منحنياً على ثنايا أبي عبد الله ـ وكانت مقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ ينكتها بمخصرته ، قد التمع السرور بوجهه .
   لعمري لقد نكأت القرحة ، واستأصلت الشأفة ، بإراقتك دم سيد شباب أهل الجنة ، وابن يعسوب الدين (1) ، وشمس آل عبد المطلب.
   وهتفت بأشياخك ، وتقربت بدمه إلى الكفرة من أسلافك ، ثم صرخت بندائك ، ولعمري لقد ناديتهم لو شهدوك ، ووشيكاً تشهدهم ولن يشهدوك ، ولتود يمينك ـ كما زعمت ـ شلت بك عن مرفقها وجذت ، وأحببت أمك لم تحملك ، وإياك لم تلد (2) ، حين تصير إلى سخط الله ، ومخاصمك رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
   اللهم خذ بحقنا ، وانتقم من ظالمنا ، واحلل غضبك على من سفك دماءنا ، ونقض ذمارنا ، وقتل

---------------------------
(1) وفي نسخة : وابن يعسوب دين العرب، وفي نسخة : وابن يعسوب العرب.
(2) وفي نسخة : وأباك لم يلدك .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 402 _

   حماتنا ، وهتك عنا سدولنا .
   وفعلت فعلتك التي فعلت ، وما فريت إلا جلدك ، وما جزرت إلا لحمك ، وسترد على رسول الله بما تحملت من دم ذريته ، وانتهكت من حرمته ، وسفكت من دماء عترته ولحمته ، حيث يجمع به شملهم ، ويلم به شعثهم ، وينتقم من ظالمهم ، ويأخذ لهم بحقهم من أعدائهم ، فلا يستفزنك الفرح بقتلهم ، «} وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ ». (1)
   وحسبك بالله ولياً وحاكماً ، وبرسول الله خصماً ، وبجبرائيل ظهيرا .
   وسيعلم من بوأك ومكنك من رقاب المسلمين أن « بئس للظالمين بدلاً » وأيكم شر مكاناً وأضل سبيلا .
   وما استصغاري قدرك ، ولا استعظامي تقريعك توهماً لانتجاع الخطاب فيك ، بعد أن تركت

---------------------------
(1) سورة آل عمران ، الآية 169 ـ 170.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 403 _

   عيون المسلمين ـ به ـ عبرى ، وصدورهم ـ عند ذكره ـ حرى.
   فتلك قلوب قاسية ، ونفوس طاغية ، وأجسام محشوة بسخط الله ، ولعنة الرسول ، قد عشش فيها الشيطان وفرخ ، ومن هناك مثلك ما درج (1) .
   فالعجب كل العجب لقتل الأتقياء ، وأسباط الأنبياء ، وسليل الأوصياء ، بأيدي الطلقاء الخبيثة ، ونسل العهرة الفجرة !!
   تنطف أكفهم من دمائنا ، وتتحلب أفواههم من لحومنا .
   تلك الجثث الزاكية على الجبوب الضاحية ، تنتابها العواسل ، وتعفرها أمهات الفواعل. (2)
   فلئن اتخذتنا مغنماً ، لتجد بنا ـ وشيكاً ـ مغرماً ، حين لا تجد إلا ما قدمت يداك ، وما الله بظلام للعبيد .

---------------------------
(1) وفي نسخة : ما درج ونهض.
(2) وفي نسخة : الفراعل.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 404 _

   فإلى الله المشتكى والمعول ، وإليه الملجأ والمؤمل.
   ثم كد كيدك ، واجهد جهدك .
   فوالله الذي شرفنا بالوحي والكتاب ، والنبوة والإنتخاب (1) ، لا تدرك أمدنا ، ولا تبلغ غايتنا ، ولا تمحو ذكرنا ، ولا يرحض عنك عارها.
   وهل رأيك إلا فند ؟ وأيامك إلا عدد ؟ وجمعك إلا بدد ؟
   يوم ينادي المنادي : ألا : لعن الله الظالم العادي.
   والحمد لله الذي حكم لأوليائه بالسعادة ، وختم لأصفيائه بالشهادة ، ببلوغ الإرادة ، ونقلهم إلى الرحمة والرأفة ، والرضوان والمغفرة.
   ولم يشق ـ بهم ـ غيرك ، ولا ابتلي ـ بهم ـ سواك.
   ونسأله أن يكمل لهم الأجر ، ويجزل لهم الثواب والذخر ، ونسأله حسن الخلافة ، وجميل الإنابة ، إنه رحيم ودود ».

---------------------------
(1) وفي نسخة : والإنتجاب.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 405 _

   فقال يزيد ـ مجيباً لها ـ :
يـا  صـيحة تـحمد مـن iiصوائح      ما أهون الموت  (1) على النوائح  (2)

---------------------------
(1) وفي نسخة : ما أهون النوح على النوائح.
(2) كتاب « الإحتجاج » للطبرسي ، طبع لبنان عام 1403 هـ ، ج 2 ص 307 ـ 310.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 407 _

شرح خطبة السيدة زينب في مجلس يزيد
   قبل أن نبدأ بشرح بعض كلمات هذه الخطبة نجلب إنتباه القارئ الكريم إلى هذا التمهيد :
   تدبر قليلاً لتتصور أجواء ذلك المجلس الرهيب ، ثم معجزة السيدة زينب الكبرى في موقفها الجريئ !
   بالله عليك ! أما تتعجب من سيدة أسيرة تخاطب ذلك الطاغوت بذلك الخطاب ؟
   وتتحداه تحدياً لا تنقضي عجائبه ؟
   ولا تهاب الحرس المسلح الذي ينفذ الأوامر بكل سرعة وبدون أي تأمل أو تعقل ؟!

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 408 _

   وأعجب من ذلك سكوت يزيد أمام ذلك الموقف مع قدرته وإمكاناته ؟
   وكأنه عاجز لا يستطيع أن يقول شيئاً أو يفعل شيئاً !
   أليس من العجيب أن يزيد ـ وهو طاغوت زمانه ، وفرعون عصره ـ لم يستطع أو لم يتجرأ على أن يرد على السيدة زينب كلامها ، بل يشعر بالعجز والضعف عن مقاومة السيدة زينب ، ويكتفي بقراءة قول الشاعر :
   « يا صيحة تحمد من صوائح » !
   فما معنى هذا البيت في هذا المقام ؟!
   وما المناسبة بين هذا البيت وبين كلمات خطبة السيدة زينب ؟
   فهل كانت حرفة السيدة زينب النياحة حتى ينطبق عليها قول يزيد : « ما أهون النوح على النوائح » ؟
   وما يدرينا مدى ندم يزيد بن معاوية من مضاعفات جرائمه التي ارتكبها ؟ وخاصة تسيير آل رسول الله من العراق إلى الشام.
   فإنه ـ بالقطع واليقين ـ ما كان يتصور أن سيدة أسيرة سوف تغمسه في بحار الخزي والعار ،

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 409 _

   فلا يستطيع يزيد أن يغسل عن نفسه تلك الوصمات ... إلى يوم القيامة.
   وتكشف الغطاء عن هوية يزيد ، وترفع الستار عن ماهيته وأصله ، وحسبه ونسبه ، وسوابقه ولواحقه ، وتخاطبه بكل تحقير ، وتقرع كلماتها مسامع يزيد ، وكأنها مطرقة كهربائية ، ترتج منها جميع أعصابه ، فيعجز عن كل مقاومة !!
   والآن إليك شرحاً موجزاً لبعض كلمات هذه الخطبة الحماسية الملتهبة :
   « الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على جدي سيد المرسلين »
   إفتتحت كلامها بحمد الله رب العالمين ، ثم الصلاة على جدها : سيد المرسلين ، فهي ـ بهذه الجملة ـ عرفت نفسها للحاضرين أنها حفيدة رسول الله سيد المرسلين ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى يعرف الحاضرون أن هذه العائلة المسبية الأسيرة هي من ذراري رسول الله ، لا من بلاد الكفر والشرك .
   ثم قرأت السيدة هذه الآية :
   « صدق الله سبحانه ، كذلك يقول : « ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 410 _

يَسْتَهْزِؤُون » (1) ».
   وما أروع الإستشهاد بها ، وخاصةً في مقدمة خطبتها !!
   وعاقبة كل شيء : آخره ، أي : ثم كان آخر أمر الذين أساؤا إلى نفوسهم ـ بالكفر بالله وتكذيب رسله ، وارتكاب معاصيه ـ السوئى ، أي : الصفة التي تسوء صاحبها إذا أدركته ، وهي عذاب النار.
   « أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون » أي : بسبب تراكم الذنوب والمعاصي في ملف أعمالهم حصل منهم التكذيب بآيات الله والحقائق الثابتة ، وظهر منهم الإستهزاء بها وبالمقدسات الدينية.
   وهي ( عليها السلام ) تشير بكلامها ـ هذا ـ إلى تلك الأبيات التي قالها يزيد :
« لـعبت هاشم بالملك iiفلا      خبر جاء ولا وحي نزل »
   ومعنى هذا البيت من الشهر : أن بني هاشم ـ والمقصود من بني هاشم : هو رسول الله ـ لعب بالملك بإسم النبوة والرسالة ، والحال أنه لم ينزل عليه وحي من السماء ، ولا جاؤه خبر من عند الله تعالى .

---------------------------
(1) سورة الروم ، الآية 10.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 411 _

   فتراه ينكر النبوة والقرآن والوحي !!
   وهل الكفر والزندقة إلا هذا ؟!
   ثم إن بعض الناس ـ بسبب أفكارهم المحدودة ـ يتصورون ـ خطأ ـ أن الإنتصار في الحرب يعتبر دليلاً على أنهم على حق ، وعلى قربهم من عند الله تعالى ، فتستولي عليهم نشوة الإنتصار والظفر ، ويشملهم الكبرياء والتجبر بسبب التغلب على خصومهم ؛ ولكن السيدة زينب الكبرى ( عليها السلام ) فندت هذه الفكرة الزائفة ، وخاطبت الطاغية يزيد باسمه الصريح ، ولم تخاطبه بكلمة : « أيها الخليفة » أو « يا أمير المؤمنين » وأمثالهما من كلمات الإحترام.
   نعم ، خاطبته باسمه ، وكأنها تصرح بعدم إعترافها بخلافة ذلك الرجس ، فقالت :
   « أظننت ـ يا يزيد ـ حين أخذت علينا أقطار الأرض وضيقت علينا آفاق السماء ، فاصبحنا لك في أسار ، نساق إليك سوقاً في قطار ، وأنت علينا ذو اقتدار ، أن بنا من الله هوانا ، وعليك منه كرامة وامتنانا » ؟!
   تصف السيدة زينب حالها ، وأحوال من معها من العائلة المكرمة ، أنهم كانوا في أشد الضيق ، كالإنسان

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 412 _

   الذي أخذوا عليه ، أي : منعوه وحاصروه من جميع الجوانب والجهات ، بحيث لا يستطيع الخروج والتخلص من الأزمة.
   وبعد هذا التضييق والتشديد ، والمنع والحبس « أصبحنا نساق » مثل الأسارى الذين يأتون بهم من بلاد الكفر عند فتحها .
   « سوقاً في قطار » يقال ـ ولا مناقشة في الأمثال ـ : « قطار الإبل » أي : عدد من الإبل على نسق واحد وفي طابور طويل ، وقد قرأنا أن جميع أفراد العائلة ومعهم الإمام زين العابدين والسيدة زينب ( عليهما السلام ) كانوا مربوطين ومكتفين بحبل واحد !
   « وأنت علينا ذو اقتدار » أي : نحن في حالة الضعف وأنت في حالة القدرة.
   « أن بنا من الله هواناً ، وعليك منه كرامة وامتناناً » ؟!
   أي : أظننت ـ لما رأيتنا مغلوبين ، ووجدت الغلبة والظفر لنفسك ـ أن ليس لنا جاه ومنزلة عند الله ، لأننا مغلوبون ؟!! وظننت أن لك عند الله جاهاً وكرامة لأنك غلبتنا وظفرت بنا ، وقتلت رجالنا ، وسبيت نساءنا ؟!!

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 413 _

   « و » ظننت : « أن ذلك لعظم خطرك »
   أي : لعلو منزلتك.
   « وجلالة قدرك » عند الله تعالى ؟!
   وعلى أساس هذا الظن الخاطئ الذي « لا يغني من الحق شيئاً » و « إن بعض الظن إثم » ، إستولت عليك نشوةً الإنتصار.
   « فشمخت بانفك » يقال : شمخ بأنفه : أي رفع أنفه عزاً وتكبراً.
   « ونظرت في عطفك » العطف ـ بكسر العين ـ : جانب البدن ، والإنسان المعجب بنفسه ينظر إلى جسمه وإلى ملابسه بنوع من الأنانية وحب الذات والغرور.
   « تضرب أصدريك فرحاً » الأسدران : عرقان تحت الصدغين ، وضرب أصدريه : أي : حرك رأسه ـ بكيفية خاصة ـ تدل على شدة الفرح والإعجاب بالنفس ... إزاء ما حققه من إنتصار موهوم .
   « وتنفض مذرويك مرحاً »
   يقال : جاء فلان ينفض مذرويه ، إذا جاء باغياً يهدد

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 414 _

   الآخرين.
   هذا ما ذكره اللغويون ، ولكن الظاهر أن معنى « ينفض مذرويه » أي يهز إليتيه ، وهو نوع من حركات الرقص عند المطربين حينما تأخذهم حالة الطرب والخفة.
   « حين رأيت الدنيا لك مستوسقة »
   أي : مجتمعة.
   « والأمور لديك متسقة »
   أي : منتظمة ، بمعنى : أنك رأيت الأمور على ما تحب وترضى ، وعلى ما يرام بالنسبة إليك ، فكل شيء يجري كما تريد .
   « وحين صفى لك ملكنا ، وخلص لك سلطاننا »
   أي : ومن أسباب فرحك ، وقيامك بالحركات الطائشة التي تدل على شدة سرورك ، أنك رأيت من نفسك ملكاً وسلطاناً قد نجح في خطته التي رسمها لإبادة منافسه ، وأسر نسائه .
   لكن ... إعلم أيها المغرور : أن هذه القدرة والمكانة التي اغتصبتها ـ وهي الخلافة ـ هي لنا أساساً ، لأن يزيد

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 415 _

   كان يحكم بإسم خلافة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
   ومن الواضح أن خلافة رسول الله لها موارد خاصة ، وأن خلفاء رسول الله أفراد معينون ، منصوص عليهم بالخلافة ، وهم : الإمام علي بن أبي طالب ، والأئمة الأحد عشر من ولده ( عليهم السلام ) ، ولكن الآن ... صارت تلك القدرة والسلطة بيد يزيد !!
   بعد هذه المقدمة والتمهيد قالت :
   « فمهلاً مهلاً »
   يقال ـ للمسرع في مشيه ، أو المتفرد برأيه ـ : مهلاً .
   أو : على مهلك ، أي : أمهل ، ولا تسرع ، أي : ليس الأمر كما تعتقد أو كما تظن ، أو : ليس هذا الإسراع في العمل صحيحاً منك فلا تعجل حتى نبين لك حقيقةً الأمر.
   « لا تطش جهلاً » طاش فلان : أخذه الغرور وفقد إتزانه ، فصار غير ناضج في تصرفاته .
   أي : يا يزيد ! لا تطش ... بسبب جهلك بالحقائق ، وخلطك بين المفاهيم والقيم ، والإغترار بالظواهر .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 416 _

   « أنسيت قول الله ( عزوجل ) : « وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ » ؟!! (1)
   نملي : أي نطيل لهم المدة والمجال ، أو نطيل أعمارهم ونجعل الساحة مفتوحة أمامهم « خير لأنفسهم » ، بل : إنما نطيل أعمارهم ومدة سلطتهم وحكومتهم ... لتكون عاقبة أمرهم هي إزدياد الإثم والمعاصي في ملف أعمالهم ، ولهم عذاب مهين ، أي : يجزيهم ـ في جهنم ، تعذيباً ممزوجاً مع الإهانة والتحقير.
   ثم خاطبته وذكرته بأصله السافل ، ونسبه المخزي ، فقالت :
   « أمن العدل يا بن الطلقاء »
   وهذه الكلمة إشارة إلى ما حدث يوم فتح مكة ، فإن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما فتح مكة ـ وصارت تحت سلطته ـ كان بإمكانه أن يقتلهم لما صدرت منهم من مواقف عدائية وحروب طاحنة ومتتالية ضد النبي الكريم ـ بالذات ـ وضد المسلمين بصورة عامة ، لكنه رغم كل

---------------------------
(1) سورة آل عمران ، الآية 178.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 417 _

   ذلك ... إلتفت إليهم وقال لهم :
   « يا معاشر قريش ! ما ترون أني فاعل بكم ؟ »
   قالوا : « خيراً ، أخ كريم ، وابن أخ كريم »
   فقال لهم : « إذهبوا فأنتم الطلقاء » (1)
   وكان فيهم : معاوية وأبو سفيان .
   ويزيد هو ابن معاوية ، وحفيد أبي سفيان ، ويطلق عليه ( ابن الطلقاء ) إذ قد يستعمل ضمير الجمع في مورد التثنية.
   أما معنى كلمة « يابن الطلقاء » فالطلقاء ـ جمع طليق ـ : وهو الأسير الذي أطلق عنه إساره ، وخلي سبيله .
إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فتح مكة ، فصارت البلدة ومن فيها تحت سلطته وقدرته ، وكان بإمكانه أن ينتقم منهم أشد إنتقام ، وخاصة من أبي سفيان الذي كان يؤجج نار الفتن ، ويثير الناس ضد رسول الله ، ويقود الجيوش والعساكر لمحاربة النبي والمسلمين ، كما حدث ذلك يوم بدر وأحد ، وحنين

---------------------------
(1) السيرة النبوية ، لإبن هشام ، طبع لبنان عام 1975 م ، ج 4 ص 41 ، وبحار الأنوار للشيخ المجلسي ج 21 ص 106.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 418 _

   والأحزاب ، وهكذا إبنه معاوية « الذي كان على دين أبيه » ، ولكن الرسول الكريم أطلقهما وخلى سبيلهما في من أطلقهم.
   قال الله تعالى : « فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا » (1)
   « فإما منا بعد » أي : إما أن تمنوا عليهم مناً بعد أن تأسروهم ، أي : تحسنوا إليهم فتطلبوا منهم دفع شيء من المال إزاء إطلاقكم سراحهم .
   وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مخيراً بين ضرب أعناقهم وبين المن والفداء ، فاختار الرسول الكريم المن وأطلقهم بلا فداء ولا عوض.
   والظاهر أن السيدة زينب تقصد من كلمة « يابن الطلقاء » واحداً من معنيين :
   المعنى الأول : أن تذكر يزيد بأنه ابن الطليقين الذين أطلقهما رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع أهل مكة ، وكأنهم عبيد ، فتكون الجملة تذكيراً له بسوء

---------------------------
(1) سورة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، الآية 4.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 419 _

   سوابقه المخزية وملف والده وجده !
   والمعنى الثاني : أن تذكر يزيد بالإحسان الذي بذله رسول الله لأسلاف يزيد حيث أطلقهم ، فقالت : « أمن العدل » أي : هل هذا جزاء إحسان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع أسلافك ... أن تتعامل مع حفيدات الرسول هذا التعامل السيئ ؟!
   ولعل السيدة زينب قصدت المعنيين معاً.
   ومن الواضح أنها لا تقصد ـ من كلامها هذا ـ السؤال والإستفهام ، بل تقصد توبيخ يزيد على سلوكه القبيح ، ونفسيته المنحطة ، وتنكر عليه تعامله السيئ ، وتعلن له أنه بعيد ـ كل البعد ـ عن أوليات الفطرة البشرية ، وهي جزاء الإحسان بالإحسان !!
   « تحذيرك حرائرك وإماءك »
   يقال : خدر البنت : الزمها الخدر ، أي : أقامها وراء الستر.
   الحرائر ـ جمع حرة ـ : نقيض الأمة (1) .

---------------------------
(1) لسان العرب لابن منظور.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 420 _

   « وسوقك بنات رسول الله سبايا »
   السوق : يقال : ساق الماشية يسوقها سوقاً : حثها على السير من خلف (1) وذلك يعني : الحث على السير من الوراء مع عدم الإحترام.
   اقول : لا يرجى من يزيد العدل والعدالة ، ولكنه لما ادعى الخلافة لنفسه ، كان المفروض والمتوقع منه أن يكون عادلاً.
   ولهذا خاطبته السيدة زينب بقولها : أمن العدل أن تجعل جواريك والنساء الحرائر ـ الساكنات في قصرك ـ وراء الخدر ، وتسوق بنات الرسالة وعقائل النبوة ، ومخدرات الوحي ... سبايا ؟
   « قد هتكت ستورهن ، وأبديت وجوههن »
   فبعد أن كن مخدرات مستورات ، لا يرى أحد لهن ظلاً ، وإذا بهن يرين أنفسهن أمام أنظار الرجال الأجانب ، وبعد أن كن محجبات ... وإذا بالأعداء قد سلبوهن ما كن يسترن به وجوههن ... من البراقع والمقانع !

---------------------------
(1) أقرب الموارد للشرتوني.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 421 _

   « تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد »
   أي : يسوقهن الأعداء من كربلاء إلى الكوفة ، ومنها إلى الشام ، ويمرون بهن على البلاد التي في طريق الشام.
   وحينما كان يمر موكبهن على البلاد والقرى والأرياف ، كان الناس ـ على اختلاف طبقاتهم ـ يخرجون للتفرج عليهن ، وأحياناً كانوا يصعدون على سطوح دورهم للتفرج عليهن ، ولهذا قالت السيدة :
   « ويستشرفهن أهل المناقل ، ويتبرزن لأهل المناهل »
   المناقل ـ جمع منقل ـ وهو الطريق إلى الجبل ، والمناهل ـ جمع منهل ـ : وهو الماء الذي ينزل عنده والمقصود : المنازل التي في طريق المسافرين ، للتزود بالماء أو الإستراحة.
   « ويتصفح وجوههن القريب والبعيد »
   يتصفح : أي يتأمل وجوههن لينظر إلى ملامحهن !!

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 422 _

   « والشريف والوضيع ، والدنيء والرفيع »
   والحال أنه « ليس معهن من رجالهن ولي ، ولا من حماتهن حمي » ، عائلة محترمة ، وليس معهن من رجالهن أحد يشرف على شؤونهن ويحرسهن ويحميهن من الأخطار والأشرار ، لأن رجالهن قد قتلوا بأجمعهم ، ولم يبق منهم سوى الإمام زين العابدين علي بن الحسين ( عليه السلام ).
   كل هذه الجرائم التي صدرت منك ، وبأمرك كانت « عتواً منك على الله »    العتو : هو التكبر.
   « وجحوداً لرسول الله »
  الجحود : هو الإنكار مع العلم بأن هذا هو الواقع والحق ، قال تعالى « وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ » (1) .

---------------------------
(1) سورة النمل ، الآية 14.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 423 _

   « ودفعاً لما جاء به من عند الله »
   الدفع : الإزالة والإبادة والرد.
   أي : قمت بهذه الأعمال لأجل القضاء على الإسلام ، وعلى ما جاء به رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من عند الله تعالى .
   « ولا غرو منك ، ولا عجب من فعلك »
   لا غرو : لا عجب.
   إن السيدة زينب ( عليها السلام ) تعتبر تلك الجرائم ـ التي صدرت من يزيد ـ أموراً طبيعية وظواهر غير عجيبة ، فـ « كل إناء بالذي فيه ينضح ».
   وإن الآثار السلبية لعامل ـ بل عوامل ـ الوراثة ، والإستمرار على شرب الخمر والفحشاء والفجور والعيش في أحضان العاهرات ، كلها أسباب كان لها دورها في إيجاد هذه النتائج والعواقب السيئة للطاغية يزيد .
   « وأنى ترتجى مراقبة ابن من لفظ فوه أكباد الشهداء ، ونبت لحمه بدماء السعداء؟ »
   أي : كيف ومتى يتوقع الخوف من الله تعالى ... من ابن من رمت من فمها أكباد الشهداء الأبرياء ؟

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 424 _

   هذه الكلمة إشارة إلى ما حدث في واقعة أحد ، وإلى مقتل سيدنا حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء وعم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حينما جاءت هند ـ أم معاوية ـ وجدة يزيد ـ وشقت بطن سيدنا حمزة ، واخرجت كبده واخذت قطعة من كبده ، ووضعتها في فمها وعضتها بأسنانها وحاولت أن تأكلها ، بسبب الحقد المتأجج في صدرها ، ولكن الله تعالى أبى أن تدخل قطعة من كبد سيدنا حمزة في جوف تلك المرأة الساقطة ، فانقلبت تلك القطعة صلبةً كالحجر ، فلم تؤثر أسنانها في الكبد ، فلفظتها ، ورمتها من فمها ، فاكتسبت بذلك لقب ( آكلة الأكباد ) !!
   ويزيد : هو حفيد هكذا امرأة حقودة. وحقده على الدين وارتكابه للجرائم الكبيرة ليس بشيء جديد !!
   « ونصب الحرب لسيد الأنبياء »
   لقد ذكرنا ـ في الفصل الرابع من هذا الكتاب ـ أن أبا سفيان هو الذي كان يجهز الجيوش في مكة ، ويخرج لحرب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقتال المسلمين ، حينما كان النبي الكريم في المدينة المنورة.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 425 _

   « وجمع الأحزاب »
   إن أبا سفيان هو الذي جمع العشائر والقبائل الكثيرة ... من المشركين واليهود والنصارى وغيرهم ، وأمر بنفير عام وشامل لمختلف الأعمار والديانات ، وخرج بجيش جرار كالسيل الزاحف ، للقضاء على الرسول العظيم ومن معه من المسلمين ، في واقعة الأحزاب التي عرفت ـ فيما بعد ـ بـ « غزوة الخندق ».
   « وشهر الحراب ، وهز السيوف في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم » الحراب ـ جمع حربة ـ : وهي آلة قصيرة من الحديد ، محددة الرأس ، تستعمل في الحرب. (1)
   « وهز السيوف » كناية عن الخروج للحرب وإصدار الأوامر للهجوم والغارة ، وبما أن أبا سفيان كان هو السبب في هذه الحروب فقد جاءت كلمة « السيوف » بصيغة الجمع.
   « أشد العرب لله جحوداً ، وأنكرهم له رسولاً ، وأظهرهم له عدواناً ، وأعتاهم على الرب كفراً وطغياناً » (2) .

---------------------------
(1) المعجم الوسيط.
(2) أعتاهم : العتو : الإستكبار والتجبر وتجاوز الحد ، كما في « العين » للخليل ، والمعجم الوسيط.
   المحقق