وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريعوكلامنا هذا عن الإمام أبي حنيفة لا يعني أنه كان شيعياً أو ان الإمام الصادق قد رضي عنه أو ترضى عليه ، أو صحح رؤاه العقائدية والفقهية أو أخذ عنه ، بل نقول إن كثيراً من الطعن الذي لحقه كان بسبب بعض مواقفه المعارضة للحكومة والمؤيدة للعلويين وغيرهم من أعداء خط السلطة العقائدي الفقهي ، فأن أهل البيت كانوا لا يرتضون القياس ولا الاحكام المبتنية عليه . قال الاُستاذ عبدالحليم الجندي : لو كانت الحكومة تدرك بأن أبا حنيفة يعتنق مذهب التشيع لما تركته يلقي دروسه في الكوفة ـ مركز السنة ـ سنوات عديدة (3) ! وهناك نصوص حوارية كثيرة بين الصادق وأبي حنيفة تؤكد رفض الصادق لآرائه القياسية . وقد ألف علماء الشيعة وأصحاب الأئمة في رد القياس كتباً كثيرة ، لكن المهم الذي نؤكد عليه هو دور السياسة في احتواء الفقهاء فكرياً وسياسيا وبثهم الدعايات والتهم الشائنة ضد من لم يمكن احتواؤهم ، بل إنهم قد جندوا الطاقات والعلماء الآخرين لكي ينسبوا إليهم ما لم يقوله ، أو لكي يحرفوه أو ليضخموه فيصبغوه صبغة هو بعيد عنها . وقد وقفت على دور أبي هريرة والسيدة عائشة وابن عمر والزهري وفقهاء المدينة السبعة في العهد الأموي . وعرفت شدة تأكيد الحكومة على الأخذ بأقوالهم . ومر عليك قول ابن عمر وإرجاعه الناس للأخذ بفقه عبدالملك بن مروان جاء عن المنصور
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع![]() رأي آخر وبعد هذا العرض السريع الذي بينا فيه بعض الرؤى ، نحاول أن نطرح رؤية اُخرى هي في سبب تسمية المذهب الشيعي الاثني عشري بمذهب جعفر ابن محمد الصادق . ذلك أن ما قيل بأن الإمام عاش بين فترة الشيخوخة الأموية والطفولة العباسية ، وأن هذه الفترة كانت مواتية لنشر المذاهب ، لم تكن السبب الوحيد في ذلك ، بل هناك اُمور اُخر ، منها : دور الحكام في الإحكام الشرعية واحتواؤهم للفقهاء والمحدثين والقراء وسواهم . فإن الصادق لما رأى دورهم في تدوين الحديث ثم تأصيل المذاهب وتقريب المحدثين والقراء والشعراء ، والاهتمام بالحركة العلمية ، كان واضحاً لديه أن هذه المبادرة الحكومية هي ثورة ثقافية ضد الاُصول العقائدية والفقهية والتاريخية للمسلمين . فالإمام أبو حنيفة يبث أفكاره في الكوفة مركز العلويين ، وبين أفكاره وما يطرحه من رؤى ما يخالف الصريح من كلام الرسول . والإمام مالك يسيطر على مركز الدعوة الإسلامية ويفتي الناس بالمدينة . والليث بن سعد يفتي الناس بمصر . وقيل إن أهل مصر كانوا ينتقصون من عثمان ، فنشأ فيهم الليث فحدثهم بفضائل عثمان . والأوزاعي يفتي الناس بالشام وقد عُرف انحرافه عن أهل البيت ، فكان في كل مصر فقه خاص واعتقاد خاص يبتعد في غالبه عن الاُصول النبوية والآراء الفقهية الصحيحة في القليل أو الكثير . ولما رأى الصادق دعم الحكومة لهؤلاء الفقهاء ـ تلويحاً وتصريحاً ـ أحس بالخطر وضرورة مواجهة الغزو الفكري والفورة الثقافية التي شنتها الحكومة العباسية على النهج العلوي ، فكان أن بدأ في مواجهة هذه الحملة مواجهة في غاية الجد ، وأخذ أصحابه في التوجه إلى الفقه وتعلم الأحكام وقد تخوف على وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع![]() بين الصلاتين ، وقول الرشيد له : لله أبوك لجاد ما حفظت تلك صلاة العصر وذلك وقتها عند القوم . وقول سليمان بن جرير لإدريس بن عبدالله بن الحسن : ان السلطان طلبني لما يعلمه من مذهبي ، فجئتك ... وقد نقلنا قبل ذلك حديث أبي مالك الأشعري ، وكيف كان يتخوف من إتيان صلاة رسول الله ، ويقول : هل فيكم أحد غيركم ؟ فقالوا : لا ، إلاّ ابن اُخت لنا . قال : ابن اُخت القوم منهم ، فدعا ... وغيرها الكثير . وهي جميعها تؤكد على أن الفقه الإسلامي صار يستقي منابعه من طريقين : 1 ـ السلطان ومن يعمل معه . 2 ـ الطالبيون ، وقد انحصر هذا الخط بجعفر بن محمد الصادق وآله . وان الفقهاء والمحدثين والقراء غالباً كانوا يدورون في فلك السلطان يرسمون القواعد ويوقفون الخليفة على الحلول ، وكان الخليفة يقرب من العلماء من يخدم أهداف السلطان ويبعد من لا يرتضي التعاون معه بل يرفضه ! فقد نقل المؤرخون : أن الرشيد أعطى الأمان ليحيى بن عبدالله بن الحسن ، ثم ظفر به وبعد ذلك سعى لنقض الأمان ، فاستعان بالفقهاء لتسويغ غدره هذا . نترك تفاصيل الخبر لأبي الفرج الأصفهاني ، قال في سياقه خبر مقتل يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب : ثم جمع له الرشيد الفقهاء وفيهم : محمد بن الحسن صاحب أبي يوسف القاضي ، والحسن بن زياد اللؤلؤي ، وأبو البختري وهب بن وهب ، فجمعوا في مجلس وخرج إليهم مسرور الكبير بالأمان ، فبدأ محمد بن الحسن فنظر فيه وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع![]() عيسى بن زيد ، فإنه يقبح بمثلي ان لا يلقى مثله من اشياخه ، فدافعني عن ذلك مدة ، وقال : إن هذا أمر يثقل عليه ، وأخشى أن ينتقل عن منزله كراهية للقائك إياه فتزعجه . فلم أزل به اُداريه وألطف به حتى طابت نفسه لي بذلك ، فجهزني إلى الكوفة وقال لي : إذا صرت إليها فاسأل عن دور بني حي ، فإن اُدللت عليها فاقصدها في السكة الفلانية ، وسترى في وسط السكة داراً لها باب صفته كذا وكذا ، فاعرفه واجلس بعيداً منها في أول السكة ، فإنه سيقبل عليك عند المغرب كهل طويل مسنون الوجه قد أثر السجود في جبهته ، عليه جبة صوف ، يستقي الماء على جمل ]وقد انصرف يسوق الجمل ] يضع قدماً ولا يرفعها إلاّ ذكر الله عز وجل ودموعه تنحدر ، فقم وسلم عليه وعانقه ، فإنه سيذعر منك كما يذعر الوحش ، فعرفه نفسك وانتسب له ، فإنه يسكن إليك ويحدثك طويلاً ، ويسألك عنا جميعاً ويخبرك بشأنه ولا يضجر بجلوسك معه ، ولا تطل عليه وودعه ، فإنه سوف يستعفيك من العودة إليه ، فافعل ما يأمرك به من ذلك . فإنك إن عُدت إليه توارى عنك ، واستوحش منك وانتقل عن موضعه ، وعليه في ذلك مشقة ! ! فقلت : أفعل كما أمرتني ، ثم جهزني إلى الكوفة وودعته وخرجت ، فلما وردت الكوفة قصدت سكة بني حي بعد العصر ، فجلست خارجها بعد أن تعرفت الباب الذي نعته لي ، فلما غربت الشمس إذا أنا به قد أقبل يسوق الجمل ، وهو كما وصف لي أبي : لا يرفع قدماً ولا يضعها إلاّ حرك شفتيه بذكر الله ، ودموعه ترقرق في عينيه وتذرف أحياناً ، فقمت فعانقته ، فذعر مني كما يذعر الوحش من الإنس . فقلت : يا عم ، أنا يحيى بن الحسين بن زيد ابن أخيك ، فضمني إليه وبكى حتى قلت قد جاءت نفسه ! ثم أناخ جمله وجلس معي فجعل يسألني عن أهله رجلاً رجلاً ، وامرأة امرأة ، وصبياً صبياً ، وأنا أشرح له أخبارهم وهو يبكي ، ثم قال : وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع![]() فقال : ( ما أوجبه الله فواحدة ، وأضاف إليها رسول الله واحدة لضعف الناس ، ومن توضأ ثلاثاً ثلاثاً فلا صلاة له ) ، أنا معه في ذا حتى جاءه داود بن زربي ، فسأله عن عدة الطهارة ؟ فقال : له ( ثلاثاً ثلاثاً ، من نقص عنه فلا صلاة ) ! قال : فارتعدت فرائصي ، وكاد أن يدخلني الشيطان ، فأبصر أبو عبدالله إليّ وقد تغير لوني ، فقال : ( اسكن يا داود ، هذا هو الكفر أو ضرب الأعناق ) . قال : فخرجنا من عنده ، وكان ابن زربي إلى جوار بستان أبي جعفر المنصور ، وكان قد اُلقي إلى أبي جعفر أمر داود بن زربي ، وأنه رافضي يختلف إلى جعفر بن محمد . فقال أبو جعفر : إني مطلع إلى طهارته ، فإن توضأ وضوء جعفر بن محمد ـ فإني لأعرف طهارته ـ حققت عليه القول وقتلته . فاطلع وداود يتهيأ للصلاة من حيث لا يراه ، فأسبغ داود بن زربي الوضوء ثلاثاً ثلاثاً كما أمره أبو عبدالله ، فما تم وضوؤه حتى بعث إليه أبو جعفر المنصور فدعاه . قال : فقال داود : فلما أن دخلت عليه رحب بي وقال : يا داود قيل فيك شيء باطل ، وما أنت كذلك ، قد اطلعت على طهارتك وليس طهارتك طهارة الرافضة ، فاجعلني في حل ، وأمر له بمائة ألف درهم ! قال : فقال داود الرقي : التقيت أنا وداود بن زربي عند أبي عبدالله ، فقال له داود بن زربي : جعلت فداك ، حقنت دماءنا في دار الدنيا ، ونرجو أن ندخل بيمنك وبركتك الجنة . فقال : ( فعل الله ذلك بك وبإخوانك من جميع المؤمنين ) . فقال أبو عبدالله لداود بن زربي : ( حدث داود الرقي بما مر عليكم حتى وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع![]() مناديها يهتف : لا يفتي الناس إلاّ مالك ؟ ! وجاء عن مالك انه كان يعترض على من يخال رأيه واجماع أهل المدينة ، فقد جاء في كتابه الى الليث بن سعد : اعلم رحمك الله أنه بلغني أنك تفتي الناس باشياء مختلفة ، مخالفه لما عليه جماعة الناس عندنا وبلدنا الذي نحن فيه ... (1) ) . وقد جاء في وسائل الشيعة بأن الصادق كان يقول بناقضية القُبلة للوضوء وكذا مس باطن الدبر والإحليل (2) وغيرها . وقد حمل فقهاء الشيعة تلك الأخبار على التقية ، وبرهنوا على ان تلك الأخبار ـ كغيرها من أخبار التقية ـ تدل بنفسها على نفسها بأنها صدرت تقية لمخالفتها للنصوص القرآنية والثابت الصحيح من مروياتهم . فقد جاء في التهذيب والاستبصار عن سماعة أنه سأل الصادق عن الرجل لمس ذكره أو فرجه أو أسفل من ذلك وهو قائم يصلي ، يعيد وضوءه ؟ فقال : ( لا بأس بذلك ، إنما هو من جسده ) (3) . وجاء في تفسير العياشي عن قيس بن رمانة أنه سأل الصادق : أتوضأ ثم أدعو الجارية فتمسك بيدي فأقوم فاُصلي ، أعليَّ وضوء ؟ قال : ( لا ) . قال : يزعمون أنه اللمس ؟ قال : ( لا والله ، ما اللمس إلاّ الوقاع ) ـ يعني الجماع ـ ثم قال : ( كان أبو جعفر ـ أي الباقر ـ بعدما كبر يتوضأ ثم يدعو الجارية فتأخذ بيده فيقوم فيصلي ) (4) . نعم ، ان صدور مثل هذه الروايات عن الصادق تدلل على ان الوضع الديني لم يكن عادياً ، بل نرجح ـ على فرض صدور الروايات عنه ـ أن صدورها كان
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع![]() وقد ذهب إلى العمل بالتقية أكثر العلماء وقد ثبت عن الإمام أبي حنيفة أنه أباح قذف المحصنات وترك الصلاة والإفطار في شهر رمضان تقية وحيث كان مكرهاً ، وهكذا الحال بالنسبة إلى مالك فإنه اتقى الأمويين والعباسيين واستدل بقوله تعالى ( إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً) على جواز التقية في معرض حديثه عن طلاق المكره ، اما الإمام الشافعي فلا يرى كفارة على الإنسان الذي حلف بالله كذباً تحت الإكراه ، والنووي الشافعي لا يرى القطع بحق السارق كرهاً وهكذا الحال بالنسبة إلى الأحناف والظاهري والطبري والزيدي (1) . فعليه ، إن مشروعية التقية ثابتة في التاريخ ، وقد عمل بها الرسول ( صلى الله عليه واله وسلم ) مع المشركين . وان قضية عمار مشهورة قد أنزل الله فيها آية ، وقد مر عليك خبر مؤمن آل فرعون ، ونحن على اطمئنان بأن المسلم الذي لا يقر بالتقية سيمارسها حتماً لو نزل به الظلم والإرهاب وعاش ظروف الشيعة ، وإن التقية حقيقة فطرية يتمسك بها الإنسان في المهمات والملمات . المهدي العباسي والوضوء تولى المهدي العباسي الخلافة عام 158 بعدما امتنع عيسى بن موسى ولي عهد المنصور عن التنازل إلى ابنه محمد المهدي ، فبدأ سياسته بالنظر في المظالم ، والكف عن القتل وإطلاق سراح السجناء السياسيين ، حتى نرى الحسن بن زيد يبايع المهدي بصدر منشرح ونفس طيبة . ورأى المهدي ان الحجاز ، وخصوصاً بعد مقتل محمد النفس الزكية ، أصبحت مركزاً رئيسياً من مراكز الحركة الشيعية ، فرحل إليها عام 160
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع![]() الجمالين ، فاجتمعنا بمكة ذات ليلة في المسجد الحرام ، فجعل عيسى بن زيد والحسن بن صالح يتذاكران أشياء من السيرة ، فاختلف هو وعيسى في مسألة منها ـ وغالباً ما كانوا يختلفون ـ فلما كان من الغد دخل علينا عبد ربه بن علقمة فقال : قدم عليكم الشفاء فيما اختلفتم فيه ، هذا سفيان الثوري قد قدم ، فقاموا بأجمعهم فخرجوا إليه ، فجاءوه وهو في المسجد جالس ، فسلموا عليه . ثم سأله عيسى بن زيد عن تلك المسألة ، فقال : هذه مسألة لا أقدر على الجواب عنها لأن فيها شيئاً على السلطان (مع العلم أن الثوري كان من المخالفين للسلطان وكان متوارياً عن الأنظار) . فقال له الحسن : إنه عيسى بن زيد ، فنظر إلى جناب بن نسطاس مستثبتاً . فقال له جناب : نعم ، هو عيسى بن زيد ، فوثب سفيان فجلس بين يدي عيسى وعانقه وبكى بكاءً شديداً واعتذر إليه مما خاطب به من الرد ، ثم أجابه عن المسألة وهو يبكي . وأقبل علينا فقال : ان حب بني فاطمة والجزع لهم مما هم عليه من الخوف والقتل والتشريد ليبكي من في قلبه شيء من الإيمان . ثم قال لعيسى : قم بأبي أنت ، فاخف شخصك لا يصيبك من هؤلاء شيء نخافه ، فقمنا فتفرقنا (1) . وبذلك تأكد لنا وحدة كلمة الطالبيين ـ حسنيين وحسينيين ـ وأن فقههم كان غير فقه الحكام ، وأن الحكام كانوا يستخدمون الشريعة للتعرف عليهم . وقد قدمنا شواهد ، وإليك نصاً آخر : أخرج الشيخ الطوسي بسنده إلى داود بن زربي قال : سألت الصادق عن الوضوء ؟ فقال لي : ( توضأ ثلاثاً ثلاثاً ) .
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع![]() وتمسح ظاهر اُذنيك وباطنهما ، وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثاً ، ولا تخالف ذلك إلى غيره ) . فلما وصل الكتاب إلى عليّ بن يقطين ، تعجب مما رسم له مما أجمع العصابة على خلافه ، ثم قال : مولاي أعلم بما قال ، وأنا ممتثل أمره ، فكان يعمل في وضوئه على هذا الحد ، ويخالف ما عليه جميع الشيعة ، امتثالاً لأمر أبي الحسن . وسُعي بعلي بن يقطين إلى الرشيد ، وقيل له : إنه رافضي مخالف لك . فقال الرشيد لبعض خاصته : قد كثر عندي القول في علي بن يقطين ، والقرف ـ أي الاتهام ـ له بخلافنا ، وميله إلى الرفض ، ولست أرى في خدمته لي تقصيراً ، وقد امتحنته مراراً ، فما ظهر منه عليّ ما يُقرف به ، وأحب أن أستبرى أمره من حيث لا يشعر بذلك فيتحرز مني . فقيل له : إن الرافضة يا أمير المؤمنين تخالف الجماعة في الوضوء فتخففه ، ولا ترى غسل الرجلين ، فامتحنه من حيث لا يعلم بالوقوف على وضوئه . فقال : أجل ، إن هذا الوجه يظهر به أمره . ثم تركه مدة وناطه بشيء من الشغل في الدار حتى دخل وقت الصلاة ، وكان علي بن يقطين يخلو في حجرة في الدار لوضوئه وصلاته ، فلما دخل وقت الصلاة وقف الرشيد من وراء حائط الحجرة بحيث يرى علي بن يقطين ولا يراه هو ، فدعا بالماء للوضوء ، فتمضمض ثلاثاً واستنشق ثلاثاً ، وغسل وجهه ، وخلل شعر لحيته وغسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً ، ومسح رأسه واٌذنيه ، وغسل رجليه ، والرشيد ينظر إليه ، فلما رآه الرشيد فعل ذلك لم يملك نفسه حتى أشرف عليه بحيث يراه ، ثم ناداه : كذب ] يا علي بن يقطين ] من زعم أنك من الرافضة ، وصلحت حاله عنده . وبعد ذلك ورد عليه كتاب من أبي الحسن : ( ابتدئ من الآن يا علي بن يقطين ، توضأ كما أمر الله ، اغسل وجهك مرة فريضة واُخرى إسباغاً ، واغسل وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع![]() فان الإمام أبا حنيفة كان من اوائل الدين تقدموا لمبايعة أبي العباس السفاح في جملة من بايعه من الفقهاء ، حيث أن الناس كانوا يتشوقون لحكم وعدهم بإقامة العدل والسنة لينقذهم من جور الأمويين . لكن أبا حنيفة سرعان ما أدرك انحراف العباسيين وشراءهم لضمائر بعض الفقهاء والعلماء ، فابتعد عن السلطة ورفض أن يتولى القضاء للمنصور العباسي رغم كل السبل التي اقتفاها لاحتوائه ، فكلما ازدادوا إلحاحاً عليه ازداد ابتعاداً عنهم ورفضاً لتولي القضاء ، حتى وصل الأمر إلى سجنه وتعذيبه ، وقيل : انه مات مسموماً على أيدي العباسيين . وعلى كل حال فإنه لم يدون فقهه للسلطان ولا لغيره ، اللهم إلاّ وريقات باسم ( الفقه الأكبر ) في العقائد نسبت إليه ، ولم يصح ذلك على وجه القطع واليقين . ثم إن السلطات بعد وفاة الإمام أبي حنيفة استطاعت أن تحتوي اثنين من أكبر تلامذته ، هما : أبو يوسف القاضي ، ومحمد بن الحسن الشيباني اللذين كانا ينسبان كل ما وصلا إليه من رأي إلى أبي حنيفة ! وكان أبو يوسف قد انضم إلى السلطة العباسية أيام المهدي العباسي سنة 158 وظل على ولائه أيام الهادي والرشيد ! وقد ذكر المؤرخون سبب أتصال أبي يوسف بالرشيد وتوثيق علاقاته معه : أن بعض القواد حنث في يمين ، فطلب فقيهاً يستفتيه فيها ، فجيء بأبي يوسف ، فأفتاه أنه لم يحنث ، فوهب له دنانير وأخذ له داراً بالقرب منه واتصل به . فدخل القائد يوماً على الرشيد فوجده مغموماً ، فسأله عن سبب غمه ، فقال : شيء من أمر الدين قد حزبني ، فاطلب لي فقيهاً أستفتيه ، فجاءه بأبي يوسف . وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع![]() قال : فما خرجت حتى جاءتني هدية الفتى وهدية أمه وأسبابه ، فحصل لي من ذلك ما صار أصلاً للنعمة ، وانضاف رزق الخليفة إلى ما كان يجريه عليَّ ذلك القائد . ولزمت الدار ، فكان هذا الخادم يستفتيني ، وهذا يشاورني ، فأفتي وأشير ، فصارت لي مكنة فيهم ، وحرمة بهم ، وصلاتهم تصل إليّ وحالتي تقوى . ثم استدعاني الخليفة وطاولني واستفتاني في خواص أمره وأنس بي ، فلم تزل حالي تقوى معه حتى قلدني قضاء القضاة (1) . هذا حال أشهر تلامذة الإمام أب حنيفة الناشر لفقهه والمدون لآرائه . وقد وقفت على دور الدولة في الأخذ بفتواه والعمل برأيه وجعله قاضياً للقضاة ، وجلوسه في البيت لإفتاء الناس ! ! أما محمد بن الحسن الشيباني ، فهو ثاني أبرز تلامذة أبي حنيفة ، وقد درس عليه وناظر وسمع الحديث ، لكن غلب عليه الرأي . قدم بغداد ودرس فيها ، ثم خرج إلى الرقة وفيها هارون الرشيد ، فولاه قضاء الرقة ، وأخرجه هارون معه إلى الري فمات بها . كان ملازماً للسلطة العباسية وألف في الفقه الكثير . منها كتاب ( الجامع الصغير ) عن أبي يوسف عن أبي حنيفة ، و ( الجامع الكبير ) ، وله مؤلفات فقهية اُخرى ، منها : (المبسوط في فروع الفقه) و(الزيادات) و (المخارج من الحيل) و (الأصل) و (الحجة على أهل المدينة) وغيرها من الكتب (2) . فهذا حال التدوين عند أصحاب أبي حنيفة والمسائل التي سارعليها طائفة كبيرة من المسلمين .
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع![]() شاء الله على علمك وكتبك ونبثها في الأمصار ، ونعهد إليهم ألاّ يخالفوها ولا يقضوا بسواها ) (1) . فاستجاب مالك لطلب المنصور ، وألف (الموطأ) مع علمه بأن أهل العراق لا يستجيون لما كتبه ، لكن المنصور طمأنه بأنه سيحملهم عليها بالقوة والسلطان ! ! فصار (الموطأ) دستور الحكومة ، وأول كتاب دون في الحديث للدولة العباسية . وروى أن القزاز قرأ الموطأ على مالك ليعلمه للرشيد ويبينه ، وكان القزاز هذا قد أخذ أربعين ألف مسألة عن مالك (2) . وأمر الرشيد عامله على المدينة بأن لا يقطع أمراً دون مالك ، واشتهر عن الرشيد أنه كان يجلس على الأرض أمامه لاستماع حديثه . قال ابن حزم : مذهبان انتشر في مبدأ أمرهما بالرياسة والسلطان ، مذهب أبي حنيفة ، فإنه لما ولي أبو يوسف القضاء كان لا يولي قاضياً إلاّ من أصحابه والمنتسبين إلى مذهبه ، والثاني مذهب مالك ... (3) . فلاحظ كيف صار فقه رسول الله يدون من قبل الحكام الذين لا يهمهم إلاّ الحكم ! ! وكيف استغلوا الفقهاء لترجيح الآراء المخالفة لفقه الطالبيين وأنصار التعبد المحض ، ليكون نهجاً في الحياة دون فقه أهل البيت . وقد طمأن مالك المنصور بأن الفقه سيبقى في أيديهم وليس لأهل البيت نصيب فيه ، فجاء فيما قاله :
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع |