وانـتَهت فيكم النبوّة iiوالبيتُ ومـا فـي السِتار iiوالمعلومِ ورأى الله في الحسينِ عظيماً فـافتدى ديـنَه بذبحٍ iiعظيمِ
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 627 _
وللشاعر الحسيني اللامع ، المرحوم الحاج محمد علي آل كمّونة ( رضوان الله عليه ) (1) قصيدة نَقتَطفُ منها الأبيات التالية :
لم أنسَ زينبَ بعد الخِدر iiحاسرةً تُـبدي الـنياحة ألـحاناً فألحانا مَـسجورة القلب إلا أنّ iiأعينَها كالمُعصرات تصُبّ الدمع عقيانا(2)
---------------------------
(1) الحاج محمد علي آل كمّونة الأسدي الكربلائي ، شاعرٌ بليغ ، وأديب فصيح ، كان من الشعراء المتألّقين في عصره ، والأدباء اللامعين بين أقرانه وزملائه ، إستعمل قريحته الشعريّة ـ بنسبة كبيرة ـ في خدمة النبي وآله الطاهرين ، وله قصائد كثيرة في رثاء سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام ، مِن مميّزات شعره : طابع الشِجاوة ، ونكهة الإخلاص ، وسلاسة التعبير.
عند التأمّل في ديوان شعره نجد أنّ أشعاره تهزّ المشاعر والعواطف مِن الأعماق ، وتَنقل ذهن القارئ إلى أجواء الحرب والقتال.
وللمُميّزات المتوفّرة في شعره ـ ونخصّ منها : كونه شجيّاً ـ تَهافَتَ خطباء المنبر الحسيني على قراءة أشعاره في بداية ونهاية مجالسهم ومحاضراتهم الحسينيّة.
له ديوان مطبوع ، جُمعَ فيه بعض أشعاره.
ولد سنة 1202 هـ ، وتوفّي سنة 1282 هـ ، ودُفنَ في حرم الإمام الحسين عليه السلام.
(2) عِقياناً ، العِقيان : الذهب الخالص.
شَبّه الشاعر قطرات دموعهنّ الصافية الغالية بحَبّات الذهب الخالص من الشوائب.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 628 _
تـدعو أبـاها أمـير المؤمنين iiألا يـا والدي حَكمَت فينا رَعايانا (1)ii وغـابَ عنّا المُحامي والكفيلُ iiفمَن يَـحمي حِمانا و مَن يُؤوي iiيَتامانا إن عَسعَسَ الليل وارى بَذلَ أوجُهنا و إن تَـنفّس وجـه الصبح iiأبدانا ندعوا فلا أحدٌ يَصبوا لِدَعوتِنا (2)ii و إن شـكَونا فلا يُصغى iiلِشَكوانا قُـم يـا عليّ فما هذا القعود و iiما عـهدي تَغُضّ على الأقذاء iiأجفانا عَـجّل لـعلّك مِـن أسرٍ أضَرّ iiبنا تَـفُـكّنا أو تَـوَلّى دفـن iiقـتلانا و تَـنثَني تـارةً تـدعو iiعشيرتها مِـن شـيبة الحمد أشياخاً iiوشُبّانا(3)
---------------------------
(1) رعايانا ، رعايا ـ جمع رعيّة ـ : عامّة الناس الذين عليهم راع وحاكم ، يُدبّر أمورهم ويَرعى مصالحهم .
(2) يَصبو : يميل ويَحِنّ ، وفي نسخة : « نَدعوا فلا أحد يَرنو لَدَعوتنا ».
(3) شَيبَة الحَمد : هو عبد المطلب بن هاشم ، جدّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
و لَـئن نسيتُ فلَستُ أنسى iiزينباً ودوام مِـحنتها وطـول iiعـنائها حَمَلت مِن الأرزاء ما أ عيا iiالورى حَـملَ الـيسير النَزر مِن أعبائها عـن كَـربها و بَلائها سَل iiكربلا سَـل كـربلا عن كربها و iiبلائها طَـوراً عـلى القتلى تنوح iiوتارةً تـحنو مـحافظة عـلى iiأبـنائها و تـطوف حول حمىً أباد iiحُماته صَـرفُ الرَدى وأباحَ هَتكَ iiنسائها مَـن مُـبلغٌ عـنّي سـرايا iiهاشم خَبَراً يَدُكّ الشمّ من بَطحائها iiسُبيَت و أعـظـم مـا شَـجاني iiغَـيرةً يـا غـيرة الإسـلام سَلبُ iiرِدائها و وقـوفها فـي مـجلسٍ iiجُلاسُه أهوى بها الشيطان في أهوائها (2)
---------------------------
(1) المصدر : ديوان ابن كمّونة ، طبع قم ـ ايران ، عام 1411 هـ ص 95 ، ورياض المدح والرثاء ، للشيخ حسين البحراني ، طبع ايران ، عام 1420 هـ ص 648.
(2) ديوان ابن كمونة ، ص 3.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 630 _
وله ( رضوان الله عليه ) شعرٌ آخَر يُخاطب فيه الإمام الحسين ( عليه السلام ) بقوله :
وأمسَيتَ رَهنَ الحادثات و iiأصبَحت نـساؤك بعد الصَون بينَ iiالأجانب حَـيارى يُـردِّدنَ الـنُواح iiسَواغباً عُـطاشى فلهفي للعُطاشى iiالنوادب ومِن بينها مأوى البَليّات رَبّة الرزيّ ات حَـلفُ الـحُزن أمّ iiالـمصائب فَـريسة أفـواه الـحوادث زيـنبٌ ومَـنهبُ أنـياب الرَدى والمَخالبِ تُـنادي وقـد حَـفّ العدوّ iiبرحلها و تَـهتِف لكن لم تَجد مِن iiمُجاوبِ فـمَن مُبلغٌ عنّي الرسول و iiحيدراً وفـاطمة الـزهراء بنت iiالأطائبِ بـأنّا سُـبينا ، والـحسينُ iiعمادُنا غـدا مـوطئاً لـلعاديات iiالشَوازِب(1)
---------------------------
(1) الشوازب ـ جمع شازِب ـ : الخَيل الغَضبان ، الذي يُسرع في ركضه للغارة والهجوم.
كما يُستفاد من كتاب « العَين » للخليل بن أحمد.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 631 _
ويُـسرى بنا نحو الشام فلا سَقَت معاهد أرض الشام جونُ iiالسحائب ونُهدى إلى الطاغي يزيد نتيجة ال دَعـيّ ابـن سفيان لَئيم المَناسِب و يَـنكُتُ ظلماً بالقضيب iiمَراشفاً تَـرشّفها المختار بين iiالمُصاحبٍ (1)
وله قصيدة أخرى يَصفُ ـ فيها ـ مصيبة الهجوم على مُخيّمات الامام الحسين ( عليه السلام ) ومنها قوله :
حُـماةٌ حَـمَوا خِـدراً أبى الله iiهَتكهُ فـعَـظّمه شـأنـاً وشَـرّفه قَـدرا فـأصبح نَـهباً لـلمغاوير iiبـعدهم ومنه بنات المصطفى أُبرزت حَسرى يُـقنّعها بالسوط « شمرٌ » فإن iiشكَت يـؤنّبها « زَجـرٌ » ويوسِعُها iiزَجرا نــوائـح إلا أنّـهـنّ iiثـواكـلٌ عـواطش إلا أنّ أعـينها iiعَـبرى
---------------------------
(1) ديوان ابن كمّونة ، ص 12 ـ 13.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 632 _
يَـصون بـيُمناها الحَيا ماء ii
وَجهها ويَستُرها إن أعوزَ السِتر iiباليُسرى و قُـل لـسرايا شيبة الحمد ما iiلكم قـعدتم وقد ساروا بِنسوتكم iiأسرى و أعـظمُ ما يُشجي الغَيور iiدخولها إلى مجلس ما بارح اللهو iiوالخَمرا يُـقـارعها فـيـه يـزيد iiمَـسَبّةً و يَصرفُ عنها وجهه مُعرِضاً كِبرا ويَـقرَعُ ثَـغرَ الـسبط شُلّت يمينه فـأعظم بـه قَرعاً وأعظِم به iiثَغراً أيـنكُتُ ثَـغراً طَـيّبَ الدهر ذِكرَه وما بارَح التسبيح والحمد iiوالشُكرا (1)
---------------------------
(1) ديوان ابن كمّونة ، ص 58 ـ 60.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 633 _
وللعالم الجليل الشيخ جعفر النقدي (1) قصيدة نختار منها هذه الأبيات :
يا دهرُ كُفّ سِهام خطبك عن حشىً لـم يَـبقَ فـيها مـوضعٌ iiللأسهم فـي كـلّ يـوم لـلنوائب ii
صارمٌ يَـسطو على قلبي ويَقطر مِن iiدمي وأبـيتُ والأرزاء تَـنهشُ iiمُهجَتي نَـهشاً يـهونُ لـديه نَهشٌ الأرقم(2)
---------------------------
(1) الشيخ جعفر بن الحاج محمد بن عبد الله التقي الربعي ، المعروف بـ « النقدي » ، :
عالم خبير مُتبحّر ، وأديب واسع الإطّلاع ، له مؤلّفات كثيرة تَشهَد له بغَزارة العلم والأدب ، وُلِد في مدينة العمارة بالعراق سنة 1303 هـ ، هاجر إلى مدينة النجف الأشرف ، ودَرسَ فيها حتّى بلغ مرتبة عالية من العلم والثقافة.
شَغَل منصِبَ القضاء في مسقط رأسه ( العمارة ) حوالي عشر سنوات .
أمّا شعره : فهو مِن الطبقة الممتازة ، وأكثر شعره في مدح أهل البيت ( عليهم السلام ).
توفّي ( رضوان الله عليه ) بتاريخ 9/محرم/1370 هـ ، إقتطفنا ترجمة حياته من كتاب ( أدب الطف ) للخطيب السيد جواد شبّر ، ج 10 ص 8.
(2) الأرقَم : أخبَثُ أنواع الحَيّات ، وأطلَبُها للناس ، أو : ما في لونه سَواد وبَياض ، أو : ذكرُ الحيات ... والأنثى رَقشاء. كما في كتاب القاموس المحيط للفيروز آبادي.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 634 _
أوَ كـان ذَنـبي أنّـني مُـتمسّكٌ بـالعروة الـوثقى التي لم iiتُفصَمِ آل الـنبي الـمصطفى مَن مَدحُهُم وردي وفـيهم لا يـزالُ iiتَـرنّمي وإلى العقيلة زينب الكبرى ابنة iiال كـرّار حـيدر بـالولاية iiأنـتَمي هـي رَبّة القَدر الرفيع رَبيبة iiال خِـدر المنيع وعِصمةُ iiالمستَعصِم مَـن فـي أبـيها الله شَرّفَ iiبيتَه وبـجَدّها شَـرَفُ الحطيمِ وزَمزَمِ مَـن بـيتُ نشأتها به نشأ iiالهدى وبـه الـهداية لـلصراط iiالأقوم ضُربَت مَضاربُ عِزّها فوق السُها وسَـمَت فـضائلها سُـموّ iiالمرزمِ (1) فَضلٌ كشمس الأفق ضاء فلو iiيشأ أعـداؤهـا كـتـمانَه لـم يُـكتَمِ كـانت مَـهابتُها مَـهابة iiجـدّها خـيرِ الـبريّة والرسول iiالأعظم
---------------------------
(1) المِرزَم : السحاب الذي لا ينقطع رَعده ، كما في « لسان العرب ».
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 635 _
كانت بلاغتُها بلاغة حيدر iiال كـرّار إن تَـخطب وإن iiتتكلّمِ قـد شابَهَت خير النساء iiبهَديها ووقـارها وتُقىً وحُسنِ iiتكرّمِ ومُـقيمةَ الأسحار في iiمِحرابها تَدعو وفي الليل البَهيم iiالمُظلم شَـهِدِت لها سُوَر الكتاب iiبأنّها مِن خير أنصار الكتاب iiالمُحكمِ زَهِـدَت بدُنياها وطيب iiنَعيمها طـلَباً لمرضات الكريم المُنعم وتَجرّعت رَنقَ الحياة iiوكابَدَت (1) مِن دَهرها عيشاً مريرَ المطعمِ فـأثابها ربّ الـسماء كـرامةً فـيها سـوى أمثالها لم iiيُكرمِ فـلَها كـما لـلشافعين iiشفاعة يـوم الجزاء بها نجاة iiالمجرم بَلغت من المجد الموثّل موضعاً مـا كـان حـتى للبتولة مريم
---------------------------
(1) رَنقَ الحياة : كدَرّ الحياة ، يُقال : رَنَقَ عَيشُه : أي كَدِرَ.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 636 _
كـلا ولا لِـلطُهر حَـوّا أو iiلآ سـيةٍ وليس لأختِ موسى iiكلثَمِ هذي النساء الفُضلَيات وفي العُلا كـلٌ أقـامت فـي مـقامٍ iiقَـيّمِ فـاقَت بـه كلّ النساء ، iiورَبّها فـي الخُلد أكرَمَها عظيم iiالمَغنَمِ لـكنّ زينب في عُلاها قد iiسَمَت شَـرَفاً تـأخّر عـنه كـلّ iiمقدّمِ فـي عِـلمِها وجـمالها iiوكمالها والفضل والنَسَبِ الرفيع iiالأفخمِ مَـن أرضَـعَتها فاطمٌ دَرّ iiالعُلى مِـن ثـديها فَعَنِ العلى لم iiتُفطِمِ عن أمّها أخذت علوم المصطفى وعـلوم والـدها الوصيّ الأكرم حـتى بـها بـلغت مقاماً فيه لَم تَـحـتَج لِـتَـعليمٍ ولا iiلـمعلّمِ شَـهِد الإمـام لـها بذاك iiوأنّها بـعد الإمـام لـها مـقام الأعلم ولـها بـيوم الـغاضريّة موقفٌ أنـسى الزمان ثَبات كلّ غَشَمشَمِ
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 637 _
حَـمَلَت خطوباً لو تَحَمّل iiبعضَها لانـهارَ كـاهل يـذبلٍ ويَـلَملَمِ ورأت مُـصاباً لو يُلاقي iiشَجوَها الـعَذبُ الفرات كساه طعم العَلقمِ في الرُزء شاركت الحسين iiوبعده بَـقِيت تُـكافح كـلّ خطبٍ مؤلم كـانت لـنسوته الـثواكل iiسلوةً عُـظمى ولـلأيتام أرفَـقَ iiقَـيّمِ ومُـصابها فـي الأسر جَدّد iiكلّما كـانت تُـقاسيه بـعشر iiمـحرّمِ ودخـول كـوفانٍ أبـاد فـؤادها لـكن دخـول الـشام جاء iiبأشأمِ لـم أنسَ خُطبتها التي قَلَمُ القَضا فـي الـلوح مثل بيانها لم iiيُرقمِ نَـزلت بها كالنار شبّ iiضرامها في السامعين ، من الفؤاد المُضرَمِ جـاءت بـها عَلَويّةً وقعت iiعلى قـلب ابـن ميسونٍ كوقعِ iiالمِخذَم
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 638 _
أوداجــه انـتَفَخت بـها iiفـكأنّما فيها السيوف أصبنّه في الغلصمِ (1)
****
أشـقيقة الـسبطين دونـك iiمـدحةً قِـسّ الـفَصاحة مِـثلَها لـم iiيَنظمِ تـمتاز بـالحق الـصريح لو iiأنّها قـيسَت بـشعر الـبُحتري iiومسلمِ يَـسلو المحبّ بها وتطعن في iiحَشا أعـداء أهـل الـبيت طعن اللهذم(2) بـيَمين إخـلاصي إلـيك iiرَفـعتُها أرجـو خـلاصي من عذاب جهنّمِ وعـليكِ صـلى الله مـا رُفعَت iiله أيـدي مُـحِلٍّ بـالدعاء iiومـحرِمِ
---------------------------
(1) الغَلصَم : رأس الحُلقوم ، كما في « لسان العرب ».
(2) اللّهذم : سيفٌ لَهذم : أي حادّ ، وقيل : كل شيء قاطع ... مِن سيف أو سنان ، « لسان العرب »
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 639 _
رغم كثرة ما قيل من الشعر في مدح ورثاء آل رسول الله الطاهرين ... فإنّ قصائد السيد حيدر الحلّي لا زالت متألّقة ومتفوّقة في سماء الشعر والأدب ، فقوّة التعبير ، وجمال الوَصف ومميّزات أخرى تجعل الإنسان حائراً أمام هذا المستوى الرفيع من الشعر ، والبيان الساحر ، والصياغة الرائعة الفريدة !
ولا عَجَبَ من ذلك ، فقد كتبوا عن هذا الشاعر العظيم أنّه ـ رغم مواهبه وثقته بنفسه وشعره ـ كان يُجري على بعض قصائده لَمَسات فاحِصة ، يقوم خلالها بالتغيير والتعديل والتجميل ، ويَستمرّ على هذا المنوال مدة سنة كاملة ، ولذلك جاء التعبير عن بعض قصائده بـ « الحَوليّات » !! (1)
أمّا شعره عن السيدة زينب الكبرى :
فالجدير بالذكر أني قرأت ( ديوان السيد حيدر الحلي ) ولم أجِد فيه التصريح باسم السيدة زينب ( عليها السلام ) رغم أنّه يتحدّث عنها وعن مصائبها الأليمة في كثير من قصائده الحسينيّة الرائعة !
فكأنّ التَهيّب والحياء ورعاية الأدب في السيد ، وجلالة
---------------------------
(1) السيد حيدر بن السيد سليمان الحلّي ، وُلدَ في مدينة الحلة بالعراق سنة 1246 هـ ، وتوفّي سنة 1304 ، كان عالماً جليلاً ، وشاعراً مُجيداً ، وكان سيّد الأدباء في عصره.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 640 _
وعظمة مقام السيدة زينب ، وَضَعت أمامه حدوداً آلى على نفسه أن لا يتخطّاها ، ومنها التصريح باسم السيدة زينب عند ذكر مصائبها ، إذ من الصعب عليه ـ وهو الإبن البارّ لأهل البيت الطاهرين الغيور عليهم ـ أن يُصرّح بتفاصيل المأساة ، فشخصيّة السيدة زينب عظيمة فوق كلّ ما يتصوّر ، والمصائب التي انصَبّت عليها هي في شدّة الفظاعة ، فهو لا يذكر اسمها بل يُشير ويُلمّح ، ويرى أنّ التلميح خيرٌ من التصريح ، « والكناية أبلَغ مِن التصريح » ، ولعلّ الرعشة كانت تستولي على فكره وقريحته وقلمه ، فتمنعه من التصريح ، وانهمار الدموع لم يكن يسمح له أن يُبصِر ما يكتُب ! فاكتفى أن يحومَ حول الحِمى والحدود فقط ،
ففي إحدى قصائده الخالدة يقول :
خُـذي يـا قـلوب الطالبيّين iiقُرحَةً تزول الليالي وهي دامية القِرفِ (1) فـإنّ الـتي لم تبرح الخِدر ii
أُبرزَت عَـشِيّةَ لا كـهفٌ فتأوي إلى كَهفِ
---------------------------
(1) القِرف ـ بكسر القاف ، وقيل : بفتح القاف ـ : القِشر ، يُقال : تقرّفت القُرحَة : أي تَقشّرت بعد يُبسها ، دامية القِرف : أي دائمة التَقشّر بسبب عدم بُرئها ، واستمرار نَضح الدم والقَيح منها .
---------------------------
(1) الصَفيح : السيف العريض ، وقيل : الصفيح الجَنب، الهِند : السيف.
السَجف ـ بفتح السين وكسرها ـ : السِتر المُرخى ، وقيل : هو الستر المؤلّف من قماشين مقرونَين ، أو قماش وبِطانة للقماش .
(2) ديوان السيد حيدر الحلّي ، طبع لبنان ، عام 1404 هـ ، ج 1 ص 96.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 642 _
ويقول ( رحمة الله تعالى عليه ) ـ في قصيدة أخرى ، يَصِفُ فيها ساعة الهجوم على مُخيّمات الامام الحسين ( عليه السلام ) بَعدَ مقتل الإمام ـ :
وحـائرات أطـارَ الـقوم iiأعينَها رُعـباً غداة عليها خِدرَها iiهجموا كانت بحيثُ عليها قومُها iiضربت سُـرادقاً أرضـه مِن عِزّهم iiحَرَمُ يـكاد مـن هيبةٍ أن لا يطوف iiبه حـتى الـملائك لـولا أنّهم iiخَدَمُ فـغودِرَت بين أيدي القوم حاسرةً تُسبى وليس ترى مَن فيه iiتَعتَصِمُ نَـعم لَـوَت جيدها بالعَتبِ iiهاتفةً بـقومها وحـشاها مِـلؤُهُ iiضَـرَمُ عَجّت بهم مُذ على أبرادِها اختَلَفت أيـدي الـعَدوّ ، ولكن مَن لها iiبِهِمُ(1)
---------------------------
(1) ديوان السيد حيدر الحلي ، ج 1 ص 105.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 643 _
وله قصيدة أخرى يقوله فيها :
وأمضُّ ما جرعت من الغصص التي قـدحت بـجانحة الـهدى iiايراءها هـتك الـطغاة عـلى بـنات iiمحمدٍ حُـجب الـنبوة خِـدرها وخـباءها فـتنازعت احـشاءها حرق الجوى وتـجاذبت أيـدي الـعدوِّ iiرِداءَهـا عـجباً لـحلم الله ، وهـي iiبـعينه بـرزت تـطيل عـويلها وبـكاءها(1)
---------------------------
(1) ديوان السيّد حيدر الحلّي ، ج 1 ص 54.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 644 _
إنّ الإنسان المُنصِف إذا وقف موقف الحياد ، ونظر نظرة فاحصة إلى ملف رجالات الشيعة ، وتتبع أحوالهم في أي مجالٍ من مجالات العلوم والفنون ، يجد أمامه الكفاءات العظيمة ، والقابليات الفريدة الّتي تناطح السحاب علواً وسمواً ، في كلّ مجالٍ من المجالات ، وفي مختلف العلوم والفنون.
أجل ...
إنّ الكفاءات عند المسلمين الشيعة كثيرة جداً وجداً وجداً ، ولكن ينقصها شيئان :
(1) التشجيع الكافي من القيادات الشيعية العُليا !!
(2) الحريّات الكافية والمناخ المناسب ، الذي يُساعد على نموّ الطاقات ، وبروز المواهب ، وظهور القابليات ، وتبلور العبقريات.
بعد هذا التمهيد ... أقول :
لا نجدُ في تاريخ العرب والإسلام شاعراً نظم ملحمة شعرية والتزم فيها بقافية واحدة ، وكان طويل النفس إلى أقصى حد ... سوى العلامة الأديب الشيخ عبد المنعم الفرطوسي ( رحمة الله تعالى عليه ) فإنّ ملحمته الشعرية ـ رغم بساطتها وسلاسة التعبير فيها ـ فريدة ... ولا مثيل لها في التأريخ ، حيث إنّ أبياتها تُناهزُ الخمسين
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 645 _
ألف بيتاً (1) !!
وقد اخترنا من ملحمته الفريدة بعض الأبيات حول سيدتنا زينب الكبرى ( سلام الله عليها ) :
هـي أزكى صديقةٍ قد iiتربّت بـين حجر الصديقة iiالزهراء وتـغذت من فيض علم iiعلي وعـلوم الـنبيّ خـير iiغذاء وارتـوت بالمعين نهلاً iiوعلاً من علوم السبطين خير ارتواء وتـبنت نـهج الـبلاغة نهجاً وهـو فـيض من سيد iiالبلغاء
---------------------------
(1) هو الشيخ عبد المنعم بن الشيخ حسين الفرطوسي.
شاعرٌ مجيد ، واديب شهير ، وخدم آل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بقريحته الشعرية المميزة ، ولد في مدينة النجف الأشرف عام 1335 هـ ، كان من أبرز صفاته : التواضع ونُكران الذات ... رغم علمه الوافر ومواهبه الكثيرة.
فارق الحياة سنة 1404 هـ رضوان الله عليه.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 646 _
وهـي كـانت تُـفضي بـعهد iiعليّ بـعـلوم الأحـكـام بـين iiالـنساء ورآهــا الـوصي تـروي iiظـماءً مــن عـلوم الـقرآن خـير iiرواء قـال : هـذي الـحروف رمز iiخفيّ لـمصاب الـحسين فـي iiكـربلاء وبـعـهد الـسـجاد لـلناس iiتـفتي بـدلاً عـنه وهـو رهـن iiالـبلاء وعـلـيّ الـسـجاد أثـنى iiعـليها وعـلـيّ مــن أفـضل iiالأمـناء كان يروي ( الثبت ابن عباس ) عنها وهـو حَـبرٌ مـن أفـضل iiالعلماء حـيث كانت في الفقه مرجع iiصدقٍ لـــرواة الـحـديث iiوالـفـقهاء
---------------------------
(1) كتاب « ملحمة أهل البيت » للشيخ الفرطوسي ، ج 3 ص 372 و 373
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 648 _
وللشاعر البارع العلامة الجليل السيّد رضا الموسوي الهِندي (1) هذه القصيدة الشَهيرة :
إنْ كـانَ عـندكَ عبرة iiتجريها فانزل بأرض الطفّ كي iiنسقيها فـعسى نبُلّ بها مضاجع iiصفوةٍ مـا بـلّت الأكـباد من جاريها ولقد مررت على منازل عصمةٍ ثِـقلُ الـنوة كـان ألـقي iiفيها فـبكيت حتى خِلتُها iiسستجيبُني بـبُكائها حـزناً عـلى iiأهليها وذكـرتُ إذ وقفت عقيلة iiحيدرٍ مـذهولة تصغي لصوت iiأخيها بأبي التي وَرِثَتْ مصائب iiأمّها فـغدت تـقابلها بـصبر أبيها لم تله عن جمع العيال iiوحفظهم بـفراق إخـوتها وفـقد iiبنيها
---------------------------
(1) هو السيّد رضا بن السيّد محمّد بن السيّد هاشم المُوسَوي المعروف بالهندي ، لهجرة أحد آبائه إلى الهند.
وُلِدَ عام 1290 هـ في مدينة النجف الأشرف.
درسَ علومَ العربيّة وعلمَ الفقه والكلام والمنطق حتّى بَلَغَ درجةً عالية ، فكان عالماً جليلاً ، وشاعراً قديراً ، وأديباً متفوقاً ، وله مؤلفات مخطوطة .
من أشهر أشعاره : « القَصيدة الكَوْثَريّة » الّتي أشتهِرَت شهرةً عالمية.
فارق الحياة سنة 1362 هـ في مدينة النجف الأشرف ، وشُيّع جثمانه تشييعاً عظيماً ، رحمة الله تعالى عليه.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 649 _
لـم أنسَ إذ هتكوا حِماها iiفانثَنَتْ تَـشكو لَواعجها إلى حاميها (1)ii تـدعو فـتحترق الـقلوب iiكأنَّها يـرمي حـشاها جـمره من iiفيها هذي نساؤك مَن يكونُ إذا iiسَرَتْ فـي الأسـر سائقها ومن حاديها أيسوقها « زجر » بضرب متونها و « الشمر » يحدوها بسبّ iiأبيها عـجباً لها بالأمس أنتَ iiتصونُها والـيـومَ آلُ أمـيـةٍ iiتُـبـديها وسَـروا برأسِِك في القَنا وقلوبها تـسمو إلـيه ، ووجدها iiيضنيها إن أخّـروه شـجاه رويـةُ iiحالها أو قـدمـوه فـحـاله iiيـشجيها(2)
---------------------------
(1) لواعجها ، لواعج ـ جمع لعج ـ : آلامَها وأحزانها ، قال ابن دريد ـ في كتابه : جمهرة اللغة ـ : « اللعج : ما وجده الإنسان في قلبه من ألم أو حزن » ، وقال إبن منظور ـ في كتابه : لسان العرب ـ : « لَعَجَه الضرب : آلمَه وأحرق جلده ، واللعج : ألم الضرب وكل محرق ».
(2) المصدر : ديوان السيّد رضا الموسوي الهندي ، الطبعة الأولى ، بيروت ـ لبنان ، عام 1409 هـ ، ص 47.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 650 _
وللسيّد رضا الموسوي الهندي قصيدة رائعة أخرى ، في رثاء الإمام الحسين عليه السلام ، وفيها يصف حال السيدة زينب حينما حضرت عند جسد أخيها العزيز ، وإليك هذه الأبيات المختارة :
---------------------------
(1) بما تجن : أي بما تخفي ، بمعنى : أنّ الدموع تفصح وتخبر عما تخفيه ـ في قلبها ـ من الهموم والأحزان ، ويقرأ البعض : بما تُكِنُّ.
(2) الرميض : اليوم الشديد الحرّ ، والشمس الشديدة الحرارة، واليوم ضاحي : أي : عديم السحاب، قال ابن زكريا ـ في كتاب معجم اللغة ـ : « الرمض : حرُّ الحجارة من شدة حرّ الشمس ».
(3) سجسج الظل : لا حرّ فيه ولا برد ، بل هواءٌ معتدل طيب ، المعجم الوسيط.