وقد اختلف الرجاليون في هشام
(1)قدحاً ومدحاً ، وفيما نسبه إلى أبيه .
فقال يعقوب بن شيبة : ثبت ، ثقة ، لم ينكر عليه شيء إلاّ بعدما صار إلى العراق ، فإنه انبسط في الرواية عن أبيه ، فأنكر ذلك عليه أهل بلده ، والذي يرى أن هشاماً يسهل لأهل العراق أنه كان لا يحدث عن أبيه إلاّ بما سمعه منه ، فكان تسهله أنه أرسل عن أبيه مما كان يسمعه من غير أبيه عن أبيه .
وقال عبدالرحمن بن يوسف بن خراش : كان مالك لا يرضاه ، وكان هشام صدوقاً تدخل أخباره في الصحيح ، بلغني أن مالكاً نقم عليه حديثه لأهل العراق .
وقال علي بن محمد الباهلي ، عن شيخ من قريش : أهوى هشام بن عروة إلى يد أبي جعفر المنصور يقبلها فمنعه ، وقال : يا ابن عروة إنا نكرمك عنها ، ونكرمها عن غيرك .
قال شعبة : لم يسمع هشام حديث أبيه في مس الذكر ، قال يحيى ، فسألت هشاماً ؟ فقال : أخبرني أبي .
توفي هشام بن عروة ، ومولى للمنصور في يوم واحد ، فخرج المنصور بهما ، فبدأ بهشام بن عروة فصلى عليه وكبر عليه أربع تكبيرات بالقرشية ، وكبر على هذا خمس تكبيرات بالهاشمية .
وفي رواية ، قال : صلينا على هذا برأيه ، وعلى هذا برأيه .
أما عروة بن الزبير ، ( أبو هشام ) فهو أخو عبدالله ، وكان بينه وبين أخيه عبدالله بن الزبير عشرون سنة .
وعلى ضوء ما تقدم نستبعد أن يكون عروة بن الزبير قد رجع عن رأيه في المسح على القدمين إلى القول بالغسل ، وما أخذ به ابنه هشام ضعيف لما عرفت
 |
(1) جميع الأقوال اللاحقة اُخذت من تهذيب الكمال 30 : 238 ـ 241 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 219 ـ
من حاله ولما قدمه من دليل وذكره من تعليل وهي القراءة القرآنية ، مع العلم ان سندرس الوجوه القرآنية لاحقاً .
الحسن البصري والوضوء :
هو من أعلام التابعين ، حضر يوم الدار
(1).
وولي القضاء في زمن عمر بن عبدالعزيز
(2).
قال أبو هلال الراسبي ، عن خالد بن رباح الهذلي : سئل أنس بن مالك عن مسألة ، فقال : سلوا مولانا الحسن .
قالوا : يا أبا حمزة نسألك ، تقول سلوا الحسن مولانا ؟
قال : سلوا مولانا الحسن ، فإنه سمع وسمعنا ، فحفظ ونسينا
(3).
قال الذهبي في سير الأعلام : قال قائل : إنما أعرض أهل الصحيح عن كثير مما يقول فيه الحسن : عن فلان ، وإن كان مما ثبت لُقيّهُ فيه لفلان المعين ، لأن الحسن معروف بالتدليس ، ويدلس عن الضعفاء ، فيبقى في النفس من ذلك ، فننا وإن ثبتنا سماعه من سمرة ، يجوز أن يكون لم يسمع فيه غالب النُسخة التي عن سمرة .
والله العالم
(4).
كان هذا بعض الشيء عن الحسن البصري ، وفي مدحه الكثير ، وقد مر عليك سابقاً كلام أنس بن مالك ـ خادم الرسول ـ وكيف كان يوصي الناس للأخذ عن مولانا الحسن ! !
قال الزهري : العلماء أربعة : ابن المسيب بالمدينة ، والشعبي بالكوفة ،
 |
(1) راجع ترجمته في تهذيب الكمال 6 : 96 .
(2) سير أعلام النبلاء 4 : 588 .
(3) تهذيب الكمال 6 : 104 .
(4) سير أعلام النبلاء 4 : 588 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 220 ـ
والحسن البصري بالبصرة ، ومكحول بالشام
(1).
فالحسن كان له اتصال وثيق بالحكام ، وصدور هذه الأقوال فيه إنما جاء لهذا الغرض ، حتى قيل بأن السياسة الأموية كانت مبتنية على دعامتين : لسان الحسن وسيف الحجاج ولولاهما لوئدت الدولة المروانية !
والآن نتساءل عن موقفه في الوضوء ، وهل إنه كان يدعو إلى مسح الأرجل أم إلى غسلها ، والنصوص المنقولة عنه تحتمل كلا الوجهين ؟
جاء في الاحتجاج للطبرسي : عن ابن عباس قال : لما فرغ عليّ من قتال أهل البصرة ، وضع قتباً على قتب ثم صعد عليه فخطب ، فحمد الله وأثنى عليه ، فقال :
( يا أهل البصرة ، يا أهل المؤتفكة ، يا أهل الداء العضال ، أتباع البهيمة ، يا جند المرأة ، رغا فأجبتم ، وعقر فهربتم ، ماؤكم زُعاق ، ودينكم نفاق ، وأخلاقكم دقاق ) ، ثم نزل يمشي بعد فراغه من خطبته فمشينا معه ، فمر بالحسن البصري وهو يتوضأ فقال : يا حسن أسبغ الوضوء .
فقال : يا أمير المؤمنين : لقد قتلت بالأمس أُناساً يشهدون أن لا إلاً الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، يصلون الخمس ، ويسبغون الوضوء !
فقال أمير المؤمين : فقد كان ما رأيت ، فما منعك أن تعين علينا عدونا ؟
فقال : والله لأصدقنك يا أمير المؤمنين ، لقد خرجت في أول يوم فاغتسلت وتحنطت وصببت عليّ ، وأنا لا أشك في أن التخلف عن اُم المؤمنين عائشة ؟ ! هو الكفر ، فلما انتهيت إلى موضع من الخربة ناداني منادٍ : يا حسن ، إلى أين ؟ ! ارجع فإن القاتل والمقتول في النار ، فرجعت ذعراً ، وجلست في بيتي ، فلما كان في
 |
(1) مقدمة تحفة الأحوذي : 359 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 121 ـ
اليوم الثاني ، لم أشك أن التخلف عن اُم المؤمنين عائشة هو الكفر ، فتحنطت ... وخرجت أريد القتال حتى انتهيت إلى موضع من الخربة ، فناداني منادٍ من خلفي : يا حسن ، ارجع فإن القاتل والمقتول في النار .
قال عليّ : ... أفتدري من ذلك المنادي ؟
قال : لا .
قال عليّ : ذاك أخوك إبليس ، وصدقك ان القاتل والمقتول منهم في النار .
فقال الحسن البصري : الآن عرفت يا أمير المؤمنين أن القوم هلكى
(1).
وفي أمالي المفيد ، عن الحسن البصري : لما قدم علينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب البصرة مرّ بي وأنا أتوضأ ، فقال : يا غلام ، أحسن وضوءك يحسن الله إليك ، ثم جازني ، فأقبلت أقفو أثره ، فحانت مني التفاتة ، فنظر إليّ فقال : يا غلام ، ألك حاجة ؟
قلت : نعم ، علمني كلاماً ينفعني الله به .
فقال : يا غلام ، من صدق الله نجا ، ومن أشفق على دينه سلم من الردى ، ومن زهد من الدنيا قرت عينه بما يرى من ثواب الله ...
(2)إلى آخر الخبر .
فعلى خبر الاحتجاج ، وما نقلناه عنه من حضوره يوم الدار ، وتعاطفه مع الأمويين ، يُحتمل أن يكون الحسن البصري من الدعاة إلى الغسل ومن المستفيدين من مصطلح أسبغ الوضوء للتدليل عليه ، وأن الإمام عليّاً أراد بقوله : ( يا حسن أسبغ الوضوء ) أراد الإزدراء والتفقيص بما يذهب إليه الحسن في الوضوء .
لكن هذا الاحتمال في غاية البعد ، إذ لا يتواءم ذلك مع خلق الإمام ، بل
 |
(1) الاحتجاج : 171 .
(2) أمالي المفيد : 77 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 122 ـ
وعلى ضوء النصوص اللاحقة يتأكد العكس ، إذ إن الحسن كان من المقلين في ماء الوضوء ، والإمام عليّ جاء يؤكد على لزوم الإسباغ وإحسان الوضوء وإعطاء الوضوء حقه .
فقد جاء في مصنف ابن أبي شيبة وعبدالرزاق ، أنه كان يقول بالمسح على القدمين .
حدثنا ابن عليه ، عن يونس ، عن الحسن ، انه كان يقول : إنما هو المسح على القدمين .
وكان يقول : يمسح ظاهرهما وباطنهما
(1).
وجاء في مصنف عبدالرزاق : عن معمر ، عن قتادة ، عن عكرمة والحسن قالا في هذه الآية : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ )
(2).
قالا : تمسح الرجلين
(3).
قال الجصاص : قرأها الحسن بالخفض ، وتأولوها على المسح
(4).
وقولنا السابق أن الحسن كان له اتصال وثيق بالحكام ، أو إنه ولي القضاء في زمن عمر بن عبدالعزيز وغيرها ، لا يعني أن جميع أرائه مستقاة من السلطان ، بل إن دوره في الفقه كان كدور سفيان الثوري وأبي حنيفة وأمثالهما من الذين كانت لهم شخصية علمية مستقلة ، وإن تعاطف هؤلاء العلماء مع الدولة كان تارة لأجل خوفهم من الاصطدام بالسلطة ، واُخرى لتقارب وجهات النظر بينهما ، وإليك هذا النص عن الحسن البصري لتقف على الحقيقة
 |
(1) المصنف لابن أبي شيبة 1 : 30 ب 17 ح 2 .
(2) المائدة : 6 .
(3) المصنف 1 : 18 ح 53 .
(4) أحكام القرآن 2 : 345 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 223 ـ
أكثر .
قال محمد بن موسى الحرش : حدثنا ثمامة بن عبيدة ، قال : حدثنا عطية بن محارب ، عن يونس بن عبيد ، قال : سألت الحسن ، قلت : يا أبا سعيد إنك تقول : قال رسول الله ، وإنك لم تدركه !
قال : يا ابن أخي ، لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك ، ولولا منزلتك منّي ما أخبرتك ، إني في زمان كما ترى ـ وكان في عمل الحجاج ـ كل شيء سمعتني أقول : قال رسول الله ، فهو علي بن أبي طالب ، غير أني في زمان لا أستطيع أن أذكر عليّاً
(1).
وقد اشتهر عنه أنه عندما كان يريد التحديث عن علي يقول : قال أبو زينب .
وبعد أن نقلنا هذا النص عنه والنصوص الاُخرى ، ينبغي أن ندرس أحاديث الحسن البصري ـ كغيرها من أقوال الإعلام ـ لتبين لنا أنها تحت أي ظروف صدرت ، إذ عرفت بأنه كان يتخوف ـ في كثير من الأحيان ـ من السلطة ولا يحدث عن علي إلاّ كناية ، فلا بستبعد أن تكون بعض آرائه صدرت تحت ظروف سياسية خاصة ، وأنه كان لا يؤمن بها ويخشى من نسبة تلك الأخبار إليه ، وأن أمره لابنه بحرق كتبه دليل عليها .
نقل الذهبي في سير الأعلام : عن موسى بن إسماعيل : حدثنا سهل بن الحصين الباهلي ، قال : بعثت إلى عبدالله بن الحسن البصري ، ابعث إليّ بكتب أبيك ، فبعث إليّ أنه لما ثقل ، قال لي : اجمعها ، فجمعتها له وما أدري ما يصنع بها فأتيت بها .
فقال للخادم : اسجري التنور ، ثم أمر بها فأحرقت غير صحيفة واحدة ، فبعث بها إليّ وأخبرني أنه كان يقول : اروِ ما في هذه الصحيفة ، ثم لقيته بعد ،
 |
(1) تهذيب الكمال 6 : 124 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 224 ـ
فاخبرني به مشافهة بمثل ما أدى الرسول
(1)وقد جاء عن عروة بن الزبير أنه احرق كتبه كذلك
(2).
يتحصل مما تقدم أن الحسن البصري كان من كبار التابعين القائلين بالمسح ، ومن كلامه نستشف أنه من القائلين بتثنية الغسلات .
قال الجصاص ـ بعد كلامه الأول ـ : والمحفوظ عن الحسن البصري استيعاب الرجل كلها بالمسح ، ولست أحفظ عن غيره ممن أجاز المسح من السلف هو على الاستيعاب أو على البعض
(3).
ابراهيم النخعي والوضوء :
جاء في طبقات ابن سعد ( ترجمة إبراهيم ) :
1 ـ قال : أخبرنا أحمد بن عبدالله بن يونس ، قال : حدثنا فضيل بن عياض عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : من رغب عن المسح فقد رغب عن السنة ، ولا أعلم ذلك إلا من الشيطان .
قال فضيل : يعني تركه المسح .
2 ـ قال : أخبرنا أحمد بن عبدالله بن يونس ، قال : حدثني جعفر الأحمر عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : من رغب عن المسح فقد رغب عن سنة النبي ( صلى الله عليه واله وسلم )
(4).
فالمعروف عن النخعي أنه كان موالياً لأهل البيت
(5).
وكلاهما هذا لا يعني أن جميع الأقول المنسوبة إليه كانت مستقاة من عليّ ،
 |
(1) سير أعلام النبلاء 4 : 584 .
(2) انظر تهذيب الكمال 20 : 19 .
(3) أحكام القرآن للجصاص 2 : 345 .
(4) الطبقات الكبرى لابن سعد 6 : 275 .
(5) انظر كلام الدكتور رواس قلعه چي فيه : موسوعة فقه إبراهيم النخعي 1 : 139 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 225 ـ
بل قد يكون بين تلك الأقوال ما نُسب إليه ولم يقل به ، وقد يكون فيها ما أخطأ في استنباطه ، لكن الذي تلزم الإشارة إليه هو دوره المخالف للحجاج الثقفي ـ الداعي للوضوء الغسلي ـ وأنه قد انضم إلى ثورة الأشعث ضده وأفتى بجواز لعنه
(1).
قال الذهبي : ونقموا عليه ـ أي على إبراهيم ـ لقوله : لم يكن أبو هريرة فقيهاً
(2).
وكان يقول : كان أصحابنا يدعون حديث أبي هريرة .
وقال : ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة إلاّ ما كان من صفة جنة أو نار أو حث على عمل أو نهي عن شر جاء في القرآن
(3).
ولم يختص إبراهيم فيما قاله عن أبي هريرة بل قال ذلك طائفة اُخرى من الكوفيين
(4).
وقد ثبت أن نهج علقمة وابن مسعود وإبراهيم واحد
(5)، ولو قارنا الواحد منهم إلى الآخر لحصل لدينا أن إبراهيم النخعي يقول بالمسح إذ إن عبدالرزاق روى في مصنفه عن معمر عن قتادة : أن ابن مسعود قال : رجع إلى غسل
 |
(1) الطبقات الكبرى ، لابن سعد 6 : 279 .
(2) انظر : ميزان الاعتدال 1 : 75 .
(3) البداية والنهاية 8 : 113 .
(4) البداية والنهاية 8 : 113 .
(5) انظر : تهذيب التهذيب 7 : 177 ، تذكره الحفاظ ، موسوعة ابراهيم النخعي 1 : 163 .
|