واضح ، ومرّ ما يتعلّق بالثاني في بحث الضدّ.
ويكون مطلقا ومشروطا ، ومنجّزا ومعلّقا ، نحو لا تهن زيدا ، ولا تهنه إن زارك ، ولا تكن معه في البلد يوم الجمعة.
ويكون عينيّا وتعينيّا وكفائيا وتخييريّا على خلاف في إمكان الأخير ، وقد يمثّل له بحرمة الجمع بين الأختين ، وفيه نظر إذ العنوان المأخوذ فيها أمر واحد وجودي وإن توقف الامتثال على ترك أحدهما. وتحقيق المقام غير مهمّ ، والمثال غير عزيز.
وللثالث ما لو فرض وجود المفسدة في تزوّج جميع أولادك ، أو الصلاح في ترك أحدهم له.
7 ـ ثم إنّ النهي لا يستلزم المفسدة في المنهيّ عنه ، كما هو الشائع على الألسنة وان كان الغالب فيه وجودها في متعلّقة ، إذ قد تكون المصلحة في النهي نفسه ، وقد مرّ نظيره في الأوامر ، وقد يكون لفوت المصلحة الملزمة إلاّ أن يقال : إنه حينئذ قسم من المفسدة.
8 ـ يعرف الحل في عدّة من مسائل النهي مما مرّ في نظائرها في الأمر من غير احتياج للفطن الذكي إلى زيادة بيان كالنهي بعد الحظر ، والنهي عن النهي ، وبقاء الكراهة بعد نسخ الحرمة ، ونسخه قبل وقت العمل.
وأما المسائل التي جرت العادة على التعرّض لها في هذا الباب لكونها تختصّ بالنهي ، أو أنها أنسب به من سائر الأبواب فعدّة مسائل ، أولها وأهمها : جواز اجتماع الأمر والنهي في فرد واحد وعدمه (1)
والمراد من الجواز الجواز العقلي أعني الإمكان ، وبالاجتماع اجتماعهما
--------------------
(1) هذا هو العنوان المشهور الخالي عن القصور ، وربّما يحذف بعض ألفاظه ويكتفي بلفظ ( جواز اجتماع
وقاية الاذهان
_ 323 _
بجميع خواصّهما حتى التقرّب وضدّه ، والامتثال والمخالفة ، واستحقاق الثواب والعقاب معا.
وما نقل عن القاضي من أن الفعل يسقط في الصلاة عندها لا بها ، فلا يبعد أن يكون مراده التوصليات ، وإن كان يبعده مورد كلامه وهو الصلاة.
والمراد من الأمر والنهي مطلق أقسامهما وإن كانا ظاهرين في النفسيّين الأصليّين العينيّين التعينيّين المطلقين على تفاصيل في بعضها تعرف المهمّ منها في مواقعها ، بل يجري في غيرهما من الأحكام ، أعني الكراهة والاستحباب وفي اجتماع كل حكم مع مثله ، لأنّ محذور اجتماع الأمثال كاجتماع الأضداد ، بل ويجري في مراتب كل منها مع أنفسها.
والحال في اجتماع واجبات ومحرّمات كالحال في اجتماع واجب واحد وحرام كذلك. وكذلك في غيرهما ، إذ لا فرق بين فرد ذي جهتين وبين فرد ذي جهات ، فيتصوّر المسألة بصور كثيرة.
والمراد بالفرد كل موجود خارجي يكون مصداق لطبيعتين إحداهما مأمور بها والأخرى منهي عنها.
--------------------
الأمر والنهي ) اختصارا لوضوح المراد ، وجريا على سيرة المصنفين في كل فن ، فيقول المتكلّم والأصولي ، مسألة الجزء أو الأجزاء ، فأوجب ذلك انتقاد غير واحد من أهل هذا العصر بأنه يوهم كون النزاع في أمر بديهي الامتناع.
وللخلاص من هذا الإشكال التافه جعل بعضهم النزاع صغرويّا كباب المفاهيم.
وغيّره غيره إلى عبارة طويلة مملّة على خلاف ما يتوخّاه العلماء من اختصار العناوين ، ولو ذكر لفظ الفرد كفاه في الحذر عمّا زعمه اعتراضا.
وأوجب بعضهم لزوم ذكر تعدّد الجهة في الفرد لزعمه أنّ تركه يوهم دخول المطلق الواحد ، ولو فعل ذلك لعاد اعتراضه في ترك تقييد الجهتين التقييديّتين لأنه يوهم دخول التعليليّتين والمناط وغيرهما ، ولم لم يسر اعتراضه هذا إلى غيرها من المسائل فيعترض بترك ذكر المقدّمة الوجوديّة المقدورة في باب مقدّمة الواجب ، وهكذا في سائر مسائل العلوم ، وكل ذلك ناش من الغفلة من أنّ العناوين إنّما تؤخذ على نحو الإجمال ( منه ).
وقاية الاذهان
_ 324 _
وإن شئت قلت : الفرد الّذي له جهتان تقييديّتان يكون باعتبار إحداهما مأمورا به ، وباعتبار الأخرى منهيّا عنه ، ويكون المكلّف قادرا على امتثالهما معا ، وأن لا يسري شيء من المصلحة والمفسدة من أحد الطلبين إلى الآخر ، وأن يكون كلاّ منهما تامّا في مرحلة التكليف.
فاستبان من ذلك خروج الواحد ذي جهة واحدة لأن التكليف به تكليف بالمحال ، بل تكليف محال.
وكذلك (1) الجهتان إذا كانتا تعليليّتين وإن تفارقت الجهتان ، لأنّ تعدّد العلّة لا يقضي بتعدّد المتعلّق.
وكذلك كلّ شيئين متساويين أو متلازمين ، لعدم التمكن من الامتثال وما كان بينهما عموم مطلق مع تعلّق الأمر بالأخص أو عموما من وجه مع انحصار أفراد أحدهما في الآخر.
واستبان أيضا اعتبار المندوحة في مورد النزاع ، كما صرّح به أكثرهم ، واعتذر في الفصول عمّن ترك التقييد به بأنه اتّكل على وضوحه (2) وبه صرّح الأستاذ في الفوائد (3) ، ولكن عدل عنه في الكفاية ، وقال ما حاصله : إنّ المهمّ في المقام البحث عن كفاية تعدّد الجهة في دفع المحال من اجتماع الضدّين وعدمها ، ولا يتفاوت في ذلك وجود المندوحة وعدمها ، ولزوم
--------------------
(1) هذا هو الاصطلاح الشائع هنا وفي كتب المعقول ، وعليه جرى الشيخ الإمام وغيره.
وعن صاحب المناهج وغيره عكس ذلك وهو أنّ النزاع في الجهتين التعليليّتين خارجتان عنه ، والظاهر أن الاختلاف في مجرّد اللفظ والتسمية ، وإلاّ فالمعنى غير قابل للخلاف فيه ، فإطالة بعض أساتيذنا في بيان ذلك مما لا يترتّب عليه فائدة مهمّة ( منه ).
(2) الفصول الغروية : 124.
(3) فوائد الأصول : 144.
وقاية الاذهان
_ 325 _
التكليف بالمحال بدونها محذور آخر (1).
وأرى أنّ رأيه الأول المطابق لآراء القوم أصوب من هذا الّذي تفرّد به ، لأن المفروض ـ كما علمت ، ويدل عليه عنوان المسألة ـ وجود التكليفين وتنجزهما ، وكون اختيار المكلّف الفرد المجامع للحرام في مقام الامتثال من سوء اختياره ، ومع عدم المندوحة لا تكليف حتى ينازع في حصول الامتثال به.
وبالجملة نزاع القوم في مقام الامتثال بعد فرض الأمر ، ومع عدمها لا أمر إلاّ أن يغيّر عنوان المسألة ، فشأنه حينئذ وذاك.
واستبان أيضا : أنه لا بدّ من وجود المناط في الحكمين معا في مورد الاجتماع ، إذ الحكم ينتفي بانتفاء مناطه ، فيتخلّص الفرد للجهة الشاملة للمناط ، وما أشبه المقام من هذه الجهة بباب التزاحم الّذي عرفت القول فيه في مسألة الضدّ.
وحينئذ إن علم وجودهما فيهما ولو بدليل اجتهادي من عموم أو إطلاق فلا إشكال ، وإلاّ فالمرجع الأصل وهو الاشتغال في جانب الأمر ، والبراءة في جانب النهي ، فتأمل.
واعترض عليه بعض أعلام العصر ـ فسح الله في عمره ـ بأن النزاع يجري حتى على قول الأشاعرة المنكرين لتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد.
وفيه أنّ الملاك بالمعنى الّذي يعني هاهنا ويعتبر في مورد النزاع أعم من المصلحة والمفسدة ، وهو الّذي يعبّر عنه في المخلوق بالغرض ، وفي مقام القدس
--------------------
(1) كفاية الأصول : 153 ـ 154.
وقاية الاذهان
_ 326 _
بما لا يستلزم الاستكمال المحال في أفعاله تعالى (1).
ويجري النزاع في العموم من وجه بالشرط المتقدم ، وأما العموم المطلق ، فقد صرّح الفاضل القمي بخروجه عن محل النزاع وجعله الفارق بينه وبين مورد النزاع الآتي ( اقتضاء النهي الفساد ) وقال في الفصول ما نصّه : ( لا فرق في موضع النزاع بين أن يكون بين الجهتين عموم من وجه ، كالصلاة والغصب ، وبين أن يكون بينهما عموم مطلق مع عموم المأمور به ، كما لو أمره بالحركة ونهاه عن التداني إلى موضع مخصوص ، فتحرّك إليه ، فإنّ الحركة والتداني طبيعتان متخالفتان ، وقد أوجدهما في فرد واحد ، والأولى منهما أعم ، وبعض المعاصرين خصّ موضع النزاع بالقسم الأول ، وجعله فارقا بين هذا النزاع والنزاع الآتي في الفصل اللاحق ، حيث يختص بالقسم الثاني ، وقد سبقه إلى ذلك غيره ، وأنت خبير بأن قضية الأدلّة الآتية في المقام ، وإطلاق عناوين كثير منهم ، عدم الفرق بين المقامين ، وسيأتي تحقيق الفرق بين النزاعين ) (2).
وقال في المسألة الآتية ما نصّه أيضا : ( اعلم أنّ الفرق بين المقام والمقام المتقدّم ، وهو أنّ الأمر والنهي هل يجتمعان في شيء واحد أو لا ؟ أما في المعاملات فظاهر ، وأما في العبادات فهو أن النزاع هناك فيما إذا تعلّق الأمر والنهي
--------------------
(1) الغرض بهذا المعنى هو الفارق بين الأفعال الاختياريّة وغيرها ولا ينفكّ عنه حتى أفعال المجانين ، إذ الفرق بين أفعالهم وبين أفعال العقلاء هو أنّ أغراضهم غير عقلائية ، بخلاف أفعال العقلاء ، فتذكّر ما مرّ في بحث الإرادة من أنّ معناها العلم بالصلاح أو الأصلح فليكونا هما المراد في المقام أو ما يقاربهما ( منه ).
(2) الفصول الغرويّة : 125.
وقاية الاذهان
_ 327 _
بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة وإن كان بينهما عموم مطلق ، وهنا فيما إذا اتّحدتا حقيقة وتغايرتا بمجرد
الإطلاق والتقييد بأن تعلّق الأمر بالمطلق ، والنهي بالمقيّد ، وما ذكره بعض المعاصرين في بيان الفرق من أن النزاع هناك فيما إذا كان بين الموردين عموم من وجه ، وهنا فيما إذا كان بينهما عموم مطلق. فغير مستقيم ، وقد مرّ التنبيه عليه ) (1).
وفي التقريرات ما بعضه : ( إنّ ظاهر هذه الكلمات يعطي انحصار الفرق بين المسألتين في اختصاص إحداهما
بمورد دون الأخرى ، وليس كذلك ، بل التحقيق أنّ المسئول عنه في إحداهما غير مرتبط بالأخرى.
وتوضيحه : أنّ المسئول عنه في هذه المسألة هو إمكان اجتماع الطلبين فيما هو الجامع لتلك الماهيّة المطلوب
فعلها ، والماهية المطلوب الترك من غير فرق في ذلك بين موارد الأمر والنهي ، فإنه كما يصح السؤال عن هذه القضيّة فيما إذا كان بين المتعلّقين عموم من وجه ، فكذا يصح فيما إذا كان عموم مطلق ، سواء كان من قبيل قولك : صلّ ولا تصلّ في الدار المغصوبة ، أو لم يكن كذلك.
والمسئول عنه في المسألة الآتية هو أن النهي المتعلّق بشيء هل يستفاد منه أنّ ذلك الشيء مما لا يقع به الامتثال ؟ حيث إنّ المستفاد من إطلاق الأمر حصول الامتثال بأيّ فرد كان ، فالمطلوب فيها هو استعلام أنّ النهي المتعلّق بفرد من أفراد المأمور به هل يقتضي رفع ذلك الترخيص الوضعي المستفاد من إطلاق الأمر ، أو لا ؟ ولا ريب أنّ هذه القضيّة كما يصح الاستفسار عنها فيما إذا كان بين المتعلقين إطلاق وتقييد ، فكذلك يصح فيما إذا كان بينهما عموم من وجه كما إذا كان بينهما عموم مطلق.
--------------------
(1) الفصول الغرويّة : 140.
وقاية الاذهان
_ 328 _
وبالجملة إنّ اختلاف المورد لا يصير وجها لاختلاف المسألتين ، بل لا بدّ من اختلاف جهة الكلام ، وعلى اختلافهما لا يحتاج إلى التجشّم المذكور ) (1).
وفي الكفاية بعد نقل عبارة الفصول في المسألة الآتية والتصريح بفساده : ( إنّ مجرّد تعدّد الموضوعات وتغايرها بحسب الذوات لا يوجب التمايز بين المسائل ما لم يكن هناك اختلاف الجهات ، ومعه لا حاجة أصلا إلى تعدّدها ، بل لا بدّ من عقد مسألتين مع وحدة الموضوع وتعدّد الجهة المبحوث عنها ، وعقد مسألة واحدة في صورة العكس كما لا يخفى ) (2).
أقول : كلام الفصول ينحلّ إلى أمرين : أحدهما : شمول النزاع للعموم من وجه ، وهذا أمر لم ينفرد به صاحبه ، وقد نقله أخوه الإمام عن الفاضل الشيرازي وجمال المحقّقين ، وجنح إليه بقوله : ( والوجه العقلي الّذي ذكروه جار فيه ) (3) ولا أظنّ بأحد من أهل العلم إذا تأمل وأنصف أن لا يقول بمقاله.
وثانيهما : الفرق بين المسألتين بما أورده عليه بعينه ، لكن بعبارة أجلى وأخصر ، وكلامه الّذي نقلوه ونصبوه هدفا لسهام الاعتراض صريح فيه ، فانظر ـ رعاك الله ـ بطرف التأمل والإنصاف تجده قد نقل عن معاصره الفرق الموردي بين المسألتين ، وبيّن عدم ارتضائه مرّتين ، وأرجى بيان الفرق المختار عنده إلى المسألة الآتية.
ثم بيّن فيها أنّ الفرق هو تعلّق الأمر والنهي في مسألة الاجتماع بطبيعتين متغايرتين ، وفي المسألة الأخرى بطبيعة واحدة.
وهل ترى وجها لإناطة البحث بذلك إلاّ تعدّد الجهة ؟ ألا يغني الفطن الّذي لا يجمد على ظواهر الألفاظ عن التصريح بلفظ الجهة ؟ ولا أدري مع ذلك
كيف استظهر المقرّر كونه في مقام الفرق بين المسألتين عند تعرضه لكلام معاصره ! ؟
وسرعان ما حكم صاحب الكفاية بالفساد قبل أن يتضح له المراد ، وإن كان ثمّ مجال للاعتراض فليكن على البادئ المدّعي ( الفاضل القميّ ) لا على المعترض عليه.
وبالجملة كلام الفصول صريح في أن الفرق بين المسألتين بحسب الجهة لا بحسب المورد.
وبديع لعمري في صناعة العلم أن ينسب إلى عالم ما ردّه على غيره ، ثم يرد بضاعته إليه في صورة الاعتراض
عليه.
ثم إنّ ادّعاه صاحب الكفاية في آخر كلامه أعني قوله : ( لا بدّ من عقد مسألتين ) إلى آخره (1) فلنا حق مطالبته بالدليل على ذلك ، والسؤال عن البرهان الّذي حجر على مصنّفي العلوم خلاف مرسومه ، وألزمهم بعقد مسألة واحدة مع تعدّد المورد واتّحاد الجهة ، ولكن نؤجّل تقاضيه إلى وقت آخر.
ثم إنّ ما وقع في كلام المقرّر من قوله : ( سواء كان من قبيل قولك : صلّ ولا تصلّ في الدار المغصوبة ) إلى آخره (2) وظاهره جريان نزاع المقام حتى فيما لو كان أحد العنوانين مأخوذا في الآخر.
وهذا فاسد قطعا. ولعلّه من قصور تعبير المقرّر الفاضل ، وذلك لأنّ المطلق ليس عنوانا في قبال المقيّد ، ولا يعقل اقتضاء الإطلاق شيئا واقتضاء التقييد شيئا آخر ، إذ المقيّد هو تلك الطبيعة مع لحوق بعض الاعتبارات بها.
وقد نبّه عليه صاحب الفصول في المسألة الآتية عند بيان أولويّة الفساد
فيها عن هذه المسألة بما بعضه بلفظه : ( لما كان تعلّقهما في البحث السابق بطبيعتين متغايرتين فربّما أمكن توهّم جواز الاجتماع من حيث تغاير كلّ من المتعلّقين في حدّ نفسه ، وأمّا في المقام فإنّما يتعلّقان بطبيعة واحدة ذهنا وخارجا ، ضرورة أن المطلق والمقيّد
متّحدان ذاتا وإنّما يتغايران بحسب الإطلاق والتقييد ، فإن الماهيّة التي لا يلاحظ معها شيء هي عين تلك الماهيّة إذا أخذت ببعض الاعتبارات ) (1).
قد يتوهّم أنّ القائل بتعلّق الحكم بالأفراد لا يمكنه القول بجواز الاجتماع لاتّحاد المتعلّقين ، بخلاف القائل بتعلّقها
بالطبائع ، ولذا يدرج بعضهم ذلك النزاع في هذه المسألة ، وترى القائل بالمنع ينتصر للقول الثاني ، ويجعله أساس حجّته ، ويزعم أنّه لو ألزم خصمه بقبوله لتمّ له الفلج ويلحّ المجوّز في ردّه ، والاستدلال على القول الأول ظنّا منه أنّ بإثباته يثبت مدّعاه ، ويتمّ له الظفر على مخالفه.
ولا يخفى أنّ هذا النزاع على طوله وقلّة طائله لا محصّل له ، إلاّ أنّ الوجود اللازم اعتباره في متعلّق الطلب هل هو وجود الفرد أو وجود الطبيعة ؟ وبعبارة أخرى : إنّ الواجب على المكلّف إيجاد هذا أو تركه ؟ أو إيجاد هذه أو تركها ؟ وأيّا كان لا شك في وجود الجهتين حتى في الفرد.
فإن كان وجودهما كافيا لدفع التضادّ أمكن القول بالجواز لأنه فرد لطبيعتين.
وإن شئت قلت : إنّ الفرد الخارجي ينحلّ إلى فردين موجودين بوجود
--------------------
(1) الفصول الغرويّة : 141.
وقاية الاذهان
_ 331 _
واحد.
وإن لم يجد تعدّد الجهتين فلا سبيل إلى القول بالجواز ولو كانت الطبيعة متعلّقة الأحكام.
نعم لو أفرط القائل بتعلّقها بالأفراد وجعل التشخّصات اللازمة لوجود الطبيعة متعلّقة للتكليف ، فلا جرم يلزم اجتماع الضدّين ، ولا يجدي في دفعه تعدّد الجهة ولكنه احتمال بعيد ، بل مقطوع بعدمه ، إذ المشخّصات لمتعلّق الإرادة التشريعيّة كالمشخّصات لمتعلّق الإرادة التكوينيّة لا يتعلّق بها الغرض ، بل لا تخطر ببال الآمر.
ولا يقاس ذلك بمقدمات المطلوب ، إذ الفرق بيّن بين لوازم الوجود وبين أجزاء علّته ، وقد سبق بعض القول فيه في بحث مقدّمة الواجب ، وتعرف جلية الحلّ في مسألة متعلّق الطلب عند بيان دليل جواز الاجتماع الّذي اعتمد عليه السيد الأستاذ طاب ثراه.
شاع في زماننا نسبة ابتناء هذه المسألة على الخلاف في مسألة أصالة الوجود أو الماهيّة إلى صاحب الفصول ، وأوّل من نسب ذلك إليه واعترض عليه صاحب الكفاية في كتابيه ، فقال في الفوائد في أثناء كلام له : ( فظهر عدم ابتناء المسألة على القول بأصالة الوجود أو الماهية كما تخيّله الفصول ) (1) وفي الكفاية (2) ما يقرب منه.
ثم تبعه المعاصرون في النسبة والاعتراض ، وحاصل اعتراضاتهم على اختلاف عباراتهم : أنه لا شك في ثبوت أمر في الخارج سواء كان مطابق الوجود بالذات
والماهيّة بالعرض ، كما يقوله القائل بأصالة الوجود ، أو العكس ، كما يقوله القائل بأصالة الماهيّة ، وحينئذ فإذا ثبت في الخارج أمر ذو جهتين ، فإن كان تعدّد الجهة موجبا لحلّه إلى جهتين فليكن كافيا في حلّه إلى موجودين ، فيجوز الاجتماع ، وإلاّ فلا مناص عن المنع بناء على كلّ من المذهبين.
وبالجملة مناط البحث كفاية تعدّد الجهة في حلّ الثابت الخارجي ـ وجودا كان أو ماهية ـ إلى شيئين وعدمه ، ولا يفرق في ذلك كون الوجود أصلا والماهية منتزعة عنه ، أو كانت هي الأصل والوجود منتزعا عنها.
أقول : ما قرروه من الواضح الّذي لا يخفى على أضعف محصّل عرف معنى النزاع في تلك المسألة ، ومغزى الخلاف فيها ، فكيف يخفى على إمام شهدت فصول فصوله بأنه نسيج وحده في منقول العلم ومعقوله !؟ وحاشا مثله عن غلط مثله.
وجليّة الحال أنه لمّا اختار القول بالامتناع استدل عليه بوجهين وقال بعد الفراغ عن تقرير الدليل الأول ما نصّه : ( واعلم أنّ هذا الدليل يبتني على أصلين : أحدهما : أن لا تمايز بين الجنس والفصل ولو أحقهما العرضية في الخارج كما هو المعروف ، وأمّا لو قلنا بالتمايز فلا يتمّ الدليل.
الثاني : أنّ للوجود حقائق خارجيّة ينتزع منها هذا الأمر الاعتباري ، كما هو مذهب أكثر الحكماء وبعض محققي المتكلمين ، وأما إذا قلنا بأنه مجرّد هذا الأمر الاعتباري ينتزعه العقل من الماهيّات الخارجيّة ولا حقيقة له في الخارج أصلا ، كما هو مذهب جماعة ، فلا يتم الدليل أيضا ، ولكن الأصل الأول مما لا يرتاب فيه أكثر المخالفين في المسألة إن لم يكن كلّهم ، وإنما المنازع فيه شاذ ، ومع ذلك فهو من الأمور الجليّة التي أقيم عليه البرهان في محلّه.
وقاية الاذهان
_ 333 _
وأما الثاني فهو وإن كان عندنا من واضحات علم المعقول ، لكن لا يساعد عليه أكثر المخالفين في المسألة إن لم يكن كلّهم ، فيبتني الاستدلال على تقدير ثبوته ، ولنا أن نقرّر الدليل بوجه لا يبتني على هذا الأصل ) (1).
وأخذ بعد ذلك في بيان الدليل على هذا الوجه ، وقرّر بعده الدليل هذا بتقرير آخر على كلّ من الوجهين ، وقال بعده : ( ولا يذهب عليك أنه يمكن إجراء الدليل على الوجه الأول باعتبار الإيجاد أيضا ـ وقال بعد بيانه ـ وكذا يمكن إجراؤه على الوجه الثاني باعتبار الجعل أيضا ) (2) إلى آخره.
وبأول النّظر تعلم أنه لم يجعل أصالة الوجود مبنى مسألة الاجتماع ، بل أحد الدليلين بأحد تقريريه ، وحكم بعده بإمكان إجرائه على القولين باعتبار الإيجاد أو الجعل.
نشدتك والإنصاف أين هذا ممّا قرنه به هذا الأستاذ ومتابعوه من بناء أصل المسألة عليها ؟ اللهم غفرا.
ولو أنه كان قد كتب كتابا في إثبات الصانع وذكر فيه الف دليل عليه ، وقال : إنّ الدليل السابع ببعض تقاديره يبتني على وجود الفلك التاسع ، لقال المولعون بالاعتراض عليه : إنّ صاحب الفصول يقول بتوقف إثبات الصانع على وجود الفلك التاسع ، والحمد لله الّذي صرفه عن ذلك ، فسلم عن الاعتراض ، وسقط عنّا الدفاع.
ثم إنّه ـ كما علمت ـ جعل الدليل الأول مبتنيا على أصلين ، هذا ثانيهما ، ولا أدري ما السبب في تخصيصه لعنوان الاعتراض دون مسألة التمايز ، فهلا قالوا : إنّ صاحب الفصول يرى ابتناء مسألة الاجتماع عليها أيضا.
وبعد ما مهّدناه نقول : إنّ الأقوال في المسألة ثلاثة :
أولها : الامتناع مطلقا ، وهو قول أكثر المحقّقين من المتقدّمين والمتأخّرين.
ثانيها : الجواز مطلقا ، ذهب إليه السيد الأستاذ ، ومنه شاع القول به بين المعاصرين.
وثالثها : الجواز عقلا والامتناع عرفا ، نقلوه عن السيد الطباطبائي وجماعة واستضعفوه ، وليس بذلك الضعف كما يأتي ، ويمرّ عليك إن قدّر الله وشاء ما يمكن أن يعدّ قولا رابعا.
وربّما نذكر فيها أقوال اخر ، كالتفصيل بين التعبدي والتوصلي ، ونحوه مما يظهر ضعفه للمتأمل من غير احتياج إلى البيان ، ولنقدّم نقل أدلّة المجوّزين ، لأنّ عمدة ما يعتمد عليه المانعون يذكر في طيّها.
فنقول : تخلّص المجوّزون من محذور اجتماع الضدّين من الحكمين وما يلزمهما بأحد أنحاء ثلاثة :
1 ـ منع كون الفرد الخارجي متعلّقا للتكليف.
2 ـ تحليله إلى فردين.
3 ـ ادّعاء الوقوع الّذي هو فيما يقال أقوى أدلّة الإمكان.
وربّما عجز بعضهم (1) عن السلوك في إحدى هذه الطرق فسار إلى مخالفة الوجدان والبرهان وأهل العلم عامة من منع تضاد الأحكام أو تجويزه في خصوص المقام.
وينبغي تنزيه صفحات العلم من أمثال هذه الأوهام ، أما النحو الأول
--------------------
(1) بعض السادات المدرّسين بأصفهان ، ( منه ).
وقاية الاذهان
_ 335 _
فأحسن تقريراته ما حقّقه السيد الأستاذ ، وقد فاتني الحضور عليه في هذه المسألة وسماعه منه. ولكن صاحبنا العلاّمة وشريكنا في الحضور عليه قد أخذها من عين صافية وأدّاها بعبارة شافية ، وليت أن أنقله (1) من كتابه بحروفه ، فإنه أثبت في النقل وأقرب إلى ما أتوخّاه من المحافظة على تحقيقاته قدّس سرّه.
أقول : هذا أقصى ما يصل إليه الفكر الصائب والنّظر الثاقب ، ولكنه لا يجدي إلاّ في دفع محذور الاجتماع في مقام جعل التكليف ، على صعوبة تقريره على القول بأنّ الشارع هو الله تعالى.
وأما في مقام الامتثال فالمحذور باق على حاله ، إذ الفرد المأتي به إذا لم ينحلّ إلى موجودين يلزم أن يكون مقرّبا ومبعّدا معا ، وراجحا ومرجوحا ، وذا مصلحة ومفسدة كذلك.
وأرى أن أنصف من نفسي ، وأعترف بعدم وصول فهمي إلى حقيقة مراده طاب ثراه ، وأرى ـ إلى أن يفتح الله سبحانه علي باب فهمه ـ أنه لا بدّ في إكماله إلى الحيلة في حلّ الفرد إلى فردين.
ونقول في بيانه بعد بيان مقدّمة ، وهي أنّ متعلّق التكليف قد يكون من أفعال القلب ، وقد يكون من أفعال الجوارح ، وقد يكون موضوعه شخصيّا كإكرام زيد ، أو كليّا كإكرام العلماء ، وقد يكون فعلا ابتدائيا للمكلّف وقد يكون توليديا ، وقد يكون متعلّقا له بعنوان كالتكلّم ، وقد يكون بانطباق عنوان آخر عليه كالغناء ، وقد يكون مرتبطا بالغير كالضرب ، وقد لا يكون كالقيام ، هذا باعتبار كلّ تكليف مع متعلّقه.
وأما باعتباره مع متعلّق تكليف آخر ، فتارة يكونان من مقولة واحدة كالجرح والقتل ، وتارة يكونان من مقولتين كالصلاة والغصب ، بناء على أنّها من
--------------------
(1) وبعد إعداد نسخة الطبع رأيت عدم الفائدة الكثيرة في نقلها لتداول نسخ الكتاب ( منه ).
وقاية الاذهان
_ 336 _
مقولة الفعل ، والغصب من مقولة الأين ، وقد يكونان موجودين بوجود واحد كالصلاة والغصب ، أو بوجودين لكن بإيجاد واحد كإيقاد النار المأمور به ، والتدخين المنهيّ عنه.
وبعد بيان هذه المقدّمة التي لا يتوقف أصل البرهان عليها ، وما أوردتها إلاّ لتوضيح ما يقع فيه النزاع ، نقول : إنّ الأفعال القلبيّة خارجة عن محل النزاع وإن أمكن دخولها فيه بتبديل الوجود الخارجي بالوجود الذهني كما في الفصول (1).
ومحلّ النزاع من هذه الأقسام كلّ فعل يكون فردا لطبيعتين ومحمولا لكلّ منهما بالحمل الشائع ، أمر بإحداهما ونهي عن الأخرى وإن أمكن دخول غيره ، كإتيان المأمور به في ضمن فرد مستلزم للمنهيّ عنه كالإيقاد والتدخين بناء على أنّ التكليف يتعلّق بالإيجاد.
ونقول في بيان تحليل الفرد ـ بعد ما نذكّرك ما أسلفناه من أنّ مفروض الكلام وجود كلّ من الطبيعتين بهويّتهما فيه من غير نقص ولا سراية لإحداهما إلى الأخرى ، ولا تعرّض من الشارع لحال هذا الفرد بإطلاق أو تقييد ـ : إن الممتنع ما كان الاجتماع فيه على نحو التركيب الاتحادي كالجنس والفصل على المشهور بين المتأخّرين دون التركيب الانضمامي ، والمقام من قبيل الثاني ، فلا محذور في اجتماع التكليفين فيه ، فلا بدّ لنا من بيان كون التركيب انضماميّا أوّلا ، ثم بيان عدم المحذور فيه.
فنقول : إنّ الصلاة والغصب في المثال المعدّ لهذه المسألة هويّتان مختلفتان من مقولتين مختلفتين ، وكلّ منهما موجود بحقيقتها ومتفصّلة بفصلها ، فكما أنّ هذا الفعل الخارجي فرد للغصب بالحمل الشائع كذلك هو فرد للصلاة أيضا بذلك
--------------------
(1) الفصول الغرويّة : 126.
وقاية الاذهان
_ 337 _
الحمل أيضا ، ولا يعقل اتّحادهما ، لأنه على فرضه إمّا أن يكون منفصلا بكلا الفصلين ، أو بأحدهما ، أو بفصل ثالث ، ويلزم من الأول تفصّل الجنس بفصلين عرضيّين ، وهو محال لما تقرّر في محلّه ، ومن الثاني الترجيح بلا مرجّح ، ومن الثالث وجود ثالث للمركّب وهو محال أيضا ، لما هو المقرّر في فنّه من تباين المقولات ، وعدم كون المركّب من بعضها مع بعض مقولة أخرى ، وإلاّ لزم عدم انحصارها في عدد معيّن تسع أو غيره ، فلا مناص عن الحكم بتعدّدها ، غاية الأمر كونهما موجودين بوجود واحد.
ولا غضاضة لو قلت : ويوجدان بإيجاد واحد ، وليس ببدع من الأمر ، أليس الماتح بدلوين يوجد صعود إحداهما ونزول الأخرى بحركة واحدة أو بتحريك واحد ؟ وموقد النار بالحطب الرطب يوجدها مع الدخان بإيقاد واحد ، فلا فرق من هذه الجهة بين وجودهما بوجود واحد أو بوجودين.
والأستاذ في كتابيه وفي مجلس الدرس بنى عمدة مذهبه ـ أعني الامتناع ـ على أنّ متعلّق الأحكام إنما هو الأفعال بهويّاتها وحقائقها ، لا بأسمائها وعناوينها المنتزعة عنها (1).
ولا أدري ـ وإن أطال في بيانه ـ ما الّذي أراد من تعدّد الأسماء ، فإن أراد الألفاظ المترادفة أو ما كان من بابها فذلك أوضح من أن يحتاج إلى بيان ، ولا يذهب عاقل إلى تعدّد الشيء الواحد إذا سمّي بأسماء متعدّدة.
ولا من العناوين (2) ، فإن أراد عدم تعدّد الذات باختلاف المبادئ المتصفة بها ، والمشتقات الطارئة عليها ، فهو واضح كسابقه ، بداهة أنّ زيدا لا يختلف حقيقته وهويّته بتعدد العناوين الطارئة عليه من العلم والمال والجمال ، فالعالم حقيقة هو الجميل ، والجميل حقيقة هو ذو مال.
--------------------
(1) كفاية الأصول : 158 ، فوائد الأصول : 149.
(2) عطف على قوله : ولا أدري ما الّذي أراد.
وقاية الاذهان
_ 338 _
وإن أراد عدم اختلاف العوارض واتّحادها في الوجود فهو الممنوع أشدّ المنع ، إذ كل مشتق ينتزع من مبدئه القائم به ، ومن المحال انتزاع القائم من العلم ، والعلم من القيام أو اتّحادهما في مورد الاجتماع وهما مختلفان حقيقة ، بل كل من العناوين الطارئة على الذات موجود في الخارج متشخّص بتشخّصاته ، غايته أنّ كلّ عنوان يكون مشخّصا لغيره ، فالصلاة مثلا قد تشخّصت بكونها في المكان المغصوب ، وكذلك الغصب قد تشخّص بها كما تتشخّص بغيرها من الأفعال.
وبالجملة الموجود في الخارج حقيقتان متمايزتان بحسب التشخّص ، وغايته أنّهما موجودان بوجود واحد ، والتركيب انضمامي لا اتّحادي ، إذ الجهتان تقييديّتان لا تعليليّتان.
فما حسبه محالا ـ أعني أن يكون لموجود واحد ماهيّتان ـ هو الممكن ، وما زعمه من الاتحاد هو المحال.
وبعد ذلك فلا مانع من الاجتماع بعد اختلاف المتعلّق كما في سائر التركيبات الانضماميّة ، ولا فرق إلاّ أن كلاّ من المتعلّقين صار مشخّصا لمتعلّق الآخر ، وسبق أنّ المشخّصات لا تتعلّق بها الإرادة التشريعيّة كالتكوينيّة.
وأما الاستدلال على الجواز بالوقوع فهو دعوى اجتماعهما في حكم من توسّط أرضا مغصوبة ، وفي العبادات المكروهة ، واجتماع الأمثال في تداخل الأسباب ، ونحن بحول الله تعالى نلخّص لك القول في هذه المسائل ، ونقول :
وفرض المسألة فيه من باب المثال ، وإلاّ فالكلام يجري في نظائره ممّا لا حصر له ، كنزع الثوب المغصوب ، وإخراج الآلة من عضو الأجنبية ، وردّ
وقاية الاذهان
_ 339 _
المغصوب إلى مالكه ، إلى غير ذلك كما في الفصول (1).
والعنوان الشامل للجميع كلّ حرام اشتغل به المكلّف ، وتوقف ترك باقية على ارتكاب بعضه.
نعم للمثال المذكور خصوصيّة ، وهي كونها محلا للبحث عن صحّة العبادة المتّحدة مع حركة الخروج عنها ، وستعرف القول فيه إن شاء الله.
ثم إنّ لفظ الغصب المأخوذ في العنوان يغني عن كون الدخول بالاختيار كما في الكفاية (2) وغيرها ، إذ هو على وضوحه ، مأخوذ في معناه العدوان ، ولا عدوان إلاّ بسوء الاختيار.
أولها : أنه مأمور بالخروج ، ومنهيّ عنه ، نقل عن القاضي (3) ، واختاره الفاضل القمّي ، ونسبه إلى أكثر المتأخرين وإلى ظاهر الفقهاء (4) ، والنسبة غير صحيحة.
والوجه فيها ما ذكره الشيخ على ما في تقريرات درسه : ( قولهم بوجوب الحج على المستطيع وإن فاتته الاستطاعة الشرعية ) (5) فتأمل.
وأولى من ذلك أن يكون قد توهّمه من حكمهم بوجوب الصلاة فيه مع ضيق الوقت ، مع حكمهم بالتحريم ، ولم يمكنه الجمع بين الحكمين بغير ذلك ، كما تمكّن منه غيره.
--------------------
(1) الفصول الغرويّة : 139.
(2) كفاية الأصول : 168.
(3) نسب هذا القول إلى أبي هاشم الجبّائي كما في قوانين الأصول 1 : 153 ، وكفاية الأصول : 168 فلاحظ.
(4) قوانين الأصول 1 : 153.
(5) مطارح الأنظار 153.
وقاية الاذهان
_ 340 _
ثانيها : أنه منهي عنه فعلا ، وليس مأمورا بالخروج ، نقل عن صاحب الإشارات.
ثالثها : عكس ذلك وهو كونه مأمورا بالخروج من غير نهي مطلقا.
رابعها : أنه مأمور بالخروج مطلقا أو بقصد التخلّص ، وليس منهيّا عنه حال كونه مأمورا به ، لكنه عاص به بالنظر إلى النهي السابق ، ذهب إليه صاحب الفصول ، واحتمل أن يرجع إليه ما عزي إلى الفخر الرازي من القول بأنه مأمور بالخروج ، وحكم المعصية جار عليه (1).
خامسها : أنّه منهي بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه ، وعصيانه له ، ولا يكاد يكون مأمورا به ، اختاره في الكفاية ، وتكرّر في كلامه حكم العقل بلزومه إرشادا إلى أقلّ القبحين ، وأخفّ المحذورين (2).
أما القول الأوّل ، فمن الواجب القطع بفساده إلاّ أن يكون القائل به ممّن يجوّز التكليف بالمحال ، بل التكليف المحال ، وإلاّ فلا فرق في مناط الاستحالة وحكم العقل بامتناعه ، ولا يعقل الفرق في عدم القدرة بين أن يكون سلب القدرة بسوء اختياره أو بغيره ، وكيف يجوّز العاقل تكليف الأعمي بالاستهلاك ، والمقعد بصعود الجبال إذا كان العمى والإقعاد بسوء اختيارهما ! ؟
نعم يمكن العقاب على عدم حفظ القدرة إن سبق الأمر به ، على تفصيل مذكور في محلّه.
وما يقال بأنه خطاب تسجيلي لتصحيح العقاب كما في خطاب العصاة ـ فمع أنه خارج عن محل البحث ، لأنّ الكلام في الخطاب البعثي ـ واضح الفساد ،
لأنه إن صحّ عقاب غير القادر فليكن بلا أمر ، فما فائدة الأمر ؟ وإن لم يجز فلا يكون الأمر مصحّحا للعقاب على غير مقدور.
وقياسه بأوامر العصاة غلط واضح ، لأنها أوامر بعثية جدّية وإرادة لوقوع الفعل ، وإلاّ لما وجب عليهم الامتثال ، إذ الواجب بحكم العقل إطاعة الأمر الجدّي المطلوب به وقوع الفعل لا صورة الأمر ، وقد مرّ في محلّه عدم إمكان تقييد الأمر بكلّ من الإطاعة والعصيان.
وأمّا الاستدلال عليه بقولهم : الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار. فمن عجيب الأمور ، لأنه أجنبي عن المقام ، وما هو إلاّ أمر تذكره العدليّة في جواب المجبرة عن قولهم : إن الأفعال غير اختيارية ، لأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، وبعد وجوبه يخرج عن الاختيار ، وأين ذلك من أنّ بعد اتّصافه بالامتناع يصح التكليف به ؟
وهذه العبارة الواردة في جواب شبهة ضعيفة في مسألة جزئية كلامية ، لم يكفها الطفرة عن فنّها إلى فنّ أصول الفقه حتى ارتقت ، وجعلها أحد أعلام العصر (1) ـ بل عالمه ـ قاعدة كلّية ذات مسائل وشروط ، وأطال في بيان تلك الشروط.
ومغزى جميعها إلى الفرق بين متوسط الأرض المغصوبة ، وبين تارك المسير إلى الحج في زمان استحالة وقوعه ، ولأجل ذلك اختار تفصيلا طريقا في هذه المسألة ، وهو اختيار قول الشيخ إن لم ترتبط بقاعدة الامتناع ، واختيار قول صاحب الكفاية إن كانت داخلة فيها.
وأنت جدّ خبير بأنه لا داعي إلى هذه الإطالة من الكلام ، بعد ما عرفت من أنها جواب شبهة غير مرتبطة بالمقام.
--------------------
(1) هو الميرزا محمد حسين الغروي النائيني ، انظر : فوائد الأصول ـ للكاظمي ـ 2 : 447 ، أجود التقريرات 1 : 374.
وقاية الاذهان
_ 342 _
وعلى تقدير عدم شمول القاعدة للمقام ، فلا أدري لما ذا تعيّن لديه قول الشيخ ، مع أنه يمكن بناء عليه اختيار قول صاحب الفصول.
ويظهر لك ذلك إذا أوضحنا مراده من قوله : ( لكنّه عاص بالنظر إلى النهي السابق ) (1) وكلّ ذلك هيّن بالنسبة إلى قوله ـ دام فضله ـ بعد ذلك : ( فتبيّن بهذه الأدلّة امتناع دخول المقام في قاعدة الامتناع ، بل هو داخل في قاعدة أخرى وهي وجوب ردّ مال الغير إلى صاحبه ، فكما أنّ ردّ بقية المغصوبات إلى ملاّكها ممّا ثبت وجوبه عقلا وشرعا ، فكذلك يكون الخروج في المقام أيضا ، لأنّ الخروج محقّق للتخلية التي بها يتحقّق الردّ في غير المنقولات.
ومنه يظهر أنّ ترك كلّي الغصب للداخل في الدار الغصبية بمقدار زمان الدخول وإن لم يكن ممكنا إلاّ أنّ فردين منه ـ وهما : البقاء والمشي زائدا على مقدار الدخول ـ لا إشكال في حرمتهما لأنهما مستلزمان للغصب الزائد.
وأما الخروج فهو واجب بحكم العقل والشرع ، لكونه ردّا للمال إلى مالكه ، فالاضطرار إلى كلّي التصرف في مال الغير الّذي يكون فرد منه واجبا ، وفردان منه حرامين لا يوجب دخول المقام في قاعدة الامتناع » (2).
كلّ طرف الفكر منّي بعد ما أعطيت حقه في كلام مثله عن وجه ارتباط وجوب ردّ مال الغير إلى قاعدة الامتناع أوّلا ، وإلى أصل المسألة ثانيا ، وكفايته لحلّ جميع فروعها ثالثا ، لأنّ صريحه أنّ قاعدة الامتناع لو شملت المقام تكون مغنية عن قاعدة وجوب الرد ، مع أنّ أقصاها إثبات العقاب لحال الخروج ، أو وجود الأمر مع بقاء النهي ، وأين ذلك من وجود الردّ ؟
وأيضا شمولها للمقام إنما يكون بعد فرض وجوب الردّ ، ولو لا وجوبه في الجملة
لانحل إعضال المسألة من أصلها ، ولم يبق احتياج إلى قاعدة الامتناع وغيرها ، فهل الموجب لتحيّر الأفكار واختلاف الأنظار إلاّ الجمع بين وجوب الردّ وحرمة الغصب؟ وليست بقاعدة أخرى كما ذكره دام فضله.
ثم إنّ توسط الأرض المغصوبة ـ كما عرفت أول المسألة ـ إنّما ذكر من باب المثال ، وإلاّ فمن جزئياتها مسائل كثيرة لا تصلح بهذه القاعدة كالخروج عن مواضع التهمة ومواقع الهلكة وغير ذلك.
اللهم رحماك ، فهل في نزع السهم من صدر المؤمن والآلة من عضو المومسة (1) أمانة تردّ ؟ فهب ـ أصلحك الله وأصلحنا ـ بوجوب ردّ المغصوب في المثال وأمثاله. فما تصنع بسائر الموارد ؟ أترى أن تخترع لكلّ قاعدة ؟ إذن يطول العناء ، والله المستعان.
واعلم أنّ التخلّص عن إشكال التخلّص عن الغصب أسهل من سائر الموارد لأنّ نهي الشارع تابع لعدم رضا المالك ، ولا شك في عدم بقائه في زمن الخروج ، بل انقلابه إلى إرادته ، ويتبعه الحكم الشرعي لا محالة ، وهذا بخلاف الخروج ، عن مواقع الهلكة والتهمة ونحوهما.
ثمّ إنّ من المكرّر في كلام هذا العالم وكلام غيره ، تحديد زمان الخروج بمقدار زمان الدخول ، ولعلّه محمول على الغالب ، وإلاّ فالمناط أقلّ زمان يمكن الخروج فيه ، مساويا كان أو أقل أو أكثر كما لو سدّ الطريق القريب الّذي دخل منه ، أو وجد بعد الدخول طريقا أقرب. ولقد أحسن صاحب الفصول التعبير عنه في عبارته الآتية ، فقال : ( الزمن الّذي لا يتمكن من الخروج فيما دونه ) (2).
بل ليس المناط الزمان مطلقا ، وقد تكون السرعة والبطء تختلفان في نظر
--------------------
(1) امرأة مومس ومومسة فاجرة جهرا ، لسان العرب 6 : 224.
(2) الفصول الغرويّة : 138.
وقاية الاذهان
_ 344 _
المالك ، وربّما يكون الطريق القريب أبغض لديه من البعيد ، والمشي على سرعة أبغض منه على مهل ، فالمناط مراعاة رضا المالك وما هو عنده أقلّ مبغوضيّة ، وقد لا يرضى بالخروج عن ملكه إلى مدّة طويلة لضرر يتوجه عليه ، فيكون المكث حاله حال الخروج ، فلا بدّ من ملاحظة ذلك ، لما عرفت من كون الحكم الشرعي تابعا لرضاه ، وهذا واضح ، ما كنت أتعرض له لو لا احتمال نفعه في توضيح بعض الفروع الآتية ، فليكن منك على بال.
أما القول الثاني وهو كونه منهيّا عن الخروج غير مأمور به فجدير أن يلحق بسابقه في وضوح الفساد ، وقد تعلّق قائله بحجّة ضعيفة ، ذكرها في التقريرات مع جوابها (1) ، فراجع إن شئت ، ولا يضرّك عدم المراجعة.
وأما القول الثالث وهو قول صاحب الفصول ، وقد عرفت أنه مركّب من أمرين ، وهما : كونه مأمورا بالخروج فعلا ، وعاصيا بالنظر إلى النهي السابق.
وهذا كلامه بلفظه : ( والحق أنه مأمور بالخروج مطلقا أو بقصد التخلّص ، وليس منهيّا عنه حال كونه مأمورا به ، لكنّه عاص بالنظر إلى النهي السابق ) (2).
وغيّره الفاضل المقرّر إلى قوله : ( إنه مأمور به ، ولكنه معصية بالنظر إلى النهي السابق ) (3).
وأرجو أن يكون ذلك من باب المسامحة سامحه الله ، وأين قوله : ( عاص بالنظر إلى النهي السابق ) الّذي أوضحه وبيّن مراده منه بقوله بأسطر قليلة :
( نعم يجري عليه حكم المعصية في تلك المدّة على تقدير الخروج ) (1) من قول المقرّر : ( مأمور به ولكنه معصية ) إلى آخره ؟.
ولو لا علمنا بتقاه وتورّعه عن التعمد لتسارع الظنّ إلى أنّه لم يغيّره إلاّ ليكون توطئة للاعتراض الآتي ، وهو عدم إمكان اجتماع الحكمين في زمان واحد.
وأين ـ أيّها المنصف ـ كون الفعل جاريا عليه حكم المعصية من كونه معصية؟ ونحن ـ إن شاء الله وسهّل ـ ننقل من كلامه الّذي يتعلّق بالمقام بألفاظه ، ونثنّيه بملخّص اعتراضات المعترضين ، ونثلّثه بالنظر فيها والجواب عنها.
قال مستدلا على مختاره ما نصّه : ( لنا أنّ المكلف في الزمن الّذي لا يتمكن من الخروج فيما دونه لا يتمكن من ترك الغصب مطلقا فلا يصح النهي عنه مطلقا ، إذ التكليف بالمحال محال عندنا وإن كان ناشئا من قبل المكلّف للقطع بكونه سفها ).
نعم ربما يجوز أن يؤمر به حينئذ على وجه التعجيز والسخرية ، لكنّه خارج عن المتنازع فيه ، فإذن لا بدّ من ارتفاع النهي عن الغصب في تلك المدّة على بعض الوجوه ، وليس إلاّ صورة الخروج ، إذ لا قائل بغيره ، ولدلالة العقل والنقل على أنه مأمور بالخروج ، وهو يقتضي عدم النهي عنه ، وإلاّ لعاد المحذور من التكليف المحال.
نعم ، يجري عليه حكم المعصية في تلك المدّة على تقدير الخروج بالنسبة إلى النهي السابق على وقوع السبب ، أعني الدخول لتمكنه منه حينئذ.
وهذا حكم كلّي يجري في جميع ذوات الأسباب التي لا تقارن حصولها حصول أسبابها كالقتل المستند إلى الإلقاء من الشاهق.
ومثله ترك الحج عند الإتيان بما يوجبه من ترك المسير ، وغير ذلك ، فإنّ
--------------------
(1) الفصول الغرويّة : 138.
وقاية الاذهان
_ 346 _
التحقيق في مثل ذلك أنّ التكليف بالفعل يرتفع عند ارتفاع تمكن المكلّف منهما ، ويبقى حكم المعصية من استحقاق الذمّ والعقاب جاريا عليه.
وكذا الكلام في الأمر فإن التكليف بالمأمور به يرتفع عند الإتيان بالسبب الموجب له ، ويبقى حكم الامتثال والطاعة من استحقاق المدح والثواب جاريا عليه حال حصوله ـ إلى أن قال ـ احتج من قال بأنه مأمور بالخروج ولا معصية عليه بما ذكرناه من استحالة التكليف بالمحال.
وجوابه : أنّ ذلك إنما يقتضي عدم المعصية بنهي مقارن لا عدمها بنهي سابق كما بيّنا ، فإنّ المكلّف منهيّ قبل الدخول عن جميع أنحاء التصرف في ملك الغير بغير إذنه نهيا مطلقا ، غاية الأمر أنّ النهي يرتفع عنه على بعض الوجوه بالنسبة إلى المدّة التي لا يتمكن من الترك فيها ، وذلك لا يوجب عدم كونه عاصيا.
لا يقال : لو صح ذلك لزم أن يكون الخروج طاعة وعصيانا ، وهو محال ، لأنّ الطاعة والعصيان أمران متنافيان بالضرورة ، فيمتنع استنادهما إلى شيء واحد أو تواردهما على محلّ واحد.
لأنا نقول : إن أريد أنّ الطاعة والعصيان متنافيان من حيث نفسهما ، فممنوع ، لأنّ معناهما موافقة الطلب ومخالفته ، ولا منافاة بينهما مع تعدّد الطلب.
وإن أريد أنّهما متنافيان من حيث ما أضيف إليه من الأمر والنهي ، فممنوع أيضا ، لأنهما إنما يتنافيان إذا اجتمعا في الزمان كما هو شأن التضاد ، وقد بيّنا أنّ زمن الأمر غير زمن النهي.
وتوضيح المقام : أنّ ترك الغصب مراد من المكلّف بجميع أنحائه التي يتمكن من تركه إرادة فعليّة مشروطا بقاؤها ببقاء تمكنه منه ، وحيث إنه قبل الدخول يتمكن من ترك الغصب بجميع أنحائه دخولا وخروجا ، فترك الجميع مراد منه قبل دخوله ، فإذا دخل فيه ارتفع تمكنه من تركه بجميع أنحائه مقدار ما
وقاية الاذهان
_ 347 _
يتوقف التخلّص عليه ، وهو مقدار خروجه مثلا ، فيمتنع بقاء إرادة تركه كذلك.
وقضيّة ذلك أن لا يكون بعض أنحاء تركه حينئذ مطلوبا ، فيصح أن يتصف بالوجوب ، لخلوّه عن المنافي ، والعقل والنقل قد تعاضدا على أن ليس ذلك إلاّ التصرف بالخروج ، فيكون للخروج بالقياس إلى ما قبل الدخول وما بعده حكمان متضادان :
أحدهما مطلق وهو النهي عن الخروج ، والآخر مشروط بالدخول وهو الأمر به ، وهما غير مجتمعين فيه ، ليلزم الجمع بين الضدّين ، بل يتصف بكلّ في زمان ، ويلحقه حكمهما من استحقاق العقاب والثواب باعتبار الحالين.
ولو كانت مبغوضية شيء في زمان مضادّة لمطلوبيّته في زمان آخر لامتنع البداء في حقّنا مع وضوح جوازه ، وإنّما لا يترتّب هنا أثر الأول لرفع البداء له ، بخلاف المقام.
ولا يشكل بانتفاء الموصوف في الزمن السابق لوجوده في علم العالم ولو بوجهه الّذي هو نفسه بوجه ، ولو لا ذلك لامتنع تحقق الطلب إلاّ مع تحقق المطلوب في الخارج وهو محال ) (1) انتهى المقصود نقله هنا من كلامه.
ولله درّه من إمام ، فلعمر العلم لقد سلك فيه أعدل محجّة ، وبينها بأوضح حجّة ، ولم يبق في قوس البيان منزعا ، ولا للريب فيه موضعا ، وأرى بادئ بدء أن أبثّك ما أسرّه في هذا وأشباهه من المطالب ، وأبوح لك بمذهبي ـ وللناس مذاهب ـ غير مكترث بعذل (2) عاذل ، وإنكار جاهل.
ثم أعقبه بذكر اعتراضات المعترضين وانتقادها ، وهو أنّ في ملاحظة الأشباه العرفية والرجوع إلى الفطرة السليمة قبل أن تتلاعب بها الشبهات
--------------------
(1) الفصول الغرويّة : 138 ـ 139.
(2) العذل : الملامة ، مجمع البحرين 5 : 422 ( عذل ).
وقاية الاذهان
_ 348 _
وتقع بين مختلفات الآراء والعبارات ما تنزع عن العثرة ، ويقيه في مظانّ الزلّة (1).
ولذلك أقول : لو نهيت عبدك عن السباحة مخافة الغرق عليه فخالف وبعد عن سيف (2) البحر حتى وصل قبّته أتراك لا تأمره بالخروج وتطلب منه الرجوع ، ويمنعك عنهما هذه العبارات الفارغة ، فتقول : لا يمكنني الأمر به لأني نهيته عنها ، مخالف باختياره ، ولو لا مخالفته اختيارا لأمرته؟
ثم انظر إلى الأمر الّذي توجّهه إليه ، هل هو إرشاد حكم العقل ، وبيان لأقلّ المحذورين قائلا له : إني أقرّر لك حكم العقل بأنّ حركتك نحو الشاطئ أهون من بقائك فيه أو بعدك عنه ، وهو أمر يعرفه العبد ، ولست بأعلم منه به ، أم هو أمر مولوي يشتمل على أحسن الوعد على الفعل ، وأشدّ الوعيد على الترك؟
وربما جعلت عفوك عن مخالفته أولا جزاء لإطاعته ثانيا ، ومحوت تلك السيّئة بهذه الحسنة.
ولا ترى فرقا في الأمر ومقدّماته بين كون الدخول اختيارا أو اضطرارا.
ولو أخرجته بنفسك أو أخرجه غيره ألست معاقبا له على الدخول أولا ، وعدم الخروج ثانيا؟
ولو حاكمك لدى قاضي الوجدان قائلا : إن المولى ليس له إلاّ أن يعاقبني على مخالفة النهي لا على ترك الخروج لأني خالفته في النهي اختيارا ، وتلا صفحة من كفاية الأستاذ ، أترى الوجدان يقبل ذلك منه ، ويحكم له عليك؟ حاشا!.
--------------------
(1) وما أحسن ما قاله صاحب الفصول في بحث المفاهيم : ( إنّ من يجعل تفاصيل فكره تابعة لمجملات وجدانه أقرب إلى الصواب ممّن يتزاول التفصيل ، ولا يلتفت إلى المجملات ، أو يجعلها تابعة للتفاصيل ) ( منه ).
وانظر الفصول الغروية : 148.
(2) سيف البحر بكسر السين : ساحل البحر ، مجمع البحرين 5 : 74 ( سيف ).