علمه بمقدّميّتها لأنّ المدّعى أنه لو علم والتفت أراد المقدّمات.
ومثل هذا الفرض أعني الغفلة وعدم العلم قد يكون في الواجبات النفسيّة ، كما لو غرق ولد المولى وهو لا يعلم ، أو لا يعلم أنّ الغريق ولده ، فإن الطلب الفعلي وإن لم يكن متحقّقا لتوقفه على الالتفات المفروض عدمه ، ولكن من المعلوم أنه يكفي في ترتب جميع آثار الأمر من الثواب والعقاب على العلم بأنه لو التفت لأمر.
هذا ، وقد استدلّ بغير هذا من الوجوه الكثيرة المذكورة في المطوّلات ، ولا يخلو جميعها عن خلل وفساد ، ولنذكر من باب النموذج وجها واحدا منها هو كالأصل لغيرها ، بل هو الأصل في هذه المسألة ، وسائر الوجوه عبارات شتّى عنه ، وتقريرات مختلفة له ، وهو ما ذكره أبو الحسين البصري (1) ، وملخّصه : أنّ المقدمة لو لم تكن واجبة لجاز تركها فحينئذ (2) إن بقي الواجب على وجوبه لزم التكليف بالمحال ، وإلاّ خرج الواجب عن كونه واجبا مطلقا.
والجواب عنه أنّ ما أضيف إليه الظرف بقوله : وحينئذ ، إن كان الجواز نختار بقاء الواجب على وجوبه ، ولا يلزم منه التكليف بالمحال ، لأنّ تأثير الوجوب في القدرة غير معقول ، وإن أراد الترك مع كونه جائزا ، فنختار الثاني ، ولا يلزم منه خروج الواجب عن كونه واجبا ، لأنّ أمر الآمر يسقطه العصيان ، كما يسقطه الإطاعة.
وإلى هذا الوجه يرجع ما ذكره السبزواري من أنّ المقدّمة إن لم
--------------------
(1) قد ذكرنا ترجمته وكتبه ووفاته مفصلا في كتابنا المسمّى بالفوائد الرضويّة في شرح الفصول الغروية ( مجد الدين ).
(2) ذهب صاحب المعالم وغيره إلى أنّ قوله : وحينئذ أي حين الجواز ، وذهب السبزواري رحمه الله وغيره إلى أنّ قوله : حينئذ ، أي حين الترك ، وذهب الشيخ رحمه الله بأن المراد هما معا أي حين الترك على وجه الجواز ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 242 _
تكن واجبة لزم عدم استحقاق تارك الواجب المطلق للعقاب أصلا ، فإن الجالس في بيته التارك للخروج مع الرفقة إلى الحج إمّا أن يكون مستحقا له في زمان ترك الخروج ، أو في زمان الحج ، لا سبيل إلى الأول لأنه لم يترك واجبا ، ولا إلى الثاني ، لأنه تكليف بالمحال.
والجواب عنه أنه يمكن القول بكلّ من الاحتمالين ، فإن قلنا بالأول ، نقول : إنه يستحق العقاب على ترك الحج ، لا على ترك مقدّمته ، لأنّ ترك الشيء يصدق بترك آخر مقدّماته الممكنة ، وإن قلنا بالثاني ، نقول : إنه يعاقب على تركه الواجب الّذي كان متمكنا منه ، ولا يلزم مقارنة القدرة مع زمان العصيان.
وجوب المقدمة يتبع وجوب الواجب من حيث الإطلاق ، والاشتراط ، والتعيين ، والتخيير ، وغير ذلك (1) فمقدّمات الواجب المطلق واجبة مطلقا ، ومقدّمات الواجب المشروط مشروطة بشرط الواجب بعينه ، ولا يعقل اشتراطها بغيره.
وليس التخيير بين أنواع المقدّمات للواجب التعييني إلاّ كالتخيير بين أفراده فلا يتوهّمن المخالفة بين الواجب ومقدّمته من هذه الجهة ، ولا يعقل أن يكون شرطا في وجوبها ، إلاّ ما هو محقّق لمفهومها أعني توقف وجود الواجب عليها.
فما نسب إلى صاحب المعالم من توقف وجوب الواجب الغيري على إرادة الغير ، وإلى صاحب الفصول من توقف وجوب المقدّمة على الإيصال ، فهو ناش من عدم التأمل في كلامهما ، ومقام هذين الفحلين المبرّزين أسمى من ذلك
--------------------
(1) إشارة إلى غير ما ذكره نحو العينيّة والكفائية وغيرهما ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 243 _
وأرفع.
والتأمل الصحيح يشهد بأنهما يعتبران في وقوع الواجب الغيري على صفة الوجوب بحيث يكون مصداقا له ، إرادة الغير ، أو إيصاله إليه (1) كما يتضح لك قريبا ، وتعرف إن شاء الله أن ما ذهبا إليه هو الصحيح ، ومرادهما واحد وإن اختلف التعبيران ، وكيف يخفى عليهما أنّ لازم ما نسب إليهما أن يعود الأمر بالمقدّمة إلى ضرب من العبث والمجون ، إذ معناه حينئذ افعل المقدّمة إن كنت تفعل ذا المقدمة ، وباللازم افعل المقدمة إن كنت تفعلها ، لأنّ فاعل الواجب فاعل لمقدّمتها بالضرورة ، وأن لا يكون العصاة مكلّفين بالمقدّمات أصلا ، إلى غير ذلك من ضروب الفساد المترتبة على هذا الوهم.
وأمّا وقوعها على صفة الوجوب فهل يشترط فيه داعي التوصّل بها إلى الغير أو ترتبه عليها وكونها موصلة إليه أو لا يشترط فيها شيء منها ؟ وجوه نسب الأول إلى الشيخ الأعظم.
وليست هذه النسبة بثابتة عندي ، وإن كان يوهمها عنوان مقرّر بحثه ، ولكنّ التأمل في سائر ما نقل عنه يقضي بغير ما ذكره في العنوان.
وحاصل ما يستفاد منه أنه ـ طاب ثراه ـ يرى توقف خصوص المقدّمات العبادية على قصد الغير ، لا من حيث مقدّميّتها كما هو مفروض البحث ، بل من حيث كونها عبادة ، وقد بنى ذلك على مقدمات ، فرغ من إثباتها في مواضعها ، من أنّ المقدمات العبادية ليست مقدّمات بذواتها ، كما هو الشأن في التوصّليات ، بل وصف المقدّمية ثابت لها باعتبار كونها عبادة ولا عبادة إلاّ بالامتثال ، ولا امتثال إلاّ بقصد الأمر بحيث يكون الأمر باعثا نحو الفعل ، فلا بدّ في قصد الأمر
--------------------
(1) وقد صرّح بذلك صاحب الفصول ـ طاب ثراه ـ عند الكلام على هذا المقام في التنبيه الأوّل من تنبيهاته التسعة في مبحث مقدّمة الواجب ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 244 _
الغيري من قصد العنوان إذ لا يعقل بعث الأمر على عنوان آخر غير ما تعلّق به ، فلا بدّ ـ إذن ـ من قصد
عنوان المقدّمة على وجه يكون الداعي إلى إيجادها ملاحظة المنفعة التي فيها ، وهذا لا يعقل بدون قصد الغير ، إذ لا يعقل القصد إلى شيء تترتب عليه فائدة لأجل تلك الفائدة بدون أن تكون تلك الفائدة مقصودة ، لكونه تناقضا.
ولعلّ ذلك مراد كل من حكم بوجوب قصد الاستباحة في الوضوء ، إلى آخر ما نقله عنه هذا المقرّر ، وما ذكرناه أخيرا نموذج منه.
وأنت إذا تأمّلت في مجموعه ، وحملت مجمله على مبيّنه ، عرفت أنّا قد أصبنا المحزّ ، ولم نخط المرمي في فهم مرامه ، واتّضح لديك أنّه ـ قدس سره ـ لا يرى توقف المقدّمات العبادية على قصد الغير ، ليكون تخصيصا لقسم من المقدّمة بهذا الحكم ، وتقييدا لحكم العقل بالملازمة بين طلب الشيء وبين طلب مقدّماته ، بل يرى أنّها لا تكون مقدّمة إلاّ بوصف العبادية ، ولا تكون عبادة إلاّ بقصد الغير ، وما أبعد ما بين دخل القصد في تحقق معنى المقدّمية ، وما بين وقوعها على صفة الوجوب بعد تحقق مفهومها وكونها مقدّمة بالحمل الشائع.
ولا أدري كيف خفي ذلك على مثل الأستاذ صاحب الكفاية قدس سرّه فنسب أولا إلى الشيخ اعتبار داعي التوصّل في مطلق المقدّمات ، ثم أخذ في بيان أمر واضح ما كاد يخفى على أقلّ تلامذته من : ( أنّ الوجوب لم يكن بحكم العقل إلاّ لأجل المقدّمية والتوقف ، وعدم دخل قصد التوصّل فيه واضح ) (1).
ثم ردّ بضاعته إليه في صورة الاعتراض عليه قائلا : ( ولذا اعترف بالاجتزاء بما لم يقصد به ذلك في غير المقدمات العبادية ) (2).
ولم يقنع بذلك حتى جعله تخصيصا بلا مخصّص ، وأخذ بعده فيما لا مساس له بالمقام أصلا من الثواب بأشقّ
الأعمال ونحوه مما أطال به المقال.
وأقول توضيحا لمراد الشيخ (1) وإن كنت في غنية عنه بما قدّمناه : أنّه لا شك في عدم مدخلية القصد في مناط
حكم العقل بوجوب المقدمة بعد ثبوت عنوان المقدمية ، وهذا ممّا لا ينكره الشيخ ، بل يعترف به كما فصّله المقرّر في أول كلامه ، ولكنه يرى أنّ المقدّمات العبادية لا يثبت لها هذا العنوان ، ولا تكون مقدّمة بالحمل الشائع ، إلاّ بقصد الامتثال الملازم لقصد العنوان ، وقصد العنوان فيها لا يعقل بغير قصد الغير ، وقد سبق بيانه ، وما ذاك إلاّ مثل ما لو فرض أخذ الالتفات أو حضور القلب في مقدّمية الوضوء مثلا بحيث لا تكون مقدمة إلاّ
بذلك ، أو فرض اعتبار الموالاة فيه مثلا ، فهل ترى من نفسك الاعتراض عليه بمثل قوله : « إنّ الوجوب لم يكن بحكم العقل إلاّ لأجل المقدّمية ، وعدم دخل الالتفات أو حضور القلب فيه واضح ) (2).
وأعجب من ذلك تعجّبه من شدّة إنكار الشيخ للمقدّمة الموصلة مع قوله بقصد الإيصال ، وأنّ جميع ما اعترض به على الموصلة وارد عليه (3) ، وقد عرفت البعد الشاسع بين اعتبار الشيء في حقيقة المقدّمة وبين اعتباره في اتّصافها بالوجوب ، وما أوقع هذا الأستاذ ـ وهو من علمت ـ إلاّ قصور تقرير هذا المقرّر ، وقلّة تحصيله لمراد أستاذه ، وطالما (4) أوقع بذلك أمثاله في أمثاله.
وبالجملة ما ذكره الشيخ (5) حق بعد ثبوت المقدّمات المتقدمة ، ولكنك قد
--------------------
(1) الأنصاري رحمه الله. ( مجد الدين ).
(2) كفاية الأصول : 114.
(3) كفاية الأصول : 115.
(4) أي وطالما أوقع المقرر بقصور تقريره وقلّة تحصيله لمراد أستاذه هذا الأستاذ في أمثال المقام ( مجد الدين
).
(5) الأنصاري رحمه الله ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 246 _
عرفت فيما سبق أنّ معنى العبادة ليس قصد الأمر ، وعلى فرضه فالمقدّمات العباديّة في أنفسها مستحبة أو
واجبة ، وأنّ الأمر الغيري لا يعقل أن يكون باعثا نحو الفعل وداعيا إليه ، بل ينبعث المكلّف نحو المقدّمة بعين الأمر النفسيّ المتعلّق بذي المقدّمة فتذكّر وراجع.
ويناسب المقام ما كان يذكره السيد الأستاذ ـ طاب ثراه ـ من أنّ القول بوجوب ذات المقدّمة من غير مدخلية لقصد الإيصال فيه لا ينافي الالتزام به في بعض الموارد لجهة خارجية كما لو توقف إنقاذ الغريق على التصرف في الأرض المغصوبة ، فإنه يختص جواز التصرف فيها بما كان للإنقاذ ، لأنّ إذن الشارع في الغصب مع حرمته ذاتا لم يكن إلاّ لأهمية مصلحة الإنقاذ والإذن في المبغوض من الضرورات التي تقدّر بقدرها ، فيكفي الإذن في خصوص التصرّف بقصد الإنقاذ ، ولا يتجاوزه إلى غيره ، وبهذا كان يدفع الإلزامات التي يوردها القائل بوجوب خصوص المقدمة الموصلة ، كما ستعرفها إن شاء الله.
أقول : هذا حقّ ، لو كان وجوب المقدّمة ممّا تناله يد الجعل والتصرف ، وأمّا بناء على ما يذهب إليه المحقّقون ـ وهو سيّدهم ـ من أنه لازم لوجوب ذي المقدّمة بحيث يستحيل انفكاكه عنه بحكم العقل ، ولا مناط في حكمه سوى التوقف من غير مدخلية شيء فيه غيره ، فلازمه أن يكون الحرام المهم إذا كان مقدّمة للواجب الأهمّ كالمباح ، إذ القصد لا مدخلية له في التوقف الّذي هو مناط حكم العقل ، والحكم العقلي لا يقبل التخصيص.
وأيضا إذا كان من الممكن عقلا تخصيص الوجوب بنوع من المقدّمة لجهة أخرى ، فلما ذا نقموا على صاحب الفصول قوله بوجوب خصوص الموصلة ، واعترضوا عليه بمثل ما اعترضنا على هذا القول ؟ فراجع.
ولا ينبغي للمتأمّل أن يقيس المقام بما لو كانت للواجب مقدّمة مباحة ، إذ حكم العقل هناك بلزوم إتيان خصوص
المباحة ليس إلاّ بمناط الجمع بين
وقاية الاذهان
_ 247 _
الغرضين ، وأين ذلك من المقام الّذي لا يمكن نيل الأهم ، إلاّ برفع اليد عن المهمّ.
لا شك في أنّ الإيصال كيف ما اعتبر ، لا دخل له في مقدّمية المقدّمة ، وإلاّ لزم الدور الواضح (1) ، إذ الإيصال عنوان ينتزع من تأثيرها في ذي مقدّمتها ، فيتوقف إذن على مقدّميّتها ، ولو توقفت المقدّمية على الإيصال لزم المحال (2) المذكور ، وهذا لوضوحه في غنية عن البيان ، فضلا عن الإطالة في الكلام عليه ، كما صنعه مقرّر الشيخ (3).
وأيضا لا شك في أن الإيصال لا يمكن اعتباره في الوجوب ، لما عرفت من أنّ مقدمات الواجب تابعة له إطلاقا واشتراطا ، وهذا أيضا من الوضوح بمكان ، فلا داعي إلى جعله من محتملات القول بوجوب خصوص الموصلة ، والإسهاب (4) في ردّه كما صنعه صاحبنا (5) العلاّمة أدام الله أيامه (6).
وقد صرّح مشيّد صرح (7) الموصلة صاحب الفصول بوضوح فساده ، فالتعب في ردّه يذهب إدراج (8) الرياح (9).
--------------------
(1) لأنّ المقدّمية تتوقف على الإيصال ، لأنّ ذلك هو المفروض ، والإيصال يتوقف على المقدّمية ، لأنّ الإيصال ـ كما بيّنه ـ عنوان ينتزع من تأثير المقدّمة في ذيها ، فتدبّر وتأمّل ، فإنّ المقام من مزال الأقدام ( مجد الدين ).
(2) يعني الدور المتقدم ( مجد الدين ).
(3) انظر مطارح الأنظار : 77.
(4) الإسهاب مصدر من باب الأفعال ومعناها : الإطناب ، ( مجد الدين ) وانظر لسان العرب 1 : 475.
(5) وهو الشيخ عبد الكريم اليزدي الحائري ، وصنع ذلك في كتابه المسمّى بالدرر الفوائد ( مجد الدين ).
(6) درر الفوائد 1 : 82.
(7) أي : القصر ( مجد الدين ) وانظر مجمع البحرين 2 : 384 ( صرح ).
(8) بفتح الهمزة ( مجد الدين ).
(9) مثل عربي يضرب في مقام الإشارة إلى عدم الفائدة لمناسبة معناه ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 248 _
وأمّا اعتباره في وقوع الواجب على صفة الوجوب فقد ذهب إليه العلاّمة ـ العمّ ـ وبيّنه في مواضع من كتابه ، وملخّص ما ينبغي أن يقال في هذا البحث : أنّ اعتبار الإيصال المذكور قد يكون على نحو التقييد إمّا بالإيصال الخارجي على نحو الشرط المتأخر بالمعنى المتقدم ، أن بالعنوان المنتزع منه ، كالتعقّب مثلا على نحو الشرط المقارن ، وقد يكون المعتبر لحاظ الإيصال من غير تقييد للمقدّمة به أصلا.
أما التقييد به بتقريريه ، فأعظم ما يرد عليه أنّ القيد لا بدّ أن يكون في مرتبة المقيّد بحيث يتمكن الآمر من ملاحظتهما معا ، كالإيمان مع الرقبة ، وأمّا ما كان متأخرا عنه فلا يعقل التقييد به كما لا يصح إطلاق لفظ الإطلاق عليه ، فالأمر بالنسبة إلى أمثال هذه الصور ليس بمطلق ولا بمقيّد ، ولهذا امتنع تقييد الأمر بكل من الإطاعة والعصيان ، والحكم (1) بكونه مشكوكا فيه أو مقطوعا به ، بل وامتنع إطلاقه بالنسبة إليها ، لأنّ ما لا يصح إطلاقه لا يصح تقييده ، وهذا أصل شريف يبتنى عليه مسائل مهمة ، وتنحلّ به عقد مشكلات جمة ، وستعرف بيانه ـ إن شاء الله ـ في مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي.
إذا عرفت ذلك ، نقول : إنّ الإيصال من القيود المتأخرة عن مرتبة ذات المقدّمة ، فلا يعقل أن يكون قيدا لها ، وأيضا يلزم منه أن يعود الأمر بالمقدمة إلى طلب الحاصل ، إذ لا معنى للإيصال إلاّ إتيان الواجب ، والّذي يأتي بالواجب آت بمقدّمته ضرورة ، وإلاّ خرجت عن كونها مقدّمة ، فيكون حاصل الأمر بالمقدّمة ، إرادة المقدّمة إن كان يأتي بالمقدّمة ، وقد مرّ ذلك.
وبالجملة ، لا يعقل أن يكون الإيصال منوّعا للمقدّمة في لحاظ الآمر أوّلا ،
--------------------
(1) في هذه العبارة ثلاث احتمالات ، الأوّل : أن يكون الحكم معطوفا على التقييد ، فيكون مرفوعا ، الثاني : أن يكون معطوفا على مضاف إليه التقييد أعني الأمر ، فيكون مجرورا ، الثالث : أن يكون معطوفا على الكلّ فيكون مجرورا أيضا ، والأوّل أولى ، والثاني أوسط ، والثالث أضعف ، فتأمل ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 249 _
لكي يأمر بنوع خاص منها ، كما أنّ الإطاعة ليست منوّعة للأمر ، فالآمر بالمقدّمة يأمر بها بغرض الإيصال ، لا بقيد الإيصال ، كما أنّ الآمر بالشيء يأمر به بغرض الإطاعة ، لا بقيد الإطاعة.
هذا وقد أورد عليه بوجوه قابلة للدفع.
منها : أنّ اللازم منه عدم حصول الطهارات الثلاث (1) إلاّ بعد إتيان الصلاة ، وهذا مع وضوح فساده ، يلزم منه عدم الصلاة أيضا ، إذ ( لا صلاة إلاّ بطهور ) (2) فالصلاة ـ إذن ـ متوقفة على الطهور ، والطهور متوقف عليها ، وهذا هو الدور الصريح.
قلت : هذا الإيراد يبتنى على تفسير القربة بقصد الأمر ، وقد عرفت منعه سابقا ، وعلى فرضه فالطهارات الثلاث حتى التيمم مستحبّات في أنفسها ، أو واجبة ، فيكفي في حصولها قصد الأوامر النفسيّة المتعلّقة بها ، بل لا يعقل غير ذلك ، لما عرفت سابقا من عدم إمكان كون الأمر الغيري محرّكا نحو الفعل وداعيا إليه.
هذا ، على أنّ الاعتراض لا يتوجّه إلاّ على احتمال كون القيد نفس الإيصال ، وأما بناء على احتمال كونه الصفة المنتزعة منه كالتعقب ، فلا مساس لهذا الاعتراض به أصلا ، لأنّ الشرط على تقدير حصول الإيصال حاصل فعلا.
هذا ، على أنّ لمانع أن يمنع توقف الصلاة على امتثال الأمر المقدّمي بل يجعلها متوقفة على تلك الأفعال الخاصة كالغسلتين والمسحتين في الوضوء مع قصد الإيصال وإن لم يتوصّل به أصلا ، فتأمل (3).
--------------------
(1) الوضوء والغسل والتيمم ( مجد الدين ).
(2) التهذيب 2 : 140 ـ 545 ، من لا يحضره الفقيه 1 : 22 ـ 67.
(3) لعلّ وجه التأمّل أنّ ذلك يتمّ إذا كان المعتبر قصد الإيصال ، كما ذهب إليه في المعالم ، لا الإيصال الخارجي كما هو المطلوب ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 250 _
ومنها : أنّ الإيصال لا يتحقق إلاّ بوجود ذي المقدّمة ، وعلى القول بوجوب خصوص الموصلة يلزم أن يكون
ذو المقدمة واجبة لمقدّمته ، ويترشّح عليه الوجوب من مقدّمته التي لم تجب إلاّ بترشّح وجوبه عليها.
قلت : لمانع (1) أن يمنع قابلية الواجب الغيري لإيجاب الغير نظرا إلى نقصانه في مرتبة الوجود وعدم تأصّله ، بل هو كذلك لدى ذي النّظر الدّقيق ، ولهذا تجب مقدّمات المقدّمات ولو بوسائط كثيرة بنفس وجوب ذي المقدمة ، ويترشّح الوجوب على جميعها منه دفعة واحدة ، لأنّ مقدّمة مقدمة الواجب مقدّمة لنفس الواجب ، والجميع داخل في موضوع ما لا يتمّ الواجب إلاّ به ، فيجب جميعا بوجوبه ، لا أنّ كل مقدمة توجب مقدّمتها ، وتلك أيضا كذلك ، وهلمّ جرّا.
وإذا كان الأمر كذلك فيها ، فبالأجدر أن لا يسري وجوبها إلى ما لم تجب إلاّ به ، فتكون علّة لعلّتها.
على أنه (2) لا محذور في الالتزام به ، لأنه ليس من الدّور الباطل ، ولا من التسلسل المحال ، كما لا يخفى
على المتأمل.
ومنها : ما ذكره المقرّر من أنّ القول بوجوب المقدّمة الموصلة يرجع إلى القول بوجوب مطلق المقدّمة (3) ، وأطال في بيانه إطالة مملّة ، وتبعه فيه جماعة.
وحاصل ما ذكره : ( أنّ تقييد المأمور به قد يكون بما لا يكون مغايرا في الوجود مع المقيّد ، كالفصول اللاحقة للأجناس وقد يكون مغايرا معه في الوجود ،
--------------------
(1) هذا ليس بجواب في الحقيقة لأنّ المورد لم يقل ذلك في مقام الارتضاء به ، بل قاله معترضا على القول بوجوب خصوص الموصلة ، كما يتضح ذلك بالتأمّل في كلامه ، بل هو عند التأمل صريح مرامه ، على أنّ ذلك لو لم يكن فاسدا لم يكن اعتراضا وإيرادا ، فتأمل ( مجد الدين ).
(2) هذا هو التحقيق في الجواب لأن الدور المحال هو الّذي يتوقف وجود الشيء على ما يتوقف وجوده عليه بحيث يلزم تقدّم الشيء على نفسه ، وكذلك التسلسل المحال هو الّذي يلزم منه وجود أشياء غير متناهية ، والمقام ليس بذلك الإبرام ، فتأمل فإنه مختلف الأفهام ( مجد الدين ).
(3) مطارح الأنظار : 77.
وقاية الاذهان
_ 251 _
كما لو أمر بإتيان زيد فجاء مع عمرو ، والواجب على الأول أمر واحد لا معنى للقول بأنه يجب المطلق مقدّمة للمقيد ، بخلاف الثاني ، فيجب إيجاد ذات المطلق ثم إيجاد القيد ، ليتصف به المقيّد ، وقيد الإيصال من القسم الثاني فيجب إيجاد المطلق أعني ذات المقدّمة ، ثم إيجاد القيد ليتصف به المقيّد ) (1) انتهى.
ويمكن أن يقال (2) : إنّ قيد الإيصال وإن كان من القسم الثاني ولكنه فرق بينه وبين المثال المذكور في كلامه ، إذ المقدّمة ليست مقيّدة بغيرها من أخواتها ، بل كلّ مقدّمة مقيّدة بنفس الواجب ، فلنفرض لإيضاحه واجبا ليست له إلاّ مقدّمة واحدة ، أو المقدّمة الأخيرة لأحد الواجبات ، فتلك المقدّمة واجبة بنفسها بالوجوب الغيري ، وقيدها واجب بالوجوب النفسيّ ، والإيصال ليس بقيد مستقلّ مغاير مع إتيان الواجب ، إذ لا معنى له إلاّ إتيان الواجب ، فليس المقيّد ـ إذن ـ إلاّ ذات المقدمة بقيد لحوق الواجب به.
فحينئذ ، نسأل هذا المعترض عن الفساد الّذي يترتّب على ذلك ، فإن كان لزوم كون الواجب مقدّمة لمقدّمته فقد عرفت الجواب عنه ، وإن أراد غيره فهو عين مدّعى القائل بوجوب خصوص الموصلة ، إذ المقيّد وهو ذات المقدّمة واجب بالوجوب الغيري ، وقيده واجب بالوجوب النفسيّ ، فيجب الإتيان بها بالوجوب الغيري مقدّمة لحصول القيد ، أعني الواجب ، وهذا عين ما يدّعيه ، فأين الاعتراض عليه ؟ وهذا المقام يحتاج إلى مزيد تأمّل.
وأما اعتبار لحاظ الإيصال في وقوعها على صفة الوجوب من غير أن يكون قيدا فيها فهو الحقّ الّذي لا معدل عنه ، ولا مناص عن الذهاب إليه ، وكان السيد الأستاذ ـ طاب ثراه ـ يعتمد عليه ، وينقله عن والدي العلاّمة.
--------------------
(1) مطارح الأنظار : 77
(2) أي : ويمكن أن يقال في الجواب ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 252 _
وحاصله : أنّ الطلب يتعلّق بالمقدّمات في لحاظ الإيصال بمعنى أنّ الآمر بعد تصوّر المقدّمات بأجمعها يريدها بذواتها ، وتلك الذوات بهذا اللحاظ (1) لا ينفك عن الإيصال ، وترتب المطلوب النفسيّ عليها ، ولو فرض لحاظه (2) مقدّمة منفكّة عن سائر أخواتها لم يكن مريدا لها ، لأنها وإن كانت بذاتها موردا للإرادة ولكن مطلوبيّتها في ظرف ملاحظة سائر المقدّمات معها ، ولم يكن كلّ واحدة منها مرادة على نحو الإطلاق بحيث تسري الإرادة إلى صورة انفرادها ، وهذا الوجه يتحد في النتيجة مع القول بالموصلة ، ولا يرد عليه شيء من الاعتراضات السابقة.
هذا حاصل ما استفدنا منه ـ أحسن الله إليه ـ ولكنه يحتاج إلى توضيح ومزيد بيان ، إذ لقائل أن يقول : لا تتعقل مرتبة بين الإطلاق والتقييد (3) ، ولازم عدم التقييد كفاية المطلق ، فتقع على صفة الوجوب وإن لم تكن موصلة ، وستعرف منّا ـ إن شاء الله ـ في أثناء البحث عن مقام الإثبات ما يزيح كلّ شك وريب ، ويصونه عن كل وصمة وعيب.
وأما الكلام في مقام الإثبات ، فملخّص القول فيه أنّ الغرض من المقدّمة إن كان مجرّد إمكان الواجب الأصلي من ناحيتها بعد ما كان عدمها يوجب العدم فلا وجه للتقييد بالموصلة ، إذ هذا الغرض يحصل بغيرها فلا وجه للتخصص بها.
وإن كان الغرض ترتّب الواجب عليها فلا شك في أنها مع تجرّدها عن الإيصال لا يتعلّق بها الغرض ، فلا يمتثل بها الأمر ، والحكم في هذا المقام للوجدان وحده.
ومن الطريف أنّ كلاّ من الطائفتين يستدل به على معتقده ، ويصول به على خصمه.
--------------------
(1) أي لحاظ الإيصال ، وقيل : أي بتصوّر المقدّمات بأجمعها ( مجد الدين )
(2) يعني لحاظ الآمر ( مجد الدين )
(3) أي الإطلاق بالنسبة إلى قيد الإيصال والتقييد به ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 253 _
ويكفي القائل بوجوب مطلق المقدّمة بداهة سقوط الأمر بكلّ مقدمة بعد إتيانها ، ضرورة سقوط الأمر بالامتثال ، وأنه لا يبقى للآمر بعد علمه بإتيانها بعث إليها ولا إرادة ، فلا يأمر بعد قطع مسافة ما إلى قطعها ثانيا ، بل يأمر بطيّ باقي المسافة ، بل يكون طلبها محالا لأنه يرجع إلى تحصيل الحاصل ، وأنّ الإيصال لا يترتب على المقدّمة وحدها إذا كان الواجب يتوقف على غيرها أيضا فلا تكلّف إلاّ ما في وسعها ، وما هو إلاّ ما عرفت من إمكان الوقوع من ناحيتها بعد امتناعها ، فالذهاب إلى السوق إذا صار مقدّمة للطبخ لا يعقل أن يترتب عليه سوى الوقوف على حانوت القصّاب مثلا ، وأمّا وجود المطبوخ فيتوقف على مقدّمات أخرى ، ولا يكون إلاّ إذا قامت كلّ منها بوظيفتها ، ولا يعقل أن يكون له أثر إيقاد النار ، ولا نصب القدر عليها مثلا.
ويكفي القائل بخصوص الموصلة بداهة أنّ الجائع الّذي يطلب الخبز والصادي الّذي يروم الماء لا يسدّ جوع هذا ، ولا يروي عطش ذاك إمكان الخبز والماء ، وإذا لم يقع أحدهما على غرضه ، فامتناعه من جميع الجهات وإمكانه إلاّ من جهة واحدة عنده على حدّ سواء ، بل كثيرا ما يكون عدمها عنده أولى من وجوده ، بل يكون وجودها مبغوضا عنده ، وذلك فيما إذا كانت المقدّمة مشتملة على مفسدة في نفسها.
ألا ترى أنّ الآمر إذا أمر عبده بطلب غريم له في بلد بعيد ، وبذل له نفقة كثيرة لسفره ، وأركبه أعزّ خيله ، فسافر العبد ولم يطلب الغريم ، يصحّ له مؤاخذته قائلا : إذا كنت عاصيا بترك الطلب فلما ذا أتلفت مالي ، وأتعبت فرسي ، وتركت الواجب من سائر خدمتي ؟
وكذا لو كان الآمر قد نزل بعينه الماء ، وكان له عبد كحال (1) فأمر بإخراج
--------------------
(1) قداح ( خ ل ).
وقاية الاذهان
_ 254 _
الماء من عينه ، فخرق طبقات بصره وغادره (1) يقاسي أمضّ الأوجاع على فراشه ، ثم عصى ولم يخرج ماء عينه فهل يشك المنصف الّذي لم يفسد وجدانه بمزاولة الشبهات ، أنّ للآمر أن يعاقبه على ما أورد عليه من الحرج والألم في أعزّ أعضائه (2) قائلا : إذا لم تمتثل أمري فلما ذا خرقت بصري ، وأطلت ألمي وسهري ورميتني بالمقعد المقيم (3) ، وتركتني أتململ على الفراش تململ السليم (4) ، فهل ترى للعبد أن يدفع عن نفسه العقوبة ، بل يطلب منه ـ كما هو مذهب جماعة ـ على فعله المثوبة قائلا : إني قد أدّيت الواجب وفعلت ما فعلت بإرادتك وأمرك فهب إنّ لي معصية واحدة ، فلي عليك ضروب من الإحسان حيث أخرجت مطلوبك الممتنع من عدّة جهات إلى الإمكان ؟
وقد عرفت ـ سابقا ـ أنّ السيد الأستاذ كان يتخلّص عن هذه الأمثلة بمدخلية القصد ، ويلتزم بعدم الأمر بالمقدمة
إلاّ مع القصد.
ويردّه مضافا إلى ما عرّفناك به سابقا ، أنّ الوجدان شاهد بصحة العقاب على المقدّمات المبغوضة ذاتا حتى لو كان عازما على الإطاعة وقت الإتيان ، ويرى له بعده العصيان ، فراجع وجدانك وأنصف.
وغيره (5) من مشايخنا (6) كان يلتزم بأشدّية العقاب على ترك الواجب الأصلي فيعود إليه السؤال عن سبب أشدّيته ، وكيف يكون الإتيان بواجبات
--------------------
(1) غادره : تركه وبقّاه ، ومثلها في المعنى أغدره ( مجد الدين ).
(2) العين ( مجد الدين ).
(3) هو الألم الّذي يقوم الإنسان ويقعد من شدّته ( منه ره ).
(4) السليم : اللّديغ ، وبالفارسية : ( ما مار گزيده ) وهو بهذا المعنى مراد في هذا المقام ، ويحتمل أن يكون المراد الجزع الّذي أشفى على المهلكة ( مجد الدين )
(5) منصوب لكونه معطوفا على السيد الأستاذ ( مجد الدين )
(6) صاحب الكفاية طاب ثراه ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 255 _
متعدّدة وامتثال أوامر عديدة سببا لأشدّية العقاب على معصية واحدة بدلا عن أن يكون سببا لتخفيفه ، أو ليس الوجدان أعدل شاهد على أنّ تلك المقدّمات باقية على حالها من عدم المصلحة وتمام المفسدة والمبغوضية إذا لم يترتب عليه المقصود؟ وأنت ـ أعزّك الله ـ إذا تأملت في هذه الأمثلة وضممت إليها ما لا يحصى من أمثالها عرفت أن لا مناص عنها إلاّ بمصادمة الوجدان ، ومكابرة العيان ، والخروج عن مذاهب الحكمة الحقة إلى السفسطة المموّهة ، وأيّ عاقل يحكم على المستطيع الّذي يخرج إلى حانوت خمّار واقع في طريق القافلة ليشرب
الخمر ويرتكب ضروبا من الكبائر بأنه يفعل الواجب في قطع الطريق ، أو أنّ أهل الشام وأهل الكوفة لمّا خرجوا إلى صفّين (1)(2) ، وإلى الطفّ (3) لقتال الإمامين (4) كان سفرهم سفر طاعة (5) يجب عليهم القصر في الصلاة لا الإتمام لأنّ (6) الجهاد مع الإمام والدفاع عنه واجب ، ومقدّمته واجبة مطلقا !؟ (7).
هذا وعهدي بمجلس حافل اجتمعت فيه بخدمة الشيخ الأستاذ صاحب الكفاية ـ طاب ثراه ـ وأنا إذ ذاك غلام قد بقل خدّي أو كاد ، فجرى حديث هذه المسألة وكان من أشدّ المنكرين للمقدّمة الموصلة ، وبعد بحث طويل أوردت عليه أمثال هذه الأمثلة فلم يكن جوابه إلاّ قوله : إنّ معك الوجدان ، ومعي
--------------------
(1) إشارة إلى الحرب التي وقعت بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ومعاوية بن أبي سفيان لعنة الله عليه ، وكانت بداية هذه الواقعة في سنة ست وثلاثين من الهجرة المقدّسة ، ولشهرة هذه الواقعة المبكية لا نزيد على ما ذكرناه ( مجد الدين )
(2) إنه اسم مكان وقع فيه الحرب ( مجد الدين ).
(3) كربلاء ( مجد الدين )
(4) علي بن أبي طالب ، وابنه الحسين صلوات الله عليهما ( مجد الدين )
(5) على بعض الوجوه في سفر الحرام ( منه رحمه الله )
(6) دليل لكون سفرهم سفر طاعة ... إلى آخره ( مجد الدين )
(7) سواء كانت موصلة أو لا ( مجد الدين )
وقاية الاذهان
_ 256 _
البرهان ، فقلت : إنّ أقصى مدارج العلم أن تنتهي مسائله إلى الوجدان ، فإذا سلّمته وعجزت عن الجواب ـ ولا
أعجز إن شاء الله ـ فليس البرهان إلاّ شبهة في مقابلة البداهة ، فسكت رحمه الله ولم ينبس ببنت شفة ، واشتهر بين أهل النّظر أمر هذه المناظرة.
وإني أرى أنّ كلاّ من الفريقين قد أصاب شاكلة الصواب في دعوى الوجدان ، وفي حصول الغرض ، وعدم
حصوله ، إذ الغرض غرضان ، غرض في كل مقدّمة مقدّمة ، وهذا لا شك في حصوله بمجرّد إتيانها من غير توقف على غيرها ، ويدل عليه جميع ما عرفت في تقريبه.
وغرض يتعلّق بمجموع المقدّمات ، والغرض الأول تابع للثاني ، كما أنّ الثاني تابع للغرض الأصلي الّذي هو الواجب الأصلي فيتعلّق الغرض أوّلا بالواجب الأصلي ، فيدعو إلى الإتيان بجميع المقدّمات ، لأنّ الواجب لا يحصل إلاّ به.
والغرض الثاني يدعو إلى إتيان كل مقدمة مقدمة لأن المجموع لا يحصل إلاّ بها ، فيريد كلاّ منها ، ليحصل الإمكان من ناحيتها ، ويريد المجموع ليحصل به الوجود.
وإن شئت قلت : الغرض من المقدمة الواحدة وجود الكل ومن وجود الكلّ وجود الواجب الأصلي ، فالغرض غرضان غرض في كل مقدمة مقدمة أعني الإمكان من جهتها وحدها ، وهو يحصل بإتيانها كما ادّعاه منكر الموصلة ، وغرض في الكلّ وهو الوجود ، فيجتمع الغرضان معا مع وجود ذي المقدّمة وينتفي الأول إذا انتفى الثاني ، ولا يبقي غرض فيها مع الانفراد.
--------------------
(1) بحار الأنوار 45 : 295 ـ 1 ، عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 273 ، علل الشرائع 1 : 229 ـ 1.
وقاية الاذهان
_ 257 _
والأغراض المترتبة الكثيرة غير عزيزة ، فالإنسان يريد الدراهم لشراء الأرض ، وشراء الأرض للزرع ، والزرع للثمر ، فإذا فرض عدم ترتب الثمر ، انتفت الثمرة من جميع تلك المقدّمات ، وتوجد جميعا بوجودها.
ويوضّح ما قلناه ملاحظة الواجبات النفسيّة ، فإنّ الغرض قد يتعلّق بالمركّب من عدّة أجزاء ، ويسري ذلك الغرض إلى كلّ جزء جزء في حال الانضمام ، ويختلف الغرضان ، إذ الغرض من الجزء حصول الكل ، ومن الكل الفائدة المترتبة عليه ، والأول تابع للثاني بمعنى لغويّته ، وعدم تعلّق الأمر به لو لا الغرض الأول ، بل ربّما يكون مبغوضا في لحاظ الانفراد كما يظهر من ملاحظة المعاجين المركّبة من الأجزاء السمّية والدرياقية
(1).
ولا فرق بين الواجبات النفسيّة والغيريّة من هذه الجهة إلاّ اختلاف نوع الفائدة ، وهو غير فارق في المقام.
ومع انتفاء الغرض ينتفي الأمر قطعا انتفاء المعلول بانتفاء علته ، وقد تنبّه لذلك مقرّر الشيخ ـ طاب ثراه ـ فقال ما نصّه :
« فإن قلت : مراده (2) من شرط الوجود ما هو شرط لوجود الواجب على صفة الوجوب ، كما يظهر ذلك بملاحظة وجود الأجزاء الواجبة في الصلاة ، فإنّ شرط وجود الجزء على وجه الوجوب لحوق الأجزاء الأخر به ، فكما انّ ( الحمد ) لا يجزي عمّا هو الواجب منه ما لم تلحقه الأجزاء اللاحقة ، فكذلك المقدّمة لا تقع على صفة الوجوب ما لم يترتب عليها الغير ، فهو شرط لوقوعها على هذه الصفة ، لا شرط لوجودها حتى يدور ،
ولا لوجوبها حتى يكون متضح الفساد.
قلت : نعم ينبغي حمل كلامه (3) عليه ).
--------------------
(1) أي الترياق ( مجد الدين )
(2) أي مراد صاحب الفصول ( مجد الدين )
(3) أي كلام صاحب الفصول على المذكور ( مجد الدين )
وقاية الاذهان
_ 258 _
ثم أجاب عنه بأنّ الحال في الأجزاء ليس بأوضح منها في المقدمات والتزم بسقوط الأمر المتعلّق بكلّ جزء بعد
الإتيان به (1) ، وبيّنه بما يقرب من بيان الشيخ الأعظم في مسألة استصحاب الصحّة من أن الجزء باق على وجوبه لأنّ ما وقع على صفة يمتنع زوالها عنه ، وبطلانه لفقد شرط آخر كالموالاة ، أو لمانع كالحدث لا يوجب فساد الجزء المأتي به (2) ، وليس هنا محل بيان هذا البحث ، وتعرفه إن شاء الله في مسألة الاستصحاب.
ويكفي هناك (3) أن نقول : إنّ صحّة الجزء إذا لم يلحقه سائر الأجزاء صحّة تأهّلية ، بمعنى أنه لو انضمّت إليه لكان محصّلا للغرض ، وأنا الضمين بأنّ الصحّة بهذا المعنى لا ينكرها القائل بالموصلة ، ومثل هذا التأهّل يمكن فرضه في نفس مفهوم المقدّمة ، فيقال : لو لا الجبل العظيم في الطريق لكان السير فيه مقدّمة للوصول إلى ميقات الحج ، ولو لا هزال هذه الناقة لكان السير عليها مقدّمة للوصول إليه ، ولقد تشيع شطر هذا الرّجل.
والحمد لله على أمرين : براءة صاحب الفصول ممّا احتمله أوّلا في كلامه من كون الإيصال شرطا لوجود المقدّمة أو في وجوبها ، ومن اعترافه بكون الوجوب شأنيّا لا فعليّا.
وفذلكة المقام أنّ بهذا الجمع الّذي عرّفناك تحلّ هذه المعضلة ، وتكون النتيجة هو القول بخصوص الموصلة.
ويظهر مراد السيد الأستاذ من قوله : إنّ المقدّمة واجبة في لحاظ الإيصال لا بقيد الإيصال ، وتبيين جليّة الحال فيما نقله المقرّر عن الشيخ (4) ، من أن القول
--------------------
(1) مطارح الأنظار : 76.
(2) فرائد الأصول : 389 و 390.
(3) أي في مسألة الاستصحاب ( مجد الدين )
(4) الشيخ مرتضى الأنصاري ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 259 _
بالموصلة إمّا إنكار لوجوب المقدّمة ، أو قول بوجوب العلّة التامة (1) ، ولا بدّ أن يسري منها إلى جميع المقدّمات ، وتكون النتيجة هو القول المشهور ، لأنّا نختار الثاني ، ونقول بالسراية ، لكن بالمعنى الّذي عرفت لا بالمعنى الّذي فهمه المقرّر ، فأطال القول وأسهب (2) ، بل تجاوز الحدّ ، ولم يحسن الأدب ، فإن كان مراد المشهور بالسراية ما عرّفناك فالحمد لله على الوفاق.
وإن شئت زيادة توضيح لما قلناه ـ ولا أخالك في حاجة إليها ـ فعليك بقياس الإرادة التشرعية بالتكوينية بعد
التأمل فيما سلف من أن الإرادتين متحدتان بحسب الحقيقة ومتعلّقهما واحد ، لا فرق بينهما إلاّ توسيط فعل الغير في وقوع الفعل المطلوب دون الثانية ، فمن أمر عبده بضرب عدوّه كمن باشر ضربه بيده ، وكلاهما مريد للضرب وفاعل له ، ولكن هذا ضارب بيده وذاك بيد عبده.
ثم راجع نفسك فيما تزاوله من أعمالك وسوف تجدها ، إذا أردت نيل درة غالية كيف تكابد مشقّة الأسفار ، وتجوب لطلبها البراري ، وتغوص البحار ، وترى الصلاح في كل مقدّمة من مقدّمات الوصول إليها ، إذا علمت بأنها سوف يجتمع ، ويترتب عليها الوصول إليها ، بخلاف ما إذا علمت خلاف ذلك ، فإنك لا تجدها تتحرك ولو خطوة نحو واحدة منها ، لأنها لا ترى مصلحة فيها ، وأمر الغير إحدى مقدّمات وقوع الفعل ، فلا بدّ أن
يكون الحال فيه كالحال في سائرها.
فحقّ ـ إذن ـ للعلاّمة ـ العمّ ـ أن يقول : ( لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم : أريد الحج وأريد المسير الّذي يتوصّل به إلى فعل الواجب دون مالا يتوصّل به إليه ، بل الضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بمثل ذلك ، كما أنها
--------------------
(1) مطارح الأنظار : 77.
(2) أسهب : أي أكثر الكلام ( مجد الدين )
وقاية الاذهان
_ 260 _
قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيّتها له مطلقا ، أو على تقدير التوصّل به إليه ) (1) انتهى المقصود من كلامه
الآن.
وقد ركب المتأخرون عنه كلّ صعب وذلول في طلب الاعتراض عليه ، وفي مقدّمتهم الفاضل المقرّر ، وما ظفرت أكفّهم بغير مقابلة هذه الضرورة الواضحة بدعوى ضرورة حصول الإمكان من جهة المقدّمة ولو كانت غير موصلة ، وقد عرفت في الحكومة السابقة أنها حقّ ، ولكن الإمكان إنما يكون مطلوبا إذا ترتب عليه الغير وإلاّ فما يصنع الآمر به ، وما ذا غرضه فيه ، ويا حبّذا الإمكان لو كان يبرئ علّة أو يروي غلّة.
نعم يكون الإمكان من جهة واحدة مطلوبا إذا ترتّبت المقدّمات ، وحصل الإمكان من جميع الجهات ، وهذا معنى ترتّب الواجب عليه.
ومن الطريف أنّ الأستاذ ـ طاب ثراه ـ أنكر هذه الضرورة ، ورماها بالمجازفة أوّلا ، ثم لم يلبث حتى قادته السليقة المستقيمة والفطرة السليمة إلى الإذعان بها ، بل زاد على ما ادّعاه صاحب الفصول ، فقال وهذا نصه : ( نعم إنما يكون التفاوت بينهما في حصول المطلوب النفسيّ في إحداهما ، وعدم حصوله في الأخرى من دون دخل لها في ذلك أصلا ، بل كان بحسن اختيار المكلّف وسوء اختياره ، وجاز للآمر أن يصرّح بحصول هذا المطلوب في إحداهما وعدم حصوله في الأخرى ، بل من حيث إنّ الملحوظ بالذات هو هذا المطلوب ، وإنما كان الواجب الغيري ملحوظا إجمالا بتبعه كما يأتي أنّ وجوب المقدّمة على الملازمة تبعي ، جاز في صورة عدم حصول المطلوب النفسيّ التصريح بعدم حصول المطلوب أصلا ، لعدم التفات إلى ما حصل من المقدمة ، فضلا عن كونها مطلوبة ، كما جاز التصريح بحصول الغيري ، مع عدم فائدته لو التفت إليها ) (2)
انتهى.
فتراه قد صرّح بجواز التصريح بما ادّعيناه بعد ما زاد عليه عدم الالتفات إلى ما حصل ، ولا ينافيه قوله : كما
جاز التصريح إلى آخره ، لأنّ حصول الغيري في الجملة مع عدم الفائدة ممّا لا ننكره ، فتذكّر ما سبق في الحكومة ، وقد عرضت ذلك على غير واحد ممّن يدّعي الإحاطة بحقائق الكفاية ، فلم يك عندهم سوى حمل الجواز على المجاز ، وأنا أحاشي هذا الأستاذ من التمسك بمسامحة لفظية في مسألة عقليّة محضة.
وخير من ذلك أن يقال : إنّ مراده التفصيل بين صورتي الالتفات وبين عدمه فيخصّ التجويز بالثاني ، ولا يرد عليه حينئذ سوى الخروج عن مدّعى صاحب الفصول.
ثم إنّه ممّن يرى عدم سقوط الأمر بإتيان المأمور به إذا لم يحصل الغرض منه ، ويقول ببقائه ما بقي الغرض ، كما سبق في مسألة قصد القربة ، وهنا قد صرّح بعدم الفائدة في حصول الغيري مع عدم الإيصال فهلا قال بمثله في المقام ، وكفانا مئونة النقض والإبرام.
وقال ـ بعد ما تقدّم نقله بعدّة سطور ـ ما لفظه : ( لا شهادة على الاعتبار في صحّة منع المولى عن مقدّماته بأنحائها إلاّ فيما إذا رتّب عليه الواجب لو سلّم ضرورة أنه وإن لم يكن الواجب منها حينئذ غير الموصلة إلاّ أنّه ليس لأجل الاختصاص بها في باب المقدّمة ، بل لأجل المنع عن غيرها المانع من الاتصاف بالوجوب هاهنا كما لا يخفى.
مع أنّ في صحة المنع عنه نظرا ، وجهه : أنه يلزم أن لا يكون ترك الواجب حينئذ مخالفة وعصيانا ، لعدم التمكّن شرعا منه ، لاختصاص جواز مقدّمته بصورة الإتيان به ، وبالجملة يلزم أن يكون الإيجاب مختصّا بصورة الإتيان ،
وقاية الاذهان
_ 262 _
لاختصاص جواز المقدّمة بها وهو محال ، فإنه يكون من طلب الحاصل المحال ) (1).
أقول : استدلال صاحب الفصول مبني على جواز تصريح الآمر بعدم إرادة غير الموصلة من المقدمات ، لا على المنع منها ، فكأنّ هذا الكلام جملة مستقلة عنه ، وجواب عن اعتراض مقدّر ، وأيّا كان فهو حقّ (2) ، ولا بدّ لك من تسليمه بعد ما مرّ عليك من أمثلة ذلك في طيّ الحكومة بين الفريقين.
ثم نقول : إنّ المنع عن غير الموصلة منها إن كان لجهة خارجية كما في الفرد المحرّم من المقدّمات فهو خارج عن محلّ البحث قطعا ، وقد أشار إليه فيما تركنا نقله من كلامه.
وإن كان لعدم الإيصال يرد عليه جميع ما أورده على التقييد بالموصلة ، من وجود ملاك الوجوب في مطلق المقدّمة ، فكيف يجوز له المنع مع اتّحاد المناط.
وأيضا إن كان تقييد وجوب المقدّمة بالإيصال ممتنعا لتأخره رتبة ، ولم يعقل تنويع المقدّمة به ـ كما هو الحقّ ، وقد مرّ بيانه ـ فكذلك تقييد الحرام بغير الموصلة ، وإن جاز تقييد الحرام بغير الموصل فليجز تقييد الواجب بالموصل.
هذا ، على أنّ المنع عن جميع المقدّمات إلاّ الموصلة عبارة ثانية عن تقييد الواجب بالموصلة ، إذ لا فرق بحسب
الواقع بين قوله : يجب الإتيان بخصوص الموصلة ، وبين قوله : لا تأت بغيرها.
وبالجملة تسليم هذا المنع تسليم للقول بالموصلة ، وذهاب إليه من طريق بعيد ، وتعبير عنه بما يشبه الأحجية
والإلغاز.
وأما ما قرره في آخر كلامه من لزوم اختصاص الإيجاب بصورة الإتيان به ، وانتهائه إلى طلب الحاصل ، ففيه أنّ القائل بوجوب خصوص الموصلة لا يرى الإيجاب مختصا بهذه الصورة ، بل يرى ذلك بديهيّ الفساد ـ كما مرّ ـ وإنما
--------------------
(1) كفاية الأصول : 120.
(2) أي جواز تصريح الآمر على المنع من المقدّمات الباقية ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 263 _
يرى اختصاص مصداق الواجب بها ، وللمكلّف القدرة في كلّ مقدّمة على أن يوجدها بصفة الوجوب بأن يأتي بالواجب بعد إتيانها ، وأن يأتي بها بخلاف ذلك ، فإذا كان قادرا على الواجب ، وعالما بقدرته صحّ تكليفه لحصول شرط التكليف بوجود الاختيار ، والقدرة على الفعل والترك معا ، وأين هذا من طلب الحاصل المحال ؟
نعم لو كان الجواز مشروطا بنفس الاختيار كان أمرا بما لا بدّ من وجوده ، ولزم المحال.
هذا ، وقد توهم جماعة منهم هذا الأستاذ ، أنّ منشأ توهّم صاحب الفصول خلطه بين الجهة التقييديّة والتعليليّة (1).
ولا أدري كيف يصحّ نسبة هذا الخلط بل الخبط إلى مثله وهو القائل في بيان الفرق بين قسمي الواجب الغيري والنفسيّ ما نصّه : ( المطلوب من المكلّف في الواجب الغيري إنما هو إيجاده للتوصّل به إلى غيره ، على أن يكون التوصّل به إليه مطلوبا منه وإن كان حاملا على الطلب أيضا ، والمطلوب في الواجب النفسيّ إيجاده فقط ، والتوصل به إلى أمر آخر أو حصوله إن كان مطلوبا فهو أمر خارج في كونه مطلوبا منه ، وإنما هو حامل على الطلب ) إلى آخره (2).
والغرض من نقل هذا الكلام تنبيه الناظر فيه إلى أنه ـ طاب ثراه ـ لم يغفل عن الفرق بين جهتي التعليل والتقييد ، بل صرّح باجتماعهما في الواجب الغيري ، وجعل هذا الاجتماع هو الفارق بين قسيميه ، وصرح بإمكان وجود الجهة التعليلية في الواجب النفسيّ ، فكيف ينسب إليه الخلط بينهما !؟
وإن كان ثمّة خلط فهو لمنكري مقالته ، حيث خلطوا بين الغرض الأولي والثانويّ ، أو بين الغرض من الشيء
في حدّ ذاته ، وبين الغرض منه في حال اجتماعه مع غيره بالبيان الّذي عرفته.
على أنّ لقائل أن يقول : إنّ الحاكم بوجوب المقدّمة هو العقل ، وليس في أحكامه تعليل إلاّ وهو راجع إلى التقييد
، فإذا اعترف المخالف بأنّ المناط في حكم العقل الإيصال الفعلي لا الشأني فلا بدّ له من الاعتراف بالتقييد به ، فليتأمّل.
ولعلّ لذلك قال في الفصول : ( إنّ وجوب المقدّمة لمّا كان من باب الملازمة العقلية فالعقل لا يدلّ عليه زائدا على القدر المذكور ) (1).
وأورد عليه الأستاذ البارع (2) في البدائع ، بقوله : « المسألة عقلية ، والمسألة العقلية منوطة بمناط منقح عند العقل فلا بدّ من النّظر في مناط حكم العقل ، وأنه ما ذا يقتضي ؟ فما ذكره من عدم حكم العقل بوجوب غير الموصلة من غير أن يبيّن مناط حكم العقل خروج عن دأب المحصّلين ، إذ المشاجرة في المقام تنتهي إلى أنّ مناط حكم العقل هل هو موجود في مطلق المقدّمة ، أو مختص بالموصلة ؟ ) (3) إلى آخره.
وأقول عذرا : أيها الأستاذ! فصاحب الفصول لم يخرج عن مرسومك الشريف الّذي جعلت خلافه خروجا عن دأب المحصّلين ، بل بيّن مناط حكم العقل فقال : ( حيث إنّ المطلوب من المقدّمة مجرّد التوصل بها إلى الواجب وحصوله ، فلا جرم يكون التوصّل إليه وحصوله معتبرا في مطلوبيّتها فلا تكون
--------------------
(1) الفصول الغروية : 86.
(2) الشيخ حبيب الله الرشتي أستاذ الجدّ العلاّمة أعلى الله مقامه ( مجد الدين )
(3) بدائع الأفكار : 339.
وقاية الاذهان
_ 265 _
مطلوبة إذا انفكّت عنه ) (1) وقد نقله هذا الأستاذ (2) ، ولا أدري كيف غفل عنه ، فخرج بذلك عن دأب المحقّقين وهو شيخهم إذا حاولوا الاعتراض.
وخاتمة القول : أنّ كلام صاحب الفصول ليس فيه ما يؤخذ به ، وينتقد عليه إلاّ تعبيره في بعض كلامه عن اعتبار الإيصال بلفظ التقييد ، ولعلّه من باب المسامحة.
وقد عبّر عنه في أكثر كلامه بلفظ الاعتبار والإناطة ، وأما أصل المدّعى فهو الحقّ الّذي يجب به الإذعان بحكم (3) العدلين : الوجدان والبرهان ، وقد أزحت ـ والفضل لله تعالى ـ عنه كلّ شبهة وريبة ، وتركته أجلى من مرآة الغريبة (4) وإن قال الفاضل المقرّر : ( وضوح فساد هذه المقالة بمكان لا نقدر على تصور ما أفاده ، فضلا عن التصديق به ، فنحن بمعزل عن ذلك بمراحل ) (5).
ولو لا مخافة الوقوع فيما نعيته عليه من مخالفة سنة الآداب ، لقلت : إنّ هذا الفاضل مأخوذ بإقراره ، ومعذور
في إنكاره ، ولكني أعوذ بالله من أن تأخذني سورة حمية الجاهلية فأمتطي غارب العصبية.
وأما ما يترتب على هذا الأصل ويمتاز فيه القولان فقد ذكر الإمامان ـ الجدّ والعم ـ عدّة أمور ، أهمّها أمران :
أوّلهما : ما سبقت الإشارة إليه من جواز المقدّمة المحرّمة للواجب الأهمّ مطلقا ترتّب عليه الواجب أم لا ، بناء على القول بوجوب مطلق المقدّمة ،
--------------------
(1) الفصول الغرويّة : 86.
(2) كفاية الأصول : 118.
(3) الأنسب أن تكون الشهادة مكان الحكم ، أعني بشهادة العدلين بدل بحكم العدلين ، كما لا يخفى ( مجد الدين
).
(4) مثل عربي أصله : أن المرأة إذا تزوّجت في غير أهلها ولم تجد ناصحة في أحمائها عمدت إلى مرآتها فبالغت في تصفيتها وجلائها ( منه عفي عنه ).
(5) مطارح الأنظار : 75.
وقاية الاذهان
_ 266 _
وتخصيصه بما يترتب عليه بناء على تخصيص الوجوب بالموصلة.
وثانيهما : ما يأتي في المسألة الآتية ـ إن شاء الله ـ من تصحيح العبادة إذا كانت ضدّا للواجب (1).
وأما ما نسب إلى صاحب المعالم (2) من اعتباره قصد الإيصال في وجوب المقدّمة ، وما يوجد في كلامه من الحكم بعدم وجوب المقدّمة مع عدم الداعي إلى فعل الواجب ، أو وجود الصارف عنه (3) ، فينبغي حمل جميع ذلك على اعتبار نفس الإيصال ، والنسبة بين جميع ذلك وبين الإيصال وإن كانت عموما من وجه ولكن لمّا كان الغالب ملازمة القصد مع ترتب الواجب وعدمه مع عدم الداعي أو وجود الصارف حتى أنه لا يقع الانفكاك بينهما إلاّ نادرا عبّر رحمه الله عن اعتبار الإيصال بهذه العناوين ، وفي المسألة الآتية ـ إن شاء الله ـ مزيد توضيح لذلك.
بناء على ما سمعته من أنّ وجوب المقدمة غيري ينبغي أن يتأخر عن
--------------------
(1) هداية المسترشدين : 219 ، الفصول الغروية : 95.
(2) هو شيخ الإسلام والمسلمين وآية الله في الأرضين ، جمال الملّة والحق والدين ، أبو منصور حسن بن زين الدين الشهيد الثاني ، صاحب التصانيف المعروفة المشهورة ، منها : كتاب منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان.
اقتصر ـ طاب ثراه ـ في هذا الكتاب على ذكر هذين النوعين ـ أعني الصحيح والحسن ـ من الأخبار نظير كتاب الدرر والمرجان وهو تأليف العلاّمة في ذلك المعنى.
ولقد رأيت المجلّد الأول من منتقى الجمان ، وهو موجود عندنا الآن.
ومنها : كتاب معالم الدين وملاذ المجتهدين ، خرجت منه مقدّمته المشهورة المتداولة بين أهل العلم وشطر من الطهارة وغير ذلك من المصنّفات.
تولّد ـ قدّس سرّه ـ سنة 959 ، وتوفّي سنة 1011 ، فكان عمره الشريف اثنين وخمسين سنة.
فنسأل الله أن يجزيه عنّا أفضل جزاء المحسنين ( مجد الدين ).
(3) معالم الدين : 71.
وقاية الاذهان
_ 267 _
وجوب ذي مقدّمتها تأخّر المعلول عن العلّة ، والتابع عن المتبوع ، فلا يعقل تقدّمها عليه ، ولذا وقع الإشكال في
موارد يوهم خلاف ذلك ، كوجوب الغسل قبل طلوع الفجر من يوم الصوم ، ووجوب السير إلى الحج على النائي قبل هلال شهره ، وإلى الجمعة قبل ظهرها ، ووجوب حفظ الماء على المحدث العالم بعدم التمكن منه بعد دخول الوقت ـ على ما قيل ـ إلى غير ذلك مما يقف عليه المتتبّع ، ومن هذا القبيل كلّ مقدّمة لا يسعها وقت الواجب المطلق ، أو تلزم مقارنتها لأول أجزائه ، وقد ذكر للتخلّص عن هذا الإشكال وجوه :
أوّلها : ما نسبه جماعة أوّلهم الفاضل المقرّر ، إلى العلاّمة ـ الجدّ ـ ولخّصه بقوله : ( إنّ وجوب الإتيان بهذه المقدّمات ليس من حيث استلزام وجوب ذيها ، كما هو المراد بوجوب المقدّمة ، بل وجوبها نفسي وإن كانت المصلحة في وجوبها النفسيّ إمكان التوصّل بها إلى ذيها.
قال ، فيما حكي عنه : إن فسّر الوجوب الغيري بما يكون وجوب الفعل منوطا بوجوب غيره ، وحاصلا من جهة حصوله من غير أن يكون له مطلوبية بحسب ذاته ، بل تكون مطلوبيّته لأجل مطلوبية غيره ـ لم يتعقّل وجوبه الغيري قبل حصول الوجوب النفسيّ للغير ، لتفرّع حصوله على حصوله ، وتقوّمه به وإن تعلّق به أمر أصلي.
وإن فسّر الوجوب الغيري بما لا تكون المصلحة الداعية إلى وجوبه حاصلة في نفسه ، بل يكون تعلّق الطلب به لأجل مصلحة تحصل بفعل غيره لا يجوز تفويت المكلّف لها ، فيجب عليه ذلك ليتمكن من إتيانه بذلك الغير ـ أمكن القول بوجوبها قبل وجوب ذيها ، لا من جهة الأمر الّذي يتعلّق بذيها ، بل بأمر أصلي يتعلّق به ، وتكون الحكمة الباعثة على تعلّق الطلب به تحصيل الفائدة