أحدهم أمام نهبهم لبيت مال المسلمين ، ولكي يطمئن الحكام ويصفو لهم الجوّ في تعدّيهم حدود الله وهم منغمسون في حياة اللهو والمجون في لياليهم الحمراء بين الغواني والقيان في قصورهم الباذخة ·
   والأدهى من كلّ ما تقدّم أن تصير ميتة الخارج على أمثال هؤلاء - في حساب دينهم - ميتة جاهليّة ! !
   ومهما يكن فإنّ هذا الموضوع متشعّب طويل قد ألجأنا منهج البحث في الإشارة إلى شيء منه في هذا السياق لتوضيح طرق التمويه الحكوميّة ، حتّى يقف المطالع على الوجه الكريه للأمويين ، وكيف كانوا يتلاعبون بالأحكام ، ويحرّفون الفرائض عن جهات شرائعها ، فتصير الأحكام عندهم تابعة للأهواء ، حين تركوا السنّة من بغض عليّ ! فيقرّبون مناوئي عليّ ، ويجعلونهم مراجع للحديث والإفتاء ولزوم الجمود على آرائهم وعدم التخطّي إلى غيرها ! !
   فترى معاوية يبذل أربعمائة ألف درهم لسمرة بن جندب لقاء نقله لـ ( رواية ) في أنّ الآية : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ ) قد نزلت في ابن ملجم (1)قاتل عليّ !
   قال المدائني عن عصر معاوية : وظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان أعظم الناس في ذلك بليّة القرّاء المراؤون والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقربوا من مجلسهم ، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل ، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها وهم يظنّون أنّها حق ، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها ولما تديّنوا بها (2).

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 : 73 .
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 : 59 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 202 ـ
   وبعد هذا يتّضح لنا كلام جعفر بن محمد الصادق بكل دقة وجلاء ، حين قال : ( أتدري لم أمرتم بالأخذ بخلاف ما تقول العامّة ؟
   قلت : لا !
   فقال : إنّ عليّاً لم يكن يدين الله إلاّ خالفته عليه الأمّة إلى غيره ، إرادة لإبطال أمره وكانوا يسألون أميرالمؤمنين عن الشيء لا يعلمونه ، فإذا أفتاهم جعلوا له ضدّاً من عندهم ليلبسوا على الناس (1).

خلاصة وآراء

   ونلخص ما مرّ في نقاط ثلاث :
   الاُولى : إنّ الحكومة الأمويّة تبنّت تدوين السنّة النبويّة ، وقد اتّضح لك حالها وكيفيّة تحريفها للمفاهيم ، وإبدالها بأخرى ... وتبيّن لك أنّ ذلك في العهد المرواني ، وهو من أشدّ الأزمنة وطأةً على الشريعة ، وكان الفقه يؤخذ قبل ذلك من أمثال ابن عمر وعائشة وأبي هريرة ! وأنّ ابن عمر قد أرشد المسلمين للأخذ بفقه عبدالملك بن مروان من بعده ! !
   الثانية : إنّ تدوين السنّة النبويّة جاء بإكراهٍ من السلطان ، وهذا ما يبرهن على أنّ للحكومة فيه مآرب وأهدافاً سياسيّة ، أشرنا إلى بعضها ، ابتداءً بتدوين ما ترتضيه وحذف ما لا ترتضيه ، وانتهاءً بتأصيل أصول هي بعيدة عن الشريعة وواقع النظرة الإنسانيّة ، وعرفنا أنّ فقه عليّ هو ممّا لا ترتضيه الحكّام ولا ينسجمون وإيّاه ·
   الثالثة : إنّ فكرة التدوين من قبل الحكّام نشأت بعد ثوران الرأي العام ضدّ الأمويين بمقتل الحسين لما نتج عنها من انشداد المسلمين إلى أهل البيت

(1) راجع بحث التعادل والتراجيح من أصول الإماميّة .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 203 ـ
  وإصرارهم على ضرورة العمل بالسنّة ، بالإضافة إلى وقوف بعض الصحابة أو التابعين أمام الحكّام التزاماً بالسيرة العمليّة لرسول الله ، ممّا حدى بالحكومة أن تفكّر بجدّيّة في مسألة تبنّي تدوين السنّة ، لمحاصرة ما عسى أن يستجدّ أمامهم من مشكلات في المستقبل ·
   وقد قلنا سابقاً إنّ اتّجاه الناس كان هو التحديث عن رسول الله ، لقول عثمان : ( إنّ ناساً يتحدّثون عن رسول الله ) ، أمّا نهج الخليفة والحكومة ، فقد كان الأخذ بالرأي ومعارضة الذين يتحدّثون وفق المدوّنات !
   وكان النهجان على تضادّ ، فالحكّام لا يسمحون لهؤلاء في التحدّث بكلام الرسول ، لأنّ فيه توعية الناس ووقوفهم على الاجتهادات الخاطئة ، أمّا أولئك فقد كانوا يحدّثون الناس رغم كلّ الضغوط والملابسات !
   فقد جاء في سنن الدارميّ :
   إنّ رجلأ جاء إلى أبي ذرّ ، وقال له : ألم تنه عن الفتيا ؟
   فرفع رأسه ، فقال : أرقيب [ أنت ] عليّ ؟ ... لو وضعتم الصمصامة على هذه - وأشار إلى قفاه - ثمّ ظننت أنّي أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) قبل أن تجيزوه عليّ ، لأنفذتها (1).
   وقال معاوية : ما بال رجال يتحدّثون عن رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) أحاديث قد كنّا نشهده ، ونصحبه فلم نسمعها منه ... فقام عبادة بن الصامت وعارضه (2).
   لقد كان معاوية يريد التشكيك بججّيّة أحاديث هؤلاء الرجال ـ ليبقى هذا التشكيك على مدى الأجيال ـ إلاّ أنّ موقف عبادة بن الصامت ومعارضته إيّاه قد ذهبت بجهود معاوية سدى !
   تبيّن وفق ما قلناه أنّ الحكّام لمّا رأوا منافسيهم يتسلّحون بسلاح الحديث ،

(1) سنن الدارميّ 1 : 136 ، صحيح البخاري 1 : 27 ، حجّيّة السنّة : 3 ـ 464 .
(2) صحيح مسلم 3 : 1210| 80 باب الصرف وبيع الذهب من كتاب المساقاة .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 204 ـ
  ناوروهم بالدخول إليهم من تلك الزاوية ومن تلك المنفذ حتى وصل الامر بالزهري المكره على التدوين أن يقول : حضور المجلس بلا نسخه ذل ، وكان يامر بنشر الكتب (1) نعم ان السياسة جدّت لتطبيق ما رسم بحذافيره ، وقد نجحوا في ذلك إلى حدّ بعيد ... ! فأدخلوا في الحديث ما لا يحصى من الموضوعات ، وقرّبوا القصّاصين ليرووا ما يحلوا لهم .
   فقد ذكر ابن حجر : أنّ معاوية بن أبي سفيان كلّف كعب الأخبار لأن يقصّ بالشام .
   قال الشيخ أبو جعفر الاسكافيّ : إنّ معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في عليّ تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل على ذلك جعلأ يرغب في مثله فاختلقوا ما أرضاه ، منهم : أبو هريرة ، وعمرو بن العاصّ والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين : عروة بن الزبير (2).
   وقال ابن عرفة ، المعروف بنفطويه : إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيّام بني أميّة ، تقرّباً إليهم بما يظنّون أنّهم يرغمون به أنوف بني هاشم (3).
   وقال الإمام محمد عبدة :
   إنّ عموم البلوى بالأكاذيب حقّ على الناس في دولة الأمويين ! فكثر الناقلون وقل الصادقون ، وامتنع كثير من أجلة الصحابة عن الحديث إلاّ لمن يثقون بحفظه (4) .
   وقال الأستاذ أحمد أمين :
   ومن الغريب ، أنّنا لو اتّخذنا رسماً بيانيّاً للحديث لكان شكل هرم ، طرفه

(1) انظر حليه الاولياء 3 : 366 ، البداية والنهاية 9 : 345 .
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 : 63 ، المعرفة والرجال للبسيوي ( ت 277 هـ ) ترجمة أبي هريرة .
(3) النصائح الكافية : 89 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11 : 46 .
(4) شيخ المضيرة : 202 ، عن تاريخ الإمام محمد عبده 2 : 347 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 205 ـ
  المدبّب هو عهد الرسول ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، ثمّ يأخذ في السعة على مرّ الزمان ، حتّى نصل إلى القاعدة ، فهي أبعد ما تكون عن عهد الرسول ، مع أنّ المعقول كان العكس ، فصحابة الرسول أعرف الناس بحديثه ، ثمّ يقلّ الحديث بموت بعضهم مع عدم الراوي عنه وهكذا .
   ولكنّا نرى أنّ أحاديث العهد الأمويّ أكثر من أحاديث عهد الخلفاء الراشدين ، وأحاديث العصر العبّاسيّ أكثر من أحاديث العهد الأمويّ (1).
   ثمّ يعلّل ذلك بسبب نشاط حركة الهجرة في طلب الحديث ، ثمّ يضيف إليه عامل سعي اليهود والنصارى في محاولة مسخ الشريعة ، متناسياً دور السلطة وأهدافها في إبعاد الخطّ الإسلاميّ وتحريف مجراه .
   والذي يؤسفنا حقّاً أن نرى كتّاباً قد وصلوا إلى الحقيقة ، لكنّهم يعزون الإسرائيليّات إلى كيد اليهود ، ودورهم في تحريف الإسلام ولم يذكروا الأيدي الأمويّة !
   وهنا نتساءل :
   هل يقوى اليهود ـ الذين كانوا يعطون الجزية ، وهم صاغرون ـ على ممارسة دورهم الهدّام بعيداً عن أيّ دعم من قبل السلطة الحاكمة ؟
   وكيف نرى ابن حجر قد حصر الوضع في الحديث في : الخوارج والروافض وغيرهم من المبتدعة ! ! ... حيث قال في مقدمة فتح الباري : ثمّ حدث في أواخر التابعين تدوين الآثار ، وتبويب الأخبار ، لمّا انتشر العلماء في الأمصار ، وكثر الابتداع من الخوارج والرافضة (2)!
   فهل يمكن للروافض أن يضعوا الأحاديث وينشروها بين المسلمين ، في الوقت الذي كانوا فيه يعانون من الاضطهاد والتشريد والتقتيل ؟ !

(1) ضحى الإسلام 2 : 128 ـ 129 .
(2) فتح الباري ( المقدّمة ) : 4 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 206 ـ
   وهل إنّ بدايات وضع الحديث قد جاءت على يد هؤلاء حقّاً ؟ !
   وكيف يتهجّم ابن حجر على طوائف من المسلمين ، ويترك الكلام عن تأثيرات الحكّام في الأحكام الشرعيّة ورغبتهم الجامحة في وضع الحديث ، خصوصاً في العهد العبّاسيّ ؟ !
   لا ندري كيف نسب ابن حجر الوضع إلى الخوارج والرافضة ـ مع علمنا بأنّهم من المخالفين للحكّام دوماً ـ ولم يعز ذلك إلى بني أميّة الذين أسلموا تحت أسنّة الحراب ، وما انفكّوا عن محاربة الإسلام حتّى آخر لحظة قبل دخولهم فيه مكرهين ! !
   وهل بإمكان الرافضة أن يضعوا الحديث ، فيتمكنوا من تفريق وحدة الاُمة ، بكل تلك السعة وذلك الشمول ، وهم المضطهدون الملاحقون من قبل عيون الحاكم المتسلط على الرقاب بقوة السلاح ، وفي عصر التدوين الحكومي بالذات ؟ !
   وإذا كان الرافضة يرفضون فقه الحاكم القائل : ( لو قال برأسه كذا ، قلنا بسيفنا كذا ) ..فهل من المعقول أن يسمح ذلك الحاكم بانتشار فقه وحديث رافضيهم ؟ !
   نعم ، إن الرافضة ما كانوا يقوون على مواجهة شدة هيجان تيار الحكومة جهرة ، وما كانوا يمارسون عباداتهم على سنة النبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) إلاّ خفية ..وإليك هذا الخبر لتزداد وضوحاً :

العبادة عند الرافضة !

   أخرج أحمد وبسنده إلى أبي مالك الأشعري ، إنه قال لقومه :
   اجتمعوا أُصلي بكم صلاة رسول الله ، فلما اجتمعوا
   قال : هل فيكم أحد غيركم ؟
   قالوا : لا ، إلاّ ابن اُخت لنا .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 207 ـ
   قال : ابن اُخت القوم منهم .
   فدعا بجفنة فيها ماء فتوضأ ، ومضمض واستنشق ، وغسل وجهه ثلاثاً ، وذراعيه ثلاثاً (1)، ومسح رأسه وظهر قدميه .
   ثم صلى بهم ، فكبر ثنتين وعشرين تكبيرة (2).
   فأبو مالك الأشعري كان يريد تعليم قومه وضوء وصلاة رسول الله ، لكنه كان يتخوف من الحكام وبطشهم فتساءل ليطمئن ( هل فيكم أحد غيركم ؟ ) ، وهذا دليل على أن المسلمين لم يكنونوا مختارين في ممارسة عباداتهم ، بل كانوا يجبرون على إيتان ما يريده الحكام ، وأن المتخلف في أخذ الأحكام عنهم يعد في قاموس هؤلاء ( رافضياً ) من الرافضة !

أعلام المسلكين في العهد الأموي

   تتوصلنا فيما مضى إلى أن هناك من كانوا يمثلون الامتداد لنهج الناس ـ الذين يتحدثون عن رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) ـ في هذا العهد ، وهم :
  1 ـ عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق .
  2 ـ عبدالله بن عباس ( حبر الاُمة ) .
  3 ـ أنس بن مالك ( خادم الرسول ) وأما الذين مثلوا الامتداد لنهج الخليفة عثمان وناصروا مسلك الحكومة ، فهم :
  1 ـ عائشة بنت أبي بكر .

(1) وسنوضح كيفية الغسل الثالث عند مدرسة المسح وأتباع السنة النبوية في الجانب الروائي من هذه الدراسة .
(2) مسند أحمد 5 : 342 ومن وقاحة المتعصبة واتباع السلطان أنهم غيروا هذا النص في المصنف لعبد الرزاق 2 : 63 وجعلوا الوضوء فيه غسلي ، لكن الحقيقة لا تخفى على الباحث ، لان الوضوء الغسلي لا موجب للخوف فيه ! !

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 208 ـ
  2 ـ الربيع بنت معوذ بن عفراء .
  3 ـ الحجاج بن يوسف الثقفي .
   مع علمنا ، بأن عائشة ـ كما أسلفنا ـ نراها تدعو إلى لزوم غسل الرجلين في هذا العهد رغم مخالفتها لرأي عثمان ، لا لأنها رأت رسول الله فعل ذلك ، بل لأنه قال : ( ويل للأعقاب من النار ! ) ... فإنها لو كانت تريد دعوة أخيها عبدالرحمن إلى غسل رجليه ، للزمها أن تستدل بفعل النبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) لا بقوله ، إذ يتعسر الاستدلال بهذه الجملة على المطلوب .
   ولنا في الفصل الثاني من هذه الدراسة ( الوضوء في الكتاب واللغة ) وقفة مع أحاديث ( أسبغوا الوضوء ) و( أحسنوا الوضوء ) و ( ويل للأعقاب ) ، ومدى دلالتها على لزوم غسل الرجلين وتثليث الغسلات وسندرس قيمة التحسينيات التي عدت من أقسام المصالح ، وكيفية استغلال الحكام لهذه المفاهيم لترسيخ وضوء الخليفة الثالث .
   ومن المؤسف أن نرى الفقهاء قد عدوا الأحاديث السابقة دليلاً ثالثاً ـ بعد الكتاب والسنة ـ على لزوم غسل الرجلين ، وهو مما يعضد كون المدرسة العثمانية في الوضوء قد أخذت طابعاً فقهيّاً ، وأن العلماء جاؤوا ليدعموها بالدليل وينفوا الضعيف عنها بالتأويل ، بغية إشاعتها ، ومحاولة لتطبيع العامة عليها .
   فاتضح ولحد الآن أن الناس في الوضوء هم :
  1 ـ علي بن أبي طالب .
  2 ـ عبدالله بن عباس .
  3 ـ طلحة بن عبيدالله .
  4 ـ الزبير بن العوام .
  5 ـ سعد بن أبي وقاص .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 209 ـ
  6 ـ عبدالله بن عمر ( قبل مقتل عثمان ) .
  7 ـ عائشة بن أبي بكر ( قبل مقتل عثمان ) .
  8 ـ محمد بن أبي بكر ( كما في كتاب عليّ إليه لما ولاّه مصر ) .
  9 ـ عبدالرحمن بن أبي بكر .
  10 ـ أنس بن مالك .
   مع العلم أن المروي عن أبن عمر كان هو المسح ، فقد أخرج الطحاوي بسنده ، عن نافع ، عن ابن عمر ، إنه كان إذا توضأ ونعلاه في قدميه مسح ظهور قدميه بيديه ، ويقول : كان رسول الله يصنع هكذا (1)!
   إلاّ أنه غير موقفه في العهد الأموي ، ونقلت عنه أحاديث في غسله الثلاثي للأعضاء ولا ننفي أن تكون تلك الأقوال المنسوبة إليه قد وضعت من قبل الأمويين ، وأنه لم يقل بها أصلا مع تأكيدنا لتعاونه مع الدولة .
   وعليه ... فإن وضوء الناس في العهد الأموي لم يكن ضعيفاً أمام أنصار الخليفة والحكومة ، لكنه أخذ في الضعف شيئاً فشيئاً حتى انحصر ببعض التابعين وأهل بيت رسول الله ، إذ إن الحكومة بما لها من قوة إعلامية وقدرة تنفيذية كانت وراء ترسيخ فقه عثمان .
   وقد مر عليك أن عبدالرحمن بن أبي بكر وأخاه محمداً ، وكذا ابن عمر كان وضوؤهم هو المسح ، وذلك يدلل ويؤكد على أن سيرة المسلمين كانت هي المسح منذ عهد النبي الأكرم ( صلى الله عليه واله وسلم ) حتى عهد الشيخين (2)، لما أتضح لك من قبل من عدم وجود الخلاف في عهدهما ، وترى الآن فعل أبنائهما في الوضوء .
بل ذكر العيني في عمدة القارئ أحاديث المسح وعده منها : حديث رضي الله عنه اخرجه ابن شاهين في كتاب الناسخ والمنسوخ(3).
   وإن مواقف الصحابة وأبنائهم من أمثال أنس بن مالك وعبدالله بن عباس وعبد الرحمن بن أبي بكر ، كانت ذات بُعد توجيهي ، وهي تومئ إلى ديمومة

(1) شرح معاني الآثار 1 : 35 | 160 .
(2) أما ما نسب إلى الخليفة عمر بن الخطاب من أنه كان يغسل رجليه ، فهو مما نبحثه في الجانب الروائي من هذه الدراسة إن شاء الله تعالى .
(3) عمدة القارئ 2 : 240 باب موجب الوضوء وانظر تفسير الطبري كذلك .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 210 ـ
  خط السنة النبوية ، رغم مخالفة الحكام له .
   لقد أوصلنا البحث إذاً إلى أن البعض من العشرة المبشرة ، وزوجات النبيّ ، وخدمه ، وبعض كبار الصحابة من أمثال ابن عباس وعلي بن أبي طالب و ... قد نقلوا لنا الوضوء الثنائي المسحي وعدوه سنة نبويّة يجب العمل بها .
   بهذا ... فقد وقفنا على بعض خلفيات المسألة ، واتضح لنا جهل من يقول : هذا هو وضوء الرافضة أو الشيعة فقط ، بل عرفت بأنه وضوء رسول الله ، ووضوء كبار الصحابة .
  لماذا إذن ؟ !
   بعد هذا نتساءل : لماذا لا نرى قائلاً بالمسح في المذاهب الأربعة اليوم رغم مشروعيته منذ زمن الرسول إلى هذا العهد ورغم تناقل الفقهاء والمحدثين ذلك في كتبهم ؟ وكيف صار المسلمون لا يقبلون ذلك الوضوء وينظرون إليه بارتياب واستنكار ؟ ! ولماذا يتهم القائل بالمسح بالزندقة والابتداع والخروج من الدين ، رغم ثبوته والتزام كبار الصحابة به وفعلهم له ؟ !
   وكيف يقول ابن كثير : ومن أوجب من الشيعة مسحها كما يمسح الخف ، فقد ضل وأضل (1)، في حين نراه بعد أسطر من كلامه هذا ينقل عن جملة من الصحابة ـ يزيدون على العشرة ـ أنهم قد كانوا يقولون بالمسح !
   وكذا الحال بالنسبة للشهاب الخفاجي في قوله : ومن أهل البدع ، من جوّز المسح على الأرجل بدون الخف ، مستدلاً بظاهر الآية (2).
   وقال الآلوسي : لا يخفى أن بحث الغسل والمسح ، مما كثر فيه الخصام ، وطالما زلت الأقدام ...

(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2 : 45 .
(2) حاشية الشهاب على البيضاوي 3 : 221 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 211 ـ
   إلى أن يقول : ... فلنبسط الكلام في تحقيق ذلك ، رغماً لاُنوف الشيعة السالكين من كل سبل حالك (1).
   كيف يتحامل هؤلاء على الشيعة ، والصحاح المعروفة مليئة بما يدل على مشرعية المسح ؟ !
   وهل إن أتباع رأي فقهي لا يرتضيه الآخرون ، يُعدّ في قاموس ابن كثير والخفاجي وأضرابهما ضلالة ؟
   ألم يكن معنى الضلالة ، هو الابتعاد عن الطريق ، وهل إن الشيعة الإمامية قد ابتعدوا حقاً عن وضوء رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، أم إنهم قد ثبتوا عليه رغم سياسات الحكام الضاغطة ؟
   وهل أن المسح على الأرجل هو وضوء المبتدعة ، أم إنها سنة رسول الله وما نزل به القرآن ؟
   وهل أن أُولئك الصحابة ـ الذين رووا المسح ـ كذبوا على رسول الله ، أم إنه ( صلى الله عليه واله وسلم ) فعل ما يوقع الناس في الالتباس ـ والعياذ بالله ـ أم إن السياسة بوسائلها الإعلامية هي التي شوهت هذه السنة خلال العصور ، لدواعٍ لها ؟ !
   ألم يكن وضوء الشيعة هو وضوء الناس الذين مثلوا الامتداد لوضوء النبيّ الأكرم ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، بعد أن عارضوا عثمان ، وتمسكوا بوضوء رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) وكانوا يتحدثون عنه ؟
   أو لم تكن معارضتهم لعثمان ، من أجل الثبات على السنة النبوية المباركة وتخطئتهم لاجتهاداته ؟
   فكيف يصح إذاً أن يُرمى الشيعة بالابتعاد عن خط السنة ، وهم الثابتون عليه رغم كيد وقساوة الحاكم العامل بالرأي التارك للسنة النبوية ؟ !

(1) روح المعاني 6 : 74 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 212 ـ
   إن نقل الأخبار الحوارية والعينية لخلاف الناس مع الحكومة ، نحسبه كافياً لرسم معلم الخلاف بين الاُمة ، وأنهم لا يستقرون ولحد العهد الأموي على وضوء واحد ، بل كان لكلا الوضوءين أنصار وأتباع يذودون عما رووه وارتأوه .
   وإضاءةً لهذه المسألة نذكر نصوصاً اُخرى لصحابة آخرين لم ترد أسماؤهم لحد الآن ، لكي نقف على ضعف وضحالة تلك النسب المكذوبة إلى مدرسة المسح ، ولإثبات أن المسح هو حقيقة فعل رسول الله وكبار الصحابة وهو ما نزل به الوحي من عند الله ( عز وجل ) .

أسماء بعض الصحابة الذين قالوا المازني بالمسح

عباد بن تميم بن عاصم المازني (1):
   أخرج الطحاوي بسنده ، عن عباد بن تميم ، عن عمه [ عبدالله ] : إن النبي توضأ ، ومسح على القدمين ، وأن عروة كان يفعل ذلك (2).
   وأخرج ابن الأثير بسنده ، عن عباد بن تميم ، عن أبيه ، قال : رأيت رسول الله توضأ ، ومسح على رجليه (3).
   وجاء في الإصابة ، عن عباد بن تميم المازني ، عن أبيه ، قال : رأيت رسول الله يتوضأ ، ويمسح على رجليه .
   قال : ورجاله ثقات (4).
   وقال الشوكاني : أخرج الطبراني ، عن عبادة بن تميم ، عن أبيه ، قال : رأيت

(1) هو ابن أخ عبدالله بن زيد بن عاصم المازني الأنصاري صاحب حديث الوضوء .
(2) شرح معاني الآثار 1 : 35 | 162 ، وعروة هنا هو ابن الزبير الذي سيأتي ذكره بعد قليل .
(3) اُسد الغابة 1 : 217 .
(4) الإصابة 1 : 185 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 113 ـ
  رسول الله يتوضأ ، ويمسح على رجليه (1).
   قال ابن حجر : روى البخاري في تاريخه ، وأحمد في مسنده ، وابن أبي شيبة ، وابن أبي عمر ، والبغوي ، والباوردي ... وغيره ، كلهم من طريق أبي الأسود .
   وجاء في كنز العمال : مسند تميم بن زيد ، عن عبادة بن تميم ، عن أبيه ، قال : رأيت رسول الله توضأ ، ومسح بالماء على لحيته ورجليه .
   ( ش ، حم ، خ في تاريخه ، والعدني ، والبغوي ، والباوردي ، وأبو نعيم قال في الإصابة : رجاله ثقات ) (2).
   وهكذا رأينا أن عباداً هذا ، قد روى الوضوء المسحي عن رسول الله بطريقين :
   الاول : عن أبيه ، تميم بن زيد المازني ، وقد جاءت أسانيده في أغلب المصادر .
   الثاني : عن عمه عبدالله بن زيد بن عاصم وهو ما أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار .
   ولم ترد عنه عن عمه رواية في الوضوء الثلاثي الغسلي ، وهذا ما يعضد ويرجح أن يكون المروي عن عبدالله بن زيد بن عاصم المازني ـ عم عباد ـ في الثنائي المسحي هو الصحيح عنه ، وبه يضعف المنسوب إليه من الوضوء الثلاثي الغسلي ، وهذا ما سنبحثه في الفصل الأول من هذا الكتاب بإذن الله تعالى .
أوس بن أبي أوس الثقفيّ :    أخرج المتقي بسنده إلى أوس بن أبي أوس الثقفي ، أنه رأى النبي أتى كظامة

(1) نيل الأوطار 1 : 210 .
(2) كنز العمال 9 : 429 | 26822 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 214 ـ
  قوم بالطائف فتوضأ ، ومسح على قدميه (1).
   وأخرج الحازمي بسنده إلى أوس ، أنه رأى النبي أتى كظامة قوم بالطائف فتوضأ ، ومسح على قدميه (2).
   وأخرج الطبري بسنده عن أوس ، قال : رأيت رسول الله أتى سباطة قوم فتوضأ ، ومسح على قدميه (3).
   قال الشوكاني : أخرج أبو داود ، عن حديث أوس بن أبي أوس الثقفي ، أنه رأى رسول الله أتى كظامة قوم ( بالطائف ) فتوضأ ، ومسح على نعليه وقدميه (4).
   وأخرج ابن الاثير في اُسد الغابة ، وأحمد في مسنده ، والمتقي في الكنز وغيرهم ، بسندهم عن أوس بن أبي أوس ، أنه قال : رأيت رسول الله توضأ ، ومسح على نعليه ، ثم قال إلى الصلاة (5).
   يوقفنا اختلاف الروايات عن أوس ـ بورود المسح على القدمين تارة ، وعلى النعلين اُخرى ـ على واحد من اُمور ثلاثة :
   الاول : عدم عناية الرواة في ضبط الحديث عنه ، ويحتمل أن يكون نقلهم عنه أنه مسح على النعلين ، هو تسامح منهم ، باعتقادهم أن كلا اللفظين يدلان على حقيقة واحدة في حين أن المسح على النعلين غير المسح على القدمين .
   الثاني : التأكيد في المسح على النعل ، هو من صنع الحكام ، فقد عرفنا أنهم قد قاموا بتدوين السنة الشريفة ، وليس من البعيد اختلاقهم هذا الحديث عنه ( صلى الله عليه واله وسلم ) وغيره .


(1) كنز العمال 9 : 476 | 27042 .
(2) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار 1 : 61 .
(3) تفسير الطبري 6 : 86 .
(4) نيل الأوطار 1 : 209 ، سنن أبي داود 1 : 41 | 160 .
(5) اُسد الغابة 1 : 140 : مسند أحمد 4 : 8 و9 و 10 ، كنز العمال 9 : 476 ح 27041 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 215 ـ
   الثالث : القول بما ذهب إليه أحمد بن محمد المغربي ، في كتابه (فتح المتعال في أوصاف النعال) ، والشيخ الطوسي في التهذيب : بأن الوضوء في النعال العربية لا تمنع المتوضي من المسح على قدميه حال لبسه وتنعله (1).
   وعليه : فإن صدور المسح عنه ـ كما بيناه سابقاً ـ ثابت ، أما القول بزيادة لفظ ( نعليه ) في هذه الرواية ، كما حكاه ابن أبي داود والشوكاني ، أو تبديل لفظ ( قدميه ) بـ ( نعليه ) كما جاء في خبر ابن الأثير ..فلا يمنعان من إثبات المطلوب ، ولا يخدشان في حجية الخبر .
   وقد وجدنا لدى ابن عبدربه في الاستيعاب تأيداً لما ذهبنا إليه ، يقول : ولأوس بن حذيفة ـ وهو اسم أبي أوس ـ أحاديث منها : المسح على القدمين (2).
   وإن قال : في إسناده ضعف ! !
رفاعة بن رافع :    أخرج ابن ماجة ، بسنده إلى رفاعة بن رافع ، أنه كان جالساً عند النبي ، فقال : ( إنها لا تتم صلاة لإحد حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى ، يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين(3)) .
   وأخرج الطحاوي في شرح معاني الآثار ، خبر رفاعة مسنداً كذلك (4).
   قال السيوطي : أخرج البيهقي في سننه ، عن رفاعة بن رافع : إن رسول الله قال للمسيء صلاته : ( إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله ، يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين ) (5).

(1) تهذيب الأحكام 1 : 65 ، من لا يحضره الفقيه 1 : 30 .
(2) الاستيعاب 1 : 120 .
(3) سنن ابن ماجة 1 : 156 | 460 ، ومثله في تفسيرالطبري .
(4) شرح معاني الآثار1 : 35 | 161 .
(5) الدر المنثور 2 : 262 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 216 ـ
   وقد أخرج هذا الحديث كل من : ابن أبي داود في سننه(1)، والنسائي (2)، والحاكم (3).
   وقال الحاكم : إنه صحيح على شرط الشيخين ... ووافقه على ذلك الذهبي في تلخيصه .
   وقال العيني : حسنه أبو عليّ الطوسي ، وأبو عيسى الترمذي ، وأبو بكر البزاز وصححه : الحافظ ابن حبان ، وابن حزم (4).
   نرى في جميع هذه النصوص جملة : ( حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله ) التي تشير إلى مسلك الرأي ، وأنهم سيؤولون ويجتهدون في معنى الإسباغ ـ وسيقف القارئ على ذلك في الفصل الثاني من هذه الدراسة ـ وقد وقفت سابقاً على كلام الحجاج وتعليله بأنه : ( أقرب إلى الخبث ) ، أو قول عائشة لعبد الرحمن : ( إن رسول الله قال ويل للأعقاب من النار ) أو أنه ( صلى الله عليه واله وسلم ) قال : ( أسبغوا الوضوء ) وأن عائشة وابن عمر وأبا هريرة وعبدالله بن عمرو بن العاص قد أدرجوا هاتين الجملتين معاً للدلالة على الغسل ، وقد مثل علماء الحديث للإدراج بها .
   فيحتمل أن يكون رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) قد أراد بقوله : ( أن يسبغ كما أمره الله به ) الإشارة إلى أن الإسباغ يتحقق بغسلتين لا أزيد ، لما تواتر عنه ( صلى الله عليه واله وسلم ) وثبت عند الفريقين ، اما تحقق الإسباغ بثلاث مرات فهذا ما لا تقبله مدرسة المسح وأتباع أهل البيت ، وسنتعرض إلى ذلك مفصلاً في الفصلين الأول والثاني .
   ومن الظريف هنا أن نذكر عبارة لمحشي سنن ابن ماجة ، حيث يقول ، إن قوله : ( يمسح برأسه ورجليه ) يجب حمله على الغسل بأدلة خارجية ، كما حمل القرآن عليه !

(1) سنن أبي داود 1 : 227 | 858 ، وكذا سنن الدارمي 1 : 305 .
(2) سنن النسائي 2 : 225 ، وكذا في سنن ابن ماجة 1 : 156 | 460 .
(3) مستدرك الحاكم 1 : 241 .
(4) عمدة القاري 2 : 240 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 217 ـ
   كانت هذه نماذج اُخرى لوضوءات صحابة آخرين ، تراهم يمسحون ويؤكدون على أن المسح هو من وضوء النبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، عرضناها لدحض اتهامات المغرضين الذاهبين لكل سبيل حالك !
   ونأتي بنماذج اُخرى لوضوءات بعض التابعين ، وبعض أهل البيت ، حتى يتبين لنا استمرار خط المسح ، للتأكيد على أن المسح ليس من مبتدعات الروافض والشيعة ، كما يقولون .

وضوء بعض التابعين وأهل البيت

عروة بن الزبير والوضوء :
   مر سابقاً خبرعباد بن تميم عن عمه زيد بن عاصم المازني ـ صاحب حديث الوضوء ـ وأنه أخبر بأن رسول الله كان يتوضأ ويمسح على رجليه ، ونص الخبر هو : أخرج الطحاوي بسنده عن عباد بن تميم ، عن عمه : ان النبي توضأ ومسح على القدمين ، وان ( عروة ) كان يفعل ذلك (1).
   ففي هذا النص ترى عروة بن الزبير يمسح على القدمين .
   وجاء في المصنف لعبدالرزاق ، عن هاشم بن عروة ، أن أباه كان يقول بالمسح على الرجلين ، لكنه رجع عنها إلى الغسل ، لقوله : ( وأرجلكم إلى الكعبين ) ، والنص :
   عبدالرزاق عن معمر عن هشام بن عروة ، ان أباه قال : إن المسح على الرجلين رجع إلى الغسل في قوله : ( وأرجلكم إلى الكعبين )(2).

(1) شرح معاني الآثار 1 : 35 | 162 .
(2) المصنف لعبدالرزاق 1 : 21 ، المصنف لابن أبي شيبة 1 : 31 ـ ح 9 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 218 ـ
   وقد اختلف الرجاليون في هشام(1)قدحاً ومدحاً ، وفيما نسبه إلى أبيه .
   فقال يعقوب بن شيبة : ثبت ، ثقة ، لم ينكر عليه شيء إلاّ بعدما صار إلى العراق ، فإنه انبسط في الرواية عن أبيه ، فأنكر ذلك عليه أهل بلده ، والذي يرى أن هشاماً يسهل لأهل العراق أنه كان لا يحدث عن أبيه إلاّ بما سمعه منه ، فكان تسهله أنه أرسل عن أبيه مما كان يسمعه من غير أبيه عن أبيه .
   وقال عبدالرحمن بن يوسف بن خراش : كان مالك لا يرضاه ، وكان هشام صدوقاً تدخل أخباره في الصحيح ، بلغني أن مالكاً نقم عليه حديثه لأهل العراق .
   وقال علي بن محمد الباهلي ، عن شيخ من قريش : أهوى هشام بن عروة إلى يد أبي جعفر المنصور يقبلها فمنعه ، وقال : يا ابن عروة إنا نكرمك عنها ، ونكرمها عن غيرك .
   قال شعبة : لم يسمع هشام حديث أبيه في مس الذكر ، قال يحيى ، فسألت هشاماً ؟ فقال : أخبرني أبي .
   توفي هشام بن عروة ، ومولى للمنصور في يوم واحد ، فخرج المنصور بهما ، فبدأ بهشام بن عروة فصلى عليه وكبر عليه أربع تكبيرات بالقرشية ، وكبر على هذا خمس تكبيرات بالهاشمية .
   وفي رواية ، قال : صلينا على هذا برأيه ، وعلى هذا برأيه .
   أما عروة بن الزبير ، ( أبو هشام ) فهو أخو عبدالله ، وكان بينه وبين أخيه عبدالله بن الزبير عشرون سنة .
   وعلى ضوء ما تقدم نستبعد أن يكون عروة بن الزبير قد رجع عن رأيه في المسح على القدمين إلى القول بالغسل ، وما أخذ به ابنه هشام ضعيف لما عرفت

(1) جميع الأقوال اللاحقة اُخذت من تهذيب الكمال 30 : 238 ـ 241 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 219 ـ
  من حاله ولما قدمه من دليل وذكره من تعليل وهي القراءة القرآنية ، مع العلم ان سندرس الوجوه القرآنية لاحقاً .

الحسن البصري والوضوء :    هو من أعلام التابعين ، حضر يوم الدار(1).
وولي القضاء في زمن عمر بن عبدالعزيز(2).
   قال أبو هلال الراسبي ، عن خالد بن رباح الهذلي : سئل أنس بن مالك عن مسألة ، فقال : سلوا مولانا الحسن .
   قالوا : يا أبا حمزة نسألك ، تقول سلوا الحسن مولانا ؟
   قال : سلوا مولانا الحسن ، فإنه سمع وسمعنا ، فحفظ ونسينا(3).
   قال الذهبي في سير الأعلام : قال قائل : إنما أعرض أهل الصحيح عن كثير مما يقول فيه الحسن : عن فلان ، وإن كان مما ثبت لُقيّهُ فيه لفلان المعين ، لأن الحسن معروف بالتدليس ، ويدلس عن الضعفاء ، فيبقى في النفس من ذلك ، فننا وإن ثبتنا سماعه من سمرة ، يجوز أن يكون لم يسمع فيه غالب النُسخة التي عن سمرة .
والله العالم (4).
   كان هذا بعض الشيء عن الحسن البصري ، وفي مدحه الكثير ، وقد مر عليك سابقاً كلام أنس بن مالك ـ خادم الرسول ـ وكيف كان يوصي الناس للأخذ عن مولانا الحسن ! !
   قال الزهري : العلماء أربعة : ابن المسيب بالمدينة ، والشعبي بالكوفة ،

(1) راجع ترجمته في تهذيب الكمال 6 : 96 .
(2) سير أعلام النبلاء 4 : 588 .
(3) تهذيب الكمال 6 : 104 .
(4) سير أعلام النبلاء 4 : 588 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 220 ـ
  والحسن البصري بالبصرة ، ومكحول بالشام (1).
   فالحسن كان له اتصال وثيق بالحكام ، وصدور هذه الأقوال فيه إنما جاء لهذا الغرض ، حتى قيل بأن السياسة الأموية كانت مبتنية على دعامتين : لسان الحسن وسيف الحجاج ولولاهما لوئدت الدولة المروانية !
   والآن نتساءل عن موقفه في الوضوء ، وهل إنه كان يدعو إلى مسح الأرجل أم إلى غسلها ، والنصوص المنقولة عنه تحتمل كلا الوجهين ؟
   جاء في الاحتجاج للطبرسي : عن ابن عباس قال : لما فرغ عليّ من قتال أهل البصرة ، وضع قتباً على قتب ثم صعد عليه فخطب ، فحمد الله وأثنى عليه ، فقال :
   ( يا أهل البصرة ، يا أهل المؤتفكة ، يا أهل الداء العضال ، أتباع البهيمة ، يا جند المرأة ، رغا فأجبتم ، وعقر فهربتم ، ماؤكم زُعاق ، ودينكم نفاق ، وأخلاقكم دقاق ) ، ثم نزل يمشي بعد فراغه من خطبته فمشينا معه ، فمر بالحسن البصري وهو يتوضأ فقال : يا حسن أسبغ الوضوء .
   فقال : يا أمير المؤمنين : لقد قتلت بالأمس أُناساً يشهدون أن لا إلاً الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، يصلون الخمس ، ويسبغون الوضوء !
   فقال أمير المؤمين : فقد كان ما رأيت ، فما منعك أن تعين علينا عدونا ؟
   فقال : والله لأصدقنك يا أمير المؤمنين ، لقد خرجت في أول يوم فاغتسلت وتحنطت وصببت عليّ ، وأنا لا أشك في أن التخلف عن اُم المؤمنين عائشة ؟ ! هو الكفر ، فلما انتهيت إلى موضع من الخربة ناداني منادٍ : يا حسن ، إلى أين ؟ ! ارجع فإن القاتل والمقتول في النار ، فرجعت ذعراً ، وجلست في بيتي ، فلما كان في

(1) مقدمة تحفة الأحوذي : 359 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 121 ـ
  اليوم الثاني ، لم أشك أن التخلف عن اُم المؤمنين عائشة هو الكفر ، فتحنطت ... وخرجت أريد القتال حتى انتهيت إلى موضع من الخربة ، فناداني منادٍ من خلفي : يا حسن ، ارجع فإن القاتل والمقتول في النار .
   قال عليّ : ... أفتدري من ذلك المنادي ؟
   قال : لا .
   قال عليّ : ذاك أخوك إبليس ، وصدقك ان القاتل والمقتول منهم في النار .
   فقال الحسن البصري : الآن عرفت يا أمير المؤمنين أن القوم هلكى (1).
   وفي أمالي المفيد ، عن الحسن البصري : لما قدم علينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب البصرة مرّ بي وأنا أتوضأ ، فقال : يا غلام ، أحسن وضوءك يحسن الله إليك ، ثم جازني ، فأقبلت أقفو أثره ، فحانت مني التفاتة ، فنظر إليّ فقال : يا غلام ، ألك حاجة ؟
   قلت : نعم ، علمني كلاماً ينفعني الله به .
   فقال : يا غلام ، من صدق الله نجا ، ومن أشفق على دينه سلم من الردى ، ومن زهد من الدنيا قرت عينه بما يرى من ثواب الله ... (2)إلى آخر الخبر .
   فعلى خبر الاحتجاج ، وما نقلناه عنه من حضوره يوم الدار ، وتعاطفه مع الأمويين ، يُحتمل أن يكون الحسن البصري من الدعاة إلى الغسل ومن المستفيدين من مصطلح أسبغ الوضوء للتدليل عليه ، وأن الإمام عليّاً أراد بقوله : ( يا حسن أسبغ الوضوء ) أراد الإزدراء والتفقيص بما يذهب إليه الحسن في الوضوء .
   لكن هذا الاحتمال في غاية البعد ، إذ لا يتواءم ذلك مع خلق الإمام ، بل

(1) الاحتجاج : 171 .
(2) أمالي المفيد : 77 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 122 ـ
  وعلى ضوء النصوص اللاحقة يتأكد العكس ، إذ إن الحسن كان من المقلين في ماء الوضوء ، والإمام عليّ جاء يؤكد على لزوم الإسباغ وإحسان الوضوء وإعطاء الوضوء حقه .
   فقد جاء في مصنف ابن أبي شيبة وعبدالرزاق ، أنه كان يقول بالمسح على القدمين .
   حدثنا ابن عليه ، عن يونس ، عن الحسن ، انه كان يقول : إنما هو المسح على القدمين .
   وكان يقول : يمسح ظاهرهما وباطنهما (1).
   وجاء في مصنف عبدالرزاق : عن معمر ، عن قتادة ، عن عكرمة والحسن قالا في هذه الآية : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ ) (2).
   قالا : تمسح الرجلين (3).
   قال الجصاص : قرأها الحسن بالخفض ، وتأولوها على المسح(4).
   وقولنا السابق أن الحسن كان له اتصال وثيق بالحكام ، أو إنه ولي القضاء في زمن عمر بن عبدالعزيز وغيرها ، لا يعني أن جميع أرائه مستقاة من السلطان ، بل إن دوره في الفقه كان كدور سفيان الثوري وأبي حنيفة وأمثالهما من الذين كانت لهم شخصية علمية مستقلة ، وإن تعاطف هؤلاء العلماء مع الدولة كان تارة لأجل خوفهم من الاصطدام بالسلطة ، واُخرى لتقارب وجهات النظر بينهما ، وإليك هذا النص عن الحسن البصري لتقف على الحقيقة

(1) المصنف لابن أبي شيبة 1 : 30 ب 17 ح 2 .
(2) المائدة : 6 .
(3) المصنف 1 : 18 ح 53 .
(4) أحكام القرآن 2 : 345 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 223 ـ
  أكثر .
   قال محمد بن موسى الحرش : حدثنا ثمامة بن عبيدة ، قال : حدثنا عطية بن محارب ، عن يونس بن عبيد ، قال : سألت الحسن ، قلت : يا أبا سعيد إنك تقول : قال رسول الله ، وإنك لم تدركه !
   قال : يا ابن أخي ، لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك ، ولولا منزلتك منّي ما أخبرتك ، إني في زمان كما ترى ـ وكان في عمل الحجاج ـ كل شيء سمعتني أقول : قال رسول الله ، فهو علي بن أبي طالب ، غير أني في زمان لا أستطيع أن أذكر عليّاً (1).
   وقد اشتهر عنه أنه عندما كان يريد التحديث عن علي يقول : قال أبو زينب .
   وبعد أن نقلنا هذا النص عنه والنصوص الاُخرى ، ينبغي أن ندرس أحاديث الحسن البصري ـ كغيرها من أقوال الإعلام ـ لتبين لنا أنها تحت أي ظروف صدرت ، إذ عرفت بأنه كان يتخوف ـ في كثير من الأحيان ـ من السلطة ولا يحدث عن علي إلاّ كناية ، فلا بستبعد أن تكون بعض آرائه صدرت تحت ظروف سياسية خاصة ، وأنه كان لا يؤمن بها ويخشى من نسبة تلك الأخبار إليه ، وأن أمره لابنه بحرق كتبه دليل عليها .
   نقل الذهبي في سير الأعلام : عن موسى بن إسماعيل : حدثنا سهل بن الحصين الباهلي ، قال : بعثت إلى عبدالله بن الحسن البصري ، ابعث إليّ بكتب أبيك ، فبعث إليّ أنه لما ثقل ، قال لي : اجمعها ، فجمعتها له وما أدري ما يصنع بها فأتيت بها .
   فقال للخادم : اسجري التنور ، ثم أمر بها فأحرقت غير صحيفة واحدة ، فبعث بها إليّ وأخبرني أنه كان يقول : اروِ ما في هذه الصحيفة ، ثم لقيته بعد ،

(1) تهذيب الكمال 6 : 124 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 224 ـ
  فاخبرني به مشافهة بمثل ما أدى الرسول(1)وقد جاء عن عروة بن الزبير أنه احرق كتبه كذلك (2).
   يتحصل مما تقدم أن الحسن البصري كان من كبار التابعين القائلين بالمسح ، ومن كلامه نستشف أنه من القائلين بتثنية الغسلات .
   قال الجصاص ـ بعد كلامه الأول ـ : والمحفوظ عن الحسن البصري استيعاب الرجل كلها بالمسح ، ولست أحفظ عن غيره ممن أجاز المسح من السلف هو على الاستيعاب أو على البعض (3).

ابراهيم النخعي والوضوء :    جاء في طبقات ابن سعد ( ترجمة إبراهيم ) :
  1 ـ قال : أخبرنا أحمد بن عبدالله بن يونس ، قال : حدثنا فضيل بن عياض عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : من رغب عن المسح فقد رغب عن السنة ، ولا أعلم ذلك إلا من الشيطان .
   قال فضيل : يعني تركه المسح .
  2 ـ قال : أخبرنا أحمد بن عبدالله بن يونس ، قال : حدثني جعفر الأحمر عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : من رغب عن المسح فقد رغب عن سنة النبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) (4).
   فالمعروف عن النخعي أنه كان موالياً لأهل البيت (5).
   وكلاهما هذا لا يعني أن جميع الأقول المنسوبة إليه كانت مستقاة من عليّ ،

(1) سير أعلام النبلاء 4 : 584 .
(2) انظر تهذيب الكمال 20 : 19 .
(3) أحكام القرآن للجصاص 2 : 345 .
(4) الطبقات الكبرى لابن سعد 6 : 275 .
(5) انظر كلام الدكتور رواس قلعه‌ چي فيه : موسوعة فقه إبراهيم النخعي 1 : 139 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 225 ـ
  بل قد يكون بين تلك الأقوال ما نُسب إليه ولم يقل به ، وقد يكون فيها ما أخطأ في استنباطه ، لكن الذي تلزم الإشارة إليه هو دوره المخالف للحجاج الثقفي ـ الداعي للوضوء الغسلي ـ وأنه قد انضم إلى ثورة الأشعث ضده وأفتى بجواز لعنه (1).
   قال الذهبي : ونقموا عليه ـ أي على إبراهيم ـ لقوله : لم يكن أبو هريرة فقيهاً (2).
   وكان يقول : كان أصحابنا يدعون حديث أبي هريرة .
   وقال : ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة إلاّ ما كان من صفة جنة أو نار أو حث على عمل أو نهي عن شر جاء في القرآن (3).
   ولم يختص إبراهيم فيما قاله عن أبي هريرة بل قال ذلك طائفة اُخرى من الكوفيين (4).
   وقد ثبت أن نهج علقمة وابن مسعود وإبراهيم واحد (5)، ولو قارنا الواحد منهم إلى الآخر لحصل لدينا أن إبراهيم النخعي يقول بالمسح إذ إن عبدالرزاق روى في مصنفه عن معمر عن قتادة : أن ابن مسعود قال : رجع إلى غسل

(1) الطبقات الكبرى ، لابن سعد 6 : 279 .
(2) انظر : ميزان الاعتدال 1 : 75 .
(3) البداية والنهاية 8 : 113 .
(4) البداية والنهاية 8 : 113 .
(5) انظر : تهذيب التهذيب 7 : 177 ، تذكره الحفاظ ، موسوعة ابراهيم النخعي 1 : 163 .