ليلة عاشوراء
إن مشكلة كبيرة واحدة تحدث في حياة الإنسان قد تسلبه القرار والاستقرار ، وتورثه الأرق والقلق والسهر ، وترفض عيناه النوم ، فكيف إذا أحاطت به عشرات المشاكل الكبيرة ؟!
من الواضح أن أقل ما يمكن أن تسببه تلك المشاكل هو : الإنهيار العصبي ، وفقدان الوعي ، واختلال المشاعر وتبلبل الفكر ، وتشتت الخاطر.
فهل نستطيع أن نتصور كيف انقضت ليلة عاشوراء على آل رسول الله ؟!
فالهموم والغموم ، والخوف والتفكر حول الغد ، وما يحمله من الكوارث والفجائع ، وبكاء الأطفال من شدة العطش ، ـ وغير ذلك من المميزات تلك الليلة ـ جعلت الليلة فريدة من نوعها في تاريخ حياة أهل البيت ( عليهم السلام ).
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 176 _
وفي ساعة من ساعات تلك الليلة خرج الإمام الحسين ( عليه السلام ) من منطقة المخيم ، راكباً جواده ، يبحث في تلك الضواحي حول التلال والربووات ـ المشرفة على منطقة المخيم ـ التي كان من الممكن أن يمكن العدو خلفها غداً ، إذا اشتعلت نار الحرب.
ويرافقه في تلك الجولة الإستطلاعية نافع بن هلال ، وهو ذلك البطل الشجاع المقدام ، وكان من أخص أصحابه وأكثرهم ملازمة له ، فلنستمع إليه :
إلتفت الإمام خلفه وقال : من الرجل ؟ نافع ؟
قلت : نعم ، جعلني الله فداك !! أزعجني خروجك ليلاً إلى جهة معسكر هذا الطاغي.
فقال : يا نافع ! خرجت أتفقد هذه التلال مخافة أن تكون مكمناً لهجوم الخيل على مخيمنا يوم تحملون ويحملون.
ثم رجع ( عليه السلام ) وهو قابض على يساري ، وهو يقول : « هي ، هي ، والله ، وعد لا خلف فيه ».
ثم قال : يا نافع ! ألا تسلك ما بين هذين الجبلين (1) من وقتك
---------------------------
(1) ليس في أرض كربلاء جبل ، وإنما فيها تلال وربوات لا تزال موجودة ويقال لها ـ بالغة الدارجة ـ : علوة وعلاوي ، ولعل الإمام ( عليه السلام ) قصد من الجبلين : التلال الموجودة في تلك المنطقة.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 177 _
هذا ، وتنجو بنفسك ؟
فوقعت على قدميه ، وقلت : إذن ثكلت نافعاً أمه !!
سيدي : إن سيفي بألف ، وفرسي مثله ، فو الله الذي من علي بك لا أفارقك حتى يكلا عن فري وجري (1) .
ثم فارقني ودخل خيمة أخته ، فوقفت إلى جنبها (2) رجاء أن يسرع في خروجه منها .
فاستقبلته زينب ، ووضعت له متكئاً ، فجلس وجعل يحدثها سراً ، فما لبثت أن اختنقت بعبرتها ، وقالت : وا أخاه ! أشاهد مصرعك ، وأبتل برعاية هذه المـذاعير (3) من النساء ؟ والقوم ـ كما تعلم ـ ما هم عليه من الحقد القديم.
ذلك خطب جسيم ، يعز علي مصرع هؤلاء الفتية الصفوة ، وأقمار بني هاشم !
ثم قالت : أخي هل إستعلمت من أصحابك نياتهم ؟ فإني أخشى أن يسلموك عند الوثبة ، واصطكاك الأسنة !
---------------------------
(1) أي : حتى يعجز السيف عن القطع ، ويعجز الفرس عن الركض.
(2) جنبها : أي جنب الخيمة.
(3) المذاعير ـ جمع مذعور ـ : وهو الذي أخافوه.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 178 _
فبكى ( عليه السلام ) وقال : أما والله لقد لهزتهم (1) وبلوتهم ، وليس فيهم إلا الأشوس الأقعس (2) يستأنسون بالمنية دوني إستيناس الطفل بلبن أمه.
قال نافع بن هلال : فلما سمعت هذا منه بكيت ، واتيت حبيب بن مظاهر ، وحكيت له ما سمعت منه ومن أخته زينب.
فقال حبيب : والله لو لا انتظار أمره لعاجلتهم بسيفي هذه الليلة !
قلت : إني خلفته عند أخته وهي في حال وجل ورعب ، وأظن أن النساء أفقن وشاركنها في الحسرة والزفرة ، فهل لك ان تجمع اصحابك وتواجههن بكلام يسكن قلوبهن ويذهب رعبهن ؟ فلقد شاهدت منها ما لا قرار لي مع بقائه.
فقال لي : طوع إرادتك ، فبرز حبيب ناحية ، ونافع إلى ناحية ، فانتدب أصحابه.
فتطالعوا من مضاربهم (3) فلما اجتمعوا قال ـ لبني هاشم ـ : إرجعوا إلى منازلكم ، لا سهرت عيونكم !!
ثم خطب أصحابه وقال : يا أصحاب الحمية وليوث
---------------------------
(1) يقال : لهزته اي : خالطته ، والمقصود : الإختبار والإمتحان.
(2) الأشوس : الجريء على القتال الشديد والأقعس : الرجل الثابت العزيز المنيع.
(3) المضارب ـ جمع مضرب ـ : الخيمة.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 179 _
الكريهة !
هذا نافع يخبرني الساعة بكيت وكيت ، وقد خلف أخت سيدكم وبقايا عياله يتشاكين ويتباكين .
أخبروني عما أنتم عليه ؟
فجردوا صوارمهم ، ورموا عمائمهم ، وقالوا : يا حبيب ! والله الذي من علينا بهذا الموقف ! لئن زحف القوم لنحصدن رؤوسهم ، ولنلحقنهم بأشياخهم أذلاء ، صاغرين ولنحفظن وصية رسول الله في أبنائه وبناته !
فقال : هلموا معي .
فقام يخبط الأرض (1) ، وهم يعدون خلفه حتى وقف بين أطناب الخيم ، ونادى : « يا أهلنا ويا سادتنا ! ويا معشر حرائر رسول الله ! هذه صوارم فتيانكم آلوا أن لا يغمدوها إلا في رقاب من يبغي السوء بكم ، وهذه أسنة غلمانكم أقسموا أن لا يركزوها إلا
---------------------------
(1) يخبط الأرض : يضرب الأرض برجليه ضرباً شديداً ، وهو مأخوذ من ضرب البعير الأرض برجله .
قال الخليل في كتاب ( العين ) : الخبط : شدة الوطئ بأيدي الدواب.
وجاء في ( المعجم الوسيط ) خبط الشيء : وطأه وطئاً شديداً .
ولعل المقصود : سرعة الركض ، أو نوع خاص من المشي العشائري ... يكون مزيجاً مع ضرب الأرجل بالأرض ، كنوع من التدريب للقتال قبل الحرب ، أو لإيجاد الحماس ورفع المعنويات.
المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 180 _
في صدور من يفرق ناديكم ! (1)
فقال الإمام الحسين ( عليه السلام ) : أخرجهن عليهم يا آل الله !
فخرجن ، وهن ينتدبن (2) ويقلن : حاموا أيها الطيبون عن الفاطميات ، ما عذركم إذا لقينا جدنا رسول الله ، وشكونا إليه ما نزل بنا ؟
وكان حبيب وأصحابه حاضرين يسمعون وينظرون ، فو الله الذي لا إله إلا هو ، لقد ضجوا ضجة ماجت منها الأرض ،
---------------------------
(1) أسنة : رماح.
يركزوها : الركز : غرزك شيئاً منتصباً ... كالرمح ونحوه ، يقال ركزه ركزاً في مركزه إي : ثبته في مكانه .
كما في « لسان العرب »، ناديكم : محل اجتماعكم، النادي : مجلس القوم ماداموا مجتمعين فيه .
(2) وفي نسخة : يندبن .
ينتدبن : الإنتداب : بمعنى الإسراع ، وبمعنى تلبية الطلب ، فيكون المعنى : « يتسارعن » في خروجهن من الخيام ، أو : « يلبين » أمر الإمام لهن بالخروج لهم ، قال الطريحي في « مجمع البحرين » : ندبه لأمر فانتدب : أي : دعاء لأمر فأجاب .
وذكر في بعض كتب اللغة : أن الإنتداب : هو طلب شيء من شخص في حالة الحرب وإسراع الشخص في تلبية الطلب ، كما يستفاد هذا المعنى من كتاب ( العين ) للخيل ، وكتاب ( المحيط في اللغة ) للصاحب بن عباد .
المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 181 _
واجتمعت لها خيولهم وكان لها جولة واختلاف صهيل ، حتى كأن كلاً ينادي صاحبه وفارسه (1) (2) .
وروي عن فخر المخدرات السيدة زينب ( عليها السلام ) أنها قالت : « لما كانت ليلة عاشر من المحرم خرجت من خيمتي لأتفقد أخي الحسين وأنصاره ، وقد أفرد له خيمة ، فوجدته جالساً وحده ، يناجي ربه ، ويتلو القرآن.
فقلت ـ في نفسي ـ : أفي مثل هذه الليلة يترك أخي وحده ؟ والله لأمضين إلى إخوتي وبني عمومتي وأعاتبهم بذلك .
فأتيت إلى خيمة العباس ، فسمعت منها همهمة ودمدمة ، (3)
---------------------------
(1) الظاهر أن المراد : حتى كأن كل واحد من الخيل ينادي ـ في صهيله ـ صاحبه وفارسه ... لركوب استعداداً للإنطلاق والقتال.
المحقق
(2) كتاب ( الدمعة الساكبة ) ج 4 ص 273 ، المجلس الثاني : فيما وقع في ليلة عاشوراء ، نقلاً عن الشيخ المفيد ، رضوان الله عليه .
وكتاب ( معالي السبطين ) للشيخ محمد مهدي المازندراني ، المجلس الرابع : وقائع ليلة عاشوراء.
(3) الهمهمة : هو الصوت الذي يسمع ولايفهم معناه ، بسبب خفائه أو اختلاطه مع أصوات أخرى، قال إبن منظور في ( لسان العرب ) : الهمهمة : الكلام الخفي ، وهمهم الرجل : إذا لم يبين كلامه ، والهمهمة : الصوت الخفي ، وقيل : هو صوت معه بحح.
وقال ابن دريد في ( جمهرة اللغة ) : الهمهمة : الكلام الذي لا يفهم .
المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 182 _
فوقفت على ظهرها (1) فنظرت فيها ، فوجدت بني عمومتي وإخوتي وأولاد إخوتي مجتمعين كالحلقة ، وبينهم العباس بن أمير المؤمنين ، وهو جاث على ركبتيه كالأسد على فريسته ؛ فخطب فيهم خطبة ـ ما سمعتها إلا من الحسين ـ : مشتملة على الحمد والثناء لله والصلاة والسلام على النبي وآله.
ثم قال ـ في آخر خطبته ـ : يا إخوتي ! وبني إخوتي ! وبني عمومتي ! إذا كان الصباح فما تقولون ؟
قالوا : الأمر إليك يرجع ، ونحن لا نتعدى لك قولاً. (2)
فقال العباس : إن هؤلاء ( أعني الأصحاب ) قوم غرباء ، والحمل ثقيل لا يقوم إلا بأهله ، فإذا كان الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم.
نحن نقدمهم إلى الموت لئلا يقول الناس : قدموا أصحابهم ، فلما قتلوا عالجوا الموت بأسيافهم ساعة بعد ساعة (3)
فقامت بنو هاشم ، وسلوا سيوفهم في وجه أخي العباس ، وقالوا : نحن على ما أنت عليه ! .
---------------------------
(1) ظهرها : أي ظهر الخيمة ، بمعنى خلفها وورائها.
(2) لا نتعدى : لا نتجاوز من رأيك إلى رأي غيرك.
(3) عالجوا : حاولوا التخلص من الموت بسيوفهم ... محاولةً بعد محاولة ، ومرةً بعد اخرى.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 183 _
قالت زينب : فلما رأيت كثرة إجتماعهم ، وشدة عزمهم ، وإظهار شيمتهم ، سكن قلبي وفرحت ، ولكن خنقتني العبرة ، فأردت أن أرجع إلى أخي الحسين وأخبره بذلك ، فسمعت من خيمة حبيب بن مظاهر همهمة ودمدمة ، فمضيت إليها ووقفت بظهرها ، ونظرت فيها ، فوجدت الأصحاب على نحو بني هاشم ، مجتمعين كالحلقة ، بينهم حبيب بن مظاهر ، وهو يقول :
« يا اصحابي ! لم جئتم إلى هذا المكان ؟ أوضحوا كلامكم ، رحمكم الله ».
فقالوا : أتينا لننصر غريب فاطمة !
فقال لهم : لم طلقتم حلائلكم ؟
قالوا : لذلك .
قال حبيب : فإذا كان الصباح فما أنتم قائلون ؟
فقالوا : الرأي رأيك ، لا نتعدى قولاً لك .
قال : فإذا صار الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم ، نحن نقدمهم للقتال ولا نرى هاشمياً مضرجاً بدمه وفينا عرق يضرب ، لئلا يقول الناس : قدموا ساداتهم للقتال ، وبخلوا عليهم بأنفسهم .
فهزوا سيوفهم على وجهه ، وقالوا : نحن على ما أنت عليه.
قالت زينب : ففرحت من ثباتهم ، ولكن خنقتني العبرة ،
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 184 _
فانصرفت عنهم وأنا باكية ، وإذا بأخي الحسين قد عارضني (1) ، فسكنت نفسي (2) ، وتبسمت في وجهه.
فقال : أخيه.
قلت : لبيك يا أخي.
فقال : يا أختاه ! منذ رحلنا من المدينة ما رأيتك متبسمة ، أخبريني : ما سبب تبسمك ؟
فقلت له : يا أخي ! رأيت من فعل بني هاشم والأصحاب كذا وكذا.
فقال لي : يا أختاه ! إعلمي أن هؤلاء أصحابي من عالم الذر ، وبهم وعدني جدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
هل تحبين أن تنظري إلى ثبات أقدامهم ؟
---------------------------
(1) عارضني : واجهني.
(2) هناك احتمالان في كيفية قراءة « فسكنت نفسي » هما :
1 ـ سكنت نفسي : بمعنى أنها حاولت أن تتغلب على ما بها من البكاء ، وتمسح آثار الحزن والكآبة عن ملامحها ... لكي لا تزيد من هموم الإمام.
وعلى هذا ... لا تكون الجملة تكملة ... بل جملة مستأنفة.
2 ـ سكنت نفسي : بمعنى أنه زال القلق عن نفسها ، وارتاح قلبها ... بما رأته وسمعته من موقف بني هاشم وموقف الأصحاب، فتكون الجملة تكملة لـ « ففرحت من ثباتهم ».
المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 185 _
فقلت : نعم .
فقال : عليك بظهر الخيمة.
قالت زينب : فوقفت على ظهر الخيمة ، فنادى أخي الحسين : « إين إخواني وبنو أعمامي » ؟
فقال الحسين : أريد أن أجدد لكم عهداً.
فأتى أولاد الحسين وأولاد الحسن ، وأولاد علي وأولاد جعفر وأولاد عقيل ، فأمرهم بالجلوس ، فجلسوا .
ثم نادى : أين حبيب بن مظاهر ، أين زهير ، أين نافع بن هلال ؟ أين الأصحاب ؟
فأقبلوا ، وتسابق منهم حبيب بن مظاهر ، وقال : لبيك يا أبا عبد الله !
فأتوا إليه وسيوفهم بأيديهم ، فأمرهم بالجلوس فجلسوا .
فخطب فيهم خطبةً بليغة ، ثم قال :
« يا أصحابي ! إعملوا أن هؤلاء القوم ليس لهم قصد سوى قتلي وقتل من هو معي ، وأنا أخاف عليكم من القتل ، فأنتم في حل من بيعتي ، ومن أحب منكم الإنصراف فلينصرف في سواد هذا الليل.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 186 _
فعند ذلك قامت بنو هاشم ، وتكلموا بما تكلموا ، وقام الأصحاب وأخذوا يتكلمون بمثل كلامهم .
فلما رأى الحسين حسن إقدامهم ، وثبات أقدامهم ، قال : إن كنتم كذلك فارفعوا رؤوسكم ، وانظروا إلى منازلكم في الجنة.
فكشف لهم الغطاء ، ورأوا منازلهم وحورهم وقصورهم فيها ، والحور العين ينادين : العجل العجل ! فإنا مشتاقات إليكم.
فقاموا بأجمعهم ، وسلوا سيوفهم ، وقالوا : يا أبا عبد الله ! إئذن لنا أن نغير على القوم ، ونقاتلهم حتى يفعل الله بنا وبهم ما يشاء .
فقال : إجلسوا رحمكم الله ، وجزاكم الله خيراً .
ثم قال : ألا ومن كان في رحله إمرأة فلينصرف بها إلى بني أسد. (1)
فقام علي بن مظاهر وقال : ولماذا يا سيدي ؟
فقال : إن نسائي تسبى بعد قتلي ، وأخاف على نسائكم من السبي.
فمضى علي بن مظاهر إلى خيمته ، فقامت زوجته إجلالاً له ، فاستقبلته وتبسمت في وجهه.
---------------------------
(1) الرحل : ما تستصحبه في السفر ... من الأثاث أو الزوجة أو غير ذلك ، كما يستفاد من « لسان العرب ».
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 187 _
فقال لها : دعيني والتبسم !
فقالت : يا بن مظاهر ! إني سمعت غريب فاطمة ! خطب فيكم وسمعت في آخرها همهمة ودمدمة ، فما علمت ما يقول ؟
قال : يا هذه ! إن الحسين قال لنا : ألا ومن كان في رحله إمرأة فليذهب بها إلى بني عمها ، لأني غداً أقتل ، ونسائي تسبى .
فقالت : وما أنت صانع ؟
قال : قومي حتى ألحقك ببني عمك : بني أسد.
فقامت ، ونطحت رأسها بعمود الخيمة ، وقالت :
« والله ما انصفتني يا بن مظاهر ، أيسرك أن تسبى بنات رسول الله وأنا آمنة من السبي ؟!
أيسرك أن تسلب زينب إزارها من رأسها وأنا استتر بإزاري ؟!
أيسرك أن يبيض وجهك عند رسول الله ويسود وجهي عند فاطمة الزهراء ؟!
والله أنتم تواسون الرجال ، ونحن نواسي النساء ».
فرجع علي بن مظاهر إلى الإمام الحسين ( عليه السلام ) وهو يبكي .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 188 _
فقال له الحسين : ما يبكيك ؟
قال : سيدي ... أبت الأسدية إلا مواساتكم !!
فبكى الإمام الحسين ، وقال : جزيتم منا خيراً (1) .
---------------------------
(1) معالي السبطين للمازندراني ج 1 ، المجلس الثالث في وقائع ليلة عاشوراء.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 189 _
أزمة الماء
كانت السيدة زينب ( عليها السلام ) ركناً مهماً في الأسرة الشريفة الطيبة ، وانطلاقاً من صفة العاطفة المثالية التي كانت تمتاز بها ، فقد كانت تشعر بالمسؤلية عن كل ما يرتبط بحياة الأسرة ... بجميع أفرادها.
فكانت مفزعاً للكبار والصغار ، وملاذاً لجميع أفراد العائلة ، ومعقد آمالهم ، فلعلها كانت تدخر شيئاً من الماء منذ بداية أزمة الماء عندهم .
فكان بعض العائلة يأملون أن يجدوا عندها الماء ، جرياً على عادتها وعادتهم ، ولهذا قالت سكينة بنت الإمام الحسين ( عليه السلام ) :
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 190 _
« عز ماؤنا ليلة التاسع من المحرم (1) ، فجفت الأواني ، ويبست الشفاه (2) حتى صرنا تنوقع الجرعة من الماء فلم نجدها .
فقلت ـ في نفسي ـ : أمضي إلى عمتي زينب ، لعلها أدخرت لنا شيئاً من الماء !!
فمضيت إلى خيمتها ، فرأيتها جالسة ، وفي حجرها أخي عبد الله الرضيع ، وهو يلوك بلسانه من شدة العطش ، وهي تارةً تقوم ، وتارةً تقعد .
فخنقتني العبرة ، فلزمت السكوت خوفاً من أن تفيق (3) بي عمتي فيزداد حزنها .
فعند ذلك إلتفتت عمتي وقالت : سكينة ؟
قلت : لبيك .
قالت : ما يبكيك ؟
قلت : حال أخي الرضيع أبكاني.
ثم قلت : عمتاه ! قومي لنمضي إلى خيم عمومتي ،
---------------------------
(1) عز ماؤنا : صار قليلاً جداً ، أو صار عزيزاً لنفاده .
المحقق
(2) وفي نسخة : السقاء : يعني القربة.
(3) تفيق : تشعر .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 191 _
وبني عمومتي ، لعلهم ادخروا شيئاً من الماء !
قالت : ما أظن ذلك .
فمضينا واخترقنا الخيم ، بأجمعهم ، فلم نجد عندهم شيئاً من الماء.
فرجعت عمتي إلى خيمتها ، فتبعتها من نحو عشرين صبي وصبية ، وهم يطلبون منها الماء ، وينادون : العطش العطش ... » (1)
---------------------------
(1) كتاب ( معالي السبطين ) للمازندراني ج 1 ، ص 320 ، المجلس الثامن : في عطش أهل البيت ، نقلاً عن كتاب ( اسرار الشهادة ) للدربندي .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 193 _
الفصل التاسع يوم عاشوراء
مقتل سيدنا علي الأكبر ( عليه السلام )
مقتل أولاد السيدة زينب ( عليها اسلام )
مقتل سيدنا أبي الفضل العباس ( عليه السلام )
مقتل الطفل الرضيع ( عليه السلام )
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 195 _
يوم عاشوراء
أصبح الصباح من يوم عاشوراء ، واشتعلت نار الحرب وتوالت المصائب ، الواحدة تلو الأخرى ، وبدأت الفجائع تترى !
فالأصحاب والأنصار يبرزون إلى ساحة الجهاد ، ويستشهدون زرافات ووحدانا ، وشيوخاً وشباناً.
ووصلت النوبة إلى أغصان الشجرة النبوية ، ورجالات البيت العلوي ، الذين ورثوا الشجاعة والشهامة ، وحازوا عزة النفس ، وشرف الضمير ، وثبات العقيدة ، وجمال الإستقامة.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 197 _
مقتل سيدنا علي الأكبر
وأول من تقدم منهم إلى ميدان الشرف : هو علي بن الحسين الأكبر ( عليهما السلام ) ، فقاتل قتال الأبطال ، وأخيراً ... إنطفأت شمعة حياته المستنيرة ، وسقط على الأرض كالوردة التي تتبعثر أوراقها.
وتبادر الإمام الحسين ( عليه السلام ) إلى مصرع ولده ، ليشاهد شبيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مقطعاً بالسيوف إرباً إرباً.
ولا أعلم كيف علمت السيدة زينب بهذه الفاجعة المروعة ، فقد خرجت تعدو ، وهي السيدة المخدرة اللمحجبة الوقورة !
خرجت من الخيمة مسرعة وهي تنادي : « وا ويلاه ، يا حبيباه ، يا ثمرة فؤاداه ، يا نور عيناه ، يا أخياه وابن أخياه ، واولداه ، واقتيلاه ، واقلة ناصراه ، واغريباه ، وامهجة قلباه .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 198 _
ليتني كنت قبل هذا اليوم عمياء ، ليتني وسدت الثرى ».
وجاءت وانكبت عليه ، فجاء الإمام الحسين ( عليه السلام ) فأخذ بيدها ، وردها إلى المخيم ، وأقبل بفتيانه إلى المعركة وقال : إحملوا أخاكم ، فحملوه من مصرعه وجاؤا به حتى وضعوه عند الخيمة التي كانوا يقاتلون أمامها. (1)
---------------------------
(1) كتاب ( معالي السبطين ) للشيخ المازندراني ، ج 1 ، الفصل التاسع ، المجلس الثالث عشر.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 199 _
مقتل أولاد السيدة زينب
وإلى أن وصلت النوبة إلى أولاد السيدة زينب عليها السلام وأفلاذ كبدها .
أولئك الفتية الذين سهرت السيدة زينب لياليها ، وأتبعت أيامها ، وصرفت حياتها في تربية تلك البراعم ، حتى نمت وأورقت.
إنها قدمت أغلى شيء في حياتها في سبيل نصرة أخيها الإمام الحسين عليه السلام.
وتقدم أولئك الأشبال يتطوعون ويتبرعون بدمائهم وحياتهم في سبيل نصرة خالهم ، الذي كان الإسلام متجسداً فيه وقائماً به.
وغريزة حب الحياة إنقلبت ـ عندهم ـ إلى كراهية تلك الحياة.
ومن يرغب ليعيش في أرجس مجتمع متكالب ، يتسابق على إراقة دماء أطهر إنسان يعتبر مفخرة أهل السماء والأرض ؟!
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 200 _
وكان عبد الله بن جعفر ـ زوج السيده زينب ـ قد أمر ولديه : عوناً ومحمداً ان يرافقا الإمام الحسين ( عليه السلام ) ـ لما أراد الخروج من مكه ـ والمسير معه ، والجهاد دونه.
فلما انتهى القتال إلى الهاشميين برز عون بن عبد الله بن جعفر ، وهو يرتجز ويقول :
إن تـنكروني فأنا ابن iiجعفر شهيد صدق في الجنان أزهر يـطير فـيها بجناح iiأخضر كـفى بهذا شرفاً في المحشر
فقتل ثلاثة فرسان ، وثمانية عشر راجلاً ، فقتله عبد الله بن قطبة الطائي. (1)
ثم برز أخوه محمد بن عبد الله بن جعفر ، وهو ينشد :
أشكو إلى الله من iiالعدوان فعال قوم في الردى iiعميان قـد بـدلوا مـعالم iiالقرآن ومـحكم التنزيل iiوالتبيان
وأظهروا الكفر مع الطغيان
فقتل عشرة من الأعداء ، فقتله عامر بن نهشل التميمي. (2)
---------------------------
(1) وفي نسخة : عبد الله بن قطنة الطائي.
(2) كتاب ( مناقب آل ابي طالب ) لابن شهر آشوب ، ج 4 ص 106 ، وبحار الأنوار ج 45 ص 33.