فقال الباقر : ( ليس عليهما غسل ولا مسح )
(1) .
ولنتكلّم قليلاً على اختلافهم في مفهوم الكعب ، لأنّ هذه المسألة من أهم ما طرح في ذلك العهد .
أخرج الكلينيّ ـ كما مرّ عليك ـ حديثاً عن الباقر ..إلى أن يقول : ثمّ قال : ... ( وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) فإذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من قدمه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه ) .
فقال : فقلنا : أين الكعبان ؟
قال : ( ها هنا ) ، يعني المفصل دون عظم الساق .
فقلنا : هذا ما هو ؟
قال : ( هذا من عظم الساق ، والكعب أسفل من ذلك )
(2) .
وفي آخر : ثمّ وضع يده على ظهر القدم ، ثمّ قال : ( هذا هو الكعب ) .
قال : وأومأ بيده إلى أسفل العرقوب ، ثمّ قال : ( إنّ هذا هو ) .
وجاء في دعائم الإسلام : إنّ الامام الباقر بيّن جواز المسح بالبعض لمكان الباء ، بقوله ( إنّ المسح إنّما هو ببعضها لمكان الباء في قوله ( برؤوسكم ) كما في التيمّم ( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ) وذلك أنّه علم عزّ وجلّ أنّ غبار الصعيد لايجري على الوجه ولا كلّ اليدين ، فقال : ( بوجوهكم وأيديكم ) ، وكذلك مسح الرأس والرجلين في الوضوء )
(3) .
ونقل الشهيد الأوّل في ( الذكرى ) ، بعد نقله كلام الأصمعيّ : أنّه الناتئ في أسفل الساق عن يمين وشمال :
وأخبرني سلمة ، عن الفرّاء ، قال : هو في مشط الرّجل ، وقال هكذا برجله ،
|
(1) الكافي 3 : 29|10 ، التهذيب 1 : 55|156 ، 94|249 ، الاستبصار 1 : 63|187 .
(2) الكافي 3 : 25|5 ، تفسير العيّاشيّ 1 : 298 ح 51 .
(3) دعائم الإسلام 1 : 109 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 352 ـ
قال أبو العبّاس : فهذا الذي يسميّه الأصمعيّ الكعب هو عند العرب المنجم .
قال : وأخبرني عن الفرّاء ، قال : قعد محمّد بن عليّ بن الحسين في مجلس كان وقال : ( هنا الكعبان ) .
فقالوا : هكذا ؟
فقال : ( ليس هو هكذا ، ولكنّه هكذا ) ، وأشار إلى مشط رجله .
فقالوا له : إنّ الناس يقولون : هكذا ؟
فقال : ( هذا قول الخاصّة ، وذلك قول العامّة ) (1) .
وجاء عن زرارة قال : قلت لأبي جعفر : ألا تخبرني من أين علمت وقلت إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين ؟
فضحك ، وقال : ( يا زرارة ، قاله رسول الله ، ونزل به الكتاب من الله عزّ وجلّ ، لأنّ الله عزّ وجلّ قال : ( فاغسلوا وجوهكم ) فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسل ، ثمّ قال : ( وأيديكم إلى المرافق ) فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه ، فعرفنا أنّه ينبغي لهما أن يغسلاً إلى المرفقين ، ثمّ فصل بين الكلام ، فقال : ( وامسحوا برؤوسكم ) فعرفنا حين قال ( برؤوسكم ) أنّ المسح ببعض الرأس المكان الباء ، ثمّ وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه ، فقال : ( وارجلكم إلى الكعبين ) فعرفنا حين وصلها بالرأس أنّ المسح على بعضها ، ثمّ فسّر ذلك رسول الله للناس فضيّعوه ) (2) .
ومن يراجع نصوص الأئمّة من أهل البيت يقف على سير الكثير من التفريعات الفقهيّة ، وأنّ ما نقل عن الإمام الباقر وتأكيده على لزوم الترتيت بين أعضاء الوضوء قد يكون ناظراً إلى ما ذهب إليه أمثال أبي حنيفة ومالك من عدم لزوم الترتيب بين أعضاء الوضوء .
|
(1) ذكرى الشيعة : 88 ، وعنه في البحار 80 : 299 .
(2) الفقيه 1 : 56|212 ، الكافي 3 : 30| 4 ، علل الشرائع : 279|1 ، التهذيب 1 : 61 | 168 ، الاستبصار 1 : 62|186 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 353 ـ
وهكذا الحال بالنسبة غيرها من التفريعات الفقهيّة ، فالباحث لو قرن كلام الإمام الباقر مع الآراء المطروحة في عصره لعرف الحكم الشرعيّ من زاوية قربه للواقع .
كان هذا بعض الشيء عن سير المسألة في العهد الأمويّ وما ورد عن الإمام الباقر فيه ، وسنشير إلى كلمات الأئمّة من ولده ممّن عايشوا الحكم العبّاسيّ ليقف المطالع على حقيقة الحال أكثر وينجلي له المجهول .
خلافيّات الوضوء في العهد العبّاسيّ
إنّ الإمام الصادق ـ والأئمّة من بعده ـ قد ساروا على نهج آبائهم ، واجهوا المجيزين للمسح على الخفّين بصلابة (1) ، وأكّدوا أنّ المسح يلزم أن يكون على مقدّم الرأس (2) ، ولزوم مسح الرجلين ، وعدم جواز غسلهما .
وجاء عنه أنّه قال : ( إنّ الرجل ليعبد الله أربعين سنة وما يطيعه في الوضوء لأنّه يغسل ما أمر الله بمسحه ) (3) .
وفي آخر : ( إنّه يأتي على الرجل ستّون وسبعون سنة ما قبل الله منه صلاة ) .
قلت : كيف ذاك ؟
قال : ( لأنّه يغسل ما امر الله بمسحه ) (4) .
وقد عارض الإمام الصادق أن تكون الأذنان من الرأس أو الوجه ، لقوله : ( الأذنان ليسا من الوجه ولا من الرأس ) (5) .
وهذا يفهم بأنّ هناك فريقاً من المسلمين يدخلون الاُذنين في ضمن
|
(1) انظر : قرب الإسناد : 162 حديث 591 .
(2) انظر : وسائل الشيعة 1 : 418 .
(3) انظر : وسائل الشيعة 1 : 422 .
(4) الكافي 3 : 31|9 ، علل الشرائع : 289|2 ، التهذيب 1 : 92 .
(5) الكافي 3 : 29|2 ، وعنه في الوسائل 1 : 404 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 354 ـ
الوضوء على اعتبارهما من الوجه ، وهناك بعض آخر يدخلهما في ضمن الوضوء باعتبارهما من الرأس ، فالصادق أراد الإشارة إلى أنّ الأذن بنفسها حقيقة مستقلّة لا ربط بينها وبين الرأس والوجه .
وعلى فرض اعتبارها من الرأس فذلك لا يوجب مسحها جميعاً ، لأنّ المسح كما عرفت يتحقّق بالبعض ولا ضرورة لشموله جميع الرأس .
أمّا ما نسب إلى الصادق من أنّه مسح الأذنين ، أو أخذ ماءً جديداً لرأسه وغيرها ، فإنّا لا نستبعدها ـ لو صحّ عنه ـ إذ إنّه كان يعيش ـ وخصوصاً في أواخر عهد المنصور وظفر المنصور بالهاشميين وإبعادهم إلى الكوفة ـ في أشدّ حالة من حالات الضغط والإرهاب .
هذا ، وقد حصر الصادق نواقض الوضوء في البول والريح والنوم والغائط والجنابة (1) ، وفي ذلك إشارة إلى عدم ناقضية ما مسّته النار وعدم ناقضية مسّ الذكر وخروج الدم وغيرها ممّا تقوله العامّة اليوم .
إنّ هذه المسائل كانت إذن من الأمور المطروحة في عهد الصادق ، وقد جاء في الفقيه : عن عمرو بن أبي المقدام ، قال : حدّثني من سمع أبا عبد الله يقول : ( إنيّ لأعجب ممّن يرغب أن يتوضّأ اثنتين اثنتين ، وقد توضّأ رسول الله اثنتين اثنتين ) (2) .
وروي عنه أنّه قال : ( الوضوء واحدة فرض ، واثنتان لا يؤجر ، والثالثة بدعة ) (3) .
ثمّ فسّر قوله هذا في رواية أخرى بـ : ( الوضوء مثنى مثنى فمن زاد لم يؤجر ) (4) أي من لم يستيقن أنّ واحدة من الوضوء تجزيه ، لم يؤجر على الثنتين
|
(1) راجع وسائل الشيعة 1 : 397 .
(2) من لا يحضره الفقيه 1 : 25|80 .
(3) التهذيب 1 : 81|217 ، الاستبصار 1 : 71|217 .
(4) التهذيب 1 : 80|210 ، الاستبصار 1 : 70|215 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 355 ـ
وهكذا الحال بالنسبة للذي يأتي بأكثر من اثنتين .
بهذا الأسلوب كان الإمام الصادق يواجه الّذين تعدّوا حدود الله في الوضوء .
وقد صدرت عنه نصوص كثيرة تؤيّد ما قلناه ، منها قوله بعدم جزئيّة المضمضة ، معلّلاً ذلك بقوله ( لأنّهما من الجوف ) ، فإنّه قا ل بذلك ليقف أمام اجتهادات أمثال ابن عمر الذي عرف عنه بأنّه كان يقول افتحوا أعينكم عند الوضوء لعلّها ترى نار جهنّم !
فترى الصادق يقول : ( لا تضربوا وجوهكم بالماء إذا توضّأتم ، ولكن شنّوا الماء شنّاً ) (1) .
وقد جاء عن موسى بن جعفر الكاظم نصّ قريب ممّا سبق ..
قال ابو جرير الرقاشيّ : قلت لأبي الحسن موسى : كيف أتوضّأ للصلاة ؟
فقال : ( لا تعمّق في الوضوء ، ولا تلطم وجهك بالماء ، ولكن اغسله من أعلى وجهك إلى أسفله بالماء مسحاً ) (2) .
فموسى بن جعفر أجاب السائل بجواب يستبطن الإشارة إلى شيوع ظاهرة التعمّق في الوضوء والمبالغة في صبّ الماء إلى حد الإسراف ، وذلك ما حدا بالإمام أن يقدّم له مقّدمة ربّما لا ترتبط بسؤال السائل ، لأنّ السائل طلب بيان كيفيّة الوضوء ، والإمام أجاب بقوله ( لا تعمّق في الوضوء ) .
وفي جواب الإمام دلالة على قضيّة مهمّه ، هي شيوع ظاهرة تكثير الغسلات ، وغسل الممسوحات ، فالإمام قدّم هذه المقدّمة ليوضّح للسائل ماهيّة الوضوء وأنّه ليس كما يصوّره البعض بلطم الماء بالوجه وإدخاله في العين وعدم جواز ردّ سلام القادم وما شابه ، فإنّ كلّ هذه من التعمّق المنهيّ عنه في الدين .
وقد حمل الفقهاء المسح ـ الوارد في ذيل هذه الرواية ـ أوّلاً على المجاز بمعنى
|
(1) التهذيب 1 : 357|1072 ، الاستبصار 1 : 69 | 208 .
(2) قرب الإسناد 312 الحديث 1215 ، وعنه في وسائل الشيعة 1 : 431 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 356 ـ
الغسل ، ثمّ على الحقيقة ، وذلك عين الصواب .
فإنّ الإمام عبّر عن الغسل هنا بالمسح مجازاً لبيان أنّ المطلوب من الوضوء هو المرّة الواحدة التي يصدق بها الغسل والطهارة الشرعيّة ، ولذلك بالغ في إجزائها فعبّر بالمسح على الذراعين ، وكان قبلها بيّن غسل الوجه بقوله ( اغسله ... مسحاً ) فعبّر بالمسح أيضاً مبالغة في إجزاء الغسل المأمور به وعدم إجزاء تكثير الغسلات وغسل الممسوحات ، دحضاً للمدرسة الوضوئيّة التي تبنّاها أتباع مدرسة الراي والاجتهاد .
كما روى الكاظم للناس الوضوء الذي أمر الله به نبيّه :
عن عيسى بن المستفاد عن أبي الحسن موسى بن جعفر عن أبيه أنّ رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) قال لعليّ وخديجة لمّا أسلما : ( إنّ جبرئيل عندي يدعوكما إلى بيعة الإسلام ، ويقول لكما : إنّ للإسلام شروطاً ، أن تقولا : نشهد أن لا إله إلاّ الله ... ) .
إلى أن يقول : ( وإسباغ الوضوء على المكاره ، الوجه واليدين والذراعين ومسح الرأس ومسح الرجلين إلى الكعبين ) (1) .
وفي رواية أخرى عن الإمام موسى بن جعفر ، عن أبيه : ( إنّ رسول الله قال للمقداد وسلمان وأبي ذرّ : أتعرفون شرائع الإسلام ؟
قالوا : نعرف ما عرّفنا الله ورسوله .
فقال : هي أكثر من أن تحصى : أشهدوني على أنفسكم بشهادة أن لا أله ألاّ الله ... والوضوء الكامل على الوجه واليدين والذراعين إلى المرفقين ، والمسح على الرأس والقدمين إلى الكعبين لا على خفّ ولا على خمار ولا على عمامة ...
إلى أن يقول : فهذه شروط الإسلام ، وقد بقي أكثر ) (2) .
|
(1) الطرف : 5 ، وعنه في وسائل الشيعة .
(2) الطرف 11 ، وعنه في وسائل الشيعة .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 357 ـ
وهذه الرواية تشبه سالفتها في التأكيد على أهميّة الوضوء وأنّه من شرائط الإسلام ، ثمّ تبيّن حدوده مغسولاته وممسوحاته .
وعلى ضوء ما تقدّم تأكّد لدينا أنّ مدرسة الباقر والصادق والكاظم والرضا هي مدرسة واحدة ، وأنّها امتداد لمدرسة رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، فترى الكاظم يقول بقول الصادق والصادق يقول بقول أبيه ، وهكذا إلى النهاية السلسلة ، ومن ذلك :
ما جاء عن الهيثم بن عروة التميميّ ، قال : سألت أبا عبد الله عن قوله : ( فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ) ، فقلت : هكذا ؟ ومسحت من ظهر كفّي إلى المرافق .
فالصادق (ع) لم يرتض فعل الهيثم ثمّ أمرّ يده من مرفقه إلى أصابعه .
وهو معنى آخر لما نقلناه عن الإمام الباقر ، من أنّه كان لا يردّ الماء إلى المرافق .
وهكذا الحال بالنسبة إلى مفهوم التعدّي في الوضوء ، فهو واحد عند الباقر والصادق والكاظم وغيرهم من أئمّة أهل البيت .
روى حمّاد بن عثمان ، قال : كنت قاعداً عند أبي عبد الله ، فدعا بماء فملأ به كفّه فعمّ به وجهه ، ثمّ ملأكفّه فعمّ به يده اليمنى ، ثمّ ملأكفّه فعمّ به يده اليسرى ، ثمّ مسح على رأسه ورجليه ، وقال : ( هذا وضوء من لم يحدث ) ، يعني التعدّي في الوضوء (1) .
وقال : ( من تعدّى في وضوئه كان كناقضه ) (2) ، وهي إشارة إلى قوله تعالى ( ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه ) .
وقد جاء عن الإمام عليّ بن موسى الرضا ـ كما في عيون الأخبار ـ أنّه
|
(1) الكافي 3 : 27|8 ، وعنه في وسائل الشيعة 1 : 437 أبواب الوضوء ب 31 ح 8 .
(2) من لا يحضر الفقيه 1 : 25| 79 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 358 ـ
قال : ( الوضوء مرّة فريضة واثنتان إسباغ ) (1) .
وفي كتابه إلى المأمون العبّاسيّ : ( ثمّ إنّ الوضوء كما أمر الله في كتابه : غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ، ومسح الرأس والرجلين مرّة واحدة ) .
وفي جملة الإمام ( كما أمر الله في كتابه ) إشارة إلى أنّ حقيقة الطلب تتحقّق بالمرّة ، فلا يجب التكرار .
فيها وستعرف أنّ المفروض والمأمور به في كتاب هو المرّة لا أكثر ، وهو فعل رسول الله ، وقد تواتر عن الصحابة نقل ذلك عنه ( صلى الله عليه واله وسلم ) .
هذا وقد علّل الإمام عليّ بن موسى الرضا سبب مسح الرأس والرجلين وعدم غسلهما بما يلي :
( ... وإنّما أوجب الغسل على الوجه واليدين ، والمسح على الرأس والرجلين ، ولم يجعل غسلاً كلّه ولا مسحاً كلّه لعلل شتّى :
منها : إنّ العبادة العظمى إنّما هي الركوع والسجود ، وإنّما يكون الركوع والسجود بالوجه واليدين ، لا بالرأس والرجلين .
منها : إنّ الخلق لا يطيقون في كلّ وقت غسل الرأس والرجلين ويشتدّ عليهم ذلك في البرد والسفر والمرض والليل والنهار .
وغسل الوجه واليدين أخفّ من غسل الرأس والرجلين ، وإنّما وضعت الفرائض على قدر أقل الناس طاقة من أهل الصحّة ، ثمّ عمّ فيها القويّ والضعيف .
ومنها : إنّ الرأس والرجلين ليس هما في كلّ وقت باديان وظاهران كالوجه واليدين لموضع العمامة والخفّين والجورب غيرها ... ) .
وفي خبر آخر عنه ، أنّه سئل عن وضوء الفريضة في كتاب الله ؟
فقال : ( المسح ، والغسل في الوضوء لتنظيف ) .
وجاء عن أيّوب بن نوح ، قال : كتبت إلى أبي الحسن أسأله عن المسح على
|
(1) عيون أخبار الرضا 2 : 125|2 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 359 ـ
القدمين ؟
فقال : ( الوضوء المسح ، ولا يجب فيه إلاّ ذاك ، ومن غسل فلا بأس ) (1) .
قال الشيخ الحرّ العامليّ : (حمله الشيخ ـ الطوسيّ ـ على التنظيف لما مرّ ، ويمكن حمله على التقيّة ، فإنّ منهم من قال بالتخيير) .
وعن المسح على العمامة والخفّين ، قال الإمام الرضا : ( لاتمسح على عمامة ولا قلنسوة ولا على خفّيك ) (2) .
وفي دعائم الإسلام : ونهوا عليهم السلام عن المسح على العمامة والخمار والقلنسوة والقفازين والجوربين والجرموقين ، إلاّ أن يكون القبال غير مانع من المسح على الرجلين كليهما (3) .
وفي فقه الرضا : روي عن العالم : ( لا تقيّة في شرب الخمر ولا المسح على الخفّين ، ولا تمسح على جوربك إلاّ من عذرأو ثلج تخاف على رجليك ) (4) .
ومن كلّ ما مرّ وضح ، بما لا مزيد عليه ، أنّ نهج التعبّد المحض الذي رسمه الله لنبيّه وقاده عليّ بن أبي طالب وابن عبّاس وكبار ( الناس ) ... كان قداستمرّ إلى عهد التابعين وتابعي التابعين ، ثمّ واصله أئمّة أهل البيت والخلف العدول منهم في أحرج الظروف وأصعبها ، ولذلك ترى أحاديثهم الوضوئيّة ووضوءاتهم البيانيّة التي استعرضناها لا تضارب بينها ولا اختلاف ، على عكس وضوء المذاهب الأربعة إذ ترى الخلاف بينهم واضحاً ومشهوراً ، فالبعض يذهب إلى أنّ فرائض الوضوء سبعة ، والآخر يرى أنّها أربعة ، وثالث يقول أنّه ستّة ، وإن كان الجميع يتّحدون في تثليث الغسلات وغسل الممسوحات !
وهذا يوضّح التأكيد الحكوميّ على بعض المفردات الوضوئيّة وتشديد
|
(1) التهذيب 1 : 64|180 ، الاستبصار 1 : 65|194 .
(2) فقه الرضا : 68 ، المستدرك 1 : 330 أبواب الوضوء ب 32 ح 1 .
(3) دعائم الإسلام 1 : 110 .
(4) فقه الرضا : 68 ، مستدرك وسائل الشيعة 1 : 331 أبواب الوضوء ب 33 ح 1 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 360 ـ
المخالفة مع نهج التعبّد المحض ، وهو الذي دعا الإمام الصادق أن يقول : ( الوضوء واحدة فرض ، واثنتان لا يؤجر ، والثالثة بدعة ) .
ثمّ فسّر قوله في رواية أخرى : ( أي من لم يستيقن أنّ واحدة من الوضوء تجزئه لم يؤجر على الثنتين ) (1) .
وأنّ زرارة بن أغين روى عنه قوله : ( الوضوء مثنى ، من زاد لم يؤجر عليه ) (2) .
وقد سئل مرّة عن الوضوء ، فقال : ( ما كان وضوء عليّ إلاّ مرّة مرّة ) (3) .
وسأله بعض خلّص أصحابه وخاصّتهم ، عن الوضوء للصلاة ، فقال : ( مرّة مرّة ) (4) .
وفي رواية أخرى يقسم بالله أنّ وضوء النبيّ ما كان يتوضّأ إلاّ مرّة مرّة ، بقوله : ( والله ما كان وضوء رسول الله إلاّ مرّة مرّة ) (5) .
ثمّ أكّد الإمام على أنّ الوسواس ليس من الإيمان وليس من الطهارة في شيء ، فمن توضّأ أكثر من مرّة وهو يرى أنّ المرّة لا تجزئه لم يكن وضوؤه صحيحاً وكان مخالفاً لما أمر الله به ، ولذلك يقول : ( توضّأ النبيّ مرّة مرّة ، وهذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاّ به ) .
وقد روي عنه : ( إنّ الوضوء حدّ من حدود الله ، ليعلم الله من يطيعه ومن يعصيه ، وانّ المؤمن لا ينجّسه شيء وإنّما يكفيه مثل الدهن ) .
وجاء عنه : ( ... هذه شرائع الدين لمن أراد أن يتمسّك بها وأراد الله هداه ، إسباغ الوضوء كما أمر الله في كتابه الناطق : غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ،
|
(1) التهذيب 1 : 81|212 ، الاستبصار 1 : 71|217 .
(2) التهذيب 1 : 80|210 ، الاستبصار 1 : 70|215 .
(3) الكافي 3 : 27|9 ، التهذيب 1 : 80|207 .
(4) الكافي 3 : 26|6 ، التهذيب 1 : 80|206 ، الاستبصار 1 : 69|211 .
(5) من لايحضره الفقيه 1 : 25|76 ، الاستبصار 1 : 70|212 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 361 ـ
ومسح الرأس القدمين إلى الكعبين ، مرّة مرّة ، ومرّتان جائز ) (1) .
وهذه الكلمات إمّا صريحة أو ملوّحة أو ناظرة إلى أنّ تثليث الغسلات بدعة وتعدّ ومخالفة لفعل النبيّ وقوله ، ولفعل عليّ ، ومخالف للإسباغ الذي أمر الله به ، ولم يعط للفاعل أجراً ، بل إنّه يعاقب على فعله .
وقد روى عن الصادق والباقر أنّهما قالا : ( إنّ الفضل في واحدة ، ومن زاد على اثنتين لم يؤجر ) (2) .
وفي حديث آخر : ( إنّ المرّتين إسباغ ) (3) .
وعلى ضوء ما تقدّم تأكّد لدينا أنّ مدرسة الإمام الصادق هي امتداد لمدرسة أبيه الباقر وجدّه عليّ بن الحسين وأنّهم قد أخذوا علمهم عن رسول الله ، لأنّه خصّ عليّاً بكتابة صحيفته ، وهي الموجودة بعده عند ولده ، وقد عرفت أنّهم لا يجيزون في الرأس والرجلين إلاّ المسح ، وكذا لا يجيزون تثليث الغسلات ويعدّونها بدعة ، إذا إنّ رسول لا يرتضي للمسلمين فعله !
وقد عرفت أنّهم لم يأخذوا ماءً جديداً لمسح الرأس والرجلين ، لما مرّ عليك من أخبار الرواة :
(ثمّ مسح بما بقي في يده رأسه ورجليه ولم يعدها في الإناء) (4) .
وفي أخرى : (ثمّ مسح رأسه ورجليه بما بقي في يديه) (5) .
وفي أخرى : (ثمّ مسح بفضل الندى رأسه ورجليه) (6) .
وفي أخرى : (ثمّ مسح ببلّة ما بقي يديه رأسه ورجليه ولم يعدهما في الإناء) (7) .
|
(1) الخصال 603|9 .
(2) السرائر : 473 .
(3) وسائل الشيعة 1 : 439 أبواب الوضوء ب 31ح 20 .
(4) الكافي 3 : 24|1 ، التهذيب 1 : 55|157 .
(5) الكافي 3 : 24|3 .
(6) التهذيب 1 : 58|162 ، الاستبصار1 : 58|172 .
(7) الاستبصار 1 : 58|171 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 362 ـ
وفي أخرى : (ثمّ مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفّيه ، لم يجدّد ماءً) (1) .
وقد مرّ عليك تفسيرهم للإسباغ ومعنى التعدّي في الوضوء والإحداث وهو يختلف عمّا استفادت منه السلطة لتقوية الوضوء العثمانيّ والذي أخذ به الفقهاء في العصور المتلاحقة سواء عن علم أو عن غفلة ! ! فدوّنوه في كتبهم وبنوا عليه آراءهم الوضوئيّة ، ثمّ أخذ بها من جاء بعدهم .
وقد اطّلعت سابقاً على موقف المهديّ العبّاسيّ والمنصور والرشيد ي الوضوء ، واطّلعت على تنكيلهم بالهاشميين والأئمّة من أهل البيت ، خصوصاً بعد الظفر بمحمّد بن عبد الله بن الحسن (النفس الزكيّة) وهو ما جعل الامام الصادق يرشد داود بن زربي إلى التقيّة للحفاظ على دينه ونفسه .
وهكذا الحال بالنسبة إلى عليّ بن يقطين ، وقد مرّت عليك رسالة موسى بن جعفر إليه وإرشاده إلى العمل بخلاف ما هو ثابت عنده ، للنجاة بنفسه والحفاظ على دينه .
وزبدة المرويّ عن نهج التعبّد عن نهج التعبّد المحضّ هو أنّ الوضوء المجزي والمأمور به إنّما هو مرّة واحدة ، والثانية هي فعل الرسول وسنّة ، ومن تجاوز عن ذلك فلا يؤجر ، مع الاخذ بنظر الاعتبار أنّ المقصود من كلامهم وتأكيدهم على المرّة ليس وحدة الصبّ وإن لم يكف في الغسل ، بل معناه هو تحقّق الغسل الواحد وإن تعدّد الصبّ على العضو ، والمرّة الثانية بعدها هي السنّة ، أمّ المرّة الثالثة فهي إسراف وإبداع وليست من الدين .
أسماء بعض المؤيّدين للوضوء المسحيّ في العهد العبّاسيّ
اتّضح لنا ممّا سبق تكامل بنى المدرستين الوضوئيّتين في هذا العصر ، فكان
|
(1) التهذيب 1 : 56|158 ، الاستبصار 1 : 57|168 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 363 ـ
روّاد مدرسة الوضوء الثلاثيّ الغسليّ هم فقهاء المذاهب الأربعة ، وهؤلاء الفقهاء قد أخذوا بوضوء الخليفة عثمان بن عفّان الذي نسبه إلى رسول الله ، إمّا اعتقاداً منهم بصحّة تلك المرويّات عنه ( صلى الله عليه واله وسلم ) وثبوت طرقها لديهم وحجّيّة صدورها عندهم ، وإمّا تأثراً بالسلطة التي تريد إبعاد الناس عمّا ينسبه أىولاد عليّ بن أبي طالب إلى رسول الله ، لأنّ مصلحة العبّاسيّين كانت في عزل الناس عن العلويين ، وذلك لأمرين :
الأوّل : إمكان التعرّف عليهم للنيل منهم ، لأنهم المخالفون للخلفاء العبّاسيّين والمطالبون بالحكم .
الثاني : رسم المبرّر للتنكيل بالعلويّين لأنّهم خرجوا عن جماعة المسلمين ، وسعوا لبثّ الفرقة بينهم ، إذ إنّ عبادتهم غير عبادة المسلمين ، ووضوءهم غير وضوء المذاهب الأربعة !
نعم ، إنّ تأكيدنا على الشقّ الثاني من وجوه الاحتمال في سبب أخذ المذاهب الأربعة برأي عثمان في الوضوء ـ المارّ الذكر في الصفحات السابقة ـ إنّما كان بسبب حملة التعتيم الاعلامي التي مارستها السلطة ومنعت العلماء والأساتذة من التفوّه بما يعرّف بوجود ما يعارض ذلك .
وحينما رأيت التأكيد على الوضوء الغسليّ ـ حتّى شاع بين المسلمين ـ أحببت أن أكشف عن الوجه الآخر في الوضوء ، وأشير إلى أسماء الذين فعلوا المسح وعملوا به في العهد العبّاسيّ الأوّل ، ولا أبغي منه الجرد الكلّيّ للأسماء بل العدد الذي يثبت به ما نقلناه ، وحيث وصل عدد القائلين بالمسح ـ على ضوء الصفحات السابقة ـ إلى (24) صحابيّاً وتابعيّاً ، نضيف إليه أسماء أخرى مراعين التسلسل السابق :
25 ـ موسى بن جعفر الكاظم .
26 ـ عليّ بن موسى الرضا .
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 364 ـ
27 ـ داود بن فرقد .
28 ـ عليّ بن يقطين .
29 ـ بكير بن أعين .
30 ـ زرارة بن أعين .
31 ـ محمّد بن مسلم .
32 ـ أبان بن عثمان .
33 ـ ابن أبي عمير .
34 ـ عمر بن أذينة .
35 ـ جميل بن درّاج .
36 ـ عليّ بن رئاب .
37 ـ محمّد بن قيس .
38 ـ الفضل بن شاذان .
39 ـ ابن محبوب .
40 ـ أبو جرير الرقّاشيّ .
41 ـ عليّ بن إبراهيم بن هاشم .
42 ـ عيسى بن المستفاد ... وآخرون من أصحاب الأئمّة .
ولو أردنا أن نضيف أسماء القرّاء الذين قرأوا الآية ( وأرجلكم ) بالجرّ ـ كما فعله كبار فقهاء العامّة ، والآخرون من أصحاب أئمّة أهل البيت ـ وندخلهم ضمن هذه القائمة لتجاوز عددهم العشرات ودخل حيّز المئات .
وهنا مسألة يلزم الإشارة إليها ، وهي :
إنّ منهج المسح ـ كما قلنا ـ كان ذا أصالة ، وقد التزم به كبار الصحابة والتابعين ودافعوا عنه ، وإنّ الغسل لم يكن متواتراً عند المسلمين ـ على مرّ الزمان ـ بل كان بين الأعلام بعض الكلام فيه ، فترى آراء القائلين بالمسح تطرح
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 365 ـ
في كتب السلف ويشيرون ألى أنّ هذا الرأي مستقىً من القرآن ، فلوكان غسل الأرجل هو ما اتّفق عليه المسلمون فلاداعي لذكر تلك الأقوال في كتب السلف !
وما نحتمله في هذا الأمر هو تواتر عمل المذاهب المنقرضة به .
ونحن لو أخذنا من باب المثال رأي ابن حزم الأندلسيّ الذي يمثّل رأي داود الظاهريّ ، ورأي ابن جرير الطبريّ (1) وهو يمثّل رأي مذهبه الذي عمل به لمدّة من الزمن ، لعرفنا أنّ المسح كان مشروعاً في عهدهم إذ تراهم يعملون به .
قال ابن الجوزيّ في المنتظم : كان ابن جرير يرى جواز المسح على القدمين ولا يوجب غسلهما ، فلهذا نسب إلى الرفض ، وكان قد رفع في حقّه أبوبكر بن أبي داود قصة إلى الحاجب يذكر عنه أشياء فأنكرها (2) .
نعم ، لو درس الباحث الشريعة بعيداً عن الرواسب الحكوميه لعرف الكثير منها مصير من يقول بجواز المسح على القدمين وهكذا لزم القول في المسح على الخفين بغضاً للخوارج والشيعة .
انظر تعاملهم مع العلماء ومن يحمل رؤية لا يستسيغها الحكّام حتّى قيل ( بأنّه ـ أي الطبري ـ دفن ليلاً ولم يؤذن به أحد ، واجتمع من لا يحصيهم إلاّ الله ، وصليّ على قبره عدّة شهور ليلاً ونهاراً ) .
وذكر ثابت بن سنان في تاريخه : ( انّه إنّما أخفيت حاله لأنّ العامّة اجتمعوا ومنعوا من دفنه بالنهار وادّعوا عليه الرفض ، ثمّ ادّعوا عليه الإلحاد ) (3) .
لماذا ؟ القوله بالمسح الذي لم يقل به أصحاب المذاهب الأربعة ؟ !
أم لكتابته عن حديث الغدير (4) ـ في أواخر عمره ـ وهو ما لا يرضي
|
(1) إقرأ كلام ابن حزم في المحلى 2 : 56 ـ 58 ، وكلام ابن جرير في تفسيره 6 : 83 .
(2) المنتظم 13 : 217 .
(3) المنتظم 13 : 217 .
(4) قال الذهبيّ في تذكرة الحفّاظ 2 : 713 : رأيت مجلّداً من طرق هذا الحديث لابن جرير ، فاندهشت له
=
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 366 ـ
السلطان كذلك ؟ أم لشيء آخر ؟
وعلى ضوء ما تقدّم عرفت أنّ المصالح السياسيّة للسطان كانت وراء تدوين ما يرتضيه وحذف ما لا يرتضيه ، وانّ تأصيل المذاهب والقول بمشروعيّة رأي الجميع وما يقاربها من آراء كانت دعوة حكوميّة ظهرت سماتها في الفقه والحديث .
ومتى أراد الباحث الوثوق على المزيد منها أمكنه الوقوف عليها من خلال استطلاع إجمالي لكتب الفقه والتاريخ .
علماً بأنّ دور السياسة لم يقتصر على تدوين الفقه والحديث ، بل انّ دورها في تدوين التاريخ ولغة العرب ليس بأقلّ ممّا مضى .
والباحثون يعرفون هذه الحقيقة .
1 ـ قال الأستاذ جمال الدين الأفغانيّ :
بأيّ نصّ سدّ باب الاجتهاد ، أو أيّ إمام قال : لا ينبغي لأحد من المسلمين بعدي أن يهتدي بهدي القرآن وصحيح الحديث ، أو أن يجدّ ويجتهد بتوسيع مفهومه والاستنتاج على ما ينطبق على العلوم العصريّة وحاجيات الزمان وأحكامه ، ولا ينافي جوهر النصّ .
إنّ الله بعث محمّداً رسولاً بلسان قومه العربيّ ليعلّمهم ما يريد إفهامهم ، وليفهموا منه ما يقوله لهم .
ولا ارتياب بأنّه لو فسح في أجل أبي حنيفة ومالك والشافعيّ وأحمد وعاشوا إلى اليوم لداموا مجدّين مستنبطين لكلّ قضية حكماً من القرآن والحديث وكلّما زاد تعمّقهم زادوا فهماً و وتدقيقاً ، نعم ، إنّ أولئك الفحول من الأئمّة ورجال الأمّة اجتهدوا وأحسنوا فجزاهم الله خير الجزاء ، ولكن لا يصحّ أن نعتقد أنّهم أحاطوا بكلّ أسرار القرأن وتمكّنوا من تدوينها في كتبهم (1) .
2 ـ قال الأستاذ عبد المتعال الصعيديّ ـ أحد علماء الأزهر الشريف ـ :
|
=
ولكثرة تلك الطرق .
وقال ابن كثير في البداية والنهاية 11 : 146 : وقد اعتنى بأمر هذا الحديث أبو جعفر محمّد بن جرير الطبريّ صاحب التفسير والتاريخ فجمع فيه مجلّدين أورد فيهما طرقه وألفاظه .
(1) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1 : 179 ، عن خاطرات جمال الدين : 177 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 367 ـ
انيّ أستطيع أن أحكم بعد هذا بأنّ منع الاجتهاد قد حصل بطرق ظالمة ، وبوسائل القهر والإغراء بالمال .
ولا شكّ أنّ هذه الوسائل لو قدّرت لغير المذاهب الاربعة التي نقلّدها الآن لبقي لها جمهور يقلّدها أيضاً ، ولكانت الآن مقبولة عند من ينكرها ، فنحن إذاً في حلّ من التقيّد بهذه المذاهب الأربعة التي فرضت علينا بتلك الوسائل الفاسدة ، وفي حلٍّّ من العود إلى الاجتهاد في أحكام ديننا ، لأنّ منعه لم يكن إلاّ بطرق القهر ، والإسلام لا يرضى إلاّ بما يحصل بطرق الرضى والشورى بين المسلمين كما قال تعالى في الآية 28 من سورة الشورى : ( وأمرهم شورى بينهم ) (1) .
3 ـ قال الدكتور عبد الدائم البقريّ الأنصاريّ :
منع الاجتهاد هو سرّ تأخّر المسلمين ، وهذا هو الباب المرن الذي عندما قفل تأخرّ المسلمون بقدر ما تقدّم العالم ، فأضحى ما وضعه السابقون لا يمكن أن يغيّر ويبدّل لأنّه لاعتبارات سياسيّة .
منع الولادة والسلاطين الاجتهاد حتّى يحفظوا ملكهم ، ويطمئنّوا إلى انّه لن يعارضهم معارض ، وإذا ما عارضهم أحد فلن يسمع قوله ، لأنّ باب الاجتهاد قد إغلق ، لهذا جمد التشريع الإسلاميّ الآن ، وما التشريع إلاّ روح الجماعة وحياة الأمّة .
وانيّ أرجع الفتنة الشعواء التي حصلت في عهد الخليفة عثمان والتي كانت سبباً في وقف الفتح الإسلاميّ حيث تحوّلت في عهده الحرب الخارجيّة إلى حرب داخليّة ، أرجع ذلك إلى أنّ عثمان كان من المحافظين ، وقد شرط ذلك على نفسه عندما وافق عبد الرحمن بن عوف على لزوم الاقتداء بالشيخين في كلّ ما يعني دون اجتهاد ، عند انتخابه خليفة ، ولم يوافق الإمام عليّ على ذلك حينئذٍ قائلاً : إنّ الزمن قد تغيّر ، فكان سبب تولّي عثمان الخلافة هو سبب سقوطه (2) .
|
(1) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1 : 178 ، عن ميدان الاجتهاد : 14 .
(2) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1 : 179 ، عن الفلسفة السياسيّة للإسلام : 21 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 368 ـ
4 ـ قال الأستاذ عزّ الدين عبد السلام :
من العجب العجيب أنّ الفقهاء المقلّدين يقف أحدهم على ضعف قول إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعاً وهو مع ذلك مقلّد فيه ، ويترك من شهد الكتاب والسنّة والأقيسة الصحيحة لمذهبهم ، جموداً على تقليد إمامه ، بل يتحيّل لظاهر الكتاب والسنّة ويتأوّلهما بالتأويلات البعيدة الباطلة ، نضالاً عن مقلّده .
ولم ينزل الناس يسألون من اتّفق من العلماء ، إلى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصّبوها من المقلّدين ، فإنّ أحدهم يتبع إمامه مع بعد مذهبه عن الأدلّة ، مقلّداً فيما قال كأنّه نبيّ مرسل .
وهذا نأي عن الحقّ ، بعد عن الصواب لايرضى به أحد من أولي الألباب (1) .
5 ـ قال جمال الدين بن الجوزيّ :
إعلم انّ المقلّد على غير ثقة فيما قلّد فيه ، وفي التقليد إبطال منفعة العقل ، لأنّه إنّما خلق للتدبّر ، وقبيح بمن أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة .
واعلم أنّ عموم أصحاب المذاهب يعظم في قلوبهم الشخص فيتبعون قوله من غير تدبّر فيما قال ، وهذا عين الضلال ، لأنّ النظر ينبغي أن يكون إلى القول لا إلى القائل (2) .
6 ـ قال الدهلويّ :
فأي مذهب كان أصحاب مشهورين وأسند إليهم القضاء والإفتاء واشتهرت تصانيفهم في الناس ودرسوا درساً ظاهراً انتشر في أقطار الأرض ، ولم يزل ينتشر كلّ حين .
وأيّ مذهب كان أصحابه خاملين ولم يولوا القضاء والافتاء ولم يرغب فيهم الناس اندرس بعد حين (3) .
|
(1) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1 : 177 ، عن الإنصاف : 37 .
(2) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1 : 177 ، عن تلبيس إبليس : 81 .
(3) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 2 : 11 ، عن الحجّة البالغة للدهلويّ 1 : 151 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 369 ـ
فمدرسة أهل البيت لم تكن كغيرها من المذاهب الحكوميّة بل كانت لها سماتها الخاصّة ، وعرفت باستقلالها الفكريّ وعدم خضوعها لنظام السلطة ، بل في رؤاها تضادّ مع خلفاء الجور ولا تمسح ( لأولي الأمر ! ) أن يتدخّلوا في شؤونها وتوجيه فكرها بل إنّ أهل البيت دعوا شيعتهم للابتعاد عن الخلفاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وانّ بقاء مذهب كهذا رغم كلّ هذه الملابسات يرجع إلى قوّته الروحيّة وملكاته الربّانيّة ، وانّ أمر انتشار غيره من المذاهب لم يكن مثله ، وقد قرأت عن تلك المذاهب وانّها ترجع إلى المقوّمات الجانبيّة فيها كتولّيهم للقضاء .
وقد رأينا انّ هذه المذاهب نفسها تختلف شدّة وضعفاً لما أنيط بأصحابها من القضاء والافتاء ، فالمذهب الحنفيّ يقوى عندما يكون أبو يوسف وجيهاً في الدولة مقبولاً عند الخلفاء .
وهكذا الأمر بالنسبة إلى الآخرين في العهود الأخرى .
أمّا انتشار مذهب جعفر بن محمّد الصادق وبقاؤه لحدّ هذا اليوم رغم مخالفة الحكّام فيرجع إلى ملكاته الروحيّة ومقوّماته الذاتيّة ، ولا ينكر ذلك أحد .
قال الدكتور محمّد سلام مذكور : ووجدت عده مذاهب ماكان للسياسية دخل في تكوينه وتاثيره في منهجه كمذهب الشيعة والخوارج (1) .
فأهل البيت وشيعتهم منصورون بالحجج والبراهين التي بأيديهم لا يضرّهم من خالفهم وخذلهم ، وقد يحتمل ان يكون المعنى بقوله ( صلى الله عليه واله وسلم ) : ( لا تزال طائفة من أمّتي منصورين قائمين بالحقّ لا يضرّهم من خالفهم وخذلهم ) هم لا المحدثين (2) ! !
وعليه ، انّ حصر المذاهب بهذه الأربعة جاءت لأمر السلطان بيبرس (3) ،
|
(1) مناهج الاجتهاد في الاسلام : 97 الفقيه والمتفقه 1 : 5 ـ 6 و 30 .
(2) انظر :صحيح مسلم 3 : 1523|170 ، 174 ، وصحيح البخاريّ 9 : 124 ـ 125 ، سنن ابن ماجة 1 : 4، 5|6 ، 9 ، 10 ، الفقيه والمتفقّه 1 : 5ـ 6 و30 .
(3) الخطط المقريزيّة 3 : 232ـ235 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 370 ـ
وانّ الحكّام كانوا دائماً يفرضون رأيهم بالقوّة .
انظر ما جاء في شذارات الذهب (1) : إنّ القادر العبّاسيّ حمل الناس في سنة 422 على الاعتقاد بما يراه في فضل الصحابة وتكفير المعتزلة بخلق القرآن ، وألّف كتاباً يتلى على الناس في كلّ جمعة ، كما إنّه حملهم بالقهر على الاعتقاد بالسنّة واستتابة من خالفه من المعتزلة والشيعة ، وأخذ خطوطهم بالتوبة وبعث بها إلى السلطان محمود يأمره ببثّ السنّة في خراسان .
تلخّص ممّا سبق أنّ الحكّام سعوا إلى بثّ روح الفرقة بين أفرادالأمّة بالتزامهم هذا المذهب ضدّ ذلك ، ونسبوا إلى معارضيهم من الشيعة سوء العقيدة والخروج عن الإسلام ، وأوعزا إلى الوعّاظ في المساجد والكتّاب والقصّاصين توسعة رقعة هذا الخلاف بين المسلمين .
ولا ينكر أحد بأنّ عناية السلطة بجهة ، أو فرقة تكسبها الاعتبار والعظمة حسب نظام السياسة لا النظام الطبيعيّ ، إذ إنّ الخضوع للسلطان أمر لا مفرّمنه .
لو لم تتدخلّ الحكومات في مثل هذه الأمور لكان أعود على الأمّة وأصلح لدينها وديناها ، لكنّ الحكومات كانت ترى في وحدة المسلمين الخطر على مصالحها والوقوف على عيوبها والخروج عن طاعتها ، فرأت الاستعانة بهذا المذهب ضدّ ذاك ، وكان ذلك هوالخيار السهل الذي يمكن إشغال المسلمين به وجرّهم إلى النزاعات التي كانوا بعيدين عنها ممّا كدر صفو الأمّة وشتّتها بعد الألفة .
وقد أفصح التاريخ عن نيّاتهم السيّئة وما يقصدون من وراء ذلك وآزرهم رجال ابتعدوا عن الحقّ والإنسانيّة .
وإنّ المطالع لو وقف على المجازر الطائفيّة وحتّى بين المذاهب الاربعة لعرف ما نقوله .
وعلى أيّ حال فقد تفرّقت الأمّة كما شاءت السياسة ، أو كما شاء ولاة الجور ، وحاولوا إعطاء هذه الفرقة أو تلك صفة شرعيّة مع أنّها بعيدة في
|
(1) شذرات الذهب 3 : 222 و186 وغيرها .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 371 ـ
الواقع كلّ البعد عن روح الإسلام .
فاتّسع الخلاف وعظم الارتباك ووقعت الخصومة ، وبذلك نجا الحاكم ، ورفع الاستبداد رأسه وافترس كلّ ما وجده صالحاً للأمّة ، وعجز المصلحون عن معالجة مشاكل الأمّة ، وتبنت الحكومات مؤاخذة الشيعة ، وحاكوا التهم عليهم تقوّلاً بالباطل وابتعاداً عن الحقّ .
فحكموا فيما حكموا على الشيعة انّهم يقولون بتكفير الصحابة ، وشتّان ما بين النقد والتكفير ، وما بين احترامهم ـ مع إخضاع أقوالهم للمناقشة وإمكان دراسة نصوصهم ـ وإضفاء هالة من التقديس والعصمة وسدّ باب المناقشة والحوار المنطقيّ السليم .
ولم يقتصر الحكّام على ذلك بل جاؤوا يحكمون على من يقول الحقّ ويريد التحرّر من الجمود الفكريّ بأنّه رافضيّ ، أو نراهم يتركون الحقّ والسنّة الصحيحة لأنّها عمل الرافضة بحجّة أنّ التشبّه بهم غير جائز !
قال ابن تيميّة في منهاجه عند بيان التشبّه بالشيعة : ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبّات ، إذا صار شعاراً لهم ، فإنّه وإن لم يترك واجباً لذلك لكنّ في إظهار ذلك مشابهة لهم ، فلا يتميّز السنّيّ من الرافضيّ .
مصلحة التمييز عنهم لأجل هجرانهم ومخالفتهم أعظم من مصلحة ذلك المستحب .
وقال مصنّف الهداية ، من الحنفيّة : انّ المشروع التختّم باليمين ، ولكن لمّا اتّخذته الرافضة جعلناه في اليسار .
وقال الغزاليّ : إنّ تسطيح القبور هو المشروع ، ولكن لمّا جعلته الرافضة شعاراً لها ، عدلنا إلى التسنيم .
وقال الشيخ بن عبد الرحمن في كتاب (رحمة الأمّة في اختلاف الأئمّة) المطبوع في هامش (ميزان الشعرانيّ 1 : 88) : السنّة في القبر التسطيح ، وهو