تأليف
العلامة الشيخ ابي المجد محمد رضا النجفي الاصفهاني



  بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
  الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة على محمد وآله الطاهرين.
  أمّا بعد ، فإنّ علم أصول الفقه يعدّ من مقدّمات الاستنباط.
  وقال المحقق الخراسانيّ في تعريفه : ( صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام ، أو التي ينتهى إليها في مقام العمل ) (1).
  الأصول والأدوار التي مرّ بها هذا العلم عند الشيعة الإمامية تنقسم أدواره إلى خمسة :
  1 ـ العصر التأسيسي : لقد ألقى الإمامان محمد بن علي الباقر ، وابنه جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام ، على تلاميذهما قواعد علم الأصول وطرق الاستنباط ، فهذان الإمامان يعدّان هما المبتكران والمؤسّسان لعلم الأصول ، وجاء من بعدهما تلاميذهما ورواة أحاديثهما ، فعنهما أخذوا ، ومن أنوارهما

--------------------
(1) كفاية الأصول : 9.

وقاية الاذهان _ 2 _

  اقتبسوا.
  وأنت تجد بعض هذه القواعد الأصولية في رواياتهم الكثيرة الوفيرة المبثوثة في مطاوي كتب الأخبار ، ومجاميع الأحاديث (1) ، وهذه شواهد تاريخيّة على ذلك حيث تكشف عن وجود بذرة التفكير الأصولي عندهم.
  وإذا نظرنا نظرة فاحصة نجد أنّ أوّل من صنّف في الأصول هو هشام ابن الحكم ، وهو من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام ، إذ صنّف كتاب الألفاظ ومباحثها ، كما صرّح به ابن النديم في الفهرست (2).
  وجاء من بعده يونس بن عبد الرحمن مولى آل يقطين ، صنّف كتاب اختلاف الحديث ومسائله عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام ، وهو مبحث تعارض الحديثين ، كما ذكره الشيخ في الفهرست (3) ، والسيد الصدر في تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام (4).
  2 ـ العصر التمهيدي : وهو ـ كما قيل ـ عصر وضع البذور الأساسية لعلم الأصول (5) ، واستمرّ على نحو قرنين من الزمن ، ابتداء من عصر الغيبة سنة 260 ه‍ إلى زمن الشيخ الطوسي ( ت 460 ه‍ ).
  ومن مختصّات هذا الدور التأليف والتصنيف وشرح الأحاديث الواردة عن الأئمّة عليهم السلام في المقام ، والشيخ رحمه الله هو الحلقة الوسطى في هذا الدور والّذي يليه ، ومن أعلام هذه الفترة : الحسن بن موسى النوبختي ، ذكره ابن النديم في الفهرست ، وقال : متكلم

--------------------
(1) انظر على سبيل المثال ، المجلّد الأول من جامع أحاديث الشيعة.
(2) ص 244.
(3) ص 181 رقم 789.
(4) ص 310 ـ 311.
(5) انظر المعالم الجديدة ـ للسيد محمد باقر الصدر ـ : 87.

وقاية الاذهان _ 3 _
  فيلسوف (1).
  وقال النجاشي : شيخنا المتكلّم المبرز على نظرائه في زمانه قبل الثلاثمائة وبعدها ، له على الأوائل كتب كثيرة ، منها : ... كتاب الخصوص والعموم ... كتاب في خبر الواحد والعمل به (2).
  ومنهم : محمد بن أحمد بن الجنيد ، أبو علي الكاتب الإسكافي ( ت 381 ه‍ ).
  قال النجاشي : وجه في أصحابنا ، ثقة ، جليل القدر ، وله ... كتاب كشف التمويه والإلباس على أغمار الشيعة في أمر القياس (3).
  ومنهم : أبو منصور الصرام النيشابوري المتكلّم المشهور صاحب كتاب بيان الدين في الأصول ، وله كتاب في إبطال القياس ، ذكره الشيخ في الفهرست (4) ، والسيد الصدر في التأسيس (5).
  ومنهم : محمد بن أحمد بن داود بن علي ، أبو الحسن ( ت 361 ه‍ ).
  قال النجاشي : شيخ هذه الطائفة وعالمها ، وشيخ القميّين في وقته وفقيههم ... صنّف كتبا ... كتاب الحديثين المختلفين (6) ، وهو مبحث التعارض في الأصول.
  ومنهم : أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان ، الشيخ المفيد ( ت 413 ه‍ ).
  قال النجاشي : شيخنا وأستاذنا ـ رضي الله عنه ـ فضله أشهر من أن يوصف في الفقه ، والكلام ، والرواية ، والثقة ، والعلم ، له كتب : ... كتاب أصول

--------------------
(1) ص 225.
(2) رجال النجاشي : 63 رقم 148.
(3) رجال النجاشي : 385 و 387 رقم 1047.
(4) ص 190 رقم 852.
(5) تأسيس الشيعة : 312.
(6) رجال النجاشي : 384 رقم 1045.

وقاية الاذهان _ 4 _
  الفقه (1).
  وقال عنه السيد الصدر : تام المباحث مع صغر حجمه ، وقد رواه ـ قراءة ـ عنه الشيخ أبو الفتح الكراجكي ، وأدرجه بتمامه في كتابه كنز الفوائد (2).
  ومنهم : السيد المرتضى علي بن الحسين الموسوي ، علم الهدى ( ت 436 ه‍ ).
  قال النجاشي : حاز من العلوم ما لم يدانه فيه أحد في زمانه ... صنّف كتبا منها : ... كتاب الخلاف في أصول الفقه .. كتاب الذريعة [ إلى أصول الشريعة ] (3).
  قال السيد الصدر : كان هذا الكتاب ( الذريعة ) هو المرجع الوحيد في هذا العلم ، والّذي يقرؤه الناس إلى زمان المحقّق نجم الدين الحلّي ، فلمّا صنّف المعارج وكان كتابه سهل العبارة والمأخذ عكفت الطلبة عليه (4).
  3 ـ عصر العلم ، وهو ـ كما قيل ـ : العصر الّذي اختمرت فيه تلك البذور ، وأثمرت وتحددت معالم الفكر الأصولي ، وانعكست على مجالات البحث الفقهي في نطاق واسع (5).
  ويعدّ ابتداء هذا العصر من قبل وفاة رائده الشيخ الطوسي في عام 460 ه‍ ، واستمرّ إلى زمن أستاذ الكلّ الوحيد البهبهاني ( رضي الله عنه ) ، ومن أعلام هذا العصر :
  الشيخ الطوسي صاحب عدّة الأصول ، والشيخ سديد الدين محمود الحمصي الرازي ، ونجم الدين المحقق الحلّي ( ت 676 ه‍ ) صاحب معارج

--------------------
(1) آل عمران : 103.
(2) الأنفال : 46.
(3) الأنعام : 65.
(4) المدّثر : 49 ، 50 ، 51 ، 52.

وقاية الاذهان _ 5 _
  الأصول ، وابن أخته آية الله العلاّمة جمال الدين الحلّي ( ت 726 ه‍ ) صاحب النهاية ، وتهذيب الأصول ، والمبادئ ، وشرح غاية الوصول في علم الأصول ، وغيرها.
  والشهيد الأول الّذي استشهد ( عام 786 ه‍ ) والشهيد الثاني الّذي استشهد ( عام 966 ه‍ ).
  وفي أواخر هذه الدورة اشتدّ اختلاف الأخباريين مع الأصوليّين ، وبرزت شخصيّات علميّة أخباريّة كبيرة كان لها دورها حينئذ ، ويعدّ ابتداء هذا العصر من أواسط القرن الخامس إلى أواخر القرن الثاني عشر.
  4 ـ عصر الكمال العلمي ، وابتداؤه على يد الوحيد البهبهاني رحمه الله إلى زمن تلاميذ المحقّق الخراسانيّ رحمه الله إذ استمرت ـ تقريبا ـ قرنين من الزمان.
  ومن مختصات هذا العصر غلبة الأصوليّين على الأخباريّين على يد رائد هذه المدرسة وهو الوحيد البهبهاني ( ت 1206 ه‍ ) صاحب رسالة الاجتهاد والأخبار ، ومن أعلام هذا الدور :
  السيد مهدي الطباطبائي بحر العلوم ( ت 1212 ه‍ ).
  وجدّنا من طريق الأم الشيخ جعفر كاشف الغطاء ( ت 1228 ه‍ ).
  والميرزا أبو القاسم القمي صاحب القوانين ( ت 1231 ه‍ ).
  وجدّنا العلاّمة التقي الشيخ محمد تقي الأصفهانيّ ( ت 1248 ه‍ ) صاحب الهداية.
  وشريف العلماء المازندراني ( ت 1245 ه‍ ) وعمّنا الأكرم الشيخ محمد حسين الأصفهانيّ ( ت 1216 ه‍ ) صاحب الفصول ، والشيخ الأعظم الأنصاري ( ت 1281 ه‍ ) والمحقق الخراسانيّ ( ت 1329 ه‍ ) ومن بعده تلاميذه المشهورون ، منهم :

وقاية الاذهان _ 6 _
  جدّنا أبو المجد الشيخ محمد رضا النجفي الأصفهانيّ ( ت 1362 ه‍ ) صاحب الوقاية ، والمحقق الأصفهانيّ صاحب نهاية الدراية ( ت 1361 ه‍ ) والمحقق العراقي ( ت 1361 ه‍ ) صاحب مقالات الأصول ، وصاحب التقريرات المشهورة المحقق النائيني ( ت 1355 ه‍ ).
  5 ـ عصر التهذيب والتلخيص والتبويب.
  صار اليوم علم الأصول علما واسعا جدّاً بحيث كاد أن يهلك طالبه فيه ، وله أبحاث ليس فيها ثمرة عمليّة في علم الفقه ككثير من مقدّماته وتعريفاته ، فعلى الأصولي ـ اليوم ـ تهذيب علم الأصول من الزوائد ، وعلى طالب علم الأصول أن ينظر إلى الأصول بعنوان علم آلي لا غير ، شأنه آليته ، وهي إيصال الطالب إلى الاستنباط وعونه عليه.
  ولعلّ بذور هذه الدورة انتشرت من العلاّمة السيد محمد الفشاركي الأصفهانيّ ( 1253 ـ 1316 ) المدرّس أوّلا بسامرّاء ، وثانيا في النجف الأشرف ، ثم من تلميذيه ، وهما جدّنا العلاّمة صاحب الوقاية ( 1287 ـ 1362 ) والعلاّمة المؤسّس الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي ( 1276 ـ 1355 ) صاحب درر الفوائد ، وتبعهم في ذلك بعض أعلام العصر ، منهم : فقيد الإسلام الحاج آغا حسين الطباطبائي البروجردي (قدس سره) في تقريراته ـ المسماة ب ـ نهاية الأصول.
  والعلاّمة السيد محمد حسين الطباطبائي رحمه الله صاحب الميزان في حاشيته على الكفاية.
  والعلاّمة الشيخ محمد رضا المظفّر في كتابه أصول الفقه الرائج في الحوزات العلميّة بين الطلبة.
  والعلاّمة الشهيد السيد محمد باقر الصدر في المعالم الجديدة وحلقاته الأصولية.

وقاية الاذهان _ 7 _
  والعلاّمة السيد محمد الطهراني الشهير بالعصار في ( بركات الرضوية في تلخيص الأصول عن الزوائد والفضول ).
  والشيخ غلام حسين التبريزي نزيل خراسان في ( أصول مهذبة ).
  والإمام السيد روح الله الموسوي الخميني في تقريراته المسمّاة بـ ( تهذيب الأصول ).
  أثمرت تلك البذور من أواسط القرن الرابع عشر ، وتدوم إلى الآن ، وتؤتي أكلها كلّ حين.
  هذه الأدوار الأصولية عند الإمامية على سبيل الاختصار والإجمال ، والتفصيل يطلب من محلّه.
  تنبيه :
  قال السيوطي في الأوائل : أوّل من صنّف في أصول الفقه الشافعي بالإجماع.
  أقول : إن أراد السيوطي أوّل من صنّف في الأصول مطلقا من الخاصّة والعامّة ، فهو مردود بقول العلاّمة الصدر في تأسيس الشيعة حيث يقول :
  وحينئذ فقول الجلال السيوطي في كتاب الأوائل : أول من صنّف في أصول الفقه الشافعي بالإجماع ، في غير محلّه إن أراد التأسيس والابتكار ـ كما مرّ في عصر التأسيس ـ.
  وإن أراد المعنى المتعارف من التصنيف ، فقد تقدّم على الإمام الشافعي في التأليف فيه هشام بن الحكم ـ المتكلّم المعروف ـ من أصحاب أبي عبد الله الصادق عليه السلام (1).

--------------------
(1) تأسيس الشيعة : 310.

وقاية الاذهان _ 8 _
  وإن أراد أول من صنّف من العامة فقط فهو أيضا محلّ ترديد.
  قال الأستاذ الفقيد محمود الشهابي الخراسانيّ في ذيل قول السيوطي : ولكني لست على يقين من ذلك ، بل المحتمل عندي أن يكون أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم ـ وهو أول من لقّب بـ ( قاضي القضاة ) ـ سابقا على الشافعي بتأليف الأصول لأن القاضي توفي سنة ( 182 ه‍ ق ) والشافعي مات في سنة ( 204 ه‍ ق ) وقد قال ابن خلّكان في ترجمته : إنّ أبا يوسف أوّل من صنّف في أصول الفقه وفق مذهب أستاذه أبي حنيفة.
  وهكذا يحتمل جدّاً أن يكون محمد بن الحسن الشيباني ـ فقيه العراق الّذي لمّا مات هو والكسائي في يوم واحد بـ ( الري ) وكانا ملازمين للرشيد في سفره إلى خراسان ، قال الرشيد في حقّه : دفنت الفقه والأدب بـ ( رنبويه ) ـ مقدّما على الشافعي في تأليف الأصول ، لأنّ الشيباني توفّي سنة ( 182 ـ أو ـ 189 ه‍ ق ) وقد صرّح ابن النديم في الفهرست بأن الشيباني من مؤلّفاته الكثيرة تأليفا يسمّى بـ ( أصول الفقه ) وتأليفا سمّاه ( كتاب الاستحسان ) وآخر باسم ( كتاب اجتهاد الرّأي ).
  على أنّ الشافعي ـ بتصريح من ابن النديم ـ لازم الشيباني سنة كاملة ، واستنسخ في المدّة لنفسه من كتب الشيباني ما استحسن ، وقد أذعن الشافعي نفسه بذلك وأعلن ، فقال من غير نكير : كتبت من كتب الشيباني حمل بعير ، وكيف كان ، فإن لم يحصل اليقين بتقدّم القاضي والشيباني على الشافعي في التأليف فلا أقلّ من أن لا يحصل لنا يقين بتقدّمه عليهما ، فالحكم الباتّ بكون الشافعي أوّل من صنّف في أصول الفقه كما ترى (1) انتهى.
--------------------
(1) فوائد الأصول ( المقدمة ) : 7 ـ 8.

وقاية الاذهان _ 9 _
بين يدي الوقاية
  قال العلاّمة الطهراني في تعريف الوقاية : ( ... وقاية الأذهان والألباب ولباب أصول السنّة والكتاب ، في أصول الفقه ، كبير جدّاً ، في غاية الحسن وبداعة الأسلوب ورشاقة البيان ، والحق أنّه أدخل في تأليف هذا الكتاب على علم الأصول نوعا من التجدّد في التبويب والتهذيب والنمط ) (1).
  أقول : صنّف العلاّمة الجدّ ، الوقاية ما بين عشر الثلاثين إلى عشر الخمسين من القرن الرابع عشر ، وطبع في ذاك الزمان أجزاء منها ببلدة أصبهان.
  وللوقاية مختصّات نشير إلى جملة منها ، والباقي مفوّض إلى القارئ الفطن.
  الأوّل : لمّا كان مصنّفها أديبا كبيرا ، صارت مباحث ألفاظها مشحونة بالتحقيقات والتدقيقات التي لم تجدها في كثير من الكتب الأصولية ، وللمصنّف فيها إبداعات ومتفرّدات حيث انه جعل رسالة مستقلّة في مقدمات الأصول وهي : سمطا اللئال ـ أو ـ جليّة الحال في مسألتي الوضع والاستعمال.
  ومن متفرداته : جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.
  قال مخاطبا لأستاذه صاحب الكفاية : وقد ذكر هذا الأستاذ في بعض كلامه : إنه لا يمكن استعمال اللفظ في معنيين إلاّ إذا كان المستعمل أحول العينين ، وما هذا إلاّ خطابة حسنة ، ولكن أحسن منها أن يقال : إنّه يكفي في ذلك أن لا يكون ذا عين واحدة ، فإذا كان ذا عينين أمكنه استعمال العين في معنيين (2).
  ولمّا بلغ ذلك المحقق العراقي ، قال في مقالاته الأصولية : ( ثم إن بعض أعاظم العصر بالغ في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، واستشهد

--------------------
(1) نقباء البشر 2 : 752.
(2) راجع : صفحة 87 من هذا الكتاب.


وقاية الاذهان _ 10 _
  بأبيات وعبارات من القصص والحكايات على مدّعاه ، وذلك ليس إلاّ من جهة خلط المبحث ... ) (1).
  وأجاب عنه المصنّف العلاّمة في رسالة مفردة سمّاها بـ ( إماطة الغين عن استعمال العين في معنيين ) (2).
  وأرسل المصنّف نسخة منها إلى المحقق العراقي ، ونسخة أخرى إلى بيت صاحبه العلاّمة المؤسّس الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي ، حيث وافاه الأجل قبل تصنيف الرسالة بأربع سنين ، ونسختها موجودة عند العلاّمة الفقيد الشيخ مرتضى الحائري حيث رآها العلاّمة السيد موسى الشبيري الزنجاني ـ مدّ ظله ـ كما ذكره لي ، والنسخة التي بخط المصنّف موجودة عندنا بتمامها ، فرغ منها سابع عشر شهر شعبان سنة 1359 ه‍ ق ، وقد طبعت في ختام رسالة في الوضع والاستعمال (3) للعلاّمة الشيخ محمد حسن القديري من غير تعرض لاسمها ، ونقلها من خط والده العلاّمة الشيخ علي القديري من أعلام تلاميذ المصنّف ويحدّثنا المصنّف عن علّة تأليفها : ... والّذي دعاني إلى تجديد القول أنّ عالم العصر وعلاّمة الزمان والعلم المشار إليه في العلمين وغيرهما بالبنان ، الراقي مدارج العلم أعلى المراقي صاحبي الشيخ ضياء الدين العراقي دام فضله ، شرّفني بنقل مقالتي في كتاب المقالات ، وقال ما نصّه : ( ثم إنّ بعض أعاظم العصر ... وهذا حكومة بيني وبين المانعين ).
  وقبل هذا القول ـ جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ـ المؤسّس الحائري حيث قال في درره ما نصّه : ( اختلف في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ... على أقوال لا يهمّنا ذكرها بعد ما تطّلع على ما هو الحق

--------------------
(1) مقالات الأصول 1 : 48.
(2) راجع صفحة 612 من هذا الكتاب.
(3) ص 73 ـ 81.

وقاية الاذهان _ 11 _
  في هذا الباب ، والحق الجواز ، بل لعلّه يعدّ في بعض الأوقات من محسّنات الكلام ... ) (1).
قال المصنّف في ( إماطة الغين ) عن قبول المؤسّس الحائري لهذا القول : ( عرضت ذلك على عدّة من علية أهل العلم وزعمائه قابلني بالقبول عدّة من أعلامهم ، أكتفي بذكر واحد منهم لأنه كما قيل : ( ألف ويدعى واحدا ) أعني واحد الدهر وفريده ، وعلاّمة الزمان وحفيده ، صاحبي الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري بوّأه الله من الجنان في خير مستقر ، كما حلّي عاطل جيد العلم بغالي الدرر ، فإنه ذهب إلى ما ذهبت إليه بعد طول البحث في ذلك ) (2).
  وبعد المصنّف قبل بعض الأعلام هذه المقالة منهم :
  آية الله العظمى المحقق الخوئي ، يقول : ... فالمتحصّل من المجموع أنّه لا مانع من استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد (3) واستدرك عليه بعد صفحة : نعم هو مخالف للظهور العرفي فلا يمكن حمل اللفظ عليه بلا نصب قرينة ترشد إليه (4).
  ومنهم : آية الله المحقق السيد علي الفاني ، حيث يقول : ( فتلخّص من جميع ما ذكرنا جواز استعمال لفظ واحد في غير واحد من المعاني ، كما ظهر أنّ استشهاد شيخ مشايخنا النجفي ( قدس سره ) لجواز الاستعمال بأبيات عربيّة ، واستعمالات أدبيّة الّذي سمّاه بعض الأعاظم رحمه الله بالاستشهاد بأبيات وحكايات ، إنّما هو استدلال لإمكان الشيء بوقوعه ... ) (5).
  ومنهم : العلاّمة الشيخ محمد حسن القديري ، قال : ( فتحصّل أنّ استعمال

--------------------
(1) درر الفوائد 1 : 55 ، الطبعة ، الحديثة.
(2) راجع صفحة 607 من هذا الكتاب.
(3) محاضرات في أصول الفقه 1 : 208 و 210.
(4) محاضرات في أصول الفقه 1 : 208 و 210.
(5) آراء الأصول 1 : 237.

وقاية الاذهان _ 12 _
  اللفظ في أكثر من المعنى الواحد جائز وحقيقي ) (1).
  ومن متفرّداته : أنّ جميع الاستعمالات فيما وضع له ، حتى المجاز منها ، وأنكر تعريف المجاز بأنه وضع اللفظ في غير ما وضع له من أصله ، وأقام على دعواه البرهان والوجدان ، وأوّل من قبل هذا القول منه العلاّمة الكبير الشيخ عبد الله الگلپايگاني من أعاظم تلاميذ المحقق الخراسانيّ.
  يحدّثنا المصنّف عن كيفيّة قبوله : ( إنّي لمّا ألقيت هذا المذهب على جماعة من الطلبة كانوا يقرءون عليّ كتاب الفصول في النجف الأشرف سنة 1316 ه‍ لم يلبث حتى اشتهر ذلك منّي في أندية العلم ومجالس البحث ، فتلقّته الأذهان بالحكم بالفساد ، وتناولته الألسن بالاستبعاد ، وعهدي بصاحبي الصفيّ ، وصديقي الوفي ، وحيد عصره في دقّة الفهم واستقامة السليقة وحسن الطريقة ، العالم الكامل الربّاني ، الشيخ عبد الله الجرفادقاني ، رحم الله شبابه ، وأجزل ثوابه ، سمع بعض الكلام عليّ ، فأدركته شفقة الأخوّة ، وأخذته عصبية الصداقة ، فأتى داري بعد هزيع من الليل ، وكنت على السطح ، فلم يملك نفسه حتى شرع بالعتاب وهو واقف ـ بعد ـ على الباب وقال : ما هذا الّذي ينقل عنك ويعزى إليك ، فقلت : نعم وقد أصبت الواقع وصدق الناقل ، فقال : إذا قلت في شجاع : إنه أسد ، فهل له ذنب ؟ فقلت له مداعبا : تقوله في مقام المدح ، ولا خير في أسد أبتر ، ثم صعد إلي وبعد ما أسمعني أمضّ الملام ألقيت عليه طرفا من هذا الكلام ، فقبله طبعه السليم ، وذهنه المستقيم ، فقال : هذا حق لا معدل عنه ولا شك فيه ، ثم كتب في ذلك رسالة سمّاها : فصل القضاء في الانتصار للرضا ، ومن ذلك اشتهر القول به ، وقبلته الأذهان الصافية ، ورفضته الأفهام السقيمة ) (2).

--------------------
(1) رسالة في الوضع والاستعمال : 73.
(2) راجع : صفحة 114 ـ 115 من هذا الكتاب.

وقاية الاذهان _ 13 _
  أقول : قال العلاّمة الطهراني في تعريف هذه الرسالة : ( فصل القضاء للانتصار للرضا ، رسالة ألّفها الشيخ عبد الله الگلپايگاني ( 1285 ـ 1327 ) مؤلّف التبر المسكوك وغيره ، انتصر فيه للشيخ أبي المجد محمّد الرضا الشهير بآقا رضا الأصفهانيّ من إنكاره المجاز رأسا ، وأنّ جميع الاستعمالات فيما وضع له من العرب ، وذكر تفصيله في كتابه ( جلية الحال في معرفة الوضع والاستعمال ) مطبوع ) (1).
  ومن الذين قبلوا من المصنّف هذا القول فقيد الإسلام الحاج آغا حسين الطباطبائي البروجردي ، فقال : ( والحاصل أنّ اللفظ يستعمل دائما في نفس ما وضع له ، غاية الأمر أن المراد الجدّي إمّا أن يكون نفس الموضوع له حقيقة ، وإمّا أن يكون عينه أو من أفراده ادّعاء وتنزيلا ) (2).
  ومنهم : العلاّمة الإمام السيد روح الله الموسوي الخميني ، فقال في الأمر الخامس في معنى المجاز ما نصّه : ( ثمّ إنّي أرى خلاف الإنصاف أن أرتضي رأيا في هذا المقام غير ما وقفت على تحقيقه من العلاّمة أبي المجد الشيخ محمد رضا الأصفهاني ( قدس سره ) في وقايته ، واستفدت منه شفاها ، وملخّص ما أفاده .. ) (3).
  وقال نجله العلامة السيد مصطفى الخميني : ( الطريقة الثانية ما أفاده السكاكي في خصوص الاستعارات ، وهو السبب لانتقال الشيخ أبي المجد محمد رضا الأصفهاني رحمه الله في الوقاية إلى تهذيبه وتوسعته فهذّبه ... وإلى هذه المقالة خضع جمع من الأعلام كالوالد والسيد البروجردي ، وهو ممّا لا ينكر بنحو

--------------------
(1) الذريعة 17 : 234.
(2) نهاية الأصول 1 : 26.
(3) تهذيب الأصول 1 : 44 ، الطبعة الحديثة.

وقاية الاذهان _ 14 _
  الإجمال بالضرورة ) (1).
  ومنهم : العلاّمة الشيخ محمد حسن القديري ، فقال في رسالته في الوضع والاستعمال : ( وحيث انّ هذا الكلام مرضيّ عندي أيضا أنقل ما أفاده من وقايته أداء لحقّه وحقّ والدي رحمة الله عليهما ) (2).
  ومن متفرداته : حجيّة قول اللغوي ، قال المصنّف : ( وكيف يعدّ الرازي والقرشي من أهل صناعة الطب ، ولا يعدّ الخليل وأبو عمرو بن العلاء من أهل صناعة اللغة! ثم إنّ أئمّة هذا الفن هم الأئمّة المقتدى بهم في علمي النحو والصرف وغيرهما من العلوم العربية ، فكيف صار كلامهم حجّة في تلك العلوم دونها !؟ وبأي وجه لا يصدّق الخليل وهو الوجه والعين فيما ينقله عنه صاحب الكتاب من وجوه الإعراب ؟ هذا هو الحيف ، إلاّ أن يمنع هذا المانع حجيّة أقوالهم في جميعها ، فتكون هذه الطامّة جناية على علوم العربيّة عامة ) (3).
  وعلّق على أبي عمرو بن العلاء بقوله : ( الإمام المعروف أحد السبع الّذي اتفق الأصحاب على صحّة قراءته ، فكيف يؤتمن على كلام الله تعالى ولا يؤتمن على كلام العرب ) (4) ؟!.
  الثاني من مختصات الوقاية : قلم مصنّفها العربي الّذي لا يكاد يشمّ منها رائحة العجمة ، حتى أنه انتقده بعض الأعاجم لهذه الجهة.
  يحدّثنا المصنّف عن ذلك ، فيقول : ( بلغني أنّ بعض فضلاء العجم اطلع على أجزاء من هذا الكتاب ، فقرّضه أبلغ تقريظ ، واثني عليه أحسن الثناء ، ولكنّه انتقد عليه بعبارة فارسيّة ، محصّلها : أنّ عبارته عريقة في العربية لا تشبه متعارف
--------------------
(1) تحريرات في الأصول 1 : 88 ـ 89.
(2) رسالة في الوضع والاستعمال : 55.
(3) راجع : صفحة 510 من هذا الكتاب.
(4) راجع : صفحة 510 من هذا الكتاب.

وقاية الاذهان _ 15 _
  الكتب الأصولية ، لك العتبى أيها الفاضل فلك عليّ يد لا أجحدها ، ونعمة أشكرها ، وذلك منّي طبيعة لا تطبّع ، وجري على ما تعوّدته لا تكلّف ، وإنّي لم أتعوّد منذ نعومة الأظفار ومقتبل الشباب إلاّ هذا النمط من الكتابة ( وصعب على الإنسان ما لم يعوّد ) على أنّ هذا عند ذوي الآداب لا يحطّ من قدر الكتاب بل يزينه ولا يشينه ، ويغلي قدره ولا يرخصه.

وإذا  محاسني  التي  أزهو iiبها      ii

صارت مثالب لي فما ذا أصنع      ii
  وشتان بين هذا الفاضل وبين أحد علماء العراق ، وقد بلغني قوله فيه : هو أوّل كتاب في فن الأصول ملؤه دقائق عجمية بعبارات عربيّة (1).
  الثالث من مختصات الوقاية التي زادها الله شرفا : أنّ مصنّفها من أجلّة تلامذة العلاّمة السيد محمد الفشاركي الأصفهانيّ ، ومن الذين حضروا دروس السيد في سامراء والغري الشريف.
  ومن الأسف أنّ آثار السيد لم تصل إلينا حتى وريقة منها ، فهذا الكتاب يصحّ أن يعدّ من لباب أفكاره وآثاره حيث قال المصنّف في أوّل كتابه : ترجمة مختصرة لسيدنا الأستاذ السيد محمد الفشاركي ... وأما وصف محاسن خلاله ومحامد أقواله وأحواله وأفعاله وما منحه الله من العلم والتقوي وحسن البيان وطلاقة اللسان ، فإنه يدع سحبان وائل وهو أعيا من بأقل ، وهذا أمر أعترف بعجزي عنه ، فليعذرني الناظر وما أساء من اعتذر ، ولو لا خوف تسرّع القرّاء إلى الإنكار لذكرت بعضها ، ولكن صدور الأحرار قبور الأسرار ، وحسبك منها ما تراه في خلال هذا الكتاب من غرر فوائده ، ومن رأي من السيف أثره فقد رأى أكثره ، واسأل الله أن يجزيه عنّا أفضل جزاء المحسنين ، ويحشره مع أجداده الطاهرين ،
--------------------
(1) راجع : صفحة 603 من هذا الكتاب.

وقاية الاذهان _ 16 _
  وأنا أعبّر عنه بالسيد الأستاذ أو سيدنا الأستاذ (1).
  الرابع : صار الكتاب من ابتداء تأليفه مصدرا للتدريس والتحقيق والتحشية ، ومن المحشّين على الوقاية نجل المصنّف والدنا العلاّمة الفقيد آية الله العظمى الحاج الشيخ مجد الدين ( مجد العلماء ) النجفي الأصفهاني رحمه الله ( 1326 ـ 1403 ه‍ ) وأنت تجد حاشيته الموجزة على مقدّمة الوقاية المسمّاة بـ ( سمطا اللئال ) وعلى متن ( الوقاية ) في الهامش مع رمز ( مجد الدين ).
  ومن المحشّين العلامة الفقيد الشيخ يحيى الهرندي الشهير بـ ( الفاضل الهرندي ) ( ت 1369 ) (2).
  ومن المحشين العلامة الفقيد الشيخ علي القديري ( ت 1407 ه‍ ) (3) وقد تعرّض لبعض أبحاثه نجله العلامة الشيخ محمد حسن القديري في رسالته في الوضع والاستعمال فراجع.
  تنبيه : عبّر المصنّف في كتابه عن بعض أساتيذه بالوصف.
  فقد عبّر عن أستاذه السيد محمد الفشاركي بسيدنا الأستاذ أو السيد الأستاذ ، وعبّر عن أستاذه المحقق الخراسانيّ بالشيخ الأستاذ ، وبعضا بصاحب الكفاية ، وعبّر عن أستاذه السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي ببعض أساتيذنا ، وعبّر عن صديقه الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري بصاحبنا العلاّمة.
--------------------
(1) راجع الصفحات 143 ـ 146.
(2) ذكره العلاّمة المهدوي في ( تاريخ علمي واجتماعي أصفهان در دو قرن أخير ) 2 : 354 وفي ( دانشمندان وبزرگان أصفهان ) : 456.
(3) ذكره في ( تاريخ علمي واجتماعي أصفهان در دو قرن أخير ) 2 : 328.

وقاية الاذهان _ 17 _
  هذا وقد نقل المصنّف في الكتاب بعض مناظراته مع بعض أساتيذه ، يحدّثنا عن إحداها ، فيقول : وعهدي بمجلس حافل اجتمعت فيه بخدمة الشيخ الأستاذ صاحب الكفاية ( طاب ثراه ) وأنا إذ ذاك غلام قد بقل خدّي أو كاد ، فجرى حديث هذه المسألة وكان من أشدّ المنكرين للمقدّمة الموصلة ، وبعد بحث طويل أوردت عليه أمثال هذه الأمثلة ، فلم يكن جوابه إلاّ قوله : إنّ معك الوجدان ومعي البرهان ، فقلت : إن أقصى مدارج العلم أن تنتهي مسائله إلى الوجدان ، فإذا سلّمته وعجزت عن الجواب ـ ولا أعجز إن شاء الله ـ فليس البرهان إلاّ شبهة في مقابلة البداهة ، فسكت رحمه الله ولم ينبس بنت شفة ، واشتهر بين أهل النّظر أمر هذه المناظرة (1).
  وأنت إذا تأملت وتفحّصت أوراق الكتاب تجد مزايا فريدة اختص بها مصنّفه ومصنّفه.
  تذكرة : قال المصنّف في ديوانه المطبوع وقد بعث بكتاب الوقاية من تصنيفه في علم الأصول إلى بعض أصحابه وكتب على غلافه :
وقـيت  كـلّ iiالرزايا      ii

لـما  أتـتك iiالـوقاية      ii

خـذها ودع ما iiسواها      ii

فإنّ فيها ( الكفاية) (2)      ii

--------------------
(1) راجع صفحة 264 من هذا الكتاب.
(2) يريد ( كفاية الأصول ) للمولى محمد كاظم الآخوند الخراسانيّ.

وقاية الاذهان _ 18 _
إن ( الهداية) (1) منّا      ii

بـداية ونـهاية (2)      ii
  تقدير وشكر :
  يجب عليّ أن أشكر من سعى لتخريج هذا الكتاب ثانيا بهذه الصورة الزاهية ، وهم : العلامة الفقيه آية الله الحاج السيد مصطفى المهدوي الأصفهانيّ (3) مد ظله ، وهو من أعلام تلاميذ المصنّف ، والمجازين منه.
  وحجج الإسلام أصحاب مؤسّسة آل البيت ، أيّدهم الله لا سيما من حجة الإسلام المحقق الشيخ محمد الباقري حفظه الله ، وعلى رأسهم عميدها العلاّمة المحقق حجة الإسلام السيد جواد الشهرستاني دامت بركاته ، حيث حقّقوا وطبعوا ونشروا الكتاب للمرّة الثانية ، فجزاهم الله خيرا.
  وولدي العزيز حجة الإسلام الشيخ محمد هادي النجفي حفظه الله تعالى حيث بذل من جهده الكثير لطبع هذا الكتاب الشريف.
  تمّت هذه المقدّمة على يد العبد الشيخ مهدي مجد الإسلام النجفي في ليلة الجمعة الحادي عشر من شهر صفر المظفر سنة 1409 ه‍ ، ببلدة أصفهان صانها الله تعالى عن الحدثان ، والحمد الله أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا.

--------------------
(1) يريد ( هداية المسترشدين في شرح معالم الدين ) لجدّه الشيخ محمد تقي الأصفهاني.
(2) ديوان أبي المجد : 146.
(3) لقد سبقت كتابة المقدّمة وفاته ( رضوان الله تعالى عليه ).

وقاية الاذهان _ 19 _
ترجمة المصنّف
  من كتاب ( المفصل في تراجم الأعلام ) للعلامة المحقق السيد أحمد الحسيني.
  العلاّمة المتبحر في الفنون والعلوم ، الأديب الكبير ، والشاعر القدير ، آية الله الشيخ أبو المجد محمد رضا بن الشيخ محمد حسين بن الشيخ محمد باقر بن الشيخ محمد تقي بن محمد رحيم بيك الأيوان كيفي الرازي الأصبهانيّ المعروف بالمسجد شاهي.
  عشيرته وبيته :
  أصله من عشيرة ( استأجلو ) وجدّه الأعلى الحاج محمد رحيم بيك ، المتوفى سنة ( 1217 ه‍ ) انحدر من هذه العشيرة ، وقيل : هو أول من سكن أصبهان.
  كان آباء أبي المجد من العلماء المشاهير ، والفضلاء ذوي الأقدار والمكانة ، كما أنّ أمّه العلوية ( السيدة ربابة سلطان بيكم ) بنت السيد محمد علي المعروف بآقا مجتهد بنت السيد محمد باقر الأصفهاني المعروف بحجّة الإسلام الشفتي من بيت السيادة والشرف الجامعين للعلم والفضيلة.

وقاية الاذهان _ 20 _
  وأمّ أبيه العلويّة بنت السيد صدر الدين العاملي ، وأم جدّه الشيخ محمد باقر ، هي ( نسمة خاتون ) بنت الفقيه الأكبر الشيخ جعفر الجناجي النجفي صاحب كتاب ( كشف الغطاء ) وأبوه الشيخ محمد حسين الأصبهاني المتوفى سنة ( 1308 ه‍ ) من وجوه تلامذة الإمام المجدّد الميرزا محمد حسن الشيرازي.
  وجده الشيخ محمد باقر الأصبهاني المتوفى سنة ( 1301 ه‍ ) من أعاظم علماء أصبهان والفقهاء في عصره.
  وجدّه الأعلى الشيخ محمد تقي الأصبهانيّ المتوفى سنة ( 1248 ه‍ ) معروف بالتحقيق في الفقه والأصول وهو صاحب الكتاب المعروف ( هداية المسترشدين في شرح معالم الدين ).
  قال الشيخ آقا بزرگ الطهراني : ( آل صاحب الحاشية ) بيت علم جليل في أصفهان ، يعدّ من أشرفها وأعرقها في الفضل ، فقد نبغ فيه جمع من فطاحل العلماء ورجال الدين الأفاضل ، كما قضوا دورا مهما في خدمة الشريعة ، ونالوا الرئاسة العامة ، لا في أصفهان فحسب ، بل في إيران مطلقا ، والمترجم له ـ يقصد الشيخ محمد رضا ـ آخر عظماء هذه الأسرة الذين دوي ذكرهم ، واجتمعت الكلمة عليه ، وإلاّ ففيهم اليوم علماء ، وفضلاء ، وأجلاّء ، لكن لا يقاسون بصاحب العنوان ومن سبقه.
  مولده ونشأته :
  ولد بالنجف الأشرف قبل ظهر يوم الجمعة عشرين شهر محرم سنة ( 1287 ه‍ ) (1) وبها نشأ نشأته الأولى ، وتعلّم القراءة والكتابة.

--------------------
(1) قال أبو المجد في تاريخ ولادته :
وإذا  عددت  سنّي  ثم نقصتها      ii

زمن الهموم فتلك ساعة مولدي      ii


وقاية الاذهان _ 21 _
  وفي التاسعة من عمره ذهب به أبوه إلى أصبهان فقرأ النحو وكتاب ( نجاة العباد ) و ( معالم الأصول ) و ( شرح اللمعة ) على السيد إبراهيم القزويني ، و ( الرسائل ) و ( الفصول ) وعلم العروض والحديث على أبيه وآخرين.
  وفي شهر ذي الحجة من سنة ( 1300 ه‍ ) عاد إلى النجف بصحبة أبيه وجدّه الشيخ محمد باقر الأصبهانيّ ، ودرس بها على علمائها الاعلام ، فتتلمذ في الفقه والأصول على الميرزا حبيب الله الرشتي ، والحاج آقا رضا الهمداني ، والمولى محمد كاظم الآخوند الخراسانيّ ، والسيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي ، والسيد إسماعيل الصدر ، وشيخ الشريعة الأصبهانيّ.
  ولما هبط النجف السيد محمد الفشاركي الأصبهانيّ مهاجرا من سامراء صحبه شيخنا صاحب الترجمة ، ولازمه فاستفاد منه كثيرا ، وكان كثير الثناء عليه بحيث كان يعتقد بأنّ استفادته منه على قصر المدة فوق ما حصل عليه من الآخرين ، وبعد وفاة أستاذه هذا لم يدرس عند شيخ آخر.
  وأخذ علوم الحديث والرّجال والدراية عن الميرزا حسين النوري صاحب ( المستدرك ) والسيد مرتضى الكشميري.
  وقرأ العلوم الرياضية وجانبا من علم الفلسفة على الميرزا حبيب الله الطهراني الشهير بذي الفنون.
  وتخرج في الأدب والشعر على شاعر عصره الشهير السيد جعفر الحلي ، وساجل كبار شعراء العراق حتى برع في الشعر العربي ، ونظم فيه فأجاد كل الإجادة.
  ثقافته العالية :
  كان شيخنا أبو المجد يتمتع بذكاء وعبقرية وحافظة ممتازة ، وفي أيام دراسته جدّ في التحصيل ، واجتهد في اكتساب العلوم والمعارف الدينية والزمنية ،

وقاية الاذهان _ 22 _
  وخالط في النجف وأصبهان وكلّ مدينة حلّ بها كبار العلماء والمجتهدين وذوي المكانة العلمية العالية ، بالإضافة إلى مواهبه الجيدة التي منحه الله تعالى إياها ، فكانت حصيلتها ثقافة عالية ، وإحاطة بالعلوم الإسلامية المتداولة ومعرفة تامة بالعلوم العصرية ، واعترف له بالتقدم كل من ترجمه وعاصره وعاشره.
  قال الشيخ آقا بزرگ الطهراني : ( جدّ في الاشتغال في دوري الشباب والكهولة حتى أصاب من كل علم حظا ، وفاق كثيرا من أقرانه في الجامعية والتفنن ، فقد برع في المعقول والمنقول ، وبرز بين الاعلام متميّزا بالفضل ، مشارا إليه بالنبوغ والعبقرية ، وذلك لتوفّر المواهب والقابليات عنده ، حيث خصّه الله بذكاء مفرط ، وحافظة عجيبة ، واستعداد فطري ، وعشق للفضل ، وقد جعلت منه هذه العوامل إنسانا فذا وشخصية علمية رصينة تلتقي عندها الفضائل ).
  ( كان مجتهدا في الفقه ، محيطا بأصوله وفروعه ، متبحرا في الأصول ، متقنا لمباحثه ومسائله ، متضلّعا في الفلسفة خبيرا بالتفسير ، بارعا في الكلام والعلوم الرياضية وله في كلّ ذلك آراء ناضجة ونظريات صائبة ).
  ( أضف إلى ذلك نبوغه في الأدب والشعر ، فقد ولع بالقريض ، فصحب فريقا من أعلامه يوم ذاك كالسيد جعفر الحلي ـ وكان تخرجه عليه كما حدّث به ـ والسيد إبراهيم الطباطبائي ، والسيد محمد سعيد الحبوبي ، والشيخ عبد الحسين الجواهري ، والشيخ هادي آل كاشف الغطاء ، والشيخ جواد الشبيبي ، والشيخ محمد السماوي وغيرهم ، عاشر هؤلاء الأفذاذ زمنا طويلا ونازلهم في سائر الحلبات والأندية الأدبية النجفية حتى برز بينهم مرموقا بعين الإكبار والإعجاب والتقدير ).
  ( وإنّ شعره وشاعريته في غنى عن الإطراء والوصف ، إذ لا ينكر أحد مكانته بعد أن بذّ كثيرا من شعراء العرب ، وتفوق على بعض زملائه المذكورين الذين تمحّضوا للشعر فقط ، فحيّر عقولهم ، وأذهل ألبابهم لبراعته في الأدب ،

وقاية الاذهان _ 23 _
  وفهمه لأسراره ، وإحاطته بالمفردات اللغوية إحاطة تندر عن العلماء ، أضف إلى ذلك تأثره بالصفي الحلي وعشقه لأنواع البديع ، ولا يكاد يخلو من ذلك شيء من نظمه ).
  ( وكان حلو المعشر ، ظريف المحضر ، كثير المداعبة ، جميل المحاورة ، يرصد النكتة ويجيد النادرة لكنه لا يخرج عن الآداب العرفية ، ولا يجره ذلك إلى الخفة والرعونة مهما كانت النادرة مضحكة ، بل يبلى المستمعين بذلك ويبقى محافظا على وقاره ورزانته ، وهو حتى في حال النظم والمساجلة يبدو عالما أكثر منه شاعرا كما أن نكاته الشعرية علمية على الأكثر ).
  انّ أبا المجد ، هذا العالم النحرير الّذي اعترف بفضله وفضيلته عارفوه يعاني الفقر والإعواز ، ويشكو قلّة ما في يده ، ويتضجّر إلى خلّص أصدقائه مما يمسّه من آلام الحاجة ، وربّما يبثّ ذلك في شعره ونثره.
  قال الشيخ آقا بزرگ الطهراني بهذا الصدد : ( ومع تلك المكانة العلمية والشهرة لم تكن حالته المادية على ما يرام ، فكان غير مرتاح دائما كما يبدو ذلك من مكاتيبه لي ، فتراه يتمثل في آخر ( تنبيهات دليل الانسداد ) بقول الشاعر :
بيني وبين الدهر حرب iiالبسوس      ii

إن شئت شرح الحال بينا نسوس      ii
  ويقول في الفائدة الفقهية الملحقة به عند ذكره لأيام سكناه بكربلاء :
لقلت لأيام مضين ألا ارجعي      ii

وقلت لأيام أتين ألا ابعدي )      ii
  في أصبهان : بعد أن استحصل شيخنا المترجم له العلم في الحوزة العلمية بالنجف الأشرف أكثر من ثلاثين سنة ، وبلغ المرتبة السامية من الثقافة العالية عزم في سنة ( 1333 ه‍ ) على العودة إلى أصبهان للمضايقات والفتن التي كان يصيبه

وقاية الاذهان _ 24 _
  طرف منها بسبب قيام الحرب العالمية ، فخرج من العراق بصحبة الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي إلى ( سلطان آباد ) حيث بقي الشيخ الحائري بها ، وأمّ أبو المجد أصبهان فوصلها في يوم الثلاثاء غرّة شهر محرم سنة ( 1334 ه‍ ).
  قوبل في أصبهان بحفاوة وإكبار بالغين ، وحصل له ما كان لسلفه الأعلام من الزعامة الدينية والمكانة الروحية ، فنهض بأعباء الرئاسة والهداية والإرشاد والتوجيه ، وقام مقام والده في سائر الوظائف الشرعية من الإمامة والتدريس ونشر الأحكام وتمهيد قواعد العلم.
  كان يقيم صلاة الجماعة في المسجد المعروف بـ ( مسجد نو ) وهو من المساجد المهمة المزدحمة في سوق أصبهان.
  وكان محبوبا عند سائر الطبقات ، له مكانة عظيمة واحترام فائق ، وذلك لبشاشة وجهه وحسن أخلاقه وظرفه المحبب في أحاديثه الخاصة والعامة ، لا تخلو محافله من نكات أدبية طريفة تهش إليها الأسماع وتتفتح لها القلوب.
  أما تدريسه فقد ولع به الكثيرون من الطلاب وأرباب الفضل ، وذلك لبلاغة تعبيره ، وحسن تقريره وجامعيّته ، فقد كان يشفع أقواله بالأدلّة والشواهد من الشعر الفارسي والعربي وأقوال اللغويين وأكابر السلف.
  وفي سنة ( 1344 ه‍ ) ذهب إلى قم ، وبقي بها مدرسا نحو سنة واحدة ، فتزاحم على مجالس درسه أفاضل الطلاب والمتعلمين ، وكان زعيم الحوزة العلمية في قم المغفور له الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري يوصي الطلبة بالحضور لديه والاستفادة منه ، ويشجّعهم على ذلك لما يعلم من مبلغ علمه وإحاطته بالعلوم الحوزوية وغيرها ، إذ كان شريك درسه عند بعض الشيوخ الأساتذة ، وكان يدرك فائدة وجوده في الحوزة ، ولكن اضطر ـ شيخنا المترجم له ـ إلى العودة إلى أصبهان وترك قم.

وقاية الاذهان _ 25 _
نظرة في شعره
  عالج أبو المجد في شعره أغراضا إخوانية أكثر من غيرها فقد مدح أناسا كان يكبرهم ويقدّر شخصيّتهم ، ويراهم أهلا للإكبار والتقدير ، وأكثر هؤلاء ذكرا في شعره وجوه علماء آل كاشف الغطاء ، وجماعة من معاريف شعراء عصره ممّن كان له بهم صلات وديّة ومساجلات شعرية ، وربما هجا أناسا اصابته منهم آلام روحية ، ولكن بأبيات قليلة ذات محتوى مقذع.
  وبعد إخوانياته تأتي المعاني الأخرى التي طرقها في شعره في مقاطيع قصيرة لا تتجاوز الأبيات ، وهي مع قلّة الأبيات مفعمة بالمعاني الراقية والصنائع البديعية وألوان من التورية والجناس وغيرهما من اللطائف التي تطرب القارئ المتذوق.
  والميزة التي اتفق عليها واصفو شعره التركيب العربي الّذي لا تشوبه العجمة ، ولا يسري إليه الضعف اللغوي الموجود في شعر كثير من أبناء الفرس الذين يعانون الشعر العربي وينظمون في هذه اللغة ، فكأنّه خلق عربيّا في بيئته وثقافته ولم يزاول لغة أخرى تشوب لغته الخالصة.
  قال الأستاذ علي الخاقاني يصف مواهب أبي المجد الشعرية : ( لا مجال لأيّ أديب أن يجحف حق الأصفهاني وأدبه الّذي فاز به على كثير من أدباء العرب ، ومن تأمّل في سيرته لا شك يرى أنّ المترجم له قد تجلّت فيه بعض ظواهر العبقرية فإحاطته بالأدب ، وفهمه لأسراره ، وتوغله بالتتبع ووقوفه على المفردات اللغوية تدلّنا على ذكاء وحافظة نادرين ، وشعره تأثر فيه بالصفي الحلي ومدرسته ، فقد عشق البديع وأنواعه ، وتأثر بالنكات الأدبية الدقيقة ، ولا يكاد يخلو كل بيت له من ذلك ، وتفوقه في المعنى هو من فهمه للأدب الفارسي الّذي عرف بسعة الخيال والابتكار في المعاني ، فلا بدع ـ إذن ـ امتيازه في