أُموراً دينيّة كثيرة منها :
1 ـ تولية فاسق لإمرة المسلمين .
2 ـ إيعاد الخليفة الشهود .
3 ـ عدم ارتضاء الخليفة إجراء الحدّ على من استحقّ حدّاً شرعيّاً .
4 ـ عدم ارتضاء عزل والٍ لا يصلح لهذا المنصب الجليل .
كلّ هذه الأُمور كانت حقوقاً إسلاميّة يحقّ للمسلمين المطالبة بها .
2 ـ نظرة الولاة في أموال المسلمين !
ولّى الخليفة عثمان سعيد بن العاص الكوفة مكان الوليد بن عقبة ، وحين قدومه إليها استخلص من أهلها قوماً يسمرون عنده ، فقال سعيد يوماً : إنّ السواد بستان لقريش وبني أُميّة ..فاعترض مالك الأشتر النخعي على هذه الرؤية الخاطئة فقال : أتزعم أنّ السواد الذي أفاءه الله على المسلمين بأسيافنا بستان لك ، ولقومك ؟ !
فقال صاحب شرطته : أتردّ على الأمير مقالته !
فهمّ النخعيّون بصاحب الشرطة بحضرة سعيد ، وجرّوا برجله ، فغلظ ذلك على سعيد ، فكتب إلى عثمان في أمر هؤلاء ، فأمر بتسييرهم إلى الشام
(1) .
وفي هذا الإحداث كذلك أُمور تخالف الشريعة الاسلامية لو تدبّر الباحث فيها لعرفها
3 ـ عثمان والنداء الثالث يوم الجمعة .
ذكر البلاذري في الأنساب ، عن السائب بن يزيد : كان رسول الله إذا خرج للصلاة أذّن المؤذن ، ثمّ يقيم ، وكذلك الأمر على عهد أبي بكر وعمر وفي صدر من أيّام عثمان ، ثمّ إنّ عثمان نادى النداء الثالث في السنة السابعة ، فعاب الناس
 |
(1) الأنساب للبلاذريّ 5 : 40 ، 25 ، 28 ، تاريخ الطبريّ 4 : 322 ـ 323 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 : 21 ، 35 ، الكامل في التاريخ 3 : 137 ـ 141 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 80 ـ
ذلك ، وقالوا : بدعة (1) .
وقد جاء في اعتراضات الصحابة عليه أنّه قد أتى بأُمور لم تكن على عهد الرسول الله الأكرم ( صلى الله عليه واله وسلم ) والشيخين .
فقد روى ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر ، أنّه قال : الأذان الأوّل يوم الجمعة بدعة (2) .
وروى الزهريّ قوله : إنّ أوّل من أحدث الأذان الأوّل عثمان ، يؤذّن لأهل السوق (3) .
يستشمّ ممّا سبق ومن اعتراضات الصحابة على الخليفة توجّههم إلى أمر شرعي ، وأنّة قد أحدث أمراً لم يكن متعارفاً في عهد رسول الله والشيخين .
وهذا يوضح ما ادّعيناه بأنّ الثورة عليه كانت تستبطن أمراً دينيّاً .
4 ـ عثمان والصلاة بمنى .
ومن إحداثاته أيضاً ، أنّه أتمّ الصلاة بمنى ، فاعترض عليه جمع من الصحابة ، منهم : عبد الرحمن بن عوف ..فقد أخرج الطبري وابن كثير وابن الأثير وغيرهم ..عن عبد الملك بن عمرو بن أبي سفيان الثقفيّ ، عن عمّه ، قال : صلّى عثمان بالناس بمنى أربعاً ، فأتى آتٍ عبد الرحمن بن عوف فقال : هل لك في أخيك ؟ قد صلّى بالناس أربعاً !
فصلّى عبدالرحمن بأصحابه ركعتين ، ثمّ خرج حتّى دخل علىعثمان ، فقال له : ألم تصلّ في هذا المكان مع رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) ركعتين ؟
قال : بلى .
قال : ألم تصلّ مع أبي بكر ركعتين ؟
 |
(1) الأنساب للبلاذريّ 5 : 39 ، المنتظم 5 : 7 ـ 8 .
(2) المصنّف لابن أبي شيبة 2 : 48 | 3 .
(3) المصنّف لابن أبي شيبة 2 : 48 | 4 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 81 ـ
قال : بلى .
قال : ألم تصلّ مع عمر ركعتين ؟
قال : بلى .
قال : ألم تصلّ صدراً من خلافتك ركعتين ؟
قال : بلى .
قال [ عثمان ] : فاسمع منّي يا أبا محمّد ، إنّي أُخبرت أنّ بعض من حجّ من أهل اليمن وجفاة الناس قد قالوا في عامنا الماضي : إنّ الصلاة للمقيم ركعتان ، هذا إمامكم عثمان يصلّي ركعتين ، وقد اتخذت بمكّة أهلاً ، فرأيت أن أصلّي أربعاً لخوف ما أخاف على الناس ، وأخرى قد اتخذت بها زوجة ، ولي بالطائف مال فربّما أطلعته فأقمت فيه بعد الصدر .
فقال عبد الرحمن بن عوف : ما من هذا شيء لك فيه عذر ..أمّا قولك : أتّخذت أهلاً ، فزوجتك بالمدينة ، تخرج بها إذا شئت ، وتقدم بها إذا شئت ، إنّما تسكن بسكناك .
وأمّا قولك ، ولي مال بالطائف ، فإنّ بينك وبين الطائف مسيرة ثلاث ليال ، وأنت لست من أهل الطائف .
وأمّا قولك : يرجع من حجّ من أهل اليمن وغيرهم ، فيقولون : هذا إمامكم عثمان يصلّي ركعتين ، وهو مقيم ، فقد كان رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) ينزل عليه الوحي والناس يومئذٍ الإسلام فيهم قليل ، ثمّ أبوبكر مثل ذلك ، ثمّ عمر ، فضرب الإسلام بجرانه ، فصلّى بهم عمر حتّى مات ركعتين .
فقال عثمان : هذا رأي رأيته (1) .
وجاء في أنساب الأشراف : حدّثني محمّد بن سعد عن الواقديّ عن محمّد ابن عبد الله عن الزهريّ عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال : صلّيت مع رسول
 |
(1) أنساب الأشراف 5 : 39 ، تاريخ الطبريّ 4 : 268 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 82 ـ
الله بمنى ركعتين ومع أبي بكر وعمر ومع عثمان صدراً من خلافته ثمّ أتّمها أربعاً ، فتكلّم الناس في ذلك فأكثروا وسئل أن يرجع عن ذلك فلم يرجع
(1) .
وروى الطبريّ في تاريخه .
عن الواقديّ عن عمر بن صالح بن نافع ، عن صالح ـ مولى التوءمة ـ ، قال : سمعت ابن عباس يقول : إنّ أوّل ما تكلّم الناس في عثمان ظاهراً ... أنّه صلّى بالناس بمنى في ولايته ركعتين ، حتّى إذا كانت السنة السادسة أتّمها ، فعاب ذلك غير واحد من أصحاب النبيّ ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، وتكلّم في ذلك من يريد أن يكثر عليه ، حتّى جاءه عليّ فيمن جاءه ، فقال : والله ما حدث أمر ولا قدم عهد ، ولقد عهدت نبيّك ( صلى الله عليه واله وسلم ) يصلّي ركعتين ، ثمّ أبابكر ، ثمّ عمر ، وأنت صدراً من ولايتك ، فما أدري ما ترجع اليه ؟ !
فقال : رأي رأيته
(2) .
5 ـ إعطاء الخليفة فدكاً وخمس إفريفية لمروان بن الحكم :
عدّ ابن قتيبة في المعارف
(3) والبلاذريّ في الأنساب
(4) ممّا نقم على عثمان إقطاعه فدكاً لمروان ، وقد اعتبر المسلمون هذا الإحداث مخالفاً لعمل الشيخين والأدلّة الثابتة ، إذ إنّ فدكاً لو كانت فيئاً للمسلمين ـ كما ادّعاه أبوبكر ـ فما وجه تخصيصها بمروان ؟ وإن كانت ميراثاً لآل الرسول ـ كما احتجّت به الزهراء في خطبتها ـ فكيف يمنعون بني الزهراء عنها ؟ ! !
وكذا الأمر بالنسبة لخمس إفريقية ، فما هو وجه تمليكه إيّاها ؟
ولهذا الاعتراض وجهاً دينيّاً ، إذا نرى الناس يعترضون على الخليفة وكذا على ولاته لما أحدثوا من أفكار وأصول ونفيهم لأخرى ، وهي ممّا لم يسنّ في
 |
(1) أنساب الأشراف 5 : 39 .
(2) تاريخ الطبري 4 : 267 .
(3) المعارف : 112 .
(4) انظر أنساب الأشراف 5 : 25 ، الإمامة والسياسة 1 : 35 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 83 ـ
شريعة الرسول ولم يعمل به الشيخان .
كانت هذه بعض الأمور ، نقلناها ليتّضح للقارئ وجه آخر ، تتجلّى فيه معالم نقمة المسلمين على الخليفة الثالث عثمان بن عفّان والتي استبطنت أموراً دينيّة ... ومن يستقري مواقف الصحابة من سياسة عثمان وإحداثاته يقطع بنقمتهم عليه واستيائهم من خلافته ، وإليك بعض ما ورد عنهم في المقام :
مواقف الصحابة من سياسة عثمان وإحداثاته
1 ـ طلحة بن عبد الله :
ذكر البلاذريّ : إنّ طلحة قال لعثمان : إنّك أحدثت أحداثاً لم يكن الناس يعهدونها (1) .
وأخرج الثقفيّ في تاريخه ، وابن الأعثم في فتوحه : إنّ طلحة قام إلى عثمان ، فقال له : إنّ الناس قد جمعوا لك ، وكرهوا البدع التي أحدثت ولم يكونوا يرونها ولا يعهدونها ، فإن تستقم فهو خير لك ، وإن أبيت لم يكن أحد أضرّ بذلك منك في دنيا ولا آخرة (2) .
وروي أنّ طلحة قال لمالك بن أوس : يا مالك ، إنيّ نصحت عثمان فلم يقبل نصيحتي ، وأحدث أحداثاً ، وفعل أموراً ، ولم يجد بدّاً من أن يغيّرها (3) .
2 ـ الزبير بن العوّام :
جاء في شرح النهج : إنّ الزبير كان يقول : اقتلوه فقد بدّل دينكم .
فقالوا : إنّ ابنك يحامي عنه بالباب .
 |
(1) أنساب الأشراف 5 : 29 .
(2) انظر : الفتوح لابن أعثم 1 : 35 ، وبحارالأنوار ـ قسم الملاحم والفتن .
(3) المصدر السابق ، وفي الأمامة والسياسة 1 : 40 أنّ طلحة أجاب عثمان فيما أشهده : لأنّك بدّلت وغيّرت .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 84 ـ
فقال : ما أكره أن يقتل عثمان ولو بدئ بابني ... (1) .
3 ـ عبد الله بن مسعود :
جاء في أنساب الأشراف (2) : إنّ ابن مسعود لمّا ألقى مفاتيح بيت المال إلى الوليد بن عقبة ، قال : من غيّر غيّر الله ما به ومن بدّل أسخط الله عليه ، وما أرى صاحبكم إلاّ وقد غيّر وبدّل ، أيعزل سعد بن أبي وقّاص ويولّى الوليد بن عقبة ؟
وكان يتكلّم بكلام لا يدعه ، وهو ( إنّ أصدق القول كتاب الله ، وأحسن الهدى هدى محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وكلّ محدث بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة في النار ) (3) .
4 ـ عمّار بن ياسر :
ذكر المؤرخين أنّ عمّاراً خطب يوم صفين ، فقال : ... أنهضوا معي عباد الله إلى قوم يطلبون ـ فيما يزعمون ـ بدم الظالم لنفسه الحاكم على عباد الله بغير ما في كتاب الله ، إنّما قتله الصالحون ، المنكرون للعدوان ، الآمرون بالإحسان ، فقال هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت ديناهم ولو درس هذا الدين : لم قتلتموه ؟ فقلنا : لإحداثه ... (4) .
وجاء في كتاب صفين ما داربين عمرو بن العاص وعمّار ، وفيه : قال عمرو : فلم قتلتموه ؟
قال عمّار : أراد أن يغيّر ديننا فقتلناه .
فقال عمرو : ألا تسمعون ، قد اعترف بقتل عثمان .
 |
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9 : 36 .
(2) أنساب الأشراف 5 : 36 .
(3) أنساب الأشراف 5 : 36 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 : 42 ، حلية الأولياء 1 : 138 بتفاوت يسير .
(4) كتاب صفّين : 319 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 85 ـ
قال عمّار : وقد قالها فرعون قبلك ، لقوله ... ألا تسمعون
(1) .
5 ـ عمرو بن العاص :
أمّا ابن العاص فإنّه على الرغم من استنصاره لعثمان بعد مقتله فكان ينتقده ، وقد صدر عنه هذا النصّ لمّا ضرب عثمان عمّاراً : هذا منبر نبيّكم ، وهذه ثيابه ، وهذا شعره لم يبل وقد بدّلتم وغيرّتم ، فغضب عثمان حتّى لم يدر ما يقول
(2) .
6 ـ سعد بن أبي وقّاص :
روى ابن قتيبة ما أجاب به سعد بن أبي وقّاص حول دوافع قتل عثمان ، قال سعد : ... وأمسكنا نحن ، ولو شئنا دفعناه عنه ، ولكّن عثمان غيّر وتغيّر ، وأحسن وأساء ، فإن كنّا أحسنّا فقد أحسنّا ، وإن كنّا أسأنا فنستغفر الله
(3) ... .
7 ـ هاشم المرقال :
قال لشاب شاميّ : وما أنت وابن عفّان ؟ إنّما قتله أصحاب محمّد وأبناء أصحابه وقرّاء الناس حيث أحدث وخالف حكم الكتاب ، وأصحاب محمّد هم أهل الدين وأولى بالنظر في أُمور المسلمين منك ومن أصحابك ، وما أظنّ أنّ أمر هذه الأُمّة ولا أمر الدين عناك طرفة عين قط
(4) .
8 ـ مالك الأشتر :
جاء في كتاب من الأشتر إلى عثمان : من مالك بن الحارث ، إلى الخليفة المبتلى الخاطئ ، الحائد عن سنّة نبيّه ، النابذ لحكم القرآن وراء ظهره ..أمّا بعد ...
(5) .
 |
(1) كتاب صفين : 338 ، شرح نهج البلاغة لا بن أبي الحديد 8 : 22 .
(2) أنساب الأشراف 5 : 89 .
(3) الإمامة والسياسة 1 : 48 .
(4) تاريخ الطبريّ 5 : 43 عن كتاب صفيّن .
(5) أنساب الأشراف 5 : 46 ، الفتوح لابن أعثم 1 : 40 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 86 ـ
وقوله : إنّ عثمان قد غيّر وبدّل
(1) .
9 ـ عائشة :
اشتهر قولها بعدما صنع بعمّار ما صنع : ما أسرع ما تركتم سنّة نبيّكم ، وهذا شعره ونعله لم يبل بعد ؟ !
(2) .
وقولها ، بعدما جاءها وفد أهل العراق : تركت سنّة رسول الله صاحب هذا النعل ؟ !
(3) .
وقال أبو الفداء : كانت عائشة تنكر على عثمان مع من ينكر عليه ، وكانت تخرج قميص رسول الله وتقول : هذا قميصه وشعره لم يبل وقد بلي دينه ..
(4) وفيما أخرجه ابن أبي الحديد : هذا ثوب رسول الله لم يبل وعثمان قد أبلى سنّته !
(5) .
وعائشة أوّل من سمّى عثمان نعثلاً [ رجل يهودي طويل اللحية كان بالمدينة ] وحكمت بقتله
(6) .
10 ـ محمّد بن أبي بكر :
ذكر ابن سعد ، وابن عساكر ، وابن كثير ، والبلاذريّ ، وغيرهم : قال محمّد بن أبي بكر لعثمان : على أيّ دين أنت يا نعثل ؟
قال : على دين الإسلام ، ولست بنعثل ولكنّي أمير المؤمنين .
قال : غيّرت كتاب الله !
فقال : كتاب الله بيني وبينكم .
فتقدّم إليه ، وأخذ بلحيته وقال : إنّا لا يقبل منّا يوم القيامة أن نقول : ربّنا إنّا
 |
(1) أنساب الأشراف 5 : 45 ، الإمامة والسياسة 1 : 38 .
(2) أنساب الأشراف 5 : 48 ، شرح ابن أبي الحديد 3 : 49 ، الفتوح لابن أعثم 1 : 64 .
(3) أنساب الأشراف 5 : 48 .
(4) المختصر في أخبار البشر 1 : 172 .
(5) شرح ابن أبي الحديد 3 : 9 .
(6) بقولها : اقتلوا نعثلاً فقد كفر ، الفتوح لا بن أعثم 1 : 64 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 87 ـ
أطعنا ساداتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل ..وشحطه بيده من البيت إلى الدار ، وعثمان يقول : يا ابن أخي ! ما كان أبوك ليأخذ بلحيتي ...
(1) .
11 ـ كعب بن عبدة :
حينما ادّعى عثمان أنّه أعرف بكتاب الله منه ، قال له : يا عثمان ! إنّ كتاب الله لمن بلغه وقرأه ، وقد شركناك في قراءته ، ومتى لم يعمل القارئ بما فيه كان حجّة عليه
(2) .
12 ـ أبو ذرّ الغفاريّ :
نقل عنه أنّه قال : والله ، لقد حدثت أعمال ما أعرفها ! والله ما هي في كتاب الله ، ولا سنّة نبيّه ! والله إنّي لأرى حقّاً يطفأ ، وباطلاً يحيى ، وصادقاً يكذّب ! وأثرةً بغير تقى ، وصالحاً مستأثراً به
(3) .
13 ـ عبد الرحمن بن عوف :
قال لعثمان مرّة : لقد صدّقنا عليك ما كنّا نكذّب فيك
(4) ، إشارة إلى إخبار الإمام عليّ في يوم الشورى وقوله : أما إنّي أعلم أنّهم سيولّون عثمان ، وليحدثنّ البدع والأحداث ، ولئن بقي لأذكرنّك وإن قتل أومات ليتداولنها بنو أميّة بينهم ، وإن كنت حيّاً لتجدني حيث تكرهون
(5) .
وقوله لعلّي : إذا شئت فخذ سيفك ، وآخذ سيفي ، إنّه [ عثمان ] قد خالف ما أعطاني
(6) .
 |
(1) طبقات ابن سعد 3 : 73 ، البداية والنهاية 7 : 193 ، الكامل 3 : 178 ، أنساب الأشراف 5 : 82 ، 92 و 98 ، شرح النهج 2 : 157 ، الإمامة والسياسة 1 : 44 قريب منه .
(2) أنساب الأشراف 5 : 42 .
(3) أنساب الأشراف 5 : 53 ، شرح النهج 3 : 55 .
(4) شرح النهج لا بن أبي الحديد 1 : 196 .
(5) تاريخ الطبريّ 4 : 230 .
(6) أنساب الأشراف 5 : 57 ، الفتوح لا بن الأعثم 1 : 6 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 88 ـ
استنتاج
اتّضح بجلاء من النصوص الآنفة الذكر أنّ الصحابة غير راضين عن عثمان وسلوكه العمليّ ، كما أنّهم على خلاف رؤاه الفكريّة وآرائه التشريعيّة ، ولذلك رموه بالإبداع والإحداث في الدين وإتيانه بأشياء ليست هي في كتاب الله ولا سنّة نبيّة أوسيرة الشيخين ، والصحابة هم أهل الفقه واللغة ، وهم أعلم من غيرهم باصطلاحات الرسالة وعباراتها ومنقولاتها الشرعيّة .
فلفظ ( البدعة ) ولفظ ( الإحداث ) يدلاّن على إيجاد شيء لم يكن من قبل ولم يعهده المسلمون من الشريعة المحمّديّة ، وكذا الحال بالنسبة لتعبيرهم : إنّه أتى بأمور ليست في كتاب الله ولا سنّة نبيّه .
فسوء التقسيم المالي من قبل عثمان ، وإيثاره لأقربائه ، وأخطاؤه السلوكيّة الأخرى ـ كما قلنا ـ لا تسمّى ( بدعاً ) ولا ( إحداثاً ) في الاصطلاح ، وإنّما تسمّى مخالفات ، أو عدم التزام دينيّ ، أو إعراضاً عن السيرة ، أو ما شاكل ذلك من الألفاظ والتعابير .
وإذا سلّمنا صحّة إطلاق لفظ ( البدعة ) و ( الإحداث ) على تلك التصرّفات ، فمن باب أولى أن يشمل اللفظ المذكور تلك الآراء العثمانيّة الجديدة وأطروحاته الفقهيّة التي أتى بها ، مثل : إتمام الصلاة بمنى ، وتقديم خطبة صلاة العيدين على الصلاة ، وغيرها من الآراء الفقهيّة التي ما كانت معهودة من قبله ولا ممّن عايَشَه من الصحابة !
إنّ شدّة عبارات الصحابة في عثمان ، برميهم إيّاه بالابتداع والإحداث في الدين ، بالإضافة إلى فتح باب الفتنة على مصراعيه ، وأخيراً قتله ... لتدلّ بما لا يقبل الشكّ والترديد على اقتناع الرأي العالم بضرورة عزل عثمان عن الخلافة وعدم قناعتهم باجتهاداته ، ولمّا لم يرضخ لإرادة الأمّة والتخلّي عن الخلافة قائلاً (لن أنزع قميصاً كسانيه الله) جوّزت الأمّة قتله ورأت نفسها في
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 89 ـ
حلّ من دمه ، وفي عصمة من خطابات الشارع المقدّس ، مثل : ( ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ ... )
(1) ، ( ... من قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعاً ... )
(2) ، (ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذاباً عظيماً )
(3) ...
بل وإصرارهم على عدم دفنه ، كقول أحدهم : لا والله لا تدفنوه في بقيع رسول الله على الرغم من علمهم بتأكيد النبيّ ( صلى الله عليه واله وسلم ) على دفن موتى المؤمنين وتغسيلهم وتكفينهم والصلاة عليهم ، وعلى أنّ حرمة الميّت كحرمة الحيّ !
ونحن أمام ما جرى ، لا يسعنا إلاّ أن نقول إمّا بعدول جميع الصحابة عن جادة الصواب وتهاونهم بالأمور ، لأنّهم لم يعملوا بأوامر القرآن ووصايا الرسول ( صلى الله عليه واله وسلم ) أو أن نذهب إلى انحراف الخليفة وخروجه عن رأي الجماعة ، ولا ثالث .
فإذا قلنا بعدالة الصحابة وعدم اجتماعهم على الخطأ ، لزم القول بالرأي الثاني ، خصوصاً إذا ما شاهدنا بين المعارضين رجالاً قيل عنهم إنّهم من العشرة المبشرة ، أمثال : سعد بن أبي وقّاص ، طلحة ، الزبير ، و غيرهم من كبار الصحابة الذين ورد فيهم نصّ صريح بجلالة قدرهم وعظيم منزلتهم ، أمثال : ابن مسعود ، أبي ذرّ ، عمّار .
أمّا لو قلنا بطهارة ساحة الخليفة الثالث ..فهذا القول يستلزم فسق الصحابة ، وهذا ما لا يقبل به المحققون قطعاً ، إذ من المعقول أن تخطّئ فرداً مع الجزم بأنّه غير معصوم ، ولكنّ اتهام الكثيرين من الصحابة بالفسق والضلالة بعيد عن المنطق والوجدان ، خصوصاً وثمّة أفراد بين أُولئك ممّن ورد بحقّه نصّ
|
(1) الأنعام : 151 .
(2) المائدة : 32 .
(3) النساء : 93 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 90 ـ
يشير إلى أنه مع الحقّ ، وممّن بشّر بالجنّة كعمار وأبي ذرّ و ...
وجاء في تاريخ الطبريّ ( حوادث 34 ) ( لمّا كانت سنة اربع وثلاثين كتب أصحاب رسول الله بعضهم إلى بعض ، أن أقدموا ، فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد .
وكثر الناس على عثمان ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد ، وأصحاب رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) يرون ويسمعون ، ليس فيهم أحد ينهى ولايذبّ إلاّ نفير ، منهم : زيد ابن ثابت ، (الذي جمع عثمان الصحابة على قراءته) ، أبو أسيد الساعديّ ، كعب ابن مالك ، وحسّان بن ثابت ، فاجتمع الناس وكلّمواعليّ بن أبي طالب ، فدخل على عثمان فقال : الناس ورائي وقد كلّموني فيك ، والله ما أدري ما أقول لك ، وما أعرف شيئاً تجهله ولاأدلّك على أمر لا تعرفه ، انّك لتعلم ما نعلم ... ) إلى آخر كلامه الذى مرّ عليك قبل عدّة صفحات .
إذاً ، المعترضون على عثمان كانوا ( الناس ) ، وإنّهم كانوا يطلبون الجهاد ضدّه فأخذ يكتب البعض منهم إلى الآخر بذلك ، وليسوا بنفر قلائل جاؤوا من مصر والبصرة والكوفة ـ كما يدّعيه البعض ـ ، وعلى فرض كونهم كذلك ... فهل من المعقول أن يسكت جميع الصحابة ـ وأغلبهم يدري ـ عن مواجهتهم وهم يرون خليفة المسلمين في خطر ، وليس منهم أحد ينهى ويذبّ عنه ؟
وألم يكن ذلك ازدراء بالصحابة ، الذين أبلوا بلاءً حسناً مع الرسول في حروبه ؟
وكيف يهابون ذلك الجمع القليل مع ما لهم من صفحات ومواقف مشرّفة في الجهاد عبر تاريخهم الإسلامي ؟ ! !
أن وراء ترك نصرة الخليفة شيئاً خطيراً ، وهو تركه العمل بكتاب الله وسنّة نبيّه وسيرة الشيخين !
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 91 ـ
عثمان ومبرّرات تغيير سياسته في الستّ الأواخر
من يتابع سيرة الخليفة عثمان بن عفّان بتجرّد يمكنه أن يصل إلى ما توصلنا إليه ، وهو : أنّ الخليفة وخصوصاً في الستّ الأواخر من خلافته أخذ يرى أنّ الناس ينتقصونه ولا يعطونه تلك المنزلة والهالة التي منحوها للشيخين ، بل ينظرون إليه بمنظار المتّبع لنهج الشيخين والمطبّق لما سنّ في عهدهما وليس له العمل إلاّ بما عمل في عهدهما ، وقد طلب الخليفة بالفعل ـ في بدء خلافته ـ من المحدّثين أن لا يحدّثوا إلاّ بما عمل به الشيخان ، لأنّ ذلك كان في ضمن ما عاهد عليه ابن عوف في الشورى .
بيد أنّ الخليفة وبعد مرور الأعوام الستّة من خلافته بدأ يتساءل مع نفسه : كيف يحقّ لعمر أن يشرّع أو ينهى لمصلحة كان يقدّرها ـ كما في صلاة التراويح ومتعة النساء ـ ولا يحقّ لي ذلك ؟ !
وكيف يقبل الناس اجتهادات عمر وسيرته ولا يرتضون أفعالي ؟ !
وما الذي كان لهما واختصّا به دوني ؟ !
ولماذا يجب أن أكون تابعاً لسياسة واجتهاد الشيخين ولا يحقّ لي رسم بعض الأصول ؟ !
هل كانوا في سابقتهم في الإسلام ودرايتهم بالأمور ومكانتهم من رسول الله أخصّ منّي وأقرب ؟ !
أم إنّ ما بذلوه من مال ووفقوه من مواقف لنصره الدين كانت أكثر ممّا فعلت ؟ !
فإن كان الشيخان قد حظيا وشرّفا برابط من نور مع رسول الله وذلك بإعطاء كلّ منهما بنتاً لرسول الله ، فعثمان قد ارتبط برسول الله من جهتين وتزوّج بنتين ، وهو ذو النورين ؟ !
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 92 ـ
بعد هذا كيف يتحتّم عليه أن يكون تابعاً لنهج الشيخين ولا تكون له تلك الشخصيّة المستقلة ؟ !
وقد أكّد عثمان على هذا الأمر وأشار إلى أنّه أعزّ نفراً بل هو أقرب ناصراً وأكثر عدداً من عمر ، لقربه من بني أميّة !
فقال مخاطباً المعترضين : ألا فقد والله عبتم عليّ بما أقررتم لا بن الخطّاب بمثلة ، ولكنّه وطئكم برجله ، وضربكم بيده ، وقمعكم بلسانه ، فدنتم له على ما أحببتم أوكرهتم ، ولنت لكم ، وأوطأت لكم كتفي وكففت يدي ولساني عنكم ، فاجترأتم عليّ ، أما والله لأنا أعزّ نفراً وأقرب ناصراً وأكثر عدداً وأقمن إن قلت هلم اُتي إلي ، ولقد أعددت لكم أقرانكم ، وأفضلت ، وأفضلت عليكم فضولاً وكشّرت لكم عم نابي وأخرجتم منّي خلقاً لم أكن أحسنه ، ومنطقاً لم أنطق به
(1) .
نعم ، كانت هذه التساؤلات تراود الخليفة ، إذ يرى الناس قد أطاعوا عمر في كلّ شيء وتعبّدوا بسيرة الشيخين وارتضوا بنهجهم ، فلم لا يقبلون بأفعاله وتوليته لولاته ولماذا يعتبرونها بدعاً وإحداثات ، مع أنّه قد وسّع المسجد الحرام
(2) والمسجد النبويّ
(3) واتّخذ للأضياف منازل
(4) وزاد في أعطية الناس
(5) ورّد على كلّ مملوك بالكوفة من فضول الأموال ثلاثة كلّ شهر ، يتسعون بها من غير أن ينقص مواليهم من أرزاقهم
(6) ، وغيرها من المواقف التي جاءت لنفع الناس .
وقد جاء في تاريخ الطبريّ وغيره أنّه قال ـ للذين هدم بيوتهم ولم يقبلوا
 |
(1) تاريخ الطبريّ 4 : 339 .
(2) تاريخ الطبريّ 4 : 267 .
(3) تاريخ الطبريّ 4 : 273 .
(4) تاريخ الطبريّ 4 : 274 .
(5) تاريخ الطبريّ 4 : 245 .
(6) تاريخ الطبريّ 4 : 274 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 93 ـ
ثمنها عند توسعته للمسجد الحرام ـ : أتدرون ؟ ! ما جرّأكم عليّ إلاّ حلمي ، قد فعل هذا بكم عمر فلم تصيحوا به
(1) .
فالناس المعترضون على سياسة عثمان ، مضافاً إلى ارتيابهم وعدم قناعتهم بأفعال الخليفة كانوا يتّهمونه بتغيير سنّة رسول الله .
فقد جاء عن عثمان أنّ الناس قالوا له عندما أراد توسعة المسجد النبويّ الشريف (يوسّع مسجد رسول الله ويغيّر سنّته)
(2) .
إنّ الخليفة ـ وكماقلنا ـ كان يعيش حالة نفسيّة متأزّمة ، فإنّه من جهة كان يسمع اعتراضات الناس عليه في حين قد شاهدهم بالأمس قد سكتوا عن اجتهادات عمر ، بل أنّهم قد أرتضوها وجعلوها منهج الحياة رغم كون بعضها أشدّ ممّا شرّعه وأجرأ .
ومن جهة أخرى كان لا يمكنه تخطّي سيرة الشيخين لأنّه كان قد عاهد ابن عوف والمسلمين في الشورى على أن يسير بنهج الشيخين ، أمّا اليوم فإنّه غير مستعدّ نفسيّاً لتطبيق ذلك ، حيث إنّ الاعتراض أخذ يرد عليه الواحد تلو الأخر ، فسعى الخليفة ـ وفي السنوات الستّ الأخيرة من عهده ـ إلى تغيير سياسته واتّباع نهج معيّن ، وأخذ يطرح آراء فيها ما يخالف سيرة الشيخين وسنّة رسول الله مواصلاً سياسة العنف السابقة ، معتقداً بأنّ طرحه لهذه الإحداثات سيلهي الناس عن الخوض في ذكر سوء سياسة وتوليته خاصّته وأقاربه ، واختصاصهم بالحكم والمال دون المسلمين ؟ وسيشغل المسلمين في مناقشة اجتهاداته ، وسيحصل على رصيد عند بسطائهم لأنّه قد أخذ جانب القدسيّة والزهد والتعمّق في إحداثاته ، فكان الطابع الغالب على تلك الإحداثات هو الزيادة ، فالصلاة بمنى والنداء الثالث يوم الجمعة والوضوء
 |
(1) تاريخ الطبريّ 4 : 251 ، الكامل في التاريخ 3 : 87 ، المنتظم 4 : 360 .
(2) راجع : المجلّد الخامس من أنساب الأشراف للبلاذريّ .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 94 ـ
وغيرها لحظ فيها الزيادة ، وأنّ عامة الناس يرتاحون إلى الأعمال التي فيها زيادة معتقدين بأنّ ذلك زيادة في القدسّة وخصوصاً لو دعم بآراء استحسانيّة مقبوله في ظاهرها عند العقلاء .
إنّ المسلم العادي لا ينظر إلى أصول المسألة ومشروعيّتها في الكتاب والسنّة بقدر ما ينظر إلى الوجوه الاستحسانيّة فيها ، فإذا كان الوضوء هو الإنقاء فالإنقاء يحصل بالغسل أكثر من المسح ، أو ما قالوه عن الغسل لأنّه مسح وزيادة وما شابه ذلك من الوجوه الاستحسانيّة .
وقد وقفت على قول عثمان في منى هذا رأي رأيته
(1) .
مع علمه بأنّ رسول الله والشيخين قد قصّرا بمنى ، وكان قد قصّر هو شطراً من خلافته فيه ؟ !
اشارة إلى أنّه كان يريد تشكيل اتّجاه في الإسلام له معالم خاصّة به ، فتراه يجتهد قبال النصّ مع علمه بأنّ رسول الله والشيخين قد فعلا خلاف فعله ؟ !
كانت هذه بعض إحداثات الخليفة عثمان ين عفّان المخالفة لسنّة رسول الله وسيرة الشيخين وإنّه قد أتى بها معتقداً بأنها ستنجيه ممّا هو فيه من اعتراضات القوم ، ولكنّ إحداثاته ـ بنظرنا ـ كانت هي السبب الأهم في قتله
(2) ، وأنّ قول نائلة الكلبيّة ـ زوجة عثمان ـ حين طافت المهاجمون على عثمان يريدون قتله : إن تقتلوه أو تتركوه ، فإنّه كان يحيي الليل كلّه يجمع القرآن
(3) ، أو قولها : انّه ليحيي الليلة بالقرآن في ركعة ، لتؤكّد على أنّ هجوم المنتفضين عليه كان له بعد ديني وهو التشكيك في صلاحيّته ولياقته في إدارة الأمّة الإسلاميّة ، وأنّ قول نائلة جاء لنفي هذا الشكّ ، فأكّدت بأنّه كان يجمع القرآن ويحي الليل كلّه في ركعة !
 |
(1) تاريح الطبريّ 4 : 268 .
(2) لقول علي بن أبي طالب في الخطبة الشقشقية : ( ...واجهز عليه عمله ... ) .
(3) حلية الأولياء 1 : 57 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 95 ـ
تأكيد عثمان على وضوئه
والآن لنذكر دور عثمان البنائيّ في الوضوء .
فقد صدرت عنه روايات حكاها عن رسول الله وفي أغلبها إشارة إلى ترسيخه لفكرة الوضوء الجديدة ، وإليك بعض الروايات :
1 ـ عن حمران بن أبان ـ مولى عثمان ـ إنّ عثمان توضّأ فمضمض واستنشق وغسل وجهه ثلاثاً ويديه ثلاثاً ومسح برأسه وغسل رجله ثلاثاً ، ثمّ قال : من توضّأ وضوئي هذا ثمّ صلّى ركعتين لا يحدّث نفسه فيهما غفر له ما تقدّم من ذنبه
(1) .
2 ـ وفي البخاريّ بعد إخراجه لحديث السابق وذكره غسل رجله ثلاثاً : رأيت النبيّ يتوضّأ نحو وضوئي هذا ، وقال : من يتوضّأ نحو وضوئي هذا ثمّ صلّى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه ، غفر الله له ما تقدّم من ذنبه
(2) .
3 ـ أخرج أبو داود والبيهقيّ والنسائيّ في سننهم ، عن حمران قال : رأيت عثمان بن عفّان توضّأ فأفرغ على يديه ثلاثاً فغسلهما ، ثمّ تمضمض واستنشق ، ثمّ غسل وجهه ثلاثاً ، وغسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثاً ، ثم اليسرى مثل ذلك ، ثم مسح رأسه ، ثم غسل قدمه اليمنى ثلاثاً ، ثمّ اليسرى مثل ذلك ، ثمّ قال : رأيت رسول الله توضّأ مثل
(3) وضوئي هذا ، ثمّ قال : من توضّأ مثل
(4) وضوئي هذا ثمّ صلّى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه ، غفر الله ما تقدّم من ذنبه
(5)
 |
(1) سنن الدارميّ 1 : 176 ، سنن البيهقيّ 1 : 53 و 56 و 58 .
(2) صحيح البخاريّ 1 : 51 .
(3) في صحيح البخاريّ 1 : 51 بدل مثل (نحو)
(4) في صحيح البخاريّ 1 : 51 بدل مثل (نحو) أيضاً .
(5) سنن أبي داود 1 : 106 ، سنن البيهقيّ 1 : 48 ، سنن النسائيّ 1 : 64 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 96 ـ
4 ـ وفي نصّ آخر : رأيت رسول الله توضّأ وضوئي هذا ، ثمّ قال : من توضّأ مثل وضوئي هذا ثمّ قام فصلّى ركعتين لا يحدثّ نفسه بشيء ، غفر الله له ما تقدّم من ذنبه
(1) .
5 ـ وفي البيهقيّ : رأيت رسول الله توضّأ مثل ما رأيتموني توضّأت
(2) .
6 ـ وأخرج مسلم والدارقطنيّ بسندهما عن عطاء بن يزيد الليثيّ عن حمران [ واللفظ للدارقطنيّ ] : انّ عثمان دعا يوماً بوضوء فتوضّأ ، فغسل كفّيه ثلاث مرّات ، ثمّ غسل يده اليسرى مثل ذلك .
وفي مسلم والبيهقيّ زيادة [ ثمّ مسح رأسه ، ثمّ غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرّات ، ثمّ غسل اليسرى مثل ذلك ]
(3) .
ثمّ قال : رأيت رسول الله توضّأ نحو وضوئي هذا ، ثمّ قال رسول الله : من توضّأ نحو وضوئي هذا ثمّ قام فركع ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه ، غفر الله له ما تقدّم من ذنبه
(4) .
7 ـ قد نقلنا في ( عهد عثمان ) ما أخرجه مسلم من كلام عثمان عن وضوء الناس المغاير له ، وقوله : إلاّ أنيّ رأيت رسول الله توضّأ مثل وضوئي هذا ، ثمّ قال : من توضّأ هكذا غفر له ما تقدّم من ذنبه ، وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة
(5) .
في النصوص السابقة عدّة نقاط يمكن الاستفادة منها لتأييد ما ادّعيناه من أنّ الخليفة كان يريد تشكيل مدرسة وضوئيّة جديدة ضمن مخططه الكلّي في الشريعة .
 |
(1) سنن النسائي 1 : 65 ، سنن البيهقيّ 1 : 48 .
(2) سنن البيهقي 1 : 47 .
(3) صحيح مسلم 1 : 205 ، سنن البيهقيّ 1 : 68 .
(4) سنن الدارقطنيّ 1 : 83 | 14 ، صحيح مسلم 1 : 205 .
(5) صحيح مسلم 1 : 207 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 97 ـ
الاُولى : إنّ جملة عثمان (رأيت رسول الله توضّأ نحو وضوئي هذا) أوقوله (مثل وضوئي هذا) والمتكررة في عدّة أحاديث ، فيها دلالة على أنّ عثمان قد أحدث وضوءاً جديداً ، وأنّه قد جعل عمله هو المقياس والضابط في الوضوء حتّى تراه يقول (رأيت رسول الله توضّأ نحو وضوئي هذا) ولم يقل توضّأت كما رأيت رسول الله توضّأ !
فلو كانت المسألة عاديّة ، ولم يكن في التشريع عناية لقال الخليفة : توضّأت كما رأيت رسول الله يتوضّأ ، وما شابه ذلك من العبارات .
إنّ طرح عبارات كهذه على لسان الخليفة فيها إشارة نفسيّة خفيّة إلى أنّه يريد التأكيد على وضوئه ، فتراه يرجع فعل الرسول الى فعله ! ! !
الثانية : ما نقله من كلام عن رسول الله ، وقوله (من توضّأ مثل وضوئي هذا) أو (نحو وضوئيّ هذا) تعني أنّ له ( صلى الله عليه واله وسلم ) أكثر من وضوء واحد ، فنتساءل : هل كان النبيّ ( صلى الله عليه واله وسلم ) يتوضّأ بأكثر من طريقة في الوضوء ؟ ولماذا نرى تأكيده ( صلى الله عليه واله وسلم ) على الوضوء الثلاثيّ بالذات حتّى يجعله ممّا تغفر به الذنوب دون غيره ؟
في حين نعلم أنّ ابن عمر قد روى عن رسول الله ، أنّه قال عن وضوء المرّتين : (من توضّأ مرّتين أعطاه الله كفلين) ثمّ أعقبه ببيان الوضوء الثلاثيّ (هو وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي) ، ومعنى ذلك أنّ الفعل الثلاثيّ ليس له تعميم لجميع المؤمنين ، بل يختصّ بالرسول والأنبياء من قبله ، وقد يحتمل أن يكون من مختصّات النبوّة ، وعليه فإنّ توقّف الغفران على الوضوء الثلاثيّ دون غيره فيه تأمّل ، كما هو واضح .
الثالثة : في جملة ( لايحدث فيهما نفسه بشيء ) تحمل تزكية للخليفة وصيانة له ، فهو يريد إلزام المؤمن المسلم بقبول وضوئه المقترح والأخذ به دون تحديث النفس بشيء أو التشكيك في مشروعيّته ، وأنّ مثل هذا التعبّد يوجب غفران الذنوب ! !
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 98 ـ
هذا وقد أكّد أتباع الخليفة عثمان بن عفّان على الوضوء الثلاثيّ الغسليّ بكلّ الوسائل ، ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص :
روى عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جدّه ، عن النبيّ ، أنّه قال بعد أن توضّا الوضوء الثلاثيّ الغسليّ قوله ( صلى الله عليه واله وسلم ) : (فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم ، أو ظلم وأساء)
(1) .
وفي ابن ماجة : (فقد أساء أو تعدّى أوظلم)
(2) .
ففي هذا النصّ كغيره من النصوص السابقة إشارة إلى دور المحدّثين وأنصار الخليفة في التأكيد على وضوء عثمان ، فلو قبلنا بأنّ الزيادة على الغسلة الثالثة في الوضوء هي تعدّ وظلم ، فما معنى قوله : أو نقص ؟ !
ألم يتواتر عنه ( صلى الله عليه واله وسلم ) وروى صحابة أمثال ابن عبّاس ، وعمر ، وجابر ، وبريدة ، وأبي رافع ، وابن الفاكه : أنّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) توضّأ مرّة مرّة ؟
وألم يرو أبو هريرة ، وجابر ، وعبد الله بن زيد ، وابن عبّاس وغيرهم : أنّ رسول الله توضّأ مرّتين مرّتين ؟
وما معنى ما وراه ابن عمر عن رسول الله ، بأنّه قال عن المتوضّئ مرّة : ( هذا وضوء من لا تقبل له صلاة إلاّ به ) ، وعن المرّتين : ( هذا وضوء من يضاعف له الأجر مرّتين ) .
أو قوله ( صلى الله عليه واله وسلم ) في حديث آخر عن الوضوء الثلاثيّ : ( ومن توضّأ دون هذا كفاه ) .
فما معنى ( أو نقص فقد أساء وظلم ) إذاً ؟ ! !
فمن جهة نراه ( صلى الله عليه واله وسلم ) يقول عن المرّة : ( لا تقبل الصلاة إلاّ به ) ، وعن المرّتين :
 |
(1) سنن البيهقيّ 1 : 79 ، سنن أبي داود 1 : 33 | 135 .
(2) سنن ابن ماجة 1 : 146 | 422 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 99 ـ
( يضاعف له الأجر مرّتين ) وفي آخر : (كفلين) ، ومن جهة أخرى نرى عمر وبن شعيب يروي عن أبيه عن جدّه عبد الله بن عمرو بن العاصّ عن النبيّ أنّه قال : (أونقص فقد أساء أو ظلم) .
فكيف يمكن الجمع بين هذه الروايات ؟
ألم يتوضّأ رسول الله بعض وضوئه مرّتين وبعضه الآخر ثلاثاً ـ كما في حديث عبد الله بن زيد ين عاصم ـ ، وألم يرو أهل العلم عدم البأس في ذلك ؟
فكيف تتطابق هذه الأحاديث مع قوله : أو نقص ؟ وهل إنّ رسول الله ـ والعياذ بالله ـ قد أساء وظلم ؟ !
نعم ، إنّ الذي نحتمله هو : إنّ هذه الأحاديث وضعت من قبل أنصار الخليفة لترسيخ وضوء عثمان بن عفّان والأخذ به دون زيادة أو نقيصة وعدم تحديث النفس بشيء أو التشكيك في مشروعيته .
ومن يطالع أحاديث الوضوء يتساءل مع نفسه : لماذا تذيّل حكايات عثمان لصفة وضوء رسول الله بالذات بذيل مرويّ عنه ( صلى الله عليه واله وسلم ) ولا نلاحظ ذلك فيما حكاه غيره من الصحابة عن وضوء رسول الله ؟ ! !
ولماذا لا تذيّل أحاديث عثمان بهذا الذيل فيما حكاه عنه ( صلى الله عليه واله وسلم ) في الوضوء المسحيّ ؟ ! !
إنّ ما طرحناه من الشواهد لو قرن بعضها إلى بعض لدلّ على ما نريد الإشارة إليه ، وهو أنّ الخليفة ومن معه كانوا يسعون لبناء مدرسة وضوئيّة جديدة ، بل الأحرى بناء مدرسة فقهيّة جديدة .
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 100 ـ
النتيجة
بهذا يمكننا حصر أهم دواعي الخليفة الإتيان بالوضوء الجديد بما يلي :
1 ـ إنّ عثمان كان يرى لنفسه أهليّة التشريع ووجوب الاقتداء به كأبي بكر وعمر ، وكان يتساءل مع نفسه ، كيف يحق لعمر أن يشرّع أوينهي مصلحة ، ولا يحقّ لي ذلك ؟
2 ـ لمّا كان عثمان من أتباع مدرسة الاجتهاد الرأي ، كان يرى لنفسه المبرّر لطرح ما يرتئيه من أفكار وتشريعها للمسلمين ، وقد طبّق بالفعل ما ارتآه من فعل الرسول ـ حسب ما حكاه هو ـ واعتبره سنّة ، في حين أنّ ما نقله ينبئ بأنّ الفعل الثلاثيّ وفي الوضوء كان من مختصّاته ( صلى الله عليه واله وسلم ) لقوله : ( هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي) ، إذ إنّه قد بيّن وضوء المرّة وقال عنه : ( هذا وضوء لاتقبل الصلاة إلاّ به ) ، وعن المرّتين : ( هذا وضوء من يضاعف له الأجر مرّتين ) ، أمّا الثلاثة فقال عنها : ( هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ) ، أي إنّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) كان يعني بأنّ هذا الفعل ـ على فرض صحّة صدوره عنه ـ هو مختصّ به وبالأنبياء وليس حكماً عامّاً للمسلمين ، بل وضوء المرّتين هو ما يضاعف به الأجر ، ويمكن للمسلمين العمل به .
أمّا عثمان فقد جاء ليعمّم هذه الرؤية ويجعلها سنّة رسول الله يجب الاقتداء بها وفقاً لرأيه .
3 ـ المعروف عن عثمان أنّه كان من المتشدّدين في الدين ذلك التشدّد المنهي عنه ، حتّى قيل عنه بأنّه كان يغتسل كلّ يوم خمس مرّات ، وكان لا يردّ سلام المؤمن إذا كان في حالة الوضوء ، وقال هو عن نفسه بأنّه لا يمدّ يده إلى ذكره منذ بايع رسول الله ، وغيرها من الأخبار المنقولة .
ومن البيّن أنّ مثل هذه الحالة النفسيّة الميّالة إلى التزيّد والمبالغة في التطهّر تجعل صاحبها مهيّأً للتزيّد في عدد غسلات الوضوء ، ولتفضيل الغسل على