ومثله قول الآخر في مليحة قامرت مليحا ( من مجزو الرجز ) :
وقول القائل من أهل العصر (2) ـ كان الله له ـ في مخلّعته المشهورة :
(1) استعمل الشاعر لفظة قمر في معنيين ، أي هو النيّر ، أو غلب في القمار ( مجد الدين ). (2) وهو نفس المصنّف ـ طاب ثراه ـ ( مجد الدين ). (3) راجع ديوانه المطبوع ص 77 ـ 78. وقاية الاذهان
![]()
أو لكون اللفظ بعضا لكلمة أخرى كما في صنعة الجمع بين الاكتفاء (1) والتورية ، إلى غير ذلك من الأسباب التي تفنّن فيها المتأخرون من أهل البديع ، فأحسنوا فيها كلّ الإحسان. ومن أغرب ما أذكره الآن ، قول أحدهم : « قلب بهرام ما رهب » فقد استعمل الكلمة الأولى في معنيين ، ثم جمع في الكلمتين الأخريين بين استعمال اللفظ في نفسه وفي معناه ـ على ما يقولون ـ فصار لمجموع الكلام معنيان مختلفان. ولعمري لقد أحسن فيه ، وأرتج (2) باب التأويل بالمسمّى على أصحابه ، ومثله قول القائل : « وكل ساق قلبه قاس ». وقول القائل (3) من أهل العصر ـ كان الله له ـ : ( من مخلّع البسيط )
-------------------- (1) الاكتفاء في الصناعة أن يأتي [ الشاعر ] ببيت قافيته بعض الكلام أو الكلمة ، وشاهده مع التورية قول ابن مكانس :
(2) أرتج : أغلق ، الصحاح 1 : 317 ، القاموس المحيط 1 : 190 ، مجمع البحرين 1 : 302 ( ترج ). (3) معطوف على قول القائل ، أي : ومثله قول القائل من أهل العصر ... والمراد من تلك العبارة [ قول القائل من أهل العصر ] في أي موضع وقعت من الكتاب ، نفس المصنّف ( مجد الدين ). (4) راجع ديوانه المطبوع : 107 ـ 108. وقاية الاذهانأما الأول (1) ، فلأنه لا يتأتّى إلاّ فيما تعلّق حكم واحد بالجميع أو أمكن تعلّق الأحكام المتعدّدة بالمجموع دون ما إذا كان لكلّ معنى لا يشاركه الآخر فيه كلفظ العين في مديح النبويّ السابق (2) ، وما يصنع المرتمي في الدجى بالماء والذهب ، ومبتغي الدين بالشمس والماء ، وهكذا هذا. على أنّ الوجدان الصحيح يحكم بأنّ المستعمل لم يلاحظ الهيئة المجموعية في استعماله قطّ ، ولم يتعلّق له غرض به وأنّ مركّبا من الشمس والماء والباصرة والذهب لمعجون طريف ما اهتدى إليه جالينوس (3) طول عمره ، ولم يذكره طبيب في قرابادينة (4). وأما الثاني (5) ، فإن أرادوا أنّ المستعمل لا بدّ له من ملاحظة مفهوم المسمّى حين الاستعمال أوّلا فهذا ممّا لا ننكره ، ولكن لا يلزم منه اتحاد المستعمل فيه ، كما أنّ ملاحظة الجزئي في الوضع الخاصّ والموضوع له العام لا توجب اتّحاد الموضوع له ، وملاحظة مفهوم العام في العام الأفرادي لا يلزم منه اتّحاد الحكم ، -------------------- (1) أي على نحو شمول الكلّ لأجزائه ( مجد الدين ). (2) تقدم في صفحة 87. (3) جالينوس طبيب حكيم يوناني معروف ( مجد الدين ). (4) قرابادين معرّب لفظ يوناني ، والمراد : معجم الأدوية وخواصّها ( مجد الدين ). (5) أي على نحو شمول الكلّي لجزئيّاته ( مجد الدين ). وقاية الاذهانومن هذا يظهر الجواب عمّا جعله بعض الأساتيذ عمدة مستنده في المنع وهي امتناع توجّه النّفس إلى شيئين في زمان واحد ، كما أنّ المبصرات الكثيرة لا تبصر بنظرة واحدة. وقد عرفت أنّ جميع ذلك لو سلّم فهو لا ينافي تعدّد المستعمل فيه ، كما أنّ ملاحظة الجزئي حال الوضع لا ينافي تعدّد الموضوع له. وإن أرادوا به استعمال اللفظ في المسمّى ، فيرد عليه : أولا : أنّ الألفاظ إنما وضعت للمعاني بلحاظ ذواتها لا بلحاظ عناوين خارجة عنها كالمسمّى وغيره. وأيضا الاستعمال في المسمّى لو سلّمنا صحّته فإنما يحسن فيما إذا كان الحكم متعلّقا بهذا العنوان ، كقولك : عبد الله خير من عبد المسيح ، أي المسمّى بعبد الله خير من المسمّى بعبد المسيح لصدق التسمية في الأول ، وكذبها في الثاني ، وهذا نادر في موارد الاستعمال. هذا ، على أنه قد مرّت عليك من الشواهد مالا يمكن فيه هذا التأويل ، كما نبّهناك عليه ، فراجع. ثم إنّ للمانعين تشبّثات أخرى لا بأس بالإشارة إليها وإلى ما يرد عليها. منها : ما ذكره العمّ ـ طاب ثراه ـ في الفصول ، وهو : ( أن الّذي ثبت [ من الوضع ] (1) جواز استعمال اللفظ في معنى واحد ، وأما استعماله فيما زاد عليه فلم -------------------- (1) الزيادة من المصدر. وقاية الاذهانولا أدري كيف لا يسلّم إطلاق الوضع ، مع أنّ اعتبار قيد الوحدة في المعنى ممّا يقطع بخلافه كما يعترف به ، وكون الموضوع له في حال الوحدة لا يقضي إلاّ بعدم كون الآخر موضوعا له بهذا الوضع ، ويتبعه عدم صحّة الاستعمال به ، ولا يوجب ذلك عدم وضع آخر وإلاّ لامتنع الاشتراك ، ولا عدم صحة الاستعمال بملاحظة الوضع الآخر. وما أبعد بين ما أوضحناه لك من حسن هذا النحو من الاستعمال ، وكونه مبنى كثير من نكات صناعة البديع ، وبين ما يدّعيه من عدم مساعدة الطبع عليه. ثمّ إنّ توقيفيّة الأوضاع لا يوجب توقيفيّة الاستعمال ، وإني لأعجب من استدلال مثله رحمه الله بمثل هذا في مسألتنا هذه ، وهي لغويّة محضة ، لا شرعية يتأتّى فيها لزوم الاحتياط. ومنها : ما ذكره أيضا من عدم تحقّق مثل هذا الاستعمال في لغة العرب قديما وحديثا مع مسيس الحاجة إليه ، وعدم الوجدان بعد الاستقراء يدلّ على عدم الوجود ، وهو يورث ظنّا قويّا بعدم الجواز إن لم يوجب العلم به ، والظنّ حجّة في مباحث الألفاظ (2) انتهى. وقد عرفت ثبوت الاستعمال على هذا النحو كثيرا ، وفي دعوى عدم الجواز ما تقدّم في سابقه ، وفي المراد من حجيّة الظن في هذا المورد وأمثاله خفاء وغموض. -------------------- (1) الفصول الغرويّة : 55. (2) الفصول الغروية : 54 ـ 55. وقاية الاذهانتتمة من الأقوال : جواز الاستعمال على هذا النحو في التثنية والجمع دون المفرد نظرا إلى أنّ اللفظ فيهما في قوّة تكرير المفرد ، ولا ريب في جواز الاستعمال مع التكرار ، وأيضا لا ريب في جواز ذلك في الأعلام ، وظاهر أنّ الاتفاق هناك في مجرّد اللفظ. وأجاب عنه في الفصول : ( بأنّا لا نسلّم أنهما في قوة تكرير المفرد حتى في جواز إرادة المعاني المختلفة منهما ، وسبكهما من الأعلام مؤوّل بالمسمّى مجازا ) إلى آخر كلامه. وقال في أثنائه : ( وممّا يدل على التأويل المذكور في الأعلام دخول لام التعريف عليها حينئذ مع امتناع دخولها على مفردها ، ووصفها معها بالمعرّف وعند التجريد بالمنكر ) (1). أقول : اللفظ مهما استعمل لا يدلّ إلاّ على إرادة طبيعة المعنى فقط من غير لحاظ التعدّد فيه ولا عدم التعدّد ، وحينئذ فلا بدّ في استفادة أحدهما إلى دالّ آخر ، وأداة التثنية والجمع حرفان موضوعان لبيان التعدّد من غير لحاظ أنّ المعنيين هل هما بوضع واحد أو بأوضاع شتّى ، فكما أنّ استفادة التعدّد من اللفظ محتاجة إلى أحد الأداتين كذلك تحتاج في كونهما بوضع واحد أو بوضعين إلى دالّ آخر ، فإذا قلت : رأيت عينين لم يدلّ الاسم إلاّ على تعلّق الرؤية بطبيعة العين -------------------- (1) الفصول الغرويّة : 56. وقاية الاذهان
وقول بلديّة (5) السيّد حيدر رحمه الله في رثاء الحسين عليه السلام :
-------------------- (1) الخرير : صوت الماء ، ومنه عين خرّارة ، الصحاح 2 : 643 ( خرر ). (2) مقامات الحريري : 80. (3) التوشيع في اصطلاح البديعيّين أن يأتي الشاعر باسم مثنّى ، ثم يأتي باسمين مفردين يفسران الأوّل ( منه قدّس سرّه ). (4) ديوان صفي الدين الحلّي : 723. (5) أي من بلده وموطنه ، لأنهما من أهل الحلّة من بلاد العراق ( مجد الدين ). (6) ديوان السيد حيدر الحلّي 1 : 80. وقاية الاذهانوأما استدلاله على التأويل المذكور بدخول اللام عليها حينئذ فليس ذلك لتأويل المسمّى ، بل الوجه فيه أنّ التعدّد ينافي المعرفة المحضة فيدخل اللام عليها كما يضاف في مثل هذا الحال ، كقوله :
إذا عرفت ذلك ، نقول : هذا القائل إن أراد هذا المعنى فهو حقّ لا ينبغي أن يقابل إلاّ بالقبول ، إذ لا بدّ لبيان التعدّد من دالّ عليه من الأداتين أو غيرهما ممّا يفيد فائدتهما. وإن أراد أنّهما يدلاّن على أحد المعنيين ومدخولهما على المعنى الآخر فهو واضح الفساد إذ هما حرفان ، وأين الحرف من إفادة معنى الاسم. هذا ، على أنّ كلاّ من الحرف ومدخوله إن دلّ على أحدهما المعيّن ، والآخر على الآخر المعيّن فهو ترجيح بلا مرجّح ، وإن دلّ كلّ على أحدهما على وجه الترديد فهو باطل كما بيّنه العم (2) رحمه الله في ردّ صاحب المفتاح (3) ، فلاحظ كلامه إن شئت ، وتأمّل فيه. -------------------- (1) في الفصول الغروية [ : 56 ] ( مجد الدين ). (2) الفصول [ : 53 ] ( مجد الدين ). (3) وهو أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر محمد بن علي السكاكي المتوفى سنة 626 ه صاحب مفتاح العلوم. وقاية الاذهانالتورية العرفيّة مما يشهد بها الوجدان وقد استعملتها العرب ، ونطق بها مستفيض الأخبار ، ولكن تطبيقها على القواعد العلمية لا يخلو عن صعوبة إذ مبناها ـ كما عرفت ـ على أن يفهم السامع معنى يريد غيره ، ولا نتصوّر من الإرادة في المقام إلاّ ما يريد إفهامه ، فإن كان مطابقا للواقع كان صدقا وإلاّ كان كذبا ، ولا واسطة بينهما حتى يصحّ بها تثليث القسمين ، أو يجعل مرتبة من الكذب هي أخفّ قبحا من غيرها ، أو مرتبة من الصدق لا تجوز إلاّ مع الضرورة. وبالجملة ، الصدق والكذب قسمان من الاستعمال ، والاستعمال ـ كما عرفت ـ لا معنى له إلاّ الإفهام ، فإذا قصد إفهام غير الواقع فقد تحقّق موضوع الكذب ، ولا يبقى محلّ لإرادة غير المستعمل فيه ، ولكنها ـ كما عرفت ـ أمر وجداني ، فهل المراد بها إخطار المعنى الآخر ، أو عقد القلب عليه ، أو الكلام له حقيقة أخرى في النّفس (1) واللفظ كاشف عنه كما تقوله الأشاعرة ؟ وجوه لا تطمئن النّفس بشيء منها. وقد نقل لي جمع من أصحابنا عن أستاذ والدي صاحب البدائع ـ طاب ثراهما ـ أنه كان يحكم بكونها كذبا ، ويقول : إنّها تبتني على الكلام النفسيّ الباطل عند الشيعة ، ولكنها ـ كما عرفت ـ أمر وجداني ، فالشأن في معرفة حقيقتها ، لا المكابرة في إنكارها ، وبطلان الكلام النفسيّ مطلقا غير معلوم ، وللكلام عليه محلّ آخر ، وهذا أحد مشكلات العلم التي لم أقدر على حلّها ، ولعلّ -------------------- (1) وهي الكلام النفسيّ الّذي قالت به الأشاعرة ، وقيل في ذلك :
وقاية الاذهان القول في مباحث الحقيقة والمجاز لا يخفى أنّ من أهمّ ما يترتب على ما حقّقناه في مسألتي الوضع والاستعمال معرفة حقيقة الّذي يسمّى بالمجاز ، ولنقدّم قبل بيانه خلاصة ما وصل إلينا من كلام محقّقي علماء الأصول والبيان ، ونقول : قالوا : إنّ اللفظ إن استعمل فيما وضع له فهو حقيقة ، وإن استعمل في غيره بعلاقة معتبرة مع قرينة معاندة فهو مجاز ، وإلاّ فهو غلط. والمحققون من علماء البيان زادوا قسما آخر ، وهو الكناية ، وعرّفوها بلفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادته ، فأخرجوها عن حدّ الحقيقة بكونها مستعملة في غير ما وضع له ، وعن المجاز لاعتبارهم فيه القرينة المعاندة ، وجعلها بعضهم من أقسام الحقيقة. ثمّ اختلفوا في وضع المجازات على أقوال ، فالجمهور ـ كما في الفصول ـ ( على أنّها موضوعة بالوضع التأويلي التعييني النوعيّ ، وأنّ صحته متوقفة على نقل النوع ، وخالف في ذلك شرذمة ، فاعتبروا نقل الآحاد ، ويلزمهم أن تكون المجازات التي أحدثها فصحاء المتأخّرين وغيرهم غلطا ، وهو غلط ). ( وربّما فصّل بعض الأفاضل بين الألفاظ التي ضبطوا معانيها المجازية كالحروف وصيغ الأمر والنهي وبين غيرها ، فاقتصر في الأول على القدر المنقول دون الثاني ) (1) انتهى. وربّما يقال بأنه لا يحتاج المجاز إلى وضع آخر ، بل هو موضوع بنفس وضع اللفظ للمعنى الحقيقي ، فإذا وضع له اللفظ فقد وضع لجميع ما يناسبه ، وتوجد -------------------- (1) الفصول الغرويّة : 24. وقاية الاذهان وقد يقال بأنّ المجازات لم تنلها يد الوضع لا أصالة ولا تبعا ، بل جواز إطلاق اللفظ على ما يناسبه طبعيّ ، وهذا نظير ما عن بعضهم في مسألة استعمال اللفظ في نفسه. ويظهر هذا الوجه من الفصول ، مع زيادة قوله : ( إنه مبني على المسامحة والتأويل في الوضع الأصلي ) (1) وستعرف البحث في معنى التأويل الواقع في كلامه ، وفي كلام المشهور. ولبعض (2) المؤسّسين في كتابه المسمّى بـ ( تشريح الأصول ) كلام مسهب في هذا المقام ، ولا يخلو بظاهره عن اضطراب وتهافت. وحاصل ما كان يذكره في مجلس الدرس : أنه رجوع عن عموم التعهد بالوضع الأول في استعمال خاص ، وأنه لا فرق بين النقل والمجاز إلاّ أنّ الأول عدول كلّي عن الوضع الأول ، والثاني في خصوص استعمال خاص لا في سائر الاستعمالات. ومنه يعلم أنّ وضع المجازات شخصي يقع بوقوع المجاز ، وبيانه إنّما هو بقرينة واحدة جامعة للمعانديّة والمعيّنيّة ، أو بقرينتين : إحداهما معاندة للحقيقة ، والأخرى معيّنة لإحدى المجازات. وأثر التكلّف ظاهر على هذه الوجوه ، بل كثير منها ممّا يقطع بفساده ، فلو حلف الإنسان بغموس (3) الإيمان على أنّ واضع اللغة لم يكن يعرف هذه العلائق حتى يضع لكل نوع منها وضعا جديدا لم يحنث ، ولم تلزمه الكفارة ، بل ولو حلف -------------------- (1) الفصول الغرويّة : 25. (2) هو الشيخ على النهاوندي مؤسّس أساس التعهّد في الوضع ( مجد الدين ). (3) هي اليمين الكاذبة الفاجرة ، لسان العرب 6 : 157 ( غمس ). وقاية الاذهان وما ذهب إليه صاحب التشريح فيبعده ، بل يشهد بفساده القطع بأنّ استعمال المجاز ليس بتعهد خاص شخصي ، بل هو أمر مرتكز في ذهن السامع قبل سماعه هذا اللفظ ، قد استعمله آباؤه من قبل كذلك. وأمتن هذه الطرق ما تقدّم عن صاحب الفصول ، ولكن يتّجه عليه أنّ دلالة الألفاظ ليست بذاتية ، بل هي جعلية ، وليس الجعل إلاّ الوضع ، فكيف يعقل أن تدلّ على معنى بدونه ، والقرينة من شأنها نفي المعنى الموضوع له لا إثبات الوضع لغيره إلاّ أن يبتنى قوله : ( مبني على المسامحة والتأويل ) على المسامحة والتأويل ، ويرجع إلى ما سنبيّنه لك إن شاء الله. ولصعوبة إثبات الوضع للمجازات التزم جماعة بأنّ دلالتها ليست وضعيّة ، فوقعوا في تكلّفات هي أشدّ وأبين فسادا ممّا وقع فيها إخوانهم من قبل ، كما لا يخفى على من راجع هداية ـ الجدّ ـ العلاّمة ، وغيره من الكتب المبسوطة. ولمعرفة حقيقة الحال في المجاز مسلك آخر ـ يطابقه الوجدان ، ويعضده البرهان ، ولا يعرض على ذهن مستقيم إلاّ قبله ، ولا على طبع سقيم إلاّ رفضه (1) ـ وهو أنّ تلك الألفاظ مستعملة في معانيها الأصليّة ، ومستعملها لم يحدث معنى جديدا ، ولم يرجع عن تعهّده الأول ، بل أراد بها معانيها الأوّلية بالإرادة الاستعمالية على نحو سائر استعمالاته من غير فرق بينهما في مرحلتي الوضع والاستعمال أصلا. بيانه : أنّ الطبع السليم يشهد بأنّ القائل : ( إني قاتلت اليوم أسدا هصورا ) (2) و ( قابلت أمس قمرا منيرا ) وهو لم يقاتل إلاّ رجلا شجاعا مشيحا ، ولم -------------------- (1) الرفض : الطرح ( مجد الدين ). (2) أسد هصور : الأسد الشديد الّذي يفترس ويكسر ، الصحاح 2 : 855 ، لسان العرب 5 : 265 ( هصر ). وقاية الاذهان وقد عرفت سابقا أنه لا معنى للاستعمال إلاّ ما أريد إفهامه للسامع وإلقاؤه عليه ، سواء كان صدقا أو كذبا ، جدّاً أو هزلا ، بأيّ داع سنح وغرض اتّفق. ولو لا إرادة معاني هذه الألفاظ لما كان موقع للتعجب عن محبوبته إذا ظلّلته عن الشمس (1) ، أو زارته آخر الشهر (2) ، ولا لليأس من رجوع محبوبه (3) ، ولا لتكذيب الناس إذا رجع (4) ، ولا للمفاخرة مع قمر السماء بأنّ قمره معدّل بلا تعديل ، وأنه لا ممثّل له ولا مثيل (5) ، ولا للتعجب عن عدم ذهاب الدجى مع طلوع -------------------- (1)
(2) من أبيات صفي الدين الحلّي ، انظر ديوانه : 455. (3) إنّ الخمسة المتحيرة من السيّارات السبعة لها رجوع إقامة واستقامة ، والقمر لا رجوع له ولا إقامة ، فقال : إنّ رجوع بدري دليل على كذب أهل الهيئة حيث قالوا : لا رجوع للقمر ( مجد الدين ). (4) للمصنف طاب ثراه ( مجد الدين ) وراجع ديوانه : 86 ، (5) إنّ أهل الهيئة والفلك احتاجوا في ضبط حركة القمر إلى ثلاثة تعديلات ، وأثبتوا له أفلاكا كالحامل والجوزهر (3) ، فقال طاب ثراه : إنّ قمري خير من قمر السماء ، لأنّه معدّل من غير احتياج إلى تعديلات ثلاثة ولا أفلاك متعدّدة ( مجد الدين ). وقاية الاذهان ولهذا إذا سمّي الشجاع أسدا سمّي صوته زئيرا ، وولده شبلا ، ومحلّه خيسا ، أو الجميلة ظبية سمّي صوتها بغاما ، وولدها خشفا ، ودارها كناسا ، بل لو خالف هذا النظام فقال : ( رأيت أسدا يتبعه طفله ) أو ( ظبية تحمل طفلها ) لكان أدون في الفصاحة بمراتب من قوله : ( رأيت أسدا يتبعه شبله ) أو ( ظبية تحمل خشفها ) بل ربّما عدّ من مستبرد التعبير ، وسمج الكلام إلاّ أن تجبره جهات أخرى ، ولا وجه لجميع ذلك إلاّ أنّ المقصود منها المعاني الأصلية ، وهذا ظاهر لدى الخبير بحقائق فنّ البيان وصناعة البديع ، وكتابنا هذا موضوع في فن أصول الفقه لا في فنون البلاغة كي يتّسع لنا المجال في سرد الشواهد والأمثال ، ولكني لم أملك عنان القلم وما عليه جناح حتى أثبت قول ابن معتوق في محبوبته وقد روّعها الصباح :
الحامل والجوزهر من مصطلحات أهل الهيئة. انظر : مفاتيح العلوم : 220 ، وكشّاف اصطلاحات الفنون 1 : 356 و 407. -------------------- (1) لقائل :
وقاية الاذهان ثم إذا قرع سمعك قول الوأواء (1) الدمشقي في محبوبته لما جرت دموعها على خدّيها ، وعضّت أناملها حذر الفراق :
فإن كان الثاني وكان هذا حكم إنصافك ، فقد أخطأت أنا ولم يحسن الوأواء ، وإن كان الأول فقد أحسن نظما وأحسنت فهما ، وأنت ـ أعزك الله ـ إذا أعطيت التأمل حقّه فيما نبّهناك عليه في هذا المثال ، وجعلته أنموذجا لنظائره من صنوف الاستعمال علمت علما لا يشوبه شك ، ولا يحوم حول حماه ريب ، أنّ المجاز ليس وضع اللفظ محل اللفظ ، بل هو وضع المعنى محلّ المعنى ، وهذا هو الّذي يورثه الملاحة ، ويوجب لها المبالغة وإخوانها من نكات الصناعة ، وإلاّ فالألفاظ متكافئة غالبا ، ولفظ الخدّ ليس بغريب ولا بثقيل على اللسان وهو -------------------- (1) الوأواء ، بفتح الأول ، وسكون الثاني ، وفتح الثالث ، وسكون الرابع ، شاعر معروف من أهل دمشق ( مجد الدين ). وقاية الاذهان فصل وليت شعري ما ذا يقول القائل بأنّ اللفظ مستعمل في غير معناه في مثل قوله : هو ملك بل ملك ، وفلان شجاع بل أسد ؟ وكيف يمكن أن يكون المراد من الملك ـ بالفتح ـ والأسد ، الملك ـ بالكسر ـ والشجاع ؟ وقد ذكرهما أوّلا وأضرب عنهما ، وما ذا يقول في الاستعمالات التي يصرّح فيها بنفي المعنى الحقيقي ، كقوله تعالى : ( ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ) (1) على أظهر الوجهين فيه ، وكقولك : ليس هذا بوجه بل هو بدر ، وليس هذه كف بل هي بحر ؟ وما ذا يقول في مثل قولهم : يا أخا البدر ، ويا أخت الشمس ونحوهما ؟ كقوله :
وفي مثل قوله ـ من الوافر ـ :
(1) يوسف : 31. (2) أي : أربعة عشر [ على حساب الجمل ] وجه المشابهة : فلك أربع عشرة سنة ، وللقمر أربع عشرة ليلة ( مجد الدين ). (3) أي : يأباه السمع ولا يقبله الطبع ( مجد الدين ). وقاية الاذهان
فكأنّ القوم قصرت أنظارهم على مثل : أسد يرمي. ونحوه ، وغفلوا عن هذه الأمثلة وأمثالها (1). فصل ولعلّك تقول : إنّ المجاز ـ على ما ذكرت ـ كذب ، وتغفل من الفرق بين الإرادة الجدّيّة والاستعمالية. وبيانه : أنّ الكذب الّذي هو قبيح عقلا ، ومحظور شرعا هو الّذي يكون الغرض منه إلقاء السامع في خلاف الواقع ، وإغراءه بالجهل ، وتصديقه بمعنى اللفظ ، وتكون إرادته الجدّيّة الواقعيّة مطابقة لإرادته الاستعمالية. وأما في المجاز فليس الغرض من إلقاء المعنى إلى السامع إلاّ مجرّد تصوّره له من غير أن يريد تصديقه واعتقاده به ، ولهذا يأتي بالقرينة التي سمّوها بـ -------------------- (1) لهذا البحث تتمة يلاحظ الملحق بالرسالة ( منه طاب ثراه ). والظاهر أنها سقطت من الملحق فلم نعثر عليه. وقاية الاذهان وكالتجريد فإنك تجرّد من نفسك شخصا تخاطبه ويخاطبك ، وتنقل المفاوضة بينكما ولا واقع لها أصلا ، وإنما يتّضح الحال بالإكثار من الشاهد والمثال ، وبه تخرج عن موضوع الكتاب ، ولا يسعه المجال ، ويغنيك عنه تتبّع ما للبلغاء من المنظوم والمنثور. قال أحد شعراء اليتيمة :
وبالجملة ، من أراد تنزيه جميع كلام الفصحاء من الكذب الاستعمالي فقد -------------------- (1) وكقول الشاعر :
(2) البيتان لأبي الفتح علي بن محمد الكاتب البستي ، راجع يتيمة الدهر 4 : 308. وقاية الاذهان فصل ومما ذكرنا في المجاز يتّضح الحال في الكناية ، ويستغنى به عن تلك التكلّفات والتطويلات المملّة المذكورة في كتب الأصول والبيان ، وأنّ الحال فيها كالحال في المجاز بعينه ، والألفاظ فيها مستعملة في معانيها الحقيقة بالإرادة الاستعمالية ، والغرض الّذي يعبّر عنه بالإرادة الجدية هو الملزوم. ومن الغريب ما ذكروه في الفرق بينها وبين المجاز من لزوم القرينة المعاندة فيه وعدمها فيها مع أن الحال فيهما واحد ، لأنّ السامع إن كان عالما بالغرض الأصلي ، وعدم مطابقته مع الاستعمال فهو يستغني عن القرينة فيهما معا ، وإلاّ فهي لازمة في الكناية لزومها في المجاز بعينه ، فمن قال : ( زيد طويل النجاد ) (2) كناية ، وكان السامع بليدا يزعم أنه يريد الإخبار عن طول النجاد (3) فلا بدّ أن ينصب له قرينة تدلّه على أنّ المراد طول قامته ، وأنه لم يشتمل سيفا طول عمره ، ولم يصاحب عاتقه نجاد قط. ومن هذا يظهر خطأ من جعل الكناية قسيما للحقيقة والمجاز ، وثلّثهما بها ، -------------------- (1) مجن مجونا فهو ماجن : من لا يبالي قولا ولا فعلا ، القاموس المحيط 4 : 270 ، مجمع البحرين 6 : 314 ( مجن ). (2) من ألفاظ المدح عند العرب ، قولهم : فلان طويل النجاد ، أو كثير الرّماد ، كناية عن طول القامة ، وكثرة الضيافة ( مجد الدين ). (3) نجاد : حمائل السيف ، القاموس المحيط 1 : 340 ، الصحاح 2 : 543 ( نجد ). وقاية الاذهان فصل وهذا الّذي قرّرناه في المجاز غير الّذي ذهب إليه السكاكي في الاستعارة من الحقيقة الادّعائية لأنّ ما ذكرناه يعمّ مطلق المجاز مرسلا كان أم استعارة ، والسكاكي يقول بمقالته في خصوص الاستعارة ، ولم يظهر لي إلى الآن وجه للفرق يدعو مثل هذا الأستاذ إلى التفصيل ، فقولك في مريض ـ يئس من برئه الأطبّاء ، وانقطع من شفائه الرجاء ـ : هذا ميت ، كقولك ذلك فيمن لا يرجى نفعه ولا يخشى ضرّه ، وقولك في متاع نفيس ينفق في السوق : هذا ذهب ، كقولك ذلك فيما يشبه الذهب بعينه. وببالي أنّ بملاحظة مجموع كلامه في المفتاح يظهر أنه يعم مذهبه في مطلق المجاز ، وإنما خصّ الاستعارة بالمثال لأنها من أشهر أقسامه وأهمها ، فليراجعه من شاء. ومن البعيد من مثله أن يفرّق بينهما من غير فارق أصلا ، إذ الادّعاء الّذي بنى عليه مذهبه ممكن في جميع أقسام المجاز ، وأيّ فرق في إمكان ادّعاء فرد آخر للميّت والذهب ـ في المثالين المتقدّمين ـ إذا كان بعلاقة الأول ، أو بعلاقة التشبيه. وعمدة الفرق بين المقالتين هي أنّ السكاكي يبني مذهبه على أنّ التصرف في أمر عقلي ، وأنّ المستعير يدّعي أنّ للمشبّه به فردا آخر وهو المستعار له ، ويجعل مقالته غرضا لسهام الانتقاد والاعتراض عليه ، بأن اللفظ موضوع للفرد الواقعي لا الادّعائي فيعود الاستعمال إلى المجاز اللغوي ، وما ذكرناه لا يبنى -------------------- (1) انظر الفصول الغرويّة : 28. وقاية الاذهان وحسبك شاهدا على فساد هذا التكلّف ، وعلى صحة ما قلناه وجدانك عند الاستعمال ، فإنك تريد به مبالغة أنّ هذا الجواد هو ذاك الطائي بعينه. رجع إلى انتقاد مذهب السكاكي. وكيف يكون المراد من الاستعارة ادّعاء فرد آخر من جنس المشبّه به! ؟ وكثيرا مّا ترى في مليح الكلام ترتيب آثار الفرد المتعارف عليها ، كقول من بات محبوبه عنده ، وزعم أنّ الليل فقد بدره ، وبات ينشده : أما دري الليل أنّ البدر في عضدي
وأمثال هذا الاستعمال شائع جدّاً كما تقول في موت عالم : كيف لا تظلم الدنيا وقد فقدت الشمس أو انخسف البدر ، ونحو ذلك. ومن الغريب أنه هدم مبناه ، والتزم بالمجاز اللفظي في نحو ( وإذا المنية أنشبت أظفارها ) (2) وغيره مما يسمّيه البيانيّون الاستعارة بالكناية ، ومن حقها ـ على أصولهم ـ أن تسمّى التشبيه بالكناية لأنّ شرط الاستعارة عندهم أن يطوي ذكر المشبّه بالكليّة ، وهنا عكس الأمر فحذف المشبّه به واكتفي عن أداة التشبيه -------------------- (1) شرح التفتازاني على التلخيص ( المطوّل ) : 363 ، ( والمختصر ) : 2 : 74 ، وحكاه في الفصول الغرويّة : 26. (2) حكاه في الفصول الغرويّة : 27. وقاية الاذهان ولعمري أنّ علماء البيان لم ينصفوا السكاكي في هذا المقام حيث أنكروا عليه هذا الادّعاء ، ثم جعلوه محورا يدور عليه معظم أحكامهم في بحث الاستعارة ، فمنعوها في الأعلام معلّلين ذلك بأنها تقتضي إدخال المشبّه في جنس المشبّه به ، ولا يمكن ذلك في العلم لمنافاته الجنسيّة. وربّما قالوا بمقالته بعينها مع تغيير اللفظ كقولهم : إن الاستعارة يفارق الكذب بأنها مبنية على التأويل بدعوى دخول المشبّه في جنس المشبّه به ، ولا معنى لهذا التأويل إلاّ أن يؤول إلى ذلك. وربّما صرّحوا به بلفظه كقولهم : والشرط في حسن الاستعارة أن لا يشمّ رائحة التشبيه لفظا لأن ذلك يبطل الغرض من الاستعارة أعني ادّعاء دخول المشبّه في جنس المشبّه به إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتتبّع الماهر ، ولا تنس قولهم : إنّ الاستعارة مبنية على تناسي التشبيه ، وتأمّل في معنى التناسي أوّلا ، ثم في السبب الداعي إليه ، إلاّ أن يقال : إنّ المحقّقين منهم لم ينكروا الادّعاء الّذي يدّعيه ، وإنما أنكروا عليه خروجه بذلك عن المجازيّة. فصل ولا نكترث بأن تسمّي ما ذكرناه إنكارا للمجاز أصلا ، ولا نتحاشى عنه بعد ما ذهب إليه الأسفرائيني من المتقدّمين وإمام العربية غير مدافع عنه ولا مختلف فيه أعني الشيخ أبا علي الفارسي (1) ، ولكن ينبغي أن تعلم أنه كما يصح -------------------- (1) هو الفاضل الأقدم ، والإمام الأعظم حسن بن أحمد بن عبد الغفار بن محمد بن سليمان بن أبان المكنّى بـ ( أبي علي ) المشتهر بهذه الكنية : الفارسي ، النحوي الشيعي المشهور ، المتولّد سنة 288 ، المتوفى سنة 377 ، وكان عمره 89 سنة. ( مجد الدين ). وقاية الاذهان فلو حمل ـ مثلا ـ لفظ العين في البيت الأول على إرادة الشمس صلح أول البيت ، ولزم اللغو في سائر ألفاظه ، أو المعشوق في الثاني على المعنى الاشتقاقي لم يبق معنى لقوله : أيّ المكان تروم ، وكذلك حمل الفجر ـ في الثالث ـ على الصبح يلزم منه محذور اللغوية في قوله : وما لها ، وهكذا ، وكأنّي به ولا يقول بهذا ولا بذاك ، بل يؤوّلها إلى إرادة المسمّى وهو من أبرد التأويل ، وستعرف الكلام فيه قريبا إن شاء الله. وإذا انتهيت إلى التورية البديعيّة ، وفرّقت بينها وبين التورية العرفيّة ، ولم تقع فيما وقع فيه علماء البديع من الخلط بينهما ، ونخلتها (1) من الشواهد الغريبة التي ليست من بابها فقد انتهيت إلى ما يزيح عنك كل ريب ، ولا يدع لك مجالا للشبهة فيما قلناه ، واتّضح لديك أنّ هذه النكتة التي هي من أجلّ صنائع البديع مبنيّة على استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، وتفصيل القول لا يناسب موضوع هذا الكتاب ، وقد أوضحت جميع ذلك في رسالتي التي سمّيتها : ( السيف الصنيع لرقاب منكري البديع ) وشرحته فيها شرحا كافيا. ومجمل القول هنا : أنّ علماء البديع جعلوا مبنى التورية على لفظ يكون له معنيان : أحدهما قريب ، والآخر بعيد ، فيقصد المتكلّم المعنى البعيد ، ويوهم السامع القريب ، وهذا إنما يناسب التورية العرفيّة وهي التي يسمّيها العرب -------------------- (1) نخل الدّقيق : غربلته ، الصحاح 5 : 1827 ، مجمع البحرين 5 : 497 ( نخل ). وقاية الاذهان بل يحق لك العجب من قوم تعجّبوا من الأسفرائيني ، وحاولوا تأويل كلامه بما لا يرضى به كما في إشارات الأصول (1) ، ومن ابن الدهان حيث قال بعد ما نقل عن أبي علي هذا القول ، ما حاصله : ( إنّ العجب كلّ العجب من هذا الإمام كيف أذهب بهاء لغة العرب ورونقها لأنهما قائمان بالمجاز ، وشتّان بين قوله وقول تلميذه ابن جني ) انتهى. وكان الأجدر به أن يتعجّب من نفسه حيث ترك تعاطي صنعة أبيه ، وكانت هي اللائقة به ، وتكلّف العلم ورأس ماله هذا الفهم ، وكيف يرضى المنصف بأن يكون ابن من يبيع الدهن اهتدى إلى الواضح البديهي ، وهو أن العرب تدعو الخدّ بالورد وتعبّر بالغصن عن القد ، وخفي ذلك على مثل هذا الأستاذ! ؟ ولقد وقعت فيما وقع فيه الشيخ أبو علي ، وذلك أني لمّا ألقيت هذا المذهب على جماعة من الطلبة كانوا يقرءون علي كتاب الفصول في النجف الأشرف سنة (1316) لم يلبث حتى اشتهر ذلك مني في أندية العلم ومجالس البحث فتلقّته الأذهان بالحكم بالفساد ، وتناولته الألسن بالاستبعاد. وعهدي بصاحبي الصفي وصديقي الوفي وحيد عصره في دقّة الفهم واستقامة السليقة وحسن الطريقة العالم الكامل الرباني الشيخ عبد الله الجرفادقاني (2) ـ رحم الله شبابه ، وأجزل ثوابه ـ سمع بعض الكلام علي فأدركته شفقة الأخوّة ، وأخذته عصبيّة الصداقة ، فأتى داري بعد هزيع (3) من الليل وكنت -------------------- (1) إشارات الأصول ج 1 ورقة 9 ـ 10. (2) أي : الكلبايكاني ، انظر الذريعة ـ للعلاّمة الشيخ آقا بزرگ الطهراني ـ 16 : 234 ـ 922. (3) معنى هزيع من الليل أي : طائفة ، وهو نحو من ثلثه أو ربعه ، الصحاح 3 : 1306 ( هزع ). |