اتصل بنا مؤمنــــة البطاقات انتصار الدم مساجد البصرة واحة الصائم المرجعية الدينية الرئيسية

القصص القرآني (1)

رجوع

  1 - الفرق بين القصص القرآني وغيره
  يختلف القصص القرآني عن غيره من القصص في ناحية اساسية هي ناحية الهدف والغرض الذي جاء من أجله.
  ذلك ان القرآن الكريم لم يعرض القصة لانها عمل فني مستقل في موضوعه وطريقة التعبير فيه ، كما انه لم يأت بالقصة من أجل التحدث عن اخبار الماضين وتسجيل حياتهم وشؤونها كما يفعل المؤرخون وانما كان عرض القصة في القرآن الكريم مساهمة في الاساليب العديدة التي سلكها لتحقيق أهدافه وأغراضه الدينية التي جاء الكتاب الكريم من أجلها.
  فالقرآن الكريم ـ كما عرفنا في وقت سابق رسالة دينية قبل كل شيء تهدف بصورة اساسية الى عملية التغيير الاجتماعي بجوانبها المختلفة.. هذه العملية التي وجدنا بعض مظاهرها وآثارها في طريقة نزول القرآن التدريجي وفي طريقة المفاهيم المختلفة الامر الذي أدى الى نشوء كثير من الدراسات القرآنية عرفنا منها الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والمكي والمدني .
  لذا فلا بُدَّ لنا حين نريد ان ندرس القصة القرآنية ان نضع أمامنا هذا الهدف القرآني العام لنتعرف من خلاله على الاسلوب الذي اتبعه القرآن الكريم في عرضه القصة القرآنية مساهمة منه في تحقيق هذا الهدف .

  2 - أغراض القصة في القرآن الكريم
  لقد جاءت القصة في القرآن الكريم لتساهم في عملية التغيير الانساني بجوانبها المتعددة فما هي الاغراض ذات الاثر الرسالي التي استهدفتها القصة القرآنية .
  وبهذا الصدد نجد القصة القرآنية تكاد تستوعب في مضمونها وهدفها جميع الاغراض الرئيسية التي جاء من أجلها القرآن الكريم (2) ونظراً لكثرة هذه الاغراض وتشعبها نجد من المستحسن أن نقصر في عرضنا لاغراض القصة في القرآن على الاغراض القرآنية المهمة لنتعرف من خلال ذلك على أهمية ذكر القصة في القرآن الكريم والفوائد التي تترتب عليها .
  أ - اثبات الوحي والرسالة ـ وان ما جاء في القرآن الكريم لم يكن من عند محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وانما هو وحي أوحاه اللّه تعالى اليه وأنزله هداية للبشرية .
  وقد اشرنا الى هذا الهدف القرآني من القصة عند بحثنا لإعجاز القرآن الكريم حيث عرفنا : ان حديث النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عن اخبار الامم السالفة وأنبيائهم ورسلهم بهذه الدقة والتفصيل والثقة والطمأنينة ، مع ملاحظة ظروفه الثقافية والاجتماعية كل ذلك يكشف عن حقيقة ثابتة وهي تلقيه هذه الانباء والاخبار من مصدر غيبي مطلع على الاسرار وما خفي من بواطن الامور، وهذا المصدر هو اللّه سبحانه وتعالى .
  وقد نص القرآن الكريم على ان من أهداف القصة هو هذا الغرض السامي وذلك في مقدمة بعض القصص القرآنية أو ذيلها .
  فقد جاء في سورة يوسف : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) يوسف : 3.
  وجاء في سورة القصص بعد عرضه لقصة موسى : (وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) القصص : 44 - 46.
  وجاء في سورة آل عمران في مبدأ قصة مريم (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) آل عمران 44.
  وجاء في سورة (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل عرضه لقصة آدم (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ) ص 67 - 70.
  وجاء في سورة هود بعد قصة نوح (تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) هود 49.
  فكل هذه الآيات الكريمة وغيرها تشير الى أن القصة انما جاءت في القرآن تأكيداً لفكرة الوحي التي هي الفكرة الاساس في الشريعة الاسلامية .
  ب - وحدة الدين والعقيدة لجميع الانبياء وان الدين كله من اللّه سبحانه وان الاساس للدين الذي جاء به الانبياء المتعددون هو اساس واحد لا يختلف بين نبي وآخر، فالدين واحد ومصدر الدين واحد أيضاً وجميع الانبياء أمة واحدة تعبد هذا الاله الواحد وتدعو اليه.
  وهذا الغرض من الاهداف الرئيسية للقرآن الكريم حيث يهدف القرآن من جملة ما يهدف اليه.. ابراز الصلة الوثيقة بين الاسلام الحنيف وسائر الاديان الالهية الاخرى التي دعى اليها الرسل والانبياء الآخرون ليحتل الاسلام منها مركز الخاتمة التي يجب على الانسانية أن ينتهي اليها، ويسد الطريق على الزيغ الذي يدعو الى التمسك بالاديان السابقة على أساس انها حقبة موحاة من قبل اللّه تعالى .
  وبالاضافة الى ذلك تظهر الدعوة على انها ليست بدعاً في تاريخ الرسالات وانما هي وطيدة الصلة بها في اهدافها وافكارها ومفاهيمها (قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ ).
  وعلى اساس هذا الغرض تكرر ورود عدد من قصص الانبياء في سورة واحدة ومعروضة بطريقة خاصة لتؤكد هذا الارتباط الوثيق بينهم في الوحي والدعوة التي تأتي عن طريق هذا الوحي. ولنضرب لذلك مثلاً ما جاء في سورة الانبياء :
  (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ * وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ؟).
  (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ..) الى قوله : (وأرادوا به كيداً فجعلناهم الاخسرين، ونجيناه ولوطاً الى الارض التي باركنا فيها للعالمين، ووهبنا له اسحاق ويعقوب نافلة وكلاً جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا اليهم فعل الخيرات، واِقام الصلاة وايتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين).
  (ولوطاً آتيناه حكماً وعلماً وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ).
  (وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ).
  (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ ؟).
  (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ).
  (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ {الأنبياء/83} فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ).
  (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ ).
  (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ).
  (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).
  (والتي احصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين).
  (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ).
  ويبدو ان القرآن الكريم يريد أن يشير الى الغرض الاصيل من هذا الاستعراض لقصص الانبياء بالآية الخاتمة المعبرة عن هذه الوحدة العميقة الجذور في القدم للامة المؤمنة بالاله الواحد.. وتأتي بقية الاغراض الاخرى في ثنايا الغرض، ومثال آخر يوضح وحدة العقيدة الاساسية التي استهدفها الانبياء في تاريخهم الطويل وفي نضالهم المتواصل.. هذه العقيدة التي تدعو الى الايمان باللّه سبحانه الهاً واحداً لا شريك له في ملكه ، وذلك ما جاء في سورة الاعراف .
  (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ... الخ).
  (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ : يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ.. الخ).
  (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ : يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ.. الخ).
  (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ : يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ.. الخ).
  فالاله واحد والعقيدة واحدة والانبياء امة واحدة والدين واحد وكله لواحد هو اللّه سبحانه .
  ج - بيان ان وسائل الانبياء واساليبهم في الدعوة واحدة وطريقة مجابهة قومهم لهم واستقبالهم متشابهة وان القوانين والسنن الاجتماعية التي تتحكم في تطور الدعوة وسيرها واحدة ايضاً. فالانبياء يدعون الى الاله الواحد ويأمرون بالعدل والاصلاح والناس يتمسكون بالعادات والتقاليد البالية ويصر على ذلك الطواغيت والجبابرة منهم بشكل أخص.
  وتبعاً لهذه الاهداف ترد قصص كثيرة من الانبياء مجتمعة مكررة فيها طريقة الدعوة على نحو ما جاء في سورة هود :
  (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ : إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ). الى ان يقول : (وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ ) والى ان يقولوا له : (يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ )... الخ.
  (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ : يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ * يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ؟) الى قوله (قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ : إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ : إِنِّي أُشهِدُ اللّه وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ)... الخ.
  (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ * قَالُواْ : يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ... الخ).
  ومثل هذه المواقف نجدها في سورة الشعراء أيضاً.
  د - بيان نصرة اللّه لانبيائه وان نهاية المعركة تكون في صالحهم مهما لاقوا من العنت والجور والتكذيب ، كلّ ذلك تثبيتاً لرسوله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) واصحابه وتأثيراً في نفوس من يدعوهم الى الايمان وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين .
  وتبعاً لهذا الغرض وردت بعض قصص الانبياء مؤكدة على هذا الجانب بل جاءت بعض هذه القصص مجتمعة ومختومة بمصارع من كذبوهم وقد يتكرر عرض القصة نتيجة لذلك كما جاء في سورة هود والشعراء والعنكبوت ولنضرب مثلاً من سورة العنكبوت.
  (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ ـ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ـ فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ).
  (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ).
  الى ان يقول : (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا : اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )... الخ.
  (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ ..).
  الى ان يقول : (إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ).
  (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ : يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ).
  وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ).
  (وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ).
  (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) فهذه هي النهاية الحتمية التي يريد ان يصورها القرآن الكريم لمعارضي الانبياء والمكذبين بدعوتهم .
  ه - تصديق التبشير والتحذير ـ فقد بشر اللّه سبحانه عباده بالرحمة والمغفرة لمن أطاعه منهم وحذرهم من العذاب الاليم لمن عصاه منهم ، ومن أجل ابراز هذه البشارة والتحذير بصورة حقيقية متمثلة في الخارج عرض القرآن الكريم لبعض الوقائع الخارجية التي تتمثل فيها البشارة والتحذير .
  فقد جاء في سورة الحجر التبشير والتحذير أولاً ثم عرض النماذج الخارجية لذلك ثانياً .
  (نبّئ عبادي اِنِّي انا الغفور الرحيم وأَنَّ عذابي هو العذاب الاليم).
  وتصديقاً لهذه أو ذلك ، جاءت القصص على النحو التالي :
  (ونبئهم عن ضيف ابراهيم. اذ دخلوا عليه فقالوا : سلاماً. قال : اِنّا منكم وجلون. قالوا : لا توجل انا نبشرك بغلام عليم)... الخ وفي هذه القصة تبدو الرحمة والبشارة.
  ثم (فلما جاء آل لوط المرسلون. قال انكم قوم منكرون. قالوا : بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتيناك بالحق وانا لصادقون فأسر باهلك بقطع من الليل واتبع ادبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون. وقضينا اليه ذلك الامر : اَنَّ دابر هؤلاء مقطوع مصبحين..) الخ. وفي هذه القصة تبدو (الرحمة) في جانب لوط ويبدو (العذاب الاليم) في جانب قومه المهلكين.
  ثم : (ولقد كذَّبَ أصحاب الحجر المرسلين وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين).
  (وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين فأَخَذَتهُم الصيحة مصبحين. فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون). وفي هذه القصة يبدو (العذاب الاليم) للمكذبين. وهكذا يصدق الانباء ويبدو صدقه في هذه القصص الواقع بهذا الترتيب.
  و - بيان نعمة اللّه على انبيائه ـ ورحمته بهم وتفضله عليهم وذلك توكيداً لارتباطهم وصلتهم معه كبعض قصص سليمان وداود وابراهيم ومريم وعيسى وزكريا ويونس وموسى حيث بعض الحلقات من قصص هؤلاء الانبياء تبرز فيها النعمة في مواقف شتى ويكون ابرازها هو الغرض الاول منها وما سواه يأتي في هذا الموضوع عرضاً .
  ز - بيان غواية الشيطان للانسان ـ وعداوته الابدية له وتربصه به الدوائر والفرص وتنبيه بني آدم لهذا الموقف المعين منه . ولا شك ان ابراز هذه المعاني والعلاقات بواسطة القصة يكون اوضح وادعى للحذر والالتفات لذا نجد قصة آدم تكرر باساليب مختلفة تأكيداً لهذا الغرض. بل يكاد ان يكون هذا الغرض هو الهدف الرئيسي لقصة آدم كلها .
  ح - بيان اغراض اخرى ترتبط بالتربية الاسلامية وجوانبها المتعددة
  فقد استهدف القرآن بشكل رئيسي تربية الانسان على الايمان بالغيب وشمول القدرة الالهية لكل الاشياء كالقصص التي تذكر الخوارق والمعاجز كقصة خلق آدم ومولد عيسى وقصة ابراهيم مع الطير الذي آب اليه بعد أن جعل على كل جبل جزءاً منه وقصة (الذي مرَّ على قريةٍ وهي خاوية على عروشها)، واحياء اللّه بعد موته مائة عام .
  كما استهدف تربية الانسان على فعل الخير والاعمال الصالحة وتجنبه الشر والفساد وذلك ببيان العواقب المترتبة على هذه الافعال : كقصة النبي آدم وقصة صاحب الجنتين وقصص بني اسرائيل بعد عصيانهم وقصة سد مأرب وقصة اصحاب الاخدود. ومما استهدفه القرآن الكريم في التربية الاستسلام للمشيئة الالهية والخضوع للحكمة التي ارادها اللّه سبحانه من وراء العلاقات الكونية والاجتماعية في الحياة وذلك ببيان الفارق بين الحكمة الالهية ذات الهدف البعيد والحكمة الانسانية القريبة العاجلة كما جاء في قصة موسى من (عبد من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً) الى آخر ذلك من الاغراض الوعظية والتربوية الاخرى التي سوف نطلع على بعضها في دراستنا التفصيلية لقصة موسى (عليه السلام).

  3 - تكرار القصة في القرآن الكريم :
  من المشاكل التي تثار حول القصة في القرآن الكريم هي مشكلة تكرار القصة الواحدة في مواضع مختلفة من القرآن حيث يقال : ان هذا التكرار قد يشكل نقطة ضعف في القرآن الكريم لان القصة بعد ان تذكر في القرآن مرة واحدة تستنفد أغراضها الدينية والتربوية والتاريخية .
  وقد أثيرت هذه المشكلة في زمن متقدم من البحث العلمي لذا نجد اشارة الى ذلك في مفردات الراغب الاصفهاني وفي مقدمة تفسير التبيان للشيخ الطوسي (3).
  والطوسي وان كان يبدو انه لم يعالج المشكلة بشكل رئيس ، ولكنه يدل على الاقل ان المشكلة قد طرحت على صعيد البحث القرآني، ونحن هنا نذكر بعض الوجوه التي يمكن ان تكون تفسيراً لتكرار القصة الواحدة في القرآن الكريم.
  الاول - ان التكرار انما يكون بسبب تعدد الغرض الديني الذي يترتب على القصة الواحدة وقد عرفنا مدى الآثار التي خلفها الغرض الديني في القصة وتكرارها بسببه وذلك في بحثنا السابق لاغراض القصة (4).
  الثاني - ان القرآن الكريم اتخذ من القصة اسلوباً لتأكيد بعض المفاهيم الاسلامية لدى الامة المسلمة. وذلك عن طريق ملاحظة الوقائع الخارجية التي كانت تعيشها الامة وربطها لواقع القصة من حيث وحدة الهدف والمضمون .
  وهذا الربط بين المفهوم الاسلامي في القصة والواقعة الخارجية المعاشة للمسلمين قد يؤدي الى فهم خاطئ للمفهوم المراد اعطاؤه فيفهم انحصاره في نطاق الواقعة المستحدثة التي عاشتها القصة فتأتي القصة الواحدة في القرآن الكريم مكررة من أجل تفادي هذا الحصر والتضييق في المفهوم وتأكيد اتساعه لكل الوقائع والاحداث المتشابهة ليتخذ صفة القانون الأخلاقي أو الطبيعي الذي ينطبق على كل الوقائع والاحداث.. بالاضافة الى فاعليته كمنبه للامة على علاقة القضية الخارجية التي تواجهها بالمفهوم الاسلامي لتستمد منه روحه ومنهجه .
  ولعل هذا السبب هو ما يمكن ان نلاحظه في تكرار قصة موسى والفرق بين روحها العامة في القصص المكي والقصص المدني.
  فانها تؤكد في القصص المكي منها على العلاقة العامة بين موسى من جانب وفرعون وملائه من جانب آخر ، دون ان تذكر اوضاع بني اسرائيل تجاه موسى نفسه ، الا في موردين يذكر فيهما انحراف بني اسرائيل عن العقيدة الالهية بشكل عام ، وهذا بخلاف الروح العامة لقصة موسى في السور المدنية فانها تتحدث عن علاقة موسى مع بني اسرائيل وتذكر لها ارتباطاً بالمشاكل الاجتماعية وهذا قد يدلنا على ان هذا التكرار للقصة في السور المكية .
  يعني نزول القصة لمعالجة روحية في حوادث مختلفة كانت تواجه النبي والمسلمين من أهداف هذه المعالجة توسعة نطاق المفهوم العام الذي تعطيه قصة موسى في العلاقة بين النبي والجبارين من قومه .
  وان هذه العلاقة مع نهايتها لا تختلف فيها حادثة عن حادثة أو موقف عن موقف ، ولعل الى هذا التفسير تشير الآيات الكريمة التي جاءت في سورة الفرقان : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا * الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا )... الفرقان : 32 - 41.
الثالث : ان الدعوة الاسلامية مرت بمراحل متعددة في سيرها الطويل وقد كان القرآن الكريم يواكب هذه المراحل ويماشيها في عطائه وطبيعة اسلوبه، وهذا كان يفرض ان تعرض القصة الواحدة باساليب متفاوتة في الطول والقصر .. نظراً لطبيعة ظروف الدعوة وطريقة بيان المفاهيم والعبر فيها ، كما نجد ذلك في قصص الانبياء حين تعرض في السورة القصيرة المكية، ثم يتطور العرض بعد ذلك الى شكل أكثر تفصيلاً في السور المكية المتأخرة أو السور المدنية .
  الرابع : ان طريقة عرض القصة القرآنية قد تستبطن مفهوماً دينياً يختلف عن المفهوم الديني الآخر الذي تستبطنه طريقة عرض اخرى ، هذا الامر الذي نسميه بالسياق القرآني وهذا يقتضي التكرار أيضاً لتحقيق هذا الغرض السياقي الذي يختلف عن الغرض السياقي الآخر لنفس القصة وسوف تتضح معالم هذه النقاط بشكل أكثر عند دراستنا التطبيقية التالية لقصة موسى في القرآن الكريم .
  4 - دراسة قصة موسى بحسب ذكرها في مواضعها من القرآن الكريم :
  تعتبر قصة موسى عليه السلام من أكثر قصص الانبياء وروداً في القرآن الكريم وتفصيلاً ونعنى هنا بالوارد القرآنية لهذه القصة : الموارد التي تحدث القرآن الكريم فيها عن علاقة موسى من قومه أو لحالة اجتماعية قارنت عصره ، وسوف ندرس قصة موسى في القرآن الكريم لنأخذها نموذجاً لدراسة تفضيلية تستوعب قصص جميع الانبياء المذكورين في القرآن الكريم ، كما اننا سنلاحظ النقاط التالية بعين الاعتبار في دراستنا للقصة هذه .
  أ - التنبيه الى اسرار تكرار القصة الواحدة في القرآن.
  ب - التنبيه الى الغرض الذي سيقت له في كل مقام .
  ج - التنبيه الى أسرار تغاير الاسلوب في القصة بحسب المواضع.
  ولكننا نكتفي هنا بالتنبيه بشكل اجمالي الى هذه النقاط لنترك معالجة جميع التفصيلات الى دراسة مستوعبة في ظرف آخر.
  وعلى هذا الاساس سوف نتناول القصة من زاوية نحو تسعة عشر موضعاً من القرآن الكريم ونترك المواضع الاخرى التي جاءت فيها القصة بشكل اشارات أو تلميحات .
  الموضع الاول :
  الآيات التي جاءت في سورة البقرة والتي تبدأ بقوله تعالى :
  (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ..) الى ان يختم بقوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ). والملاحظ في هذا المقطع.
  اولاً -
  جاء في سياق قوله تعالى - يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ .. ـ الخ.   ثانياً - انه يتناول احداثاً معينة انعم الله بها على بني اسرائيل مرة بعد الاخرى مع الاشارة الى ما كان يعقب هذه النعم من انحراف في الايمان بالله تعالى او في الموقف العبادي الذي تفرضه طبيعة هذا الايمان.
  ثالثاً - ان القرآن الكريم بعد ان يختم هذا المقطع يأتي ليعالج الموقف الفعلي العدائي لبني اسرائيل من الدعوة ويربط هذا الموقف بالمواقف السابقة لهم بقوله تعالى :( أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ..).
  وعلى اساس هذه الملاحظة يمكننا ان نقول ان هذا المقطع جاء يستهدف غرضاً مزدوجاً وهو تذكير بني اسرائيل بنعم الله المتعددة عليهم وذلك موعظة وعبرة لهم تجاه موقفهم الفعلي من ناحية ، ومن ناحية اخرى كشف الخصائص الاجتماعية والنفسية العامة التي يتصف بها الشعب الاسرائيلي للمسلمين .
  وهذا الغرض فرض اسلوباً معيناً على استعراض الاحداث اذ اقتصر المقطع على ذكر الوقائع التي تلتقي مع هذا الغرض دون أن يعرض التفصيلات الاخرى للاحداث التي وقعت لموسى عليه السلام .
  الموضع الثاني :
  الآيات التي جاءت في سورة النساء : والتي تبدأ بقوله تعالى (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا ..) الى قوله تعالى : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ).
  والملاحظ في هذا المقطع :
  اولاً : انه جاء ضمن سياق عرض عام لمواقف فئات ثلاث من اعداء الدعوة الاسلامية تجاهها وهو موقف المنافقين. وموقف اليهود من اهل الكتاب وموقف النصارى من اهل الكتاب وعرض الموقف الاول يبدأ بقوله تعالى : (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا..) وعرض الموقف الثاني يبدأ بقوله تعالى :
  (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ..) وعرض الموقف الثالث يبدأ بقوله تعالى : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ .. الآية).
  ثانياً : ان المقطع يتناول بعض الاحداث ذات الدلالة على نبوة موسى والمواثيق الغليظة المأخوذة على اليهود بصدد الامتثال والطاعة وموقف اليهود من ذلك والمخالفات التي ارتكبوها سواء فيما يتعلق بالجانب العقيدي من الفكرة او بالجانب العملي التطبيقي منها ، وعلى اساس هاتين الملاحظتين : يمكن أن :
  نستنتج ان هذا المقطع من القصة جاء ليوضح ان موقف اليهود من الدعوة بطلبهم المزيد من الآيات والبينات ليس نابعاً من الشك بالرسالة وانما هو موقف شكلي يستبطن الجحود والطغيان ، ولذا نجد المقطع يكتفي بعرض هذا الطلب العجيب الذي تقدم به اليهود الى موسى ويضيف الى ذلك المواثيق التي أخذت منهم في الطاعة ونكولهم عنها بمخالفتهم العديدة الامر الذي يكشف عن اصرارهم على الجحود والطغيان .
  وقد فرض السياق العام للسورة الكريمة تكرار القصة على اساس ايضاح ومعالجة موقف اليهود من الدعوة الى جانب ايضاح ومعالجة موقف المنافقين والنصارى من اهل الكتاب، لأن هذه المواقف هي المواقف الرئيسة التي كانت تواجهها الدعوة الاسلامية حينذاك .
  الموضع الثالث : الآيات التي جاءت في سورة المائدة وهي قوله تعالى : (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ ...) الى قوله تعالى (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) ويلاحظ في هذا المقطع :
  اولاً : انه جاء في سياق دعوة عامة لاهل الكتاب الى الايمان بالرسول الجديد مع ايضاح حقيقة رسالته مع مناقشة ما يقوله اليهود والنصارى واقامة الحجة عليهم بذلك اذ يختم هذا السياق بقوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
  ثانياً : ان المقطع يكتفي بان يذكر دعوة موسى لقومه الى دخول الارض المقدسة التي كانت منتهى آمالهم. ولكنهم يأبون ذلك فيكون مصيرهم التيه.
  وعلى اساس هاتين الملاحظتين يمكن ان نستنتج : ان القرآن الكريم يبدو وكأنه يريد ان يفتح الطريق امام اهل الكتاب ليحققوا اهدافهم الحقيقية من وراء الدين والشريعة بدخولهم دعوة الاسلام ولا يكون موقفهم كموقف قوم موسى حين دعاهم الى دخول الارض المقدسة، مع انها امنيتهم وهدفهم فتفوتهم الفرصة السانحة ويصيبهم التيه الفكري والعقائدي والاجتماعي .
  ومن هنا نعرف السر الذي كان وراء اكتفاء القرآن الكريم بذكر هذا الموقف الخاص لبني اسرائيل دون غيره لانه هو الذي يحقق هذا الغرض خصوصاً اذا عرفنا ان هذه القصة مما يؤمن بها اليهود والنصارى .
  لموضع الرابع :
  الآيات التي جاءت في سورة الاعراف والتي تبدأ بقوله تعالى : (ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا الى فرعون وملائه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) والتي تختم بقوله تعالى : (وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ).
  وتُلاحظ في هذا الموضع من القصة عدة امور :
  اولاً - ان القصة جاءت في عرض قصصي مشترك مع نوح وهود ولوط وشعيب تكاد ان تتحدد فيه صيغة الدعوة والتكذيب والعقاب الذي ينزل بالمكذبين .
  الثاني : ان هذا العرض القصصي العام يأتي في سياق بيان القرآن الكريم لحقيقة حشر الناس وانهم يحشرون امماً بكاملهم . من الجن والانس وعلى صعيد واحد يتلاعنون بينهم او يتحابون (قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ .. الخ).
  (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {الأعراف/42} وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ). ثم يعرض القرآن الكريم مشاهد متعددة عن هذا الحشر وبعض العلاقات التي تسود الناس فيه وانه تصديق لدعوة الرسل.
  الثالث : ان القصة على ما جاء بها من التفصيل واستعراض للحوادث فهي تبدأ في سرد الوقائع من حين بدء البعثة والدعوة ، كما انها تذكر الوقائع في حدود المجابهة التي كان يواجهها الرسول الخارجية والداخلية وفي اطار .

¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤

(1) اعتمدنا في بحث أغراض القصة على ما كتبه سيد قطب في كتابه التصوير الفني في القرآن 120 - 141 وعلى ما سجله السيد رشيد رضا في مواضع مختلفة من كتابه تفسير المنار.
(2) يمكن أن نقسم الاغراض القرآنية للقصة الى قسمين رئيسيين :
اولاً : الاغراض ذات المدلول الموضوعي كمحاولة القرآن الكريم من وراء سرد القصة اثبات صحة النبوة أو اثبات وحدة الرسالات الالهية أو شرح بعض القوانين التي تتحكم في المجتمع.
الثاني : الاغراض ذات المدلول الذاتي التربوي كمحاولة القرآن الكريم من وراء سرد القصة تربية الانسان على الايمان بالغيب أو خضوعه للحكمة الالهية أو التزامه بالاخلاف الاسلامية.
(3) التبيان : مقدمة المؤلف 1/14.
(4) لزيادة الايضاح راجع التصوير الفني في القرآن : 128 - 134.

Copyright © 2018 bascity Network, All rights reserved
                   BASRAHCITY.NET