ولقد رثاهما سليمان بن قبة بقوله :
و سـمي النبي غودر iiفيهم      قـد علوه بصارم iiمصقول
فإذا ما بكيت عيني iiفجودي      بـدموع تـسيل كل iiمسيل
واندبي إن بكيت عوناً أخاه      لـيس  فيما ينوبهم  (1) iiبخذول
   أقول : لم أجد في كتب المقاتل أن السيدة زينب الكبرى ( عليها السلام ) صاحت أو ناحت أو صرخت أو بكت في شهادة ولديها ، لا في يوم عاشوراء ولابعده.
   ومن الثابت أن مصيبة ولديها أوجدت في قلبها الحزن العميق ، بل والهبت في نفسها نيران الأسى وحرارة الثكل ، ولكنها ( عليها السلام ) كانت تخفي حزنها على ولديها ، لأن جميع عواطفها كانت متجهة إلى الإمام الحسين عليه السلام. (2)

---------------------------
(1) كتاب ( مقاتل الطالبيين ) لأبي الفرج الأصفهاني ، ص 91.
(2) وقد جاء ذكر هذين السيدين الشهيدين في إحدى الزيارات الشريفة ، التي ذكرت فيها أسماء شهداء كربلاء في يوم عاشوراء ، ومنها هذه الكلمات :
   « ... السلام على عون بن عبد الله بن جعفر الطيار في الجنان ، حليف الإيمان ، ومنازل الأقران ، الناصح للرحمن ، التالي للمثاني والقرآن ، لعن الله قاتله عبد الله بن قطبة النبهاني.
   السلام على محمد بن عبد الله بن جعفر ، الشاهد مكان إبيه ، والتالي لأخيه ، وواقيه ببدنه ، لعن الله قاتله عامر بن نهشل التميمي ... ».

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 202 _

   وهناك وجه آخر قد يتبادر إلى الذهن : وهو أن بكاءها على ولديها قد كان يسبب الخجل والإحراج لأخيها الإمام الحسين ، باعتبار أنهما قتلا بين يديه ودفاعاً عنه ، فكان السيدة زينب ـ بسكوتها ـ تريد أن تقول للإمام الحسين ( عليه السلام ) : ولداي فداء لك ، فلا يهمك ولا يحرجك أنهما قتلا بين يديك ، والله العالم.

---------------------------
   وأما مصدر هذه الزيارة ، فقد حكى الشيخ المجلسي في كتاب ( بحار الأنوار ) طبع لبنان ، عام 1403 هـ ، ج 98 ص 269 ، وص 271 ، عن كتاب ( إقبال الأعمال ) عن الشيخ الطوسي ... قال : خرج من الناحية سنة 252 على يد الشيخ محمد بم غالب : « بسم الله الرحمن الرحيم ، إذا أردت زيارة الشهداء ( رضوان الله عليهم ) فقف عند رجلي الحسين ( عليه السلام ) وهو قبر علي بن ا لحسين ، فاستقبل القبلة بوجهك ، فإن هناك حومة الشهداء ... ».
   والمقصود من جملة « خرج من الناحية » : هو كلما كان يصل إلى الشيعة من جانب الإمام علي الهادي ، ثم الإمام الحسن العسكري ، ثم الإمام المهدي ( صلوات الله عليهم ).
   والذي يناسب التاريخ المذكور ـ وهو سنة 252 ـ أن تكون الزيارة قد صدرت من ناحية الإمام علي الهادي عليه السلام ، والله العالم.
   المحقق

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 203 _

مقتل سيدنا أبي الفضل العباس
   لقد كانت العلاقات الودية بين السيدة زينب وبين أخيها أبي الفضل العباس ( عليهما السلام ) تمتاز بنوع خاص من تبادل المحبة والإحترام ، فقد كانت السيدة زينب تكن إخوتها من أبيها كل عكاطفة وود ، وكان ذلك العطف والتقدير يظهر من خلال كيفية تعاملها مع إخوانها الأكارم.
   وكان سيدنا أبو الفضل العباس ـ بشكل خاص ـ يحترم أخته زينب احتراماً كثيراً جداً.
   وفي طوال رحلة قافلة الإمام الحسين ( عليه السلام ) من مكة نحو العراق ... كان العباس هو الذي يقوم بشؤون السيدة زينب ، من مساعدتها حين الركوب أو النزول من المحمل ويبادر إلى تنفيذ الأوامر والطلبات بكل سرعة ... ومن القلب.
   فالسيدة زينب ( عليها السلام ) محترمة ومحبوبة عند الجميع ،

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 204 _

   يحبونها لعواطفها وأخلاقها المثالية ، يضاف إلى ذلك : أنها عميدة الأسرة ، وعقيلة بني هاشم ، وابنة فاطمة الزهراء ، وسيدة نساء أهل البيت.
   ومنذ وصول قافلة الإمام الحسين إلى أرض كربلاء في اليوم الثاني من شهر محرم ، إختار سيدنا العباس بن أمير المؤمنين ( عليهما السلام ) لنفسه نوعاً خاصاً من العبادة : وهي أنه كان إذا جن الليل يركب الفرس ويحوم حول المخيمات لحراسة العائلة.
   والعباس : إسم لامع وبطل شجاع ، تطمئن إليه نفوس العائلة والنساء والأطفال ، ويعرفه الأعداء أيضاً ، فقد ظهرت منه ـ يوم صفين ـ شجاعة عظيمة جعلت إسمه يشتهر عند الجميع بالبطولة والبسالة ، ولا عجب من ذلك فهو ابن أسد الله الغالب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
   وفي يوم عاشوراء ، لما قتل أكثر أصحاب الإمام الحسين ( عليه السلام ) أقبل العباس إلى أخيه الحسين واستأذنه للقتال ، فلم يأذن له ، وقال : « أخي أنت صاحب لوائي ، فإذا غدوت يؤول جمعنا إلى الشتات ».
   فقال العباس : يا سيدي لقد ضاق صدري وأريد أخذ الثأر من هؤلاء المنافقين.
   فقال له الإمام الحسين ( عليه السلام ) : « إذن .. فاطلب

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 205 _

   لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء ». (1)
   فأقبل العباس وحمل القربة وتوجه نحو النهر ليأتي بالماء ... ، وإلى أن وصل إلى الماء وملأ القربة ، وتوجه نحو خيام الإمام الحسين ( عليه السلام ).
   فجعل الأعداء يرمونه بالسهام ـ كالمطر ـ حتى صار درعه كالقنفذ ، ثم قطعوا عليه الطريق وأحاطوا به من كل جانب ، فحاربهم وقاتلهم قتال الأبطال ، وكان جسوراً على الطعن والضرب.
   فكمن له زيد بن ورقاء من وراء نخلة وضربه بالسيف على يمينه فقطعها ، فأخذ السيف بشماله واستمر في القتال ، فضربه لعين على شماله فقطع يده ، وجاءته السهام والنبال من كل جانب ، وجاء سهم وأصاب القربة فأريق ماؤها ، وضربه الأعداء بعمود من حديد على رأسه ، فسقط على الأرض صريعاً ، ونادى ـ بأعلى صوته ـ : أدركني يا أخي !
   وكان الإمام الحسين ( عليه السلام ) قد وقف على ربوة عند باب الخيمة ... وهو ينظر إلى ميدان القتال ، وكانت السيدة زينب واقفة تنظر إلى وجه أخيها ، وإذا بالحزن قد غطى ملامح الإمام الحسين ! فقالت زينب : أخي مالي أراك قد تغير وجهك ؟

---------------------------
(1) كتاب « تظلم الزهراء » ص 210.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 206 _

   فقال : أخيه لقد سقط العلم وقتل أخي العباس !
   فكان السيدة زينب إنهد ركنها ، وجلست على الأرض وصرخت : وا أخاه ! وا عباساه !
   وا قلة ناصراه ، واضيعتاه من بعدك يا أبا الفضل !
   فقال الإمام الحسين : « إي والله ، من بعده وا ضيعتاه ! وا إنقطاع ظهراه !
   وأقبل الحسين ـ كالصقر المنقض ـ حتى وصل إلى أخيه فرآه صريعاً على شاطئ الفرات ، فنزل عن فرسه ووقف عليه منحنياً ، وجلس عند رأسه ، وبكى بكاءً شديداً ، وقال : « يعز ـ والله ـ علي فراقك ، الآن إنكسر ظهري ، وقلت حيلتي ، وشمت بي عدوي ».

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 207 _

مقتل الطفل الرضيع
   قال السيد ابن طاووس (1) : لما رأى الحسين ( عليه السلام ) مصارع فتيانه وأحبته عزم على لقاء القوم بمهجته ، ونادى :
   هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله ؟
   هل من موحد يخاف الله فينا ؟
   هل من مغيث يرجو الله بإغاثتنا ؟
   هل من معين يرجو ما عند الله بإعانتنا ؟
   فارتفعت اصوات النساء بالعويل ، فتقدم الإمام ( عليه السلام ) إلى باب الخيمة وقال لأخته زينب : ناوليني ولدي الرضيع حتى أودعه.

---------------------------
(1) في كتاب الملهوف ص 168 / وذكر في كتاب بحار الأنوار ج 45 ص 46.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 208 _

   فأخذه وأوما إليه ليقبله فرماه حرملة بن كاهل بسهم فوقع في نحره فذبحه .
   فقال الحسين لأخته زينب : خذيه .
   ثم تلقى الدم بكفيه فلما امتلأتا رمى بالدم نحو السماء وقال : هون علي ما نزل بي أنه بعين الله.
   قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض. (1)
   وفي رواية أخرى : أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) حينما طلب طفله الرضيع ليودعه ، أقبلت السيدة زينب ( عليها السلام ) بالطفل ، وقد غارت عيناه من شدة العطش ، فقالت : يا أخي هذا ولدك له ثلاثة أيام ما ذاق الماء ، فاطلب له شربة ماء .
   فأخذه الإمام الحسين ( عليه السلام ) على يده ، وأقبل نحو أهل الكوفة وقال : « يا قوم : قد قتلتم أخي وأولادي وأنصاري ، وما بقي غير هذا الطفل ، وهو يتلظى عطشاً ، من غير ذنب أتاه إليكم ، فاسقوه شربةً من الماء ، ولقد جف اللبن في صدر أمه ! يا قوم ! إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل ، فبينما

---------------------------
(1) كتاب « معالي السبطين » ، ج 1 ، ص 259 ، المجلس السادس عشر.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 209 _

   هو يخاطبهم إذا أتاه سهم فذبح الطفل من الأذن إلى الأذن !!
   فجعل الإمام الحسين ( عليه السلام ) يتلقى الدم حتى امتلأت كفه ، ورمى به إلى السماء ، وخاطب نفسه قائلاً : « يا نفس اصبري واحتسبي فيما أصابك » ثم قال : إلهي ترى ما حل بنا في العاجل ، فاجعل ذلك ذخيرةً لنا في الآجل ». (1)
   وجاء في بعض كتب التاريخ : أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) لما رجع بالرضيع مذبوحاً إلى الخيام ، رأى الأطفال والبنات ـ ومعهن أم الرضيع ـ واقفات بباب الخيمة ينتظرن رجوع الإمام ، لعلهن يحصلن على بقايا من الماء الذي قد يكون الإمام سقاه لطفله .
   فلما رأى الإمام الحسين ذلك ، غير طريقه ، وذهب وراء الخيام ، ونادى أخته زينب لتأتي وتمسك جثمان الرضيع لكي يخرج الإمام خشبة السهم من نحر الطفل !!
   ويعلم الله ماذا جرى على قلب الإمام الحسين وقلب السيدة زينب ( عليهما السلام ) ساعة إخراج السهم من نحر الطفل.
   ثم إن الإمام حفر الأرض ودفن طفله الرضيع تحت التراب.

---------------------------
(1) كتاب « معالي السبطين » ، ج 1 ، ص 259 ، المجلس السادس عشر.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 211 _

الفصل العاشر
   الإمام الحسين يودع ولده المريض
   الإمام الحسين يودع السيدة زينب
   الإمام الحسين يخرج إلى ساحة الجهاد
   عودة فرس الإمام إلى المخيم
   ذهاب السيدة زينب إلى المعركة

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 213 _

الإمام الحسين ( عليه السلام ) يودع ولده المريض
   كانت ساعات يوم عاشوراء تقترب نحو العصر ، دقيقة بعد دقيقة ، والإمام الحسين ( عليه السلام ) يعلم باقتراب تلك اللحظة التي يفارق فيها الحياة بأفجع صورة وأفظع كيفية .
   وها هو ينتهز تلك اللحظات ليقوم بما يلزم ، فقد جاء ليودع ولده البار المريض : الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام.
   وكانت السيدة زينب عليها السلام ـ والتي تفايضت صحيفة أعمالها بالحسنات ـ قد أضافت إلى حسناتها حسنةً أخرى ، وهي تمريض الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وتكفل شؤونه .
   ودخل الإمام الحسين على ولده في خيمته ، وهو طريح على

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 214 _

   نطع الأديم (1) ، فلا سرير ولا فراش وثير ، قد امتص المرض طاقات بدنه ، لا طاقات روحه المرتبطة بالعالم الأعلى.
   فدخل عليه ، وعنده السيدة زينب تمرضه ، فلما نظر علي بن الحسين إلى أبيه أراد أن ينهض فلم يتمكن من شدة المرض ، فقال لعمته :
   « سنديني إلى صدرك ، فهذا ابن رسول الله قد أقبل ».
   فجلست السيدة زينب خلفه ، وسندته إلى صدرها .
   فجعل الإمام الحسين ( عليه السلام ) يسأل ولده عن مرضه ، وهو يحمد الله تعالى ، ثم قال : يا أبت ما صنعت اليوم مع هؤلاء المنافقين ؟
   فقال له الحسين ( عليه السلام ) : « يا ولدي إستحوذ عليهم الشيطان ، فأنساهم ذكر الله ، وقد شب القتال بيننا وبينهم ، حتى فاضت الأرض بالدم منا ومنهم ».
   فقال : يا أبتاه أين عمي العباس ؟
   فلما سأل عن عمه إختنقت السيدة زينب بعبرتها ، وجعلت تنظر إلى أخيها كيف يجيبه ؟ لأنه لم يخبره ـ قبل ذلك ـ بمقتل العباس خوفاً من أن يشتد مرضه .

---------------------------
(1) النطع : بساط من الجلد يفرش تحت الإنسان ، الأديم : الجلد المدبوع.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 215 _

   فقال : « يا بني إن عمك قد قتل ، وقطعوا يديه على شاطئ الفرات ».
   فبكى علي بن الحسين بكاءً شديداً حتى غشى عليه ، فلما افاق من غشيته جعل يسأل أباه عن كل واحد من عمومته ، والحسين ( عليه السلام ) يقول له : قتل.
   فقال : وأين أخي علي ، وحبيب بن مظاهر ، ومسلم بن عوسجة وزهير بن القين ؟
   فقال له : يا بني ! إعلم أنه ليس في الخيام رجل إلا أنا وأنت ، وأما هؤلاء الذين تسأل عنهم فكلهم صرعى على وجه الثرى.
   فبكى علي بن الحسين بكاءً شديداً ، ثم قال ـ لعمته زينب ـ : يا عمتاه علي بالسيف والعصا.
   فقال له أبوه : وما تصنع بهما ؟
   قال : أما العصا فاتوكأ عليها ، وأما السيف فأذب به بين يدي أبن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فإنه لا خير في الحياة بعده .
   فمنعه الحسين ( عليه السلام ) عن ذلك وضمه إلى صدره ، وقال له : يا ولدي ! أنت أطيب ذريتي ، وأفضل عترتي ، وأنت خليفتي على هؤلاء العيال والأطفال ، فإنهم غرباء ،

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 216 _

   مخذولون ، قد شملتهم الذلة (1) ، واليتم ، وشماتة الأعداء ، ونوائب الزمان (2) .
   سكتهم إذا صرخوا ، وآنسهم إذا استوحشوا ، وسل خواطرهم بلين الكلام ، فإنه ما بقي من رجالهم من يستأنسون به غيرك ، ولا أحد عندهم يشتكون إليه حزنهم سواك .
   دعهم يشموك وتشمهم ، ويبكوا عليك وتبكي عليهم ».
   ثم لزمه بيده وصاح بأعلى صوته : « يا زينب ! ويا أم كلثوم ، ويا رقية ! ويا فاطمة !
   إسمعن كلامي ، وأعلمن أن إبني هذا خليفتي عليكم وهو إمام

---------------------------
(1) الذلة على قسمين : ظاهرية وواقعية ، ولا شك أن المراد من الذلة ـ هنا ـ : الذلة الظاهرية ... وليست الوكاقعية ، وعلى هذا المعنى يحمل قول الإمام الرضا ( عليه السلام ) : « إن يوم الحسين ... أذل عزيزنا ».
   ولعل المقصود من الذلة : هو وقوع حفيدات النبوة وبنات الإمامة في أسر الأعداء ، ومعاناتهن من التعامل القاسي من أولئك.
   المحقق
(2) النوائب ـ جمع نائبة ـ : المصائب والمتاعب التي يراها الإنسان طوال حياته .
   سميت بـ « النوائب » لأن الإنسان كلما تخلص من مصيبة ظهرت في حياته مصيبة أخرى ومن نوع آخر ، فكأن المصيبة اللاحقة نابت عن المصيبة السابقة ، وحلت مكانها ، فسميت بـ « النائبة ».
   المحقق

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 217 _

   فترض الطاعة ».
   ثم قال له : « يا ولدي بلغ شيعتي عني السلام ، وقل لهم : إن أبي مات غريباً فاندبوه ، ومضى شهيداً فابكوه » (1) .

---------------------------
(1) كتاب ( الدمعة الساكبة ) للبهبهاني ، طبع لبنان ، عام 1409 هـ ، ج 4 ، ص 35(1) 352.
   المحقق

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 219 _

الإمام الحسين يودع السيدة زينب
   يعتبر التوديع نوععاً من التزود من الرؤية ، فالمسافر يتزود من رؤية من سيفارقهم وهم يتزودون من رؤيته ، والوداع يخفف ألم البعد والفراق ، لأن النفس تكون قد استوفت قسطاً من رؤية الغائب ، وتوطنت على المفارقة ومضاعفاتها .
   ولهذا جاء الإمام الحسين ( عليه السلام ) ليودع عقائل النبوة ، ومخدرات الرسالة ، وودائع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
   ليودع النساء والأخوات والبنات وأطفاله الأعزاء ، وليخفف عنهم صدمة مصيبة الفراق.
   قد تحدث في هذا العالم حوادث وقضايا يمكن شرحها ووصفها ، وقد تحدث أمور يعجز القلم واللسان عن شرحها ووصفها ، بل لا يمكن تصورها .
   إنني أعتقد أن تلك الدقائق واللحظات ـ من ساعات

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 220 _

   التوديع ـ كانت تجاوزت حدود الوصف والبيان .
   فالأحزان قد بلغت منتهاها ، والقلق والاضطراب قد بلغ أشده ، والعواطف قد هاجت هيجان البحار المتلاطمة ، والدموع متواصلة تتهاطل كالمطر ، وأصوات البكاء لا تنقطع ، والقلوب ملتهبة ، بل مشتعلة ، والهموم والغموم متراكمة مثل تراكم الغيوم.
   فبعد أن قتل جميع أصحاب الإمام الحسين ( عليه السلام ) وبنو هاشم ، ولم يبق من الرجال أحد ، عزم الإمام على لقاء الله تعالى ، وعلى ملاقاة الأعداء بنفسه المقدسة ، فأقبل إلى المخيم للوداع ، ونادى : « يا سكينة ويا فاطمة ، يا زينب ويا أم كلثوم : عليكن مني السلام ، فهذا آخر الإجتماع ، وقد قرب منكن الإفتجاع !
   فعلت أصواتهن بالبكاء ، وصحن : الوداع ... الوداع ، الفراق ... الفراق ، فجاءته عزيزته سكينة وقالت : يا أبتاه إستسلمت للموت ؟ فإلى من أتكل ؟
   فقال لها : « يا نور عيني كيف لا يستسلم للموت من لا ناصر له ولا معين ، ورحمة الله ونصرته لا تفارقكم في الدنيا والآخرة ، فاصبري على قضاء الله ولا تشكي ، فإن الدنيا فانية ، والآخرة باقية .
   قالت : أبه ردنا إلى حرم جدنا رسول الله ؟

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 221 _

   فقال الإمام الحسين : هيهات ، لو ترك القطا لغفا ونام .
   فبكت سكينة فأخذها الإمام وضمهما إلى صدره ، ومسح الدموع عن عينيها .
   ثم إن الإمام الحسين ( عليه السلام ) دعى النساء بأجمعهن ، وقال لهن : « إستعدوا للبلاء ، واعلموا أن الله حافظكم وحاميكم ، وسينجيكم من شر الأعداء ويجعل عاقبة أمركم إلى خير ، ويعذب أعاديكم بأنواع العذاب ، ويعوضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة ، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم ».
   ثم أمرهن بلبس أزرهن ومقانعهن ، فسألته السيدة زينب عن سبب ذلك ، فقال : « كأني أراكم عن قريب كالإماء والعبيد يسوقونكم أمام الركاب ويسومونكم سوء العذاب !!
   فلما سمعت السيدة زينب ذلك بكت ونادت : واوحدتاه ، واقلة ناصراه ، ولطمت على وجهها !
   فقال لها الإمام الحسين : « مهلاً يا بنة المرتضى ، إن البكاء طويل » !!
   ثم أراد الإمام أن يخرج من الخيمة فتعلقت به السيدة زينب وقالت : « مهلاً يا أخي ، توقف حتى أتزود منك ومن

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 222 _

   نظري إليك ، وأودعك وداع مفارق لا تلاقي بعده » ؟ فجعلت تقبل يديه ورجليه.
   فصبرها الإمام الحسين ، وذكر لها ما أعد الله للصابرين .
   فقالت : يا بن أمي طب نفساً وقر عيناً فإنك تجدني كما تحب وترضى.
   فقال لها الإمام الحسين : « أخيه إيتيني بثوب عتيق لا يرغب فيه أحد ، اجعله تحت ثيابي لئلا أجرد بعد قتلي ، فإني مقتول مسلوب ، فارتفعت اصوات النساء بالبكاء .
   ولما أراد الإمام أن يخرج نحو المعركة نظر يميناً وشمالاً ونادى : هل من يقدم إلي جوادي ؟
   فسمعت السيدة زينب ذلك ، فخرجت وأخذت بعنان الجواد ، وأقبلت إليه وهي تقول : لمن تنادي وقد قرحت فؤادي ؟! (1)
   وقد جاء في التاريخ : أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) أوصى أخته السيدة زينب قائلاً : « يا أختاه ! لا تنسيني في نافلة الليل ». (2)

---------------------------
(1) كتاب « معالي السبطين » ج 2 ص 13 ـ 14 ، المجلس السادس.
(2) كتاب « زينب الكبرى » للشيخ جعفر النقدي ، ص 58.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 223 _

الإمام الحسين يخرج إلى ساحة الجهاد
   كانت تلك اللحظات من أصعب الساعات في حياة السيدة زينب ، من هول قرب الفاجعة والمستقبل المخيف المرعب.
   وهل يستطيع القلم واللسان من وصف تلك الدقائق ، وتأثيرها على قلب السيدة زينب عليها السلام ؟
   لقد توجه أخوها إلى ساحة القتال بعد أن قدم أعز أصحابه ، وأشرف شبابه ، وأكرم عشيرته ضحايا في سبيل الله ، ولم يبق له ومعه أحد من الرجال سوى ولده العليل.
   ونتيجة الذهاب إلى المعركة معلومة : القتل والشهادة !!
   لقد ترك الإمام الحسين ( عليه السلام ) أغلى ما عنده ، وهم عائلته الذين هم أشرف عائلة على وجه الأرض ، وأكثرها عفافاً وخفارة ، وهن مخدرات الرسالة وعقائل النبوة ، اللاتي كانت حياتهن مشفوعة بالعز والإحترام.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 224 _

   تركهم في وسط البر الأقفر ، قد أحاط بهن سفلة المجتمع ، وأراذل الناس ، من باعة الضمائر ، والهمج الرعاع ، وفاقدي الفضيلة.
   أولئك الذين سلموا أنفسهم واستسلموا لأقذر سلطة في التاريخ ، وأرجس جهاز حاكم في العالم.
   والعائلة المكرمة تعرف إتجاه أولئك الأشرار الأوباش ، ونفسياتهم ، فالمخاوف والأخطار تهاجم قلوب العائلة الشريفة من كل جانب.
   فمن ناحية : الإحساس باقتراب الخطر من حياة الإمام الحسين ( عليه السلام ).
   ومن ناحية أخرى : ترقب إستيلاء العدو الشرس المتوحش على سرادق الوحي ومخيمات النبوة.
   ومضاعفات هذه الاحتمالات من العواصف والأعاصير التي سوف تجتاح حياة السيدات ... كلها أمور تدعو إلى القلق والخوف والوحشة.
   والآن ... نقرأ ما جاء في كتب التاريخ حول ذهاب الإمام الحسين إلى ساحة المعركة :
   ولما قتل جميع أصحاب الإمام الحسين ( عليه السلام ) ورجال أهل بيته ، ولم يبق منهم أحد ، عزم الإمام على لقاء القوم بنفسه ، فدعى ببردة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فالتحف بها ، وأفرغ عليها درعه الشريف ، وتقلد

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 225 _

   سيفه ، واستوى على متن جواده ، ثم توجه نحو ميدان الحرب والقتال ، فوقف أمام القوم وجعل يخاطب أهل الكوفة بقوله :
   « ويلكم على م تقاتلونني ؟!
   على حق تركته ؟!
   أم على شريعة بدلتها ؟!
   أم على سنة غيرتها » ؟!
   فقالوا : بل نقاتلك بغضاً منا لأبيك ، وما فعل بأشياخنا يوم بدر وحنين (1) .
   وجاء في بعض كتب التاريخ : أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) وقف أمام القوم وسيفه مصلت في يده ، آيساً من الحياة ، عازماً على الموت ، وهو يقول :
أنا ابن علي الطهر من آل iiهاشم      كـفاني بـهذا مفخراً حين iiأفخر
وجدي رسول الله أكرم من iiمشى      ونحن سراج الله في الخلق نزهر

---------------------------
(1) معالي السبطين ، ج 2 ص 5 ، الفصل العاشر ، المجلس الثاني.