الأُمم ، وكافحتم البُهَم (1) ، لا نَبرح أو تَبرحون ، نَأمُركم فتَأتَمرون ، حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام ، ودرَ حلبُ الأيام ، وخَضَعَت ثَغرة الشِرك ، وسَكنَت فَورة الإفك ، وخَمُدت نيران الكفر ، وهَدأت دعوة الهرج ، واستوسق نظام الدين ، فأنّى حِرتُم بعد البيان ؟ ، وأسررتم بعد الإعلان ؟ ، ونكصتم بعد الإقدام ، وأشركتم بعد الإيمان ؟ ، « أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ » (2) .
   ألا : قد أرى أن قد أخلَدتم إلى الخفض (3) وأبعدتم مَن هو أحقّ بالبَسط والقَبض ، وخلَوتم إلى الدعة (4) ، ونَجَوتم مِن الضيق بالسعة ، فمَجَجتم ما وَعَيتم (5) ، ودسعتُم الذي تسوّغتم (6) ، « إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ

---------------------------
(1) البهَم ـ جمع بهمة ـ : الشجاع.
(2) سورة التوبة ، الآية 13.
(3) الخفض : الراحة.
(4) الدعة : الراحة والسُكون.
(5) مَجَجتم : رَميتم، وَعيتم : حفِظتم.
(6) دسعتم : تقيّأتم ، وتسوّغتم : شَربتُم بسهولة.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 552 _

   لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ » ، ألا : قد قلتُ ما قلتُ على معرفة منّي بالخذلة التي خامَرتكم (1) والغَدرة التي استَشعرَتها قلوبكم (2) .
   ولكنّها فيضَة النفس (3) ، ونَفثة الغيظ (4) ، وخَوَر القنا (5) ، وبثّة الصدر ، وتَقدِمة الحُجّة ، فدونكموها ، فاحتَقِبوها دَبِرَة الظَهر (6) ، نقبةَ الخُف (7) ، باقية العار ، مَوسومةً بغضب الله ، وشَنار الأبد (8) ، مَوصولة بنار الله الموقدة التي تطّلع على الأفئدة ، فبِعَين الله ما تفعلون ، « وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ » ، وأنا ابنةُ نذير لكم بين يَدَي عذاب شديد ، فاعملوا إنّا عاملون ، وانتظروا إنّا منتظرون .

---------------------------
(1) خامَرتكم : خالطتكم.
(2) استشعَرَتها : لبسَتها.
(3) فاضَ صدرُه بالسِرّ : باحَ به.
(4) كالدم الذي يُرمى به من الفم ويدلّ على وجود قرحة.
(5) ضَعف النَفس عن التحمّل.
(6) دونكموها : خّذوها. دبرة : مَقروحة.
(7) نقبة الخُف : رَقيقة الخُفّ.
(8) شنار : العَيب والعار.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 553 _

   فأجابها أبو بكر ( عبد الله بن عثمان ) (1) وقال :
   يابنَة رسول الله ! لقد كانَ أبوكِ بالمؤمنين عطوفاً كريماً ، رؤفاً رحيماً ، وعلى الكافرين عذاباً أليماً وعقاباً عظيماً ، إن عَزَوناه وجَدناه أباكِ دونَ النساء (2) ، وأخا إلفِكِ دون الأخِلاّء (3) ، آثره على كلّ حميم (4) ، وساعده في كل أمر جسيم ، لا يُحبّكم إلا كل سعيد ، ولا يُبغضكم إلا كل شقيّ .
   فأنتم عترة رسول الله الطيّبون ، والخيرة المنتجبون ، على الخَير أدِلّتُنا ، وإلى الجنّة مسالكنا ، وأنتِ يا خيرة النساء ، وابنة خير الأنبياء ، صادقةٌ في قولك ، سابقة في وُفور عقلك ، غير مردودة عن حقّك ، ولا مصدودة عن صدقك (5) ، والله ما عَدَوتُ رأيَ رسول الله !!! (6) ولا عَمِلتُ إلا بإذنه ، وإنّ الرائد لا يكذِبُ أهلَه (7) ، وإنّي أُشهد الله وكفى به شهيداً ، أنّي

---------------------------
(1) أي : أبو بكر بن أبي قُحافة.
(2) عَزَوناه : نَسَبناه.
(3) وفي نسخة : وأخا بَعلك ، والمعنى واحد.
(4) حَميم : قريب.
(5) مَصدودة : ممنوعة.
(6) عَدَوتُ : جاوزتُ.
(7) الرائد : الذي يَتقدّم القوم ، يَبحَث لهم عن الماء والكلأ ومَساقط الثمار.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 554 _

   سمعتُ رسول الله يقول : « نحنُ معاشر الانبياء لا نورّث ذهباً ولا فضّةً ولا عقاراً ، وإنّما نورثّ الكتاب والحِكمة ، والعلم والنبوة ، وما كان لنا من طعمة فلوالي الأمر بَعدنا ، أن يَحكُم فيه بحُكمه ».
   وقد جعلنا ما حاولتِهِ في الكُراع والسلاح (1) ، يُقاتلُ بها المسلمون ، ويُجاهدون الكفّار ، ويُجالدون المَردة الفُجّار (2) . وذلك بإجماع من المسلمين !! لم أنفَرِد به وَحدي ، ولم أستَبِدّ بما كان الرأي فيه عندي (3) ، وهذه حالي ومالي ، هي لكِ ، وبَينَ يديكِ ، لا تُزوى عنكِ (4) ، ولا تُدّخر دونكِ ، وأنتِ سيدة أمّة أبيكِ ، والشجرة الطيبة لِبنيك ، لا يُدفَع مالَك من فضلكِ ، ولا يوضع في فَرعك وأصلكِ ، حُكمك نافذ فيما مَلَكت يَداي ، فهل تَرينّ أن أُخالف في ذلك أباك ؟
   فقالت ( عليها السلام ) :
   سبحان الله ! ما كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن

---------------------------
(1) الكراع ـ بضمّ الكاف ـ : جماعة الخيل.
(2) يُجالدون : يضاربون .
(3) استبدّ : انفرد بالأمر مِن غير مُشارك فيه .
(4) تُزوى عنك : تُقبَض عنك.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 555 _

   كتاب الله صادفاً (1) ، ولا لأحكامه مُخالفاً ، بل كان يتّبع أثَره ، ويَقفو سُوَره (2) ، أفتُجمِعون إلى الغَدر إعتلالاً عليه بالزور ، وهذه بعد وفاته شبيهٌ بما بُغيَ له من الغَوائل في حياته (3) .
   هذا كتاب الله حَكَماً عدلاً ، وناطقاً فَصلاً ، يقول : « يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ » ، « وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ » ، فبيّن ( عزّ وجل ) فيما وزّع عليه من الأقساط ، وشَرع مِن الفرائض والميراث ، واباحَ مِن حظّ الذُكران والإناث ، ما أزاحَ علّة المُبطلين ، وأزالَ التظنّي والشُبُهات في الغابرين (4) ، كلا ، « بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ».
   فقال أبو بكر :
   صَدق الله وصدق رسوله وصدقت ابنته ، أنتِ معدن الحِكمة ، ومَوطن الهدى والرحمة ، ورُكن الدين ، وعَين الحُجّة ، لا أُبعدُ صوابكِ ، ولا أُنكر خِطابكِ ، هؤلاء المسلمون

---------------------------
(1) صادِفاً : مُعرِضاً ، يُقال : صَدَفَ عن الحقّ إذا أعرضَ عنه.
(2) يَقفو : يَتبع.
(3) الغوائل ـ جَمع غائلة ـ : الحادثة المهلكة.
(4) التظنّي : إعمال الظن. الغابرين : الباقين.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 556 _

   بَيني وبينَكِ ، قَلّدوني ما تَقَلّدتُ ، وباتّفاق منهم أخذتُ ما أخذت ، غير مُكابرٍ ولا مُستبدّ ولا مُستأثر ، وهم بذلك شهود .
   فالتفتت فاطمة ( عليها السلام ) إلى الناس وقالت :
   مَعاشر الناس ! المُسرعة إلى قيل الباطل ، المُغضية على الفِعل القبيح الخاسر (1) ، أفلا تتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها ؟
   كلا ، بل ران على قلوبكم ما أسأتم مِن أعمالكم ، فأُخذ بسمعكم وأبصاركم ، ولَبئسَ ما تأوّلتم ، وساء ما به أشَرتُم ، وشرّ ما منه اعتضَتّم (2) ، لَتجدنّ ـ والله ـ محمله ثقيلا ، وغِبّه وبيلاً (3) ، إذا كُشِف لكم الغطاء وبانَ ماوراءه الضرّاء ، وبَدا لكم من ربّكم مالَم تكونوا تحتسبون ، وخَسِر هنالك المبطلون.
   ثمّ عطفت على قبر أبيها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقالت :

---------------------------
(1) المغضية : الساكتة ، الراضية.
(2) اعتضتّم : من الإعتياض وهو أخذ العوض.
(3) الغِبّ ـ بكسر الغين ـ : العاقبة، الوَبيل : الشديد الثقيل.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 557 _

قـد كـان بَـعدك أنباءٌ و هَنبَثة  (1)       لو كنتَ شاهدَها لم تَكثُر الخُطبُ  (2) ii
إنّـا فَـقَدناك فَقدَ الأرض وابِلَها  (3) ii      واختلّ قومُك فاشهَدهم وقد نَكبوا  (4) ii
وكـلّ  أهـلٍ لـه قُـربى iiومـنزلةٌ      عـند  الإلـه عـلى الأدنين iiمُقتَربُ
أبدَت رجالٌ لنا نجوى صدورهم  (5) ii      لـمّا مَـضَيتَ و حالَت دونَك iiالتُرُب
تَـجَهّمَتنا  رجـالٌ و اسـتخفّ بِـنا      لَمّا فُقِدتَ ، وكلّ الإرث مُغتَصَبُ  (6)

---------------------------
(1) الهنبثة : الأمر الشديد المختلف.
(2) الخطب ـ بضمّ الخاء والطاء ـ جَمع خَطب ، بفتح الخاء ـ : المصائب الشديدة.
(3) الوابل : المطر الغزير الكثير.
(4) نَكبوا : عَدَلوا عن الطريق.
(5) نجوى ـ هنا ـ : الأحقاد الكامنة المَخفيّة سابِقاً.
(6) مُغتصَب : مغصوب.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 558 _

وكـنتَ بَـدراً ونـوراً يُستَضاءُ iiبه      عـليك تَـنزلُ مِن ذي العِزّة iiالكُتُب
وكـان جـبريل بـالآيات يـؤنسنا      فـقد  فُـقِدتَ ، فكلّ الخير iiمُحتَجَبُ
فـليتَ قَـبلَك كـان الموتُ iiصادفنا      لمّا مَضَيتَ وحالت دونك الكُثُبُ  (1)
إنا  رُزينا بما لَم يُرزَ ذو شَجَنٍ  (2) ii      مِـن الـبريّة لا عَـجمٌ و لا iiعَرَبُ
   ثمّ انكفأت ( عليها السلام ) (3) ، وأمير المؤمنين ( عليه السلام ) يتوقّـع رجوعهـا إليه (4) ، ويتطلّع طلوعها عليه ، فلمّا استقرت بها الدار قالت لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) :

---------------------------
(1) الكُثب ـ بضمّ الكاف والثاء ـ جمع كثيب ـ : وهو الرَمل.
(2) رُزينا : من الرزيّة وهي المصيبة ، والشَجَن : الحُزن.
(3) انكفأت : رَجَعت.
(4) يتوقّع : ينتظر.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 559 _

   يابن أبي طالب ، إشتملت شَملَة الجنين (1) ، وقَعَدتَ حُجرة الظنين (2) ، نَقَضتَ قادمة الأجدَل (3) ، فخانَك ريشُ الأعزَل (4) ، هذا ابنُ أبي قحافة يَبتزّني نِحلة أبي (5) وبُلغةَ إبنيّ (6) .
   لقد أجهَرَ في خصامي (7) ، والفَتية الألدّ في

---------------------------
(1) إشتَمَل الثوب : إذا أداره على الجسد ، والشِملة ـ بكسر الشين ـ : هيئة الإشتمال وكيفيّته ...
   والشملة ـ بفتح الشين ـ : ما يُشتَمل به ، والمقصود هنا : مَشيمة الجنين ، وهي الكيس الذي يكون فيه الجنين داخل الرحم.
(2) الحجرة ـ بضمّ الحاء ـ : البيت.
   وبضمّ الحاء وسكون الجيم ثم الزاء : هو المكان الذي يُحتجز فيه ، والظنين : المُتّهم.
(3) نَقَضتَ : كسرتَ ، والقادمة ـ واحدة القوادم ـ : وهي مقاديم ريش الطائر، والأجدل : الصَقر.
   والمقصود : كنتَ ـ فيما مضى ـ تَكسِرُ ظهر الأبطال والشجعان في الحروب.
(4) خانَك من الخيانة، وفي نسخة : خاتكَ : أي : إنقضّ عليك.
(5) يَبتزّني : يَسلبني بالقَهر والغَلَبة ، والنِحلة ـ بكسر النون ـ : العَطية ، والنُحيلة تصغيرها .
(6) البلغة : ما يُتبلّغ به من العَيش ويُكتفى به .
(7) أجهَر : أعلنَ بكلّ وضوح. وفي نسخة : أجهَد : أي جدّ وبالغ.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 560 _

   كلامي (1) ، حتى حَبَستني قيلة نصرها (2) ، والمهاجرة وَصلَها (3) ، وغضّت الجماعة دوني طرفها ، فلا دافع ولا مانع ، خَرجتُ كاظمة ، وعُدتُ راغمة (4) ، أضرَعتَ خَدّك يوم أضعتَ حَدّك (5) ، إفتَرست الذئاب وافتَرَشتَ التُراب ، ما كفَفتَ قائلاً ولا أغنيتَ باطلا (6) ، ولا خيارَ لي (7) ، لَيتني مِتُ قبل هِينَتي (8) ، ودون ذِلّتي ، عذيري الله منك عادياً ومنك حامياً.
   وَيلاي في كلّ شارق ، مات العَمَد ووَهَنَ العَضُد ، شكواي إلى أبي ، وعَدواي إلى رَبّي ، اللهم أنت أشدُّ قوّةً وحَولا ، وأحدُّ بأساً وتَنكيلا.

---------------------------
(1) ألفَيته : وَجَدته ، والألدّ : شديد الخصومة ، والحَقود.
(2) حَبَسَتني : مَنَعتني ، وقيلة : اسم أُمِّ الأوس والخزرج ، وهما قبيلتان من الأنصار.
(3) المهاجرة : المهاجرون، وَصلَها : عَونَها.
(4) كاظمة : مُتجرّعة الغيظ مع الصبر.
(5) أضرغتَ : أذللتَ ، وأضعتَ حَدّك : أهمَلتَ قَدرَكَ.
(6) ما كفَفتَ : ما منعتَ ، أغنيتَ : صَرَفتَ ودَفعتَ.
(7) لا خيار لي ، لا اختيار لي.
(8) هينتي ـ بكسر الهاء ـ : مهانتي .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 561 _

   فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
   لا وَيلَ عليكِ ، بل الويلُ لِشانئكِ ، نَهنِهي عن وَجدِكِ يابنةَ الصفوة (1) ، وبقيّة النبوّة ، فما وَنيتُ عن ديني (2) ، ولا أخطأتُ مقدوري ، فإن كنتِ تريدين البُلغة فرزقُكِ مَضمون (3) ، وكفيلُك مأمون ، وما أُعدّ لكِ خيرٌ مما قُطعَ عنك ، فاحتَسبي الله.
   فقالت : حسبي الله. وأمسكت (4) .

---------------------------
(1) نَهنِهي : كُفّي. وَجدكِ : حُزنكِ.
(2) وَنَيتُ : عَجَزتُ.
(3) البُلغة ـ بضمّ الباء ـ : الكفاية.
(4) نُنَبّه القاري الكريم أنّ السيد المؤلف ( رحمة الله تعالى عليه ) قام بشرح كلمات هذه الخطبة في كتابه : « فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد » ، وجدير بالقارئ الكريم أن يقرا شرح الخطبة في ذلك الكتاب ، ليَطّلع على بعض ما فيها من الأسرار والإشارات والتعليقات والتوضيحات.
   المحقق

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 563 _

(2) حديث أمّ أيمَن
   كانت السيدة زينب ( عليها السلام ) قد بَلغَت مَبلغاً من الوعي والنضج الفكري والإستعداد العقلي بحيث استطاعت أن تَسمع مِن أمّ أيمن حديثاً يتعلّق بمستقبلها ومُستَقبَل أُسرتها (1) .
   حديثاً يَقشَعرّ منه الجلود ، وتتوتّر منه الأعصاب ، لأنّه إخبار عن مُستقبل محاط بشتّى أنواع الفجائع والكوارث ، والمآسي

---------------------------
(1) أمّ أيمن : اسمها بَركة بنت ثعلّبة بن عمرو ، غَلَبت عليها كُنيتها ، إمرأة جليلة محترمة ، كانت أمَةً لسيدنا عبد الله بن عبد المطلب ـ والد رسول الله ـ ، وصارت ميراثاً لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وبذلك صارت حاضنةً له ، وقد أعتقها النبي الكريم عندما تزوّج من السيدة خديجة ( عليها السلام ) ، رَوت عن النبي الكريم أحاديث مُتعدّدة ، وقد شَهِدَ لها رسول الله بأنّها من أهل الجنّة ، وشهد لها ـ أيضاً ـ الإمام الباقر ( عليه السلام ) بذلك حيث قال للراوي : « أرأيت أمّ أيمن فإنّي أشهد أنّها من أهل الجنة » .
   تزوجها عُبيد بن زيد ، من بني الحارث بن الخزرج ، فولدت له « أيمَن » ، واستُشهد

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 564 _

  والإضطهاد والأهوال ، وهو مقتل أخيها الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأُسرته وأهل بيته .
   إذن ، لم تكن فاجعة كربلاء للسيدة زينب مفاجأة ، بل كانت على عِلم بهذه المقدّرات التي كتبتها المشيئة الإلهية.
   ولا نعلم ـ بالضبط ـ التاريخ الذي سمعت فيه السيدة زينب هذا الحديث من أمّ أيمن ، حتى نستطيع معرفة مقدار عمر السيدة زينب يوم سماع هذا الحديث ، لكن ذكر المؤرّخون تاريخ وفاة أمّ أيمن سنة 36 من الهجرة ، وبناءً على هذا ... فقد كان عمر السيدة زينب ( عليها السلام ) يوم وفاة أم أيمن ثلاثين سنة .
   ولعلّها كانت قد حدّثت السيدة زينب قبل وفاتها بسنوات .
   وعلى كل تقدير ، فإنّ السيدة زينب كانت تعلم بقضايا كربلاء قبل وقوعها بأربع وعشرين سنة ... على أقلّ التقادير ، إستناداً إلى

---------------------------
   عبيد يوم خيبر ، فتزوّجها ـ بعد ذلك زيد بن حارثة ، والد أسامة بن زيد ، كانت علاقاتها مع أهل بيت رسول الله ... علاقات طيّبة جداً ، وخاصّةً بعد وفاة النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
   قيل : تُوفّيَت في أيام حكومة عثمان بن عفّان ، وصلى على جنازتها الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ودُفنت في البقيع.
   المحقق

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 565 _

   حديث أم أيمن ، سوى ما سمعته من جدّها رسول الله وأبيها أمير المؤمنين من الإخبار بمقتل الإمام الحسين في أرض كربلاء ، وقد إتّضح شيء من هذا الموضوع في الفصول الماضية من هذا الكتاب.
   وأمّا حديث أمّ أيمن فإليك نصّه :
   ذُكرَ في ملحقات كتاب ( كامل الزيارات ) لابن قولويه (1) ، بسنده عن نوح بن درّاج ، قال : حدّثني قدامة بن زائدة ، عن أبيه قال :
   قال علي بن الحسين ـ عليه السلام ـ : « بَلَغني ـ يا زائدة ـ أنّك تزور قبر أبي عبد الله الحسين ( عليه السلام ) أحياناً ؟ ».
   فقلت : إنّ ذلك لَكَما بَلَغَك .
   فقال لي : « فلماذا تفعل ذلك ، ولك مكان عند سلطانك الذي لا يحتملُ أحداً على محبّتنا وتفضيلنا وذكر فضائلنا ، والواجب على هذه الأمّة من حقّنا » ؟
   فقلت : والله ما أريد بذلك إلا الله ورسوله ، ولا أحفل بسخط من سخط (2) ولا يكبُرُ في صدري مكروه ينالُني بسببه !

---------------------------
(1) كتاب ( كامل الزيارات ) لابن قولويه المتوفى سنة 367 هـ.
(2) لا أحفَلُ : لا أبالي، كما في كتاب « العين » للخليل بن أحمد.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 566 _

   فقال : « والله إنّ ذلك لكذلك » (1) .
   فقلت : والله إنّ ذلك لكذلك ، يقولها ثلاثاً ، وأقولها ثلاثاً (2) .
   فقال : « أبشِر ثمّ أبشِر ثمّ أبشِر فلأُخبِرنّك بخبرٍ كان عندي فـي النَخب المخـزون (3) فإنّه لمّا أصابنا بالطفّ ما أصابنا (4) وقُتل أبي ( عليه السلام ) وقُتل من كان معه من ولده وإخوته وسائر أهله ، وحُملَت حُرَمُه ونساؤه على الأقتاب يُراد بنا

---------------------------
(1) لكذلك : أي : هو كما أخبَرتَني بذلك ، وأنتَ صادق في قولك.
(2) أي : لمزيد التأكيد على صدق كلامي ... كنتُ أُقسم بالله تعالى ثلاث مرّات ، وكان الإمام ( عليه السلام ) أيضاً يُقسم بالله سبحانه ثلاث مرات أنّي صادقٌ في قولي ، أو : أنّه يُصدقني على كلامي.
   المحقق
(3) هناك إحتمالان في معنى كلمة « النَخب » : الإحتمال الأول : هو صُندوقٌ صغير ، يُصنَع من خَشَب ، توضع فيه الأشياء النفيسة أو الثمينة ، كالمجوهرات والكتب المخطوطة الفريدة.
   الاحتمال الثاني : هو ما يختارها الإنسان وينتخبها من المعلومات الثقافية النادرة التي يعتزّ بها ، ويودعها في ذاكرته .
   قال ابن منظور ـ في « لسان العرب » ـ : نَخَبَ : إنتخبَ الشيء : إختاره ، مشتقّ من النخبة، وجاء في كتاب « لاروس » : نَخَبَ الشيء : أخذ أحسنه، والله العالم.
   المحقق
(4) الطفّ : أرض كربلاء.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 567 _

   الكوفة (1) .
   فجعلتُ أنظرُ إليهم صرعى ولم يُواروا ، فعَظُم ذلك في صدري ، واشتدّ ـ لما أرى منهم ـ قَلَقي ، فكادت نفسي تخرج ، وتبيّنَت ذلك منّي عمّتي زينب الكبرى بنت علي ( عليه السلام ) فقالت : ما لي أراكَ تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي ؟؟!
   فقلت : وكيفَ لا أجزع وأهلَع ؟ وقد أرى سيّدي وإخوتي وعمومَتي ووُلدَ عمّي ، وأهلي مُصرّعين بدمائهم (2) مُرَمّلين بالعراء ، مسَلّبين ، لا يُكفّنون ولا يوارون ، ولا يُعرّج عليهم أحد ، ولا يقربُهم بشر ، كأنّهم أهل بيتٍ من الدَيلم والخَزر ؟؟ (3)

---------------------------
(1) لقد ذكرنا ـ فيما مضى ـ أنّ الأقتاب ـ جمعُ قَتَب ـ : وهي مجموعة من الأقمشة السميكة المخيّطة بعضها فوق بعض ، لكي توضَعَ على سنام الإبل وتُشَدّ وتُثبّت هناك ، وذلك لراحة الراكب. ويُعبّر عنبه بـ « الإكاف ».
   المحقّق
(2) لعلّ الصحيح : مضرّجين بدمائهم.
   المحقق
(3) الديلم والخَزَر : أهالي مُقاطعة « مازندران » و « كيلان » في إيران ، كانوا يحاربونهم ويأسرونَ رجالهم ونساءهم ، ويأتون بهم إلى الشام ، ويتعاملون معهم تعامل العبيد والإماء ، فيبيعونهم .
   المحقق

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 568 _

   فقالت : لا يُجزعنّك ما ترى ، فوالله إنّ ذلك لعهد من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى جدّك [ أمير المؤمنين ] وأبيك وعمّك [ الإمام الحسن ].
   ولقد أخذ الله الميثاق ، أُناسٌ من هذه الأمّة ـ لا تعرفهم فراعنة هذه الأمّة (1) ، وهم معروفون في أهل السماوات ـ أنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة وهذه الجسوم المضرّجة فيوارونها .
   وينصبون لهذا الطفّ عَلَماً لقبر أبيك سيد الشهداء ، لا يُدرَس أثره (2) ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام. (3)
   ولَيَجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلا ظهوراً ، وأمره إلا علوّاً. (4)
   فقلتُ : وما هذا العهد وما هذا الخبر ؟؟
   فقالت : نعم ، حدّثتني أمّ أيمن أن رسول الله ( صلى الله

---------------------------
(1) وفي نسخة : فراعنة هذه الأرض.
(2) لا يُدرس أثره : أي : لا يُعفا ولا يُمحى لا أثره. كما يستفاد من « المعجم الوسيط ».
   المحقق
(3) كرور الليالي والأيام : مرور ومُضيّ الليالي والأيام.
   المحقق
(4) تطميسه : محوه وإزالته.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 569 _

   عليه وآله وسلم ) زارَ منزل فاطمة ( عليها السلام ) في يوم من الأيام ، فعَمِلَت له حريرة (1) ، وأتاهُ علي ( عليه السلام ) بطبقٍ فيه تمر.
   ثمّ قالت أمّ أيمن : فأتيتهم بعُسٍ فيه لبن وزبد (2) فأكلَ رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين من تلك الحريرة ، وشَربَ رسول الله وشربوا من ذلك اللبن ، ثم أكل وأكلوا من ذلك التمر والزُبد .
   ثم غسل رسول الله يده ، وعليٌ يَصُبّ عليه الماء.
   فلمّا فرغ من غسل يده مسح وجهه ، ثم نظر إلى علي وفاطمة والحسن والحسين نظراً عرفنا به السررو في وجهه ، ثم رمقَ بطرفه نحو السماء مليّاً (3) ثم إنّه وجّه وجهه نحو القبلة ، وبسط يديه ودعا ، ثمّ خرّ ساجداً وهو ينشج (4) فأطالَ النشيج ، وعلا نحيبه وجََرَت دموعه.
   ثمّ رفع رأسه ، وأطرَقَ إلى الأرض ودموعه تقطر كأنّها

---------------------------
(1) الحريرة : دقيق « طحين » يُطبَخُ بِلَبَن ، كما في كتاب « مجمع البحرين » للطريحي .
(2) العُسّ ـ بضمّ العَين ، وتشديد السين ـ : القدح الكبير ، كتاب « العَين » للخليل .
   الزُبدُ : ما خَلُصَ من اللبن إذا مُخِض ... يشبه الدُهن ، « لسان العرب »
(3) مَلِيّاً : مُدّةً طويلةً من الزمن ، كما يُستفاد من كتب اللغة.
   المحقق
(4) يَنشجُ : يتردّد البكاء في صدره ... دون صوت عال.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 570 _

   صوب المطر (1) ، فحزنت فاطمة وعلي والحسن والحسين ( عليهم السلام ) وحزنت معهم ، لما رأينا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهِبناه أن نسأله (2) .
   حتّى إذا طال ذلك ، قال له علي وقالت له فاطمة : ما يُبكيك يا رسول الله ؟ لا أبكى الله عينيك ! فقد أقرح قلوبنا ما نرى مِن حالك.
   فقال : يا أخي سُررتُ بكم (3) وإني لأنظر إليكم وأحمد الله على نعمته عليّ فيكم ، إذ هبطَ عليّ جبرئيل فقال : يا محمد ! إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ إطّلع على ما في نفسك ، وعرفَ سرورَك بأخيك وابنتك وسبطيك ، فأكمل لك النعمة وهنّأكَ العطيّة : بأن جعَلَهم وذُريّاتهم ومُحبّيهم وشيعتهم معك في الجنة ، لا يُفرّق بينك وبينهم ، يُحبَونَ كما تُحبى (4) ، ويُعطَونَ كما تُعطى ، حتى ترضى وفوق الرضا.

---------------------------
(1) صوبُ المطر : إنصباب المطر الغزير ، المعجم الوسيط.
(2) هِبناه : أخَذَتنا هيبته من أن نسأله عن سبب بكائه.
(3) وفي نسخة : فقال : يا حبيبَيّ إنّي سُررتُ بكم سروراً ما سررتُ مثله قطّ .
(4) يُحبَونَ كما تُحبى : أي يُعطون كما تُعطى ، يُقال : حبا الرجل حبواً : أعطاه ؛ مأخوذ من الحَبوَة : وهي العطيّة الهنيئة ... بلا مَنٍّ أو توقّع جزاء .
   كما يُستفاد من « القاموس » و « لسان العرب ».
   المحقق

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 571 _

   على بَلوى كثيرة تنالهم في الدنيا ، ومكاره تُصيبهم بأيدي أُناسٍ ينتحلون مِلّتك ، ويزعمون أنّهم من أمّتك ، بُراء من الله ومنك ، خبطاً خبطاً (1) وقتلاً قتلاً ، شتّى مصارعهم (2) نائية قبورهم ، خيرةٌ من الله لهم ولك فيهم ، فاحمَد الله ـ عز وجل ـ على خيرته ، و إرضَ بقضائه .
   فحَمِدتُ الله ، ورَضيتُ بقضائه بما اختاره لكم .
   ثم قال لي جبرئيل : يا محمد ! إنّ أخاك مُضطهدٌ بعدك ، مَغلوب على أمّتك ، متعوبٌ من أعدائك ، ثمّ مقتول بعدك ، يقتله أشرّ الخلق والخليقة ، وأشقى البريّة ، يكون نظير عاقر الناقة (3) ببلد تكون إليه هجرته ، وهو مغرَسُ شيعته وشيعة ولده ، وفيه ـ على كلّ حال ـ يكثُر بَلواهم ، ويعظم مصابهم .

---------------------------
(1) خبطاً خبطاً : أي : ضرباً ضرباً ، أو كسراً كسراً ، والخبطُ : شدّة الوَطء بأيدي الدَوابّ ، كتاب « العين » للخليل بن أحمد، وقال ابن دُريد في « جَمهرة اللغة » : كلّ شيء ضربته بيدك فقد خَبَطتَه .
   المحقق
(2) شتّى مصارعهم : متفرّقة أو مُتباعدة قبورهم. وقيل : المصارع ـ جمع مصرع ـ : هو المكان الذي يقع فيه المقتول.
(3) أي : عاقِرَ ( أي : قاتِل ) ناقة النبي صالح ، وإسمه « قدار » ، ويُعبّر عنه بـ « أشقى الأوّلين » أي : أشقى البشر الذين كانو قبل الإسلام، قال تعالى : « إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ : نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا .... » ( سورة الشمس ، الآية 12 ـ 14 )

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 572 _

   وإنّ سبطك هذا ـ وأومأ بيده إلى الحسين (1) ـ مقتول في عصابة من ذريّتك وأهل بيتك ، وأخيارٍ من أمّتك ، بضِفّة الفرات (2) بأرضٍ يقال لها : كربلاء.
   من أجلها يكثر الكرب والبلاء على أعدائك وأعداء ذريّتك في اليوم الذي لا يَنقضي كَربُه ، ولا تُفنى حَسرتُه .
   وهي أطيبُ بقاعِ الأرض وأعظمها حُرمةً ، يُقتلُ فيها سبطك وأهله ، وإنّها من بطحاء الجنّة.
   فإذا كان ذلك اليوم الذي يُقتَلُ فيه سبطُك وأهله ، وأحاطَت به كتائب أهل الكفر واللعنة ، تزعزعت الأرض من أقطارها ، ومادَت الجبال وكثُر إضطرابُها ، واصطفقت البحار بأمواجها ، وماجت السماوات بأهلها ، غَضَباً لك ـ يا محمد ـ ولذريّتك ، واستعظاماً لِما يُنتهكُ من حُرمتك ، ولشَرّ ما تُكافأ به في ذريّتك وعترتك.
   ولا يَبقى شيء من ذلك إلا استأذن الله ـ عز وجل ـ في نُصرة أهلك المستضعفين المظلومين الذين هم حجّة الله على خلقه بعدك .
   فيوحي الله إلى السماوات والأرض والجبال والبحار ومَن

---------------------------
(1) أومَأ بيده : أشار بيده .
(2) الضِفّة : جانب النهر أو شاطئه ، الفُرات : نَهر معروف في العراق.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 573 _

   فيهنّ :
   « إنّي أنا الله المَلِك القادر ، الذي لا يفوته هارب ، ولا يعجزه ممتنع ، وأنا أقدر على الإنتصار والإنتقام.
   وعزّتي وجلالي !! لأُعذّبَن مَن وَتَرَ رسولي وصَفيّي ، وانتهك حرمته ، وقَتَل عترته ، ونبذ عهده ، وظلم أهل بيته عذاباً لا أُعذّبه أحداً من العالمين ».
   فعند ذلك يضجّ كلّ شيء في السماوات والأرضين ، بِلَعنِ (1) من ظلم عترتك ، واستحلّ حُرمَتك.
   فإذا برزت تلك العصابة إلى مضاجعها (2) تولّى الله ـ عزّ وجل ـ قَبضَ أرواحها بيده ، وهبط إلى الأرض ملائكة من السماء السابعة ، معهم آنية من الياقوت والزمرّد ، مملوءة من ماء الحياة ، وحُلَل من حُلَل الجنّة ، وطيب من طيب الجنّة ، فغسّلوا جُثَثَهم بذلك الماء ، وألبَسوها الحُلَل ، وحنّطوها بذلك الطيب ، وصلّت الملائكة ـ صفّاً صفّاً ـ عليهم.
   ثمّ يبعث الله قوماً من أمّتك لا يعرفهم الكفّار ، لم يشركوا في تلك الدماء بقولٍ ولا فعلٍ ولا نيّة (3) ، فيُوارون أجسامهم ،

---------------------------
(1) وفي نسخة : يَلعَن.
(2) مضاجعها ـ هُنا ـ مصارعها ، أي : أماكن سقوط القَتيل على الأرض.
   المحقق
(3) لعلّ الصحيح : لم يَشتركوا في تلك الدماء.
   المحقق

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 574 _

   ويقيمون رَسماً لقبر سيد الشهداء بتلك البطحاء ، يكون عَلَماً لأهل الحق ، وسبباً للمؤمنين إلى الفوز ، وتَحفّه ملائكة من كلّ سماء : مائة ألف مَلَك في كلّ يوم وليلة ويُصلّون عليه ، ويطوفون عليه ، ويسبّحون الله عنده ، ويستغفرون الله لمن زاره ، ويكتبون أسماء من يأتيه زائراً من أمّتك ، متقرّباً إلى الله ـ تعالى ـ وإليك بذلك ، وأسماء آبائهم وعشائرهم وبلدانهم ويوسمون في وجوههم بمِيسَمِ (1) نور عرش الله : « هذا زائر قبر خير الشهداء وابن خير الأنبياء ».
   فإذا كان يوم القيامة سَطَعَ في وجوههم ـ من أثر ذلك الميسم ـ نور تغشى منه الأبصار ، يُدلّ عليهم ويُعرَفون به .
   وكأنّي بك ـ يا محمد ـ بيني وبين ميكائيل ، وعليٌ أمامَنا ، ومَعَنا من ملائكة الله ما لا يُحصى عددهم ، ونحن نلتقط ـ مَن ذلك الميسم في وجهه ـ من بين الخلائق ، حتى يُنجيهم الله مِن هَول ذلك اليوم وشدائده.
   وذلك حكم الله وعطاؤه لمن زار قبرك ـ يا محمد ـ أو قبر أخيك أو قبر سبطيك ، لا يُريد به غير الله عز وجل .

---------------------------
(1) المِيسَم : حديدة تحمى بالنار ، ثم توضع على جسم الحيوان فتكويه ، لتكون علامة لها ، لفرزها عن حيوانات القطيع الاخر ، والجمع : مَياسِم ومَواسِم .
   ويُقال ـ أيضاً ـ لكلّ جهازٍ يُستَعمَل لِوَضع علامة فارقة لِفَرز شيء عن شيء .
   المحقق

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 575 _

   وسيَجتهد أُناسٌ ـ مِمّن حَقّت عليهم اللعنة من الله والسخط ـ أن يُعفوا رَسمَ ذلك القبر ، ويُمحوا أثره ، فلا يجعل الله ـ تبارك وتعالى ـ لهم إلى ذلك سبيلاً .
   ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فهذا أبكاني وأحزَنَني .
   قالت زينب : فلمّا ضرب ابن ملجم ( لعنه الله ) أبي ( عليه السلام ) ورأيتُ عليه أثر الموت منه ، قلتُ له : يا أبَه حَدّثتَني أمّ أيمن بكذا وكذا ، وقد أحببتُ أن أسمعه منك .
   فقال : يا بُنيّه الحديث كما حدّثَتكِ أمّ أيمن ، وكأنّي بكِ وبنساء أهلكِ سبايا بهذا البلد ، أذلاء خاشعين ، تخافون أن يتخطّفكم الناس.
   فصبراً صبراً ، فوالذي فَلَقَ الحبّة وبرأ النسمة ، ما لله على ظهر الأرض ـ يومئذ ـ وليٌّ غيركم وغير مُحبّيكم وشيعتكم .
   ولقد قال لنا رسول الله ـ حين أخبرنا بهذا الخبر ـ : « إنّ إبليس ( لعنه الله ) في ذلك اليوم يطير فرَحاً (1) فيجول الأرض كلّها بشياطينه وعفاريته فيقول : يا معاشر الشياطين : قد أدركنا مِن ذريّة آدم الطلبة ، وبَلغنا في هلاكهم الغاية ، وأورَثناهم النار إلا من اعتصم بهذه العصابة ، فاجعلوا شُغلكم بِتَشكيك الناس

---------------------------
(1) ذلك اليوم : يوم قتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) وهو يوم 10/محرم مِن سنة 61 للهجرة ، المشهور بـ « عاشوراء ».