال المؤمنين والكفار، ومن الضروري إلقاء نظرة عليها لكي نتمكن من شرح الآيات وتفسيرها ببصيرة أكثر.

  سيرة الكافرين

  شرحت الآية 19 من سورة هود أحوال الكافرين حيث قالت: ( الَّذِيْنَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيْلِ اللهِ وَيْبغُونَها عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) .
  لقد بيّنت الآية ثلاثاً من خصال الكفّار:

  الأمثال في القرآن _ 192 _

  1 - الكفار يمنعون عن سبيل الله ويحولون دون دخول الآخرين في هذا السبيل.
  2 - الكفار يبغون الأعوجاج عن طريق الحق، أو أنَّهم يريدون إظهاره معوجّاً، مع أنه - حسب سورة الحمد - طريق مستقيم ولا إعوجاج ولا افراط ولا تفريط فيه بل هو متعادل ومتوازن .
  3 - الكفار ينكرون المعاد والحياة بعد الموت، ويبدو أن هذه القضية هي السبب الأساس في انحطاطهم ، وذلك لأنَّهم عندما أنكروا المعاد سعوا في اظهار طريق الحق معوجاً ومنعوا من اهتداء الآخرين إلى هذا الطريق .
  ثم يقول الله في الآية 22 من نفس السورة: ( لاَ جَرَم أنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأخْسَرُونَ ) .
  أي أنَّ الكفار الذين منعوا من اهتداء الناس إلى طريق الحق ، وأظهروه وكأنّه معوجاً، وفي النهاية أنكروا المعاد، إنّهم في المعاد أخسر من الجميع .

  سيرة المؤمنين

  الآية 23 من سورد هود همّت بدراسة الفريق الثاني (المؤمنين) وقالت: ( إنَّ الّذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وأخْبَتُوا إلى رَبِّهِمْ أولئك أصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُونَ ) .
  بيّنت الآية الشريفة ثلاث خصال للمؤمنين:
  1 و 2 - الإيمان والعمل الصالح، إنّ هذين الخصلتين ذكرتا معاً في كثير من الآيات القرآنية، فهما لازم وملزوم ولا يمكن تفكيكهما،(1) ولهذا كان إدعاء الإيمان بالنسبة للذين لا يعملون إدعاء خواء ، وهم غير مؤمنين في الواقع .
  ومن جانب آخر، أنَّ الصادقين الذين يعملون صالحاً من دون إدعاء، هم المؤمنون الحقيقيون ، وذلك لأنّهم ـ كما أشرنا سابقاً ـ بمثابة الغصون والاوراق لشجرة واحدة .
  3 - الخصلة الثالثة التي يحملها المؤمنون هي خصلة (الاخبات). إنَّ (الاخبات) جمع (خبت) والاخيرة تعني ـ في الاصل ـ الصحراء الواسعة والمستوية، وقد اُطلقت بعد ذلك على


------------------------------------
(1) ذكرا معاً في ما يقارب من سبعين آية.

  الأمثال في القرآن _ 193 _

  بعض خصائص الإنسان، نشير هنا إلى ثلاث حالات منها:
  الف - تستخدم في الإنسان ذي الروح المتواضعة، فكما أنَّ الصحراء المستوية تتواضع أمام الماء وتسمح له بالسير في جميع بقاعها ، كذلك روح الإنسان المتواضع فإنَّها تستسلم للحق ببساطة .
  باء - أنَّ مفردة (مخبتْ) كما تُطلق على الإنسان المتواضع تطلق كذلك على من سلّم نفسه لله تعالى ، أي كما أنَّ الأرض المستوية مستسلمة ، كذلك روح الإنسان المؤمن.
  جيم - تطلق هذه المفردة على من اطمئنَّ بالله تعالى ، الإنسان عموماً عندما يخطو في الصحراء يخطو باطمئان ومن دون خوف وذعر ، عكس ما لو كان يمشي في جبال وأراض وعرة، فإنَّ خطاه ستقترن بالخوف والذعر ، وخطى الإنسان المؤمن في طريق العبودية تقترن بالاطمئنان .
  وعلى هذا ، فالمؤمنون الذين يحملون هذه الصفات (الايمان والعمل الصالح والاخبات) هم اصحاب الجنة خالدين فيها ويتمتعون بنعمها .

  الشرح والتفسير
  ( مَثَلُ الفَرِيْقَيْنِ كالأعْمَى والأصمِّ والبَصِيْرِ والسَّمِيع ) بعد أن بيّن الله خصائص الفريقين في الآيات السابقة نعت هنا كلا من الفريقين بصفات فقال: إن الكافر مثل الأعمى والأصمّ، والمؤمن مثل البصير والسميع .
  ( هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أفَلاَ تَذَكَّرُونَ ) والسؤال هنا استنكاري أي أنَّ الفريقين لا يستويان فالأعمى ليس كالبصير والأصم ليس كالسميع ، كذلك المؤمن فهو غير الكافر وليس مثله .
  المفروض بهذه المقارنة أن تثير مخاطبي الآية وتذكّرهم ، أليس كذلك ؟!
  لأجل الوقوف على عمق هذا المطلب واستيعاب آثار الايمان والقدرة اللامتناهية لرب العالمين، نقوم في البداية بدراسة أهمية العين والاذن ودورهما في جسم الإنسان.

  العين من أعظم آيات الله

  لا شك أنَّ العين من أعظم الآيات الإلهية ، بل يمكننا القول: إنها أعجب آيات الله سخرها

  الأمثال في القرآن _ 194 _

  تعالى في خدمتنا ، إنّ العين ذات بناء معقد جداً ، والأعجب من ذلك أن البناء يتشكل من مواد بسيطة جداً ، فهي تتكون من مقدار قليل من الشحوم والعضلات ومقدار بسيط من السوائل .
  إنَّ هذا يكفي للكشف عن قدرة الله تعالى ، فهو يستطيع بناء وسيلة معقدة من مواد بسيطة جداً .
  للعين سبع طبقات ممتازة ومجزّأة، وهي مستقلة عن بعضها البعض بالكامل وقد رتّبت بشكل لطيف جداً ، كما أنه تعالى جعل لكل طبقة وظائف خاصة .
  لا يوجد في الدنيا كاميرا يمكنها التصوير تلقائياً مثل ما تعمل العين، فهي تعمل دون حاجة إلى منظّم لعدستها ، فهي تنظم نفسها لتصوير أدنى وأقصى نقطة في أقل زمن ممكن ، مع أن تنظيم العدسة للاماكن البعيدة في كاميرات التصوير يحتاج إلى وقت غير قصير نسبياً ، وقد يستدعي هذا الأمر ساعة من الزمن إذا أُريد تصوير لقطة حساسة .
  كذلك الأمر بالنسبة لتنظيم النور، فاذا كنا ـ مثلا ـ في محيط مضيء ثم انطفأت الكهرباء فيه وساد الظلام، فإنَّ بؤبؤة العين توسع نفسها لتتكيف مع المحيط وتتمكن من الرؤية .
  وفي العين يوجد عضلات تتحرك في ست جهات تمكنها من الحركة إلى الأمام والخلف اضافة إلى الحركات الاربع أي اليمين واليسار والفوق والتحت .
  ومن عجائب العين الاخرى هو السائل الذي يترشح منها ويسمى الدمع، إنَّ الدمع غذاء للعين كما أنَّه سائل لغسلها ولتطهير هذا البناء الدقيق والظريف من أي تعفن يحتمل حصوله .
  من خصائص العين أنَّها هي بنفسها تقوم بترميم ما يطرأ عليها من اشكالات ونواقص .
  هل هناك شيءٌ من مصنوعات الإنسان يحضى بهذه الخصائص ؟ لننصف ونرى لو لم يكن هناك دليل وآية على اثبات الخالق غير هذه العين أليس ذلك بكاف ؟(1)
كيف يمكن تصديق أن الطبيعة الفاقدة للأحاسيس والشعور يمكنها خلق جهاز بهذه العظمة ؟

  الاُذن آية الله الاخرى

  رغم أنَّ بناء الاذن قياساً للعين ليس بنفس الدرجة من حيث التعقد والظرافة ، إلاّ أنَّه


------------------------------------
(1) للمزيد راجع الأمثل 20: 198- 200.

  الأمثال في القرآن _ 195 _

  يحكي كما هو حال العين عن قدرة الله تعالى ، إنَّ الاذن تتكون من الجزء الخارجي والداخلي والوسط. والاقسام تقع في مناطق متجزءة عن بعضها الآخر، ولكلٍّ وظائف خاصة ومستقلة. هناك عظام يشبه عملها عمل المضرب، كما أنَّ هناك طبلة ترتعش بضربات المضرب، والارتعاشات هذه عندما تنتقل إلى الدماغ بواسطة الأعصاب تُفسَّر هناك ، والعجيب في هذا كله أنَّ الاذن يمكنها تعيين جهة الصوت.
  إنَّ العين والاذن نعمتان إلهيتان أنعمهما الله علينا ، وهما عجيبتان جداً، وفي توصيفهما كتبت كتب كثيرة ، ولكلّ منهما من حيث الطبابة مختصون ، بل انَّ في العين لوحدها عدة تخصصات .

  العين والاذن وسيلتان مهمتان للمعرفة

  إنَّ أهمّ وسائل المعرفة عند الإنسان هي العين والاذن. إنّ الإنسان عندما يولد يكون خلواً من أي علم ( وَاللهُ أخْرَجَكُم مِنَ بُطُونِ أمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً ) (1)، والإنسان يحصل على العلوم بعد أن تنمو عنده حاسة السمع والبصر .
  إنَّ العلوم التجريبية تنتقل للإنسان عبر حاسة البصر، فالإنسان يبلغ النتائج المختلفة في المختبرات بعدما يراها بعينه ، ورؤيته هذه هي التي تنقل النتائج إلى الذهن ، أما العلوم النقلية ـ وبخاصة العلوم التي قدمت من الوحي الالهي ـ فهي تنتقل عبر حاسة السمع (الاذن).
  بالطبع أن العلوم العقلية تعتمد في الأساس على العلوم الحسية أي أنَّ الأشياء ما لم تر أ و لم تسمع فلا يتمكن العقل من إداركها، وذلك لأنَّ أساس العلوم العقلية هو (تجريد) و (تعميم) المحسوسات، ولهذا اذا كان هناك إنسان بالغ أصم وأعمى ـ وهو بالنتيجة أخرس ـ فان مستوى فهمه سيكون بمستوى فهم طفل عمره خمس سنوات حتى لو كان يحضى بدماغ بمستوى دماغ ابن سيناء ، لأنَّ هكذا انسان يكون فاقداً لعمودين أساسيين من أعمدة العلوم العقلية وهما البصر والسمع .


------------------------------------
(1) النحل: 78.

  الأمثال في القرآن _ 196 _

  الكافر يفتقد وسائل المعرفة

  وفقاً لما ذكرت الآية، أنّ الكافر أعمى وأصم ، أي أنَّه يفقد وسائل المعرفة أو أنَّ هذه الوسائل مسلوبة منه ، لذلك لا يدرك شيئاً من نور الأيمان .
  أما المؤمن فهو ـ بفضل نور الإيمان ـ يتمتع بحاسة السمع والبصر بشكل كامل، ويفيد من العلوم، ووسائل المعرفة.

  لماذا كان الكافر أعمى وأصم؟
  الوصف المستخدم في الآية يفيد أنّ العمى والصم هما بسبب حاجب الكفر الذي يحول دون السمع والنظر ( خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِم وَعَلَى أبْصَارِهْم غِشَاوَةٌ ).(1)
  إنَّ اللجاجة مع الله وعدم التسليم له والصفات الرذيلة الاخرى سببت عدم إدراك الكفار للحقائق .
  يقول الإمام السجاد (عليه السلام) في دعائه العرفاني (أبو حمزة الثمالي): «إنّك لا تُحْجَب عن خلقك إلاّ أن تحجبه الأعمالُ دونك».
  وعلى أساس هذا الدعاء، فإنَّ أعمال الناس هي التي تحجب الإنسان عن الله. وفي بعض نسخ هذا الدعاء ذكرت مفردة (آمال) مكان أعمال، وعلى هذه النسخة، فإنَّ الآمال هي التي تحجب الإنسان عن الحقائق والمعارف الإلهية.
  الإيمان عندما يظهر في الإنسان فإنَّ حجب التعصب والجهل والغرور والكبرياء والأنانية تتلاشى لوحدها ، ويتضح للإنسان بعد ذلك كل شيء ، بل الله نفسه يهديه من الظلمات إلى نور الإيمان، لذلك قال الله في الآية 257 من سورة البقرة: ( اللهُ وَلىُّ الِّذينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُورِ والّذِينَ كَفَرُوا أوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوت يُخْرِجُونَهُم مِنَ النُّوْرِ إلَى الظُّلُماتِ أُوْلئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُونَ ) .

  كيف يمكن إزالة الحجب؟

  كيف يمكن أن يكون لنا عين واُذن قرآنية ؟ كيف يمكن أن يكون لنا عين ترى الحقيقة ؟ وفقاً


------------------------------------
(1) البقرة: 7.

  الأمثال في القرآن _ 197 _

  لما أقرَّته الآية الشريفة فإنَّ هذه الحجب تزال إذا أزلنا عن أنفسنا ستار الجهل والتعصب واللجاجة لنرى ما يرى أولياء الله.
  ما علينا هو أن نكون مؤمنين .
  لقد ذكرت علامات للمؤمن في روايات أهل البيت (عليهم السلام)، ولأجل الاطلاع نأتي بنموذجين هنا:

  علامات المؤمن

  1 - يقول رسول الله(صلى الله عليه وآله): «لا يؤمن عبدٌ حتّى يحب للناس ما يُحب لنفسه» .(1)
  2 - في رواية اخرى يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «إنَّ من حقيقة الإيمان أن تؤثر الحقّ وإن ضرّك على الباطل وإن نفعك».(2)
  وحسب هذه الرواية فإنَّ الحقيقة والصدق من علائم المؤمن، وهي تحمل في طيّاتها خطاباً للأحزاب والتكتلات السياسية في البلد بأن يقوم نشاطهم على الصدق والحقيقة وتجنّب الزيف .
  إنهم إذا بلغوا مرحلة يرجّحون فيها حديث عنصرهم الطالح على حديث العنصر الصالح للتكتل المنافس فذلك يعني أنّهم لم يدركوا حقيقة الايمان، ودعواهم الايمان زيف لا أكثر.
  اللهم ارزق جميع المسلمين الايمان الكامل .


------------------------------------
(1) ميزان الحكمة 1: 193.
(2) بحار الانوار 67: 106.


  الأمثال في القرآن _ 199 _

  المثل العشرون: الذين يدعون من دون الله

  يقول الله في الآية 14 من سورة الرعد:
  ( لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ والّذِيْنَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِه لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيء إلاّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلى المَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الكَافِرِينَ إلاّ فِي ضَلال ) .

  تصوير البحث
  إنّ آية المثل درست قضية الدعاء والتوسّل، وهي تسعى لتعليم الإنسان إلى مَن يمدّ يده ؟ ثم مثَّلت أولئك الذين يطرقون أبواب المخلوقات دون خالقهم طالبين حاجاتهم بمن بسط يديه إلى الماء....
  سؤال:
  قبل البتِّ بشرح وتفسير آية المثل ينبغي التساؤل عن سبب عدم التطرّق إلى بعض الأمثال التي جاءت قبل سورة الرعد، مثل الآية الشريفة 32 من سورة المائدة التي اعتبرت قتل النفس البريئة بمثابة قتل الناس جميعاً واحياء نفس بريئة بمثابة احياء الناس جميعاً ، فإنّ فيها تشبيهاً وتمثيلا نوعاً ما ، فَلِم لم تأت في البحث.
  الجواب:
  في القرآن امثال وتشابيه كثيرة، لكن بحثنا في الامثال القرآنية لا التشابيه.
  إنَّ التشبيه هو تنظير شيء بشيء كأن يقال: (إن حسن كالأسد). فهذا تشبيه وليس مثلا ،

  الأمثال في القرآن _ 200 _

  أما المثل فهو تجسيد وبيان لقصة أو جماعة أو قضية أو مطلب عقلي ليس في متناول أذهان الناس، كما لو أنَّ الله أراد بيان قضية الحق والباطل وهما قضيتان غير حسية مثّلهما بالمطر والسيل والزبد الذي يتجمع على الماء، فيمثّل الحق بالماء والباطل بالزبد ، من حيث أنّ الزبد رغم ابهته وارتفاعه وظهوره إلاّ أنه أجوف ويتلاشى بسرعة... وبناءً على هذا الايضاح فقد حصلنا على معيار كلي للتمييز بين الأمثال والتشابيه .

  البرق والسحب الثّقال

  لأجل الاستيعاب الأفضل للمثل المذكور علينا شرح الآيات 12 و 13 من سورة الرعد باقتضاب .
  يقول الله تعالى في الآية 12 من سورة الرعد: ( هُوَ الَّذِي يَرُيْكُمُ البَرْقَ خَوْفَاً وَطَمَعاً وَيُنْشِأُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ) .
  إنّ البرق من آثار عظمة الله تعالى ، فهو يزرع الأمل في نفس الإنسان كما يزرع الخوف والقلق .
  إنّ البرق يبشّر الناس بهدية المطر الإلهية; وذلك لأن الرعد والبرق يتسببان في نزول الكثير من المطر.

  كيف يسبب البرق نزول المطر ؟

  اصطدام السحب التي تحمل شحنات كهربائية متضادة يوجد حرارة تقدّر بخمسة عشر ألف درجة سانتيغراد ، إن هذه الحرارة تحرق الهواء المحيط بها وبذلك يقل ضغط الجو الأمر الذي يؤدي إلى هبوط المطر. من جانب آخر قد يتبلور البرق على شكل صاعقة فيحرق حينئذ ما يصطدم به من الغابات والقرى والاشخاص والحيوانات والمزارع ، وهذا هو الذي ينجم عنه خوف الإنسان .
  ( وَيُنْشِأُ السِّحَابَ الثِّقَالَ ) قد يتصور كثير من الناس أنَّ السُّحُب لا تختلف ، وهي تعمل على وتيرة واحدة، مع أنَّ الحقيقة شيء آخر ، وهي تختلف عن بعضها الآخر كثيراً .

  الأمثال في القرآن _ 201 _

  ممّا تختلف فيه السحب هو أنّها تنقسم إلى ثقال وخفاف ، والثقال تتموقع في جوّ أقرب إلى سطح الأرض، أمَّا الخفاف ففي جوّ مرتفع أكثر عن سطح الأرض، وسبب اقتراب الثقال هو كثرة الرطوبة والماء فيها ، الأمر الذي يمنعها من التصاعد إلى أجواء أبعد .

  الرعد دليل على عظمة الله

  يقول الله تعالى في الآية 13 من سورة الرعد: ( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالمَلائِكَةُ مِنْ خِيْفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيْدُ المِحَالِ ) .
  تشير الآية الشريفة إلى موضوعين ، أحدهما: الرعد، والثاني: الصواعق.
  وبما أنَّا تناولنا موضوع الصواعق في البحوث السابقة لذا نخص بحثنا هنا بالرعد .   لقد قلنا سابقاً: إنَّ اصطدام سحب ذوات شحنات كهربائية مختلفة تولّد قدحة ضوئية وصوت، فالنور يقال له: برق ، أما الصوت فيقال له: رعد.
  إنَّ الصوت والضوء يحصلان في وقت واحد ، لكن بما أنَّ سرعة الضوء أسرع من الصوت بمرات ، لذلك يصلنا الضوء قبل أن يصلنا صوت الاصطدام .
  رغم ما يبدو من بساطة في ظاهرة الرعد، إلاّ أنّه يُعد من آيات الله العظمى، وله تأثير مهم على حياة جميع الموجودات .
  لقد ذكر العلماء آثاراً كثيرة للرعد والبرق نشير هنا إلى أهمها:
  1 - هطول الأمطار هي أول فوائد الرعد والبرق ، وهي فائدة تعم جميع الموجودات سواء الإنسان أو الحيوان أو النباتات أو الجمادات.
  2 - يقتل الرعد والبرق بعض الآفات النباتية ، وذلك لأنَّ الحرارة التي توجد من خلال هذين الظاهرتين تسبب أكسجة الماء أي خلق ماء مؤكسج يتكون من ذرتين من الأوكسجين بدل ذرة واحدة مع ذرتين من الهيدروجين .
  ومن فوائد هذا الماء أنه من المطهرات ويمكنه قتل بعض الآفات والموجودات المضرة .
  إنَّ هذا الماء متوفّر في الصيدليات ويستخدم لغرض التطهير، وكلما زادت ظاهرتا الرعد والبرق كلّما قلت الآفات النباتية .
  الفائدة الاخرى للرعد والبرق هو انتاج الكثير من الاسمدة للنباتات. إنّ هذين الظاهرتين

  الأمثال في القرآن _ 202 _

  تنتجان كل عام عشرات الملايين من الاطنان من الأسمدة القوية والمفيدة والمؤثرة على جميع النباتات .
  طريقة ايجاد هذه الاسمدة هو أنَّ الحرارة الناشئة عن الرعد والبرق تسبب تركيب الماء بذرات الكاربون فينتج أوكسيد الكاربون، وعندما يهبط هذا الاوكسيد على الأرض يتركب مع الاتربة فينتج نوعاً من السماد المفيد والقوي والمؤثر .
  نعم ، إنَّ الرعد والبرق لهما هذه الآثار، وهما من آيات الله العظمى .
  والمدهش أنَّ الله كشف عن هذه الأسرار العلمية في وقت لم تخطر في ذهن الإنسان هذه الامور أبداً.
  طبقاً للآية الشريفة ، الرعد يحمد الله ويسبّح له ، والتسبيح هنا يعني تنزيه الله من أي عيب ونقص ، ألم يكن قتل الآفات النباتية تنزيهاً لله من كل عيب ونقص ؟ أليست هذه الظاهرة تسبيحاً لله نوعاً ما ؟
  إنَّ الرعد يحمد الله على صفاته وجلاله وجماله ، ألم تكن تغذيه النباتات نوعاً من الحمد والثناء لله في عالم الممكنات والمخلوقات ؟
  لا شكَّ أنَّ الآيات 12 و 13 تشير إلى هذه النقطة وتعدّها من وجوه عظمة الخالق .
  الخلاصة: أنَّ الآيتين أشارتا إلى بعض من الآيات الإلهية المهمة، أي الرعد والبرق والمطر والصاعقة .

  الشرح والتفسير
  ( لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ ) يختلف المفسرون في المراد من هذه الجملة، فالبعض يرى أنها تعني التوحيد، والتوحيد خاص بذاته تعالى .
  ويعتقد بعض آخر أنَّ المراد منها هو القرآن المجيد، فهي تشير إلى هذا الكتاب الإلهي.
  وكثير من المفسرين فسَّرها بالدعاء ، أي إذا أراد الإنسان أن يستجاب دعاؤه دعى الله خالصاً ، فغيره لا يحلّ شيئاً من المشاكل بل الله هو الوحيد القادر على استجابة الدعاء وحل المشاكل .
  والشاهد على هذا الرأي (الرأي الثالث) الذي نحن نذهب إليه هو ذيل الآية، حيث تقول:

  الأمثال في القرآن _ 203 _

  ( وَمَا دُعَاءُ الكَافِرينَ إلاّ فِي ضَلاَل ) .
  إنَّ سبب كون دعاء الكافرين في ضلال هو أنَّهم يسألون من لا يقدر حتى على الدفاع عن نفسه، ولا يستطيع كسب منفعة لنفسه فضلا عن نفعه الآخرين.
  ( والّذِيْنَ يَدْعُونَ مِنْ دُوْنِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيء إلاّ كَبَاسِطِ كَفّيْهِ إلى الماءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ) إنّ شاهد حديثنا في المثل العشرين هو هذا الجزء من الآية.
  إن الذين يدعون غير الله ويقصدون معابد الاصنام ويتوسلون بها لأجل حلّ مشاكلهم، فمشاكلهم سوف لا تُحل. ومثل إنسان كهذا مثل الذي يبسط يده ويمدها ليأخذ الماء ويشرب، وهو لا يستطيع من خلال هذا العمل شرب الماء أبداً.
  اختلف المفسرون في تفسير ( كَبَاسِطِ كَفّيْهِ إلى المَآءِ... ) نشير إلى أقوالهم هنا:
  1 - المراد منها هو شخص عطشان يريد إرواء عطشه فيقصد بئراً ليس فيه حبل ولا دلو، وعمق البئر كثير جداً ، فيبسط هذا الشخص يديه في البئر ، لكن يديه لا تمتدان إلى أكثر من متر واحد ، ولا شك أنَّ شخصاً مثل هذا سوف لا يبلغ هدفه ولا يروي عطشه .
  2 - مراد الآية هو الشخص الذي يقف بجنب البئر ويشير للماء لكي يصعد ويشرب منه ، ومن الواضح أن الماء هنا لا يُنال بالاشارة إليه، بل هناك حاجة واقعية لوسيلة ترفعه .
  نعم ، دعاء الكافرين عند معبد الأصنام ضلال، وحالهم حال إنسان كهذا .
  3 - إنَّ (باسط) تعني الذي يفتح يديه ولا يحنيهما بحيث يتمكن الاغتراف بهما. فإنَّ هذا الشخص يذهب إلى جنب الماء ويغترف منه بيديه حال كونه فاتح يديه وباسطهما، وهو أمر لا يوفّر له الماء فيضطر للابتعاد عن مصدر الماء، وهو عطشان .
  نرى أنَّ التفسير الأوّل هو أنسب الثلاثة، رغم إمكانية القول بأنّ الثلاثة صحيحة وكلها تبيّن مراداً واحداً ، وذلك لانَّا نعتقد بامكانية استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى واحد .(1)
  وعلى ما تقدم علينا ـ لأجل حل المشاكل ـ أن لا نطرق غير باب الله، بل نقصد بابه منذ البداية، فهو الخالق والرازق والمحيي والمييت وهو حلاّل المشاكل وكل شيء بيده ، اما غيره فلا


------------------------------------
(1) إنّ هذه قضية اصولية طرحت في كتب الأصول، وللمزيد راجع انوار الاصول 1: 145.

  الأمثال في القرآن _ 204 _

  شيء بيده ، لأنّه ما من موجود إلاّ وهو يحتاج إلى الله الغني، فالكل يحتاج إليه فكل شيء عاجز ، وهو القادر ، وكل شيء ضعيف ، وهو القوي والقادر المطلق، فلا يصح الذهاب لا لمعبد الأصنام فحسب بل لكل شيء غير الله.

  خطابات الآية
  1 - هل التوسّل بالمعصومين (عليهم السلام) شرك ؟
  وبعبارة اُخرى: هل أنَّ الأدعية والتوسلات بالأئمة تشملها الآية الشريفة وينهى عنها الشارع المقدس وينبغي الاجتناب عنها ؟
  نقول جواباً عن التساؤل الماضي: إنَّ التوجه لهؤلاء العظماء لا يعني طلبنا منهم حل المشاكل بشكل مباشر ، بل نطلب منهم أن يشفعوا لنا عند الله ويبحثوا لنا عن حلّ لنا من الله القادر المطلق ، وذلك لأنّا نعتقد أنَّ هؤلاء إذا استطاعوا فعل شيء فبأذن من الله.
  أما الوهابيون الذين ينسبون لنا الشرك والكفر لأجل هذه الأدعية والتوسلات فانّهم على خطأ ، وهم لا يعرفون المعنى الحقيقي للشرك والكفر ، كما أنَّهم لم يستوعبوا ماهية التوسل الذي عند الشيعة.
  في رحلتي لمكة والمدينة عام 1419 هـ.ق التي كانت لغرض أداء العمرة، حضرت صلاة الجمعة في اليوم الثاني والعشرين من شعبان في المسجد الحرام، وكنت أصغي لما يقول الخطيب. والمدهش هنا أنَّ الخطيب كان يقرأ عن ورقة قد أعدّها من ذي قبل ، يبدو أنّه ما كان مجازاً لإضافة او تنقيص ولو كلمة واحدة ، فتذكرت خطبة الجمعة في مدن ايران ومدى ما يتمتع به الخطيب من حرية التعبير والتحليل . وعلى أي حال هاجم هذا الخطيب في أثناء خطبته اولئك الذين يتوسلون عند القبور المشرّفة ورماهم بالشرك والكفر.
  بالطبع لم نسكت أمام هجوم هذا الخطيب، بل كتبنا رسالة إلى زعماء السعودية اعترضنا فيها عما تفوّه به هذا الشخص .
  إنَّ الذين يعتقدون بالدعاء والتوسّل لا يعتبرون أولياء الله شركاء لله، بل شفعاء عنده ، وبعبارة اُخرى: أنَّ اعتقادنا هو تجسيد للآية الشريفة (المائدة 110) التي تحدّثت عن السيد

  الأمثال في القرآن _ 205 _

  المسيح (على نبينا وآله وعليه السلام) ( وَإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كِهْيئَةِ الطَّيْر بإذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإذْنِي وَتُبْرِئ الأَكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإذْنِي... ) .
  في هذه الآية نسب الخلق والاحياء والشفاء كلها للسيد المسيح(عليه السلام) لكن بإذن من الله تعالى(1) .
  والشيعة لا تقول شيئاً غير هذا الذي في الآية الكريمة، فالشيعة تعتقد أنَّ العظماء والأولياء يمكنهم فعل الكثير الذي يعجز عنه البشر لكن باذن الله، كما يمكنهم أن يشفعوا للعباد عند الله لحل مشاكلهم .
  وعلى هذا فدعاء الشيعة وتوسلهم لا شرك ولا كفر .
  ومع هذه الايضاحات نقول: إنَّ الذي يعدُّ الشيعة لاجل دعائهم وتوسلهم مشركين، فهو يعدُّ السيد المسيح مشركاً كذلك .
  ويمكننا أن نستفيد مما سبق ضمنياً أن المعجزة قد لا تحصل بدعاء النبي وإجابة الله مباشرة ، بل قد تكون من النبيّ أو الولي مباشرة لكن بإذن من الله تعالى كما هو الحال بالنسبة لمعجزة شق القمر(2) التي صدرت عن رسولنا(صلى الله عليه وآله)، وهذا أمر غير مستبعد .

  2 - الصور المختلفة لعبادة الأصنام
  لعبادة الاصنام تاريخ طويل واشكال مختلفة ، فقد تكون بشكل صنم يُصنع بأيدي الناس من الحجر أو الخشب أو الفلز بل وحتى من الاغذية، ثم يقع لها الإنسان ساجداّ وعابداً .
  في برهة من الزمن كان المشركون يقدمون على انتخاب موجودات غير ذات شعور يعتبرونها أصناماً للعبادة ، لذلك عبد البعض الشمس ، والآخر النجوم أو القمر،(3) بل انّ البعض أقدم على عبادة أنهار أو بحيرات مهمة مثل نهر النيل أو بحيرة ساوة في ايران، وقد يكون جفاف بحيرة ساوه وانطفاء معبد فارس عند ولادة الرسول(4) بسبب أنها كانت معابد للإنسان آنذاك.


------------------------------------
(1) حُكي هذا المطلب على لسان السيد المسيح نفسه في الآية 49 من سورة آل عمران .
(2) تجد شرح هذه المعجزة في كتاب (المعراج ـ شق القمر ـ العبادة في القطبين) بالفارسية .
(3) اُشير إلى هذا المطلب في الآيات 76 - 78 من سورة الأنعام.
(4) لقد حدثت معاجز كثيرة بولادة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان منها انطفاء نار معبد فارس وجفاف بحيرة ساوه ، وللمزيد راجع منتهى الامال 1: 44 .


  الأمثال في القرآن _ 206 _

  وفي بعض من بقاع العالم كان البعض يعبد الاشجار وبخاصة شجرة الصنوبر التي كانت منذ القدم معبوداً لمجموعة من الناس .
  من هنا اعتقد بعض المفسرين أنَّ (أصحاب الأيكة) هم أنفسهم عبدة شجرة الصنوبر الذين كانوا منشأ لخرافة (سيزده به در) أي الثالث عشر من بداية السنة الشمسية .
  وفي زمن كانت الحيوانات آلهة لبعض من الناس، ومِمّا يؤسف له أنّ هذا النوع من العبادة لا زال موجوداً في بعض المناطق من الهند .
  وقد ألّه البعض أشخاصاً من البشر، كما هو الحال بالنسبة لفرعون حيث كان البعض يعبده كربّ لهم ، ويقول القرآن المجيد نقلا عن فرعون نفسه: ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يا أيُّهَا المَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إله غَيْرِي )(1) وقد ألّه البعض الملائكة في بعض الأحيان.
  يقول أحد المؤرخين: (كل شيء في العالم قد تألّه ، وكان يُعبدُ في يوم ما ونحن لا نعرف شيئاً لم يتألَّه ولم يُعبد في يوم من الأيام).
  على كل حال ، أنَّ ما يجمع عبادة الأصنام هو التوجه إلى ما سوى الله والغفلة عن الله رب العالمين، وقد جاء على لسان بعض العظماء: (كلّ ما شغلك عن الله فهو صنمك)، من هنا عُدَّ المال والبنون والمرأة والثروة والمقام والصديق وكل شيء يغفلنا عن الله صنماً .
  القرآن قد شطب على كل شيء سوى الله، ولا يرى أهلية العبادة لغير ذاته الحقة، فإنَّ جميع المخلوقات فقيرة وتحتاجه وتفتقر فيضه في كل آن ولحظة ، ليس في بداية الخلق فحسب بل لادامة الحياة واستمراريتها كذلك .
  إنّ مثل حاجة الإنسان إلى الله كمثل حاجة المصباح إلى مولد الكهرباء، فكما أنَّ المصباح يحتاج إلى المولد في كل لحظة ما دام متقداً، كذلك الإنسان فانه يفتقر فيض الله في كل لحظاته ما دام حياً .
  وبعبارة أُخرى: أنَّ كل لحظة من لحظات العمر هي خلق وصنع جديد ( كُلَّ يَوْم هُوَ فِي


------------------------------------
(1) القصص الآية 38.

  الأمثال في القرآن _ 207 _

  شَأن )(1) وبخاصة إذا فسرنا ذلك حسب رؤية (الحركة الجوهرية) فإنَّ الأمر سَيكون أوضح.(2)

  الدعاء من وجهة نظر القرآن والروايات

  إنّ الدعاء قضية مهمة جداً وقد انعكست بشكل واسع في القرآن وروايات المعصومين (عليهم السلام). وفي هذا المجال مباحث وأسئلة عديدة نشير إلى بعضها هنا:
  1 - ما هي فلسفة الدعاء ؟ إذا كنا مستحقين للاجابة فالله العالم بالظاهر والباطن سيستجيب لطلباتنا من دون حاجة إلى دعاء ، وإذا لم نستحق الاجابة فإنَّ الله سوف لا يجيب لطلباتنا سواء دعوناه أم لم ندعه ، ولا تأثير لدعائنا هنا!
  وبتعبير آخر: أنَّ طلبتنا إذا كانت بمصلحتنا فسيوفرها لنا الله من دون حاجة إلى دعاء، وإذا لم تكن بمصلحتنا فانه سوف لا يوفرها مهما أصررنا بالدعاء والتوسّل .
  إذن ما فلسفة الدعاء وما دوره ؟
  2 - ما هي شروط إجابة الدعاء ؟ وما علينا فعله لكي يستجيب لنا الله الدعاء ولكي نبلغ هدف الاجابة ؟
  3 - ما هي موانع استجابة الدعاء؟ لماذا لم يُستجب لبعض الأدعية رغم الاصرار الوافر في طلبها ؟
  4 - ما هو أسوأ دعاء ؟

  الدعاء أفضل عبادة

  المستفاد من الآيات والروايات هو أنَّ الدعاء ليس كونه عبادة فحسب ، بل من أفضل العبادات.


------------------------------------
(1) الرحمن الآية 29.
(2) للمزيد راجع تفسير الأمثل 17: 373 - 374.


  الأمثال في القرآن _ 208 _

  ولأجل إيضاح أهمية الدعاء نشير إلى ثلاث آيات من القرآن وست روايات من المعصومين:
  1 - يقول الله تعالى في الآية 60 من سورة غافر (المؤمن): ( وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُوني أسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الّذِين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّم دَاخِرِينَ ) .
  استخدمت الآية في البداية مادة (الدعاء) ثم أبدلتها بمادة (العبادة) في نهاية الآية.


  لماذا عبّر القرآن بالعبادة عن الدعاء؟

  قال البعض: إنَّ العبادة بمعناها المطلق هي دعاء ، ولأجل ذلك كان تعبير الروايات بأنَّ «الدعاء مخ العبادة».(1)
  2 - يقول الله تعالى في الآية 77 (آخر آية) من سورة الفرقان: « قُلْ مَا يَعْبَؤُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُم فَقَد كَذَّبْتُم فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامَاً ) .
  إنَّ هذا التعبير ( ما يعبؤُ بِكُم... ) والذي يعني عدم اهتمام الله بكم لو لم تدعوا، لم يستعمل في العبادات الاخرى مثل الحج والصوم والجهاد وغير ذلك، وقد استخدم في الدعاء فقط، وهو تعبير يعني باطلاقه أنّ الذي يجعل الله يهتم بكم ويعتني رغم الذنوب والآثام هو الدعاء، فقدروا هذه العبادة وثمّنوها.
  3 - يقول الله تعالى في الآية 186 من سورة البقرة بعد الحديث عن فضيلة واحكام شهر رمضان المبارك: ( وإذا سَألك عِبَادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيْبٌ أُجِيْبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَليُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) .
  لا شكّ أنّ تعبير الآية التالية: ( نحن أقْرَبُ إلَيكْمْ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ )(2) للإشارة إلى قرب الخالق إلى المخلوق، هو أجمل تعبير يمكن أن يرد في هذا المجال.
  وعلى هذا ، فإنَّ التفكير في الآيات السابقة يرشدنا إلى أنَّ الدعاء من وجهة نظر الإسلام أمر مهم جداً بحيث اضافة إلى كونه عبادة يوجب اعتناء الرب بالإنسان ، كونه وسيلة لتقرّب العبد إلى مولاه .

  الدعاء في الروايات


------------------------------------
(1) ميزان الحكمة، الباب 1189، الحديث 5519.
(2) سورة ق . الآية 16.


  الأمثال في القرآن _ 209 _

  قلنا سابقاً: إنَّ الكثير من الروايات تناولت قضايا الدعاء، نكتفي هنا بذكر ست منها .
  1 - يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «الدعاءُ سلاح المؤمن وعمود الدين ونور السماوات والأرض».(1)
  نعم ، رغم أنَّ الدعاء عبادة سهلة ، لكنّه ، حسب ما يستفاد من كلمات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ يحضى بشأن رفيع عند الله، إلاّ أنَّ الإنسان غافل عنه بسبب سهولته وبساطته .
  2 - يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «الدعاءُ مفتاحُ الرحمة ومصباح الظُّلمة».(2) نعم ، هو مصباح ليس في الدنيا فحسب بل في الآخرة كذلك .
  3 - يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في رواية اخرى: «عمل البرّ كلّه نصف العبادة، والدعاء نصف».(3)
  4 - يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «أكْثِرْ من الدعاء فإِنّه مفتاح كلّ رحمة ونجاح كلِّ حاجة، ولا ينال ما عند الله إلاّ بالدعاء ، وليس باب يكثر قرعه إلاّ يوشك أن يفتح لصاحبه».(4)
  وعلى هذا ، فالإنسان لا ينبغي أن يخيب أمله بمجرد عدم الإجابة، لأنّ الله قد يريد تطهير قلب العبد وتأديبه وتربيته من خلال الدعاء.
  5 - يصف الإمام الصادق (عليه السلام) الدعاء بالشكل التالي: «أفضل العبادة الدعاء».(5)
  6 - يقول الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام): «عليكم بسلاح الأنبياء»، قيل: ما سلاح الأنبياء ؟ قال: «الدعاء».(6)
  يستشف مما سبق من الآيات والروايات أنَّ للدعاء شأناً عظيماً في الإسلام ويحضى بأهمية كبيرة .

  سر الدعاء في الإسلام



------------------------------------
(1) الكافي 2: 468.
(2) بحار الأنوار 90:30.
(3) ميزان الحكمة، الباب 1189، الحديث 5533.
(4) ميزان الحكمة، الباب 1169، الحديث 5585.
(5) ميزان الحكمة الباب 1189، الحديث 5516 و 5532.
(6) الكافي 2: 468.


  الأمثال في القرآن _ 210 _

  لماذا يحضى الدعاء في الدين بدرجة وقيمة كبيرة، بحيث عُدَّ أفضل العبادات وسلاحاً للمؤمن وعموداً للدين ونور السماوات والأرض ومفتاح الرحمة ومصباح الهداية ونصف العبادة وسر النصر وسلاح الأنبياء وسبباً لرفعة شأن الإنسان عند الله ؟
  إذا دققنا في هذه التحفة والهدية الإلهية ودرسناها جيداً لوجدناها أهلا لهذه الأُمور كلها .
  إنَّ الدعاء يترك آثاراً مهمةً في الإنسان، وأهم تلك الآثار هو التربية، فإنَّ الدعاء سبب لتربية الإنسان وتزكيته .
  إنَّ التعليم والتربية اللتين ابتنيت عليهما بعثة الأنبياء، يُعدان من أهم أهداف البعثة،(1) ومما لا شك فيه أن التعليم مقدمة للتربية ، لذلك كانت التربية الهدف النهائي للبعثة .

  العلاقة بين الدعاء والتربية

  للدعاء آثار تربوية كثيرة نشير إلى ثلاثة منها:
  إنّ الأثر الأوّل هو إيجاد نور الأمل في قلوب الناس، فالإنسان الخائب الأمل يكون في عداد الموتى، إنَّ المريض يتحسّن إذا كان قد ملأ قلبه بنور الأمل وسوف لا يتحسّن إذا فقد أمله في التحسن، كما أنَّ السبب الرئيسي لنجاح المقاتلين في ميادين الحرب هو الأمل والمعنويات العالية، أما العسكر الذي يفقد الأمل ولا يتحلى بمعنويات عالية فسوف يخسر المعركة ولو كان قد عُدَّت له العدة وجُهِّز بأكثر الاسلحة تطوراً .
  إنَّ الدعاء يعكس ضوء الأمل في قلب الإنسان.
  إنَّ أصحاب الدعاء والمتوكلين على الله ـ رغم مشاكلهم الكثيرة وأعداءهم الجسورين وفقرهم المالي ـ إذا توجهوا إلى الله وناجوه ، حيث قلوبهم نضحت بنور الأمل، وتفاءلوا بالمستقبل ، وكأنّهم مُنحوا حياة جديدة ، وذلك لأنّهم مدوا أيدي العون إلى من كانت أصعب الشدائد عنده أسهلها، مدوا أيديهم إلى الله الذي لا موقع للصعب والسهل عنده، وذلك لأنَّ الصعب يعني الشيء الذي فوق القدرة والسهل يعني الشيء الذي أدنى من القدرة، وهل هناك


------------------------------------
(1) سورة الجمعة الآية الثانية.

  الأمثال في القرآن _ 211 _

  شيء يفوق قدرة اللّه ؟
  وعلى هذا ، فلا اختلاف عند الله بين الصعب والسهل ، فاذا أراد شيئاً قال له (كن) فيكون في لحظة حتى لو كان ذلك الشيء هو صنع ملايين من الشموس المثيلة لشمس الأرض.
  إنَّ الإنسان إذا دعا وناجى من يملك مثل هذه القدرة وسجد له وخشع وبكى وطرح مشاكله عليه، فلا شك أنَّ نور الأمل سيستحوذ على قلب هذا الشخص.
  2 - الاثر الثاني للدعاء هو ايجاد نور التقوى في الإنسان الذي هو السبب في تقرّب الإنسان إلى ربّه .(1)
  التقوى هو زاد نجاة الإنسان يوم القيامة;(2) وهو جواز دخول الجنة.(3)
  الدعاء يحيي هذه الجوهرة الثمينة في قلب الإنسان، إنَّ الإنسان إذا ناجى الله وتوسل به ودعاه باسمائه الحسنى وصفات جماله وجلاله ، فإنَّ ذكر هذه الصفات سيترك أثراً يسوق الإنسان نحو الله بشكل يشعر الإنسان بأنه إذا أراد الاستجابة تاب وأناب إلى الله.
  إنَّ الدعاء يدعو الإنسان إلى التوبة، والتوبة تدعو الإنسان لاعادة النظر في حياته، وفي نهاية هذه الحركة يتقد نور التقوى في حياة الإنسان.
  جاء في حديث: «من تقدّم في الدعاء استجيبت له إذا نزل به البلاء، وقالت الملائكة: صوت معروف ولم يحجب عن السماء، ومن لم يتقدّم في الدعاء لم يستجب له إذا نزل به البلاء وقالت الملائكة: إنّ ذا الصوت لا نعرفه».(4)
  يقول الإمام علي(عليه السلام) في خطبة همّام القيمّة عند بيانه لأوصاف المتقين: «نُزّلت أنفسهم منهم في البلاء كالّتي نزلّت في الرّخاء».(5)
  ولهذا، لا فائدة في مناجاة فرعون وإقراره بالتوحيد، فقد جاء في الحديث ما يلي:


------------------------------------
(1) (1) كما هو مضمون الآية 13 من سورة الحجرات (... إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُم).
(2) كما هو مضمون الآية 197 من سورة البقرة: (وَتَزوَّدُوا فإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التّقْوَى...).
(3) كما هو مضمون الآية 63 من سورة مريم: (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيَّاً).
(4) ميزان الحكمة، الباب 1194 الحديث 5563.
(5) نهج البلاغة، الخطبة 193.


  الأمثال في القرآن _ 212 _

  «... قال جبرائيل:... لمّا غرق والله فرعون قال: آمنت أنّه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو اسرائيل، فأخذت حمأة (جكومة من طين) فوضعتها في فمه...».(1)
  3 - إنّ الاثر التربوي الثالث للدعاء هو تقوية نور المعرفة.
  إنّ الإنسان عندما يتجه إلى الله سوف يبدأ بالتفكير بأن الله قادر وعالم بما خفي عنا وبما ظهر ومحيط بجميع الأسرار، وهذا سوف يرفع من مستوى معرفة الإنسان، وبخاصة إذا كانت الأدعية المقروءة من الصحيفة السجادية أو المناجاة الشعبانية أو الصباح أو كميل أو الندبة، فهي تضمّ أرقى الدروس العرفانية، ومع وجود أدعية، أمثال هذه، لا داعي بالنسبة لطلبة العرفان أن يلجؤوا إلى كتب مشكوك في أمرها .
  وعلى هذا ، فالدعاء يوقد نور التقوى والمعرفة في قلب الإنسان.
  سؤال: نقرأ في دعاء شهر رجب ـ الذي يستحب قراءته بعد كل صلاة من الشهر ـ العبارة التالية: «يا من يعطي من سأله ، يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه».
  وعلى أساس هذه العبارة فان الله يعطي كل شخص سواء دعاه أم لم يدعه ، وسواء كان عارفاً به أم لم يكن ، وعلى هذا فما فائدة الدعاء وجدواه ؟
  الجواب: إنّ لفيض الله وبركاته أقساماً وأنواعاً:
  قسم يمنحه الله لجميع البشر، مثل الغيث، فالجميع من الكافر والمؤمن والعارف وغيره يفيدون منه .
  وقسم من البركات تمنح للعارفين من المؤمنين ولا تشمل غيرهم .
  وقسم من البركات والفيض يُمنح للداعين فقط دون غيرهم .
  جاء في حديث: «لا تقل إنَّ الأمر قد فرغ منه ، إنَّ عند الله منزلة لا تُنال إلاّ بمسألة».(2)
  وعلى هذا، فإنَّ القسم الأول هو الوحيد الذي يشمل الجميع أما القسم الثاني والثالث فالإيمان والدعاء يؤثران فيهما .

  موانع وشروط استجابة الدعاء



------------------------------------
(1) مجمع البيان ذيل الآية 92 من سورة يونس.
(2) ميزان الحكمة، الباب 1189، الحديث 5529.


  الأمثال في القرآن _ 213 _

  لماذا لم يُستجب لبعض أدعيتنا ؟ لماذا لم تتحقق وعود الله في مجال استجابة الدعاء ؟ هل الاشكال من قبل الله ـ نعوذ بالله ـ أم الاشكال من قبل الداعين أنفسهم؟
  إنَّ هذه الشبهات كان يطرحها الصحابة والمسلمون في زمن الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، وكان أهل الذكر (الائمة) يجيبون عليها في روايات وردت عنهم .
  مجموع الروايات السابقة وروايات اخرى جاءت في هذا المجال (ولم تتضمن أسئلة) تكشف عن أنّ هناك شروطاً لاستجابة الدعاء، على الداعين توفيرها وتحصيلها ، كما عليهم إزالة الموانع والعقبات عن الاستجابة.
  وعلى هذا، فإنَّ الإنسان إذا دعى من دون تحصيل الشروط ورفع العقبات والموانع، ولم يستجب دعاؤه، فما عليه أن يلوم إلاّ نفسه. إنَّ مَثَلَ الداعي من دون تحصيل الشروط ورفع الموانع مَثَلُ المريض الذي يذهب للطبيب للتداوي فيكتب الطبيب له نسخة تتضمن إرشاد المريض بحقن ابر في كل يومين مرة، وبعد استلام المريض الدواء واستهلاكه وعدم الشفاء يرجع المريض للطبيب قائلا له بعصبية: (أي طبيب أنت وأي دواء كتبت لي ؟! لم أشف منه أبداً) فيسأله الطبيب: (هل حقنت الابر في كل يومين مرة ؟) فيجيبه: (لا بل في كل ثلاثة أيام).
  ويسأله مرة اخرى هل: (استخدمت المضادات الحيوية في كل ثمان ساعات ؟) فيجيبه المريض: (كنت أبتلع في اليوم كبسولة واحدة) ويسأله مرة اخرى: (امرتك بالاستراحة لمدة اربعة أيام هل استرحت فيها أم لا ؟) فيجيبه: (وهل هذا أمر ممكن رغم ما نعانيه من غلاء في السلع والأغذية ؟ فاني رجعت للعمل في نفس اليوم).
  فيهز الطبيب رأسه ويقول له: (لا إشكال في الأدوية التي كتبتها لك ، والاشكال هو فيك من حيث إنَّك لم تعمل بما أمرتك به ، الامر الذي أدى بك أن لا تسترجع صحتك وعافيتك فلا تلم إلا نفسك) .
  كذا الحال لو أعطى متخصص زراعي بذوراً لفلاح وأمره بنثرها وزرعها والعناية بها بشكل خاص وسقيها في أوقات محددة ، والفلاح لم يعمل بوصايا المتخصص ، وكانت النتيجة هي عدم إثمار البذور، فإنَّ المقصّر هنا هو الفلاح نفسه لا شخص آخر .
  اعزتي: أيها الصيام المحترمون! إخواني وأخواتي الأعزة! إن أدعيتنا مثل البذور فلا يكفي

  الأمثال في القرآن _ 214 _

  نثرها على الأرض، بل هي بحاجة إلى سقي وعناية خاصة واستخدام الأسمدة والسموم لمكافحة الآفات .
  إنّ ما تقرّه الروايات هو ضرورة توافر الظروف والشروط وارتفاع الموانع لأجل الاستجابة، لكن المؤسف هنا هو توقعنا الأجابة من دون توفير هذين الأمرين، وذلك غير معقول .
  نشير هنا إلى بعض من شروط وموانع استجابة الدعاء:
  1 - عدم معرفة الله أهم مانع عن الإستجابة
  بعبارة اخرى: أَنَّ معرفة الله من الشروط الاساسية بل أهم شرط لاستجابة الدعاء.
  وهل يمكن الطلب مِمَّن لا يُعرف وممَّن نجهله ؟!
  في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) سأله البعض عن سبب عدم استجابة الدعاء فأجابهم: «لأنّكم تدعون من لا تعرفونه».(1)
  وعليه، فكما قلنا سابقاً: إنّ الدعاء يلقي بنور المعرفة في قلب الإنسان، والمعرفة هي الأساس للدعاء ، أي أنّ لهذين آثاراً متبادلة .
  يقول الله في القرآن: ( إنَّ الصَّلاة تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ )(2) أي أنَّ المجتمع المصلي لا يتلوّث بالذنوب وكذا الأفراد; لأنَّ الصلاة هي الضمان والأمان من الذنوب.
  مع ملاحظة الآية الشريفة السابقة، لماذا نرى بعض المصلين يرتكبون الذنوب ؟ هل الاشكال ـ نعوذ بالله ـ من الآية نفسها أم من المصلي ذاته ؟ المصلي إذا ما كان عارفاً بالذي يصلي إليه ويسجد له ، فإنَّ صلاته سوف لا تكون تأميناً له من الذنوب ومانعاً له عن المعصية .
  إنَّ معرفة الله جوهرة ثمينة وهي شرط لكثير من العبادات، بل هي شرط حتى للزيارات ، وذلك لأنَّ ثواب وآثار الزيارات تخص ذلك البعض الذي تقترن زيارته بمعرفة اللّه.(3)


------------------------------------
(1) بحار الانوار 90: 368.
(2) العنكبوت الآية 45.
(3) نجد نموذجاً من هذه الروايات في كتاب وسائل الشيعة ج10 ابواب المزار، الباب 82.


  الأمثال في القرآن _ 215 _

  وعلى هذا، فإنَّ الشرط الأوّل لاجابة الدعاء هو معرفة صفات جلال الله وجماله وأفعاله واسمائه الحسنى، وعلى كل شخص أن يحوي هذه المعرفة قدر طاقته وامكانه .

  2 - النيّة الصادقة والقلب المخلص
  إنَّ الشرط الثاني لاجابة الدعاء هو النية الصادقة والطاهرة والقلب المخلص والعاري عن الرياء.
  وفي هذا المجال يقول الإمام الصادق (عليه السلام) «إنّ العبد إذا دعا الله تبارك وتعالى بنيّة وقلب مخلص استجيب له بعد وفائه بعهد الله عزّوجلّ».(1)
  إنَّ العمل بعهد الله والوفاء به - والذي هو صفاء القلب والاخلاص في النية - هو شرط قبول الدعاء.
  ينبغي الالتفات إلى كيفية تربية الدعاء للإنسان، إنَّا نطرق باب الله لقضاء الحاجة وحلّ المشاكل، إلاّ أنَّه علينا أن نعلم بعدم امكانية الاستجابة إلاّ بالاخلاص وصفاء القلب، لذلك كان علينا السعي في التزكية وتهذيب النفس.

  3 - الاكل الحلال شرط مهم وصعب لاجابة الدعاء
  يقول الرسول(صلى الله عليه وآله) في رواية جميلة جداً ومنذرة كذلك: «أطب كسبك تستجاب دعوتك، فإنّ الرجل يرفع إلى فيه حراماً فما تستجاب له دعوة أربعين يوماً».(2)
  بعض الناس تلوثت أموالهم ومكاسبهم بالحرام وذلك بالتطفيف والربا وظلم الآخرين وعدم أداء الواجبات المالية، رغم ذلك يتوقعون من الله الإجابة.
  المستفاد من الكلام الثمين لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أنَّ الدعاء عامل مهم في تربية الإنسان ويحضُّ الإنسان على رعاية الحلال والحرام .


------------------------------------
(1) مكارم الاخلاق 2: 874.
(2) مكارم الاخلاق 2:20.


  الأمثال في القرآن _ 216 _

  من الإنصاف أن نقول: إنَّ رعاية الحلال والحرام له دور مهم في حياة الإنسان، وأنَّ الناس إذا اهتموا بهذا الجانب من حياتهم لما تكدست الاضبارات والشكاوى في المحاكم .
  إذا راعى الناس الحلال والحرام ما كان مجتمعنا يضمُّ هذا المقدار من الفقراء.
  أسفاً أنّ البعض غافل عن هذا ويبرّر عمله بشكل أو آخر ويقول: أين الحلال والحرام ؟ لا وجود للحلال لكي نراه .
  يقول أحد هؤلاء الذين يتمسكون بتبريرات هي هراء في الواقع: (إنَّ الحلال الوحيد في الدنيا هو ماء المطر ويمكنك الاستفادة منه في وسط النهر فقط لأنه مكان نطمئن بعدم غصبه، فعند هطول الامطار قف هناك وافتح فمك لتناول القطرات، وهذا هو المقدار الوحيد المسلّم بحليته).
  إن أُناساً مثل هذا يخادعون أنفسهم ( يُخَادِعُونَ اللهَ وَالّذينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) . (1)
  وبعبارة اخرى: أنَّهم يغالطون أنفسهم ، وذلك لأنَّ حديثنا في الحلال والحرام الظاهريين، وهم يتحدثون عن الحلال والحرام الواقعيين، مع أنَّا مأمورون بالعمل حسب الظاهر لا الواقع.
  ألم يهيء أئمتنا مأكولاتهم ومشروباتهم من سوق المسلمين هذا ، وهم في الوقت ذاته يلتزمون بالظواهر ولا يحتاطون إلاّ في الاماكن المناسبة، مثلا كانوا يفيدون من الخبز واللحم اللذين لم تدفع زكاتهما ؟
  ومن المناسب لنا كذلك أن نعدّ مقدار استهلاكنا السنوي للخبز واللحم وندفع زكاته ، لأنّ الكثير من المزارعين والرعاة لا يدفعون زكوات أموالهم ونحن نفيد من محصولاتهم ومنتجاتهم ، وهذا مؤسف حقاً ، لأنه ابتلاء لنا .
  رغم أننا معذورون بسبب عدم العلم إلاّ أنَّ عدم الدفع سوف يترك أثره الوضعي ، ولذلك كان عده ودفع زكاته أمراً مستحسناً ويسبب الطهارة القلبية والنزاهة الروحية.
  النتيجة هي أنَّ الأكل الحلال لا يؤثر في الدعاء فحسب ، بل في جميع عبادات الإنسان من


------------------------------------
(1) سورة البقرة: 9.

  الأمثال في القرآن _ 217 _

  الصلاة والصوم والحج والزيارات الواجبة والمستحبة وأمثال ذلك ، ومن ناحية أُخرى، انّ الأكل الحرام لا يمنع عن استجابة الدعاء، بل يؤثر سلباً على نشاط الإنسان ومعنوياته وعباداته وزياراته ويجره إلى الكسل عن قراءة القرآن واقامة الصلاة، وهو في النهاية يحول دون الالتذاذ بهذه الأعمال.

  4 - حضور القلب
  الشرط الرابع لاستجابة الدُّعاء هو حضور القلب، ومن الواضح أنَّه شرط ذات أهمية وقيمة ، لما جاء في رواية: سُئل النبي (صلى الله عليه وآله) عن اسم الله الأعظم؟ فقال: «كل اسم من اسماء الله أعظم ففرِّغ قلبك من كلِّ ما سواه وادعه بأي اسم شئت».(1)
  من هنا يتضح أنَّ الأسم الأعظم ليس لفظاً خاصاً - كما يتصوره البعض - لكي يُنطق به وتحل به جميع المشاكل، بل إنّه حالة وصفة خاصة ينبغي ايجادها في باطن الإنسان، وهي عبارة عن تطهير القلب.(2)
  القلب إذا كان مركزاً للأصنام (صنم المال وصنم المقام وصنم الشهرة وصنم الزوجة والاولاد وما شابه ذلك) فالدعاء إذا صدر فيصدر من معبد الأصنام هذا ، ومن الواضح أنَّ دعاءً كهذا لا يستجاب .
  الخطوة الأولى للاستجابة هو الاقتداء بما فعله ابراهيم (عليه السلام) وعلي(عليه السلام) في كسرهما الأصنام، فبذلك تطهر القلوب، فهي آنذاك تصفى للواحد الأحد، ثم ادعه بأي اسم شئت ، وسوف لا تكون النتيجة إلاّ الاستجابة.
  مع الالتفات إلى الشروط الاربعة الماضية نقول: هل نحن وفرّنا هذه الشروط؟ هل كان طعامنا من حلال ؟ هل كان قلبنا خالياً من الأغيار ؟ هل كان الصفاء والاخلاص في النية هو الذي يحكمنا ؟ هل كنا نعرف الله؟


------------------------------------
(1) بحار الانوار 90:322.
(2) للمزيد راجع ما ورد عن (الاسم الاعظم) في تفسير الامثل فقد تناثرت البحوث في هذا المجال في ثنايا الكتاب.


  الأمثال في القرآن _ 218 _

  إذا كنا نفقد هذه الشروط علينا السعي في كسبها وبخاصة في شهر رمضان المبارك، شهر الرحمة واللطف الالهي، وهو شهر تستعدُّ فيه روح الإنسان لهذه الامور أكثر، كما هو فرصة مناسبة للدعاء...

  استجابة بعض الأدعية ليست بمصلحة الإنسان!

  رغم أنَّا كُلّفنا بالدعاء ونأمل الاجابة، لكن ينبغي الالتفات إلى أنَّ إجابة بعض الأدعية ليس بمصلحة الإنسان رغم أنَّه يراها بمصلحته وأنها توفر سعادته ، لكن الله يرى فيها الهلاك والشقاء لذلك لا يستجيب لها .
  قلنا في قصة ثعلبة الانصاري التي مضت في البحوث السابقة: إنَّ ما أراده وطلبه من الله لم يكن بمصلحته ، إلاّ أنَّه كان يصرّ على دعائه وطلبه ، وكانت نتيجة الاستجابة هي فقده الايمان وضلالته واعتراضه على بعض القوانين الإلهية، وهذه القصة تتضمن دروساً وعبراً عظيمة للجميع .
  قد يُقدم شاب على خطبة بنت ترفض الزواج منه، فيدعو الله ويتوسل إليه كثيراً لكي يميل رأيها ويغيره نحوه ، رغم ذلك لا يستجاب دعاؤه، فتضلّ في ذاكرته فترة طويلة من الزمن، إلاّ أنّه يلتفت إلى مصلحة عدم استجابة الدعاء بعد ما يفهم أنَّ المرأة تلد اطفالا معتوهين مثلا .
  وعلى هذا ، ما علينا أنْ نقلق من عدم استجابة أدعيتنا، وذلك لأنَّه يمكن أن تكون عدم الاستجابة بسبب عدم المصلحة، إضافة إلى هذا ، فإنَّ هناك روايات وردت عن المعصومين (عليهم السلام) حكت عن أنَّ الله يعطي العبد في الآخرة ما يعادل أدعيته غير المستجابة.(1)

   سؤالان مهمان عن الدعاء

  السؤال الأوّل: نجد فيما ورد عن أئمتنا أدعية لا تستجاب أبداً، كما هو الحال في أدعية شهر


------------------------------------
(1) لقد وردت في هذا المجال روايات كثيرة حكت عن وجود أثر للدعاء حتى لو لم يستجب ، راجع ميزان الحكمة، الباب 1209.

  الأمثال في القرآن _ 219 _

  رمضان الذي تضمّن بعضها عبارة: «اللهم اقضِ دين كلّ مدين» مع أنَّا نعلم أنَّ هذا الدعاء لا يستجاب ، لأنَّه ما دامت الدنيا موجودة فهناك ديون للناس ، والحياة من دون هذه الديون حياة خيالية لا أكثر، فما الهدف من هذه الأدعية ؟
  الجواب: إنَّ الديون على قسمين ، قسم نشهد ممارسته من قبل التجار والكسبة بأن يستلفوا السلع دون دفع ثمنها ، ويسددون الثمن بعد بيعها ، أو استلاف الموظفين والعمال السلف من أصحاب العمل، وتسديدها تدريجياً من إيراداتهم الشهرية.
  والقسم الآخر هو الدين الذي لا تتوفر للإنسان أرضية دفعه ، رغم ذلك هو مجبور على استلافه ويعلم بعجزه عن الدفع. ويبدو أنَّ مراد الامام من الدين هو القسم الثاني لا الأول.
  القسم الثاني من الديون لا أنه يستحسن الدعاء فيه ويمكن تحقق الاجابة له ، بل إنَّه بناءً على ما أمر به الإسلام ينبغي تزامن الدعاء مع اجراءات عملية ، وذلك لأنَّ في المجتمع الإسلامي المتكامل ـ وهو مجتمع صاحب العصر والزمان (عج) ـ لا ينبغي وجود حتى جائع واحد أو عار واحد أو فقير واحد، لذلك نقرأ في الدعاء: «اللهم أشبع كلَّ جائع ، اللهمَّ اكسُ كلَّ عُريان، اللهم أغن كلّ فقير» .   إنَّ شاهد هذا الحديث هو رواية وردت عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنَّ الله عزّوجلّ فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم ، ولو علم أنّ ذلك لا يسعهم لزادهم».(1)
  ومضمون الرواية السابقة وغيرها هو أنَّ الناس لو دفعوا ما عليهم من واجبات مالية لما بقي جائع ولا فقير ولا عاري في المجتمع، وإذا وجدت هذه الشرائح فبسبب عصيان الاغنياء ومنعهم الفقراء عن حقهم .
  إنَّ مجتمع صاحب الزمان يخلو من الفقر والجوع والدين ... والدعاء لرفع هذه المشاكل لا تبعد إجابته .
  السؤال الثاني: من الاعمال ذات الفضيلة الوافرة في ليلة القدر هي وضع القرآن على


------------------------------------
(1) وسائل الشيعة ابواب الزكاة، الباب 1، الحديث 2 و 3 و 6 و 9.

  الأمثال في القرآن _ 220 _

  الرأس، رغم أنَّ القرآن كوصفة الطبيب ( وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ للمُؤمِنِيْنَ )، ولكنها وصفة لا تنفع إلاّ بعد العمل بها ، فما جدوى وضع القرآن على الرأس عند الدعاء في تلك الليلة ؟
  الجواب: القرآن ذات جانبين ووصفة الطبيب ذات جانب واحد ، فإنَّ القرآن هو كلام الله من جهة ، وهو ذات الفاظ بذاتها مقدسة من جهة أُخرى، ولذلك يعتقد المسلمون بلزوم الوضوء إذا أرادوا لمسه ، ومن جهة أخرى، مضمونه مقدس ، لذلك عدّ القرآن (الثقل الأكبر) وأهل البيت (عليهم السلام) (الثقل الأصغر)، ولهذا لا يصح قياس وصفة الطبيب على القرآن .
  بالطبع ، انَّ هذا العمل (وضع القرآن على الرأس) يحمل في طياته رسالات خاصة ، فهو يعلمنا لزوم عدم وضع القرآن تحت الأيدي والارجل (من حيث الظاهر)، ومن حيث المحتوى والمضون فهو يعلمنا اعتبار القرآن على رأس قائمة الاعمال والنشاطات ، وعلى العمل بقوانينه بشكل متواصل ، وعدم نسيان أحكامه .

  الأمثال في القرآن _ 221 _

   المثل الحادي والعشرون: الحق والباطل

  من أجمل امثال القرآن هو مثل الحق والباطل ، يقول الله تعالى في بيان هذا المثل ذات المغزى العميق في الآية 17 من سورة الرعد:
  ( أنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أوْدِيةٌ بِقَدَرِهَا فاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدَاً رَابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَة أوْ مَتَاع زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلك يَضْرِبُ اللهُ الحقَّ والبَاطِلُ فأمَّا الزَّبَدُ فيَذهَبُ جُفَاءً وأمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلك يَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ ) .

  تصوير البحث
  إنَّ الحديث في هذا المثل عن الحقّ والباطل وسعتهما ومجاليهما وعلائمهما وآثارهما وتعريفهما، وفي النهاية المواجهة الطويلة والمتواصلة بينهما التي كانت على طول التاريخ .

  الشرح والتفسير
  ( أنْزَلَ مِنَ السّمَاءِ مَاءً فسالَتْ أوْدِيةٌ بِقَدَرِهَا ) إنَّ نتيجة هطول الامطار على الجبال ونزوله منها هو تجمع المياه في الاودية حسب حجمها ، وجريانه وصيرورته أنهاراً صغاراً ، وإذا التقت صنعت نهراً كبيراً ، واذا تجاوز الماء سعة النهر تبدّل إلى سيول عظيمة ومخرّبة .
  ( فاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً ) هذه الانهار كثيراً ما يحصل فيها أمواج تضرب الاحجار والموانع التي تقع في طريقها ، وهذه العملية توجد زبداً في الماء يشبه الزبد الذي يوجده

  الأمثال في القرآن _ 222 _

  مسحوق الغسيل، يتجمّع على سطح النهر يبدو ساكناً ، أمّا النهر فيستمر في حركته تحت الزبد .
  ( ومِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِليَة أو مَتَاع زَبَدٌ مِثْلُهُ ) هذا الزبد الاجوف والمتكبّر لا يختص بالماء بل قد يحصل للفلزات عند الصهر والذوبان مثل الحديد والنحاس وغيرهما .
  ما يلفت النظر هنا هو أنَّ عبارة ( مِمَّا يُوْقِدُونَ عَلَيْهِ ) أشارت بظاهرها إلى أنَّ النار تُسلّط من الفوق على هذه المعادن رغم أنَّ النار في السابق كانت توقد على الفلزات من تحت أمّا حالياً فمعامل الصهر المتطوّرة تسلّط النار من فوق ومن تحت أي لم تستغن عن تسليط النار على الفلز من الاعلى، وهو أمر أشار له القرآن منذ ذلك الحين.
  ( كَذَلك يَضْرِبُ اللهُ الحَقَّ والبَاطِلَ ) أي أنَّ الله لأجل إيضاح المواجهة بين الحق والباطل والتي يمتد عمرها إلى طول التاريخ يضرب هذا المثل، فيشبّه الحق بالماء والباطل بالزبد الأجوف .
  ( فأمّا الزّبدُ فيَذْهَبُ جُفَاءً ) فإنَّ الزبد، رغم تفوقه على الماء ورغم علوه عليه ، يذهب جفاء وكأنَّه لا شيء . إنّ الأمواج التي توجدها السيول هي السبب في ايجاد هذا الزبد، وبمجرد أن تصل المياه المتلاطمة إلى سهول تصبح آسنة وسرعان ما يذهب الزبد وتترسب الاوساخ العالقة في الماء ولا يبقى إلاَّ الماء الخالص، ذلك لأنّ عمر الباطل قصير ، والهلاك هو نهايته .
  ( وأمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ ) فالذي يبقى هو ما ينفع الناس من الماء الصافي والفلزات الخالصة.
  فالماء ، إمَّا أن يركد في مكان يستخدم للشرب والسقي وإمَّا أن ينفذ في الأرض ليلتحق بالمياه الجوفية ذخراً للمستقبل ، يستخدم بعد ما يخرج كعيون تلقائياً أو من خلال حفر الآبار .
  ( كَذَلك يَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ ) أي يبيّن الله هذه الأمور للناس في صورة أمثال لكي تدرك بشكل أفضل.

  خطابات الآية
  لقد تناولت الآية قضايا دقيقة جداً ممّا يتعلّق بالحق والباطل باقتضاب ، نقوم هنا بتفصيل هذه القضايا وبيانها .

  الأمثال في القرآن _ 223 _

  1 - تعريف الحق والباطل
  على أساس هذه الآية، فإنَّ الحق يعني الحقائق والواقعيات ، وأما الباطل فيعني الاوهام والخيالات التي لا أساس لها .
  إنَّ الماء واقع وحقيقةً ، يتطابق ظاهره مع باطنه ، وله آثار واقعية ، أمّا الزبد فله ظاهر خادع من دون أن يكون له باطن ، كما هو الحال في الخيالات والاوهام .
  لقد جاء في الآيتين 117 و 118 من سورة الاعراف في بيان قصة موسى(عليه السلام) مع السحرة كما يلي: ( وأوْحَيْنَا إلى مُوْسَى أنْ ألقِ عَصَاكَ فإذا هِيَ تَلْقَفُ ما تَأفِكُونَ فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .
  إنّ الحق هو معجزة النبيّ موسى (عليه السلام)، والباطل هو سحر السحرة، فالمعجزة حقيقة وواقع ، لأنَّ عصا موسى (عليه السلام) تبدلت واقعاً إلى أفعى ولم تكن الحادثة تلك شعوذة ـ نعوذ بالله ـ أمّا أفاعي السحرة فكانت شعوذة خالصة ولم تكن واقعاً، بل إفكاً، كما يعبر عنها القرآن.
  إنَّ السحرة كانوا قد أعدوا عصياً وحبالا ملؤوها بالزئبق ، ووضعوها جميعاً في مكان ما ، وكان الناس وفرعون والسحرة وكذا موسى (عليه السلام) جالسين يشاهدون ما يحصل ، عندما سطعت الشمس على هذه الحبال والعصي ارتفعت درجة حرارة الزئبق، الأمر الذي جعل الحبال والعصي تتحرك وتلتوي على بعضها البعض بحيث تبدوا كانها أفاعي، ولكنَّها في الواقع خيال لا أكثر .

  2 - علائم الحق والباطل
  مما يستفاد من الآية هو أنَّ علامة الحق كونه مفيداً للناس ، وعلامة الباطل كونه مضراً لهم ، فالماء مفيد وله تأثير ، والزبد مضر ولا فائدة تتوخى منه ، وذلك لأن الزبد لا يروي ضمأ العطشان ولا يسقي الزرع ولا يُنميه ولا يولّد شيئاً من الطاقة، ولا يُشغّل طاحونة أو دولاباً .
  ومن العلائم الاخرى للحق والباطل هو كون الحق خاضعاً ومتواضعاً، أما الباطل فمتكبر ، فالحق هو الماء المتواضع تحت الزبد، وأما الباطل فهو الزبد العالي والمتكبّر .
  العلامة الثالثة للحق والباطل هو أنَّ الباطل ضوضائي ، أما الحق فهاديء وساكن .
  فالماء

  الأمثال في القرآن _ 224 _

  هادئ وساكن ، أمّا الزبد فصارخ وصاخب ، ولا يمكنه العيش دون هذا الضوضاء والصراخ والصخب .

  3 - سعة الحق والباطل
  إنَّ سعة الحق والباطل بسعة مفاهيم الحياة ، فالحق والباطل لا ينحصران في جانب من الحياة، بل يعمان جميع شؤونها ويشملانها ، من السياسة والثقافة والصحافة وغير ذلك .
  وبعبارة اخرى: يشمل جميع الجوانب المادية والمعنوية للحياة ، وهذا المعنى يستفاد من القرآن المجيد ومن آية المثل ذاتها ، فكما أنَّ الزبد لا يختص بالماء كذلك الباطل لا يختص في شيء ما .

  4 - عاقبة المواجهة بين الحق والباطل
  في هذه المواجهة يبقى الحق ويزهق الباطل ويمحق ، إلاّ أنَّ انتصار الحق على شكلين مؤقت وزمني وآخر نهائي ، إن أنصار الحقّ إذا استقاموا ولم ينحرفوا فسينتصرون في أزمنة مختلفة ما داموا مستقيمين غير منحرفين ، أمّا النصر النهائي فلا يحصل إلاّ بظهور صاحب العصر والزمان بقية الله الأعظم (عجل الله تعالى فرجه)، وحينئذ سيتغير وجه الدنيا وستحكم الدنيا حكومة عالمية حقة .
  من الآيات التي فسرت في الحجة بن الحسن العسكري (عليه السلام) هي هذه الآية، حيث فسِّر الماء في المثل بوجود الحجة المبارك، والزبد بالظلم والجور والانتهاز والاستعمار فانها ستزول يوماً ما .

  5 - المواجهة بين الحق والباطل دائمة
  كما أشرنا سابقاً ، فإنَّ المواجهة بين الحق والباطل بدأت منذ بداية الخلق، والعصور جميعها ضمت هذين الظاهرتين، وستضم العصور المقبلة هذين الظاهرتين وستستمر هذه المواجهة

  الأمثال في القرآن _ 225 _

  حتى النهاية. لقد كان لكل نبي شيطان،(1) فقبال آدم(عليه السلام) كان ابليس، وقبال الأنبياء الآخرين شياطين اخرون، كما تكشف الآية التالية عن هذا الأمر: ( وَكَذَلك جَعَلْنَا لُكِلِّ نبىّ عَدُّواً شَيَاطِينَ الأنْسِ والجِنِ ).(2)
  المستفاد من الآية الشريفة هو أنَّ الشيطان ليس شيئاً خفياً دائماً، بل قد يكون من الناس أنفسهم، وقد يكون هذا هو سبب تقديم الآية شياطين الانس على الجنّ.
  وعلى هذا، فإنَّ المواجهة بين الحق والباطل لا زالت مستمرة حتى استقرار حكومة الحق وبسط سيطرتها على بقاع الأرض جميعاً ، وتتحقق الآية الشريفة التالية: ( وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوْقاً )(3) في ظل ظهور المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، والمواجهة قبل ذلك متواصلة .

  6 - كيفية تبلور الباطل
  كيف نشأ الباطل وتبلور ؟ هل الله تعالى هو الذي خلق بعض الموجودات الباطلة رغم أنَّه حق بل ابرز وأرفع حق ؟
  إنَّ الباطل موجود عدمي وهو وهم وخيال قد تلبّس ثوب الحق، مثل الزبد الأجوف، ذات الظاهر الخلاب والخادع .
  الجميل هنا هو أنَّ الباطل اذا عمل على إبطال نفسه فذلك ببركة الحق .
  إنَّ المزيفين ـ الذين يعتمدون الزيف كمهنة لهم ـ إذا لم يتقمّصوا قمصان ذوي الشأن والاعتبار سوف لا يتوفقون في عملهم الباطل هذا ، كذلك الكذّابين فإنَّهم إذا لم يتمسكوا بالحق ولم يتظاهروا بالصدق لما صدّقهم أحد. والمنافق إذا لم يرتدِ ثوب الإنسان الصالح، والعدو إذا لم يتقمص قميص الصديق،


------------------------------------
(1) (1) للشيطان معنيان، الف: هو من مادة (شطن) وتعني (بعد)، ولذلك كان (بئر شطون) يعني بئراً عميقاً، فالشيطان حسب هذا التفسير موجود بعيد عن رحمة الله. ب: قد يكون من مادة (شاط) ويعني (احترق) و (هلك)، وعلى هذا الشيطان يعني الموجود الذي يهلك ويحترق هو وأتباعه.
(2) الأنعام: 112.
(3) الاسراء: 81.


  الأمثال في القرآن _ 226 _

  والزبد إذا لم يطفو على الماء، وبالجملة مالم يجتمع الباطل بمختلف مصاديقه إلى جنب الحق فلا تكون هناك مواجهة. وعليه فالباطل عدمي ووجوده يتوقف على الحق. أمّا الحق، فأمر وجودي وهو مصدر البركات والمنافع وذا آثار كثيرة للإنسان .

   الحق والباطل من وجهة نظر الآيات والروايات

  بما أنَّ أهم بحث في حياة الإنسان هو قضية (الحق والباطل)، وهي تحضى بموقع خاص عند جميع البشر بمختلف توجهاتهم الفكرية، لذلك كان من المناسب دراسة هذه القضية من وجهة نظر الآيات والروايات:
  لقد تحدث القرآن عن الحق والباطل بمقدار كثير ، وتكررت مفردة الحق 244 مرة، مع أنَّ مفردة الباطل تكررت 26 مرة فقط .
  وهذه النسبة تكشف عن أنَّ القرآن المجيد ذاته من مصاديق الحق.


  ما هي مصاديق الحق؟
لقد ذكر في القرآن مصاديق مختلفة للحق نشير إلى بعض منها هنا:   1 - أبرز وأرفع مصداق للحق هو ذات الله القدسية، وهي في الحقيقة جامعة لجميع مصاديق الحق، وهي عين الواقع والوجود المطلق.
  من هنا صرّح الله في الآية الكريمة 62 من سورة الأنعام ما يلي: ( ثُمّ رُدُّوا إلى اللهِ مَوْلَيهُم الحَقِّ ألا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أسْرَعُ الحَاسِبِيْنَ ) فعلى أساس هذه الآية، إنَّ الله الذي لا مثيل له هو الحقّ.
  2 - النموذج الآخر وهو من أبرز مصاديق الحقّ عبارة عن خلق السموات والأرض أو الكون أجمع.
  تقول الآية الشريفة 22 من سورة الجاثية: ( وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ والأرْضَ بالحَقِّ ) .
  3 - المصداق الثالث للحق هو القرآن نفسه; وذلك لأن الآية 48 من سورة المائدة عند بيانها لهذا المطلب تقول: ( وأنْزَلْنَا إليْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ ) .

  الأمثال في القرآن _ 227 _

  4 - الدين المبين والمنقذ للبشرية، أي الإسلام، وهو مصداق واضح آخر من مصاديق الحق. لذلك يقول الله تعالى في الآية 28 من سورة الفتح: ( هُوَ الّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ بالهُدَى وَدِيْنَ الحَقِّ ليُظْهِرَهُ عَلَى الدِّيْنِ كُلِّهِ ) . (1)
  وخلاصةً ، كل وجود هو منبع لخير البشر وسعادتهم يُعدّ حقاً ، لذلك كان الله الحق المطلق ، لأنَّه منبع جميع البركات والسعادات ، كما أن السماوات والأرض والقرآن المجيد ودين الإسلام والتوحيد ، باعتبارها جميعاً منشأ للهداية والبركة ، عدّت حقاً .
  وكل شيء هو منبع ومصدر للشقاء فهو باطل ، مثل الشيطان والأصنام وعبادتهما والرياء والتظاهر والنفاق وامثال ذلك .

   دولة الباطل ودولة الحق

  المستفاد من الروايات هو أنَّ الباطل قد يكون له جولة وصراخ وصخب إلاّ أنَّ عمره مهما كان فهو قصير ومؤقّت: «للباطل جولةٌ وللحقّ دولة»(2) والدولة هي الثبات والبقاء والخلود ، والجولة هي النفاق والخداع المؤقت .

  كن مع الحق دائماً
  حسب ما ورد في الروايات الإسلامية، على المسلم في كل حال أن يكون مع الحقّ والحقيقة ، إذا أردت التسلّح بسلاح النصر أمام الأعداء، فعليك التمسك بسيف الحقّ الصارم، كما قال الإمام علي (عليه السلام): «الحق سيف قاطع».(3)
  إذا أردت أن تكون من أهل النجاة في مقام العمل، وأن تكون صاحب حجة وبرهان في مقام الكلام، فعليك بالتوجّه نحو الحقّ، كما يقول الإمام علي (عليه السلام): «الحقّ منجاة لكل عامل


------------------------------------
(1) وقد تكررت الآية ذاتها في سورة الصف الآية 9.
(2) غرر الحكم: 68 و71، طبع مركز البحث والتحقيق للعلوم الإسلامية.
(3) ميزان الحكمة، الباب 885، الحديث 4082.


  الأمثال في القرآن _ 228 _

  وحجّة لكلِّ قايل».(1)
  إذا أردت من الاخرين قبول كلامك ، واذا ابتغيت النصر، فقل الحقّ والتزمه .
  وإذا أردت مركبا هادئاً يوصلك إلى غايتك فكن مع الحقّ. يقول الإمام علي (عليه السلام) : «ألا وإنّ الحق مطايا ذلل، ركبها أهلها، وأعطوا أزّمتها، فسارت بهم الهوينا حتى أتت ظلاًّ ظليلا».(2)

   الحق مرُّ والباطل حلوٌ

  تقترن مع الحق والدفاع عنه مشاكل ، وذلك لأنّه مرُّ والباطل حلو .
  إنَّ مرارة الحقّ كمرارة الدواء الذي فيه شفاء ، وحلاوة الباطل كحلاوة السم القاتل، لذلك قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «الحق ثقيل مرٌّ ، والباطل خفيف حلوٌ، ورُبَّ شهوة ساعة تورث حزناً طويلا».(3)
  نعم ، انَّ الحقّ ثقيل ومرّ ، لأنَّه لا يكون في صالح الإنسان دائماً بل قد يضره ، وقد يكون عكس ما تروق له النفس والشهوات الإنسانية، وقد يتزامن مع لوم الاخرين وعتابهم ومع مشاكل جمّة يثقل على الإنسان تحّملها ، أما الباطل فخفيف وحلو ، لكنه كالسم القاتل، لذلك قد يؤدي إلى ندم يرافق الإنسان حتى موته ، كما لو ارتكب الإنسان ذنباً لم يستغرق فترة طويلة ، لكن عقابه الحبس المؤبد، فذلك يعني كفارة ساعة من الذنب عمر في الحبس والسجن .

   الباطل يتقمّص قميص الحق دائماً

  المهم هنا هو أنّ الباطل لا يظهر بثوبه الحقيقي دائماً ، وذلك لأنَّ اتضاح واقعه يعني عدم تمكّنه من الخداع، بل إنّه يظهر بمظهر الحق لكي يغرَّ ويخدع الكثير .
  يقول الإمام علي (عليه السلام) في هذا المجال في الخطبة رقم خمسين من نهج البلاغة: «يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان ، فهناك يستولي الشيطان على أوليائه» .


------------------------------------
(1) ميزان الحكمة، الباب 885، الحديث 4084.
(2) ميزان الحكمة، الباب 885، الحديث 4089.
(3) ميزان الحكمة، الباب 888، الحديث 4100، وقد جاءت روايات أُخرى في نفس الباب تضمنت المعنى ذاته.


  الأمثال في القرآن _ 229 _

  أي بما أنَّه لا زبون للباطل المحض، لذلك يمزجه أتباعه مع شيء من الحق ليبدو وكأنه حقّ ، فعندئذ يأتي دور الشيطان ليستولي على أوليائه وأصحابه .
  لذلك علينا أن لا ننخدع بالظاهر ، إذا أردنا شراء كتاب مثلا فما علينا أن ننخدع بغلافه الجميل أو يغرّنا عنوانه الخلاّب وشعاراته ، وذلك لأنّ أهل الباطل قد يستخدمون هذه الخدع لترويج سمومهم وأباطيلهم ، وهذا الأمر نفسه صادق بالنسبة للافلام والمسرحيات والجرائد والمجلات والاساتذة والمعلمين والجيران والأحزاب و...
  إنَّ أهل المعرفة والبصيرة هم الذين يميزون الباطل عن الحقّ، وذلك لما أعطاهم الله من (فرقان) منحةً لتقواهم .

   علي(عليه السلام) محور الحقّ

  هناك الكثير من المطالب المدونة عن فضائل الإمام علي (عليه السلام) وشخصيته وردت في كتب السنة والشيعة، ومن جملة ما اتفق الفريقان على نقله هو الحديث العجيب واللطيف القائل: «علي مع الحقّ والحقّ معه وعلى لسانه ، والحقّ يدور حيثما دار عليّ»(1) وهو حديث منقول عن الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
  إنّ هذا الحديث مقياس معتبر لتمييز الحقّ عن الباطل، ولذلك أفادت بعض الروايات أنَّ المسلمين في صدر الإسلام عندما يتشابه عليهم المسلمون والمنافقون والمتظاهرون بالإسلام ويصعب تمييز ذلك ، أفادوا من هذا المقياس واعتبروا المسلمين هم المحبون لعلي وأتباعه ، المنافقون هم الذين يكنّون العداء والبغض له .(2)
  إنَّ الشيعة تفتخر بأن لها زعيماً عظيماً ومحقاً ما كان يمنعه شيء عن احقاق الحقوق، ما كان يتحمل الانحراف عن جادة الحقّ ولو كان صادراً من صحابي أو أحد أقربائه، وكان يأمر بالجبران بمجرد حصوله .


------------------------------------
(1) بحار الانوار 38: 82، الملفت هنا هو أنَّ مضمون هذه الرواية عنوان لباب مفصّل ، والرواية الواردة هنا نموذج من روايات ذلك الباب.
(2) لقد جاء حديث بهذا المضمون في ميزان الحكمة الباب 3932، الحديث 20292.


  الأمثال في القرآن _ 230 _

  من جملة مصاديق هذا الكلام هو قصة قنبر غلام علي الوفي وعضده التنفيذي في حكومته، لقد أُمر هذا الغلام بإِجراء حدِّ الجلد، إلاّ أنه أخطا في التنفيذ وزاد على الحدّ ثلاث جلدات على المجرم، فأمر هذا القائد المحق قنبر أن يعدّ نفسه لأجل اقتصاص المجرم منه .(1)
  ونقرأ في قضية عقيل أنه ما وافق منحه شيئاً زائداً على ما منحه للمسلمين، بل أحمى حديدة وقرّبها من يد عقيل، فصاح عقيل من شدّة الحرارة.(2)


------------------------------------
(1) وسائل الشيعة ج81، أبواب مقدمات الحدود، الباب 3، الحديث3.
(2) تقدم بيان هذه القصة في البحوث السابقة.


  الأمثال في القرآن _ 231 _

   المثل الثاني والعشرون: التقوى جواز دخول الجنة

  يقول الله تعالى في الآية 35 من سورة الرعد:
  ( مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتي وُعِدَ المُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ أكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقوا وعُقبى الكَافِرِيْنَ النَّارُ ) .

  تصوير البحث
  الآية السابقة، رغم بساطة ظاهرها، تعدّ من أعقد الأمثال القرآنية، إنها بتّت بتشبيه الجنة - التي هي مأوى المتقين - وذكرت لها ثلاث خصال .

  الشرح والتفسير
  إنَّ التشبيه المستخدم في الآية يبدو تشبيهاً بسيطاً، إلاّ أنَّه في الواقع - كما قلنا سابقاً - من أعقد التشابيه المستخدمة في القرآن المجيد.
  يعتقد المفسّرون أنَّ في الآية شيئاً محذوفاً، وهو جملة يجب تقديرها إمَّا في بداية الآية لكي تتلقى الآية خبراً للمبتدأ المحذوف، أو أن نقول بأنَّ صدر الآية مبتدأ، وخبرها محذوف .
  نعتقد نحن أنَّ خبر الآية محذوف، ولأجل اتضاح الأمر نقدّم مقدمة:


   المراحل الأربع قبل الولادة

  إن الإنسان يجتاز أربع مراحل ليكتمل ويكون إنساناً.

  الأمثال في القرآن _ 232 _

  في البداية يكون الإنسان عبارة عن تراب تنمو فيه نبتة أو شجرة ، فيصبح هذا التراب جزءاً من النبات، يأكل حيوان ما هذا النبات ليصبح جزاءاً من بدنه ، يتناول الإنسان لحم هذا الحيوان فيصبح لحم الحيوان هذا جزءاً من بدن الإنسان.
  يمكن بيان المراحل الأربع هذه بشكل آخر بأن نقول: إن الإنسان كان تراباً في يوم من الإيام (المرحلة الأولى) ومن الطبيعي أن الإنسان لا يمكنه تناول التراب مباشرة بل ما تبدّل منه إلى نبات أو حيوان (المرحلة الثانية) في (المرحلة الثالثة) يتبدل النبات أو الحيوان إلى نطفة إنسانية.
  الجنين في مراحله الأولى ينمو نمواً نباتياً ، لأنه يفقد الحس والحركة ، فهو ينمو فقط ، وبعد الشهر الرابع حيث يكون قادراً على الحركة والحس، و عندها تبدأ (المرحلة الرابعة)، وهي تستمر حتى تعلّق الروح بالجنين .
  إنّ لهذه المراحل الأربع عجائب كثيرة، والمرحلة الجنينية من أعجبها.

  عجائب من عالم الجنين

  استطاع العلماء اليوم إعداد صور حيّة عن الجنين، وصنع فيلم مدّته نصف ساعة يصوّر المراحل الجنينية جميعها، وهذا الفيلم بمثابة هدية عجيبة قدّمت للإنسانية في عصرنا الحالي.
  كيف استطاع الله خلق هذه العجائب كلها؟ نلفت انتباهكم إلى نموذجين من هذه العجائب.
  1- نطفة الإنسان تبدأ من خلية واحدة، ثم تنتصف هذه الخلية لتصبح اثنين ، وكلٌّ من هذين الخليتين ينتصفان كذلك لتصبح الخلايا أربعاً، ويستمر الانقسام هكذا بشكل تصاعدي. إنّ هذا التكاثر في الخلايا يستمر حتى تتكون خلايا متشابهة بالكامل وتنقسم حيندئذ إلى مجاميع ، بعض منها يتكفل بخلق رأس الإنسان وبعض يؤمر بخلق العين أو اليد أو الرجل أو غير ذلك .
  إنَّ هذه الخلايا جميعاً متشابهة لكن كيف حصل أن تخصصت البعض في صنع اليد والبعض الآخر بصنع الرجل؟ من أمر هذه الخلايا بالصنع المختلف رغم التشابه الموجود فيها؟ كيف تلهم هذه الخلايا ؟ ومن الذي ألهمها هذه القابلية؟! لم يستطع أحد الكشف عن هذه الأسرار بعد .

  الأمثال في القرآن _ 233 _

  2- إنَّ الجنين في بطن أمه يسبح في كيس خاص مليء بسائل غليظ وزنه يعادل وزن الطفل تقريباً ، وعلى هذا، فالجنين لا يضغط بشكل مباشر على جسم الأم، كما أنَّ الأُم لا تحمّل الطفل ضغطاً مباشراً. يا ترى ما يحدث لو لم يكن ذلك الكيس ؟
  كيف يمكن للجنين أن يحافظ على نفسه ويستمر في حياته رغم ظرافته ونعومته ورغم ما يتعّرض له من ضربات تنشأ عن الجلسة الخاصة للأُم أو نومها في اتجاهات مختلفة ؟
  أعدَّ الله العالم القادر محيطاً وبيئة للجنين تشبه حالة الإنسان عند فقدان الجاذبية، بحيث لا يتأثر بالضغط إذا تعرض له مهما كان اتجاهه، ولهذا عندما يلد يشعر بالوزن، الأمر الذي يحرّضه على الصراخ والصياح .
  إنَّ كيس السائل هو أفضل مكان للجنين. فإنَّ هذا الكيس يصدّ الضربات من أي اتجاه وردت، كما أنَّه يعدّل درجة الحرارة، بحيث إنَّ الام اذا تعرّضت للحرارة الشديدة أو البرودة الشديدة سوف لا تنتقل هذه الحرارة أو البرودة إلى الجنين مباشرة، بل ينتقلان إلى الجنين بعد مرورهما بالسائل الموجودة في الكيس ودور السائل هنا هو تعديل درجة الحرارة ونقلها بعد ذلك لجسم الجنين .
  وعلى هذا الأساس، يقول الله في الآية السادسة من سورة الزمر: ( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس وَاحِدَة ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وأنْزَلَ لَكُم مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أزْوَاج يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْق فِي ظُلُمَات ثَلاث ذلِكُم اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ لاَ إلهَ إلاّ هُوَ فأنَّى تُصْرَفُونَ ) . (1)

  مراحل كمال الإنسان الأربع

  لاجل بلوغ الكمال، على الإنسان أن يطوي أربع مراحل أو عوالم:
  1 - عالم رحم الاُم.
  2 - عالم الدنيا.
  3 - عالم البرزخ.
  4 - عالم القيامة.
  والمدهش هنا أنَّ الإنسان يجتاز كل مرحلة، وهو لا يعلم بالضبط بما تضمّ وتؤول إليه المرحلة اللاحقة.
  إنَّ الطفل في رحم الام لا يمكنه تصوّر مفاهيم الدنيا، حتى لو كان له عقل


------------------------------------
(1) وقد أشارت الآية 14 من سورة المؤمنون إلى نفس المضمون.

  الأمثال في القرآن _ 234 _

  وذكاء كذكاء وفهم ابو علي ابن سيناء ، وحتى لو استطاع أن يتواصل مع امه لتحكي له عن القمر والشمس والليل والنهار والنجوم والاشجار والأزهار والنباتات ، وقد استطاعت أن تبيّن له هذه الأمور بأفصح بيان وأبلغه ، رغم ذلك فهو سوف لا يفهم شيئاً .
  إنَّ مثلنا نحن بالنسبة إلى البرزخ كمثل هذا الطفل بالنسبة إلى الحياة الدنيا، نحن سمعنا بوجود عالم باسم البرزخ قطعاً ، لكن ما هي الف باء تلك الحياة؟ ما معنى أنّ الشهداء هناك أحياء ؟ كيف أنهم يرزقون في ذلك العالم؟ كيف يعذّب الله الروح أو ينعم عليها ؟
  نحن لا ندرك أياً من هذه الامور، إنّ بعض اولياء الله استطاع أن يتصل بعالم البرزخ فسأل أهل البرزخ عن ذلك العالم فأجابوه لا يمكننا وصف هذا العالم بالألفاظ والمفاهيم التي تدركونها انتم في الحياة الدنيا، إنّ مثل مفاهيم البرزخ وألفاظ الدنيا كمثل المصفاة والماء، وهل يتوقف الماء في المصفاة؟!
  إنَّ موقف البرزخيين تجاه مفاهيم القيامة كموقفنا تجاه البرزخ لا يمكنهم استيعاب نعم الجنة، كما لا يمكنهم استيعاب أنواع العذاب في جهنّم .
  وعلى هذا الأساس، تقول الآية الشريفة 17 من سورة السجدة: ( فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِىَ لَهُم مِنْ قُرَّةِ أعْيُن جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .
  إذا أخذنا مفردة (نفس) باطلاقها كانت شاملة للأنبياء والائمة - صلوات الله عليهم أجمعين - وذلك يعني هؤلاء أيضاً لا يعلمون ما أُعدَّ للمؤمنين من نعم في الجنة.
  جاء في حديث قدسي ما يلي: «أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر».(1)
  أي أنَّها نعم لم ترَ في المنام ولا في اليقظة ولا في عالم الخيال ولا التصور، وذلك لأنّ عالم القيامة لا يمكن استيعابه.
  وعلى هذا، فمن جهة أنَّ مفاهيم عالم القيامة مفاهيم لا يمكن استيعابها وإدراكها، ومن جهة أخرى ينبغي بيان نعم الجنة وعذاب الآخرة بشكل يسوق البشر نحو الأعمال الحسنة ويبعدهم عن الأعمال السيئة.


------------------------------------
(1) ميزان الحكمة، الباب 546، الحديث 2529.

  الأمثال في القرآن _ 235 _

  من هنا كان توصيف وبيان هذه الحالات والأعمال بالالفاظ الدنيوية أمراً مستحيلا ولا يمكن بيانها بوضوح ، لذلك كان علينا مزاولة هذا العمل باستخدام المفاهيم الدنيوية المشابهة لتلك المفاهيم والألفاظ الأقرب لهذا البيان، لترتسم بذلك صور قريبة لواقع النعم والعذاب الاخروي .
  كمثال على ذلك، عندما يقال بأنَّ في الجنة أشجاراً، فإنّه لا يمكن القياس والمقارنة بين فوائد الأشجار في العالمين. وبالنسبة إلى تفسير الآية 54 من سورة الرحمن ( وَجَنَى الجَنّتَيْنِ دَان ) فيقال: إنَّ ثمار أشجار الجنة قريبة غير بعيدة بحيث تكون سهلة الوصول. وفي تفسير الآية 48 من السورة المذكورة ( ذَوَاتَا أفْنَان ) يقال: إنّ الغصن الواحد يضمّ ثماراً مختلفة، لكن لا يعرف أنَّ الثمار هناك هي نفسها التي هنا .
  أو أنَّ أصحاب الجنة إذا ما أرادوا الاصغاء إلى الأنغام والموسيقى، أخذت غصون الاشجار تتلاطم وتخرج من نفسها أصواتاً وأنغاماً .
  وعلى هذا، فنحن ندرك وجوه الشبه بين أشجار الدنيا والآخرة، لكنا لا ندرك ولا نشعر بها ولا بما يتولد من أنغام وموسيقى وثمار .
  إيضاح
  مع الالتفات إلى المقدمة، فإنَّ الآية من جملة الآيات التي هي في صدد عرض تشابيه للجنة، وبيان أو ترسيم موقع المتقين فيها. من هنا كان خبر الآية محذوفاً، أي أنَّ الآية كانت بهذا الشكل: ( مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ كجنة تََجْرِي... ) أي أنَّ في الجنة بساتين ليست مثل بساتين دنيانا; لأنّه أولا: أن منابع المياه فيها ذاتية وتلقائية، وتوجد عين قرب كل شجرة ولا حاجة لتأمين المياه من الخارج. ثانياً: أنَّ ثمار الجنة دائمية وفي جميع الفصول. ثالثاً: أنَّ ظل الاشجار هناك دائمي وخالد، أي أنَّ أوراق الاشجار لا تتساقط أبداً.

  الخطابات المهمة للآية
  المستفاد من الآيات العديدة هو كون التقوى هو مقياس الثواب الإلهي في الآخرة.

  الأمثال في القرآن _ 236 _

  في مجال التقوى دوّنت البحوث الكثيرة، ولأجل الاستيعاب الأكثر لهذا المضمون، الذي هو جواز دخول الجنة وميزان قيمة الإنسان وزاده في الآخرة نشير إلى روايتين وردتا هنا:
  1 - يقول الرسول في حديث مختصر وذات مغزى عميق في نفس الوقت: «تمام التقوى أن تتعلّم ما جهلت وتعمل بما علمت».(1)
  بناءً على هذه الرواية، لا يُعدُّ الجهل عذراً، بل على الإنسان أن يتعلّم ما يجهل ليعمل بما علم ويُعاتب الذين يبرّرون أعمالهم بأنهم جهال، ويقال لهم: لماذا لم تتعلموا ؟(2)
  2 - يقول الإمام علي(عليه السلام) في حديث مختصر ومميّز: «من ملك شهوته كان تقياً».(3)
  إنَّ الإنسان بتقواه يتمالك غضبه وشهوته وحب الجاه والمقام وحب الشهرة والتطرّف و... فهو سيتحكم بهذه الامور جميعاً .
  إنَّ هذين الروايتين يعرضان تعريفاً جميلا وجامعاً ومفهوماً للتقوى ، ينبغي السعي والعمل لأجل تحقيق ما ورد في هذين الروايتين الشريفتين وبخاصة في شهر رمضان المبارك ، باعتبار أنَّ التقوى هي جواز دخول الجنّة وزاد الآخرة.


------------------------------------
(1) ميزان الحكمة، الباب 4173، الحديث 22179.
(2) بحار الانوار 2:29 و 180، 7:285.
(3) ميزان الحكمة، الباب 4173، الحديث 22174.


  الأمثال في القرآن _ 237 _

  المثل الثالث والعشرون: أعمال الكفّار

  يقول القرآن في الآية 18 من سورة إبراهيم:
  ( مَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِم أعْمَالُهُمْ كَرَمَاد اشتَدَّتْ بِهِ الرِّيْحُ فِي يَوْم عَاصِف لا يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُوا عَلى شَيء ذَلك هُوَ الضَّلال البَعِيْدُ ) .

  تصوير البحث
  تناولت الآية بيان أعمال الكفار الصالحة، وتلمّح بأنَّ أعمالهم بسبب كفرهم غير مقبولة ، من هنا كان احتمال حساب أعمالهم الصالحة بمعزل عن كفرهم أمراً مرفوضاً .

  ارتباط آية المثل بسابقاتها
  الآيات السابقة تناولت دراسة من اصطلحت عليه ( جَبَّار عَنِيْد ) وهو الشقي الذي يأس من ألطاف الله ورحمته، وأنَّ جهنم ستتطلع إلى أمثال هذا، وسيسقى من ماء متعفن، نتنة رائحته ، وهنا يطرح سؤال وهو: هل سيُتغاضى عن أعمال الكفار الصالحة ؟
  المتعارف أنَّ الأعمال الصالحة قد تصدر من هؤلاء الاشقياء، فيقال عن فرعون مثلا: كان له مطبخ واسع يغذي به بيوت المدينة، وكان يستفيد الجميع من هذا المطبخ ومن طعامه ، من الفقراء والمرضى والحوامل وغيرهم.
  قد تنجز أعمال خيرية مهمة على يد حكام ظلمة ، وهناك الكثير من المساجد التاريخية

  الأمثال في القرآن _ 238 _

  الفخمة التي بنيت على يد هؤلاء الظلمة. إن العتبات المقدسة للائمة المعصومين وغيرهم(عليه السلام)كثيراً ما بُنيت أو عمّرت ووسعت على يد الظلمة، وكمثال على ذلك المسجد الحرام ومسجد النبيّ حيث وسِّعا من قبل زمرة آل سعود الظالمة، كما أن كثيراً من المستشفيات المهمة والجامعات الضخمة والمستوصفات والمدارس العلمية وما شابه ذلك بنيت على يد أمثال هؤلاء الظلمة وبأمر منهم ، لكن يا ترى هل أنَّ هذه الأعمال الصالحة والعظيمة تفقد الأثر ولا تفيد صاحبها شيئاً في الآخرة ؟ ألا تتغمّد هؤلاء الطاف الله ورحمته بسبب هذه الأعمال الكبيرة ؟
  إنَّ آية المثل التي سنقبل على شرحها وتفسيرها في الاسطر المقبلة هي بصدد الاجابة على هذا السؤال المقدر الذي قد يخطر في ذهن القارئ للآيات التي سبقتها .

  الشرح والتفسير
  ( مَثَلُ الّذِيْنَ كَفَرُوا بِرَبِّهِم ) إنَّ أمثال القرآن على قسمين: قسم يُضرب على أعمال الإنسان، وآية المثل هذه من هذا القسم حيث تناولت دراسة أعمال الكفار .
  القسم الآخر هو الامثال التي تضرب على الشخصيات ذاتها بأن يشبّه الاشخاص أنفسهم بشيء ما مثل ما مرّ في الآية الشريفة 261 من سورة البقرة، حيث شبّهت المنفق بحبة الحنطة التي تنتج سبعمائة حبّة .
  على أي حال، الآية الشريفة تناولت اولئك الذين كفروا بربهم، لكن الملفت في الآية هنا هو أنَّها استخدمت مفردة (رب) بدل مفردة (الله)، وكأنها تريد الاشارة إلى الآثار الربوبية في كل مكان ورحمة الله وبركاته على جميع أعضاء جسم الإنسان وفي جميع اللحظات، فهي تريد القول للإنسان: إنَّك تفيد من نعم الله - التي يكفي واحدة منها لشكر الله - كل يوم وعلى طول العمر، رغم ذلك تكفر وتجحد به، مع أنَّ على الإنسان أن يكون شاكراً لله على نعمه دائماً.
  ( أعْمَالُهُمْ كَرَمَاد ) الآية شبَّهت أعمال الكفار الصالحة بالرماد ، ولم تتطرق الآية إلى أعمال الكفار السيئة، وذلك لأنَّها دون القيمة التي تستدعي التطرّق لها وبحثها .

  الأمثال في القرآن _ 239 _

  فوائد الرماد

  نشير هنا إلى بعض من فوائد الرماد وآثاره:
  1 - إذا خلط الرماد بالتربة سينتج سماداً مفيداً جداً، ولهذا نرى البعض يحرق ما تبقى من المزارع بعد الحصاد بغية تبديله إلى سماد جيد.
  2 - إنَّ الرماد ينظف الاشياء الوسخة ويذهب بصدئها ويصقلها، وفي الازمنة السابقة كان الناس يصقلون بعض الصفائح الفلزية بالرماد لكي يصنعوا منها مرآة شفافة .
  3 - الفائدة الاخرى للرماد أنّه يحافظ على النار وحرارته، بحيث إذا ألقينا التراب على النار أنطفأت النار، لكن إذا ألقينا رماداً عليها ضلّت النار تحافظ على نفسها وما انطفأت إلاّ في زمن متأخر .
  ( اشْتَدّتْ بِهِ الرِّيْحُ فِي يَوْم عَاصِف لاَ يَقْدِرُونَ على شيء مِمّا كَسَبُوا ) من الواضح أنَّ اليوم اذا كان عاصفاً أخذ الريح معه كل ما كان خفيفاً ودقيقاً، وكلما كان ذلك الشيء أدق كلّما صعب جمعه، أما اذا كان رماداً فاستحال الجمع ، وذلك لصغر الأجزاء المكونة للرماد وتلوّنها بلون البيئة التي تسقط فيه. وإذا اجتمع اهالي المدينة كلهم ـ لا صاحب الرماد فحسب ـ ما استطاعوا أن يجمعوا شيئاً مما فقدوه من الرماد ولو بمقدار مثقال .
  إنّ عاصفة الكفر والجحود تعمل بأعمال الكافر كما تعمل العاصفة الطبيعية بالرماد، بحيث لا يبقى شيء من ذلك العمل للكافر يتمتع به .
  ( ذَلك هُوَ الضّلاَلُ البَعِيْدُ ) إنَّ انحراف هؤلاء عن الصراط المستقيم كالانحراف والضلال البعيد عن الطريق الذي يصعب جبرانه والرجوع عنه نحو الطريق الصواب.

  خطابات الآية
  1 - الايمان شرط صحة الأعمال
  رصيد الأعمال الحسنة والصالحة هو الايمان، فاذا لم يقترن العمل بالايمان فانه سيفقد قيمته.
  ذكر الفقهاء: أنّ الايمان هو شرط قبول العبادة، بل شرط صحتها، أي أنَّ الصلاة والصوم

  الأمثال في القرآن _ 240 _

  والحج والانفاق وإعانة المحتاجين وغير ذلك من الاعمال تكون فاقدة للقيمة إذا لم تتزامن مع الإيمان.
  ولقد طرح نفس البحث في قضية (الولاية) فاعتقد البعض أنَّ الولاية شرط قبول الأعمال، أي رغم أنَّ الأعمال - من وجهة نظر شيعية - صحيحة إلاّ أنَّ الله لا يقبلها إذا لم تقترن بالاعتقاد بالولاية. وقد يعتقد البعض أنَّها شرط القبول والصحة أي لا يسقط التكليف من ذمة من لا يعتقد بها وإن جاء به .
  في هذا المجال وردت روايات كثيرة في كتب الشيعة نأتي بنموذج واحد منها:
  يقول الإمام الباقر(عليه السلام): «لو أنّ رجلا قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان له على الله حقُّ في ثوابه أبداً».(1)
  إنّ هذه الآية طرحت ذات البحث في أصل الايمان بالله ولّمحت بأنّ الذي لا ايمان له لا ثواب له رغم اتيانه بأفضل الأعمال، وقد طرح هذا البحث في آيات عديدة أُخرى نشير إلى بعض منها:
  الف - لقد جاء في الآية 264 من سورة البقرة التي مرّ الحديث عنها ما يلي:
  ( ... كَالّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِر فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَان عَلَيْهِ تُرَابٌ فأصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيء مِمّا كَسَبُوا واللهُ لا يَهْدِي القَومَ الكَافِرِينَ ) .
  باء - جاء في الآية 39 من سورة النور:
  ( وَالّذِيْنَ كَفَرُوا أعْمَالُهُم كَسَرَاب بَقِيْعَة يَحْسَبُهُ الظمآنُ ماءً حتّى إذا جآءَه لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَه فَوَفّاهُ حِسَابَهُ واللهُ سَرِيْعُ الحِسَابِ ) .
  جيم - ويقول الله في الآية 23 من سورة الفرقان:
  ( وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِن عَمَل فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَنْثُورَاً ) وهذه الآية كغيرها لم تمنح أي قيمة


------------------------------------
(1) وسائل الشيعة 1:91.

  الأمثال في القرآن _ 241 _

  للعمل إذا لم ينشأ عن إيمان.
  دال - جاء في الآية 54 من سورة التوبة:
  ( وَمَا مَنَعَهُم أنْ تُقْبَلَ نَفَقَاتُهُمْ إلاّ أنَّهُمْ كَفَرُوا باللهِ ورَسُولِهِ ولا يأتُونَ الصَّلاةَ إلاّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنْفِقُونَ إلاّ وَهُمْ كَارِهُونَ ) .
  إنَّ هذه الآية كذلك تعتبر الإيمان شرط قبول العمل، وعليه ، فإنّ الآية المذكورة وآيات وروايات كثيرة اخرى عدّت الإيمان شرطاً لصحة العمل وكماله ، كما أنَّ بعض الآيات والروايات اعتبرت الولاية بنفس المستوى ومنحت الاعتقاد بها نفس القيمة التي منحتها هذه الآيات لمبدأ الايمان بالله .

  لماذا الإيمان والولاية شرطان لصحة العمل ؟

  بعبارة أُخرى: لماذا لم يفتح الله لاعمال الكفار الصالحة أو الطالحة حساباً مستقلا ، بأن يحاسب الكافر على أعماله الطالحة بمعزل عن حسابه لأعماله الصالحة ؟
  الجواب: لقد جاء جواب هذا السؤال في الآيات والروايات التي عدّت الولاية والإيمان شرطين لصحة الأعمال.
  جاء في رواية تقدمت أنَّ الإمام(عليه السلام) يقول: «ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه»، أي أنَّ للأعمال الصالحة شروطاً ومقدمات وملابسات يحدّدها الإمام المعصوم نفسه وإذا لم تتم بتنسيق معه فانها قد تكون ناشئة عن هوى وهوس وتصبّ في غير مجالها .
  إنّ غير المؤمنين عندما يؤدون أعمالا صالحة مثل المرضى الذين يداوون أنفسهم بعقاقير خاصة من دون مراجعة طبيب ، ومعالجة من هذا القبيل قد تلحق بالإنسان أضراراً كثيرة تصل إلى الموت أحياناً .
  إنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) والأئمّة(عليهم السلام) هم أطباء روحيون، ولأجل أن يداوي إنسان أوجاعه، عليه بالعمل حسب وصفتهم لا وصفة غيرهم.
  من هنا يقسم الإمام علي(عليه السلام) - في كلام جميل يخاطب به كميل بن زياد - الناس إلى ثلاثة أصناف:

  الأمثال في القرآن _ 242 _

  1 - العلماء الربانيون الذين وجدوا وسلكوا طريق الهداية والصراط المستقيم.
  2 - المتعلّمون والذين هم في طريقهم إلى المعرفة ويفيدون من العلماء والاساتذة لبلوغ طريق الهداية والنجاة .

15 ـ المثل الخامس عشر: البلد الطيّب
*   الناس ثلاثة أصناف
*  الفاعلية اكتسابية أم جبرية ؟
16 ـ المثل السادس عشر: العالم المنحرف
*   خطر العلماءالمنحرفين
*  عالم الدين من وجهة نظر الإمام الحسن العسكري(عليه السلام)
17 ـ المثل السابع عشر: مسجد ضرار
*    أبو عامر النصراني العدّو اللدود للإسلام
*   الأمر بتخريب مسجد ضرار
18 ـ المثل الثامن عشر : الدنيا العابرة
*   فلسفة المثل
*    تفسير وتطبيق للمثل المذكور
19 ـ المثل التاسع عشر: الكافر والمؤمن
*    سيرة الكافرين
*    سيرة المؤمنين
*   العين من أعظم آيات الله
*    الاُذن آية الله الاخرى
*   العين والاذن وسيلتان مهمتان للمعرفة
*   الكافر يفتقد وسائل المعرفة
*    كيف يمكن إزالة الحجب ؟
*   علامات المؤمن
20 ـ المثل العشرون:الذين يدعون من دون الله
*   البرق والسحب الثّقال
*   كيف يسبب البرق نزول المطر ؟
*    الرعد دليل على عظمة الله
*    الدعاء من وجهة نظر القرآن والروايات
*   الدعاء أفضل عبادة
*    لماذا عبّر القرآن بالعبادة عن الدعاء ؟
*   سر الدعاءفي الإسلام
*   العلاقة بين الدعاء والتربية
*    موانع وشروط استجابة الدعاء
*    استجابة بعض الأدعية ليست بمصلحة الإنسان!
*    سؤالان مهمان عن الدعاء
21 ـ المثل الحادي والعشرون: الحق والباطل
*    الحق والباطل من وجهة نظر الآيات والروايات
*   دولة الباطل ودولة الحق
*   الحق مر والباطل حلو
*   الباطل يتقمّص قميص الحق دائماً
*   علي (عليه السلام) محور الحقّ
22 ـ المثل الثاني والعشرون: التقوى جواز دخول الجنة
*   المراحل الأربع قبل الولادة
*   عجائب من عالم الجنين
*   مراحل كمال الإنسان الأربع
23 ـ المثل الثالث والعشرون: أعمال الكفّار
*   فوائد الرماد
*   لماذا الإيمان والولاية شرطان لصحة العمل ؟
Copyright © 2018 bascity Network, All rights reserved
                   BASRAHCITY.NET