وهنا نتساءل ... إلى أيّ مدى يدلّ هذان النصان علىالمقصود ؟ ولماذا نراهم يستندون في لزوم الغسل ، وتثليث الغسلات على معانٍ مثل أسبغوا وأحسنوا ، أو ويل للأعقاب ، وتكون غالب أحاديث باب غسل الرجلين في الصحاح والمسانيد وما يستدّل به فيها هو قوله : ( ويلٌ للأعقاب ) وليس فيها نقل صفة وضوئه ( صلى الله عليه واله وسلم ) ؟ !
   هذا ، وقد وردت روايات كثيرة في كتب الصحاح عن ( إسباغ الوضوء ) ، نقلت عن :
   عليّ بن أبي طالب
   عمر بن الخطّاب
   أبي هريرة
   أنس بن مالك
   ابن عبّاس ...
   إبي مالك الأشعري
   أبي سعيد
   ثوبان
   لقيط بن صبرة ... وغيرهم ، لكنّهم لم يشهدوا أحداً على صدور ذلك ، ولم يحتاجوا لقسم والأيمان الغليظة ، كما فعله الخليفة عثمان !
  و ... أخيراً فقد اتّضح لنا ، على ضوء ما تقدّم ، أنّ الخليفة كان يبغي من وراء تأكيده الشديد على جملتي أحسن ، وأسبغ الوضوء تمرير شيء يجول في ذهنه ، محاولاً إيصاله إلى الآخرين ... إذ إنّ إشهاده الصحابة على الأحاديث المسلّمة بين المسلمين لا يحتاج إلى التأكيد عليه بالقسم .
   فالتأكيد إذاً يستبطن أمراً ... وهو : إنّ الخليفة ـ كما عرفنا ـ قد حاول

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 152 ـ
  استغلال مفهوم ثابت عند المسلمين ، فانطلق من خلاله لطرح رؤيته الجديدة ... وهو بذلك يرمي إلى استقطاب الناس ، حيث إنّ عبارة ( أحسن الوضوء ) أو ( أسبغ الوضوء ) تشير ـ من جهة ـ إلى الزيادة في القدسيّة ، والمسح ليس كالغسل في إظهار تلك القدسيّة !
   ومن هنا نفهم معنى تأكيد الإمام عليّ في ردّه للأخذ بالرأي والقياس ، وبيانه الجلي في كون الأحكام الشرعيّة مأخوذة من الكتاب والسنّة النبويّة الشريفة ، فيلزم أن تكون خاضعة للنصّ لا للرأي ، وقد ثبت عنه ( صلى الله عليه واله وسلم ) أنّه قال : ( تعمل هذه الأمّة برهة بكتاب الله ، ثم تعمل برهة بسنّة رسول الله ، ثمّ تعمل بالرأي ... فإذا عملوا بالرأي فقد ضلّوا وأضلّوا ) (1)... وبهذا فقد عرفنا نهي رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) عن الأخذ بالراي ، ومرّ عليك بعض ذلك ، وستقف على المزيد في العهد الأمويّ .
   وعليه ... فيمكننا تعيين موارد الخلاف فيما بين عثمان ومعارضيه من الصحابة في قضيّة الوضوء بـ :
  1 ـ العدد ... فقد أصرّ الخليفة عن ثلاث غسلات بدلاً عن اثنتين ، وأشهد الصحابة على ذلك .
  2 ـ جعل الغسل عوضاً عن المسح ، وإشهاد الأصحاب على ذلك ، كما في رواية أبي علقمة .
   وعليه ، فإنّا نعتبر إشهاد الخليفة الصحابة على الفعل الثلاثيّ وغسل الأرجل بأنّها نقطة اختلافه مع الناس إذ نراه يؤكّد عل هذين المفهومين ، ومن أجله انتزعنا :
  1 ـ مفهوم الوضوء الثلاثيّ الغسليّ ، للإشارة إلى وضوء الخليفة عثمان بن غفّان .

(1) كنز العمّال 1 : 180| 915 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 153 ـ
  2 ـ ومن مفهوم المخالفة انتزعنا مصطلح الوضوء الثنائيّ المسحيّ ، للإشارة إلى وضوء الناس المتحدّثين عن رسول الله ، المخالفين لعثمان .
وبذلك ... فقد خطّ الخليفة أبعاد مدرسة وضوئيّة جديدة في قبال السنّة النبويّة المباركة ، بعد أن جاء بـ ( الوضوء الثلاثيّ الغسليّ ) بدلاً عن ( الوضوء الثنائيّ المسحيّ ) ! ولنا وقفة أخرى مع أحاديث ( أحسنوا الوضوء ) و ( أسبغوا الوضوء ) في الفصل الثاني من هذه الدراسة (الوضوء في الكتاب واللغة) ، وسنشير إلى السبب الداعي لا تخاذ الخليفة والحكومة الأمويّة هذا الموقف ، ومدى استفادتهما من هذين المصطلحين وغيرها من الأدلّة التعضيديّة ، ودورهم في إشاعتها لترسيخ وضوء عثمان .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 155 ـ
الباب الثاني
الوضوء في العهدين

  العهد الأمويّ 40 ـ 132 هـ
  العهد العباسيّ 132 ـ 232 هـ

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 157 ـ
تنبيه :
  قبل البحث في مواضيع الباب الثاني ، لا بُدّ من التنبيه إلى الأسباب الداعية لفصل العهدين ـ الأمويّ والعبّاسيّ ـ عن عهد الخلافة الراشدة ... والأسباب هي :
   أولاً : اضمحلال قدسيّة الخلافة في هذين العهدين ، ولم تعد تضفى على الخليفة كما كانت في عهد الخلفاء الراشدين .
   ثانياً : إن كثيراً من الصحابة الذين عاشوا في العهد الأمويّ ، كانوا من متأخري الصحبة ، وقد انخرط معظمهم في ركب الخلفاء السياسيّسن ! !
   ثالثاً : كان الخليفة في الخلافة الراشدة يسعى لتحكيم الأحكام الدينيّة ، في حين لا نرى في العهدين التاليين سوى ما يدعم الحاكم ، وما الخلافة عندهما إلاّ منصب سياسيّ .
   رابعاً : نتيجة لقلّة عدد الصحابة ، غدا احتمال التغيير في الدين غير مستبعد .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 158 ـ
   خامساً : تأصيل أمور لم تكن أصيلة في شريعة سيّد المرسلين في هذين العهدين .
   إنّ هذه العوامل مجتمعة ، كوّنت مجتمعاَ وأفكاراً تختلف اختلافاً جوهريّاً ممّا كان في عهد الخلافة الراشدة ، لأجله عمدنا إلى فصل هذين العهدين عن العهود التي سبقتهما ، ليمكن دراستها بنحو أشمل .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 159 ـ
العهد الأمويّ ( 40 ـ 132 هـ )

   تمهيد :
   المعروف عن بني أميّة تبنيهم لقضيّة عثمان ، والمطالبة بدمه ، ونشر فضائله ، والوقوف أمام مخالفيه والحطّ منهم ، ومن ثمّ الالتزام بفقهه ونشر آرائه ، رغم مخالفة بعضها لصريح القرآن المجيد والسنّة النبويّة ، وإليك بعضها .

الأمويّون وتبنيهم لرأي عثمان


1 ـ الصلاة بمنى :
   أخرج أحمد بسنده إلى عباد بن عبدالله بن الزبير عن أبيه أنّه قال : لمّا قدم علينا معاوية حاجّاً ، قدمنا معه مكّة ، قال : فصلّى بنا الظهر ركعتين ثمّ انصرف إلى دار الندوة ، قال [ الراوي ] : وكان عثمان حين أتمّ الصلاة إذا قدم مكّة صلّى بها الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعاً أربعاً ، فإذا خرج إلى منى وعرفات قصّر الصلاة ، فإذا فرغ من الحجّ وأقام بمى أتمّ الصلاة حتّى يخرج من مكّة .


وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 160 ـ
   فلما صلّى [ معاوية ] بنا الظهر ركعتين ، نهض إليه مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان فقالا له : ما عاب أحد ابن عمّك بأقبح ما عبته به .
   فقال لهما : وما ذاك ؟
   قالا : ألم تعلم أنّه أتمّ الصلاة بمكّة ؟
   قال ، فقال لهما : ويحكم ! وهل كان غير ما صنعت ، قد صلّيتهما مع رسول الله ، ومع أبي بكر ، وعمر ( رضي الله عنهما ) .
   قالا : فإنّ ابن عمّك قد كان أتمّهما ، وإنّ خلافك إيّاه عيب !
   قال : فخرج معاوية إلى منى فصلاّها بنا أربعاً (1).
   وقد أخرج المتقيّ الهنديّ في كنز العمال عن ابن عبّاس انّه قال : صلّى رسول الله وأبو بكر وعمر ركعتين ، ثمّ فعل ذلك عثمان ثلثي إمارته أو شطرها ثمّ صلاّها أربعاً ، ثمّ أخذ بها بنو أميّة (2).
   فمعاوية لم يكن جاهلاًَ بصلاة عثمان إلاّ أنه أراد ـ بدهائه ـ أن يعرف مدى تأثير رأي عثمان الصلاتي في الناس وخصوصاً عند أقاربه وحاشيته !
2 ـ الجمع بين الاُختين بالملك :
   أخرج ابن المنذر ، عن القاسم بن محمّد : إنّ حيّاً سألوا معاوية عن الاُختين ممّا ملكت اليمين يكونان عند الرجل يطؤهما ؟
   قال : ليس بذلك بأس .
   فسمع بذلك النعمان بن بشير ، فقال : أفتيت بكذا وكذا ؟ !
   قال : نعم .
   قال : أرأيت لو كان عند الرجل أُخت مملوكته ، يجوز أن يطأها ؟

(1) مسند أحمد 4 : 94 ، فتح الباري 2 : 457 ، نيل الأوطار 3 : 259 ، البدعة للسبحاني : 246 .
(2) كنز العمال 8 : 238 | 22720 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 161 ـ
   قال : أما والله لربّما وددتني اُدرك ، فقل لهم : اجتنبوا ذلك فإنّه لا ينبغي لهم ؟
   فقال : إنّما الرحم من العتاقة وغيرها (1).
   إن معاوية بإفتائه هذا كان قد اتّبع فقه عثمان ، إذ إنّه كان قد أفتى بذلك .
   فقد أخرج مالك في الموطأ عن ابن شهاب ، عن قبيصة بن ذؤيب : إنّ رجلاً سأل عثمان بن عفّان عن الاُختين من ملك اليمين ، هل يجمع بينهما ؟
   فقال عثمان : أحلّتهما آية ، وحرّمتهما آية ، فأمّا أنا فلا أحبُّ أن أصنع ذلك .
   قال : فخرج من عنده فلقي رجلاً من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، فسأله عن ذلك ، فقال : لو كان لي من الأمر شيء ، ثمّ وجدت أحداً فعل ذلك لجعلته نكالاً .
  قال ابن شهاب : أراه عليّ بن أبي طالب (2).

3 ـ ترك التكبير المسنون في الصلاة :
   أخرج الطبرانيّ ، عن أبي هريرة ، وابن أبي شيبة ، عن سعيد بن المسيّب : إنّ أوّل من ترك التكبير معاوية (3).
   وجاء في الوسائل في مسامرة الأوائل : إنّ أوّل من نقص التكبير معاوية ، كان إذا قال : سمع الله لمن حمده ، انحطّ إلى السجود ولم يكبّر (4).
   وأخرج ابن أبي شيبة عن إبراهيم ، قال : أوّل من نقّص التكبير زياد (5).
   وقد جمع ابن حجر العسقلاني في فتح الباري بين الأقوال ، فقال : وهذا لا ينافي الذي قبله ، لأنّ زياداً تركه بترك معاوية ، وكان معاوية تركه بترك عثمان (6).

(1) الدرّ المنثور 2 : 137 .
(2) الموطّأ 2 : 538 | 34 .
(3) انظر : الوسائل في مسامرة الأوائل : 18 .
(4) الوسائل في مسامرة الأوائل : 18 ـ رقم 94 .
(5) الوسائل في مسامرة الأوائل : 19 ـ رقم 95 .
(6) فتح الباري 2 : 215 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 162 ـ
  وقد جاء عن مطرف بن عبدالله ، قال : صلّيت خلف عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) أنا وعمران بن الحصين ، فكان إذا سجد كبّر ، وإذا رفع رأسه كبّر ، وإذا نهض من الركعتين كبّر ، فلمّا قضى الصلاة أخذ بيدي عمران بن حصين فقال : ( قد ذكّرني هذا صلاة محمّد ) ، أو قال : ( لقد صلّى بنا محمّد ) (1).
   وفي لفظ آخر عن مطرف بن عمران ، قال : صلّيت خلف عليّ صلاةً ذكّرني صلاة صلّيتها مع رسول الله والخليفتين ، قال : فانطلقت فصلّيت معه فإذا هو يكبّر كلّما سجد وكلّما رفع رأسه من الركوع ، فقلت : يا أبا نجيد من أوّل من تركه ؟
   قال : عثمان بن عفّان (رض) حين كَبُرَ وضعف صوته تركه (2).
   وأخرج الشافعيّ في كتاب الاُم وكذا القزويني في التدوين من طريق أنس ابن مالك ، قال : صلى معاوية بالمدينة فجهر فيها بالقراءة ، فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم لأُمِّ القرآن ، ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها ، حتّى قضى تلك القراءة ولم يكبّر حين يهوي حتى قضى تلك الصلاة ، فلما سلّم ناداه من يسمع ذلك من الهاجرين من كل مكان : يا معاوية ! أسرقت الصلاة أم نسيت ؟ !
   فلما صلى بعد ذلك قرأ : بسم الله الرحمن الرحيم للسورة التي بعد أُمَّ الكتاب وكبر حين يهوي ساجداً (3).
   وأخرج الشافعي الحديث كذلك عن طريق عبيد بن رفاعة (4)، وصاحب الانتصار أخرجه عن طريق أنس بن مالك ، كما حكاه في البحر الزخار .
   وبهذا عرفت بأن معاوية قد تبنّى فقه الخليفة في تركه للتكبير المسنون ،

(1) أخرجه البخاري 1 : 209 ، مسلم 1 : 295 | 33 ، ابن أبي داود 1 : 221 | 835 ، النسائي 2 : 204 ، أحمد 4 : 428 ، 429 ، 444 .
(2) مسند أحمد 4 : 432 ، الوسائل في مسامرة الأوائل : 18 | 93 .
(3) الاُم 1 : 108 ، التدوين في أخبار قزوين 1 : 154 .
(4) الاُم 1 : 108 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 163 ـ
  والجمع بين الاُختين بالملك وعدم قراءة البسملة للسورة اقتداءً بعثمان !

4 ـ التلبية :
   أخرج النسائي والبيهقي في سننهما عن سعيد بن جبير ، قال : كان ابن عباس بعرفة ، فقال : يا سعيد ، مالي لا أسمع الناس يلبّون ؟
   فقلت : يخافون معاوية ..
   فخرج ابن عباس من فسطاطه ، فقال : لبيك اللهم لبيك ، وإن رغم أنف معاوية ، اللهم العنهم ، فقد تركوا السنّة من بغض عليّ (1).
   قال السندي في تعليقته على النسائي : ( من بغض عليّ ) : أي لأجل بغضه ، أي : وهو كان يتقيّد بالسنن ، فهؤلاء تركوها بغضاً له (2) .
   وأخرج ابن حزم في المحلى : أهل رسول الله حتى رمى الجمرة وأبو بكر وعمر (3).. ولم يذكر عثمان .
   وعن عبد الرحمن بن يزيد : إنّ عبدالله بن مسعود لبّى حين أفاض من جمع ، فقيل له : عن أي هذا ؟
   وفي لفظ مسلم : فقيل : أعرابي هذا ؟ !
   فقال : أنسي الناس أم ضلّوا ؟ ..سمعت الذي نزلت عليه سورة البقرة يقول في هذا المكان : ( لبيك اللهم لبيك ) (4).
   وفي النصين الأخيرين دلالة على أن الخليفة عثمان كان لا يرتضي التلبية ، وأنه كان قد طبّع الناس على تركها ، حتى كانوا يعدّونها ليست من الدين ، وأنّ معاوية قد سار على نهج الخليفة كما ظهر ذلك من النص الأول .

(1) سنن النسائي 5 : 253 ، سنن البيهقي 5 : 113 ، الاعتصام بحبل الله المتين 1 : 360 .
(2) هامش سنن النسائي 5 : 253 .
(3) انظر المحلى 7 : 135 ـ 136 ، فتح الباري 3 : 419 ـ 420 .
(4) صحيح مسلم 2 : 932 | 270 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 164 ـ
   وما كانت هذه الأمثلة إلا نموذجاً لكثير من النصوص المبثوثة في الكتب والدالة على التزام معاوية بنهج الخليفة وسعيه لتطبيق فقه عثمان ورأيه .
   وبعد هذا ... نتساءل :
   أيعقل أن يتخطى معاوية وضوء الخليفة ، مع ما عرفت عنه من تبنيه لآرائه الفقهية ؟ !
   وماذا يجدي نقل كلّ تلك الفضائل لعثمان ، ألم تكن هي مقدمة للأخذ بفقهه والسير على نهجه ؟
   وكيف يترك معاوية فقه عثمان ، وهو الخليفة الأموي المظلوم ! ! ويسمح بانتشار فقه الناس المخالفين له ولعثمان ؟ !
   لسنا بصدد البحث في أنّ عثمان هل هو الذي أثر في الأمويّين ، ام هو المتأثر بهم ؟ بل الذي نود التأكيد عليه هو وجود الامتزاج والتلاقي في الأفكار ، وأنّ الخليفة والأمويّين يسيران على نهج ويتابعان هدفاً واحداً .
   وبما أن الإمام عليّاً أحد الناس الذين يتحدثون عن رسول الله في الوضوء ، فمن الطبيعي أن تواجه الحكومة الأمويّة اُولئك الناس بالشدة ، إذ إنّ سياستها ـ كما قلنا ـ تعتمد على أمرين :
  1 ـ تبنّي فقه عثمان بن عفان ونشر فضائله .
  2 ـ مخالفة عليّ في نهجه وفقهه وآرائه .
   وإنا قد فصلنا هذا البحث في كتابنا عن الحكّام ، وقلنا بأن بني اٌمية كانوا على طرفي نقيض مع بني هاشم حتى في صدر الاسلام ، حين التزم بنو اُمية جانب المشركين ، أما بنو هاشم فلم يفارقوا الرسول في جاهليّة ولا إسلام .
   جاء في صحيح البخاري : إنّ رسول الله وضع سهم ذي القربى في بني هاشم وعبد المطلب ـ أيام غزوة خيبر ـ فاعترض عثمان وجبير بن مطعم على حكم

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 165 ـ
  رسول الله ، فقال لهما ( صلى الله عليه واله وسلم ) : ( إنّا بنو هاشم وبنو عبد المطلب شيء واحد ) (1).
   وفي رواية النسائي : ( إنّهم لم يفارقوني في جاهليّة ولا إسلام ، وإنّما نحن وهم شيء واحد ) ، وشبك بين أصابعه (2).
   ففي الجمل السابقة تعريض ببني اٌمية ومدح لبني هاشم وعبد المطلب ، إذ إنهم تحمّلوا أعباء الدعوة وكانوا معه في شعب أبي طالب ودافعوا عنه بكل ما أوتوا من قوة ، ولم يكونوا كغيرهم حين دخلوا الإسلام مكرهين !

خطوات أموية

  1 ـ التشكيك في الأحاديث النبوية الواردة في حق عليّ ، ووضع أحاديث مشابهة في حق بعض الصحابة ! !
   فقد جاء في كتاب معاوية إلى عماله :
   (...أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل بيته والذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم وقرّبوهم وأكرموهم ، واكتبوا إليّ بكل ما يروي كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته) (3).
   ولما فشا ذلك ، وكثر الحديث في عثمان .. كتب إليهم :
   فإذا جاءكم كتابي هذا ..فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإنّ هذا أحبُ إليّ ، وأقرّ لعيني ، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته ، وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله (4).

(1) صحيح البخاري 5 : 174 ، هذا الخبر وما يليه في الأموال لأبي عبيدة : 341 .
(2) سنن النسائي 7 : 131 ، سنن أبي داود 3 : 146 | 2980 .
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11 : 44 .
(4) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11 : 45 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 166 ـ
  2 ـ السعي إلى طمس كلّ فضيلة وميزة لعليّ بن أبي طالب على غيره من الصحابة ، وجعله كأحد المسلمين .
  . فقد رووا عن ابن عمر أنّه قال : ( كنّا في زمن النبي لا نعدل بأبي بكر أحداً ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم نترك أصحاب النبي لا نفاضل بينهم ) (1).
   وما روي عن محمد بن الحنفيّة ( ابن الإمام عليّ ) ، أنّه قال : ( قلت لأبي : أيّ الناس خير بعد رسول الله ؟
   فقال : أبو بكر .
   قلت : ثم من ؟
   قال : عمر .
   وخشيت أن يقول عثمان ، قلت : ثم أنت ؟
   قال : أمّا أنا رجل من المسلمين ) (2).
   إن ذكرنا لهذا لا يعني التشكيك أو التعريض بالشيخين ، بل أوردناه لمخالفته للثابت الصحيح في التاريخ ، فإن علياَ كان لا يرى أحداً أحق بالأمر منه لما نصبه الرسول ( صلى الله عليه واله وسلم ) في حجة الوداع ، وجعله وصياً له ، وهكذا الأمر بالنسبة لبقيّة المسلمين الأوائل ، فقد كانت لهم رؤى تخصهم في الخلافة والتفاضل !
   ولو صحّ ذلك وعرفه الجميع ولم يكن بالمفتعل الطائفي ، فلماذا يقول أبو بكر لأبي عبيدة : ( هلمّ أبايعك ، فإنّى سمعت رسول الله يقول إنّك أمين هذه الاُمة وقدّمه على نفسه وعلى عمر ) ، أو قوله : ( ولّيت عليكم ولست بخيركم ) (3)...
   ألم تكن هذه فضيلة لأبي عبيدة دالّة على رجحانه على أبي بكر ، أو دالّة على وجود من هو خير منه كما في النصّ الثاني !

(1) البداية والنهاية 7 : 216 ، التاريخ الكبير للبخاري 1 : 49 .
(2) صحيح البخاري 5 : 9 .
(3) طبقات ابن سعد 3 : 182 ، وفيه : امركم بدل عليكم ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17 : 158 ، تاريخ الطبري 3 : 210 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 167 ـ
   وماذا يعني كلام عمر ـ قبل الشورى ـ : لو كان أبو عبيدة بن الجرّاح حيّاً استخلفته ، فإن سألني ربّي قلت : سمعت نبيّك يقول : ( إنّه أمين هذه الاُمة ) .
   ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً استخلفته ، فأن سألني ربّي قلت : سمعت نبيّك يقول : ( إنّ سالماً شديد الحبّ لله ) (1)، وأقواله الاُخرى في عليّ وغيره ...
   ألم تدل هذه النصوص على أن أبا عبيدة وسالماً و ... هم أفضل من عثمان ؟ ... فلو كان كذلك ، فما معنى ( كنا لا نعدل ) ؟ !
   وماذا يعني قول ابن عوف في الشورى : ( أيّها الناس إنّي سألتكم سرّاً وجهراً بأمانيكم ، فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين : إمّا عليّ وإمّا عثمان ) (2)... ثمّ بدأ بعليّ للبيعة وقدّمه على عثمان .
   وما يعني كلام عائشة عندما سُئلت عن رسول الله ( لو استخلف ) ؟ ! فذكرت أبا بكر وعمر ولم تذكر عثمان ، بل رجّحت أبا عبيدة عليه (3).
   ألم تكن هذه المواقف هي امتيازاً لعليّ وأبي عبيدة وسالم وأنّهم أفضل من عثمان ؟
   وما معنى جملة لم ( نعدل ) ، أو ( نفاضل ) وفي القوم من عُدّ من العشرة المبشرة ومن جاء فيه نصّ صريح بعلوّ مكانته وجلالة قدره !
  3 ـ وضع أحاديث في عدالة جميع الصحابة ، كقوله ( صلى الله عليه واله وسلم ) : ( أصحابي كالنجوم ، بأيّهم اقتديتهم اهتديتم ) و ... ، ليجعلوا أبا سفيان ، ومروان بن الحكم ، والحكم بن العاص ، ومعاوية ، وعبدالله بن أبي سرح ، والوليد بن عقبة و ... بمنزلة عليّ ، وفاطمة ، وابن عباس ، وأبي ذر و ... !
   وذلك بعدما عجزوا عن طمس الإسلام والوقوف أمام أبنائه ومعتقدات

(1) تاريخ الطبري 4 : 227 .
(2) تاريخ الطبري 4 : 238 .
(3) صحيح مسلم 4 : 1856 | 9 ، مستدرك الحاكم 3 : 73 ، مسند أحمد 6 : 63 ، سنن الترمذي 5 : 317 | 3845 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 168 ـ
  الناس ، فإنّهم بطرحهم هذه الفكرة وغيرها قد أرادوا نفي ما قيل في بني اُميّة وما جاء في شأنهم من اللعن على لسان الرسول والقرآن المجيد ، بل جعل أقوالهم من مصادر التشريع الإسلامي ليضاهي كلام المقرّبين من أصحاب الرسول وينافسهم في أخذ المسلمين معالم دينهم عنهم .
   وقد ثبت عنه ( صلى الله عليه واله وسلم ) أنّه كان يلعن أقطاب بني اُميّة ويدعو عليهم في قنوته ، ويقول : ( اللهم العن أبا سفيان ، اللهم العن الحارث بن هشام ، اللهم العن سهيل ابن عمرو ، اللهم العن صفوان بن اُميّة ) (1)...
   وتواتر عنه ( صلى الله عليه واله وسلم ) أنّه قال ـ لما أقبل أبو سفيان ومعه معاوية ـ : ( اللهم العن التابع والمتبوع ) (2).
   وفي آخر : ( اللهم العن القائد والسائق والراكب ) (3)...وكان يزيد بن أبي سفيان منهم .
   وقد اشتهرت مقولة رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) في مروان بن الحكم وأبيه ـ طريد رسول الله ـ : ( اللهم العن الوزغ بن الوزغ ) (4).
   فالأمويون سعوا لتغيير مفهوم بعض الأحاديث النبويّة الشريفة ـ ومنها أحاديث اللعن ـ ، ليجعلوا للملعونين منزلة لا ينالها إلاّ ذو حظّ عظيم ، ليشكّكوا فيما صدر عن رسول الله وأن لعنه قد صدر عن عصبيّة قبليّة كأنّه لم يكن يلتزم بأصل ثابت في الحياة ـ والعياذ بالله !
   فقد روت عائشة عنه ( صلى الله عليه واله وسلم ) أنّه قال : ( اللهم أنا بشر ، فأيّ المسلمين لعنته أو سببته ... فاجعله زكاة وأجراً ) (5).

(1) الفردوس 1 : 503 | 2060 ، الإصابة 2 : 93 .
(2) وقعة صفين : 217 .
(3) وقعة صفين : 220 .
(4) مستدرك الحاكم 4 : 479 .
(5) صحيح مسلم 4 : 2007 | 88 ، مسند أحمد 3 : 400 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 169 ـ
   وروى أبو هريرة أيضاً : ( إنّما أنا بشر ، فأيّ المؤمنين آذيته ، شتمته ، لعنته ، جلدته ... فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقرّبه بها إليك يوم القيامة ) (1).
   ونحن لا نريد أن نناقش هذين الحديثين وأمثالهما ـ وهي كثير ـ بل نريد أن يقف القارئ على دور الأمويين وكيف كانوا يريدون مسخ شخصيّة الرسول ( صلى الله عليه واله وسلم ) بترسيمهم شخصيّة له ( صلى الله عليه واله وسلم ) لا تراعي القيم والأعراف ، بل تتعدى على حقوق المسلمين ، ثم يطلب الرحمة من الله لأُولئك ! !
   كيف يلعن رسول الله من لا يستحق اللعنة ! أو نراه يلعن المؤمنين ، كما جاء في حديث أبي هريرة !
   أم كيف يمكن أن نوفّق بين هذا الحديث وما رواه عنه ( صلى الله عليه واله وسلم ) : ( إنّي لم اُبعث لعّاناً وإنّما بعثت رحمة ) (2).
   وهل حقاً أنّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) يطلب الرحمة لمن لعنه ؟ !
   وكيف يؤكدون إذاً على عدالة جميع الصحابة ، وما يعني ذلك ؟
   أليس بين الصحابة مؤمنون ومنافقون ، وأليس بينهم من يحبّه الله ورسوله وهناك من يلعنه الله ورسوله ؟ ! ، وكيف يصحّ لنا أن نساوي بينهم ، وما الهدف من ذلك ، ومن هو المستفيد ، ولِمَ قالوا بهذا ؟
   قالوا بذلك ليساووا المجاهد بالقاعد ، والطليق بالمهاجر ، والمحاصر بالمحاصر ، والمشرك بالمؤمن ... وليجعلوا قول ابن أبي سرح والوليد ومروان يضاهي كلام عليّ وفاطمة وغيرهما ممن يمكن الاطمئنان إليهم والأخذ بقولهم ، وقد تنبّه الإمام عليّ لمخططهم ، فجاء في رسالته إلى معاوية :
   ( ... ولكن ليس اٌمية كهاشم ، ولا حرب كعبد المطلب ، ولا أبو سفيان كأبي طالب ، ولا المهاجر كالطليق ، ولا الصريح كاللصيق ، ولا المحق كالمبطل ،

(1) صحيح مسلم 4 : 2008 | 90 ، مسند أحمد 2 : 316 ـ 317 ، 449 .
(2) صحيح مسلم 4 : 2006 | 87 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 170 ـ
  ولا المؤمن كالمدغل ... ) (1).
   وفي قوله لمعاوية :
   ( فسبحان الله ! ما أشد لزومك للأهواء المبتدعة والحيرة المتبعة مع تضييع الحقائق وآطراح الوثائق التي هي لله طلبة وعلى عباده حجّة ... ) إلى آخره .
   وقد قال الجاحظ وهو في معرض إشارته للذين يعتقدون برأي الأمويين : وقد أربت عليهم نابتة عصرنا ومبتدعة دهرنا فقالت : لا تسبّوه [ أي معاوية ] فإنّ له صحبة ، وسبُّ معاوية بدعة (2)، ومن يبغضه فقد خالف السنّة ، فزعمت أنّ من السنة ترك البراءة ممن جحد السُنة .
   ولا نريد التفصيل في هذا البحث ، بل نكتفي بالإشارة إلى أنّ هذه الفكرة كغيرها إنما هي دسيسة حكومية تُخفي وراءها أهدافاً سياسيّة !
  4 ـ إثارة مسألة عدم اجتماع الخلافة والنبوة في بني هاشم ، والتي اُثيرت من قبل في اجتماع السقيفة (3)، مع العلم بأنّهم مسلمون وجميع الناس سواسية أمام حكم الله ، وصريح قوله ( صلى الله عليه واله وسلم ) : ( خلفائي اثنا عشر كلهم من قريش ) (4)، ودلالة القرآن باجتماع ذلك بقوله تعالى : ( وورث سليمان داود) (5).
   كانت هذه بعض خيوط المخطط الأموي ضدّ عليّ وبني هاشم ، وهناك الكثير لا يمكننا حصره ، وقد ثبت أنّهم كانوا يأمرون الناس بلعن عليّ في صلواتهم وعلى المنابر (6)حتى قيل : بأنّ مجالس الوعّاظ بالشام كانت تختم بشتم عليّ (7)، وأنهم كانوا لا يقبلون لأحد من شيعة عليّ وأهل بيته شهادة ،

(1) نهج البلاغة 3 : 18 | 17 .
(2) أما سبُ عليّ بن أبي طالب فلا ! يُنظر كلام الجاحظ في رسالته المطبوعة في آخر النزاع والتخاصم للمقريزي : 94 .
(3) في هذا حوار لابن عباس مع عمر ..راجع الطبري 4 : 223 ـ 224 وغيره من كتب التاريخ .
(4) صحيح مسلم 3 : 1453 | 10 ، سنن الترمذي 3 : 340 | 2323 .
(5) النمل : 16 .
(6) النصائح الكافية : 86 ـ 88 .
(7) النصائح الكافية : 87 ، وابن عساكر في تاريخه .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 171 ـ
  وقد أمر معاوية بمحو أسمائهم من الديوان (1)..
   وقيل : إنّ حجر بن عدي صاح بالمغيرة في المسجد قائلاً : مر لنا أيّها الانسان بأرزاقنا ، فقد حبستها عنّا وليس ذلك لك ، وقد أصبحت مولعاً بذم أمير المؤمنين ، فقام أكثر من ثلثي الناس يقولون : صدق حجر وبرّ (2).
   وقد نقلت كتب السير أنّ عمر كان قد قال للمغيرة بن شعبة ـ وكان أعور ـ : أما والله ليعورنّ بنو أميّة هذا الدين ، كما أعورت عينك ، ثمّ لتعمينه حتى لا يدري أين يذهب ولا أين يجيء (3)! !
   قال الدهلويّ في رسالة الإنصاف :
   ( ولمّا انقرض عهد الخلفاء الراشدين أفضت الخلافة إلى قوم تولّوها بغير استحقاق ، ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام ، فاضطرّوا إلى الاستعانة بالفقهاء ، وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم ، وكان بقي من العلماء من الطراز الأول ، فكانوا إذا طلبوا هربوا وأعرضوا ، فرأى أهل تلك الأعصارـ غير العلماء ـ إقبال الاُمّة عليهم مع إعراضهم ، فاشتروا طلب العلم توصّلاً إلى نيل العزّ ، فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين ، وبعد أن كانوا أعزّة بالإعراض عن السلاطين أذلة بالإقبال عليهم ، إلاّ من وفقه الله ... ) .
   فإذا كانت هذه هي السياسة الحكومية تجاه عليّ وشيعته ، فهل يعقل أن تطبّق السنة النبوية كما هي واقعاً في مثل هذا العهد (4)؟ !
   وكيف باُولئك الناس الذين كانوا يحدثون عن رسول الله ، وهل بقي من الصحابة من له جرأة الإقدام والاعتراض ؟ ! !
   وماذا سيكون اتجاه الحكومة وموقفها في الوضوء ؟

(1) النصائح الكافية : 88 .
(2) تاريخ الطبري 5 : 254 .
(3) شرح النهج عن الموفقيّات للزبير بن بكار .
(4) سنوضح للقاري في الجانب الروائي من هذه الدارسة أن نهج عليّ هو السنة الشريفة .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 172 ـ
   هل ستسمح للناس بممارسة وضوئهم المنقول عن رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) أم ستواجههم بالعنف وطرق التضليل الأخرى ؟ !
   من الواضح ـ كما قلنا ـ أنّ الحكومة الأموية قد اتبعت فقه الخليفة عثمان وجعلته دستور الدولة ، وأمرت الولاة والقضاة باتّباعه ، ودعت إلى نشره ، فلا يعقل أن تحيد عن سياستها الكليّة في الوضوء بالذات ، بالرغم من وجود عليّ ابن أبي طالب ـ وهو من الذين لهم معه حساب خاصّ ـ في الجناح المقابل .
  وعلى رأس المحافظين على سنة النبي في الوضوء ...هذا أولاً .
   وثانياً : المعروف أن الأمويين ـ وبعد قتل الحسين ـ قد ازدادوا تنكيلاً بشيعة عليّ ، حتى وصل الحال بفقهاء الشيعة أن توقّفوا عن الإفتاء في مستجدات المسائل ، لصعوبة الاتصال بأئمتهم ، وتفشي سياسة العنف في البلاد ، وقد حدّ ذلك من ارتباط القيادة مع القاعدة ، وعليه ، نرى عمل الناس في الوضوء ـ بعد مقتل الحسين الشهيد ـ أخذ يتدرج بالضعف أمام دعاة نهج الخليفة ، حتى انحصر ببعض التابعين وأهل بيت رسول الله ، وإنك ستقف على أسمائهم عن قريب .
   وإنا قد رجونا بطرحنا لما سبق اعطاء صورة للمطالع عن تلك الفترة من تأريخ وتجسيم واقع الامة بل الشريعة فيه ، إذ إن الفقه الاصيل والتاريخ الصحيح قد ضاع بين ثنايا الدس والتحريف الاموي ، فكان علينا ان نستخدم طريق ( الم ) ـ كما يقول علماء المعقول للوصول الى الحقيقة ، وذلك بالاستعانة من القرائن والمؤشرات لا الاكتفاء بالادلة الظاهرة ، أي علينا استخدام المعلول للوقوف على العلة ، وذلك لضياع كثير من النصوص أو تحريفهم لمفاهيمها .

حال ( الناس ) في العهد الأموي

   أشار الإمام علي بن الحسين إلى حال المؤمنين في مثل هذا العهد وكيف يرون كتاب الله منبوذاً وسنة نبيّه متروكة وحكمه مبدلاً ، فقال في دعائه :
   ( اللهم إن هذا المقام لخلفائك وأصفيائك ... ) .
   إلى أن يقول :
   ( ... حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزين ، يرون حكمك مبدلاً ، وكتابك منبوذاً ، وفرائضك محرفة عن جهات أشراعك ، وسنن نبيك

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 173 ـ
  متروكة و ... ) (1).
   وقال أيضاً وهو يشرح اختلاف الاُمة :
   ( وكيف بهم ؟ وقد خالفوا الآمرين ، وسبقهم زمان الهادين ، ووكلوا إلى أنفسهم ، يتنسكون في الضلالات في دياجير الظلمات .
   وقد انتحلت طوائف من هذه الاُمة مفارقة أئمة الدين والشجرة النبوية أخلاص الديانة ، وأخذوا أنفسهم في مخاتل الرهبانية ، وتغالوا في العلوم ، ووصفوا الإسلام بأحسن صفاته ، وتحلوا بأحسن السنة ، حتى اذا طال عليهم الأمد ، وبعدت عليهم الشقة ، وامتحنوا بمحن الصادقين : رجعوا على أعقابهم ناكصين سبيل الهدى ، وعلم النجاة .
   وذهب آخرون إلى التقصير في أمرنا ، واحتجوا بمتشابه القرآن ، فتأولوه بآرائهم ، واتهموا مأثور الخبر مما استحسنوا ، يقتحمون في أغمار الشبهات ، ودياجير الظلمات ، بغير قبس نور من الكتاب ، ولا أثرة علم من مظان العلم ، زعموا أنهم على الرشد من غيّهم .
   وإلى من يفزع خلف هذه الاُمة ؟ !
   وقد درست أعلام الملة والدين بالفرقة والاختلاف ، يكفر بعضهم بعضاً ، الله تعالى يقول :
   ( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ) (2) .
   فمن الموثوق به على إبلاغ الحجة ؟ وتأويل الحكمة ؟ إلاّ إلى أهل الكتاب ، وأبناء أئمة الهدى ، ومصابيح الدجى ، الذين احتج الله بهم على عباده ، ولم يدع

(1) الصحيفة السجادية : 293 ـ الدعاء 48 .
(2) آل عمران : 105 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 174 ـ
  الخلق سدى من غير حجة .
   هل تعرفونهم ؟
   أو تجدونهم إلاّ من فروع الشجرة المباركة ، وبقايا صفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس ، وطهرهم تطهيراً ، وبرّأهم من الآفات ، وافترض مودتهم في الكتاب ) (1)؟ !
   وقال عليه السلام لرجل شاجره في مسألة شرعية فقهية :
   ( يا هذا ! لو صرت إلى منازلنا ، لأريناك آثار جبرئيل في رحالنا ، أفيكون أحد أعلم بالسنة منا ) (2).
   وقال أيضاً :
   ( إن دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة ، والآراء الباطلة ، والمقاييس الفاسدة ، لا يصاب إلاّ بالتسليم .
   فمن سلم لنا سلم ، ومن أقتدى بنا هدي ، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك ، ومن وجد في نفسه ـ مما نقوله ، أو نقضي به ـ حرجاً ، كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم ، وهو لا يعلم ) (3).
   وبين الإمام الباقرسبب تأكيدهم وسر إرجاع المسلمين إليهم ، بأنهم مكلفون ببيان الأحكام للناس ، لكن السياسة الظالمة والأهواء الباطلة تمنع الأخذ منهم ، أو تمنعهم من بيانها ، فقد قال : ( بليّة الناس علينا عظيمة ، إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا ، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا (4)) .
   وبهذا فقد عرفت أن الطابع السياسي أخذ يتفشى في الشريعة شيئاً فشيئاً ،

(1) كشف الغمة للأربلي 2 : 98 ـ 99 .
(2) نزهة الناظر للحلواني : 45 .
(3) اكمال الدين : 324 ب 31 ح 9 .
(4) الإرشاد 2 : 167 ، مناقب آل أبي طالب 4 : 206 ، وعنه في البحار 46 : 288 ح 11 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 175 ـ
  وأن الأحكام صارت تخضع لأهواء الحكام ، وأن الفرائض الشرعية صارت محرفة عما شرعت ، وأن الحكام صاروا يفتون الناس بالدين الذي يريدونه أو يستخدمون من له نفوذ وعلم لأن يفتي لهم بما يريدون ، وقد مر عليك سابقاً كلام ابن عباس ، وأنه كان يلعن معاوية وأتباعه لتركهم سنة رسول الله بغضاً لعليّ ( اللهم العنهم فقد تركوا السنة من بغض عليّ ) (1).
   أو أنه قال : ( لعن الله فلاناً ، إنه كان ينهى عن التلبية في هذا اليوم ـ يعني يوم عرفة ـ لأن عليّاً كان يلبي فيه ) (2).
   ونقل الشيخ أبو زهرة ما جاء عن الحكم الأموي ، منها :
   لابدّ أن يكون للحكم الأموي أثر في اختفاء كثير من آثار عليّ في القضاء والإفتاء ، لأنه ليس من المعقول أن يلعنوا عليّاً فوق المنابر ، وأن يتركوا العلماء يتحدثون بعلمه ، وينقلوا فتاواه وأقواله ، وخصوصاً ما يتصل بأساس الحكم الإسلامي (3).
   ونحن نقول هنا بما مر ، كيف بالحكومة تترك الناس يمارسون دورهم ، وهم من مخالفي عثمان ، في حين يتصدر عليّ ـ الذي يلعنونه ـ مدرستهم ؟ !
   وبهذا فقد عرفنا بأن لكلا الاتجاهين ـ الناس والخليفة ـ أنصاراً وأتباعاً في الوضوء ، يذودون عما يرتؤونه ، وبما أن السلطة قد تبنت فقه عثمان ودعت إلى فضائله ونشرت آراءه ، فمن الطبيعي أن ينساق السواد الأعظم ـ تبعاً للدولة ـ إلى وضوء الخليفة عن طيب نيّة وحسن سريرة .
   وهناك مؤشرات تدلل على أن الخلاف في الوضوء كان قائماً ـ في هذا العهد ـ على قدم وساق ، وبذكرنا بعض النصوص لخلاف الناس مع الدولة

(1) سنن النسائي 5 : 253 ، سنن البيهقي 5 : 113 .
(2) انظر : النصائح الكافية : 11 عنهما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس .
(3) انظر : تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة : 285 ـ 286 .