والمشاعر ما ليس في قلوبهن ، بل يفكرن في مصالحهن حتى لو استوجب ذلك لهن التذلل والتملق والخضوع لمن ليس أهلاً لذلك ، أنتم ـ يا أهل الكوفة ! كذلك تتملقون إلى حكامكم ... من منطلق المصالح ، لا الإخلاص والوفاء ! « وغمز الأعداء »
   الغمز : الإشارة بالجفن والحاجب (1) ولعل السيدة زينب ( عليها السلام ) تقصد من هذه الكلمة : أنكم يا أهل الكوفة انتم غمز الأعداء ، أي : إن الأعداء ( وهم : ابن زياد وحاشيته ) ينظرون إليكم من جانب عيونهم غمزاً ... ويتعاملون معكم بمنتهى التحقير والإذلال ، فلا كرامة لكم عندهم ، بل يريدونكم عبيداً وخدماً وجسوراً للوصول إلى أهدافهم ... من دون أن يكنوا إليكم أية محبة أو تقدير أو إحترام.
   فيعتبر هذا الكلام ـ من السيدة زينب ـ تنبيهاً لأهل الكوفة على مدى فقدان عزة النفس لديهم ، حيث جعلوا أنفسهم أدوات طيعة وذليلة بيد أفراد لؤماء ، وهم ناسين للكرامة التي أرادها الله تعالى للبشر .
   إننا نرى ـ في زماننا هذا ـ أن الموظفين المتكبرين

---------------------------
(1) كتاب « العين » للخليل بن أحمد.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 302 _

   لا يرفعون رؤوسهم ليستمعوا إلى ما يقوله المراجع لهم ، بل ينظرون إليه بجانب عيونهم تحقيراً وإذلالاً له !!
   وهكذا كانت نظرة الحكام إلى أعوانهم والمتعاطفين معهم .
   ثم ذكرت السيدة زينب ( عليها السلام ) مثالاً آخر لبيان حقيقة أهل الكوفة والكشف عن واقعهم ، وأن ظاهرهم يختلف ـ تماماً ـ عن باطنهم ، وأن ما يقولونه بألسنتهم ، فشبهتهم بالأعشاب التي تنبت وتنمو في أماكن وسخة وغير صحية ، فقالت ( عليها السلام ) :
   « أو كمرعى على دمنة »
   المرعى : محل العشب الذي يسرح فيه القطيع.
   الدمنة : المحل الذي تتراكم فيه أرواث الحيوانات وابوالها وتختلط مع التراب في مرابضهم ، فتتلبد وتتماسك الأوساخ المتكونة من الروث والبول والتراب ، ثم ـ بسبب الرطوبة الموجودة ـ ينبت هناك نبات أخضر ، جميل المنظر واللون ، ولكن الجذور نابتة في مكان وسخ مليء بالجراثيم والميكروبات ! (1)

---------------------------
(1) ذكر هذا المعنى في أكثر كتب اللغة بعبارات مختلفة والمضمون واحد ، ونحن ذكرنا ذلك بتعبيرنا .
   « المحقق »

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 303 _

   كذلك أهل الكوفة كان لهم ظاهر حسن ، وكانت لهم حضارة عريقة ، لكن باطنهم وواقعهم كان قبيحاً ، يشتمل على الخبث والغدر ، والخيانة والكذب والنفاق ، والجرأة على الله تعالى ، وسحق القيم والمفاهيم ، وعدم التخلق بالفضائل ، والتي من أبرزها : الوفاء بالعهد ، وترجيح الدين على كل شيء .
   هذا ... ونعود لنذكر ـ مرةً أخرى ـ أنه كان في الكوفة جمع غفير من المؤمنين الأخيار الطيبين ، لكن الأشرار ـ بتعاونهم مع الحكم الفاسد ـ كانوا قد شكلوا هذه الواجهة القبيحة ، وكونوا هذه السمعة السيئة لجميع أهل البلد !!
   ثم ذكرت السيدة زينب ( عليها السلام ) مثالاً آخر فقالت :
   « وكفضة على ملحودة »
   اللحد : القبر، الملحودة : الجثة الموضوعة في القبر.
   إذا وضعت علامة مصنوعة من الفضة على قبر رجل منحرف دينياً ، فسوف يكون ظاهر القبر جميلاً ، لكن الجثة التي في داخل القبر جيفةً متعفنة .
   كذلك أهل الكوفة كانوا أهل التمدن والحضارة والثقافة ، لكنهم في

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 304 _

   الباطن كانوا بمنزلة الجيفة ، حيث تجمعت فيهم المساوئ الأخلاقية ، كنقض العهد والغدر والخيانة وغيرها ، فكونت لهم سوء الملف والسوابق المخزية.
   وفي نسخة : « كقصة على ملحودة »
   والقصة : هي : الجص : وهي البودرة والتراب المطبوخ الذي يخلط مع الماء فيصير طيناً ابيض اللون ، ويوضع ذلك الطين ما بين الطابوق ويكون سبباً لتماسك أجزاء البناء (1) .
   فما فائدة ذلك القبر الذي يجصص ـ ليكون جميل الظاهر ـ ، لكنه يتضمن جثماناً نتناً لرجل خبيث أو إمرأة منحرفة ؟!!
   وقد يستفاد ـ من بعض كتب التاريخ ـ أن المتفرجين والمستمعين لخطاب السيدة زينب ( عليها السلام ) إنقسموا إلى ثلاث أقسام :
  (1) قوات الشرطة التابعين لابن زياد.
  (2) المحايدين.
  (3) الأفراد الذين تفاعلوا مع كلمات خطبة السيدة زينب

---------------------------
(1) قال الخليل في كتاب « العين » القصة : لغة في الجص، وجاء في القاموس المحيط : « القصة : الجصة ».

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 305 _

   ( عليها السلام ) وتأثروا بكلامها ، وبدأوا يبكون !!
   كيف لا .. وهم يسمعون صوتاً يشبه صوت الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من ابنته الشجاعة !
   ولعلها كانت تخطب في ساحة كبيرة من ساحات مدينة الكوفة ، حيث كانت تستوعب أكبر قدر ممكن من الجماهير : المستمعين والمتفرجات ، الذين وقفوا على جانبي الطريق ، أو على سطوح دورهم ينظرون ويستمعون.
   « ألا : ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب انتم خالدون »
   هذه الجملة مقتبسة من قوله تعالى : « تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ » (1) .
   والمعنى : بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في الآخرة ، أن سخط الله اليهم. والمعنى ـ هنا ـ يا أهل الكوفة : إن أعمالكم قد أوجبت عليكم غضب الله وسخطه ، والبقاء الدائم في نار جهنم .

---------------------------
(1) سورة المائة ، الآية 80.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 306 _

   « أتبكون وتنتحبون » ؟!
   الإنتحاب : رفع الصوت بالبكاء الشديد.
   « إي والله ، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً »
   إشارة إلى قوله تعالى : « فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا » (1) ، والمعنى : فليضحك هؤلاء المنافقون قليلاً ، لأن الضحك ـ حتى لو إستمر ـ فإنه ينتهي بفناء الدنيا ، وهو قليل لدى المقايسة مع بكائهم الدائم في يوم القيامة ، لأن ذلك : « يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ » (2) وهم يبكون فيه كثيراً ... وباستمرار .
   وهذا تهديد وإنذار من السيدة زينب لأهل الكوفة ، وليس أمراً لهم بالضحك ، بل أمر بالتقليل من الضحك ، ـ وتهديد ضمني ـ أن لا مبرر لضحك وفرح يتعقبه بكاء طويل وعذاب مستمر .
   « فلقد ذهبتم بعارها وشنارها »
   يقال : ذهب بها : أي إستصحبها، والعار : كل شيء

---------------------------
(1) سورة التوبة ، الآية 82.
(2) سورة المعارج ، الآية 4.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 307 _

   يلزم منه عيب (1) أو كل ما يعير به الإنسان من قول أو فعل ، أو يلزم منه عيب أو سب (2) .
   والشنار : العيب والعار (3) والأمر المشهور بالشنعة (4) .
   « ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً »
   ترحضوها : تغسلوها .
   غسل : ما يغسل به ، كالماء والمواد المنظفة المزيلة للأوساخ .
   قد يقوم الإنسان بجريمة صغيرة يستطيع محاصرة مضاعفاتها ، وقد تكون الجريمة كبيرة جداً تأبى أن يحاصر أحد مضاعفاتها وآثارها ، أو ينسب الغفلة أو السهو والإشتباه إلى مباشر تلك الجريمة ، ويجعل الإعتذار سبباً وطريقاً للعفو عن ذلك المجرم وإغلاق ملفه .
   فالمعنى : لا يمكن لكم التخلص من مضاعفات هذه الجناية العظمى ، فقد تعلقت الجريمة بأعناقكم ، وسجلت

---------------------------
(1) القاموس للفيروز آبادي.
(2) أقرب الموارد للشرتوني.
(3) مجمع البحرين ، للطريحي ، وكتاب « العين » للخليل بن أحمد.
(4) أقرب الموارد للشرتوني .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 308 _

   في التاريخ ... بحيث لا يمكن تغطيتها أو إنكارها !! أو ذكر توجيهات واهية وسخيفة لهذا الجرم العظيم والذنب الجسيم !
   « وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ؟ »
   رحض : رحض الثوب : غسله.
   أي : كيف تغسلون عن أنفسكم ، وتمحون وتمسحون عن ملفكم هذه الفاجعة العظيمة ، وهي قتل ولد رسول الله خاتم الأنبياء ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟!
   وبعبارة أخرى :
   كيف وبأي وجه يمكن لكم أن تبرروا قتل سليل خاتم النبوة ؟! والسليل : هو الولد.
   كيف يمكن لكم غسل هذا الذنب العظيم عن أنفسكم ؟!
   وهل هناك مجال للإعتذار في ارتكاب جريمة بهذا الحجم ومع تلكم الكيفية والملحقات ؟؟!!
   « ومعدن الرسالة ؟ وسيد شباب أهل الجنة ؟ »
   إن الإمامة : هي إمتداد للرسالة ، وكما أن الرسول يختاره الله تعالى ... لا الناس ، كذلك الإمام والخليفة ...

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 309 _

   يختاره الله تعالى أيضاً ... وليس الناس.
   والإمام الحسين ( عليه السلام ) هو الخليفة الشرعي الثالث لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في أمته.
   فلم يكن الإمام الحسين ( عليه السلام ) رجلاً مجهولاً خامل الذكر ، غير معروف عند الناس ، بل كان مشهوراً عند جميع المسلمين بكل ما للعظمة والجلالة والقداسة من معان ، وأحاديث رسول الله في مدحه والثناء عليه ... كانت محفوظة في ذاكرة الجميع ، وآيات القرآن الكريم كانت تمجده بما هو أهل لذلك ، فـ « آية التطهير » تشهد له بالعصمة والطهارة عن كل رجس ، وآية « إطعام الطعام » تنبئ عن نفسيته التي بلغت القمة في الإخلاص وحب الخير للآخرين ، و « آية القربى » جعلت إظهار المحبة ومشاعر الود له أجراً لبعض أتعاب الرسول الكريم ، و « آية المباهلة » اعلنت أنه الإبن المميز للرسول الأقدس ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأنه واحد من « أهل البيت » الذين بدعائهم يغير الله تعالى الموازين الكونية.
   وأحاديث النبي العظيم حول مكانته ومنزلة أخيه الإمام الحسن ... كانت أشهر من الشمس في رائعة النهار ، كقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة » ، « الحسن والحسين إمامان ... إن

---------------------------
(1) كتاب « بحار الأنوار » ج 43 ، ص 261.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 310 _

   قاما وإن قعدا » « حسين مني وأنا من حسين ، أحب الله من أحب حسيناً » (1) .
   وكانت هذه الأحاديث وأمثالها قد ملأت آذان صحابة الرسول وتابعيهم ... المنتشرين في كل البلاد ... وخاصة الكوفة.
   فجريمة قتل الإمام الحسين لا يمكن أن تقاس بجريمة قتل غيره من الأبرياء ، لأن المقتول ـ هنا ـ عظيم فوق كل ما يتصور ، فيكون حجم جريمة قتله أكبر وأعظم من جريمة قتل أي بريء ، فلا يمكن لأهل الكوفة أن يغسلوا عن أنفسهم هذه الجريمة الكبرى.
   ثم استمرت السيدة زينب بذكر سلسلة من جوانب العظمة المتجمعة في أخيها سيد الشهداء الإمام الحسين ( عليه السلام ) لتبين ـ للناس ـ حجم الخسارة الفادحة ، ومضاعفات هذا الفراغ الذي حصل في كيان الأمة الإسلامية ، وهو قتل الإمام المنتخب من عند الله تعالى لهداية البشر ، فقالت ( عليها السلام ) :
   « وملاذ خيرتكم »
   الملاذ : الملجأ ، والحصن الآمن الذي يحتمى به

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 311 _

   ويلجأ إليه في الشدائد.
   خيرتكم : المؤمنين الأبرار ، المتفوقين في درجة إيمانهم بالله تعالى ، وفي جوانبهم الأخلاقية والإيمانية ، كالتقوى ، والعقيدة الراسخة ، وحماية وحراسة الدين ، تقديم الدين على كل مصلحة ... مادية كانت أو غيرها !!
   « ومفزغ نازلتكم »
   المفزع : من يفزع إليه ، ويلتجأ إليه.
   النازلة : الشديدة من شدائد الدهر ... تنزل بالقوم (1) وقيل : النازلة : هي المصيبة الشديدة (2) .
   « ومنار حجتكم »
   المنار : محل إشعاع النور. والحجة : الدليل والبرهان للإستدلال على حقيقة شيء .
   المنار : محل على سطح الدار ، كان الإنسان الكريم يشعل النار فيه ليلاً ليعلن للناس أن هنا محلاً للضيافة ، فيستدل بنور تلك النار التائهون عن الطريق ، أو المسافرون الذين وصلوا إلى البلد لتوهم ، وهم يبحثون عن مأوى

---------------------------
(1) كتاب « العين » للخليل بن أحمد.
(2) المعجم الوسيط.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 312 _

   يلجأون إليه حتى يحين الصباح.
   وتطلق هذه الكلمة ـ حالياً ـ على الأضواء الكشافة القوية في درجة الإضاءة التي توضع على أبراج المراقبة في مطارات العالم ، لإرشاد الطائرات إلى محل المطار ، وخاصةً في الليالي التي يخيم الضباب على سماء المدينة.
   لقد جعل الله تعالى الإمام الحسين ( عليه السلام ) مصباح الهدى ، ينير الدرب لكل تائه أو متحير ، ولكن الناس تجمعوا عليه وكسروا المصباح ، وهم غير مبالين بما ينتج عن ذلك من مضاعفات ، ففي الظلام تقع حوادث السرقة والسطو على المنازل والبيوت ، وجرائم الإغتصاب والقتل ، والضياع عن الطريق ، والسقوط في الحفائر ، وغير ذلك .
   أما مع وجود المصباح فلا تحدث هذه الجرائم والمآسي.
   ولم يكن الإمام الحسين مناراً مادياً فقط ... بل كان مناراً لمن يبحث عن الحقيقة ، ويسأل عن الدين ، ويريد الحصول على رد الشبهات ، وما يتبادر إلى بعض الأذهان من تشكيكات .
   ولذلك فقد عبرت السيدة زينب عن الإمام الحسين بـ « منار حجتكم ».

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 313 _

   « ومدرة سنتكم »
   السنة : العام القحط (1) ، وقيل : السنة المجدبة (2) وقيل : غلب إطلاق كلمة « السنة » على القحط ، مثل ما غلب إطلاق كلمة « الدابة » على الفرس (3) .
   هذا هو معنى السنة.
   ولم أعثر ـ في المعاني التي ذكرت في كتب اللغة معنى لكلمة « مدرة » ـ يتناسب مع كلمة « سنتكم » ، ويحتمل أن يكون تصحيفاً لكلمة « ومدد » أي : من يزودكم بالمؤن المادية في سنوات القحط والجدب ، ويخلصكم من المجاعة والموت .
   أو يزودكم بالأدلة المعنوية حينما تحتارون في قضاياكم الدينية ، ومشاكلكم العائلية ، وتتلاعب بأفكاركم التشكيكات والأفكار المنحرفة أو المستحدثة ، فتعيشون في ضياع ... لا تفرقون بين السنة والبدعة ، وبين القول الحق والأقوال الباطلة المصبوغة بصبغة الدين !
   ثم زادت السيدة زينب ( عليها السلام ) من درجة توبيخ

---------------------------
(1) كتاب « العين » للخليل بن أحمد.
(2) لسان العرب ، لإبن منظور.
(3) أقرب الموارد للشرتوني ، مع تصرف في بعض الألفاظ.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 314 _

   الناس ، محاولة منها لإيقاظ تلك الضمائر ، ولتعلن لهم أنهم سوف لا يصلون إلى أي هدف تحركوا من أجله فقاموا بهذه الجريمة النكراء.
   فقالت : « ألا ساء ما تزرون »
   أي : بئس ما حملتم على ظهوركم من الذنوب والجرائم ، فهي من نوع لا يبقي أي مجال لشمول غفران الله وعفوه ... لكم .
   « وبعداً لكم وسحقاً »
   بعداً : أي : أبعدكم الله تعالى ... بعداً عن رحمته وغفرانه .
   سحقاً : هلاكاً وبعداً ، يقال : سحق سحقاً : أي : بعد أشد البعد.
(1)    « فلقد خاب السعي ، وتبت الأيدي »
   خاب : لم ينل ما طلب ، أو إنقطع رجاؤه (2) .

---------------------------
(1) المعجم الوسيط، وقال الخليل في كتاب « العين » السحق : البعد.
   ولغة أهل الحجاز : بعد له وسحق ، يجعلونه إسماً ، والنصب على الدعاء عليه ، أي : أبعده الله وأسحقه .
(2) معجم لاروس.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 315 _

   تبت الأيدي ، التب : الخسران والهلاك (1) وقيل : القطع والبتر .
   « وخسرت الصفقة »
   الصفقة : معاملة البيع أو أية معاملة أخرى.
   والمعنى أنكم ـ يا أهل الكوفة ـ خسرتم المعاملة ، معاملة بيع الدين والآخرة في قبال الدنيا ، فمن الجنون أن يبيع الإنسان ذلك في قبال عذاب مستمر مزيج بالإهانة والتحقير ، وبثمن قتل إبن رسول الله ، كل ذلك وهو يدعي أنه مسلم !!
   ولعل المعنى : أنكم بعتم الحياة في ظل حكومة الإمام الحسين ( عليه السلام ) بالحياة في ظل سلطة يزيد ، وذهبتم إلى حرب الإمام الحسين لتحافظوا على كرسي يزيد من الإهتزاز ، ولكن معاملتكم هذه ... خاسرة ، فسوف لا تتهنؤون في ظل حكومته ، فلا كرامة ولا أمان ولا مستقبل زاهر !!
   إن الدين والإنضواء تحت لواء من اختاره الله تعالى هو الذي يوفر للإنسان الحياة السعيدة والعزة والكرامة.
   أما الإعراض عن ذلك فسوف يجر الويلات لكم ،

---------------------------
(1) كتاب « العين » للخليل ، ومجمع البحرين للطريحي .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 316 _

   فتتوالى عليكم حكومات جائرة ، فتعيشون حياةً ممزوجة بالتعاسة والذل ، الشامل لجميع جوانب حياتكم الدينية والاقتصادية والسياسية والأمنية وغيرها.
   وهنا أدمجت السيدة زينب ( عليها السلام ) كلامها بالقرآن الكريم واستلهمت منه ذلك فقالت :
   « وبؤتم بغضب من الله ، وضربت عليكم الذلة والمسكنة »
   قال تعالى : « وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ... » (1) .
   « وبؤتم بغضب من الله » أي رجعتم وقد احتملتم معكم غضباً من الله تعالى ، وسوف يسبب لكم هذا الغضب العقاب الأليم والبعد عن رحمة الله وغفرانه ، بكل تأكيد .
   وإن الجريمة ... مهما كان حجمها أكبر فسوف يكون غضب الله أشد ، وبالتالي يكون العذاب أكثر إيلاماً وأشد إهانةً وتحقيراً ، ويكون بعد المجرم عن عفو الله وغفرانه أكثر مسافة !

---------------------------
(1) سورة البقرة ، الآية 61.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 317 _

   « وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ »
   ضربت : أي كتبت : فلقد كتب الله تعالى لكم الذل ، وقدر لكم المسكنة ، بسبب كفرانكم بنعمة وجود الإمام الحسين ( عليه السلام ) والغدر به .
   الذلة والذل : يعني الهوان ، وهو العذاب النفسي المستمر ، بسبب الشعور بالحقارة والنقص والخوف من إعتداء الآخرين !
   المسكنة : الفقر الشديد والبؤس والتعاسة.
   ثم بدأت السيدة زينب ( عليها السلام ) بوضع النقاط على الحروف ، وذلك بالتحدث عن الأبعاد الأخرى لحجم هذه الجريمة ـ أو الجرائم ـ النكراء فقالت : « ويلكم يا أهل الكوفة ! أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم ».
   الكبد : كناية عن الولد ، وقد روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه قال : « أولادنا أكبادنا ... » (1) .
   فريتم : الفري : تقطيع اللحم.
   لقد شبهت السيدة زينب الإمام الحسين بكبد رسول الله ،

---------------------------
(1) كتاب « بحار الأنوار » ج 104 ، ص 97.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 318 _

   وشبهت جريمة قتل الإمام بقطع كبد الرسول الكريم ، وكم يحمل هذا التشبيه في طياته من معان بلاغية ، وحقائق روحانية ، إذ من الثابت أن مكانة الكبد في الجسم لها غاية الأهمية.
   فكم يبلغ الإنحراف بمن يدعي أنه مسلم أن يقتل إماماً هو بمنزلة الكبد من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
   « وأي كريمة له أبرزتم » ؟
   كريمة الرجل : إبنته ، فالسيدة زينب ( عليها السلام ) بنت السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فهي ـ إذن ـ حفيدة الرسول الكريم ، والحفيدة تعتبر بنتاً للرجل ، وقد كان النبي الكريم يعبر عن السيدة زينب ـ منذ الأيام الأولى من ولادتها ـ بكلمة « بنتي » .
   وكانت هذه البنت المكرمة المحترمة تعيش في دارها خلف ستار الحجاب والعفاف وتحافظ على حجابها اكثر من محافظتها على حياتها ، ولكن أهل الكوفة هجموا على خدرها وخيامها ، وسلبوا حجابها ، ثم أسروها وأبرزوها إلى الملأ العام ! وكانت هذه المصيبة أشد من جميع المصائب وقعاً على قلبها ... بعد مصيبة مقتل أخيها الإمام السحين ( عليه السلام ).

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 319 _

   أيها القارئ الكريم ... توقف قليلاً لتفكر وتعرف عظم الفاجعة : إذا كان سلب الحجاب عن إمرأة مؤمنة عفيفة عادية أصعب عليها من ضربها بالسكاكين على جسمها ... فما بالك بسلب الحجاب عن سيدة المحجبات وفخر المخدرات : زينب الكبرى عليها السلام ؟!
   فهذه الجريمة ـ لوحدها ـ تعتبر من أعظم الجرائم التي ارتكبها أهل الكوفة تجاه بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) !!
   فكل ضمير حر لا يمكن له أن ينسى هذه الجريمة !!
   ولم تقتصر هذه المصيبة على السيدة زينب ( عليها السلام ) بل شملت أخواتها الطاهرات من آل رسول الله ، والنسوة اللواتي كن معها في قيد الأسر.
   « وأي دم له سفكتم »
   أتعلمون ـ يا أهل الكوفة ـ أي دم لرسول الله سفكتم !!
   لقد اعتبرت السيدة زينب ( عليها السلام ) الدم الذي سفك من الإمام الحسين ـ يوم عاشوراء ـ هو دم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذ من الثابت أن الدم الذي كان يجري في عروق الإمام الحسين ( عليه السلام ) لم يكن كدماء سائر الناس ، لأن الإمام الحسين لم يكن رجلاً عادياً كبقية البشر ،

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 320 _

   فكل قطرة من دمه الطاهر كان جزءاً من دم رسول الله ، فالإمام الحسين : هو من « أهل البيت » ، وأهل البيت : كتلة واحدة ، وقد صرح النبي الكريم بهذا المعنى يوم قال : « اللهم : إن هؤلاء أهل بيتي وخاصتي وحامتي ، لحمهم لحمي ودمهم دمي ، يؤلمني ما يؤلمهم ويحزنني ما يحزنهم ، انا سلم لمن سالمهم ، وحرب لمن حاربهم ... إنهم مني وأنا منهم ... » (1)
   فالذين أراقوا دم الإمام الحسين هم ـ في الواقع ـ قد أ راقوا دم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهم يدعون أنهم مسلمون !!
   « وأي حرمة له هتكتم »
حرمة الرجل : ما لا يحل إنتهاكه ، وحرم الرجل أهله (2) .

---------------------------
(1) جاء ذلك في الحديث المشهور بـ « حديث الكساء » المروي في كتاب العوالم ، للمحدث الكبير الشيخ عبد الله البحراني ج 2 ص 930 ، والحديث مروي عن الشيخ الكليني بأسناده المعتبرة عن الصحابي جابر بن عبد الله ألانصاري ، عن السيدة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ).
(2) المعجم الوسيط.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 321 _

   وهتك الحرمة : يعني إهانة كرامة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في قتل إبنه الحسين وسبي كريماته وبناته ، والهجوم عليهن في خيامهن ... بكل وحشية ! وأي إهانة أكبر من هذه الإهانة ؟!
   لقد كانت المرأة تمتاز في الإسلام بصيانة معينة ، وكان كل من يهينها يستحق الذم واللوم من الجميع ، ولكن أهل الكوفة ـ وبأمر من يزيد الطاغية وابن زياد اللعين ـ قاموا بأبشع أنواع الجرائم في مجال إهانة رسول الله وإهدار كرامته !!
   ولذلك نقرأ في كتاب واحد من أبرز علماء أهل السنة هذا الكلام : « إذا دافعنا عن يزيد ، واعتذرنا له في قتله الإمام الحسين بأنه كان يرى منه منافساً له في الخلافة ، فبماذا وكيف نعتذر له في سبيه لبنات رسول الله وأسرهن بتلك الكيفية المؤلمة ، ثم الإنتقال بهن من بلد إلى بلد ؟ ».
   ثم استمرت السيدة زينب ( عليها السلام ) تصف فاجعة كربلاء الدامية وملحقاتها من سبي النساء الطاهرات ... بهذه الأوصاف المتتالية : « أي بهذه الجريمة التي لا مثيل لها في »

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 322 _

   تاريخ البشر.
   « صلعاء » : وهي الداهية الشديدة (1) ، أو الأمر الشيدد ، ولعل المراد : الجريمة المكشوفة التي لا يمكن تغطيتها بشيء .
   « عنقاء » : الداهية (2) وقيل : عنق كل شيء بدايته (3) .
   فلعل المعنى أن هذه الجريمة سوف تكون بداية لسلسلة من الأزمات والويلات لكم ، فلا تتوقعوا خيراً بعد عملكم الشنيع هذا.
   « شوهاء » قبيحة (4) وفي نسخة : سوداء.
   : العظيمة (5) أو الشديدة (6) هذا بعض ما ذكره اللغويون ، ولعل معنى « فقماء » أي معقدة بشكل لا يمكن

---------------------------
(1) ذكر ذلك « المحيط في اللغة » لابن عباد ، وكتاب « العين » للخليل بن أحمد.
(2) القاموس المحيط ، ولسان العرب.
(3) أقرب الموارد للشرتوني .
(4) المعجم الوسيط.
(5) المنجد في اللغة ، وأقرب الموارد للشرتوني.
(6) المعجم الوسيط.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 323 _

   معرفة طريق إلى حلها أو التخلص من مضاعفاتها. (1)
   « خرقاء ، كطلاع الارض » أي ملؤها (2) .
   « وملء السماء » لعل المعنى أن حجم هذه الجريمة أكبر من أن تشبه أو توصف بمساحة أو حجم معين ، بل هي بحجم الأرض كلها ، والسماء والفضاء كليهما ، أي : أن حجمها أكبر من أن يتصور .
   فإن قتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) وفقدان الأمة إياه يعني :
   أولاً : إبتلاء كل حر في العالم ـ في جميع الأجيال القادمة ـ بالحزن والأسى حينما يقرأ تفاصيل فاجعة كربلاء ، فحتى لو لم يكن مسلماً يشعر بالحزن وتتسابق دموع عينيه بالهطول ، ويشعر بالإنزعاج والتذمر من الذين ارتكبوا هذه الجريمة النكراء.
   ثانياً : لقد حرم البشر ... ـ بمختلف دياناتهم وطبقاتهم

---------------------------
(1) المحقق.
(2) المعجم الوسيط ، والقاموس المحيط ، وقال في « لسان العرب » طلاع الأرض : ما طلعت عليه الشمس ، طلاع الشيء ملؤه .
   المحقق

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 324 _

   وأعمارهم وأجيالهم وبالادهم ـ من بركات وجود الإمام الحسين ( عليه السلام ) والتي كانت تبقي آثاراً إيجابية مستمرةً ودائمةً إلى آخر عمر الدنيا !
   ثالثاً : إن هذه الجريمة ـ بحجمها الواسع ـ فتحت الطريق أمام كل من يحمل نفساً خبيثة في أن يقوم بكل ما تسول له نفسه وتمليه عليه نفسيته في مجال الظلم والإعتداء على الآخرين ، وعدم التوقف عند أي حد من الحدود في مجال الطغيان وسحق كرامة الآخرين.
   وقد صرح الإمام الحسين ( عليه السلام ) بهذا المعنى ـ حينما كان يقاتل أهل الكوفة بنفسه ـ فقال : « ... أما إنكم لن تقتلوا بعدي عبداً من عباد الله فتهابوا قتله ، بل يهون عليكم عند قتلكم إياي ... » (1) .
   « أفعجبتم أن مطرت السماء دما »
   إن المصادر والوثائق التاريخية التي تصرح بأن السماء أمطرت دماً بعد قتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) كثيرةً جداً .
   وكان ذلك المطر أحمر يشبه الدم في لونه وغلظته ... وهذه الحقيقة الكونية مذكورة في كتب الشيعة

---------------------------
(1) كتاب معالي السبطين ، ج 2 ، الفصل العاشر ، المجس الثالث، وكتاب « تظلم الزهراء » ص 222.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 325 _

   والسنة ، القديمة منها والحديثة (1) .

---------------------------
(1) إليك الآن بعض ما كتبه المؤرخون حول هذه الظاهرة الغريبة التي حدثت يوم عاشوراء عند مقتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) :
1 ـ ذكر الحافظ محب الدين الطبري الشافعي ـ المتوفى سنة 694 هـ ـ في كتابه : ذخائر العقبى ، طبع مصر ، عام 1356 هـ ، صفحة 145 قال : « وذكر أبو نعيم الحافظ في كتاب « دلائل النبوة » عن نضرة الأزدية أنها قالت : لما قتل الحسين بن علي أمطرت السماء دماً ، فأصبحنا وجبابنا ( أي : آبارنا ) وجرارنا ( جمع : جرة ) مملوءةً دماً ».
   وعن مروان مولى هند بنت المهلب ، قال : حدثني بواب عبيد الله بن زياد أنه لما جيء برأس الحسين بين يديه رأيت حيطان دار الإمارة تسايل دماً ، خرجه ابن بنت منيع .
   وعن جعفر بن سليمان قال : « حدثني خالتي أم سالم : قالت : لما قتل الحسين مطرنا مطراً كالدم على البيوت والجدر ، قالت : وبلغني أنه كان بخراسان والشام والكوفة .
   خرجه ابن بنت منيع ، وعن أم سلمة قالت : « لما قتل الحسين مطرناً دماً ».
   وعن ابن شهاب قال : « لما قتل الحسين ـ رضي الله عنه ـ لم يرفع أو لم يقلع حجر بالشام إلا عن دم » خرجهما ابن السري.
2 ـ ذكر العلامة الشيخ المحمودي في كتابه : عبرات المصطفين في مقتل الحسين عليه السلام ، طبع إيارن عام 1417 هـ ، ص 169 : « ذكر أبو بكر محمد بن أبي بكر التلمساني ـ المتوفى بعد عام 644 هـ في ترجمة الإمام الحسين ، في كتاب الجوهرة ج 2 ص 218 ، طبع الرياض ،