الخليفة عثمان ، لقول أبي مالك ( حدّثت أنّ عثمان بن عفّان اختلف في خلافته في الوضوء ) ، وأنّ ذلك يتضمّن الإشارة إلى عدم وجود الاختلاف قبل عهده ويقوّي ما سقناه سابقاً ، وستقف لاحقاً على أنّ الخليفة قد توضّأ وضوء الناس شطراً من خلافته
(1)كما نقل عنه في الصلاة بمني وأنّه أتمّ الصلاة فيها بعد أن كان قد قصر فيها شطراً من خلافته وكذا في الأذان الثالث يوم الجمعة ، وتقديم الخطبة على الصلاة يوم العيدين ..وغيرها .
الثالث : إنّ عبارة الخليفة ( إنّ ناساً يتحدّثون ) تؤكّد مشروعيّة فعل هؤلاء الناس باعتباره مرويّاً عن رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، ولم يكذّب الخليفة روايتهم لصفة وضوء رسول الله بل اكتفى بقوله ( لا أدري ) ، وبذلك يكون وضوؤهم هو وضوء رسول الله ، حيث لا يعقل أن يتحدّثوا بشيء ولا يفعلونه ، وخصوصاً أنّهم في خلاف مع خليفة المسلمين فيه ، أمّا ( الناس ) فكانوا لايقبلون وضوء الخليفة ولا يعدّونه وضوء رسول الله ! !
الرابع : إنّ جملة ( إنّ ناساً ) او ( لاأدري ما هي ) ظاهرة في استنقاص الخليفة لـ ( الناس ) وأنّهم صحابة مجهولون ... فهل حقّاً كانوا كذلك ؟ أم أنّ الخليفة قال بمثل هذا لمعارضتهم إيّاه ، وأنّ طبيعة المعارضة تستوجب الاستنقاص ؟ !
كانت هذه بعض النقاط ..ولنواصل الحديث بطرح تساؤلات أُخرى :
لماذا وقع الاختلاف في هذا العهد ولم يلاحظ في عهد الشيخين ؟
ولماذا نرى الصحابة ينسبون إلى عثمان البدعة والاحداث ـ كما ستقف عليه لاحقاً في حين لم ينسبوا ذلك إلى أبي بكر وعمر ؟
فلو قلنا بأنّ الخليفة هو المبدع لهذا الوضوء الجديد ، فما هو السبب والداعي لسلوكه هذا السلوك ، مع علمه بأنّ ذلك يسبب معارضة الصحابة له ؟
وهل الوضوء من الأُمور الماليّة أو السياسيّة أو الحكوميّة ... حتّى يمكن
 |
(1) انظر كنز العمال 9 : 436| 26863 مثلاً .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التشريع
ـ 46 ـ
التعامل معها وفق مصلحة الحكم والبلاد ؟
أم كيف يمكن لهؤلاء ( الناس ) الاجتراء والتعدّي على شعور المسلمين وإحداث وضوء يخالف وضوء الخليفة وما عمله المسلمون مدّة من الزمن ؟
وإذا كانوا هم البادئين بشقّ الصفّ الإسلاميّ ، أيعقل أن تتجاهلهم كتب السير والتاريخ ولم تنوّه بأسمائهم ؟
ولم لا نرى مواجهة من كبار الصحابة لهم ، وظهور وضوءات بيانيّة منهم لإفشال ذلك الخطّ المبتدع الجديد ؟
ولماذا نرى الخليفة يقول : لا أدري ... وهل أنّه لا يدري حقّاً ؟
وكيف لا يدري وهو من المسلمين الأوائل ، وخليفتهم القائم ؟
وإن كان يدري ، فكيف يجوّز لنفسه تجاهل أحاديث من يروي ويتحدّث عن رسول الله ؟ وإن كان الناس قد كذبوا على رسول الله ونسبوا إليه ما لم يصحّ فلماذا لم يشهّر بهم ولم يودعهم السجون ؟
هذه التساؤلات مع جملة أُخرى ، سنجيب عنها في مطاوي البحث إن شاء الله تعالى .
لكنّ اللافت للنظر في هذا المجال أنّ الخليفة هو الذي تصدّى بنفسه لمسألة الوضوء !
فما سبب ذلك ؟
ولماذا اعتبرت روايته للوضوء هي أكثر وأصحّ ما يعتمد عليه في حكاية وضوء النبيّ في أبواب الفقه ؟ مع العلم بأنّ صورة الوضوء لم تنقل عن كبار الصحابة الملازمين للرسول ، وهم مئات عدداً وكانوا يحيطون به ( صلى الله عليه واله وسلم ) ويعايشونه ، أضف إلى ذلك كون كثير منهم من أهل الفقه ، وحملة الآثار ، ومن العلماء ، المهتمين بدقائق الأُمور ، وهم الذين نقلوا لنا رأي الإسلام في مختلف
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التشريع
ـ 47 ـ
مجالات الحياة .
فكيف لم تنقل عن أُولئك المكثرين كيفيّة الوضوء ؟ وهل من المعقول أن يسكت المقرّبون المكثرون عن بيان كيفيّة الوضوء ، إن كان فيها ما يستوجب البيان والتوضيح ؟ !
ولماذا هذا التأكيد من عثمان على الوضوء بالذات ؟ ... مع كونه يعاني من مشاكل وأزمات حادّة في إدارته السياسية ، وسياسته الماليّة ، ونهجه الفقهيّ ... بل حتّى في طور تفكيره وسائر شؤونه الأُخرى .
قد يكون لزاماً علينا أن نقول : إنّ الحالة الطبيعيّة كانت تقتضي أن تصدر النصوص البيانيّة الحاكية لوضوء رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) عن صحابة من أمثال : أنس بن مالك ، عبد الله بن مسعود ، عمّار بن ياسر ، أبي ذرّ الغفاريّ ، جابر بن عبد الله الأنصاريّ ، اُبي بن كعب ، معاذ بن جبل ، سلمان الفارسي ، أبوموسى الاشعري ، بلال بن رباح ، أبو رافع ، زوجات النبيّ ، موالي النبيّ ، وغيرهم الكثير من الذين ما انفكوا عن ملازمتة ( صلى الله عليه واله وسلم ) ... لا أن يقتصر النقل ويختصّ بفئة محدودة ، كعثمان ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، والرُّبيّع بنت معوّذ ، و ...
فلماذا تصدر عن المقلّين في رواية الحديث ، لا المكثرين الملازمين للنبيّ ( صلى الله عليه واله وسلم ) مع أنّ طبيعة الأشياء تقتضي الإفاضة في أحاديث الوضوء في روايات المكثرين ؟ !
يبدو أنّ وراء المسألة أمراً خفيّاً ، خصوصاً بعد أن لا نرى للشيخين وضوءاً بيانيّاً في الباب !
أو لم يكن الشيخان من كبار القوم ، ومن السابقين في الإسلام ... ؟
ثمّ ... ألم يكونا أفقه من عثمان ، وأشمل رؤية ، وأضبط رواية منه ؟
فإن كان الأمر كذلك ... فكيف يصحّ منهما أن يتركا موضوعاً عباديّاً في
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التشريع
ـ 48 ـ
غاية الأهميّة ، مع ما قيل عن شدّتهما في إيصال وتعليم الأحكام الشرعيّة إلى المسلمين ؟ !
وإذا سلّمنا أنّ حروب الردّة ، وفتح العراق والبحرين وغيرها قد شغلت أبابكر عن الاهتمام ببعض مسائل الشريعة ، فهذا ما لايمكن التسليم به بالنسبة إلى الخليفة الثاني ، الذي نقل عنه بأنه كان يحمل درّته ويدور في الأسواق والشوارع والأزقّة ، ليصلح ما قد يرى من فساد اجتماعيّ ، وليعلّم الناس ما يُفترص أن يتعلموه من أحكام وآداب وسنن ، وكان يهتّم أيّما اهتمام بمسائل الفقه فيحلّها ، وإذا استعصت عليه بعض المسائل ، نراه يجمع كبار الصحابة ويستشيرهم ، ويبحث معهم تلك المسألة ، ثمّ يخرج بالنتيجة الفقهيّة المتوخاة من البحث ، فتراه يطرح البحوث العلميّة الفقهيّة على الصحابة ممّن عاصروه ، أمثال : عليّ ين أبي طالب ، وعبد الله بن عبّاس ، والزبير ، وطلحة ، وعبد الله بن مسعود ، وغيرهم من كبار الصحابة .
فإذا كان ثمّة اختلاف أو إبهام في الوضوء في الصدر الأوّل ..فلم لم تطرق هذه المسألة المهمّة مجالس أُولئك الصحابة ؟ !
إنّ هذا ليؤكّد بوضوح استقرار المسلمين في الوضوء أثناء تلك المرحلة الزمنيّة من الإسلام ... بل المسألة كانت من البداهة والشيوع بحيث أصبحت من أوّليّات الرسالة المحمّديّة ومسلّماتها التي عرفها الجميع بما ينبعي ، دون أدنى شكّ أو ترديد أو التباس .
ومن الواضح أنّ الصحابي الذي لا يعرف الوضوء ، أو تراه يسأل عن كيفيّته ، يعدّ متهاوناً ومتساهلاً في الدين ، بل ويكشف سؤاله عن التشكيك في صلاته وعباداته ، وأنّه مُدّع للصحبة ليس إلاّ ، إذ كيف يعقل أن يصاحب رجلٌ النبيّ ، وهو لا يعرف وضوءه ولا أُصول دينه وفروعه وآدابه وسننه وواجباته مع كون النبيّ قد عاش بين ظهرانيهم ثلاثاً وعشرين سنة !
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التشريع
ـ 49 ـ
وإذا قيل لنا : إنّ فقيهاً من فقهاء المسلمين في زماننا الحاظر لا يعرف تفاصيل الوضوء ، أو أنّه يسأل عنها ... فإنّنا والحال هذه : إمّا أن لا نصدّق ما قيل عنه ، أو أن نرميه بالجهل ، رغم بعده عن عصر الرسالة بأربعة عشر قرناً .
فكيف يا ترى يمكننا تصوّر ذلك في صحابي ، بل في صحابة قد عاشوا مع النبيّ ورافقوه سفراً وحضراً ورأوه بأُمّ أعينهم يمارس عباداته وطقوسه التي فرضها الله عليه وعليهم ؟ !
نعم ، نحن لا ننكر أن يكون نقل الراوي لصفة وضوء رسول الله ، أو سؤاله عن بعض خصوصيّات الأحكام جاء لتعليم الآخرين ، لكنّنا نعاود السؤال ونقول : لماذا لايروي عنه ( صلى الله عليه واله وسلم ) الأحاديث الوضوئيّة الصحابة المكثرون ؟ ومن لهم دور مهم في تاريخ الاسلام غير الخليفة عثمان بن عفّان ! !
ومن هنا ـ وطبقاً لما ذكرناه ـ نقول قانعين : إنّ الاختلاف لم يدبّ بين المسلمين في تلك الحقبة من عصر الإسلام ، بل نشأ في عهد الخليفة الثالث ، الذي وردت عنه نصوص بيانيّة ـ تتجاوز الآحاد ـ في صفة وضوء النبيّ ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، ولو دقّق الباحث اللبيب النظر فيها لرآها تتضمّن الكثير من الإشارات الدالّة على حدوث الاختلاف في زمنه .
أضف إلى ذلك أنّ عثمان كان يستغلّ كلّ الفرص المؤاتية ليري الناس وضوءه ، ويحول التأكيد عليه بشتى الأساليب ـ كما سترى ـ .
والآن لنتعرّف على البادئ بالخلاف ، وهل أنّ وضوءه هو وضوء رسول الله ؟
وكيف بدأ الشقّ في الصفّ الإسلاميّ ، ولِمَ ؟
من هو البادئ بالخلاف ؟
نرجع إلى بعض التساؤلات السابقة فنقول :
يُفترض مبدئيّاً كون الميل والانحراف أو الخطأ في التفكير المستتبع للخطأ
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التشريع
ـ 50 ـ
في السلوك العمليّ ، إنّما ينتج عن هفوات وزلاّت عامّة الناس ، ويكون دور الحاكم في هذه الحال دور المقوّم والمصحّح لما يحدث من خطأ أو شذوذ في التفكير أو في المنهج العمليّ ، حيث نرى الأُمم في شتى مراحل تطوّرها تؤمّر على نفسها أو يتأمّر عليها من يتوخّى منه أن يقيم الأود ويشدّ العمد ، ويحافظ على مسار الأُمّة ، ويدافع عن أفكارها وآرائها .
لكنّ الدلائل والمؤشّرات في أمر الوضوء تقودنا إلى غير ذلك ، لأنّ ( الناس ) المخالفين هذه المرّة هم عن أعاظم الصحابة وفقهاء الإسلام
(1)، وليس فيهم من هو أقلّ من الخليفة الثالث من حيث الفقه ، والعلم ، والحرص على تقويم المجتمع والمحافظة على معالم الدين الإسلاميّ من أيدي التحريف والتخليط واللبس ... كما أنّهم ليسوا من عامّة الناس المكثرين من الأغلاط وغير المتفقهين في الدين ، وهم ليسوا من متأخّري الإسلام من الصحابة الذين لم يعيشوا طويلاً مع النبيّ ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، بل العكس هو الصحيح ، إذ إنّهم على قدر من الجلالة والعظمة ، يجلّون معها عن أن يحتاجوا إلى من يقوّمهم ويشرف على ما رأوه ورووه عن النبيّ ( صلى الله عليه واله وسلم ) ..وسنفصّل لك لا حقاً أسماءهم وأحوالهم لتطّلع عليها .
ومن الأُمور التي تزيد المدعى وضوحاً وتؤكّد على أنّ الخليفة عثمان بن عفّان وراء مسألة الوضوء هو الجرد الإحصائيّ ، الذي توصلنا من خلاله إلى أنّ مرويّات الوضوء الثلاثيّ الغسليّ
(2)الصحيحة السند ، إنّما تنحصر في :
1 ـ عثمان بن عفّان .
 |
(1) ستقف على أسمائهم في ص 119 .
(2) سيمرّ بك من الآن فصاعداً مصطلحان :
الأوّل : الوضوء الثلاثيّ الغسليّ = وضوء الخليفة عثمان .
الثاني : الوضوء الثنائي المسحيّ = وضوء الناس المخالفين لعثمان .
وإنا قد انتزعنا عنا هذين المصطلحين من إشهاد الخليفة للصحابة عليهما ، وستقف على تفاصيله في آخر هذا الباب .
|