مالك ، فلست أرى الذل حتى أقف على بابه .
   يبدو من هذا الكلام أن الشافعي أراد الاتصال بمالك بعد سطوع نجمه وارتقاء محله عند العباسيين ، حتى أن والي المدينة يشعر بالذلة والتصاغر أمام مالك والوقوف ببابه !
   وقد طالت تلمذه الشافعي على يد مالك ما يقارب تسع سنين ، ثم إن الشافعي أملق أشد الإملاق بعد موت مالك فرجع إلى مكة ، وصادف ذلك أن قدم إلى الحجاز والي اليمن ، فكلمه بعض القرشيين ، فأخذه الوالي معه ، وأعطاه عملاً من أعماله ، وهي ولاية نجران .
   ثم وشي به عند الرشيد بتهمة كونه ذا ميول علوية ويحاول الخروج على الحكم ، فأرسلوه إلى بغداد مكبلاً بالحديد ، فتبرأ من تهمة انخراطه مع العلويين ، وأكد إخلاصه للسلطة وشهد له صديقه محمد بن الحسن الشيباني ـ الذي كان قد تعرف عليه عندما كان يدرس عند مالك ثلاث سنين ، ـ بأنه ثقة ومن أتباع الدولة ، فخلى سبيله .
وبعد هذا توطدت علاقته وصلاته بالشيباني ، فأخذ يدرس عليه آراء أبي حنيفة في الرأي والقياس .
   إذن فالشافعي أخذ من كلا المدرستين :
  1 ـ مدرسة الرأي والقياس ، بواسطة محمد بن الحسن .
  2 ـ مدرسة الأثر ، من مالك بن أنس) ، فكان نتاجه مدرسة جديدة خاصة به أشاعها في مصر بعدما عاد إليها من بغداد عام 199 هـ مع أميرها العباس بن عبدالله بن العباس .
   وأنه بدأ في تقوية بناء مدرسته ، فهاجم مالكاً لتركه الأحاديث الصحيحة لقول واحد من الصحابة أو التابعين أو لرأي نفسه ، وهاجم أبا حنيفة وأصحابه لأنهم يشترطون في الحديث أن يكون مشهوراً ويقدمون القياس على خبر الآحاد وإن صح سنده ، وأنكر عليهم تركهم بعض الأخبار لأنها

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 327 ـ
  غير مشهورة وعملهم بأحاديث لم تصح لأنها مشهورة ، فاستاء منه المالكيون وأخذوا يبتعدون عنه ، لأنه أخذ يغير آراءه القديمة التي كان يقول بها سابقاً والتي كانت موافقة لرأي مالك في الغالب ـ ويرسم مكانها رأيه الجديد المتخذ على ضوء القياس والرأي المخلوط بالأثر .
   ولما استقر مذهبه الجديد شغب عليه بعض عوام أصحاب مالك فقتلوه (1) .
   وقد وردت طعون على الشافعي كعدم نقل البخاري ومسلم حديثاً عنه في صحاحهم ، وما نقله أحمد بن حنبل عن الشافعي قوله : أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا ، وقول أبي ثور : ما كان الشافعي يعرف الحديث ، وإنما كنا نوقفه عليه ونكتبه (2) ، وغيرها ، لكنا نحتمل كونها طعوناً عصبية ، فإن ترك البخاري ومسلم التحديث عن الشافعي لم يكن دليلاً على الجرح فيه ، إذ لم يكن ذلك دائراً مدار الواقع ، فإن الصحيح هو ما صح عندهما وإن كان مخالفاً للواقع ، فنراهما كثيراً ما يرويان عن أشخاص ضعاف أو عرفوا بالكذب ، وعدت تلك الروايات بمنزلة الصحاح ، وان المؤاخذات على البخاري لم تنحصر بهذا فقط .
   وعلى هذا يحتمل أن يكون عدم تحديث البخاري ومسلم ، وغيرها من الطعون المذكورة فيه ، إنما جاءت لقوله : إن علي بن أبي طالب هو الإمام الحق في عصره ، وأن معاوية وأصحابه كانوا الفئة الباغية .
   وقد اتخذ الشافعي في كتاب السير من فقهه سنة علي (ع) في معاملة البغاة ، وإظهاره حب آل محمد رغم وقوف الحكام في طريق ذلك ، وقد اشتهر عنه قوله :
إن كان رفضاً حب آل محمد      فليشهد  الثقلان اني iiرافضي
   فهذه المواقف كانت لا ترضي الحكام ، وهي التي أوجدت نسبة تلك الطعون وأمثالها فيه .

(1) معجم الاُدباء 17 : 289 .
(2) البداية والنهاية 9 : 327 ، طبقات الحنابلة 1 : 282 ، آداب الشافعي 95 ..اعتماداً على ما نقله أسد حيدر في الإمام الصادق والمذاهب الأربعة عنها ، انظر 2 : 244 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 328 ـ
مذهب الإمام أحمد بن حنبل

   ولد الإمام أحمد بن حنبل في عهد المهديّ سنة 164 هـ ، ونشأ ببغداد وتربّي بها ، واتّجه إلى طلب العلم وهو ابن خمس عشرة سنة ، ورحل إلى الأقطار ، وكتب عن الشيوخ ، وأخذ عن الشافعيّ واتّصل به اتّصالاً وثيقاً ، ولازمه مدّة إقامته في بغداد .
  وكان أوّل تلقيه العلم على القاضي أبي يوسف المتوفى سنة 182 ، وصرّح أحمد بأنّه كان أوّل من كتب عنه الحديث ، إلاّ أنّه لم يبق طويلاً معه ، وانصرف إلى فقه الأثر الذي كان يمثّله هشيم بن بشير الواسطيّ ، ولازمه إلى أن توفي هشيم سنة 183 .
   وقد أخذ عن كثير من المحدّثين ، وأخذ على نفسه أن يلتزم مدرسة الأثر ويخالف مدرسة الرأي والقياس ، فقرأ على محدّث البصرة عبد الرحمن بن مهدي الموطّأ لمالك أربع مرّات ، وكان معجباً بالشافعيّ ، وتصدّر للتحديث في مسجد الخيف سنة 198 ، وقيل : إنّه ما افتى ولا درّس حتّى بلغ سنّ الأربعين في سنة 204 هـ ! ! وقد أيّد العبّاسين منذ صباه ، فروى فيهم حديثين انفرد بهما ، يبشر فيهما بظهور أبي العبّاس السفّاح والدولة العبّاسيّة وشعارها السواد (1) ، وكان يقول : (إنّ العبّاس أبو الخلفاء) (2) .
   وثبت على ولائه رغم ما أصابه من محنة خلق القرآن وضربه بالسياط .
وقد استفتاه جماعة في الخروج على الواثق فرفض ذلك وأقرّ خلافته بقوله : (إنّ الخارج عليه شاقّ لعصا المسلمين ومخالف للآثار عن رسول الله) .
   ويعزى تحرّجه عن أخذ أموال بني العبّاس لكونها مغصوبة ، لا خدشة في مشروعيّة خلافتهم !

(1) البداية والنهاية 10 : 53 و 61 .
(2) إسلام بلا مذاهب للشكعة : 466 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 329 ـ
  وكان يرى عليّاً رابع الخلفاء الراشدين ، في الوقت نفسه لم يلتزم أن يكون معاوية باغياً على الإمام عليّ ـ كما ذهب إليه الشافعيّ .
   والجدير ذكره أنّ الإمام أحمد لم يشتهر كباقي أصحاب المذاهب ، ويرجع البعض سبب ذلك إلى أنّه كان محدّثاً ولم يكن فقيهاً ، حتّى قيل إنّ شهرته كانت بسبب عدم قوله بخلق القرآن وقد قال بها بعدما ضرب ثمانية وثلاثين سوطاً أيّام المعتصم .
  ولمّا تولّى الواثق أعاد امتحان أحمد ، لكنّه لم يصبه بأذى ، واكتفى بمنعه من الاجتماع بالناس ، فأقام أحمد مختفياً لايخرج إلى الصلاة ولا إلى غيرها حتّى مات الواثق .
   وتولّى المتوكّل الخلافة سنة 232 هـ واشتدّت وطأته على العلويين ، وعرف ببغضه لأهل البيت ، وطرد المعتزلة من حاشيته ، ونكلّ بابن أبي دواد ومحمّد ابن عبد الملك الزيّات وصادر أموالهم ، وأخذ يقرّب أصحاب الحديث ويأمر المحدّثين أن يجلسوا للناس ويتحدّثوا إليهم ، وأعطاهم الأموال والمكانة ، حتّى أنّ ابن كثير نقل أنّ تولية يحيى بن أكثم كانت بمشورة الإمام أحمد بن حنبل (1) ، وفي نص آخر انّ المتوكّل قال : له يا أحمد انيّ أريد أن أجعلك بيني وبين الله حجّة فأظهرني على السنّة والجماعة ، وما كتبته عن أصحابك عمّا كتبوه عن التابعين ممّا كتبوه عن اصحاب رسول الله (2) .
   وقد وشى بعضهم بأحمد عند المتوكّل بأنّه يشتم آباءه ويرميهم بالزندقة ، فأمر المتوكّل بضرب ذلك الرجل الواشي ، وعندما سئل عن ذلك قال :
   (لأنّه قذف هذا الشيخ الرجل الصالح أحمد بن حنبل) (3) .
   نعم ، لقد استمع المتوكّل إلى أقوال الجواسيس بأنّ أحمد يؤوي أحد العلويين الهاربين من المتوكّل ، فأمر بكبس داره وتفتيشها ، فلمّا تحقّقوا من

(1) البداية والنهاية 10 : 330 .
(2) التنبيه والردّ لابن الحسين الملطيّ : 17 .
(3) البداية والنهاية 10 : 354 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 330 ـ
  كذب ذلك عفا عنه المتوكّل (1) .
   وكان المتوكّل يصله بصلات سنيّة ، ويعطف عليه ، وعيّن له في كلّ شهر أربعة ألاف درهم ، وطلبه إلى سامراء ليتبرّك برؤياه ، وينتفع بعلمه ، فامتنع أحمد ، ثمّ قبل ذلك (2) .
   وروي عنه أنّه قال : (ما أرى الرافضة على الإسلام) (3) .
   فقد كسب عطف المتوكّل حتّى قيل : إنّ بعض أمراء المتوكلّ قالوا له : إنّ أحمد لا يأكل لك طعاماً ولا يشرب لك شراباً ولا يجلس على فراشك ويحرّم ما تشربه .
   فقال المتوكّل لهم : والله لو نشر المعتصم وكلّمني في أحمد ما قبلت منه (4) !
   بعد عرضنا السريع لنشوء المذاهب الأربعة ، نستطيع أن نفهم وبكّل وضوح أنّ روايات الوضوء المرويّة في هذه الكتب هي نسخ متكرّرة من الوضوء العثمانيّ والفقه المخالف لمدرسة التعبّد وما ذهب إليه عليّ بن أبي طالب وابن عبّاس .
   لأنّ الفقه والرواية ـ كما قلنا ـ نشأ وترعرعا في أحضان الحكومتين الأمويّة والعبّاسيّة ، وقد وقفت على دورهم التخريبيّ في الشريعة واحتوائهم بالفقهاء وبعض التابعين ، لإبعاد الناس عن الأخذ بفقه عليّ ، إذا إنّهم كانوا يتصوّرون أنّ الأخذ بفقه عليّ هو مقدّمة لإبعادهم عن الحكم وتقرّب الناس إلى أهل بيت النبوّة ، وهذا ما كان يزعج الحكّام ولا يرضيهم ، فتراهم يؤكّدون على الأخذ بكلام ابن عمر وإن خالف عليّاً وابن عبّاس .
  وإليك نصّاً آخر :

(1) مناقب أحمد ابن الجوزيّ : 36 .
(2) البداية والنهاية 10 : 350 .
(3) المناقب لابن الجوزيّ : 214 .
(4) البداية والنهاية 10 : 354 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 331 ـ
   دخل مالك بن أنس على المنصور فقال له : يا مالك مالي أراك تعتمد على قول ابن عمر دون أصحاب رسول الله ؟
   فقال مالك : يا أمير المؤمنين إنّه آخر من بقي عندنا من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) فاحتاج الناس إليه ، فسألوه وتمسّكوا بقوله .
   فقال : يا مالك عليك بما تعرف أنّه الحقّ عندك ، ولا تقلّدنّ عليّاً وابن عبّاس (1) .
   بعد هذا لا يمكننا الاطمئنان إلى مرويّات هذه الكتب بلا تحقيق وتمحيص سنداً ودلالة وزيادة ونقيصة ، وبدون معرفة الملابسات التاريخيّة لصدور الأحكام ، لأنّ ما تحتوي عليه ممّا طالته السياسة .
  وقد عرفت أنّها تريد تدوين ما ترتضيه وترك ما لا ترتضيه .

الوضوء الثلاثيّ الغسليّ في العصر العبّاسيّ

   بعد أن أخذنا صورة عن تأسيس المذاهب الأربعة ، ووقفنا على أهداف الحكّام من احتواء الفقهاء ، وتدوين الفقه وحصره بهذه المذاهب ، لابدّ من ملاحظة السير التاريخيّ لمسألة الوضوء في هذا العصر ، ولا بدّ من نقل آراء علماء المذاهب فيه رواية وفتتوىً ، ثمّ مقابلتها بآراء أئمّة مذهب التعبّد المحض (مذهب أهل البيت) ، وتشخيص امتداد موارد الخلاف التي حدثت في عهد عثمان ، وما أضيف إليها من جزئيّات وفروع في العصور اللاحقه .
   إنّ التثليث في غسل الأعضاء وغسل الأرجل كان المدار الأوّل للاختلاف بين المسلمين في عهد عثمان ، لكنّا نراه يتطوّر ، فنرى ابن عمر يغسل رجليه سبع مرّات ويعدّ الوضوء هو الإنقاء .

(1) انظر : الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1 : 504 ــ 505 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 332 ـ
   ويروى عن معاوية أنّه توضّأ للناس ، فلمّا بلغ رأسه غرف غرفة من ماء فتلقّاها بشماله حتّى وضعها على وسط رأسه حتّى قطر الماء أو كاد يقطر ، ثمّ مسح من مقدّمه إلى مؤخّره ومن مؤخّره إلى مقدّمه (1) .
   أمّا مدرسة التعبّد المحض فلم ترتض هذا التغيير في الوضوء ، لأنّها تعدّ الوضوء من الأمور التوقيفيّة التعبّديّة التي يجب فيها الرجوع إلى الشرع ، وأنّ الوضوء لم يكن عندهم هو الإنقاء حسب قول ابن عمر ، بل هو إتيان ما أمر به الله ، ونزل به القرآن ، وأكّد عليه الرسول .
  وقد وقفت سابقاً على كلام أنس بن مالك مع الحجّاج وقوله : (نزل القرآن بالمسح) ، وكلام ابن عبّاس مع الربيّع (أبى الناس إلاّ الغسل ولا أجد في القرآن إلاّ المسح) وغيرهم .
   وتأكيد الجميع على لزوم اتّباع ما نزل به الوحي وأتى به رسول الله على نحو السنّة .
   أمّا ما رواه ابن عمر عن رسول الله أنّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) قال لمّا أتى بالغسل الثالث (هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي) فليس فيه دلالة على كون الفعل قد جيء به على نحو السنّة ، بل هو أدلّ على عدم مشروعيّة هذا الفعل للناس واختصاصه به ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، لإتيانه به بعد الثاني الذي هو فضل وقوله ( صلى الله عليه واله وسلم ) عنه : ( يعطى عليه كفلين ) أو ( يؤجر عليه مرّتين ) ، وهو معنى آخر للسنّة ، وتصريحه ( صلى الله عليه واله وسلم ) في الغسل الثالث : بقوله ( هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ) لتدلّ على أنّها من مختصّاته ، إذا لا معنى لفضل بعد فضل ! ! وعليه فإنّ هذا الحديث لنفي التثليث أدلّ من كونه دليلاً له .
   أمّا موضوع أخذ معاوية غرفة ماء جديد في الوضوء (ووضعها على وسط رأسه حتّى قطر الماء أو كاد يقطر ، ثمّ مسح من مقدّمه إلى مؤخره ومن مؤخّره إلى مقدّمه) فلم يشاهد في الوضوءات البيانيّة الأخرى ـ إلاّ المحكي عن عبد الله

(1) سنن أبي داود 1 : 31|124 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 333 ـ
  ابن زيد بن عاصم ، والربيّع بنت معوّذ ، وحتّى أنّ صحاح مرويّات الخليفة عثمان ليس فيها ذلك .
   وانّا سنشير إلى كيفيّة نسبة هذا الخبر إلى عبدالله بن زيد والسير الفقهيّ لهذه المسألة وغيرها من التفريعات في الفصول اللاحقة من هذا الكتاب ، لكن الذي يجب الإشارة إليه هنا هو : إنّ موضوع مسح الرأس قد تغيّر من أيّام معاوية وأخذ يفقد حكمه ، حتّى ترى فقهاء المذاهب اليوم يجوّزون غسل الرأس بدلاً من مسحه ، وإن ذهب البعض منهم إلى القول بالكراهة !
   بعد ذلك لا نرى للمسح حكماً إلزاميّاً في وضوء مسلمي المذاهب الأربعة اليوم (1) !
   كانت هذه إشاره عابرة إلى هذا الأمر نترك تفصيلها إلى الأجزاء الأخرى من الكتاب .
   ولنعد إلى أصل البحث وبيان الوضوء الثلاثيّ الغسليّ عند أئمّة المذاهب :

  1 ـ الفقه الحنفيّ
   اتّفقت الحنفيّة على هذا الوضوء الثلاثي الغسلي والمراجع لكتبهم المهمّة كأحكام القرآن للجصّاص (م 370) ، وشرح معاني الآثار للطحاويّ (م 321) ، وبدائع الصنائع للكاسانيّ (م 587) ، وعمدة القاري للعينيّ (م 855) ، وشرح فتح القدير لابن همام (م 681) ، والمبسوط للسرخسيّ (م 483) ، والفتاوي

(1) جاء في الفقه على المذاهب الأربعة للجزيريّ 1 : 57 عند بيانه وضوء الحنفيّة : (وإذا غسل رأسه مع وجهه ، أجزأء عن المسح) .
وعن وضوء المالكيّة 1 : 58 قال : (الفرض الرابع : مسح جميع الرأس من منابت شعر الرأس إلى نقرة القفا من الخلف) علماً بأنّهم يشترطون أخذ ماء جديد للرأس ، وبإمرار المكلّف يده من منابت الشعر إلى نقرة القفا يحصل الغسل ! ! وقال عن وضوء الشافعيّة 1 : 61 ( إذاغسل رأسه بدل مسحها ، فإنّه يجزئه ذلك ، ولكنّه خلاف الأولى ) .
  أمّا عن وضوء الحنابلة 1 : 62 فقال : ( وغسل الرأس يجزئ عن مسحها ، كما قال غيرهم ، بشرط إمرار اليد على الرأس ، وهو مكروه كما عرفت ) .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 334 ـ
  الهنديّة وغيرها ، يقفف على ما قلناه .
   وإليك نصّاً أخذناه من كتاب المبسوط للسرخسيّ ، إذا مرّ عليك أنّ محمد ابن الحسن الشيبانيّ صنّف ما فرعه أبو حنيفة وأسمى كتابه (المبسوط) ، ثمّ اختصر محمّد بن أحمد المروزيّ ذلك الكتاب فسمّاه (بالمختصر) ، ثمّ جاء شمس الدين السرخسيّ فشرح المختصر وسماّه (المبسوط) .
ونحن نأخذ آراء أبي حنيفة من هذا الكتاب لما عرفت ، ونقتصر على نقل متن المختصر لمروزيّ إن لم نحتج إلى شرح السرخسيّ ، فقد جاء في الوضوء عنه :
   ( ثمّ يغسل وجهه ثلاثاً ، ثمّ يغسل ذراعيه ثلاثاً ثلاثاً ، ثمّ يمسح برأسه واُذنيه مرّة واحدة ) .
   والمسنون في المسح مرّة واحدة بماء واحد عندنا ، وفي المجرّد عن أبي حنيفة ثلاث مرّات بماء واحد ( ثمّ يغسل رجليه إلى الكعبين ثلاثاً ثلاثاً ) (1) .

  2 ـ الفقه المالكيّ
   نهجت المالكيّة نهج الخليفة عثمان بن عفّان في الوضوء ، ومن يقرأ في كتبهم المهمّة يقف على هذه الحقيقة ، كأحكام القرآن للقرطبيّ (م 340) ، وأحكام القرآن لابن العربيّ (م 543) ، وبداية المجتهد لابن رشد (م 595) ، وغيرها من كتبهم حتّى المدوّنة الكبرى والموطّأ لمالك ، وإليك نصّاً أخذناه من الموطّأ (كتاب الطهارة ، الحديث الأوّل في باب العمل في الوضوء) :
   ( حدّثني يحيي بن مالك ، عن عمرو بن يحيي المازنيّ ، عن أبيه ، انّه قال لعبد الله بن زيد بن عاصم ، وهو جدّ عمرو بن يحيى المازنيّ ، وكان من أصحاب رسول الله : هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله يتوضّأ ؟

(1) المبسوط للسرخسيّ 1 : 6 ــ 8 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 335 ـ
   فقال عبد الله بن زيد : نعم ، فدعا بوضوء ، فأفرغ على يده ، فغسل يديه مرّتين ، ثمّ تمضمض ، واستنثر ثلاثاً ، ثمّ غسل وجهه ثلاثاً ، ثمّ غسل يديه مرّتين إلى المرافقين ، ثمّ مسح رأسه بيديه ، فأقبل بهما وأدبر ، بدأ بمقدّم رأسه ثمّ ذهب بهما إلى قفاه ، ثمّ ردّهما ، حتّى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ، ثمّ غسل رجليه ) (1) .
   لم يحدّد مالك في الموطّأ غسلات الوضوء بمرّة ولا مرّتين ، ولا ثلاث مرّات ، ولم يبوّب باباً في الافراد والتثنية والتثليث ، وإنّما اقتصر على هذه الرواية التي لم يرد فيها إلاّ تثليث غسل الوجه وغسل الرجلين ، لكنّ ابن رشد القرطبيّ المالكيّ قال : ( اتّفق العلماء على الواجب من طهارة الأعضاء المغسولة هو مرّة مرّة إذا أسبغ وأنّ الاثنين والثلاث مندوب إليها ) (2) .
   فالمالكية استنتجوا من قول مالك وسائر المرويات أنّ التثليث أيضاً مندوب إليه ، وأنّه وضوء مجز وإن كان يتحقّق فعله بواحدة على نحو الإسباغ .
   ولابن العربيّ في أحكام القرآن تحقيق انفرد به ، وهو : ( إنّ قول الراوي انّ النبيّ ( صلى الله عليه واله وسلم ) توضّأ مرّتين وثلاثاً ، أنّه أوعب بواحدة ، وجاء بالثانية والثالثة زائدة ، فإنّ هذا غيب لايدركه بشر ، وإنّما رأى الراوي أنّ النبيّ ( صلى الله عليه واله وسلم ) قد غرف لكلّ عضو مرّة فقال : توضّأ مرّة ، وهذا صحيح صورة ومعنى ، ضرورة أنّا نعلم قطعاً انّه لو لم يوعب العضو بمرّة لأعاد ، وأمّا إذا زاد على غرفة والواحدة في العضو أوغرفتين فإنّنا لا نتحقق أنّه أوعب الفرض في الغرفة الواحدة وجاء ما بعدها فضلاً ، أو لم يوعب في الواحدة ولا في الاثنين حتّى زاد عليها بحسب الماء وحال الأعضاء في النظافة ، وتأتي حصول التلطّف في إدارة الماء القليل والكثير عليها ، فيشبه ـ والله أعلم ـ انّ النبيّ ( صلى الله عليه واله وسلم ) أراد أن يوسّع على أمّته بأن يكرر لهم الفعل ، فإنّ أكثرهم لا يستطيع أن يوعب بغرفة واحدة ، فجرى مع

(1) الموطّأ لمالك 1 : 18|1 .
(2) بداية المجتهد 1 : 13 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 336 ـ
  اللطف بهم والاخذ لهم بأدنى أحوالهم إلى التخلّص ، ولأجل هذا لم يوقت مالك في الوضوء مرّة ولامرّتين ولا ثلاثاً إلاّ ما أسبغ .
   قال : وقد اختلفت الآثار في التوقيت ، يريد اختلافاً يبيّن أنّ المراد معنى الإسباغ لاصورة الأعداد .
  وقد توضّأ النبيّ ( صلى الله عليه واله وسلم ) كما تقدّم ، فغسل وجهه بثلاث غرفات ، ويده بغرفتين ، لأنّ الوجه ذو غضون ودحرجة واحدِ يداب ، فلا يسترسل الماء عليه في الأغلب من مرّة ، بخلاف الذراع فأنّه مسطّح فيسهل تعميمه بالماء وإسالته عليها أكثر ممّا يكون ذلك في الوجهه .
   فإنّ قيل : فقد توضّأ النبيّ ( صلى الله عليه واله وسلم ) مرّة مرّة وقال : ( هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاّ به ) وتوضّأ مرّتين مرّتين وقال : ( من توضّأ مرّتين مرّتين آتاه الله أجره مرّتين ) ، ثمّ توضّأ ثلاثاً ثلاثاً وقال : ( هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ، ووضوء أبي إبراهيم ) ، وهذا يدّل على أنّها أعداد متفاوتة زائدة على الإسباغ ، يتعلّق الأجر بها مضاعفاً على حسب مراتبها .
   قلنا : هذه الأحاديث لم تصحّ ، وقد ألقيت إليكم وصيّتي في كلّ وقت ومجلس ألاّ تشتغلوا من الأحاديث لما لا يصحّ سنده ، فكيف يبتني مثل هذا الأصل على أخبار ليس لها أصل ، على أنّ له تأويلاً صحيحاً ، وهو أنّه توضّأ مرّة مرّة وقال : ( هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاً به ) ، فإنّه أقلّ ما يلزم ، وهو الإيعاب على ظاهر هذه الأحاديث بحالها ، ثمّ توضّأ بغرفتين وقال : ( له أجره مرّتين في كلّ تكلف غرفة ثواب ) ، وتوضّأ ثلاثاً وقال : ( هذا وضوئي ) ، معناه الذي فعلته رفقاً بأمّتي وسنّة لهم ، ولذلك يكره أن يزاد على ثلاث ، لأنّ الغرفة الأولى تسنّ العضو للماء ، وتذهب عنه شعث التصرّف ، والثانية ترحض [ أي تغسل ] وضر [ الوضر : وسخ الدسم واللبن ] العضو ، وتدحض وهجه ، والثلاثة تنظّفه ، فإن قصرت دربة أحدٍ عن هذا كان بدويّاً جافياً ، فيعلّم الرفق حتّى يتعلّم ، ويشرع له سبيل الطهارة حتّى ينهض إليها ، ويتقدّم ، ولهذا قال من قال :

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 337 ـ
  (فمن زاد على الثلاث فقد أساء وظلم) (1) .

   وجاء عن ابن العربي في كتاب الوصايا صفحة 143 طبعة الاعلمي : فإذا توضأت فأعزم أن تجمع بين قسم رجلك وغسلها فأنّه أولى .
   قلت : لنا تحقيق آخر قريب لما قاله ابن العربيّ سنذكره في الفصل الأوّل من هذه الدراسة ، فتابع معنا .

  3 ـ الفقه الشافعيّ
   كتب علماء الشافعيّة كثيراً في الأحكام ، وبمراجعتنا لكتبهم المهمّة يمكننا الوقوف على وضوئهم ، وأنّه لا يختلف في الأصول عن المذاهب الأخرى ، فتراه متأثّراً بما حكاه الخليفة عثمان بن عفّان عن رسول الله .
  وأهم كتب الشافعيّة هي :
   اختلاف العلماء للمروزيّ (م 294) ، الاُمّ للشافعيّ (م 204) ، والمختصر للمزنيّ (م 264) ، ومعالم السنن للخطابيّ (م 388) ، والمهذّب للفيروزآباديّ (م 476) ، والمجموع للنوويّ (م 676) ، وفتح الباري لعسقلانيّ (م 852) ، وغيرها .
وقد حكى الشافعيّ ذلك الوضوء عن ابن عبّاس وأنّه قال : (توضّأ رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) فأدخل يده في الإناء فاستنشق وتمضمض مرّة واحدة ثمّ أدخل يده فصّب على وجهه مرّة وصبّ على يديه مرّة ومسح برأسه وأذنيه مرّة واحدة) (2) .
   ثمّ نقل بعدها رواية عن حمران مولى عثمان عن عثمان أنّه توضّأ بالمقاعد ثلاثاً ثلاثاً (3) .
   ثمّ قال الشافعيّ : وليس هذا اختلافاً ، ولكنّ رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) إذا توضّأ

(1) أحكام القرآن لابن العربيّ 2 : 582 ـ 583 .
(2) الأمّ 1 : 31 ـ 32 .
(3) الأمّ 1 : 32 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 338 ـ
  ثلاثاً وتوضّأ مرّة ، فالكمال والاختيار ثلاث ، واحدة تجزئ ، فأحبّ للمرء أن يوضئ وجهه ويديه ورجيه ثلاثاً ثلاثاً ويمسح برأسه ثلاثاً ، ويعّم بالمسح رأسه ، فإن اقتصر في غسل الوجه واليدين والرجلين على واحدة تأتي على جميع ذلك اجزأه ، وإن اقتصر في الرأس على مسحة واحدة بما شاء من يديه اجزأه ذلك .
وذلك أقل ما يلزمه ، وإن وضّأ بعض أعضائه مرّة وبعضها اثنين وبعضها ثلاثاً أجزأه ، لأنّ واحدة إذا أجزأت في الكلّ أجزأت في البعض منه .
   ثمّ قل رواية عبد الله بن زيد بن عاصم ، ثمّ قال بعدها : (ولا احبّ للمتوضئ أن يزيد على ثلاث ، وإن زاد لم أكرهه إن شاء الله) (1) .

  4 ـ الفقه الحنبليّ
   لا يختلف الوضوء عند الحنابلة في الأصول مع المذاهب الأخرى ، والكلّ يستقي مصدره من الأحاديث السابقة الذكر .
  وقد مرّ كلام عن أسباب إحداث عثمان هذا الوضوء وكيفيّة تبنيّ الحكّام للوضوء بغضاً للطالبيّين ، وسبباً في التعرّف عليهم .
   وللإمام أحمد مضافاً إلى مسنده كتابان يمكن الرجوع إليهما لأخذ الأحكام منهما ، أحدهما مسائل ابنه عبد الله بن أحمد ، والآخر مسائل أحمد التي جمعها أبو داود سليمان بن الأشعت السجستانيّ .
   علماً أنّ أشهر كتاب عند الحنابلة في الفقه هو المغني لا بن قدامة (م 620) ، والمحرر في الفقه لابن تيميّة (م 652) ، والإنصاف للمرداويّ (م 885) ، وقد أخذنا بعض الروايات عن المسند لنقف على حقيقة الحال .
   أخرج أحمد بسنده عن بسر بن سعيد عن عثمان أنّه توضأ بالمقاعد

(1) الأمّ 1 : 32 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 339 ـ
  وغسل وجهه ثلاثاً ويديه ثلاثاً ثلاثاً ، ثمّ مسح برأسه ورجليه ثلاثاً ثلاثاً (1) .
   وأخرى عن بسر بن سعيد عن عثمان أنّه توضّأ ثلاثاً ثلاثاً (2) .
   وروى أيضاً رواية أخرى عن حمران عن عثمان ، أنّه غسل وجهه ثلاث مرّات ، ثمّ غسل يديه إلى المرفقين ثلاث مرّات ، ثمّ مسح برأسه ... ثمّ غسل رجليه إلى الكعبين ثلاث مرّات .
   ورابعة عن حمران عن عثمان أنّه توضّأ بالمقاعد : ... فغسل ثلاثاً ثلاثاً .
   وقد تتّبعنا روايات عثمان في مسند أحمد ، فرأيناه ينقل المرويات الثلاثيّة عنه ( صلى الله عليه واله وسلم ) وليس فيها حتّى رواية واحدة أنّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) توضّأ المرّة أو المرّتين .
  أمّا الروايات الثلاثيّة فهي أكثر من اثنتي عشرة رواية ، وفي بعضها انّه مسح برأسه ثلاثاً وثلّث غسل الرجلين ، اللّهمّ إلاّ رواية واحدة جاء فيها (ومسح برأسه وظهر قديمه) (3) .
   وفي الحديث الأوّل : (ثمّ مسح برأسه ورجليه ثلاثاً) (4) .
   فنلاحظ أنّ أحمد نقل الوضوء العثمانيّ الموافق لرأي المتوكلّ وحكومة بني العبّاس ، الذي هو امتداد لنهج الأمويّين وعثمان بن عفّان .
   وينسب هذا الوضوء كذلك إلى عليّ بن أبي طالب (5) ! ولا نريد أن نتّهم الإمام أحمد بالكذب أو الوضع ، فقد نقل الكثير من فضائل عليّ ، لكنّه والفقاء الثلاثة الأخرين تتلمذوا في العهدين الأموي والعباسي ، وكانوا على اتصال بالحكام ، وأخذوا العلم عن أساتذة أمويّين وعبّاسيّين ، فكان ما تلقّوه قد تأثّر بالحكّام ، فلا تراهم ينقلون رأي عليّ بن أبي طالب وعبد الله بن عبّاس وأوس

(1) مسند أحمد 1 : 67 .
(2) مسند أحمد 1 : 67 ـ 68 .
(3) مسند أحمد 1 : 58 .
(4) مسند أحمد 1 : 67 .
(5) مسند أحمد 1 : 78 و 82 ، 103 ، 110 ، 114 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 340 ـ
  ابن أبي أوس وعبّاد بن تميم وغيرهم في الوضوء إلاّ نادراً ، وفي أغلب الأحيان محرّفاً .
   فتلخص ممّا سبق وكما سترى ، أنّ المذاهب الأربعة تتّحد في وضوئها وتشترك فيما بينها في النقاط التالية :
  1 ـ محبوبيّة الغسل الثالث في الأعضاء الغسليّة ، والتأكيد على أنّه سنّة رسول الله .
  2 ـ لزوم غسل الأرجل وأنّ رسول الله قد فعله .
  3 ـ غسل اليدين مع المرفقين .
  4 ـ جواز غسل الرأس ، وإن ذهب البعض إلى كراهته !
   أمّا أعضاء الوضوء وأركانه فهي عند المسلمين واحدة ـ اتباعاً لتنزيل ـ :
  1 ـ غسل الوجه .
  2 ـ غسل اليدين .
  3 ـ مسح الرأس .
  4 ـ الأرجل .
   وإنّ اختلافهم في الأرجل هل تمسح أم تغسل ، وإنّ الرأس يمسح ببعضه أم كلّه و ...
   تحصّل ممّا سبق أنّ المذاهب الأربعة اتّفقت على تثليث الأعضاء الغسليّة ، وجواز غسل الرجلين ثلاثاً أيضاً .
   وحتّى انّنا نراهم يجوّزون غسل الرأس بدل المسح ، لكنّ البعض منهم ذهب إلى القول بالكراهة !
   بذلك يمكننا أن نطلق على المدرسة الوضوئيّة في العهد العبّاسيّ الأوّل مدرسة ( تثليث الغسلات وغسل الممسوحات ) .
   وقد تبيّن للمطالع أنّ علومهم أخذت تدوّن وتكثر تفريعاتها وتختلف طرق الاستدلال لها ، وتأصّلت المذاهب فتوائيّاً بعد أن كانت روائيّاً ، وصيغت المسائل الشرعيّة بشكل فتاوى لا محيص عنها .
   ففرائض الوضوء تكون عند الإمام أبي حنيفة أربعة :

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 341 ـ
  1 ـ غسل الوجه
  2 ـ غسل اليدين مع المرفقين .
  3 ـ مسح ربع الرأس ، ويقدّر الربع بقدر الكف كلّها ، وإذا غسل رأسه مع وجهه أجزأه عن المسح ، ولكنّه يكره .
  4 ـ غسل الرجلين مع الكعبين ، وقالوا : إنّ غسل العضو كلّه بالماء مرّة واحدة فرض والغسلة الثانية والثالثة سنّتان مؤكّدتان على الصحيح .
   وأمّا فرائض الوضوء في مذهب المالكيّة ، فهي سبعة :
  1 ـ النيّة .
  2 ـ غسل الوجه .
  3 ـ غسل اليدين مع المرفقين .
  4 ـ مسح جميع الرأس ، وإذا غسل رأسه ، فإنّه يكفيه عن المسح إلاّ أنّه مكروه .
  5 ـ غسل الرجلين مع الكعبين .
  6 ـ الموالاة .
  7 ـ دلك الأعضاء الغسليّة ، وقالوا : إنّ الغسلة الثانية والثالثة في كلّ مغسول حتّى الرجلين يعدّ من الفضائل .
   وهي في مذهب الشافعيّة ستّة :
  1 ـ النيّة .
  2 ـ غسل الوجه .
  3 ـ غسل اليدين مع المرفقين .
  4 ـ مسح بعض الرأس ولو قليلاً ، وإذا غسل رأسه بدل المسح أجزأه ، ولكنّه خلاف الأولى وليس بمكروه .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 342 ـ
  5 ـ غسل الرجلين مع الكعبين .
  6 ـ الترتيب بين الأعضاء الأربعة المذكورة في القرآن .
وقالوا : إنّ الغسلة الثانية والثالثة سنّة مستحبّة ، ومندوب إليها ، وكلّها بمعنى واحد .
   وهذه الفرائض في مذهب الحنابلة ستّة أيضاً :
  1 ـ غسل الوجه .
  2 ـ غسل اليدين مع المرفقين .
  3 ـ مسح جميع الرأس ، وغسل الرأس يجزئ عن المسح وهو مكروه .
  4 ـ غسل الرجلين مع الكعبين .
  5 ـ الترتيب .
  6 ـ الموالاة .
   وقالوا : إنّ الغسلة الثانية والثالثة في المغسولات سنّة مستحبّة مندوب إليها ، وكلّها بمعنى واحد (1) .

الوضوء الثنائي المسحيّ في العصر العبّاسيّ

   بعد أن تكوّنت لدينا صورة عن المذاهب الأربعة ، ووقفنا على أهداف الحكّام من احتواء الفقهاء ، وبيّنا جذور الوضوء الثلاثيّ وكيفيّة تأثّر المذاهب الأربعة به في العهد العبّاسيّ ... لابدّ من ملاحظة السير التاريخيّ لمسألة الوضوء وكيفيته عند نهج ( التعبّد المحض ) في هذا العصر ، والمتمثّل بأهل البيت (ع) .
   وإذا أخذنا بعين الاعتبار معاصرة كلّ من الإمام أبي حنيفة ومالك للدولة الأمويّة وتتلمذهم فيها ، فإنّ الإمام الشافعيّ وأحمد كانا صورتين مكرّرتين

(1) أخذنا فرائض الوضوء من كتاب الفقه على المذاهب الأربعة للجزيريّ : المجلّد الأوّل ، باب الوضوء فراجع .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 343 ـ
  لفقه مالك وأبي حنيفة في العهد العبّاسيّ ، وإن كان لكلّ منهما أصول يختصّ بها .
   إنّه لابدّ هنا من معرفة رأي أئمّة أهل البيت وكيفيّة امتداد وضوئهم في العصر العبّاسيّ .
   نبدأ بذكر وضوء محمّد بن عليّ بن الحسين (الباقر) والذي صدر في العهد الامويّ ، ثمّ نردفه بوضوء الأئمّة من ولده مبيّنين سرّ تأكيدهم على بيان بعض الجزئيّات في الوضوء ، علماً أنّ الباقر ـ كما قلنا سابقاً ـ كان لا يتّقي في الوضوء ن إذ إنّ الوضوء الذي يصفه لا يمكن الخدش فيه ، فتراه يؤكّد على المرّة والمرّتين ، وهو ثابت في الأحاديث النبويّة المتواتر صدورها في الصحاح والمسانيد عنه ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، وأنّ رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) قد توضّأهما .
  أمّا تأكيد عثمان على الغسل الثالث فمختلف فيه ، وعليه فإنّ ما طرحه الباقر متفّق عليه بين المسلمين ولا اختلاف فيه .
   والآن لنسرد بعض الروايات المرويّة عنه :
  1 ـ قال عن زرارة : قال أبو جعفر (أي الباقر) : ( ألا أحكي لكم وضوء رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) ؟ )
   قلنا : بلى ، فدعا بقعب فيه شيء من ماء ، فوضعه بين يديه ، ثمّ حسر عن ذراعيه ، ثمّ غمس فيه كفّه اليمنى ، ثمّ قال : ( هكذا ، إذا كانت الكفّ طاهرة ) ، ثمّ غرف بملئها ماءً فوضعه على جبينه ، ثمّ قال : ( بسم الله ) ، وسدله على أطراف لحيته ، ثمّ أمرّ يده على وجهه وظاهر جبينيه مرّة واحدة .
   ثمّ غمس يده اليسرى ، فغرف بها فملأها ، ثمّ وضعه على مرفقه اليمنى ، فأمرّ كفّه على ساعده حتّى جرى الماء على أطراف أصابعه .
   ثمّ غرف بيمينه ملأها ، فوضعه على مرفقه اليسرى ، فأمرّ كفّه على ساعده حتّى جرى الماء على أطراف أصابعه ، ومسح مقدّم رأسه وظهر قدميه ببلّة يساره وبقيّة بلّة يمناه .
   قال : وقال ابو جعفر : ( إنّ الله وتر ، يحبّ الوتر ، فقد يجزيك من الوضوء

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 344 ـ
  ثلاث غرفات : واحدة للوجه ، واثنتان للذراعين ، وتمسح ببلّة يمناك ناصيتك ، وما بقي من بلّة يمينك ظهر قدمك اليمنى ، وتمسح ببلّة يسارك ظهر قدمك اليسرى ) .
   قال زرارة : قال ابوجعفر : ( سأل رجل أمير المؤمنين عن وضوء رسول الله ، فحكى له مثل ذلك ) (1) .
  2 ـ وجاء عن زرارة وبكير أنّهما سألا أبا جعفر عن وضوء رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، فدعا بطشت أو تور فيه ماء ، فغمس يده اليمنى ، فغرف بها غرفة ، فصبّها على وجهه ، فغسل بها وجهه ، ثمّ غمس كفّه اليسرى ، فغرف بها غرفة ، فأفرغ على ذراعة اليمنى ، فغسل بها ذراعة من المرفق إلى الكفّ ، لا يردّها إلى المرفق ، ثمّ غمس كفّه اليمنى ، فأفرغ بها على ذراعة اليسرى من المرفق ، وصنع بها بها مثل ما صنع باليمنى ، ثمّ مسح رأسه وقدميه ببلل كفّه لم يحدث لهما ماءً حديداً ، ثمّ قال : ( ولا يدخل أصابعه تحت الشراك ) ، قال : ثمّ قال : ( إنّ الله تعالى يقول ( ياأيّها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم ) فليس له أن يدع شيئاً من وجهه إلاّ غسله ، وأمر بغسل اليدين إلى المرفقين ، فليس له أن يدع من يديه إلى المرفقين شيئاً إلاّ غسله ، لأنّ الله تعالى يقول ( فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ) ، ثمّ قال : ( وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) فإذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع ، فقد أجزأه ) .
   قال : فقلنا : أين الكعبان ؟
   قال : ( ها هنا ) ، يعني المفصل دون عظم الساق .
   فقلنا : هذا ما هو ؟

(1) الكافي 3 : 25|4 ، من لا يحضره الفقيه 1 : 24|74 ، وما رواه الإمام الباقر عن أمير المؤمنين قد جاء في كنز العمّال 9 : 448|26908 وعهد الإمام عليّ من هذا الكتاب .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 345 ـ
   فقال : ( هذا من عظم الساق ، والكعب أسفل من ذلك ) (1) .
   وإنّ في جملة (لا يردّها إلى المرافق) و (ثمّ مسح رأسه وقدميه ببلل كفّه لم يحدث لهما ماءً جديداً) إشارة إلى فعل بعض الناس في ردّ الماء إلى المرفق وفي المسح بماء جديد ، وهو ربّما يعدّونه من سنة رسول الله ، فالراوي أراد أن يؤكّد على أنّ ما شاهده من وضوء الباقر ليس فيه شيء من هذا الذي يقال .
  3 ـ وعن بكير بن أعين ، عن أبي جعفر ، أنّه قال : ( ألا أحكي لكم وضوء رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) ؟ ) ، فأخذ بكفّه اليمنى كفّاً من ماء فغسل به وجهه ، ثمّ أخذ بيده اليسرى كفّاً فغسل به يده اليمنى ، ثمّ أخذ بيده اليمنى كفّاً من ماء فغسل به يده اليسرى ، ثمّ مسح بفضل يديه رأسه ورجليه (2) .
  4 ـ وعن ميسر ، عن أبي جعفر ، قال : ( ألا أحكي لكم وضوء رسول الله ؟ ) ، ثمّ أخذ كفّاً من ماء ، فصبّها على وجهه ، ثمّ أخذ كّاً فصبّها على ذراعه ، ثمّ أخذ كفاً آخر فصبّها على ذراعه الأخرى ، ثمّ مسح رأسه وقدميه ، ثمّ وضع يده على ظهر القدم ، ثمّ قال : ( إنّ هذا هو الكعب ) .
   قال : وأومأ بيده إلى أسفل العرقوب ، ثمّ قال : ( إنّ هذا هو الظنبوب ) ، [ وفي القاموس : الظنبوب : حرف الساق أو عظمه (3) ] .
   من هذا النصّ وما مرّ في رقم (2) نعرف أنّ الاختلاف في مفهوم الكعب والمناقشات فيه قد بدأت ملامحه في عهد الإمام الباقر .
  5 ـ عن ابن أذينة ، عن بكير وزرارة بن أعين ، أنّهما سألا أبا جعفر عن وضوء رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) ؟ فدعا بطشت أو بتور فيه ماء ، فغسل كفيّه ، ثمّ غمس كفّه اليمنى في التور فغسل وجهه بها ، واستعان بيده اليسرى بكفّه على غسل

(1) الكافي 3 : 25 ـ 26 ح 5 ، التهذيب 1 : 76 | 191 و 81 | 211 .
(2) الكافي 3 : 24| 2 .
(3) التهذيب 1 : 75 | 190 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 346 ـ
  وجهه ، ثمّ غمس كفّه اليمنى في الماء ، فاغترف بها من الماء ، فغسل يده اليمنى من المرفق إلى الأصابع لا يرّد الماء إلى المرفقين ، ثمّ غمس كفّه اليمنى في الماء فاغترف بها من الماء ، فأفرغه على يده اليسرى من المرفق إلى الكفّ لا يردّ الماء إلى المرفق ، كما صنع باليمنى ، ثمّ مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفّيه ، لم يجدّد ماءً (1) .
   في هذا الحديث وما في رقم (2) دلالة على أنّ بعض الناس كانوا يردّون الماء عند غسلهم إلى المرافق ويجدّدون الماء في المسح ، فالراوي أراد التأكيد على أنّ الباقر لم يردّ الماء إلى المرفقين في وضوئه ولم يجدّد ماءً عند مسحه !
  6 ـ عن جميل بن درّاج ، عن زرارة بن أعين ، قال : حكى لنا أبو جعفر وضوء رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، فدعا بقدح من ماء ، فأدخل يده اليمنى فأخذ كفّاً من ماء ، فأسدلها على وجهه من أعلى الوجه ، ثمّ مسح بيده الجانبين جميعاً ، ثمّ أعاد اليسرى في الإناء ، فأسدلها على اليمنى ، ثمّ مسح جوانبها ، ثمّ أعاد اليمنى في الإناء ، ثمّ صبّها على اليسرى ، فصنع بها كما صنع باليمنى ، ثمّ مسح ببلّة ما بقي في يديه رأسه ورجليه ، ولم يعدها في الإناء (2) .
  7 ـ عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر ، انّه قال : ( يأخذ أحدكم الراحة من الدهن فيملأ بها جسده ، والماء أوسع ، ألا أحكي لكم وضوء رسول الله ؟ )
   قلت : بلى ، قال : فأدخل يده في الإناء ، ولم يغسل يده ، فأخذ كفّاً من ماء ، فصبّه على وجهه ، ثمّ مسح جانبيه حتّى مسحه كلّه ، ثمّ أخذ كفّاً آخر بيمينه ، فصبّه على يساره ، ثمّ غسل به ذراعه الأيمن ، ثمّ أخذ كفّاً آخر ، فغسل ذراعه الأيسر ، ثمّ مسح رأسه ورجليه بما بقى في يديه (3).
   وعن أبان وجميل ، عن زرارة ، قال : حكى لنا أبو جعفر وضوء رسول الله ،

(1) التهذيب 1 : 56 | 158 ، الاستبصار 1 : 57 | 168 ، الكافي 3 : 25 | 5 .
(2) التهذيب 1 : 55 | 157 ، الاستبصار 1 : 58 | 171 ، الكافي 3 : 24|1 .
(3) الكافي 3 : 24 | 3 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 347 ـ
  فدعا بقدح ، فأخذ كفّاً من ماء فأسدله على وجهه ، ثمّ مسح وجهه من الجانبين جميعاً ، ثمّ أعاد بده اليسرى في الإناء ، فأسدلها على يده اليمنى ، ثمّ مسح جوانبها ، ثمّ أعاد اليمنى في الإناء ، فصبّها على اليسرى ، ثمّ صنع بها كما صنع باليمنى ، ثمّ مسح بما بقي في يده رأسه ورجليه ، ولم يعدهما في الإناء (1) .
  8 ـ عن داود بن فرقد ، قال : سمعت أبا عبد الله يقول : ( إنّ أبي كان يقول : إنّ للوضوء حدّاً ، من تعدّاه لم يؤجر .
وكان أبي يقول : إنّما يتلدد ، فقال له رجل : وما حدّه ؟ قال : تغسل وجهك ويديك ، وتمسح رأسك ورجليك ) (2) .
   وقد عرّف المجلسيّ معنى ( يتلدد ) بمن يتجاوز عن حدّ الوضوء ويتكلّف مخاصمة الله في أحكامه ، من اللدد وهو الخصومة ونقل ما قاله ابن الأثير في النهاية (3) .
   وعلّق الحرّ العامليّ على الخبر السابق بقوله : (والمراد انّ من تعدّى حدّ الوضوء فإنّما يوقع نفسه في التحيّر والتردّد والتعب بغير ثواب ، لأنّه لم يؤمر بأكثر من مسمّى الغسل والمسح (4) .
   وقد روينا سابقاً عن الامامين الباقر والصادق في معنى التعدّي ، وأنّ الباقر لمّا سئل عن معنى كلام الإمام أمير المؤمنين ( هذا وضوء من لم يحدث ) : فأي حدث أحدث من البول ؟
   فقال : ( إنّما يعني بذلك التعدّي في الوضوء ، أن يزيد على حدّ الوضوء ) (5) .
   وأخرج الكلينيّ بسنده إلى حمّاد بن عثمان ، قال : كنت قاعداً عند أبي عبد الله (أي الصادق) فدعا بماء فملأ به كفّه فعم به وجهه ، ثمّ ملأكفّه فعمّ به يده

(1) الكافي 3 : 24 | 1 ، التهذيب 1 : 55 | 157 .
(2) الكافي 3 : 21 | 3 .
(3) مرآة العقول 13 : 67 .
(4) وسائل الشيعة 1 : 387 | 1 انظر : هامش الخبر .
(5) معاني الأخبار : 248 ، وعنه في الوسائل 1 : 440 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 348 ـ
  اليمنى ، ثمّ ملأكفّه فعمّ به يده اليسرى ، ثمّ مسح على رأسه ورجليه ، وقال : ( هذا وضوء من لم يحدث ) يعني به التعدّي في الوضوء (1) .
   وجاء عنه (ع) : ( إنّما الوضوء حدّ من حدود الله ، ليعلم الله من يطيعه ومن يعصيه ، وإنّ المؤمن لا ينجّسه شيء ، إنّما يكفيه مثل الدهن ) (2) .
   فالإمام الباقر بقوله هذا الكلام أراد التعريض بالذين تعمّقوا ، من عند أنفسهم ، في الدين وأدخلوا فيه ما ليس منه وأبدلوا المسح بالغسل ، وزادوا في عدد الغسلات ... كلّ ذلك اعتقاداً منهم انّه الإسباغ وإتمام للوضوء ! فالباقر بقوله ( يكفيه مثل الدهن ) أراد الإشارة إلى عدم ضرورة تعدّد الغسلات ، وأنّ طهارة الوضوء ليست حقيقيّة ، بل هي طهارة حكمية ، فالامتثال يتحقّق بإتيانه كالدهن ، إذ المؤمن لا ينجّسه شيء .
   وتلخّص ممّا سبق :
  1 ـ أنّ الإمام الباقر لا يرتضي الغسل الثالث في الوضوء ، ويرى الإتيان به مرّة يسقط ما في ذمّة المكلّف ، وقد توضّأها رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) .
   أمّا الغسلة الثانية فهي سنّته ( صلى الله عليه واله وسلم ) وعليها يعطى الأجر مرّتين ، إذ إنّ طهارة الوضوء ليست حقيقيّة ـ كرفع النجاسة ـ بل هي طهارة حكميّة يمكن تحقّقها والامتثال بالمرّة ن إذ المؤمن لا ينجّسه شيء ويكفي في طهارته من المقدار كالدهن !
  2 ـ لزوم مسح الراس والأرجل ببللّ يديه ، فإنه لمّا توضّأ قال : (هذا وضوء من لم يحدث) ويعني بالمحدث الذي تعدّى في الوضوء !
  3 ـ غسل اليدين من المرفقين ، فلا يجوز عندهم ردّ الماء إلى المرافق بعد أن صبّ عليها .
  4 ـ عدم جواز غسل الرأس بل لزوم مسح مقدّمه ، إن مسح بشيء من

(1) الكافي 3 : 27|8 .
(2) الكافي 3 : 21|2 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 349 ـ
  رأسه أجزأه .
   وهناك اختلافات أخرى منها في حدّ الوجه ومنها ما يتعلّق بأمور أخرى نشرحها مفصّلاً تحت العنوان التالي :

خلافيّات الوضوء في العهد الأموي

   فقد عرفنا ـ مضافاً إلى ما سبق ـ أنّ المسائل الخلافيّة الجديدة في الوضوء في العهد الأمويّ كانت كالآتي :
  1 ـ اختلاف المسلمين في جواز ردّ الماء في غسل الذراعين ، فذهب بعضهم إلى جوازه ، وذهب غيرهم إلى عدم جوازه ، وأنّ الراوي بنقله الخبر رقم (2) و (5) أراد أن يشير إلى أنّ الإمام الباقر كان لا يردّ الماء من رؤوس الأصابع إلى المرافق بعد صبّ الماء على المرافق ، مؤكّداً أنّ هذا كان فعل النبيّ وهو من جملة وضوئه .
  2 ـ اختلافهم في جواز أخذ ماء جديد لمسح الرأس والرجلين ، فالراوي بنقله (ثمّ مسح رأسه وقدميه ، ببلل كفّه ، لم يحدث لهما ماءً جديداً) كما في الخبر (2) ، و(ثمّ مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفّيه ، لم يجدّد ماءً) كما في الخبر (5) أراد الإشارة إلى أنّ المسح يمكن تحقّقه بدون وجود الماء ، وهو خلاف الغسل ، الذي يتوقّف تحقّقه عليه ، وأنّ الباقر كان يمسح ببلل كفّه لم يحدث ماءً جديداً لها .
  3 ـ جواز المسح بجزء الرأس أو الرجل ، بعكس العضو الغسليّ فإنّ الغسل يجب تعميمه واستيعابه لجميع أجزاء العضو المغسول ، كما رأيت ذلك في الخبر رقم (2) .
  4 ـ اختلافهم في معنى ومفهوم الكعب ، وأنّ الإمام الباقر أكّد أنّ الكعب هو على قبّة القدم ومعقد الشراك ، وليس القبّتان على طرفي الساق ، بل الكعب أسفل من ذلك ، انظر رقم (2) و (5) .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 350 ـ
  5 ـ التأكيد على أنّ المرّة قد أتى بها رسول الله .
أمّا المرّتان فهي وضوء رسول الله وسنّته ـ وهو الملاحظ في أغلب المرويات ـ وأنّ المتجاوز عن حدّه إنّما يتلدّد .
   وقد فسّر الصادق والباقر معنى التعدّي بالزيادة عن الحدّ الذي فرضه الله في كتابه ، وأنّ الوضوء المتعدّى هو وضوء المحدث في الدين لقوله ( هذا وضوء من لم يحدث ) .
   ومن المسائل التي أثيرت في عهد الإمام الباقر ، هي هل العذار أو الصدغ من الوجه أم لا ؟
   فجاء الباقر يوضّح لما حدّ الوجه ، وقد سأله زرارة عن ذلك ، بقوله : أخبرني عن حدّ الوجه الذي ينبغي أن يوضّأ الذي قال الله عزّوجلّ ؟
   فقال الباقر ( الوجه الذي قال الله وأمر بغسله الذي لا ينبغي لأحدٍ أن يزيد عليه ولا ينقص منه ، إن زاد عليه لم يؤجر ، وإن نقص منه أثمّ : ما دارت عليه الوسطى والإبهام ، من قصاص الشعر إلى الذقن .
   وما جرى عليه الإصبعان مستديراً ، فهو من الوجه .
  وما سوى ذلك فليس من الوجه ) .
   فقال له : الصدغ من الوجه ؟
   فقال : ( لا ) (1) .
   ومن تلك المسائل حكم الأذنين ، هل هو الغسل أم المسح ؟
   وهل يصحّ ما قاله البعض بأنّ باطن الأذنين من الوجه وظاهره من الرأس .
   ورد في الكافي والتهذيب : أنّ زرارة قال : قلت : إنّ ناساً يقولون إنّ بطن الأذنين من الوجه ، وظهرها من الرأس ؟

(1) من لا يحضره الفقيه 1 : 28|88 ، تفسير العيّاشيّ 1 : 299 ح 52 .