|
وأغلى وألذّ نعمة يتنعّم بها بعض أهل الجنّة ـ وفي طليعتهم شهداء فاجعة كربلاء ـ هو شعورهم وإحساسهم بأنّ الله تعالى راض عنهم ، قال تعالى : « وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ » (1) .
هذا سوى ما يُعيّن لهم من أنواع النِعَم والكرامة والإحترام اللائق ... الذي لا مَثيل له في عالم الدنيا !
يُضاف إلى ذلك : أنّ الرجل الذي يُقتَل في سبيل الله بنيّة خالصة سوف يمرّ نسيم العفو والمغفرة على ما صدر منه من مخالفات ، فيصير ملفّه أبيض لا سواد فيه .
إنّنا نقرأ في دعاء صلاة يوم عيد الفطر والأضحى : « ... اللهم وأهل العفو والرحمة وأهل التقوى والمغفرة » ، وهذا لجميع المؤمنين التائبين ، ولكنّ الشهيد يمتاز بمزايا وتسهيلات خاصّة قرّرها الله تعالى للشهداء فقط .
هذا إذا كان الشهيد إنساناً عادياً غير معصوم من الذنوب ، أمّا إذا كان معصوماً فلا توجد في صحيفة أعماله
---------------------------
(1) سورة التوبة ، آية 72.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 477 _
ذنوب أو معاصي ، فيكون معنى « المغفرة » بالنسبة إليه علوّ درجته في الجنّة ، واختصاصه بمنح فريدة كالشفاعة للآخرين ، وغير ذلك من المميّزات.
وأمّا سيد الشهداء الإمام الحسين ( عليه السلام ) فقد خاطبه الله تعالى ـ بقوله ـ : « يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ : فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي » ، فقد روي عن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) أنّ المقصود والمُخاطب بهذه الآية : هي نفس الإمام الحسين ( عليه السلام ) (1) .
وكم تتضمّن هذه الآيات من كلمات وضمائر عاطفيّة !!
« ولم يَشقَ بهم غيرك »
المعنى : إنّ الذي صار شقيّاً وتعيساً ومطروداً من رحمة الله .. هو أنت يا « يزيد » ، ... بسبب قتلك إيّاهم وقضائك على حياتهم ، وطعنِك في قلب الإسلام النابض وهو الإمام الحسين ( عليه السلام ).
---------------------------
(1) كتاب ( تفسير البرهان ) للسيد هاشم البحراني ، عند تفسير الآية 27 ـ 30 من سورة الفجر.
المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 478 _
« ولا ابتُليَ بهم سواك »
إنّ الذي امتُحنَ بالقدرة والسلطة ومشاهدة كرسيّ الملك الذي مهّده له معاوية ، فاراد القضاء على كلّ من لا يركع له ، وبذلك سقط في الإمتحان سقوطاً ذريعاً هو أنت أيّها الخامل الحاقد !
أمّا الذين قُتِلوا مع الإمام الحسين ( عليه السلام ) ونالوا شرف الشهادة معه ... فهم قد نجحوا في الإمتحان نجاحاً باهراً وفوزاً متوالياً متواصلاً ، أي : كما كانوا مِن قَبل الشهادة ـ أيضاً ـ في مرحلة عالية من سلامة الفكر والعقيدة والسلوك ، والطاعة التامّة لإمام زمانهم الحسين ( عليه السلام ).
فهم ـ الآن ـ في أعلى درجات الجنان والتي يُعبّر عنها بـ « الفردوس الأعلى ».
أما أنت ـ يا يزيد ـ فسوف يكون مصيرك في أسفل دَرَك من الجحيم ، وفي ذلك التابوت الذي يُمَوّن جميع طبقات جهنّم بالحرارة العالية التي لا يُمكن للبشر ـ في هذه الدنيا ـ أن يتصوّر درجة حرارتها وشدّة اشتعالها.
قال تعالى ـ بالنسبة لأهل النار ـ : « وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ » (1) وقال ( جلّ ثناؤه ) : « وقالوا :
---------------------------
(1) سورة إبراهيم ، الآية 17.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 479 _
يَا مَالِكُ ! لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ؟ قَالَ : إِنَّكُم مَّاكِثُونَ » (1) .
« ونَسأله أن يُكمِل لهم الأجر ، ويُجزل لهم الثواب والذخر »
أكمَلَ الشيء : أتمّه ، وفي القرآن الكريم : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ » (2) ويقال ـ أيضاً ـ : الكَمَلُ : الكامل ، يُقال : أعطاه حقّه كملاً : وافياً (3) .
يُجزِل : الجَزلُ : العطاء الكثير ، ويُقال : أجزَل العطاء (4) .
والجَزلُ : الكثير من كلّ شيء (5) .
الثواب : الجزاء والعطاء (6) ، وقيل : هو الجزاء الذي يُعطى مع الإحترام والإجلال والتقدير ... وليس مجرّد
---------------------------
(1) سورة الزخرف ، الآية 77.
(2) سورة المائدة ، الآية 3.
(3) المعجم الوسيط.
(4) كتاب « العَين » للخليل بن أحمد.
(5) المعجم الوسيط.
(6) نفس المصدر.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 480 _
إعطاء الجزاء (1) .
الذُخر : يُقال : ذَخَر لنفسه حديثاً حسناً (2) .
المعنى : ونسأل الله تعالى أن يُكمِلَ لهم الجزاء المخصّص للشهداء ، جزاءً تامّاً يَليقُ بتقدير الله سبحانه للشهداء المخلصين ، الذين تركوا زوجاتهم أرامل ، وأطفالهم أيتام ، وأمّهاتهم ثُكالى ... كل ذلك ... في سبيل الله !
فيُعطيهم العطاء الكثير الوافر ، مع الإحترام والتقدير ، إذ قد يَدفع الإنسان الأجرة إلى العامل ... مِن دون أن تكون كيفيّة الإعطاء مقرونة بالإحترام ، أمّا الثواب : فهو إعطاء الأجر ... مع الإستقبال الحارّ ، والإحترام والإبتسامة واللُطف.
ويَكتُب لهم الثناء الجميل والذكر الحسن ، على ألسنة الناس وفي صفحات التاريخ.
وقد استجاب الله تعالى دُعاء السيدة زينب العظيمة ( عليها السلام ) ، فقد رُوي عن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال : « ما مِن عبدٍ شرِب الماء فذكر الحسين ( عليه السلام )
---------------------------
(1) كما يُستفاد من كتاب « مجمع البحرين » للطريحي.
(2) المعجم الوسيط.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 481 _
ولعن قاتله إلا كتب الله له مائة ألف حسنة ، وحطّ عنه مائة ألف سيّئة ، ورفع له مائة ألف درجة ، وكأنّما أعتق مائة ألف نَسَمة ، وحشره الله تعالى يوم القيامة ثَلجَ الفؤاد » (1) .
وروي عن الإمامين الباقر والصادق ( عليهما السلام ) أنّهما قالا : « إنّ الله تعالى عوّض الحسين ( عليه السلام ) عن قتله أن : جعل الإمامة في ذريّته ، والشفاء في تربته ، وإجابة الدعاء عند قبره ، ولا تُعدّ أيام زائريه ... ـ جائياً وراجعاً ـ مِن عمره » (2) .
وقد روي ـ أيضاً ـ عن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) أنّه أمَر رجلاً كان يريد الذهاب إلى زيارة قبر الإمام الحسين ( عليه السلام ) أن يزور قبور الشهداء ـ بعد الفراغ من زياة الإمام الحسين ( عليه السلام ) ـ ويُخاطبهم بهذه الكلمات :
« ... بأبي أنتم وأمّي طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم ، وفزتم فوزاً عظيماً ... ».
---------------------------
(1) كتاب « كامل الزيارات » لابن قولويه ، ص 106.
(2) كتاب « بحار الأنوار » ج 44 ، ص 221 ، باب 29 ، نقلاً عن كتاب أمالي الطوسي.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 482 _
« ونسأله حسنَ الخلافة ، وجميل الإنابة ، إنّه رحيم ودود »
الخلافة : يُقال خَلَف فلان فلاناً ... خلفاً وخِلافةً : جاء بعده فصار مكانه (1) . وفي الدعاء : أخلَفَ الله لك وعليك خيرا ».
وفي الدعاء أيضاً : « واخلُف على عَقِبِه في الغابرين ».
الإنابة : الرجوع الى الله ، قال سبحانه : « ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ ».
المعنى : ونسأل الله تعالى أن يُخلّف لناعمّن فقدناه أفراداً صالحين ، يسدّون بعض الفراغ الذي تركه مقتل أولئك الصفوة الطيّبة من رجال آل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأن يجعل في البقيّة الباقية منهم خيراً.
أو : أن يجعل مستقبلنا مستقبلاً حسناً مريحاً ، بعد ما شاهدناه وعانيناه من المصائب الفجيعة التي لن تُنسى !!
إنتهت السيدة زينب البطلة الشجاعة ، مِن إلقاء خطبتها الخالدة.
والآن ... توجّهت أنظار الحاضرين إلى يزيد الحاقد
---------------------------
(1) كما يُستفاد من مجمع البحرين للطريحي.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 483 _
لِيَروا منه ردود الفعل.
فما كان منه سوى أنّه عَلّق على هذه الخطبة المفصّلة بقوله :
يا صحيةً تُحمدُ من iiصوائح ما أهونَ الموت على النوائح (1) |
|
فهل إنعقد لسانه عن إجابة كلّ بند من بنود تلك الخطبة ؟!
أم أنّ أعصابه أُصيبت بالإنهيار والإهتزاز ، فلم يستطع التركيز والرد ؟!
أم رأى أنّ الإجابة والتعليق يُسبّب له مزيداً من الفضيحة أمام تلك الجماهير الغفيرة الحاشدة في المجلس ، فرأى السكوت خيراً له من خَلق أجواء الحوار مع إبنة الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) التي ظَهَرت جدارتها الفائقة على مقارعة أكبر طاغوت ، بكلام كلّه صدقٌ ، واستدلال منطقي وعَقلي مُقنع ، وخاصة أنّ
---------------------------
(1) وفي نسخة : « ما أهون النوح على النوائح » ولعلّه ( لعنه الله ) يقصد من قراءته لهذا الشعر : أنّها إمرأة مفجوعة ... دَعها تتكلّم بما تُريد ، فإنّ ذلك لا يُهمّني !
المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 484 _
الجملات الأخيرة ـ التي كانت تَحمل في طيّاتها التهديد المُرعب ـ جعلت يزيد ينهار رغم ما كان يشعر به مِن تجبّر وكبرياء (1) .
---------------------------
(1) لقد ذُكرت خطبة السيدة زينب ( عليها السلام ) في مجلس يزيد ، في المصادر التالية :
1 ـ كتاب مقتل الإمام الحسين عليه السلام ، للخوارزمي ج 2 ص 63.
2 ـ كتاب نثر الدرر ، لمنصور بن الحسين الآبي ، المتوفّى عام 421 هـ ، طبع مصر ، ج 4 ، ص 26.
3 ـ كتاب بلاغات النساء ، لابن طيفور ، المتوفّى عام 280 هـ.
4 ـ كتاب ( معالي السبطين ) للشيخ محمد مهدي المازندراني الحائري.
5 ـ كتاب « تظلّم الزهراء » للقزويني ، طبع بيروت ، ص 283.
6 ـ كتاب « الإيقاد » للسيد الشاه عبد العظيمي ص 173.
المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 485 _
نصّ خطبة السيدة زينب
على رواية أخرى
لقد ذكرنا أنّ السيد إبن طاووس قد روى خطبة السيدة زينب الكبرى ( عليها السلام ) بكيفيّة تختلف عمّا ذكرناه ، وتمتاز ببعض الإضافات والفُروق ، ولا تَخلو من فوائد ، وإليك نصّها :
قال الراوي : فقامت زينب بنتُ علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فقالت :
« الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد رسوله وآله أجمعين ، صدق الله سبحانه ، كذلك (1) يقول : « ثمّ كان عاقبة
---------------------------
(1) وفي نسخة : إذ يقول.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 486 _
الذين أساؤا السوئى أن كذّبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون » (1) .
أظننت ـ يا يزيد ! ـ حيثُ أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء ـ فأصبحنا نُساق كما تُساق الأُسارى (2) ـ أنّ بنا على الله هواناً ، وبك عليه كرامة ؟ وأنّ ذلك لَعَظم خطرك عنده ؟
فَشَمَخت بأنفك ، ونظرت في عطفك ، جذلان مسروراً (3) ، حين رأيت الدنيا لك مستوثقة ، والأمور متّسقة ، وحين صفى لك مُلكنا وسلطاننا !
فمهلاً مهلاً ! أنسيت قول الله ـ عزّ وجل ـ : « وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ » (4) .
أمِن العدل يابن الطُلقاء ؟! تخديرك إماءك وحرائرك ، وسوقك بنات رسول الله سبايا ؟
---------------------------
(1) سورة الروم ، الآية 10.
(2) وفي نسخة : كما تُساق الإماء.
(3) وفي نسخة : جَذِلاً مَسروراً.
(4) سورة آل عمران ، الآية 178.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 487 _
قد هتكتَ ستورهنّ ، وأبديتَ وجوههنّ ، تحدوا بهنّ الاعداء من بلد إلى بلد ، ويستشرفهنّ أهل المنازل والمناهل (1) ، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد ، والدنيّ والشريف ، ليس معهنّ من رجالهنّ وليّ ، ولا مِن حماتهنّ حميّ.
وكيف تُرتجى مراقبة ابن من لفظ فوه أكباد الأزكياء ؟ ونبت لحمه بدماء الشهداء ؟
وكيف يستبطأ في بُغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشَنَف والشَنآن ، والإحَن والأضغان.
ثمّ تقول ـ غير مُتأثّم ولا مستعظِم ـ :
« لأهَـلّوا واستهلّوا iiفرحاً ثم قالوا : يا يزيد لا تُشَل » |
مُنحنياً على ثنايا أبي عبد الله ، سيد شباب أهل الجنة ، تنكُتُها بمخصَرتِك .
وكيف لا تقول ذلك ؟ وقد نكأتَ القرحة ، واستأصلتَ الشأفة ، بإراقتك دماء ذريّة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب.
---------------------------
(1) وفي نسخة : اهل المناهل والمناقل.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 488 _
وتَهتف بأشياخك ، زعمت أنّك تناديهم ، فلتردَنّ ـ وشيكاً ـ موردهم ، ولتودّنّ أنّك شُلِلتَ وبَكِمتَ (1) ، ولم تكن قلتَ ما قلتَ ، وفعلتَ ما فعلت.
اللهم خذ بحقّنا ، وانتقم ممّن ظلمنا ، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا ، وقتل حُماتنا .
فوالله ما فَرَيتَ إلا جلدك ، ولا حززت إلا لحمك (2) ، ولتردنّ على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بما تحمّلت من سفك دماء ذريّته ، وانتهكتَ من حرمته في عترته ولُحمته ، وحيث يجمع الله شملهم ، ويلمّ شعثهم ، ويأخذ بحقّهم .
« وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ » (3)
وحسبُك بالله حاكماً ، وبمحمد خصيماً ، وبجبرئيل ظهيراً.
---------------------------
(1) بَكمتَ : عجَزتَ عن الكلام خِلقةً ، المعجم الوسيط.
(2) وفي نسخة : جَزَرتَ.
(3) سورة آل عمران ، الآية 169.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 489 _
وسيعلم مَن سوّل لك (1) ومكّنك من رقاب المسلمين ، بئس للظالمين بدلاً ، وأيّكم شرّ مكاناً (2) ، وأضعف جنداً.
ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك ، فإنّي لأستصغرُ قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكثر توبيخك ، لكن العيون عبرى ، والصدور حرّى .
ألا : فالعجب كل العجب ! لقتل حزب الله النجباء ، بحزب الشيطان الطلقاء (3) ، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا ، والأفواه تتحلّب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تتناهبها العواسل ، وتعفوها أمّهات الفراعل.
ولئن اتّخذتنا مغنماً لتجدنّا ـ وشيكاً ـ مَغرماً ، حين لا تجدُ إلا ما قدّمت يداك ، وما ربّك بظلام للعبيد .
فإلى الله المشتكى ، وعليه المعوّل.
---------------------------
(1) سوّلَ لك : زيّنَ لك عملك.
(2) وفي نسخة : وأيّنا شرٌ مكانا.
(3) لعلّ الأصح : على أيدي حزب الشيطان.
المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 490 _
فكِد كيدك ، واسعَ سعيك ، وناصِب جُهدك (1) ، فوالله لا تَمحُونّ ذكرنا ، ولا تُميت وحينا ، ولا تُدرك أمدنا ، ولا تَرحضُ عنك عارها.
وهل رأيك إلا فَنَد ، وأيامك إلا عَدَد ، وجمعك إلا بَدَد ؟ يوم ينادي المنادي : ألا : لعنة الله على الظالمين.
فالحمد لله الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل الله أن يُكمِلَ لهم الثواب ، ويوجب لهم المزيد ، ويُحسن علينا الخلافة ، إنّه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ».
فقال يزيد :
« يا صيحة تُحمدُ من iiصوائح ما أهون الموت على النوائح » (2) |
---------------------------
(1) وفي نسخة : واجهَد جهدك.
(2) كتاب « الملهوف » للسيد ابن طاووس ، ص 215 ـ 218.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 491 _
الفصل السابع عشر
آل رسول الله في خَرِبَة الشام
حوارٌ بين مِنهال والإمام زين العابدين ( عليه السلام )
مجيء زوجة يزيد إلى خربة الشام
آل رسول الله يُقيمون المآتم على الإمام الحسين ( عليه السلام ) في الشام
بين الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ويزيد بن معاوية
تَرحيل عائلة آل الرسول مِن دمشق إلى المدينة المنوّرة
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 493 _
آل رسول الله في خَرِبة الشام
ماذا حَدَثَ بعد مجلس الطاغية يزيد ؟
لقد جاء في التاريخ : أنّ يزيد أمر بهم إلى منزلٍ لا يُكنّهم من حرٍ ولا برد ، فأقاموا فيه حتّى تقشّرت وجوههم من حرارة الشمس وأشعّتها المباشرة ، وكانوا مدّة إقامتهم في ذلك المكان ينوحون على الإمام الحسين ( عليه السلام ) (1) .
---------------------------
(1) كتاب « الملهوف » لابن طاووس ، ص 219.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 495 _
حوارٌ بين منهال
والإمام زين العابدين عليه السلام
وفي كتاب ( الأنوار النعمانيّة ) للجزائري : عن منهال بن عمرو الدمشقي قال :
كنتُ أتمشّى في أسواق دمشق ، وإذا أنا بعليّ بن الحسين يمشي ويتوكّأ على عصا في يده ، ورِجلاه كأنّهما قصبتان ! والدم يجري من ساقَيه ! والصُفرة قد غَلَبت عليه !
قال منهال : فخَنقَتني العبرة ، فاعترضتُه (1) وقلت له : كيف أصبحت يابن رسول الله ؟!
قال : يا منهال ! وكيف يُصبِح من كان أسيراً ليزيد بن معاوية ؟!
يا منهال ! والله ، منذ قُتِلَ أبي ، نساؤنا ما شبعن بطونهن !
---------------------------
(1) اعترضته : أقبلت نحوه وواجهته.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 496 _
ولا كَسَونَ رؤوسهن ! صائمات النهار ، ونائحات الليل.
يا منهال ! أصبحنا مثل بني إسرائيل في آل فرعون ! يُذبّحون أبناءهم ، ويستحيون نساءهم ، فالحاكم بيننا وبينهم الله ، يوم فصل القضاء.
أصبَحَت العرب تَفتخر على العجم بأنّ محمداً منهم ، وتفتخر قريش على العرب بأنّ محمداً منها ، وإنّا ـ عترة محمد ـ أصبحنا مقتولين مذبوحين ، مأسورين ، مشرّدين ، شاسعين عن الأمصار ، كأنّنا أولاد تُركٍ أو كابل ، هذا صباحنا أهل البيت.
ثمّ قال : يا منهال ! الحبس الذي نحن فيه ليس له سقف ، والشمس تصهَرنا ، فأفرّ منه سُوَيعةً لضعف بدني ، وأرجع إلى عمّاتي وأخواتي ، خشيةً على النساء.
قال منهال : فبينما أنا أُخاطبه وهو يخاطبني وإذا أنا بإمرأةٍ قد خرجت من الحبس وهي تُناديه ، فتركني ورجع إليها ، فسألتُ عنها وإذا هي عمّته زينب بنت علي تدعوه : إلى أينَ تمضي يا قرّة عيني ؟
فرجع معها ، وتركني ، ولم أزل أذكره وابكي (1) .
---------------------------
(1) كتاب « معالي السبطين » ج 2 ص 158 ، الفصل الرابع عشر ، المجلس الثاني عشر ، وذكر أيضاً في كتاب « الأنوار النُعمانيّة » ، للجزائري ج 3 ص 252 مع بعض الفروق بين النسختين.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 497 _
مجيء زوجة يزيد إلى خَرِبة الشام
لقد جاء في التاريخ أنّ إمرأةً كانت تُسمّى « هند بنت عبد الله بن عامر » لمّا قُتل أبوها جاءت إلى دار الإمام أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) وبَقيَت هناك مدّة من الزمن تَخدم في دار الإمام ، وكانت على قدر من الجمال ، ولمّا قتل الإمام أمير المؤمنين إنتقلت إلى دار الإمام الحسن المجتبى ( عليه السلام ) وكانت تخدم هناك في دار الإمام أيضاً ، فسمع عنها معاوية فطلبها وزوّجها لإبنه يزيد ، فبَقيت في دار يزيد ، وهي تَستَخبِر ـ دائماً عن الإمام الحسن والإمام الحسين ( عليهما السلام ) وتُحاول أن تَسمَع أخبارهم من القادمين من المدينة المنوّرة.
ولمّا قتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) لم تَعلَم هند
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 498 _
بالخبر !!
ولمّا جاؤوا بعائلة الإمام الحسين إلى الشام ، دخلت امرأة على هند وقالت لها : لقد أقبَلوا بسبايا ولا أعلَم من أين هم ؟
فلعلّك تمضين إليهنّ وتتفرّجين عليهن ؟!
فقامت هند ولَبِست أفخر ثيابها وتخمّرت بخِمارها ، ولبِست إزارها ـ أي : عباءتها ـ ، وأمرت خادمةً لها أن تُرافقها وتحمل معها الكرسي حتى لا تجلس على التراب.
ويقول البعض : أنّ يزيد صادفها قبل الخروج من القصر فاستأذنت منه ، فأذِن لها لكنّه تغيّر لونه وبَقي مذهولاً حيث إنّه خشي من مضاعفات ورود فِعل هذه الزيارة ، فهو يعلم أنّ زوجته الحظيّة عنده ... كانت ـ مدّة سنين ـ خادمة في دار أهل البيت ، وهي تحبّهم حبّاً كثيراً ، لأنّها قضت سنوات من حياتها خادمة لهم ، ولم ترَ منهم إلا العطف والإحترام ، والإنسانية والأخلاق العالية ، فماذا يصنع يزيد ؟
هل يُوافق على الزيارة أم يَرفُض ذلك ؟
ولكن يبدو أنّ شخصية هند كانت قويّة ، فقد فَرضَت نفسها على يزيد ، فأذن لها إلا أنّه طلب منها أن تكون الزيارة بعد المغرب ، حينما يُخيّم الظلام على الأرض ،
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 499 _
فوافقت على ذلك.
وعند المساء أقبلت هند ومعها الخدم يحملون معهم القناديل لإضاءة الطريق.
فلمّا رأتها السيدة زينب ( عليها السلام ) مُقبلة هَمَسَت في أذن أختها أم كلثوم وقالت : « أُخيّه أتعرفين هذه الجارية ؟
فقالت : لا والله.
فقالت زينب : هذه خادمتنا هند بنت عبد الله !!
فسكتت أمّ كلثوم ونكّست رأسها !
وكذلك السيدة زينب نكّست رأسها.
فأقبلت هند وجلست على الكرسي قريباً من السيدة زينب ـ باعتبارها زعيمة القافلة ـ ، وقالت : أخيّة أراكِ طأطأتِ رأسكِ ؟
فسكتت زينب ولم تردّ جواباً !
ثم قالت هند : أخيّه من أي البلاد أنتم !
فقالت السيدة زينب : من بلاد المدينة !
فلمّا سمعت هند بذكر المدينة نزلت عن الكرسي وقالت : على ساكنها أفضل السلام.
ثم التفتت إليها السيدة زينب وقالت : أراكِ نزلتِ عن الكرسي ؟
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 500 _
قالت هند : إجلالاً لمن سكن في أرض المدينة !
ثم قالت هند : أخيّه أريد أن أسألكِ عن بيت في المدينة ؟
فقالت السيدة زينب : إسألي عمّا بدا لكِ.
قالت : أسألكِ عن دار علي بن أبي طالب ؟
قالت لها السيدة زينب : ومِن أينَ لكِ المعرفة بدار علي ؟
فبَكت هند وقالت : إنّي كنت خادمة عندهم.
قالت لها السيدة زينب : وعن أيّما تسألين ؟
قالت : أسألك عن الحسين واخوته وأولاده ، وعن بقيّة أولاد علي ، وأسألك عن سيدتي زينب ! وعن أختها أم كلثوم وعن بقيّة مخدّرات فاطمة الزهراء ؟
فبَكت ـ عند ذلك ـ زينب بكاءً شديداً ، وقالت لها يا هند : أمّا إن سألتِ عن دار علي فقد خَلّفناها تنعى أهلها !
وأما إن سألت عن الحسين فهذا رأسه بين يدي يزيد !!
وأمّا إن سألت عن العباس وعن بقية أولاد علي ( عليه السلام ) فقد خلّفناهم على الأرض ... مجزّرين كالأضاحي بلا رؤوس !
|