سوف يقف القارئ على حقيقة الأمر .
  علماً بأن مدرسة الناس كان يتصدرها بقية من الصحابة وبعض التابعين ، أما عائشة فإنها على الرغم من مخالفتها لسياسة عثمان وفقهه وكونها من الناس ، لكنا نراها تقف في العهد الأموي إلى جانب الحكومة لترسيخ وضوء عثمان ، مستفيدة من جملة ( أسبغوا الوضوء ) و ( أحسنوا الوضوء ) وأمثالها ، مما أشاعته الحكومة لتدعيم فكرة الخليفة ، بغضاً لعليّ ! !

نصوص لخلاف الناس مع الدولة في الوضوء :

  1 ـ عبدالرحمن بي أبي بكر وعائشة :
   أخرج مسلم في صحيحه ـ باب غسل الرجلين ـ بسنده إلى سالم مولى شدّاد ، قال : دخلت على عائشة (رض) زوج النبي يوم توفي سعد بن أبي وقاص ، فدخل عبدالرحمن بن أبي بكر فتوضأ عندها فقالت : يا عبدالرحمن ، أسبغ الوضوء ، فإني سمعت رسول الله يقول : ( ويل للأعقاب من النار ) (1).
   وأخرج مالك في الموطأ : أنه بلغه أن عبد الرحمن بن أبي بكر قد دخل على عائشة زوج النبي يوم مات سعد بن أبي وقاص ، فدعا بوضوء ، فقالت له عائشة : يا عبدالرحمن ، أسبغ الوضوء ، فإني سمعت رسول الله يقول : ( ويل للأعقاب من النار ) (2).
   وأخرج ابن ماجة بسنده عن أبي سلمة ، قال : رأت عائشة عبدالرحمن وهو يتوضأ ، فقالت : أسبغ الوضوء ، فإني سمعت رسول الله يقول ك ( ويل للأعقاب من النار ) (3).

(1) صحيح مسلم 1 : 213 | 25 .
(2) الموطأ 1 : 19 | 5 ، شرح معاني الآثار 1 : 38 | 188 .
(3) سنن ابن ماجة 1 : 154 | 452 ، المصنف لعبدالرزاق 1 : 23 | 69 ، والحميدي عن ابن عيينة .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 177 ـ
   وفي مسند أحمد : ... فأساء عبدالرحمن ، فقالت عائشة : يا عبدالرحمن ، أسبغ الوضوء ، فإني سمعت رسول الله يقول : ( ويل للأعقاب يوم القيامة من النار ) (1).
   توقفنا هذه النصوص على ثلاث نقاط :
   الاُولى : معرفة تاريخ صدور الخبر ، وأنه كان في أواخر عهد معاوية ، إذ إن سعد بن أبي وقاص توفي سنة 55 هـ ، وكانت وفاة عائشة سنة 58 هـ ، وعليه فإن صدور هذا الخبركان في أواخر عهد عائشة ومعاوية .
   الثانية : كون وضوء عبدالرحمن يغاير وضوء عائشة ، لقول عائشة له ( أسبغ الوضوء ، فإني سمعت رسول الله يقول ويل للأعقاب من النار ) ، ولما نقله الراوي ( فأساء عبدالرحمن ، فقالت عائشة ... ) .
   ثم إن متن الرواية له كمال الدلالة على اختلاف وضوئهما ، إذ لو كان عبدالرحمن يتفق وضوؤه مع وضوء عائشة لما احتاجت إلى تذكيرها إياه بقوله ( صلى الله عليه واله وسلم ) : ( ويل للأعقاب من النار ) ولما كان هناك من داع لقولها له : أسبغ الوضوء ! !
   الثالثة : عدم دلالة قول عائشة : ( أسبغ الوضوء ) على وجوب غسل الرجلين ، إذ إن لكلمة ( الإسباغ ) و ( ويل للأعقاب ) معنى أعم ، ولا يمكن الاستدلال بهما على المطلوب ، فإنها لو أرادت من نقلها الدلالة على الغسل ـ كما استفاد منه مسلم والبخاري وغيرهما ـ للزمها أن تقول : اغسل رجلك ، فإني رأيت رسول الله يغسل رجليه ، ولما لم تر رسول الله يغسل رجليه استدلت على وجوبه بقوله ( صلى الله عليه واله وسلم ) : ويل للأعقاب من النار لا برؤيتها .
   وبذلك تبين أن إتيانها بهذه الجملة جاء مجاراة للحكومة ، وأنها كانت تريد الاستفادة منها لترسيخ وضوء الخليفة ! وإنك سوف تقف في فصل ( الوضوء في الكتاب واللغة ) على دور الحكومة وكيفيّة تحريفها للحقائق ،

(1) مسند أحمد 6 : 112 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 178 ـ
  ومدى استغلالها المصطلحات الثانوية كأسبغوا الوضوء ، وأحسنوا الوضوء ... في ترسيخ وضوء عثمان .
   2 ـ عبدالله بن عباس والربيع بنت معوذ :
   أخرج ابن ماجة بسنده إلى الربيع بنت معوذ أنها قالت : أتاني ابن عباس فسألني عن هذا الحديث ـ تعني حديثها الذي ذكرت أن رسول الله توضأ وغسل رجليه ـ ، فقال ابن عباس : إن الناس أبوا إلاّ الغسل ، ولا أجد في كتاب الله إلاّ المسح (1).
   ونحن نرجح صدور هذا النص في العهد الأموي لأُمور :
  1 ـ أوصلتنا البحوث السابقة إلى أن الخلاف بين المسلمين في الوضوء وقع في عهد عثمان ، ولم يكن له ذكر في عهد الرسول والشيخين ، ورجحنا كذلك أن إحداثات عثمان كانت في الست الأواخر من عهده ، وروينا عنه أنه كان يمسح على رجليه في أوائل عهده ، وتوصلنا كذلك إلى أن الاُمة كانت لا ترضى عن عثمان ولم تأخذ برأيه ، وذكرنا نصوصاً كثيرة عن الصحابة ومخالفتهم إياه .
   وعليه .. فإن جملة ابن عباس : ( ... وإن الناس أبوا إلاّ الغسل ) لا يتناسب إلاّ مع افتراض صدوره في العصر الأموي ، حين جاء انسياق الناس تبعاً لرأي الدولة .
  2 ـ نحتمل صدور هذا الخبر في أوائل العهد الأموي ، أي فيما بين سنة 40 إلى 60 ، وذلك لسبيين :
   الأوّل : حالة الانفتاح واللين التي كان يمارسها معاوية مع بعض الصحابة وإمكان مناقشة ابن عباس مع الربيع .
   الثانية : اضطهاد ابن عباس بعد مقتل الحسين وتخليه عن الافتاء ، حتى قيل

(1) سنن ابن ماجة 1 : 156 | 458 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 179 ـ
  عنه بأنه لما وقعت الفتنة بين ابن الزبير وعبدالملك بن مروان رحل مع محمد بن الحنفية إلى مكة ، وأن ابن الزبير طلب منهما أن يبايعاه فأبيا ، والجميع يعرف ما يكنّه ابن الزبير لبني هاشم ، هذا عن ابن الزبير .
   أما بالنسبة إلى المروانيين ، فإن ابن عباس لم يكن على وفاق مع عبدالملك بن مروان وغيره ... وعليه ، فلم تكن له تلك الحرية في عهد المروانيين حتى يمكنه مناقشة الربيع في رأيها .
  3 ـ يفهم من النص السابق أن ابن عباس جاء مستنكراً لا مستفهماً ، إذ لا يعقل أن يأخذ ابن عباس ـ وهو الذي عاش في بيت النبوة ، والقائل : ( نحن أهل البيت ، شجرة النبوة ، ومختلف الملائكة ، وأهل بيت الرسالة ، وأهل بيت الرحمة ، ومعدن العلم ) (1)ـ من امرأة ليست من كبار الصحابة ولا من أجلائهم .
   وإن قوله لها ( أبى الناس إلاّ الغسل ) يفهم منه أنّ الحالة في الوضوء أصبحت سلطوية وليست بشرعية وأن الكيفية التي روتها الربيع ترضي الناس لما فيها من ظاهر النقاء وكونها أبلغ في النظافة ، لا لشرعيتها وورودها في القرآن والسنة الشريفة .
  3 ـ أنس بن مالك والحجاج بن يوسف الثقفي :
   أخرج الطبري بسنده إلى حميد ، قال : قال موسى بن أنس لأنس ونحن عنده : يا أبا حمزة ، إن الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه نذكر الطهور ، فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم ، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ، وإنه ليس من ابن آدم أقرب إلى خبث قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما ...
   فقال أنس : صدق الله وكذب الحجاج ، قال تعالى : ( وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) (2).
   وأخرج بلفظ آخر وسند آخر مثله .

(1) أسد الغابة 3 : 193 .
(2) تفسير الطبري 6 : 82 ، تفسير ابن كثير 2 : 44 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 180 ـ
تنبيه :
   وجاء في تفسير القرطبي بسنده عن موسى بن أنس أنه أخبر أباه أن الحجاج أمر الناس بغسل الرجلين في الوضوء ، فقال : صدق الله وكذب الحجاج ، قال الله تعالى : ( وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) .
   أو : إن الحجاج خطب في الأهواز ، وأمر الناس بغسل الرجلين في الوضوء ، قال : فسمع ذلك أنس بن مالك ، فقال : صدق الله وكذب الحجاج ، قال الله تعالى : ( وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) (1).
   وذكر القرطبي ـ بعد أن قال : إن أنساً كان إذا مسح رجليه بلهما ـ قال : وروي عن أنس أنه قال : نزل القرآن بالمسح (2).
   وأخرج ابن كثير بسنده عن عاصم الأحول عن أنس ، أنه قال : نزل القرآن بالمسح ..ثم قال : إسناده صحيح (3).
   وأخرج السيوطي نحو ما أخرجه الطبري والقرطبي وابن كثير ، قال : وأخرج ابن جرير عن أنس أنه قال : نزل القرآن بالمسح (4).
   وقال صاحب تفسير الخازن : يروى عن أنس أنه قال : نزل القرآن بالمسح (5).
   وقال النيسابوري : اختلف الناس في مسح الرجلين وفي غسلهما ، فنقل القفال في تفسيره عن ابن عباس وأنس بن مالك : إن الواجب فيهما المسح ، وهو مذهب الإمامية (6).

استنتاج

   على ضوء النصوص السابقة نقف عند ثلاث نقاط :

(1) الجامع لأحكام القرآن 6 : 92 .
(2) الجامع لأحكام القرآن 6 : 92 .
(3) تفسير ابن كثير 2 : 44 .
(4) الدر المنثور 2 : 262 .
(5) تفسير الخازن 1 : 435 .
(6) تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان ، المطبوع بهامش تفسير الطبري .


وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 181 ـ
   الاُولى : استخدام الحجاج الرأي في إلزام الناس بغسل أرجلهم معلّلاً بأنه أقرب شيء إلى الخبث ، وإنا قد ذكرنا سابقاً موقف الإمام عليّ من أصحاب الرأي ، وانه قال لهم : لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدم أولى من ظاهره ، إلاّ أني رأيت رسول الله يمسح على ظاهره ...
   وبهذا تبين لك أن في الوضوء اتجاهين :
  1 ـ اتجاه الخليفة = الأخذ بالرأي (1).
  2 ـ اتجاه الناس = التعبد المحض بما قاله الله ورسوله .
   الثانية : نفهم من جملة ( إن الحجاج أمر الناس ... ) إن الحكومة قد تبنت فقه الخليفة عثمان في الوضوء ، ودعت إليه بوسائلها الخاصة ! تلك الحكومة التي سعت في تحريف الحقائق وتغيير مفاهيم بعض الأحاديث ... وستقف قريباً على المزيد منه إن شاء الله تعالى .
   الثالثة : امتداد خط الناس في الوضوء حتى زمن الحجاج بن يوسف الثقفي ، لقول موسى بن أنس ( ونحن معه نذكر الطهور ) وتصدي كبار الصحابة لذلك الاتجاه ، أمثال : أنس بن مالك (خادم رسول الله) ، وابن عباس (حبر الاُمة) و ... وأن وقوف أمثال هؤلاء أمام خط الدولة ـ رغم كل الملابسات وسياسات العنف ـ ينبئ عن أصالة الخط وصحة فعلهم .
   فالدولة خروجاً لها من هذا المأزق وغيره ولتصحيح ما تفرضه من اجتهادات وآراء تبنت فكرة تدوين السنة النبوية الشريفة ، ليكون زمام الاُمور بيدها وأن لا تواجه مستقبلياً مشكلة في نقل النصوص ! ! وأناطت لابن شهاب الزهري مهمة ذلك .

(1) سنثبت في الجانب الروائي من هذه الدراسة أن وضوء عثمان إنما صدر عن رأيه المحض ، وحتى ما نقله من رؤيته لوضوء رسول الله فإنه كان اجتهاداً في مقابل النص ، ولأجله لم يلق التأييد من الصحابة ، بل هناك ناس خالفوه فيما حكاه عن رسول الله ، وأن المنقول عنه ( صلى الله عليه واله وسلم ) ـ على فرض صدوره ـ لم يكن على نحو التشريع للمسلمين ، بل إنه من مختصاته ( صلى الله عليه واله وسلم ) !

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 182 ـ
   جاء في كنز العمال عن أنس أنه قال : رأيت رسول الله يتوضأ ثلاثاً ثلاثاً ، وقال : بهذا أمرني ربي عز وجل (1).
   تُرى كيف يأمره الله بالثالثة ونحن نعلم أنه فعل الثانية على نحو السنة وأعطى عليه الأجر كفلين ، وتواتر عنه في الصحاح والسنن أنه كان يتوضأ مرتين مرتين ؟ وهل بعد السنة فرض ، وألم يحتمل أن يكون هذا الأمر مختصاً بالرسول دون المؤمنين ؟ !
   وإذا صحت هذه الأحاديث عن أنس ... فلماذا لا نراها في الكتب المعول عليها في الفقه ـ كصحيح البخاري ومسلم والصحاح الأربعة الاُخرى و ... ـ ، ولماذا نرى نقل أغلب المتناقضات في الأحاديث إنما كان عن أنس وابن عباس وعليّ وجابر ابن عبدالله الأنصاري ، فأن كان أنس بن مالك قد خلط في آخر عمره وكان يُستفتى فيفتي من عقله ـ كما رواه محمد بن الحسن الشيباني عن أبي حنيفة ـ فكيف بابن عباس وعليّ وجابر بن عبدالله الأنصاري واختلاف النقل عنهما في الأحكام ؟ وهل إنهم قد خلطوا في الأحكام أو أن السياسة نسبت إليهم التناقض ، بل في بعض الأحيان التضاد ؟ !

رأيٌ وتنظير

   لو دقق الباحث النظر في الأخبار لوقف على دور السياسة في تحريف كثير من الاُمور ، فقد ذكر الفخر الرازي في تفسيره : ( في المسائل الفقهية المستنبطة من الفاتحة ) تعارض الروايات المنقولة عن أنس بن مالك في البسملة وأنه تارة يعتبرها جزءاً من السورة واُخرى ينفيها وفي ثالثة يتوقف عندها .
   قال الفخر الرازي :
   ( أقول ، إن أنساً وابن المغفل خصصا عدم ذكر بسم الله الرحمن الرحيم

(1) كنز العمال 9 : 459 | 26965 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 183 ـ
  بالخلفاء الثلاثة ولم يذكروا عليّاً ، وذلك يدل على إطباق الكل على أن علياً كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم .
ثم ساق بعدها كلام الشيخ أبي حامد الاسفرائيني ، وهو : روي عن أنس في الباب ست روايات ، أما الحنفية فقد رووا عنه ثلاث روايات :
   إحداها قوله : صليت خلف رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) وخلف أبي بكر وعمر وعثمان ، فكانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين .
   وثانيها قوله : إنهم ما كانوا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم .
   وثالثها قوله : لم أسمع أحداً منهم قال : بسم الله الرحمن الرحيم .
   فهذه الروايات الثلاث تقوي قول الحنفية ، وثلاث اُخرى تناقض قولهم :
   إحداها : ما ذكرنا من أن أنساً روى أن معاوية لما ترك بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة أنكر عليه المهاجرين والأنصار ، وقد بينا أن هذا يدل على أن الجهر بهذه الكلمات كالأمر المتواتر فيما بينهم .
   وثانيتها : روى أبو قلابة عن أنس أن رسول الله وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم .
   وثالثها : أنه سئل عن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والإسرار به ، فقال : لا أدري المسألة .
   فثبت أن الرواية عن أنس في هذه المسألة قدت عظم فيها الخبط والاضطراب ، فبقيت متعارضة ، فوجب الرجوع إلى سائر الدلائل ، وأيضاً ففيها تهمة اُخرى وهي أن عليّاً عليه السلام كان يبالغ في الجهر بالبسملة ، فلما وصلت الدولة إلى بني اُميّة بالغوا في المنع من الجهر ، سعياً في إبطال آثار علي عليه السلام ، فلعل أنساً خاف منهم ، فلهذا السبب اضطربت أقواله فيه ، ونحن وإن شككنا في شيء فإنّا لا نشك أنه مهما وقع التعارض بين قول أنس وابن المغفل وبين قول عليّ بن أبي طالب عليه السلام الذي بقي عليه طول

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 184 ـ
  عمره ، فأن الأخذ بقول عليّ أولى ، فهذا جواب قاطع في المسألة) (1)..
   وبهذا اتضح لك ما قلناه إنّ الأمويين كانوا ينسبون إلى مخالفيهم ما يرتؤون من أفكار ، وقد وقفت سابقاً على ما نسب إلى عليّ وأنه علم ابن عباس (حبر الاُمة) وضوء عثمان ! أو تقرير طلحة والزبير وسعد وعليّ لوضوء عثمان ! وأنه وضوء رسول الله ، مع كونهم من مخالفيه المطردين !
   أو ما نسب إلى الحسين بن عليّ من الوضوء الثلاثي الغسلي والدعاء في غسل الرجلين (2)!
   وعليه فان موقف أنس بن مالك يدل على أصالة نهج الوضوء الثنائي المسحي ، لأنه على رغم مخالفته لعليّ وعدم شهادته في صدور جملة : ( من كنت

(1) تفسير الفخر الرازي 1 : 206 .
(2) انظر سنن النسائي 1 : 69 باب صفة الوضوء ، والمعجم الصغير للطبراني .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 185 ـ
  مولاه ) (1)فيه ، تراه يدافع وبكل صلابة عن وضوء الناس ، فما معنى ذلك ؟ !
   ألم يكن لثبوته عنده ، وأنه قد رأى رسول الله يفعل ذلك ، وأن القرآن نزل به ؟ !

خبر مشوّه

   أما الأمويون ـ ومن باب الملازمة ـ فقد سعوا لتضعيف تلك الأخبار ، بما رووه عن أنس وأنه يدعو إلى الوضوء الثلاثي ، ليعارضوا ما ثبت عنه في المسح .
   أخرج الطبراني في الصغير بسنده عن عمر بن أبان بن مفضل المدني ، قال : أراني أنس بن مالك الوضوء ... أخذ ركوة فوضعها على يساره ، وصب على يده اليمنى فغسلها ثلاثاً ، ثم أدار الركوة على يده اليمنى فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً ، ومسح برأسه ثلاثاً ، وأخذ ماءً جديداً لصماخيه ، فمسح صماخيه .
   فقلت له : قد مسحت اُذنيك !
   فقال : يا غلام ، إنها من الرأس ، ليس هما من الوجه ، ثم قال : يا غلام ، هل رأيت وفهمت ، أو اُعيد ذلك ؟
   فقلت : قد كفاني ، وقد فهمت .
   فقال : هكذا رأيت رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) يتوضأ (2) .
   ولنا على هذا النص عدة مؤاخذات :
   الاُولى : وجود خلط في سند الحديث ، إذ فيه حدثنا جعفر بن حميد بن عبد الكريم بن فروخ بن ديرج بن بلال بن سعد الأنصاري الدمشقي ، حدثني جدي لاُمي عمر بن أبان بن مفضل .

(1) مسند أحمد 1 : 84 ، 118 ، الجامع الصغير 2 : 642 | 9000 ، سنن الترمذي 5 : 297 | 3797 .
(2) المعجم الصغير : 116 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 186 ـ
  1 ـ وهذا يدل على أن الحديث الذي رواه الطبراني عن أنس يمر بطبقتين ، في حين نعلم أنه لا يمكنه رواية حديث مثل هذا إلاّ عبر ثلاث طبقات أو أربع (1).
  2 ـ لم يرو عن بلال بن سعد الدمشقي أحد بتلك الأسماء ، ولم يرو هو عن جده لاُمة ، ولم يعرف أحد بهذا الاسم في كتب الرجال (2).
  3 ـ يحتمل أن يكون راوي هذا الخبر من أتباع السلطة ومن الذين يريدون نسبة ما يرتؤونه إلى الفقهاء المتعاملين مع السلطة ، قال أبو زرعة الدمشقي : بلال بن سعد أحد العلماء في خلافة هشام ، وكان قاصاً حسن القصص (3)، وعليه فالاطمئنان لمثل هذه الأخبار لا يميل إليه القلب .
   الثانية : إنّ راوي الخبر السابق ليس من الرواة المعروفين برواية الحديث ولا من المهتمين به ، ويكفي قول الطبراني عنه (لم يرو عمرو بن أبان عن أنس حديثاً غير هذا) .
   الثالثة : لو سلمنا جدلاً صحة الرواية ، فنرجح صدورها في زمن الحجاج ابن يوسف الثقفي وعهد عبد الملك بن مروان لمعرفتنا باتجاهه ومواقفه في الوضوء .
وأن تنكيله بالصحابة ومعارضته إيّاهم إنما هو لتحديثهم عن رسول الله وثباتهم على السنة الشريفة .
   فقد أخرج ابن عساكر في تاريخه عن أبي بكر بن عيّاش ، عن الأعمش :
   كتب أنس بن مالك إلى عبد الملك بن مروان : يا أمير المؤمنين إني قد خدمت محمداً تسع سنين [ وفي لفظ آخر : إني خدمت النبي تسع سنين ] ، والله لو أن اليهود والنصارى أدركوا رجلاً خدم نبيهم لأكرموه ، وأن الحجاج يعرض

(1) وبهذا لا يخرج حديث الطبراني عن المعلق أو المرسل أو المفصل اصطلاحاً ، كل بحسب عدد الوسائط الساقطة من الإسناد ، فهو ليس بحجة في المقام أتفاقاً .
(2) تهذيب الكمال 4 : 291 وتراجم الآخرين فيه .
(3) تهذيب الكمال 4 : 292 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 187 ـ
  بي حوكة البصرة ...
   فكتب عبدالملك إلى الحجاج يأمره بالاعتذار من أنس ، فجاء الحجاج إلى أنس ، وما أن سمع بذلك ، حتى خرج أنس يمشي حتى دنا منه ، فقال : يا أبا حمزة ، غضبت ؟
   قال الحجاج : أغضب ! تعرضني لحوكة البصرة ؟
   قال أنس : يا أبا حمزة ، إنما مثلي ومثلك كقول الذي قال : إياك أعني وأسمعي يا جارة ، أردت أن لا يكون لأحد عليّ منطق (1).
   بهذا المنطق كانوا يقابلون الصحابة ويسعون لتطبيق آرائهم ، فهل يمكن لأحد أن يطمئن لأحاديث أنس وغيره التي وقعت تحت الضغط وجور الحكام ؟ !
   الرابعة : إن قول الراوي ( فقلت له : قد مسحت اُذنيك ؟ ! فقال : يا غلام ... ) تفهم أن الراوي كان لا يستسيغ ولا يرتضي مسح الاُذنين ، بل نراه قد فوجئ بهذا الفعل من أنس ، وأن تأكيد أنس له وأنها من الرأس لا من الوجه ، وكذا قوله : ( هل رأيت وفهمت ، أو اُعيد عليك ؟ فقلت : قد كفاني ، وقد فهمت ) ... تدلل على أن مسح الاُذنين لم تكن من سيرة المسلمين وأنه قالها بحالة غضب وانفعال ، وكذا الحال بالنسبة إلى تثليث الغسلات وخصوصاً في الرأس منه ، حيث إن هذا الفعل لم يلحظ في جميع الوضوءات البيانية المنقوله عنه ( صلى الله عليه واله وسلم ) .
   وعليه ، فيحتمل أن يكون هذا الخبر ـ على فرض صحة صدوره ـ هو مما يُستدل به لنصرة المذهب المالكي ، إذ إنهم يؤكدون على مسح جميع الرأس ، لقولهم بأن الباء في السورة جاءت للالصاق ، وبهذا فإن هذه الرواية وغيرها تفيد هذا المذهب بالخصوص ، ولم توافق غيرها من المذاهب .
   هذا ، وانا لم نلحظ في هذا الخبر حكم الأرجل ، هل هو المسح أم الغسل ؟ ...

(1) تهذيب الكمال 3 : 374 ، وقريب منه في تهذيب ابن عساكر 4 : 77 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 188 ـ
  ولكن ، بما أن الثابت عنه هو المسح ـ وهو ما لا يعجب الحكام ـ فتركوا ذلك واستفادوا من الدلالة الالتزامية وفعل الثلاث للدلالة على أنه كان يغسل ولا يمسح ! !
   كل ذلك ليضعفوا ما له من أخبار مع الحجاج وتأكيده على المسح ! ! ولندرس حديثاً آخر :
   أخرج الطبراني في الصغير ، عن إبراهيم بن أبي عبلة : سألت أنس بن مالك (رض) كيف أتوضأ ، ولا تسألني كيف رأيت رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) يتوضأ ، رأيت رسول الله يتوضأ ثلاثاً ثلاثاً ، وقال : بهذا أمرني ربي عز وجل (1).
   هذه الرواية كغيرها تؤكد على وجود الخلاف حول الوضوء في العهد الأموي وأن أحد محاور الخلاف الغسل الثلاثي للأعضاء .
   نحن لا نريد مناقشة هذه الروايات أو تلك ، بل نريد أن ننوه بأن السياسة هي وراء طرح بعض المفاهيم السائدة اليوم ... ولو درسنا تلك النصوص بروح علمية لا يخالطها التعصب ، لوقفنا على حقائق مرة لا يطيق سماعها العامة ! ! بل نرى دور السياسة وتلاعبها في مصادر التشريع عبر تدوين ما يفيدها وطرح ما يغيظها ، ونشاط حركة تدوين الحديث واللغة والتاريخ وما شاكل ذلك جاء وفقاً لمتطلبات الحكومات وأهوائها (2)مما يضطرنا إلى تمحيص وتدقيق ملابسات التشريع وزمن تدوين اُصولها وبيان ما رافق السنة من ملابسات .
   وان توسعتنا لدائرة هذه البحوث لا يعني خروجاً عن الموضوعية في البحث وإثارة اُمور جانبية نحن في غنى عنها ، بل اعتقادنا أن قوام البحث يبتني على شرح قضايا كهذه ، وقد وضحنا سابقاً في مقدمة الكتاب وآلينا على أنفسنا أن ندرس الحدث من جميع جوانبه التاريخية والتشريعية والسياسية ،

(1) المعجم الصغير : 22 .
(2) ستقف على المزيد من ذلك عند دراستنا للعهد العباسي الأول .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 189 ـ
  واعترضنا على الذين اكتفوا بدراسة الأسانيد دون معرفة ملابسات التشريع .
   إذن ، فخروجنا وتخطينا لما نعتقده هو نقص ، إذ لا يمكننا الوقوف على الأحكام بصورتها الواضحة إلاّ ببيان مثل هذه القضايا ، وإليك أحد تلك المواضيع الدخيلة والمؤثرة في فهم الشريعة :
  تدوين السنة النبوية ، ودور الحكام فيه :
  يبدو أنه لما عاجلت المنية عمر بن عبد العزيز أعرض ابن حزم عن كتابة الحديث ، خاصة لما عزله يزيد بن عبدالملك ، لكن هشام بن عبد الملك في سنة 105 طلب من ابن شهاب الزهري ان يدون له الحديث ، وقيل أكرهه .
   عن معمر عن الزهري ، انه قال : كنا نكره كتابة العلم ، حتى أكرهنا عليه هؤلاء الامراء ، فرأينا أن لا نمنعه أحداً من المسلمين (1).
   وفي آخر : أستكتبني الملوك فاكتبتهم ، فاستحيت الله إذ كتبتها للملوك ولا أكتبها لغيرهم (2).
   قال أبو المليح : كنا لا نطمع ان نكتب عن الزهري حتى اكره هشام الزهري ، فكتب لبنيه فكتب الناس الحديث (3).
   والآن ، نتساءل ... من هم أولئك الحكام الذين يدعون الى تدوين السنة الشريفة ؟ ! ألم يكونوا هم أبناء أبي سفيان ، والحكم بن العاص ومن يماثلهم ؟
   أليس هم الذين وقفوا بوجه النبي ، ولم يدخلوا الاسلام إلا مكرهين ؟ !
   وكيف يُستأمن بنو مروان على ودائع النبوة ، وقد لعن رسول الله جدهم وأباهم ، وطردهما من المدينة ! !

(1) طبقات ابن سعد 2 : 389 ، البداية والنهاية 9 : 341 ، تقييد العلم للخطيب البغدادي : 107 .
(2) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 1 : 77 .
(3) حلية الاولياء 3 : 363 ، البداية والنهاية 9 : 345 كما في الرواية التاريخية لعطوان : 107 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 190 ـ
   أم كيف يجوز أخذ الأحكام من معاوية ، وهو الذي قال للمغيرة ـ وذلك عندما طلب منه ترك إيذاء بني هاشم لأنها أبقى لذكره ! ! ـ : ... هيهات ! هيهات ! أي ذكر أرجو بقاءه ؟ ! ملك أخو تيم فعدل ، وفعل ما فعل ، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره ، إلاّ إن يقول قائل : أبو بكر .
   ثم ملك أخو عديّ ، فاجتهد ، وشمر عشر سنين ، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره ، إلاّ أن يقول قائل : عمر .
   وأن ابن أبي كبشة ليصاح به كل يوم خمس مرات : أشهد أن محمداً رسول الله ، فأيّ عمل يبقى ؟ وأي ذكر يدوم بعد هذا ! لا أبا لك ! لا والله إلاّ دفناً دفناً (1).
   أو قوله لما سمع المؤذن يقول ( أشهد أن محمداً رسول الله ) : لله أبوك يا ابن عبدالله ! لقد كنت عالي الهمة ، ما رضيت لنفسك إلاّ أن تقرن اسمك باسم ربّ العالمين (2).
   والقائل لما دخل الكوفة : إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا ، أنكم لتفعلون ذلك ، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم ، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون (3).
   وعن أبيه اكثر من ذلك (4).
   أم كيف تطمئن نفوسنا بمروياتهم وكييف نأتمنهم على كنوز النبوة ، مع ما عرفنا من مكرهم وحيلهم وموقفهم من رسول الله ، وبثهم روح العصبية

(1) الأخبار الموفقيات للزبير بن بكار : 576 ـ 577 ، مروج الذهب 3 : 454 ، النصائح الكافية : 116 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9 : 238 .
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10 : 101 .
(3) مقاتل الطالبيين : 70 ، البداية والنهاية 8 : 134 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16 : 46 ، المعرفة والرجال للبسوي 3 : 318 .
(4) انظر الاستيعاب 4 : 1679 ، الاغاني 6 : 356 ، مروج الذهب 2 : 343 ، تاريخ دمشق 6 : 409 ، شرح النهج 2 : 45 و 16 : 136 وغيره .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 191 ـ
  والتفرقة بين المسلمين ؟
   وهل يمكن لأحد أن يطمئن لفقه الحجاج الذي يرجح عبد الملك بن مروان على رسول الله ! ولا يرضى بزيارة قبر الرسول (1)! !

تساؤلات تطلب إجابة

   لا ندري ! كيف يجوز لنا أخذ الأحكام من هؤلاء الحكام ، الذين صوروا لنا رسول الله بتلك الصورة ؟ !
   أم كيف تطمئن نفوسنا بالسنة المدونة من قبلهم ، مع ما عرفنا من موقف أقطاب الأمويين من رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) !
   ولماذا يكره السلطان المحدثين على تدوين السنة ـ ( حتى أكرهنا السلطان على ذلك ) ـ وما يعني هذا الإكراه ؟
   ولماذا يستحي الزهري من أن يكتبها للسلطان ولا يكتبها للناس ؟
   هل الحكومة تريد من تدوينها للحديث تثبيت ما يعجبها ومحو ما يغيظها ! !
   وما الذي كان يؤنب الزهري ، هل تبعيض الصفقة عند الحكام وأخذهم بالبعض ، وترك الآخر ، أم هناك شيء آخر ؟
   ومن هو الحاكم المكره ، هل هو أمويّ ، أم مروانيّ ... وهل هناك فرق بين سياسة الحكومتين في هذا الشأن ؟
   ولماذا تتوالى الهدايا على الفقهاء المسالمين ممن دخلوا في بيعة اُولئك الحكام ، في حين نراهم قد منعوا حجراً وأصحابه من العطاء ؟ !
   وكيف نرى الزهري يصير حظيّاً عند هشام بعد أن كان لا يحب التعامل

(1) انظر : البداية والنهاية 9 : 137 ، وقريب منه في تهذيب ابن عساكر 4 : 72 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15 : 242 ، وانظر : الكامل في اللغة والأدب للمبرد 1 : 185 ، والنصائح الكافية ، وأنساب الأشراف وتهذيب ابن عساكر .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 192 ـ
  معه (1)؟ !
   ولماذا يسمى أبو هريرة راوية الإسلام الأول دون غيره من الصحابة ؟ !
   ولماذا يهدي معاوية إلى عائشة حلقاً فيه جوهر بمائة ألف درهم دون غيرها من نساء النبي (2)؟ !
   أخرج أبو نعيم أن معاوية أهدى لعائشة ثياباً وورقاً وأشياء توضع في اُسطوانها (3) .
   وأخرج ابن كثير عن عطاء ، أن معاوية بعث إلى عائشة وهي بمكة بطوق قيمته مائة ألف ، فقبلته (4).
   وعن عروة : أن معاوية بعث إلى عائشة بمائة ألف (5).
   ونرى معاوية ، وبكل جرأة يحصر العطاء في محبي عثمان فيقول للسائل : إني اشتريت من القوم دينهم ، ووكلتك إلى دينك في عثمان (6)؟
   وكيف يقبل ابن عمر هدية معاوية ـ مائة ألف درهم ـ ..وعندما تذكر له البيعة ليزيد ، يقول : هذا ما أراد ! إن ديني إذن عليَّ رخيص (7)؟
   وكيف صار أبو هريرة يلبس الخز (8)والساج المزرور بالديباج (9)، والكتان الممشق (10)، والحرير (11)بعد أن كان حافي القدمين ، لا يستر جسمه إلاّ

(1) انظر : أضواء على السنة المحمدية : 260 .
(2) الذخائر والتحف للقاضي الرشيد بن الزبير : 11 .
(3) حلية الأولياء 2 : 48 .
(4) البداية والنهاية 8 : 139 .
(5) حلية الأولياء 2 : 47 .
(6) الكامل في التاريخ 3 : 468 .
(7) الطبقات الكبرى لابن سعد 4 : 182 .
(8) الطبقات الكبرى 4 : 333 .
(9) الطبقات الكبرى 4 : 333 .
(10) الإصابة 4 : 206 ، حلية الأولياء 1 : 379 ، صحيح البخاري 9 : 128 .
(11) حلية الأولياء 1 : 384 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 193 ـ
  إزار بال (1)وكان يقتله الجوع (2)؟ !
   ثم كيف به يتزوج الأميرة بسرة بنت غزوان ، ويصير سيدها ، بعد أن كان أجيراً عندها بملء بطنه (3)؟ !
   ولماذا يبنى له قصر بالعقيق (4) ، وتقطع له الأراضي في ( ذي الحليفة ) ، دون سواه من الرواة (5)؟ !
   ولماذا يصرح أغلب المتعاملين مع معاوية ... بأن : دينهم على خطر ..وغير المتعاملين يعللون عدم التعاون معه : حفاظاً على الدين ؟ !
   ذكر ابن عبد البر : أن معاوية بعث إلى عبد الرحمن بن أبي بكر ـ وهو من الناس في الوضوء ومن فقهاء الصحابة (6)ـ بعد أن أبى البيعة ليزيد بمائة ألف درهم ...فردها إليه عبد الرحمن ، وأبى أن يأخذها ، وقال : أأبيع ديني بدنياي ؟ !
   وما معنى قول عائشة لعبد الله بن الزبير : ادفني مع صواحبي ولا تدفني مع النبي في البيت فإني أكره أن أزكى(7).
   وكيف نرى موقف السيدة يختلف عن موقف أخيها عبد الرحمن في قصة مرة بن أبي عثمان ، الذي طلب من عبد الرحمن أن يكتب إلى زياد برسالة فكتب : إلى زياد بن أبيه : أما بعد ... ، فخاف مرة أن يذهب بالكتاب ، فأتى عائشة ، فكتبت له : من عائشة اُم المؤمنين ، إلى زياد بن أبي سفيان ، فلما جاء بالكتاب ، قال له : إذا كان غداً فجئني بكتابك .

(1) الطبقات الكبرى لابن سعد 4 : 326 ـ 327 .
(2) الطبقات الكبرى 4 : 327 و 329 ، حلية الأولياء 1 : 377 ، الإصابة 4 : 206 و 207 ، صحيح البخاري 9 : 133 .
(3) طبقات ابن سعد 4 : 326 ، حلية الأولياء 1 : 379 و 384 ، الإصابة 4 : 209 .
(4) وفيه مات كما هو منصوص عليه في الإصابة 4 : 210 والمعارف وغيرها .
(5) انظر : كتب التاريخ والرجال لتقف على حقيقة الأمر .
(6) انظر : اصحاب الفتيا من الصحابة لابن حزم تحقيق سيد كسروي : 57 ط 1 دار الكتب العلمية ، بيروت .
(7) صحيح البخاري 9 : 128 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 194 ـ
   فجمع الناس ، فقال : يا غلام إقرأه ، فقرأه : من عائشة أُم المؤمنين إلى زياد ابن أبي سفيان ، قال : فقضى له حاجته (1)!
   وفي معجم البلدان ، مادة ( نهر مرّة ) : ثم اقطعه مائة جريب على نهر الأبلة وأمر أن يحفر لها نهر فنسب إليه (2).
   وجاء في شرح النهج : انها : لم تأت إلى بني هاشم لتعزيهم بوفاة فاطمة ! بل نقل لعلي عنها كلمات تدل على فرحها (3)!
   وذكر أبو الفرج الاصفهاني في مقاتل الطالبيين : أن عائشة سجدت شكراً لله لما سمعت بمقتل علي بن أبي طالب (4).
   وروت عن النبي أنه قال : من أراد أن ينظر الى رجلين من أهل النار ، فلينظر الى هذين ، فنظرت عائشة ...فإذا بعلي والعباس قد أقبلا (5)!
   فهل يصح نقل هذه الاخبار عنه ( صلى الله عليه واله وسلم ) ؟
   أولم تناقض هذه الاخبار مع المتواتر المشهور في فضل علي بن أبي طالب ؟
   وهل من اللائق أن يقال لعلي ـ وهو أول من أسلم ، وحارب المشركين ، وبات على فراش النبي ، وبقى حتى آخر لحظة معه حتى واراه التراب ، ودافع عن سنته ـ إنه من أهل النار ؟ !
   وهل هذا هو جزاء من جاهد في سبيل الله ، وثبت على خط السنة النبوية المباركة ، ودافع عن الرسالة .. ؟ !
   لماذا لا يكون من أهل النار في رواية عائشة : معاوية ، ومراوان ، وعبد الله بن أبي سرح ، والوليد بن عقبة ، وغيرهم من الذين ورد اللعن فيهم ؟ !

(1) الطبقات الكبرى 7 : 99 ـ 100 .
(2) معجم البلدان 5 : 323 .
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9 : 198 .
(4) مقاتل الطالبيين : 43 .
(5) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 : 64 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 195 ـ
  ولماذا نراها لا تصرح باسم عليّ ، وتقول : مشى بين رجلين (1)في حديث آخر ؟ !
   فهل قولها ذلك جاء من جراء حقدها وعدائها لعليّ وأهل بيته ! كما صرح به الإمام عليّ أم غير ذلك ، فقال الإمام : ( وأما فلانة ، فأدركها رأي النساء ، وضغن غلا في صدرها كمرجل القين ، ولو دعيت لتنال من غيري ما أتت إليَّ لم تفعل ) (2).

عطفاً على ما سبق

   ولنعد إلى ما طرحناه سابقاً عن الحكام ودورهم في تدوين السنة الشريفة ، وسبب تصديهم للتدوين والإفتاء ، على الرغم من وجود كبار التابعين وأعاظم الفقهاء والمجتهدين ! ..
   وماذا تعني الإحالة عليهم ، وأخذ الأحكام عنهم ، وهل حقاً أن ما يقوله ابن عمر هو قول الله ورسوله ولا يمكن أن يرد فيه الخطأ ؟
   وكيف صارت السنة تدوّن عن إكراه ! ولزوم أخذ الناس بها للصعب والذلول ! فقد جاء في شرح مسلم للنوويّ : أن بشير العدوي جاء إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول : قال رسول الله ، قال رسول الله ، وابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه .
   فقال : يابن عباس ، مالي لا أراك تسمع لحديثي ، اُحدثك عن رسول الله ولا تسمع .
   قال ابن عباس : انّا كنا مرة اذا سمعنا رجلاً يقول قال رسول الله ابتدرته

(1) انظر : صحيح البخاري 1 : 61 ، وكذا تاريخ الطبري .
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9 : 189 ، وهو في كلام له خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 196 ـ
  أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا ، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلاّ ما نعرف (1).
   وقيل : إن كتاباً فيه قضاء عليّ اُتي إلى ابن عباس فمحاه إلاّ قدراً (2).
   وجاء في طبقات الفقهاء ، عن سعيد بن جبير ، قال : سألت عبدالله بن عمر عن الإيلاء ؟
   قال : أتريد أن تقول : قال ابن عمر ، قال ابن عمر ؟
   قلت : نعم ، ونرضى بقولك .
   فقال ابن عمر : يقول في ذلك اُولو الأمر ، بل يقول في ذلك الله ورسوله .
   ولا ندري كيف صارت صوافي الاُمراء ـ عند فقدان الحكم في الكتاب والسنة ـ حجة شرعية عند بعض المسلمين ... فهل هي حقاً حجة ؟
   جاء في أعلام الموقعين ، عن المسيب بن رافع ، قال :
   كان إذا جاء الشيء في القضاء وليس في الكتاب ولا في السنة فيدفع إلى الاُمراء ، فيجمع له أهل العلم ، فإذا اجتمع عليه رأيهم فهو الحق (3).
   ولماذا نرى ابن عمر يدل الناس على التمسك بفقه عبدالملك بن مروان من بعده ، إذ قيل له : من نسأل بعدكم ؟
   قال : إن لمروان ابناً فقيهاً فسلوه (4).
فمن هو مروان ؟ !
   ألم يكن ذلك الطريد الذي أبعده رسول الله مع أبيه إلى خارج المدينة ..ثم صار عميد الاُسرة الحاكمة بعد يزيد ؟ !

(1) صحيح مسلم بشرح النووي 1 : 81 والمسترشد للطبري : 174 .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 1 : 83 .
(3) أعلام الموقعين 1 : 84 ، وقد أخرجه البخاري في صحيحه وابن سعد في طبقاته أيضاً .
(4) تهذيب التهذيب 6 : 422 ، تهذيب الكمال 18 : 410 ، تاريخ بغداد 10 : 389 ، المنتظم 6 : 39 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 197 ـ
   أو لم يقل أبو سعيد الخدري ـ عندما اعترض عليه في تقديمه الخطبة على الصلاة : غيّرتم والله (1)؟ !
   وهل يمكن تصديق قول جرير بن حازم : سمعت نافعاً يقول : لقد رأيت المدينة وما بها أشد تشميراً ، ولا أفقه ، ولا أقرأ لكتاب الله من عبدالملك(2)!
   مع علمنا بأن عبدالملك هذا هو ابن مروان بن الحكم ـ طريد رسول الله ـ وقد ولد من أبوين أمويين أبوه : مروان بن الحكم بن العاص (طريد رسول الله) .
واُمه : عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن العاصّ ، الذي جدع أنف حمزة عم النبي يوم اُحد(3)، والذي أمر رسول الله بضرب عنقه .
   ثم بأي منطق يمكن أن يعد عبدالملك أفقه وأقرأ الناس ، مع علمنا أن المدينة لم تخلو يوماً من الفقهاء والعلماء ، فهل كانت الساحة خالية حقاً حتى يتصدر الحاكم ريادة الفقه والقراءة ، لأنه الأفقه والأقرأ ؟ !
   ولماذا يبكي أنس ، عندما كان في دمشق ؟ !
   قال الزهري : دخلت على أنس بن مالك بدمشق ، وهو يبكي ..فقلت : ما يُبكيك ؟ !
   قال : لا أعرف شيئاً مما أدركت إلاّ هذه الصلاة ، وهذه الصلاة قد ضيعت (4)! !
   وأخرج البخاري ، عن غيلان ، أنه قال : قال أنس : ما أعرف شيئاً مما كان على عهد النبي !
   قيل : الصلاة !

(1) صحيح البخاري 2 : 22 باب الخروج الى المصلى بغير منبر .
(2) تهذيب التهذيب 6 : 422 ، تهذيب الكمال 18 : 410 : تاريخ بغداد 10 : 389 ، المنتظم : 6 : 39 .
(3) انظر : البداية والنهاية 9 : 67 .
(4) البداية والنهاية 9 : 94 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 198 ـ
   قال : أليس ضيعتم ما ضيعتم فيها (1)!
   ولماذا نرى العبادة في هذا العهد جسداً بلا روح ، وقالباً بلا محتوى ؟ !
   فقد أخرج البخاري ، عن الأعمش ، قال : سمعت سالماً قال : سمعت اُم الدرداء تقول : دخل عليّ أبو الدرداء ، وهو مغضب ، قلت : ما أغضبك ؟
   فقال : والله ! ما أعرف من أُمة محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) إلا أنهم يصلون جميعاً (2).
   وهل تطمئن نفوسنا بعد هذا إلى احاديث أمثال هؤلاء الحكام واجتهادات الحجاج وفتاوى عبد الملك و ... بعد أن عرفنا مواقفهم من الشريعة ؟
   عجباً لدوران الزمان ! ... إذ كيف صار هؤلاء حكاماً حتى يتصدروا للقضاء والإفتاء ، بعد أن جذبوا إليهم من وعاظ السلاطين ذلك العدد الذي تمكنوا من خلاله من أن يقولوا كل ما يريدون ! !
   قال سعيد بن جبير : كان رجاء بن حيوة يعد من أفقه فقهاء الشام ، ولكن كنت إذا حركته ، وجدته شامياً يقول : قضى عبد الملك بن مراوان بكذا وكذا (3).
   وأحسبك ـ بعد هذا ـ قد عرفت عبد الملك ، وعرفت موقفه من الشريعة .
   إذا كان هذا هو حال الحكام ، وهذه هي حال الشريعة ... فكيف بأُولئك الناس في وضوئهم ، بعد أن أحكم الحاكم قبضته ، وأعلن عن منهجه المخالف للنبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) وسنته ؟ !
   وتراه يؤكد لزوم الأخذ بفقه عثمان ، قال عبد الملك فيما قال : ... فالزموا ما في مصحفكم الذي حملكم عليه الامام المظلوم ، وعليكم بالفرائض التي جمعكم عليه إمامكم المظلوم رحمه الله ، فإنه قد استشار في ذلك زيد بن ثابت ، ونعم المشير كان للإسلام رحمه الله ، فأحكما ما أحكما ، واستقصيا ما شذ عنهما (4).

(1) صحيح البخاري 1 : 140 .
(2) صحيح البخاري 1 : 166 باب فضل صلاة الفجر في جماعة ، فتح الباري 2 : 109 .
(3) انظر : ترجمة رجاء بن حيوة في طبقات الفقهاء وتهذيب الكمال 9 : 154 .
(4) البداية والنهاية 9 : 68 .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 199 ـ
   فهل يمكن الاطمئنان بمرويات الحكام في الوضوء والحال هذه ؟ !
   وماذا يعني إكراه الزهري على تدوين السنة الشريفة ؟ ولماذا يستحي أن يكتبها للسلطان ، ولا يكتبها للناس ؟
   وما معنى كتاب عمر بن عبدالعزيز إلى الآفاق : عليكم بابن شهاب [ الزهري ] فإنكم لا تجدون أعلم بالسنة الماضية منه !
   وكيف يستتر بعد هذا معنى ومقصود كلام الزهري : لو جمع علم عائشة إلى علم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل ! !
   وقول عطاء ـ فقيه الحكومة ـ : كانت عائشة أفقه الناس وأحسنهم رأياً في العامة ! !
   وهل يصح قول ابن عمر : لا اُقاتل في الفتنة ، واُصلي وراء من غلب (1)؟
   فما معنى قوله تعالى : ( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) (2)إذاً ؟
   وهل أن الشرعية للأقوى من ضمن مفاهيم الشريعة الإلهية ، حتى يستمدوا من شريعة الغاب رؤاهم ؟ !
   ولماذا تصدر أمثال هذه الرؤى عن : ابن عمر ، وابي هريرة ، وأشباههما ؟
   وكيف يجرؤ البعض أن ينسب إلى ابن عمر الإقلال في الحديث ؟ ! في حين نراه يروي أكثر من 2000 حديثاً ، فهل هذا هو المقل ، أم المُقلّ ، أم المقل أم سلمة ( زوجة الرسول ) وأبوذر وعمار وغيرهم من المخالفين للحكام ؟ !
   ولا ندري أنصدق الواقع ، أم نصدق ما قاله الشعبي : جالست ابن عمر سنة فما سمعته يحدث عن رسول الله (3)؟

(1) طبقات ابن سعد 4 : 149 .
(2) الحجرات : 9 .
(3) الإصابة 2 : 349 عن مجاهد .

وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع ـ 200 ـ
   وكيف نصدّق ما نقله ابن سعد والذهبيّ عن الإمام الباقر وأنّه قال في ابن عمر إنّه أحذر أصحاب النبيّ إذا سمع من رسول الله شيئاً إلاّ يزيد ولا ينقص (1)وأقوال عائشة والنصوص الأخرى تكذّب هذا الخبر !
   وكيف صار أبو هريرة من الأدوات الفاعلة في المخطّط الامويّ ، حتّى أنّه ليعرف متى يأتي قطعان الشام ، ويدعو إلى إطاعتهم وعدم سبّ الظالمين ؟ ! !
   قال العجّاج الراجز : قال لي أبو هريرة : من أين أنت ؟
   قلت : من أهل العراق .
   قال : يوشك أن يأتيك بقطعان الشام [ أي خدمهم وعمّال الزكاة ] فيأخذوا صدقتك ، فإذا أتوك فتلقّهم بها ، فإذا دخلوها ، فكن في أقاصيها ، وخلّ عنهم عنها ، وإيّاك أن تشتمهم ، فإنّك إن سببتهم ذهب أجرك ، وأخذوا صدقتك ، وإن صبرت ... جاءت في ميزان عملك يوم القيامة (2).
   وفي كتاب الأموال لأبي عبيد : انّ رجلأ جاء إلى أبي هريرة فقال : أأُخبّي منهم كريمة مالي ؟
   قال : لا ، إذا أتوكم فلا تعصوهم ، وإذا أدبروا فلا تسبّوهم ، فتكون عاصياً خفّف عن ظالم ، ولكن قل : هذا مالي ، وهذا الحق ، فخذوا الحقّ وذر الباطل ، فإن أخذه فذلك ، وإن تعداه إلى غيره جمعا لك في الميزان يوم القيامة(3).
   نعم ، قد طرح الحكام هذه الرؤى لئلا يقف أحد أمام تصرفاتهم ، لترك ما لله لله ، وما لقيصر لقصير ، ولتخدير الأمّة ، وترويضها على الابتعاد عن التدخّل في أجواء الحكم والحاكم ، والاكتفاء بالخروج إلى الصلاة أيّام الجمع ، لتجريدهم من روح النصيحة ، وجعلهم أناساً بلا مسؤوليّة ، حتّى لا يقف

(1) طبقات ابن سعد 4 : 144 ، سير أعلام النبلاء 3 : 213 .
(2) الشعر والشعراء لابن قتيبة : 392 .
(3) كتاب الأموال : 412 .