السيدة زينب تجمع العيال والأطفال
   لقد أوصى الإمام الحسين أخته السيدة زينب بالمحافظة على العيال والأطفال بعد استشهاده ( عليه السلام ) ، ويعلم الله كم كان تنفيذ هذه الوصية أمراً صعباً ، وخاصةً بعد الهجوم الوحشي على مخيمات الإمام الحسين ( عليه السلام ) وعبد إحراق الخيام وتبعثر النساء والأطفال في الصحراء !
   ففي ساعة الهجوم على الخيام كانت النساء تلجأ إلى السيدة زينب ، وتخفي أنفسهن خلفها ، وكان الأطفال ـ أيضاً ـ يفزعون إليها ويتسترون وراءها خوفاً من الضرب بالسياط والعصي ، فكانت السيدة زينب ( عليها السلام ) تحافظ عليهم ـ كما يحافظ الطير على فراخه حين هجوم الصقور على عشه ـ فتجعل جسمها مانعاً من ضرب النساء والأطفال ، وقد إسود ظهرها ـ في مدة زمنية قصيرة ـ بسبب الضرب المتوالي على جسمها !

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 252 _

   وبعد الهجوم والإحراق بدأت السيدة زينب تتفقد النساء والأطفال ، وتنادي كل واحدة منهن باسمها ، وتعدهم واحدةً واحدة ، وتبحث عمن لا تجده مع النساء والأطفال !
   ونقرأ في بعض الكتب : أن السيدة زينب ( عليها السلام ) لما بدأت بجمع العيال والأطفال ، لم تجد طفلين منهم ، فذهبت تبحث عنهما هنا وهناك ، وأخيراً ...
   وجدتهما معتنقين نائمين ، فلما حركتهما فإذا هما قد ماتا من الخوف والعطش !!
   ولما سمع العسكر بذلك قالوا لا بن سعد : رخص لنا في سقي العيال ... (1)
   وذكر في بعض الكتب أن طفلين لعبد الرحمن بن عقيل كانا مع الحسين ، إسمهما : سعد وعقيل ، وأنهما ماتا من شدة العطش ومن الدهشة والذعر ، بعد مقتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) وهجوم الأعداء على المخيم للسلب .
   وأمهما : خديجة بنت الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام (2) .

---------------------------
(1) كتاب « الإيقاد » للسيد محمد علي الشاه عبد العظيمي ، الطبعة الحديثة ، ص 139.
(2) معالي السبطين ج 2 ، الفصل 12 ، المجلس الرابع.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 253 _

ليلة الوحشة
   باتت العائلة المفجوعة ليلة الحادية عشرة من المحرم بحالة لا يستطيع أي قلم شرحها ووصفها ، ولا يستطيع اي مصور أن يصور جانباً واحداً من جوانب تلك الليلة الرهيبة.
   قبل أربع وعشرين ساعة من تلك الليلة باتت العائلة المكرمة وهي تملك كل شيء ، وهذه الليلة أظلمت عليها وهي لا تملك شيئاً .
   رجالها صرعى مرملون بدمائهم ، وأطفالها مذبحون ، والأموال قد نهبت ، والأزر والمقانع سلبت ، والظهور والمتون قد سودتها السياط وكعاب الرماح.
   ليس لهم طعام حتى يقدموه إلى من تبقى من الأطفال ، ولا تسأل عن المراضع اللواتي جف اللبن في صدورهن جوعاً وعطشاً.
   واستولت على العائلة ـ وخاصةً الأطفال ـ حالة الفواق ، وهي

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 254 _

   حالة تشنج تحصل للإنسان حينما يبكي كثيراً ، فتتشنج الرئة ، ويخرج النفس متقطعاً .
   يا للفاجعة ، يا للمأساة ، يا للمصائب .
   لا غطاء ، ولا فراش ، ولا ضياء ، ولا أثاث ، ولا طعام .
   قد أحدقت السيدات بالإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وهو بقية الماضين ، وثمال الباقين ، وهن يتفكرن بما خبأ لهن الغد من أولئك السفاكين.
   فالفاجعة لم تنته بعد ، والظلم ـ بجميع أنواعه ـ بالنتظار آل رسول الله الطيبين الطاهرين ، والحوادث المؤلمة سوف تمتد إلى غد وما بعد غد ، وإلى أيام وشهور ، مما لا بالبال ولا بالخاطر .
   وسوف تبدأ رحلة طويلة مليئة بالآلام والأهات والدموع.
   وحكي أن السيدة زينب ( عليها السلام ) تفقدت العائلة في ساعة من ساعات تلك الليلة ، وإذا بالسيدة الرباب لا توجد مع النساء ، فخرجت السيدة زينب ومعها أم كلثوم ، وهما تناديان : يا رباب ... يا رباب.
   فسمعها رجل كان موكلاً بحراسة العائلة ، فسألها ماذا تريدين ؟!
   فقالت السيدة زينب : إن إمرأةً منا مفقودة ولا توجد مع النساء.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 255 _

   فقال الرجل : نعم ، قبل ساعة رأيت امرأة منكم إنحدرت نحو المعركة !
   فأقبلت السيدة زينب حتى وصلت إلى المعركة ، وإذا بها ترى الرباب جالسة عند جسد زوجها الإمام الحسين ( عليه السلام ) وهي تبكي عليه بكاءً شديداً وتنوح ، وتقول في نياحتها :
وا حسيناه وأين مني حسين      أقـصدته  أسـنة iiالأدعياء
غـادروه  في كربلاء قتيلاً      لا  سقى الله جانبي iiكربلاء
   فأخذت السيدة زينب ( عليها السلام ) بيدها وأرجعتها معها إلى حيث النساء والأطفال.
   وفي هذا الجو المتوتر ، والوضع المقرح للفؤاد ، يقول الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : « فتحت عيني ليلة الحادية عشر من المحرم ، وإذا أنا أرى عمتي زينب تصلي نافلة الليل وهي جالسة ، فقلت لها : يا عمة أتصلين وأنت جالسة » ؟
   قالت : نعم يابن أخي ، والله إن رجلي لا تحملني !! (1)

---------------------------
(1) كتاب « زينب الكبرى » للشيخ جعفر النقدي ، ص 58.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 257 _

ترحيل العائلة من كربلاء
   لقد جاءوا بالنياق المهزولة لترحيل آل رسول الله ، فلا غطاء ولا وطاء !!
   آل رسول الله ، أشرف أسرة وأطهرها وأتقاها على وجه الأرض ، وكأنهن سبايا الكفار والمشركين !!
   لقد كان تعامل الأعداء معهن في منتهى القساوة والفظاظة وكأنهم يحاولون الإنتقام منهن ، ويطلبون بثارات بدر وحنين !
   وهل أستطيع أن أكتب ـ هنا ـ شيئاً من مواقف بني أمية تجاه آل رسول الله ؟!
   والله ... إنها وصمة خزي وعار لا تمحى ولا تزول بمرور القرون.
   لقد وصموا بها جبهة التاريخ الإسلامي النزيه المشرق الوضاء.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 258 _

   عن كتاب ( أسرار الشهادة ) للدربندي : ثم أمر عمر بن سعد بأن تحمل النساء على الأقتاب (1) ، بلا وطاء ولا حجاب ، فقدمت النياق إلى حرم رسول الله ( صلى الله علهي وآله وسلم ) وقد أحاط القوم بهن ، وقيل لهن : تعالين واركبن ، فقد أمر إبن سعد بالرحيل (2) .
   فلما نظرت زينب ( عليها السلام ) إلى ذلك نادت وقالت : سود الله وجهك يا بن سعد في الدنيا والآخرة ! تأمر هؤلاء القوم بأن يركبونا ونحن ودائع رسول الله ؟!
   فقل لهم : يتباعدوا عنا ، يركب بعضنا بعضاً .
   فتنحوا عنهن ، فتقدمت السيدة زينب ، ومعها السيدة أم كلثوم ، وجعلت تنادي كل واحدة من النساء باسمها وتركبها على المحمل ، حتى لم يبق أحد سوى زينب ( عليها السلام ) !
   فنظرت يميناً وشمالاً ، فلم تر أحداً سوى الإمام زين العابدين وهو مريض ، فأتت إليه وقالت :

---------------------------
(1) أقتاب ـ جمع قتب ـ : وهو وشيء يصنع من خشب ، يشد على ظهر البعير ، ويغطى بقماش سميك ، لراحة الراكب ، وحفظه من السقوط.
   قال في « المعجم الوسيط » : القتب : الرحل الصغير على قدر سنام البعير.
  المحقق
(2) لقد ذكر السيد ابن طاووس في كتاب « الملهوف » ص 189 : أن ترحيل العائلة كان بعد الزوال من اليوم الحادي عشر من المحرم.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 259 _

   قم يابن أخي واركب الناقة.
   قال : يا عمتاه ! إركبي أنت ، ودعيني أنا وهؤلاء القوم.
   فالتفتت يميناً وشمالاً ، فلم تر إلا أجساداً على الرمال ، ورؤوساً على الأسنة بأيدي الرجال (1) ، فصرخت وقالت : واغربتاه ! وا أخاه ! وا حسيناه ! وا عباساه ! وا رجالاه ! وا ضيعتاه بعدك يا أبا عبد الله ...
   فأقبلت فضة وأركبتها ... (2)

---------------------------
(1) الأسنة ـ جمع سنان ـ : الرمح.
(2) كتاب ( أسرار الشهادة ) للعالم الجليل الشيخ الدربندي.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 261 _

نياحة السيدة زينب على سيد الشهداء
   وفي يوم الحادي عشر من المحرم ... لما أراد الأعداء أن يرحلوا بقافلة نساء آل رسول الله من كربلاء إلى الكوفة ، مروا بهن على مصارع القتلى ـ وهم جثث مرملة ومطروحة على التراب ـ فلما نظرت النسوة إلى تلك الجثث صحن وبكين ولطمن خدودهن .
   وأما السيدة زينب الكبرى ( عليها السلام ) فقد كانت تلك الساعة من أصعب الساعات على قلبها ، وخاصةً حينما نظرت إلى جثة أخيها العزيز الإمام الحسين وهو مطروح على الأرض بلا دفن ، وبتلك الكيفية المقرحة للقلب !!
   يعلم الله تعالى مدى الحزن الشديد والألم النفسي الذي خيم على قلب السيدة زينب وهي ترى أعز أهل العالم ، وأشرف من على وجه الأرض بحالة يعجز القلم واللسان عن وصفها.
   فقد مد أولئك الذئاب المفترسة ( الذين لا يستحقون إطلاق إسم

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 262 _

   البشر عليهم ، فكيف باسم الإنسان ، وكيف باسم المسلم ) أيديهم الخبيثة إلى جسد أطهر إنسان على وجه الكرة الأرضية آنذاك ، وأرقوا دماءً كانت جزءاً من دم الرسول الأقدس ، وقطعوا نحراً قبله رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مئات المرات ، وعفروا خداً طالما إلتصق بخد الرسول الأطهر ، ورضوا وسحقوا جسداً كان يحمل على أكتاف الرسول الأعظم ، وكان محله في حجر الرسول ، وعلى صدره وظهره.
   لقد كان الرسول الكريم يحافظ على ذلك الجسم العزيز ، حتى من النسيم والمطر ... فكيف من غيره ؟
   نعم ، إن المجرمين الجناة كانوا في سكرة موت الضمير ، وفقدان الوعي والإدراك للمفاهيم ، فانقلبوا إلى سباع ضارية ، وذئاب مفترسة ، ووحوش كاسرة ، لا تفهم معنى العاطفة والشرف والفضيلة ، ولا تدرك إلا هواها الشيطاني.
   فصنعت ما صنعت بذلك الإمام ، المتكامل شرفاً وعظمة ، وجعلت جسمه هدفاً لسيوفها ورماحها وسهامها ، وميداناً لخيولها ، وهم يحاولون أن لا يتركوا منه أثراً يرى ، ولا أعضاء فتوارى .
   كان هذا المنظر والمظهر المشجي ، المقرح للقلب ، الموجع للروح بمرأى من السيدة زينب الكبرى.
   فهي ترى نفسها بجوار جثمان إمامها ، وإمام العالم كله ، وسيد شباب أهل الجنة ، فلا عجب إذا اختضنته تارةً وألقت

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 263 _

   نفسها عليه تارةً أخرى.
   تبكي عليه بدموع منهمرة متواصلة ، وتندبه من أعماق نفسها ، ندبةً تكاد روحها تخرج مع زفراتها وآهاتها !
   تندبه بكلمات منبعثة من أطهر قلب ، خالية عن كل رياء وتصنع ، وكل كلمة منها تعتبر إعلاناً عن حدوث أكبر فاجعة ، وأوجع مصيبة .
   إنها سجلت تلك الكلمات على صفحات التاريخ لتكون خالدةً بخلود الأبد ، تقرؤها الأجيال قرناً بعد قرن ، وأمةً بعد أمة ، كي تستلهم منها الدروس والعبر ... ولكي تبقى المدرسة الزينبية خالدةً بخلود كل المفاهيم العالية والأصول الإنسانية.
   نعم ، كلمات تقرع الأسماع اليقظة كصوت الرعد ، فتضطرب منها القلوب وتتوتر منها الأعصاب ، وتسخن الغدد الدمعية المنصوبة على قمة العينين ، فلا تستطيع الغدد حبس الدموع ومنعها عن الخروج والهطول .
   وتضيق الصدور فلا تستطيع كبت الآهات ، والنحيب والزفير.
   أجل ... إنها معجزة وأية معجزة ، صدرت من سيدة قبل أربعة عشر قرناً ، أراد الله تعالى لها البقاء ، لتكون تلك المعجزة غضة ، وكأنها حادثة اليوم وحدث الساعة.
   أجل ...

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 264 _

   كان المفروض أن تفقد السيدة زينب الكبرى وعيها ، وتنهار أعصابها ، وتنسى كل شيء حتى نفسها ، وتتعطل ذاكرتها أمام جبال المصائب والفجائع ، والهموم والأحزان .
   نعم ، هكذا كان المفروض ، ولكن إيمانها الراسخ العجيب بالله تعالى ، وقلبها المطمئن بذكر الله ( عزوجل ) كان هو الحاجز عن صدور كل ما ينافي الوقار والإتزان ، والخروج عن الحالة الطبيعية.
   وليس معنى ذلك السكوت الذي يساوي عدم الإهتمام بتلك الفاجعة أو عدم المبالاة بما جرى ، بل لا بد من إيقاظ الشعور العام بتلك الجناية العظمى ، التي صدرت من أرجس عصابة على وجه الأرض.
   فلا عجب إذا هاجت أحزانها هيجان البحار المتلاطمة الأمواج ، وتفايض قلبها الكبير ... بالعواطف والمحبة ، وجعلت تندب أخاها بكلمات في ذروة الفصاحة والبلاغة ، وتعتبر أبلغ كلمات سجلها التاريخ في الرثاء والتأبين ، وفي مقام التوجع والتفجع. (1)
   قال الراوي : فوالله لا أنسى زينب بنت علي وهي تندب أخاها

---------------------------
(1) وكان ذلك حينما مروا بقافلة الأسارى على مصرع الإمام الحسين ( عليه السلام ) يوم الحادي عشر من المحرم.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 265 _

   الحسين بصوت حزين وقلب كئيب :
   « يا محمداه ، صلى عليك مليك السماء ، هذا حسين مرمل بالدماء ، مقطع الأعضاء ، مسلوب العمامة والرداء ، محزوز الرأس من القفا، ونحن بناتك سبايا .
   إلى الله المشتكى ، وإلى محمد المصطفى ، وإلى علي المرتضى ، وإلى فاطمة الزهراء ، وإلى حمزة سيد الشهداء.
   يا محمداه ! هذا حسين بالعراء (1) ، تسفي عليه ريح الصباء ، قتيل أولاد البغايا.
   واحزناه ! واكرباه عليك يا أبا عبد الله.
   بأبي من لا هو غائب فيرتجي ، ولا جريح فيداوى .
   بأبي المهموم حتى قضى .
   بأبي العطشان حتى مضى ... »
   فأبكت ـ والله ـ كل عدو وصديق (2) .
   واعتنقت زينب جثمان أخيها ، ووضعت فمها على نحره وهي تقبله وتقول :
   « أخي لو خيرت بين المقام عندك أو الرحيل لاخترت

---------------------------
(1) العراء : الأرض المنبسطة التي لا يستر فضاءها شيء .
(2) كتاب ( الملهوف ) لابن طاووس ، ص 181 ، وكتاب الإيقاد ، ص 140.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 266 _

   المقام عندك ، ولو أن السباع تأكل من لحمي .
   يابن أمي ! لقد كللت عن المدافعة لهؤلاء النساء والأطفال ، وهذا متني قد أسود من الضرب !! (1) .

---------------------------
(1) معالي السبطين ج 2 ، الفصل العاشر ، المجلس الرابع عشر.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 267 _

الفصل الثاني عشر
  مدينة الكوفة
   قافلة آل الرسول تصل الكوفة

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 269 _

مدينة الكوفة
   لقد كانت الكوفة : مدينة موالية للإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكان أهلها ـ رجالاً ونساءً ـ قد تطبعوا بأحسن الإنطباعات في ظل حكومة الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بسبب المناهج الصحيحة التي انتهجها الإمام لتربية وإدارة شعبه .
   وكانت لدى أهل الكوفة أحسن الإنطباعات عن الإمام ، نظراً لسيرته الشخصية والإجتماعية والحكومية ، وأسلوب تعامله مع أفراد الشعب إبان حكومته عليهم ، فعواطفه التي شملت جميع طبقات الشعب ، وتوفير لوازم الحياة لهم ، ومواساته معهم في السراء والضراء ، وعدله الواسع الشامل وعطاياه السنية ، وسخاؤه وكرمه ، وعلمه الجم ، وغير ذلك من الفضائل التي تركت إنعكاساتها الإيجابية في نفوس أهل الكوفة ، وأثرت فيهم أحسن الأثر.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 270 _

   كل هذه الأمور ... جعلت الطابع العام الغالب على الكوفة : هو الولاء والمحبة لآل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
   ومن الطبيعي أن كل عصر ومصر لا يخلو من الأشرار والسفلة ، حتى المدينة المنورة ـ في عهدها الزاهر ... في عصر الرسول الكريم ـ كانت تحتوي على عناصر المنافقين وغيرهم .
   وهنا سؤال يقول : إذا كانت مدينة الكوفة موالية للإمام ... فكيف صدرت من أهلها تلك المواقف المخزية تجاه الإمام الحسين ( عليه السلام ) ؟!
   إن الجواب على هذا السؤال يحتاج إلى مزيد من الشرح والتفصيل ، وهو خارج عن أسلوب الكتاب ، ولكننا نذكر ـ الآن ـ ، مثالاً توضيحياً لهذا البحث ونترك دراسة الموضوع إلى فرصة أخرى :
   قد تحدث في فرد من الناس أو شعب من الشعوب حالة شاذة ، غير طبيعية ، تشبه حالة السكر وفقدان الوعي ، فإذا زالت آثار السكر ... عاد الوعي ، ثم الحالة الطبيعية ، ثم الندم !
   وفعلاً ... ترى ذلك الفرد ـ أو الشعب ـ يتعجب من تصرفاته الشاذة خلال حالة سكره ، بل ويتعجب منه عقلاء العالم !

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 271 _

   ومن الثابت أن العقلاء لا يقبلون أي عذر من ذلك الفرد أو الشعب الذي مر بتلك الحالة الشاذة ، لأن العقل والدين يفرضان على الإنسان أن يوفر في نفسه وقلبه وذهنه خلفية علمية ومناعة دينية وإيمانية تبعده عن هذا النوع من الحالات الشاذة ، وتحفظه من السقوط في هكذا منعطفات مصيرية محتملة .
   وذلك يحصل بتقوية الإيمان بالله تعالى وبيوم القيامة ... في قلب الإنسان ، ثم الإستمرار في شحن النفس بالطاقة الإيمانية التي تقوم بدور مهم في إبعاد الإنسان عن مراكز وصالات وأجواء الإنحراف العقائدي والسلوكي ، وتحميه من السقوط في مهاوي جهنم .
   أجل ...
   لقد كانت مدينة الكوفة ـ قبل عشرين سنة من تاريخ فاجعة كربلاء ـ : عاصمةً للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ومركزاً لحكومته ، ومقراً لقيادته .
   وكانت السيدة زينب ـ حينذاك ـ في أوج العظمة والجلالة ، وكانت سيدات الكوفة يتمنين الحضور عندها ، وإذا كانت السيدة زينب تنظر إلى إحداهن نظرة ، أو تتكلم معها كلمة ، لكان قلبها يمتلئ فرحاً وسروراً ، وتشعر بالشرف والفخر ، لأن إبنة أمير المؤمنين نظرت إليها أو تكلمت معها !!

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 272 _

   ولكن اليوم ... وبعد حوالي عشرين سنة ، تغيرت الأوضاع عما كانت عليه قبل ذلك !! وأخذت الكوفة طابعاً شاذاً يختلف عما مضى ، فقد إنقلبت إلى جو من الإرهاب والإرعاب ، وانتشر الآلاف من الشرطة والجواسيس ، وهم في حالة التأهب والإستعداد ، خوفاً من هياج الناس ، وخنقاً لكل صوت يرتفع ذد السلطة.
   هذا ... ويضاف إلى ذلك : أن المئات ـ أو الآلاف ـ من الموالين للإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان الطاغية ابن زياد قد سجنهم كي لا يلتحقوا بأصحاب الإمام الحسين في كربلاء .
   وهناك من أخفى نفسه في البيوت كي لا يتعرض للقتل من قبل السلطة حيث لم يستطع الإلتحاق بالإمام بسبب الأعداد الهائلة من الشرطة التي كانت السلطة قد نشرتهم في جميع نواحي وبوابات مدينة الكوفة.
   وعدا من التحق بالإمام الحسين في كربلاء ـ من أهل الكوفة ـ ونصروه ، وقتلوا في سبيل الدفاع عنه ، ويبلغ عددهم أكثر من عشرين رجل ، مذكورة أسماؤهم في الكتب المفصلة التي تتحدث عن فاجعة كربلاء الدامية.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 273 _

قافلة آل الرسول تصل الكوفة
   وذكر الطريحي في كتاب ( المنتخب ) عن مسلم الجصاص قال :
   دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة ، فبينما أنا أجصص الأبواب ، وإذا بالزعقات قد ارتفعت من جنبات الكوفة (1) ، فأقبلت على خادم كان يعمل معنا ، فقلت : ما لي أرى الكوفة تضج ؟
   قال : الساعة أتوا برأس خارجي خرج على يزيد بن معاوية .
   فقلت : من هذا الخارجي ؟
   قال : الحسين بن علي !
   فتركت الخادم حتى خرج ، ولطمت على وجهي ، حتى

---------------------------
(1) الزعقات ـ جمع زعقة ـ : الصيحة.
   الزعق : الصباح ، كما في كتاب « لسان العرب » لابن منظور ، و « الصحاح » للجوهري .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 274 _

   خشيت على عيني أن تذهبا ، وغسلت يدي من الجص ، وخرجت من ظهر القصر ، وأتيت إلى الكناس (1) فبينا أنا واقف ، والناس يتوقعون وصول السبايا والرؤوس إذ أقبلت نحو أربعين شقة ، تحمل على أربعين جملاً (2) ، فيها الحرم والنساء وأولاد فاطمة .
   وإذا بعلي بن الحسين على بعير بغير وطاء (3) ، وأوداجه تشخب دماً ، وهو مع ذلك يبكي ويقول :
يا أمة السوء لا سقياً لربعكم      يـا أمـة لم تراع جدنا فينا
   إلى آخر الأبيات.
   وصار أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز ، فصاحت بهم أم كلثوم :
   يا أهل الكوفة ! إن الصدقة علينا حرام !
   وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وأفواههم ، وترمي به إلى الأرض.

---------------------------
(1) الكناس والكناسة : محلة بالكوفة ، كما في « معجم البلدان » للحموي.
(2) شقة : المحمل والهودج.
(3) وطاء : القماش وشبهه الذي يوضع على ظهر الجمل ، لراحة الراكب.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 275 _

   كل ذلك والناس يبكون على ما أصابهم !!
   ثم إن أم كلثوم أطلعت رأسها من المحمل وقالت :
   « صه يا أهل الكوفة ! تقتلنا رجالكم ، وتبكينا نساؤكم ؟ فالحاكم بيننا وبينكم الله ، يوم فصل القضاء ».
   فبينما هي تخاطبهن ، وإذا بضجة قد ارتفعت ، وإذا هم قد أتوا بالرؤوس ، يقدمهم رأس الحسين ( عليه السلام ) وهو رأس زهري ، قمري (1) ، أشبه الخلق برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولحيته كسواد السبج (2) ـ قد انتصل منها الخضاب (3) ، ووجهه دارة قمر طالع (4) ـ والريح تلعب بها

---------------------------
(1) زهري : أي مشرق اللون ... رغم إنفصاله عن الجسد، وزهري : تشبيه بنجم « الزهرة » المشهورة بالإشراقة والإضاءة المميزة في نورها ، والتي هي عبارة عن اللون الأبيض المشرق المزيج مع لون الورد المحمدي ، أي : اللون الأحمر الفاتح، قمري : أي : أن وجهه مستدير الشكل ... وليس مستطيلاً .
   المحقق
(2) السبج : معرب شبه ـ : وهو حجر أسود ، يضرب به المثل في شدة السواد.
(3) إنتصل منها الخضاب : أي بدأ اللون الأسود يذهب من أصول الشعر.
(4) دارة قمر طالع : أي مستدير وجميل ، كالقمر ليلة البدر ، حيث يكون متكامل القرص وشديد الإنارة.
   المحقق