يكبرون على الميت إلاّ خمساً ! وقد جاء في مقاتل الطالبيين : ان الحسن بن عليّ صلى على الإمام عليّ وكبر خمس تكبيرات (1) .
إن الدسّ ، ووضع الأحاديث المعارضة المختلقة هي من صنيعة الأمويين ، لكي يتمكنوا من تضعيف روايات السنة أمام السواد الأعظم من هذه الاُمة الممتحنة !
إن مواقف أهل البيت المسطرة على صفحات التاريخ لتدلل ، بكل وضوح ، على أن اُصولهم واحدة واتجاههم واحد ، وأنهم ما حادوا يوماً عن منهج عليّ بن أبي طالب الذي هو التجسيد الحقيقي لما أراده رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) وبينه فعلاً وقولاً وتقريراً .
وأن ظاهرة التشكيك في فقه العلويين ، ونقل المتناقضات عنهم ، ما هي إلاّ خطة حكومية قد وضعت لبنة أساسها الحكومة الأموية ، وسارت على منوالها الحكومة العباسية ، كما سنبين فيما بعد .
استبان من هذا كله أن فقه الإمام زيد لا يبتعد عن فقه عبدالله بن الحسن ومحمد الباقر وجعفر الصادق ، بل كلهم سليل بيت النبوة ، وأبناء عليّ والزهراء ، وأن الارتباط والائتلاف الديني ملحوظ بينهم ، وقد وقفت على بعض النصوص الدالة على ذلك .
فلو كان مذهب زيد غير مذهب الباقر والصادق ، لما ترحموا عليه ، ولما كان يذكر بتلك الجلالة في كتب الرجال عند الشيعة ، ولما قالوا عنه بأنه يعرف ناسخ القرآن من منسوخه ، وأنه سيد أهله ، و ...
وكذا الحال بالنسبة إلى بني الحسن ، فقد دعا الصادق لهم وهملت عيناه بالدمع لما راى يخرج بهم في محامل (2) .
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 252 ـ
والملاحظ في سند الصحيفة السجادية يدرك هذه الحقيقة باوضح معالمها اذ الصحيفة الموجودة عن عبدالله بن الحسن هي كالموجوده عند الصادق لقول الراوي ( فنظرت واذا هما أمر واحد ولم أجد حرفاً منهما يخالف ما في الصحيفة الاخرى ) .
1 ـ سيطرة الروح الثورية على بني الحسن والزيدية .
2 ـ محاولة الحكام إشاعة الفرقة بين صفوف الطالبيين .
3 ـ نجاح الفقهاء الآخرين في احتواء الزيدية .
أما العامل الأول :
فهو سيطرة الروح الثورية على بني الحسن وجماعة زيد ، واستغلال الحكام والمندسين هذه الروح لتشكيكهم في أقوال الصادق وحمل وتفسير كلمات الإمام محمد الباقر وجعفر بن محمد الصادق لبني الحسن على أنها كانت بدافع الحسد والتنافس أو الخوف من القتال ، وما شابه ذلك !
لكن المدقق في أقوال الباقر والصادق لا يستشم فيها شيئاً من هذا ، فأقوالهما لا تشير إلى تخطئتهم لقيام محمد النفس الزكية أو ثورة زيد بن علي أو ... بقدر ما هي ايضاح وكشف أن جهودهم لنا الظروف التي كانت سائدة ، لا هي ظروف ثورة ولا الزمان زمان ثورة ، وهذا ما عرفوه ببصائرهم ، وما ورثوه عن آبائهم في تحليلهم ومعرفتهم للوقائع والأحداث .
جاء في مقاتل الطالبيين ، عن ابن داحة :
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 253 ـ
إن جعفر بن محمد قال لعبدالله بن الحسن : ( إن هذا الأمر ، والله ليس إليك ، ولا إلى ابنيك ، وإنما هو لهذا ـ يعني السفاح ـ ثم هذا ـ يعني المنصور ـ ثم لولده من بعده ، لا يزال فيهم حتى يؤمروا الصبيان ، ويشاوروا النساء ) ...
فقال عبدالله : والله يا جعفر ، ما أطلعك الله على غيبه ، وما قلت هذا إلاّ حسداً لابني !
فقال : ( لا والله ! ما حسدت ابنك ، وإن هذا ـ يعني أبا جعفر المنصور ـ يقتله على احجار الزيت ، ثم يقتل أخاه بعده بالطفوف ، وقوائم فرسه في الماء ) .
ثم قام مغضباً يجر رداءه ... فتبعه أبو جعفر المنصور ، فقال : أتدري ما قلت يا أبا عبدالله ؟ !
قال : ( إي والله أدريه ، وإنه لكائن ) (1) .
ثم قال الراوي : فلما ولي أبو جعفر الخلافة ، سمى جعفراً الصادق ، وكان إذا ذكره قال : قال لي الصادق جعفر بن محمد كذا وكذا ، فبقيت عليه (2) .
وقد جاء في الاقبال للسيد ابن طاووس ما كتبه الامام الصادق لعبدالله بن الحسن يعزيه عما صار اليه ، وفيه : إلى الخلف الصالح والذرية الطيبة من ولد أخيه وابن عمه اما بعد ... (3) .
وبهذا يفهم أن الاختلاف بين عبدالله بن الحسن ، وجعفر بن محمد ، لم يكن مذهبياً ، بل إنه ناشئ عن سوء فهم بني الحسن والزيدية مواقف الصادق ، إذ أن في كلمة الصادق : ( إلى الخلف الصالح ) إشارة إلى كونه لم يحد عن الجادة ، وكذا الأمر بالنسبة إلى الإمام زيد بن عليّ بن الحسين ، فقد جاء في تاريخ الشام ، عن
(1) قال ابن خلدون في تاريخه في الفصل الثالث والخمسين 1 : 589 عن الإمام الصادق (ع) : ( وقد صح عنه أنه كان يحذر بعض قرابته بوقائع تكون لهم ، فتصح كما يقول ، وقد حذر يحيى ـ ابن عمة زيد ـ من مصرعه وعصاه ، فخرج وقتل بالجوزجان كما هو المعروف ، وإذا كانت الكرامة تقع لغيرهم فما ظنك علما وديناً وآثاراً من النبوة ، وعناية من الله بالأصل الكريم تشهد لفروعه الطيبة ) انتهى بلفظه .
(2) مقاتل الطالبيين : 255 ـ 256 .
(3) إقبال الأعمال : 579 .
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 254 ـ
عمرو بن القاسم : إن جعفر بن محمد ذكر عمه زيداً فترحم عليه وقال : ( كان والله سيداً ، والله ما ترك فينا لدنيانا ولآخرتنا مثله ) .
وجاء في ( الخطط المقريزية ) ، عن جعفر بن محمد ، أنه قال لجماعة تبرؤوا من بيعة زيد بن عليّ : ( برئ الله ممن تبرأ من عمي زيد ) .
وذكرابن حجر في ترجمة حكيم بن عياش ، في الإصابة :
جاء رجل إلى جعفر بن محمد الصادق ، فقال له : سمعت حكيم بن عياش ينشد هجاءكم بالكوفة .
فقال : ( هل علقت منه بشيء ؟ ) .
فقال : سمعته يقول :
صلبنا لكم زيداً على جذع iiنخلة ولم نر مهدياً على الجذع يُصلبُ وقِـستُم بـعثمان عـليّاً iiسفاهة وعـثمان خير من عليّ iiوأطيبُ
فرفع يديه وهما ترعشان ، وقال : ( اللهم إن كان عبدك كاذباً فسلط عليه كلبك ) ... فبعثه بنو اُمية إلى الكوفة ، فبينا هو يدور في سككها ، إذ افترسه الأسد ، واتصل خبره بجعفر ، فخر ساجداً ثم قال : ( الحمد لله الذي أنجزنا وعده ) (1) .
وقد روي عنه انه قال : (لعن الله قاتله وخاذله ، وإلى الله أشكو ما نزل بأهل بيت نبيه بعد موته ، ونستعين بالله على عدونا وهو المستعان) .
وجاء في عيون الأخبار : لما خرج زيد بن موسى بن جعفر على المأمون ، وظفر المأمون به ، عفاه لمكان الرضا منه ، فقال للرضا : يا أبا الحسن ، لئن خرج أخوك ، وفعل ما فعل ، فلقد خرج قبله زيد بن عليّ ، فقتل ، ولولا مكانك مني لقتلته .
(1) الإصابة 1 : 395 .
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 255 ـ
فقال الرضا : ( يا أمير المؤمنين ، لا تقس أخي زيداً إلى زيد بن عليّ ، فإنه من علماء آل محمد ، غضب لله فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله ، ولقد حدثني أبي انه سمع أباه جعفراً يقول : رحم الله عمي زيداً ، إنه دعا إلى الرضا من آل محمد ، ولو ظفر لوفى بما دعا إليه ، وقد استشارني في خروجه ، فقلت له : يا عم إن رضيت أن تكون المقتول بالكناسة فشأنك ) (1) .
ففي قول الصادق إشارة إلى إخبار الرسول وإخبار عليّ بن أبي طالب والحسين بن علي ، وغيرهم : ( بأن رجلاً من ولده يصلب بالكناسة ) (2) .
اتضح مما مضى أن مذهب الإمام زيد لا يخالف مذهب الباقر والصادق ، وكذا الحال بالنسبة إلى بني الحسن ، وإن اختلفوا في بعض المواقف السياسية ، إذ كيف يمكن تصور مخالفة زيد لأخيه الأكبر محمد الباقر ، وكلاهما ابنا عليّ بن الحسين بن عليّ ، والجميع يشهد بفضلهما وجلالة قدرهما ومكانهما من الفقه والشريعة ؟ ! .
فقد وري عن الإمام زيد أنه قال : ( من أراد الجهاد فإليّ ، ومن أراد العلم فإلى ابن أخي ) .
كما قال الإمام جعفر بن محمد الصادق : ( القائم إمام السيف ، والقاعد إمام علم ) (3) .
وهذا ما يبين أن أهل البيت كانوا يواجهون الحكام على الصعيدين العلمي والسياسي .
ومن المعلوم أن الاختلاف في المنهجية والاُسلوب ، لا يعني
(1) عيون الأخبار 1 : 194 | 1 ، وقريب منه في تهذيب تاريخ دمشق 6 : 20 .
(2) عيون الأخبار 1 : 195 ، 196 | 2 ، 4 ، مقاتل الطالبيين : 130 .
(3) انظر : جهاد الشيعة للدكتورة سميرة الليثي : 190 ، ومقدمة الصحيفة السجادية كذلك .
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 256 ـ
الاختلاف في العقيدة واُصول التشريع ، وكان أهل البيت من المعتقدين بضرورة الحفاظ على كلا الاُسلوبين في مجال تبيين الأحكام والسياسة ، من أجل استمرار المواجهة على مر الأيام .
وصحيح أن القيام والقعود خطان متوازيان ، لكنهما يصبان في هدف واحد مشترك ، وهو دوام نهج السنة النبوية الشريفة ، ولهذا السبب نرى في تاريخ الشيعة تيارين حاكمين عبر جميع فترات تاريخهم ، التيار الثوري الرافض ، والتيار المنتظر المحافظ ، ومن التيارين السالب والموجب ـ كما يقول علماء الفيزياء ـ يحدث النور ، وهكذا الأمر بالنسبة للحركة ، فهي لا تنتج إلاّ بتقديم رجل وتأخير اُخرى وكلاهما ضروري للتقدم والسير . فصدور بعض النصوص عن الصادق في زيد أو غيره ، لا يعني التشكيك في قيامه ، بل يرجح أن يكون صدور تلك الأخبار عنه عبارة عن موقف تكتيكي اقتضته الظروف السياسية الخاصة آنذاك . ولأجل ذلك قال الرسول عن الحسن والحسين أنهما إمامان قاما أو قعدا !
وعليه ، فوحدة الفكر والمذهب والمنحى السياسي بين بني الحسن والزيدية والجعفرية لا انفصام لها ، إذ لو لم تكن كذلك ، لما رأينا يحيى بن عبدالله بن الحسن يخاطب جعفر بن محمد الصادق بـ ( حبيبي ) .
فقد جاء في مقاتل الطالبيين :
كان يحيى يسميه (أي الصادق) حبيبي ، وكان إذا حدث عنه قال : (حدثني حبيبي جعفر بن محمد) (1) .
وكان الصادق قد أوصى إليه ، كما أوصى إلى ابنه موسى واُم ولد كانت عنده بأمور (2) .
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 257 ـ
ألا ترى أن هذه الكلمات تدل على وحدة الهدف وتقارب الفكر والاستدلال ؟
وإذا لم يكونا متحدين ، فكيف يولي أبو السرايا : إبراهيم بن موسى بن جعفر اليمن ، وزيد بن موسى بن جعفر الأهواز (1) ؟
وكيف يقف عليّ بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين أمام الجعفري صاحب البصرة أيام المنصور (2) ؟
وإذا لم يكونا على وفاق في الأمر ، فبم نفسر هذا الخبر :
حدثنا إبراهيم بن إسحاق القطان ، قال : سمعت الحسين بن عليّ (صاحب فخ) ، ويحيى بن عبدالله ، يقولان : ( ما خرجنا حتى شاورنا أهل بيتنا ، وشاورنا موسى بن جعفر ، فأمرنا بالخروج ) (3) .
ولما جاء الجند برؤوس شهداء فخ إلى موسى والعباس ، وعندهم جماعة من ولد الحسن والحسين ، لم يتكلم أحد منهم بشيء إلاّ موسى بن جعفر ، فقال له : هذا رأس الحسين ؟
فقال : ( نعم ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، مضى والله مسلماً ، صالحاً ، صواماً ، قواماً ، آمراً بالمعروف ، ناهياً عن المنكر ، ما كان في أهل بيته مثله ) فلم يجيبوه (4) .
فإذا كانوا على اختلاف في الفقه ، فهل يمكن صدور مثل هذا النص من قبل موسى بن جعفر ؟ وهل يمكن أن يقول يحيى بن عبدالله بن الحسن للصادق : ( حبيبي ) ؟
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 258 ـ
وكذا الحال بالنسبة للحسين بن عليّ ويحيى في قولهما : ( ما خرجنا حتى شاورنا أهل بيتنا ، وشاورنا موسى بن جعفر ، فأمرنا بالخروج ) ؟
وعلى ضوء ذلك ، فما الفاصل بين وضوء بني الحسن والزيدية إذن ؟ فهل كانا يمثلان خطين متضادين ، أم هما على وفاق فيه ؟
وهل أن وضوء عليّ بن الحسين وزيد بن عليّ وعبدالله بن الحسن كان موافقاً لوضوء عثمان بن عفان وعبدالله بن عمرو بن العاص والربيع بنت معوذ ، أم انهم يعتقدون بما حكاه عليّ بن أبي طالب وأوس بن أبي أوس وعبدالله بن عباس ؟
إن المتتبع لموضوع الوضوء في كتب الحديث والرجال ليقف على حقيقة قد تكون جلية ، خلاصتها : أن بني هاشم لم يكونوا يمسحون على الخفين ، ولا يغسلون الرجلين ، بل يدعون إلى مسح الأرجل ، وكانت لهم مواقف اعتراضية على من نسب الغسل إلى رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) :
أ ـ اعتراض ابن عباس على الربيع بنت معوذ .
ب ـ كلام عليّ بن أبي طالب في الرحبة : ( هذا وضوء من لم يُحدِث ) .
ج ـ وقوله : ( لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدم أولى بالمسح من ظاهره ، إلاّ اني رأيت رسول الله توضأ هكذا ) .
د ـ ما سيأتي في العهد العباسي من هذه الدراسة من أقوال الصادقين من آل رسول الله ، وأنهم عدو الغسل الثالث للأعضاء وغسل الرجلين بدعة وليس من فعل رسول الله ، واعترضوا على من يذهب إلى ذلك الرأي .
فظاهرة الغسل ـ كما عرفت ـ حكومية ، ولم تكسب شرعيتها من القرآن (1) ، لاعتراض ابن عباس على الربيع ، وقوله : ( أبى الناس إلاّ الغسل ،
(1) سيتضح لك ذلك أكثر في الجانب القرآني من هذه الدراسة .
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 259 ـ
ولا أجد في كتاب الله إلاّ المسح ) ، وقول أنس بن مالك والشعبي وعكرمة : ( نزل القرآن بالمسح ) ... وما إلى ذلك من النصوص التي سلف ذكرها .
أما الآن ، فمع نص آخر نستشف منه :
أخرج البيهقي في السنن الكبرى ، عن سفيان بن عيينة ، قال : حدثنا عبدالله ابن محمد بن عقيل : أن عليّ بن الحسين أرسله إلى الربيع بنت معوذ ليسألها عن وضوء رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، فذكر الحديث في صفة وضوء النبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، وفيه قالت : ( ... ثم غسل رجليه ... ) ... قالت : ( وقد أتاني ابن عم لك ـ تعني ابن عباس ـ فأخبرته ، فقال : ما أجد في كتاب الله إلاّ غسلتين ومسحتين ) (1) .
في النص المذكور إشارات عديدة يهمنا منه بعض اُمور :
1 ـ صدور هذا النص في العهد الأموي ، إذ إن عبدالله بن محمد بن عقيل قد توفي سنة 145 ، وعليّ بن الحسين سنة92 ، وبه يكون عبدالله بن محمد قد ولد في العهد الأموي .
2 ـ كون عبدالله بن محمد بن عقيل أصغر سناً ، وموقعاً اجتماعياً من عليّ ابن الحسين ، لفارق الوفاة إذ عد أصحاب الطبقات ابن عقيل من الطبقة الرابعة من التابعين وابن الحسين من الثانية .
3 ـ لا يعني إرسال عليّ بن الحسين ابن عمه عبدالله بن محمد بن عقيل إلى الربيع لأجل الوقوف على حكم الوضوء ، إذ لا يعقل أن لا يعرف عليّ بن الحسين أو عبدالله ـ وهما ابنا رسول الله ، وعاشا في بيت النبوة ـ حكم أمر عباديّ ، يمارسه المسلم عدة مرات في اليوم ، ثم كيف يُعقل أن يكون عليّ بن
(1) السنن الكبرى 1 : 72 .
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 260 ـ
الحسين وهو بهذا العمر لا يعرف الوضوء ، وأبوه الحسين بن عليّ ، وعماه الحسن وابن الحنفية ، أضف إلى ذلك كونه أحد أئمة المسلمين وفقهاء أهل البيت ؟ !
فهل يمكن قبول كون الأمر تعليمياً ، وراوي الخبر السابق سفيان بن عيينة يقول عنه : (ما كان أكثر مجالستي مع عليّ بن الحسين ، وما رأيت أحداً أفقه منه) (1) ؟ !
وحدث عبدالله محمد القرشي ، قال : كان عليّ بن الحسين إذا توضأ اصفر لونه ، فيقول له أهله : ما هذا الذي يغشاك ؟
فيقول : ( أتدرون لمن أتأهب للقيام بين يديه ؟ ) (2) .
فمن هذه حاله ، هل يصدق أن لا يعرف حكم الوضوء ، فيرسل عبدالله بن محمد بن عقيل إلى الربيع ليسألها عن وضوء رسول الله ، ليأخذ منها ؟ !
ومن هو عبدالله بن محمد بن عقيل ؟ ألم يكن ابن زينب الصغرى ـ بنت عليّ ابن أبي طالب ـ وخاله ابن الحنفية و ... وهل يصدق أن لا يعرف ـ مثل هذا ـ حكم الوضوء ؟
فما الغاية من الإرسال والسؤال إذن ، إن صحت الرواية ؟
من الجلي أن إرسال عليّ بن الحسين ابن عمه عبدالله بن محمد بن عقيل إلى الربيع وسؤالها عن الوضوء لم يكن استفهامياً تعليمياً كما صوره البعض ، بل هو استفهام إنكاري منهم على ما تدّعيه ، ومعناه : كيف بنا ـ ونحن أهل البيت ـ لا نعرف ما تروينه عن رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) !
ويتأكد هذا المدعى بقولها له : ( وقد أتاني ابن عم لك ) ، وعدم بيانها لصفة وضوء رسول الله ، إذ إن موقف ابن عباس كان اعتراضياً ، وكذا الحال بالنسبة
(1) تهذيب الكمال 20 : 386 .
(2) مختصر تاريخ دمشق 17 : 236 ، سير أعلام النبلاء 4 : 392 ، طبقات ابن سعد 5 : 216 ، حلية الأولياء 3 : 133 ، تهذيب الكمال 20 : 390 .
والأخرى أثناء البحث ، ولا نقتصر في طرح التساؤلات على نتائج بحوث الآخرين الوضوئيّة فقط حتّى يصحّ ما قد يمكن أن يقال .
إنّ الهدف الأوّل والأساس في هذا البحث هو الدعوة إلى اتّخاذ منهجيّة جديدة في البحث والوصول إلى حقيقة الفقه الإسلاميّ من أيسر طرقه وأسلمها لا غير .
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 261 ـ
تمّ المدخل بفضل الله ومنّه وسيتلوه ثلاث أجزاء أخرى .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
إلى موقف عبدالله .
هذا ، وإن عدم مجيء عليّ بن الحسين إليها ينبئ بأنه لا يريد أن يعطي لوضوئها المشروعية بمجيئه إليها ، وأن إرسال عبدالله ، وهو يومئذ صغير السن ، يكفي في التدليل على اعتراضهم على هذا الأمر .
وقد أراد البعض ـ بنقلهم رواية عن عبدالله بن محمد بن عقيل ، عن الربيع ، بأنه ( صلى الله عليه واله وسلم ) : ( مسح رأسه ، ومسح ما أقبل منه وما أدبر ، وصدغيه واُذنيه مرة واحدة ) (1) ـ إثبات كون عبدالله من القائلين بالمسح الشمولي في الرأس ، كما يقول بذلك الإمام مالك !
إن قول الربيع : ( وقد أتاني ابن عم لك ... ) ليشير بكل وضوح إلى معرفتها وتوجهها لمغزى سؤل ابن عقيل وكونه استنكارياً وليس حقيقياً ، وهي بذلك أرادت أن تفهمه بأنها ثابتة على رأيها على الرغم من عدم استساغة العلويين لما قالته ، هذا أولاً .
وثانياً : في سند هذه الرواية ، رجال أمويون غير معتمدين في السند كمحمد ابن عجلان القرشي ـ مولى فاطمة بنت الوليد بن عتبة ـ الذي أغرق الرجاليون في(مدحه !) حتى نقل عن ابنه عبدالله انه قال : (حمل بأبي أكثرمن ثلاث سنين) (2) !
ثالثاً : المنقول في حديث عبدالله بن محمد بن عقيل عن الربيع في حكم الرأس لا يرد في الوضوءات البيانية الاُخرى المحكية عن عثمان وغيره ، إلاّ في حديث عبدالله بن زيد بن عاصم المازني وما حكى عن معاوية .
وعليه ، فلا يمكن القول بأن ذلك سنة متبعة كان رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) يفعلها على نحو التشريع ، مضافاً إلى أن المروي عن جابر ـ بطريق عبدالله بن محمد بن
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 262 ـ
عقيل ـ عن رسول الله انه قال : إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه (1) ، أو قوله : رأيت رسول الله يدير الماء على المرافق ... مما يؤكد حقيقة اُخرى تخالف ما نسب إليه ، وسنشير إليها لاحقاً إن شاء الله تعالى .
قال الحسن بن علي الحلواني عن علي بن المدائني ، عن بشر به عمر الزهراني : (كان مالك لا يروي عنه) (2) .
وقال يعقوب بن شيبة ، عن عليّ بن المدائني : (لم يدخل مالك في كتبه ابن عقيل وال ابن فروة) (3) .
لماذا ؟ ألعدم صدقه ، أم لمواقف الإمام مالك من العباسيين وعدم ارتضائهم للطالبيين ؟ أم لشيء آخر ؟ !
ولماذا يترك أبن سعد حديثه مع شهادته بكثرة علمه ؟ !
وهل إن عدم رواية مالك حديثاً عنه دليل على ضعفه حقاً ؟ فلو كان كذلك فالإمام عليّ بن أبي طالب هو أول الضعفاء في منطق المدائني ومالك ومن يقول بهذا ، إذ ليس لعلي حديث في الموطأ ، قيل إنه لما سئل عن ذلك قال : إنه لم يكن بالمدينة (4) ! !
وكيف نرى الإمام مالكاً يستجيب للمنصور في كتابة الموطأ ، مع علمه بوجود من هو أعلم منه (5) ؟ !
(1) السنن الكبرى للبيهقي 1 : 56 باب إدخال المرفقين في الوضوء .
(2) الضعفاء للعقيلي : 2 : 299 ، وعنه في تهذيب الكمال 16 : 80 ، وتهذيب التهذيب 6 : 14 .
(3) الكامل لابن عدي 4 : 1447 ، تهذيب الكمال 16 : 80 ، تهذيب التهذيب 6 : 14 .
(4) انظر : مقدمة موطأ مالك ، بقلم الدكتور محمد كامل حسين (جك) وغيرها .
(5) انظر : المصدر السابق وغيره من كتب التراجم عن الإمام مالك .
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 263 ـ
وما يعني كلام المنصور له : هل أخذت بأحاديث أبن عمر ؟
فقال : نعم .
فقال المنصور : خذ بقوله ، وإن خالف عليّاً وابن عباس (1) !
هل هناك منهجان في التحديث عن رسول الله ، يتزعم أحدهما ابن عمر وهوى الحكام ، والآخر عليُّ وابن عباس ؟ وما دلالة مثل هكذا نصوص ؟ وهل تراه يضعف ابن عقيل حقاً ؟
فإن كان ضعيفاً وكذاباً عند الإمام مالك ، فكيف تأخذ المالكية إذن بحديثه في مسح جميع الرأس ؟ !
عود على بدء
نرجع إلى صلب الموضوع للتأكيد على وحدة الطالبيين فكرياً وفقهياً وسياسياً ، بعد ما عرفت اتجاه علي بن الحسين وابن عقيل وابن عباس وعلي بن أبي طالب في الوضوء ، ومن خلاله يمكننا معرفة وضوء الإمام زيد بن عليّ بن الحسين ، وأنه لم يكن موافقأً للربيع وقد سردنا مواقف غيرهم من بني هاشم كابن عباس ، أخذاً عن آبائهم .
قال الشيخ أبو زهرة في كتابه ( تاريخ المذاهب الإسلامية ) عن الإمام زيد : ( ... قد مات أبوه عام 94 هـ أي وهو في الرابعة عشرة من عمره ، فتلقى الرواية عن أخيه محمد الباقر ، الذي يكبره بسن يسمح بأن يكون له أباً ، إذ إن الإمام جعفر بن محمد الباقر كان في سن الإمام زيد رضي الله عنهم أجمعين .
وما كان من المعقول أن يجمع الإمام زيد وهو في سن الرابعة عشرة كل علم أهل البيت ، فلابدّ أن يكمل أشطره من أخيه ، الذي تلقى علم أبيه كاملاً . وقد
(1) طبقات ابن سعد 4 : 147 .
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 264 ـ
كان الباقر إماماً في الفضل والعلم ، أخذ عنه كثيرون من العلماء ، ورووا عنه ، ومن هؤلاء أبو حنيفة شيخ فقهاء العراق . وقد نال الباقر فضل الإمامة العلمية حتى إنه كان يحاسب العلماء على أقوالهم وما فيها من خطأ وصواب ... (1)) .
والآن نتساءل :
كيف جاء هذا النقل عن الإمام زيد إذن ؟ وهل حقاً أنه حدث أصحابه عن أبيه عن جده بذلك ؟ أم إن الإخبار تظافرت عنه دون معرفة ملابسات الحكم الشرعي ؟ ! وإنا بطرحنا العاملين الثاني والثالث ـ من أسباب اختلاف الطالبيين ـ سنوضح إن شاء الله جواب هذا السؤال وغيره .
وأما العامل الثاني (2) :
فهو محاولة الحكام إشاعة حالة الفرقة والخلاف بين الطالبيين ، لتضعيفهم ثم احتوائهم فكرياً وسياسياً .
فقد مر عليك خبر ابن الحسن بن صالح بن حيّ مع يحيى بن عبدالله بن الحسن في (المسح على الخف) ، وكيف كان يخالف يحيى في أمره ، ويفسد أصحابه عليه ، وقول يحيى بن عبدالله : (فأذن المؤذن يوماً ، وتشاغلت بطهوري واُقيمت الصلاة ، فلم ينتظرني ، وصلى بأصحابي ..فخرجت ، فلما رأيته يصلي قمت اُصلي ناحية ، ولم اُصل معه لعلمي أنه يمسح على الخفين) .
ففي الجملة الإخيرة إشارة إلى أن يحيى بن عبدالله وغيره من أهل البيت كانوا لا يرون مشروعية الصلاة خلف الذي يمسح على الخفين ، وكذا لا يرون الاقتصار على التكبيرة الرابعة في صلاة الميت . وإذا ظهر منهم ما يخالف مذهبهم فإنما جاء امتثالاً لأمر الرسول ( صلى الله عليه واله وسلم ) بلزوم الحفاظ على وحدة الصف
(1) تاريخ المذاهب الإسلامية : 653 .
(2) قد مرت الإشارة إلى العامل الأول في ص 252 من هذا الكتاب .
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 265 ـ
الإسلامي وعدم الانشغال بجزئيات الشريعة ، ولا يدل موقفهم ذلك على كون هذا الفعل المأتي به هو سنة رسول الله !
نعم ، إن أبن الحسن بن صالح بن حيّ كان يريد بث الفرقة في صفوف أصحاب يحيى وإثارة المشاعر بقوله : (علام نقتل أنفسنا مع رجل لا يرى الصلاة معنا ، ونحن عنده في حال من لا يرتضى مذهبه ؟) فالإمام يحيى لا يرتضي الصلاة خلفه لعدم رعايته لحقوق الإمرة والاخوة وسعيه في بث الفرقة بين المجاهدين .
وقد استغل أبن الحسن بن صالح الخلاف المذهبي في إثارة هذه النعرة بين صفوف الثوار ، وهو ما كان يسعى إليه الحكام ويبذلون من أجله الأموال .
وحكى يحيى بن عبدالله نصاً آخر عن دور ابن حيّ التخريبي في صفوف الثوار ، فقد جاء في مقاتل الطالبيين :
( ...وأهديت إليّ شهدة في يوم من الإيام ، وعندي قوم من أصحابي فدعوتهم إلى أكلها ، فدخل (ابن حيّ) في إثر ذلك ، فقال : هذه الإثرة ! أتأكله أنت وبعض أصحابك دون بعض ؟ !
فقلت له : هذه هدية اُهديت إليّ وليست من الفيء الذي لا يجوز هذا فيه .
فقال : لا ، ولكنك لو وليت هذا الأمر لاستأثرت ولم تعدل .
وأفعال مثل هذا من الاعتراض (1)) .
وجاء في مقاتل الطالبيين كذلك : إن إدريس بن عبدالله بن الحسن أفلت من وقعة فخ وكان الرشيد يتابع خبره ، فلما بلغه أنه قدم مصر متوجهاً إلى افريقية غم كثيراً لعدم إمكانه القبض عليه ، فشكا ذلك إلى يحيى بن خالد ، فقال : أنا أكفيك أمره ، ودعا سليمان بن جرير الجزري ، وكان من متكلمي
(1) مقاتل الطالبيين : 468 .
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 266 ـ
الزيدية البترية ، ومن اُولي الرئاسة فيهم ، فأرغبه ووعده عن الخليفة بكل ما أحب على أن يحتال لإدريس حتى يقتله ، ودفع إليه غاليةً مسمومة ، فحمل ذلك وانصرف من عنده ، فأخذ معه صاحباً له وخرج يتغلغل في البلدان حتى وصل إلى إدريس بن عبدالله فمت إليه بمذهبه ، وقال : إن السلطان طلبني لما يعلمه من مذهبي فجئتك ، فأنس به واجتباه ، وكان ذا لسان وعارضة ، وكان يجلس في مجلس البربر فيحتج للزيدية ويدعو إلى أهل البيت كما كان يفعل ، فحسن موقع ذلك من إدريس إلى أن وجد فرصة لإدريس ، فقال له : جعلت فداك ، هذه قارورة غاليةٍ حملتها إليك من العراق ليس في هذا البلد من هذا الطيب شيء ، فقبلها وتغلل بها وشمها وانصرف سليمان إلى صاحبه ، وقد أعدّ فرسين ، وخرجا يركضان عليهما .
وسقط إدريس مغشياً عليه من شدة السم ، فلم يعلم من بقربه ما قصته ، وبعثوا إلى راشد مولاه ، فتشاغل به ساعة يعالجه وينظر ما قصته .
فأقام إدريس في غشيته هاته نهاره حتى قضى عشياً ، وتبين راشد أمر سليمان فخرج في جماعة يطلبه ... (1) الخبر .
كانت هذه إحدى طرق التصفية الجسدية عند الحكام ، وقد وقفت على اُسلوبهم وكيفية استغلالهم المذهب كسلاح ضد الطالبيين ، وأن سليمان بن جرير مع كونه من متكلمي الزيدية البترية واُولي الرئاسة فيهم ، تراه يدخل ضمن المخطط ، وأن جملة سليمان : (ان السلطان طلبني لما يعلمه من مذهبي) فيها إشارة إلى أن فقه الطالبيين هو غير فقه السلطان وأن الحكام استخدموا الشريعة لصالح السياسة ليتعرفوا على الطالبيين وفق ما يؤدونه من العبادات !
ومن خلال موقف سليمان نصل إلى انه كان من المندسين الفكريين في صفوف الزيدية ، ومن ثم استخدمه السلطان للغدر والخيانة .
(1) مقاتل الطالبيين : 489 .
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 267 ـ
وبهذا ، تجلى لنا أن الحكام قد اتبعوا طرقاً لاحتواء الزيدية ، منها :
1 ـ دس علماء السوء بين صفوفهم ، وكانت مهمتهم : محاولة إبعاد الفصائل الثورية الزيدية عن فقه عليّ بن أبي طالب .
2 ـ بث النعرات المذهبية بين صفوف الزيدية .
3 ـ محاولة خلق فجوة خلاف بين الطالبيين وغيرهم ، وسواها الكثير .
أما العلويون فكانوا ـ بقدر المستطاع ـ يسعون للمحافظة على وحدتهم سياسياً وفكرياً ، مما دعا المنصور لأن يعتب على الزيدية لتعاونهم مع بني الحسن بقوله : (ما لي وبني زيد ! وما ينقمان علينا ؟ ! ألم نقتل قتلة أبيهما ونطلب بثأره ونشفي صدورهما من عدوهما (1)) ؟ !
وكيف لا ينقمون على العباسيين وهم يرون باُم أعينهم ذلك الدور التخريبي الذي يمارسونه والذي فاق دور وممارسات الأمويين خسة وحقداً !
وأما العامل الثالث :
فهو احتواء بعض الفقهاء لثورة زيد بن عليّ .
من الثابت في كتب التاريخ ان الإمام نعمان بن ثابت (أبا حنيفة) كان من المؤيدين للثورات العلوية ، كثورة زيد بن علي بالكوفة ، ومحمد النفس الزكية في المدينة ، وأخيه إبراهيم في البصرة ، وكان من الداعين للخروج على السلطان الفاسد .
ومن الطبيعي أن تؤثر هذه المواقف على نفسيات المجاهدين مما يولد لديهم حالة من التعاطف مع الإمام أبي حنيفة ، مضافاً إلى أن اُصول فقه أبي حنيفة كانت توافق الرأي وترتسم وفق القياس ، وانه كان يجادل مخالفيه الفقهيين
(1) مقاتل الطالبيين : 406 ـ 407 .
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 268 ـ
ويبين لهم وجوهاً من الرأي مما كان يعجب كثيراً من الناس ، هذا من جهة .
ومن جهة ثانية ، كان الإمام أبو حنيفة يعيش في الكوفة ، ويرى أن غالب أهلها علويون فكراً ، فكان عليه أن يتسلح بسلاح الحديث والمأثور إلى جوار ما يحمله من الاستدلال والرأي ، فذهب إلى المدينة للاستزادة من حديث محمد الباقر وجعفر الصادق لتقوية مكانته الاجتماعية في الكوفة أكثر من ذي قبل .
قال المستشرق رونلدسن :
إن الشيعة كانوا يحترمون ويجلون أبا حنيفة لصلاته الودية بالإمام جعفر الصادق ، وقد ازداد إعجابهم به حينما قال عن العباسيين : إنهم لو أرادوا بناء مسجد وأمروه بإحصاء الآجر فانه لا يفعل ، لأنهم فاسقون والفاسق لا يتولى الإمامة (1) .
أما الإمامان الباقر والصادق فكانا يتخوفان على شيعتهم من الإمام أبي حنيفة وأشاروا عليهم بالحيطة والحذر من آرائه لمخالفتها اُصول مدرستهم (مدرسة السنة والتعبد) بل ولموافقة اجتهاد الإمام أبي حنيفة للرأي والقياس ، في حين يرى أهل البيت أن دين الله ـ أي التشريع ـ لا يقاس بالعقول .
هذا ، وإن القول بالرأي لا يدل على كون قائله من المتأثرين بالحكومة قطعاً ، أو هو من أتباع السياسة الأموية ، بل ان الفقيه قد يوافق السلطان في رأيه وقد لا يوافقه ، ومن ذلك ما قلناه في مسألة الوضوء العثماني ، فإن ذهاب أبي حنيفة إلى وضوء عثمان لا يعني انه قد استجاب للسلطان أو تأثر بالأجواء الحاكمة ، بل أنه تبنى هذه الوجهة لموافقتها للاُصول التي رسمها لنفسه وبنى عليها فقهه .
وعليه ، فإن توافق الآراء بين أبي حنيفة والحكومة لا يعني تطابق السياسة
(1) عقيدة الشيعة : 143 .
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 269 ـ
والمنحى ، وقد عرف عن الإمام أبي حنيفة انه كان الوحيد في الكوفة الذي يترحم على عثمان بن عفان (1) .
ولنوضح ما قلناه بتقرير آخر :
مضى على الوضوء العثماني إلى أيام ثورة الإمام زيد بن عليّ ما يقارب القرن من الزمن ، فلا يعقل أن لا يترك هذا الوضوء بصماته على الحديث ومواقف التابعين ، مع ما عرفت من سعي الحكومة في تبيي فقه الخليفة عثمان ونشر آرائه ، مضافاً إلى أن مدرسة عثمان في الوضوء ـ كما سيتضح لك لاحقاً ـ كانت تبتني علىالرأي والاستحسان .
وهذه الرؤية كانت تتحد في بعض اُصولها مع فكر الإمام أبي حنيفة ، فذهاب أبي حنيفة إلى الوضوء الثلاثي الغسلي إنما جاء لاعتقاده بصحة تلك الأحاديث المنقولة وموافقتها لاُصول مذهبه وليس لتأثره بالاتجاه الحكومي ، إذ إنه قد حضر عند عطاء بن رباح في مكة ، ونافع مولى ابن عمر في المدينة ، وأخذ عن عاصم بن أبي النجود ، وعطية العوفي وعبد الرحمن بن هرمز مولى ربيعة بن الحارث ، وزياد بن علاقة ، وهشام بن عروة وآخرين ، وغالب هؤلاء كانوا يتحدون في الفكر والآراء .
وعلى هذا ، تكون الزيدية قد تأثرت بالفقه الحنفي للعلاقات والمواقف التي وقفها الإمام لهم ، فإنهم قد تمسكوا بالفقه الحنفي وتركوا ما كان رسمه لهم زيد من فقه آبائه عن رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، وذلك لعاملين :
1 ـ خلو الكوفة من علماء الزيدية ـ بعد مقتل الإمام زيد ـ وانشغال الطالبيين بمقارعة الظالمين ، وبذلك تهيأت الأرضية لأبي حنيفة لاحتوائهم فقهياً لقربه إليهم مكانياً وسياسياً .
2 ـ ابتعادهم عن فقهاء الطالبيين الموجودين في المدينة ، كعبدالله بن الحسن وجعفر بن محمد الصادق ، وسعي المندسين في صفوف الثوار لبث روح
(1) انظر تاريخ المذاهب الاسلامية : 261 عن الانتقاء لابن عبدالبر : 130 .
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 270 ـ
الفرقة بين صفوفهم وإشاعة كون عبدالله بن الحسن ليس بفقيه ولا يجوز الرجوع إليه ، وأن جعفر بن محمد لا يمكن الأخذ عنه لتقاعسه عن الجهاد مع زيد ، وما شاكل ذلك من الشبهات ، كل ذلك ليحصروا الأخذ في الإمام أبي خنيفة .
وقد ثبت في علم الاجتماع أن الخلاف بين الأقارب ـ سواء في العقيدة أو النسب ـ يكون أكثر وضوحاً من الخلاف بين الأباعد ، فلو لحظنا ـ مثلاً ـ الخلاف بين الشيعي والسني ـ في العقائد وغيرها ـ لرأيناه يشغل كثيراً من وقت المسلمين ، مع تقارب نظرهم واستقائهم من اُصول واحدة واتحادهم في كثير من الميادين والاُصول ، في حين لا نرى مثل هذه المواجهة بين المسلم وبين اليهودي أو المسيحي مع اختلافهم معهم في أكثر من أمر ، وهكذا الأمر بالقياس إلى الخلاف النسبي بين الأقارب ، فإن الخلاف بين الإخوة وبين الأعمام تظهر ملامحه سريعاً على عكس الخلاف بين الإباعد .
ولما كان الفقه الزيدي يستوحي فقهه من العترة وأن الإمام جعفر بن محمد الصادق هو ابن أخ الإمام زيد بن عليّ ، فإن المندسين بين صفوف الزيدية يسعون لتكدير الموقف بين الزيدية والجعفرية عن طريق رفع مستوى التوقعات وطرح بعض الشبهات ، ليبعدوا أنظار الزيدية عن أعلام الطالبيين في المدينة ، حتى يسهل الالتفاف حولهم لاحتوائهم فكرياً .
وتبين بهذا أن القريب دوماً يتوقع من قريبه ـ أكثر من البعيد أو المختلف معه ـ أن يؤازره وينصره ، وأن يسير معه ، وحينما لا يلمس هذا التعاون ـ رغم ما بهذا من مسوغات وأدلة ـ نراه يبتعد شيئاً فشيئاً عن قريبه ، ولربما بلغ به الأمر أن يجعله في ضمن أعدائه ومناوئيه ، وخصوصاً إذا لحظنا بُعد المسافة بين الكوفة والمدينة ووجود أعلام كالإمام أبي حنيفة في الكوفة !
ولأجل كل هذا ، نرى بصمات الفقه الحنفي ظاهرة على الفقه الزيدي ،
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 271 ـ
ويمكننا أن نعد أكثر من ثلثيه مأخوذاً عن الإمام أبي حنيفة ، وقد أكد هذه الحقيقة الشيخ محمد بخيت ـ مفتي الديار المصرية في أوانه ـ في تقريظه لمسند الإمام زيد بن عليّ ، بقوله :
أما بعد ، فاني اطلعت على هذا المجموع الفقهي الذي جمعه الإمام عبدالعزيز بن إسحاق ، المنسوب بالسند الصحيح إلى الإمام الشهيد زيد بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، صهر الرسول وزوج البتول بضعة الرسول ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، وقرأته على راويه حضرة الاُستاذ الشيخ عبد الواسع ، فوجدته مجموعاً جمع من المسائل الفقهية والأحكام الشرعية ما هو مدلل عليه بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، وهو موافق في معظم أحكامه لمذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان ، وحيث إن مذهب الزيدية في العلوم الشرعية لم يشتهر في الديار المصرية ... (1) .
وبهذا ، يحتمل أن يكون مجيء الإمام أبي حنيفة إلى المدينة ـ مضافاً إلى تقوية مكانته الاجتماعية في الكوفة ـ إنما كان لاختراق صفوف الشيعة الإمامية .
أما حيطة الإمام جعفر بن محمد الصادق وتركيزه على الأخذ بالمأثور وترك الرأي والقياس وتنظيمه لحلقات الدرس وقوله : ( ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقهوا ) وتأكيده على الفقه ... فإنه هو الذي أحبط بادرة الإمام أبي حنيفة في محاولة اختارقه للفقه الشيعي ، بخلاف الزيدية الذين انشغلوا بالحرب والكفاح المسلح وعدم وجود أئمة من أهل البيت بينهم مما أدى إلى خلق فجوة وفراغ فقهي عندهم اضطرهم إلى الالتجاء لفقه أبي حنيفة .
(1) من مقدمة مسند الامام زيد بن علي : 36 ، وحكى المامقاني في تنقيح المقال 1 : 336 عن الوحيد البهبهاني (في ترجمة الحسين بن علوان) إن الزيدية في الفروع مثل العامة . ولعبدالحليم الجندي في كتابه للامام الصادق : 131 مثله .
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 272 ـ
وعلى هذا فالوضوء المتداول بين الزيدية اليوم لم يكن وضوء الإمام زيد بن علي ، إذ إنه ليس بوضوء أخيه أبيه عليّ بن الحسين ، وليس بوضوء جده عليّ بن أبي طالب وليس بوضوء أخيه الباقر ، ولا ابن أخيه الصادق ، وليس بوضوء ابن عمه عبدالله بن محمد بن عقيل ، ولا هو وضوء عبدالله بن عباس وغيرهم من الطالبيين ، بل هو وضوء الإمام إبي حنيفة وفق ما ثبت عندهم من الاُصول والمباني ، ومثل هذا الحكم الشرعي كثير في فقه الزيدية .
قد جاء في مقدمة مسند الإمام زيد :
ومما جرى عليه الناس ولم يعرفوا سبب ذلك هو عدم ذكر آل رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) في الكتابة في كتبهم في الصلاة .
وسبب عدم ذكرها أن الأموية شددت في ذكر الآل كما هو مشهور من قتلهم وتشريدهم في البلاد ، حتى إن الحجاج منع من التحديث عن عليّ كرم الله وجهه ، حتى كان الحسن البصري وجماعة من التابعين إذا رووا حديثاً وكانوا في الجوامع لم يقدروا أن يصرحوا بذكر عليّ خوفاً من سيف الحجاج ، فكانوا يقولون : وعن أبي زينب عن النبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) فجرى الناس على ذلك من عدم ذكر الآل ، والآن بحمد الله زال المانع وذلك الزمن المخوف ، والآن كتب الهند وبعض الكتب المصرية الحديثة وأمثالها الذين أهلها متنورون ، صاروا يذكرون الآل في الصلاة بعد ذكر النبي فيجعلونها من جملة الصلاة ، والصلاة على النبي التي لا يذكر فيها تسمى الصلاة البتراء المنهي عنها كما في الحديث : ( لا تصلوا عليَّ الصلاة البتراء ) .
قيل : ( يا رسول الله ، وما الصلاة البتراء ؟
قال : ( أن تصلوا عليَّ ولا تصلوا على آلي ) .
وأخرج الدارقطني والبيهقي في حديث : ( من صلى عليَّ ولم يصل على أهل
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 273 ـ
بيتي لم تقبل منه ) وأخرج مسلم وغيره ... (1) .
هذا ، ولو سلمنا جدلاً بأن الإمام زيد بن علي كان قد توضأ وغسل رجليه ـ مع انا قد أوضحنا عدم وقوع ذلك ـ فهو لا يدل على مشروعيّة ذلك الفعل وكونه سنة رسول الله ، إذ إن الإمام زيداً كان موقفه موقف الإمام العادل الذي يجب عليه التحلي بجميع فضائل الإمام العادل المجاهد ضد أئمة الجور ، وأن يحذر كل الحذر من إشغال أصحابه في الجزئيات والفروع ، خوفاً من وقوع الخلاف بينهم ، وقد التف بالفعل حوله أغلب الفرق الإسلامية ، حتى المرجئة والخوارج ، فيحتمل أن يكون الإمام زيد قد أتى بالوضوء الغسلي رعاية لحال غالبية الجند ووحدة الصف وإن كان لا يعتقد بمشروعيته ، وقد لحظ مثل هذا الموقف في كلام إبراهيم بن عبدالله بن الحسن في الصلاة على الميت وقوله : (هذا أجمع لهم ، ونحن إلى اجتماعهم محتاجون ، وليس في تكبيرة تركتها ضرر إن شاء الله) (2) .
وقد صدرت عن الصادق نصوص كثيرة في صلاة الجماعة مع العامة رعاية للصف الإسلامي ولزوم الصلاة معهم ، فقال : ( ومن صلى معهم في الصف الأول كمن صلى خلف رسول الله في الصف الأول ) (3) .
وقوله : ( يا إسحاق ، أتصلي معهم في المسجد ؟ ) .
قلت : نعم .
قال : ( صل معهم ، فإن المصلي معهم في الصف الأول كالشاهر سيفه في سبيل الله ) (4) .
وقوله : ( إذا صليت معهم ، غفر الله لك بعدد من خالفك ) (5) .
(1) مقدمة مسند الإمام زيد : 34 .
(2) مقاتل الطالبيين : 406 .
(3) من لا يحضره الفقيه 1 : 250 | 1126 ، أمالي الصدوق 300 | 14 ، الكافي 3 : 380 | 6 .
(4) تهذيب الأحكام 3 : 277 | 809 .
(5) من لا يحضره الفقيه 1 : 265 | 1211 .
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 274 ـ
تلخص مما سبق
بهذا عرفت أن موقف الإمام زيد في الوضوء لا يمكن أن يخالف موقف جعفر بن محمد الصادق وبني الحسن ، بل إن فقه الجميع واحد كما رأيت دعوتهم وتأكيدهم على وحدة الصف الإسلامي في اُمور متشعبة ومختلفة .
وإن الخلاف لو حدث بينهم إنما كان لأحد العوامل التالية :
1 ـ سيطرة الروح الثورية على بني الحسن والزيدية وتأثرهم بأقوال المندسين بين صفوفهم وقناعتهم بتلك الشبهات ، مثل أن جعفر بن محمد الصادق لا يجوز الأخذ بكلامه لقعوده عن القتال مع زيد والنفس الزكية و ... !
2 ـ دور الحكام في اتساع الفجوة بين الزيدية والإمام الصادق ، بل التمهيد وبصورة غير مباشرة إلى الأخذ بفقه الإمام أبي حنيفة .
3 ـ حصول فراغ فقهي في الطائفة الزيدية ـ بعد مقتل الإمام زيد بن عليّ عام 120 ـ لمدة تقارب الثلاثين عاماً ، أي حتى عام 150 ، وهي المدة التي استطاع الفكر الحنفي أن يخترق خلالها صفوف الفقه الزيدي .
وقلنا بأن تعلق الزيدية بفقه الإمام أبي حنيفة كان لعاملين :
أ ـ قرب الإمام أبي حنيفة منهم مكانياً وسياسياً ، وتعاطفه مع المجاهدين منذ عهد الإمام زيد وحتى قيام محمد النفس الزكية بالمدينة وأخيه إبراهيم بالبصرة .
ب ـ عدم وجود فقيه من أهل البيت في الكوفة ، ولو حسبنا الإمام يحيى بن زيد هو الفقيه من أهل البيت فإنه لم يعش إلاّ خمس سنوات بعد والده وقد خذلته الزيدية . وإن قلنا إنه أحمد بن عيسى بن زيد ، فإن جلَّ فقهه مأخوذ من تلامذة الإمام أبي حنيفة ، وكذا الأمر بالنسبة إلى القاسم بن إبراهيم الرسني الحسني ، ويحيى بن الحسن بن القاسم ، وغيرهم من أعلام العلويين .
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 275 ـ
والذي يؤكد حقيقة ما قلناه من تبدل الفقه الزيدي وبعده عن آراء زيد ، هو اضطراب مباني الفقه الزيدي اليوم ، فتراها ملفقةً وخليطاً من مباني عدة مذاهب .
إلى هنا ننهي الكلام عن الوضوء في العهد الأموي ، وننتقل إلى دراسة الوضوء حتى نهاية العصر العباسي الأول .