وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريعولما استقر مذهبه الجديد شغب عليه بعض عوام أصحاب مالك فقتلوه (1) . وقد وردت طعون على الشافعي كعدم نقل البخاري ومسلم حديثاً عنه في صحاحهم ، وما نقله أحمد بن حنبل عن الشافعي قوله : أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا ، وقول أبي ثور : ما كان الشافعي يعرف الحديث ، وإنما كنا نوقفه عليه ونكتبه (2) ، وغيرها ، لكنا نحتمل كونها طعوناً عصبية ، فإن ترك البخاري ومسلم التحديث عن الشافعي لم يكن دليلاً على الجرح فيه ، إذ لم يكن ذلك دائراً مدار الواقع ، فإن الصحيح هو ما صح عندهما وإن كان مخالفاً للواقع ، فنراهما كثيراً ما يرويان عن أشخاص ضعاف أو عرفوا بالكذب ، وعدت تلك الروايات بمنزلة الصحاح ، وان المؤاخذات على البخاري لم تنحصر بهذا فقط . وعلى هذا يحتمل أن يكون عدم تحديث البخاري ومسلم ، وغيرها من الطعون المذكورة فيه ، إنما جاءت لقوله : إن علي بن أبي طالب هو الإمام الحق في عصره ، وأن معاوية وأصحابه كانوا الفئة الباغية . وقد اتخذ الشافعي في كتاب السير من فقهه سنة علي (ع) في معاملة البغاة ، وإظهاره حب آل محمد رغم وقوف الحكام في طريق ذلك ، وقد اشتهر عنه قوله :
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع![]() وكان يرى عليّاً رابع الخلفاء الراشدين ، في الوقت نفسه لم يلتزم أن يكون معاوية باغياً على الإمام عليّ ـ كما ذهب إليه الشافعيّ . والجدير ذكره أنّ الإمام أحمد لم يشتهر كباقي أصحاب المذاهب ، ويرجع البعض سبب ذلك إلى أنّه كان محدّثاً ولم يكن فقيهاً ، حتّى قيل إنّ شهرته كانت بسبب عدم قوله بخلق القرآن وقد قال بها بعدما ضرب ثمانية وثلاثين سوطاً أيّام المعتصم . ولمّا تولّى الواثق أعاد امتحان أحمد ، لكنّه لم يصبه بأذى ، واكتفى بمنعه من الاجتماع بالناس ، فأقام أحمد مختفياً لايخرج إلى الصلاة ولا إلى غيرها حتّى مات الواثق . وتولّى المتوكّل الخلافة سنة 232 هـ واشتدّت وطأته على العلويين ، وعرف ببغضه لأهل البيت ، وطرد المعتزلة من حاشيته ، ونكلّ بابن أبي دواد ومحمّد ابن عبد الملك الزيّات وصادر أموالهم ، وأخذ يقرّب أصحاب الحديث ويأمر المحدّثين أن يجلسوا للناس ويتحدّثوا إليهم ، وأعطاهم الأموال والمكانة ، حتّى أنّ ابن كثير نقل أنّ تولية يحيى بن أكثم كانت بمشورة الإمام أحمد بن حنبل (1) ، وفي نص آخر انّ المتوكّل قال : له يا أحمد انيّ أريد أن أجعلك بيني وبين الله حجّة فأظهرني على السنّة والجماعة ، وما كتبته عن أصحابك عمّا كتبوه عن التابعين ممّا كتبوه عن اصحاب رسول الله (2) . وقد وشى بعضهم بأحمد عند المتوكّل بأنّه يشتم آباءه ويرميهم بالزندقة ، فأمر المتوكّل بضرب ذلك الرجل الواشي ، وعندما سئل عن ذلك قال : (لأنّه قذف هذا الشيخ الرجل الصالح أحمد بن حنبل) (3) . نعم ، لقد استمع المتوكّل إلى أقوال الجواسيس بأنّ أحمد يؤوي أحد العلويين الهاربين من المتوكّل ، فأمر بكبس داره وتفتيشها ، فلمّا تحقّقوا من
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع![]() دخل مالك بن أنس على المنصور فقال له : يا مالك مالي أراك تعتمد على قول ابن عمر دون أصحاب رسول الله ؟ فقال مالك : يا أمير المؤمنين إنّه آخر من بقي عندنا من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) فاحتاج الناس إليه ، فسألوه وتمسّكوا بقوله . فقال : يا مالك عليك بما تعرف أنّه الحقّ عندك ، ولا تقلّدنّ عليّاً وابن عبّاس (1) . بعد هذا لا يمكننا الاطمئنان إلى مرويّات هذه الكتب بلا تحقيق وتمحيص سنداً ودلالة وزيادة ونقيصة ، وبدون معرفة الملابسات التاريخيّة لصدور الأحكام ، لأنّ ما تحتوي عليه ممّا طالته السياسة . وقد عرفت أنّها تريد تدوين ما ترتضيه وترك ما لا ترتضيه . الوضوء الثلاثيّ الغسليّ في العصر العبّاسيّ بعد أن أخذنا صورة عن تأسيس المذاهب الأربعة ، ووقفنا على أهداف الحكّام من احتواء الفقهاء ، وتدوين الفقه وحصره بهذه المذاهب ، لابدّ من ملاحظة السير التاريخيّ لمسألة الوضوء في هذا العصر ، ولا بدّ من نقل آراء علماء المذاهب فيه رواية وفتتوىً ، ثمّ مقابلتها بآراء أئمّة مذهب التعبّد المحض (مذهب أهل البيت) ، وتشخيص امتداد موارد الخلاف التي حدثت في عهد عثمان ، وما أضيف إليها من جزئيّات وفروع في العصور اللاحقه . إنّ التثليث في غسل الأعضاء وغسل الأرجل كان المدار الأوّل للاختلاف بين المسلمين في عهد عثمان ، لكنّا نراه يتطوّر ، فنرى ابن عمر يغسل رجليه سبع مرّات ويعدّ الوضوء هو الإنقاء .
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع![]() ابن زيد بن عاصم ، والربيّع بنت معوّذ ، وحتّى أنّ صحاح مرويّات الخليفة عثمان ليس فيها ذلك . وانّا سنشير إلى كيفيّة نسبة هذا الخبر إلى عبدالله بن زيد والسير الفقهيّ لهذه المسألة وغيرها من التفريعات في الفصول اللاحقة من هذا الكتاب ، لكن الذي يجب الإشارة إليه هنا هو : إنّ موضوع مسح الرأس قد تغيّر من أيّام معاوية وأخذ يفقد حكمه ، حتّى ترى فقهاء المذاهب اليوم يجوّزون غسل الرأس بدلاً من مسحه ، وإن ذهب البعض منهم إلى القول بالكراهة ! بعد ذلك لا نرى للمسح حكماً إلزاميّاً في وضوء مسلمي المذاهب الأربعة اليوم (1) ! كانت هذه إشاره عابرة إلى هذا الأمر نترك تفصيلها إلى الأجزاء الأخرى من الكتاب . ولنعد إلى أصل البحث وبيان الوضوء الثلاثيّ الغسليّ عند أئمّة المذاهب : 1 ـ الفقه الحنفيّ اتّفقت الحنفيّة على هذا الوضوء الثلاثي الغسلي والمراجع لكتبهم المهمّة كأحكام القرآن للجصّاص (م 370) ، وشرح معاني الآثار للطحاويّ (م 321) ، وبدائع الصنائع للكاسانيّ (م 587) ، وعمدة القاري للعينيّ (م 855) ، وشرح فتح القدير لابن همام (م 681) ، والمبسوط للسرخسيّ (م 483) ، والفتاوي
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع![]() فقال عبد الله بن زيد : نعم ، فدعا بوضوء ، فأفرغ على يده ، فغسل يديه مرّتين ، ثمّ تمضمض ، واستنثر ثلاثاً ، ثمّ غسل وجهه ثلاثاً ، ثمّ غسل يديه مرّتين إلى المرافقين ، ثمّ مسح رأسه بيديه ، فأقبل بهما وأدبر ، بدأ بمقدّم رأسه ثمّ ذهب بهما إلى قفاه ، ثمّ ردّهما ، حتّى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ، ثمّ غسل رجليه ) (1) . لم يحدّد مالك في الموطّأ غسلات الوضوء بمرّة ولا مرّتين ، ولا ثلاث مرّات ، ولم يبوّب باباً في الافراد والتثنية والتثليث ، وإنّما اقتصر على هذه الرواية التي لم يرد فيها إلاّ تثليث غسل الوجه وغسل الرجلين ، لكنّ ابن رشد القرطبيّ المالكيّ قال : ( اتّفق العلماء على الواجب من طهارة الأعضاء المغسولة هو مرّة مرّة إذا أسبغ وأنّ الاثنين والثلاث مندوب إليها ) (2) . فالمالكية استنتجوا من قول مالك وسائر المرويات أنّ التثليث أيضاً مندوب إليه ، وأنّه وضوء مجز وإن كان يتحقّق فعله بواحدة على نحو الإسباغ . ولابن العربيّ في أحكام القرآن تحقيق انفرد به ، وهو : ( إنّ قول الراوي انّ النبيّ ( صلى الله عليه واله وسلم ) توضّأ مرّتين وثلاثاً ، أنّه أوعب بواحدة ، وجاء بالثانية والثالثة زائدة ، فإنّ هذا غيب لايدركه بشر ، وإنّما رأى الراوي أنّ النبيّ ( صلى الله عليه واله وسلم ) قد غرف لكلّ عضو مرّة فقال : توضّأ مرّة ، وهذا صحيح صورة ومعنى ، ضرورة أنّا نعلم قطعاً انّه لو لم يوعب العضو بمرّة لأعاد ، وأمّا إذا زاد على غرفة والواحدة في العضو أوغرفتين فإنّنا لا نتحقق أنّه أوعب الفرض في الغرفة الواحدة وجاء ما بعدها فضلاً ، أو لم يوعب في الواحدة ولا في الاثنين حتّى زاد عليها بحسب الماء وحال الأعضاء في النظافة ، وتأتي حصول التلطّف في إدارة الماء القليل والكثير عليها ، فيشبه ـ والله أعلم ـ انّ النبيّ ( صلى الله عليه واله وسلم ) أراد أن يوسّع على أمّته بأن يكرر لهم الفعل ، فإنّ أكثرهم لا يستطيع أن يوعب بغرفة واحدة ، فجرى مع
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع![]() (فمن زاد على الثلاث فقد أساء وظلم) (1) . وجاء عن ابن العربي في كتاب الوصايا صفحة 143 طبعة الاعلمي : فإذا توضأت فأعزم أن تجمع بين قسم رجلك وغسلها فأنّه أولى . قلت : لنا تحقيق آخر قريب لما قاله ابن العربيّ سنذكره في الفصل الأوّل من هذه الدراسة ، فتابع معنا . 3 ـ الفقه الشافعيّ كتب علماء الشافعيّة كثيراً في الأحكام ، وبمراجعتنا لكتبهم المهمّة يمكننا الوقوف على وضوئهم ، وأنّه لا يختلف في الأصول عن المذاهب الأخرى ، فتراه متأثّراً بما حكاه الخليفة عثمان بن عفّان عن رسول الله . وأهم كتب الشافعيّة هي : اختلاف العلماء للمروزيّ (م 294) ، الاُمّ للشافعيّ (م 204) ، والمختصر للمزنيّ (م 264) ، ومعالم السنن للخطابيّ (م 388) ، والمهذّب للفيروزآباديّ (م 476) ، والمجموع للنوويّ (م 676) ، وفتح الباري لعسقلانيّ (م 852) ، وغيرها . وقد حكى الشافعيّ ذلك الوضوء عن ابن عبّاس وأنّه قال : (توضّأ رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) فأدخل يده في الإناء فاستنشق وتمضمض مرّة واحدة ثمّ أدخل يده فصّب على وجهه مرّة وصبّ على يديه مرّة ومسح برأسه وأذنيه مرّة واحدة) (2) . ثمّ نقل بعدها رواية عن حمران مولى عثمان عن عثمان أنّه توضّأ بالمقاعد ثلاثاً ثلاثاً (3) . ثمّ قال الشافعيّ : وليس هذا اختلافاً ، ولكنّ رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) إذا توضّأ
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع![]() وغسل وجهه ثلاثاً ويديه ثلاثاً ثلاثاً ، ثمّ مسح برأسه ورجليه ثلاثاً ثلاثاً (1) . وأخرى عن بسر بن سعيد عن عثمان أنّه توضّأ ثلاثاً ثلاثاً (2) . وروى أيضاً رواية أخرى عن حمران عن عثمان ، أنّه غسل وجهه ثلاث مرّات ، ثمّ غسل يديه إلى المرفقين ثلاث مرّات ، ثمّ مسح برأسه ... ثمّ غسل رجليه إلى الكعبين ثلاث مرّات . ورابعة عن حمران عن عثمان أنّه توضّأ بالمقاعد : ... فغسل ثلاثاً ثلاثاً . وقد تتّبعنا روايات عثمان في مسند أحمد ، فرأيناه ينقل المرويات الثلاثيّة عنه ( صلى الله عليه واله وسلم ) وليس فيها حتّى رواية واحدة أنّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) توضّأ المرّة أو المرّتين . أمّا الروايات الثلاثيّة فهي أكثر من اثنتي عشرة رواية ، وفي بعضها انّه مسح برأسه ثلاثاً وثلّث غسل الرجلين ، اللّهمّ إلاّ رواية واحدة جاء فيها (ومسح برأسه وظهر قديمه) (3) . وفي الحديث الأوّل : (ثمّ مسح برأسه ورجليه ثلاثاً) (4) . فنلاحظ أنّ أحمد نقل الوضوء العثمانيّ الموافق لرأي المتوكلّ وحكومة بني العبّاس ، الذي هو امتداد لنهج الأمويّين وعثمان بن عفّان . وينسب هذا الوضوء كذلك إلى عليّ بن أبي طالب (5) ! ولا نريد أن نتّهم الإمام أحمد بالكذب أو الوضع ، فقد نقل الكثير من فضائل عليّ ، لكنّه والفقاء الثلاثة الأخرين تتلمذوا في العهدين الأموي والعباسي ، وكانوا على اتصال بالحكام ، وأخذوا العلم عن أساتذة أمويّين وعبّاسيّين ، فكان ما تلقّوه قد تأثّر بالحكّام ، فلا تراهم ينقلون رأي عليّ بن أبي طالب وعبد الله بن عبّاس وأوس
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع![]() 1 ـ غسل الوجه 2 ـ غسل اليدين مع المرفقين . 3 ـ مسح ربع الرأس ، ويقدّر الربع بقدر الكف كلّها ، وإذا غسل رأسه مع وجهه أجزأه عن المسح ، ولكنّه يكره . 4 ـ غسل الرجلين مع الكعبين ، وقالوا : إنّ غسل العضو كلّه بالماء مرّة واحدة فرض والغسلة الثانية والثالثة سنّتان مؤكّدتان على الصحيح . وأمّا فرائض الوضوء في مذهب المالكيّة ، فهي سبعة : 1 ـ النيّة . 2 ـ غسل الوجه . 3 ـ غسل اليدين مع المرفقين . 4 ـ مسح جميع الرأس ، وإذا غسل رأسه ، فإنّه يكفيه عن المسح إلاّ أنّه مكروه . 5 ـ غسل الرجلين مع الكعبين . 6 ـ الموالاة . 7 ـ دلك الأعضاء الغسليّة ، وقالوا : إنّ الغسلة الثانية والثالثة في كلّ مغسول حتّى الرجلين يعدّ من الفضائل . وهي في مذهب الشافعيّة ستّة : 1 ـ النيّة . 2 ـ غسل الوجه . 3 ـ غسل اليدين مع المرفقين . 4 ـ مسح بعض الرأس ولو قليلاً ، وإذا غسل رأسه بدل المسح أجزأه ، ولكنّه خلاف الأولى وليس بمكروه . وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع![]() لفقه مالك وأبي حنيفة في العهد العبّاسيّ ، وإن كان لكلّ منهما أصول يختصّ بها . إنّه لابدّ هنا من معرفة رأي أئمّة أهل البيت وكيفيّة امتداد وضوئهم في العصر العبّاسيّ . نبدأ بذكر وضوء محمّد بن عليّ بن الحسين (الباقر) والذي صدر في العهد الامويّ ، ثمّ نردفه بوضوء الأئمّة من ولده مبيّنين سرّ تأكيدهم على بيان بعض الجزئيّات في الوضوء ، علماً أنّ الباقر ـ كما قلنا سابقاً ـ كان لا يتّقي في الوضوء ن إذ إنّ الوضوء الذي يصفه لا يمكن الخدش فيه ، فتراه يؤكّد على المرّة والمرّتين ، وهو ثابت في الأحاديث النبويّة المتواتر صدورها في الصحاح والمسانيد عنه ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، وأنّ رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) قد توضّأهما . أمّا تأكيد عثمان على الغسل الثالث فمختلف فيه ، وعليه فإنّ ما طرحه الباقر متفّق عليه بين المسلمين ولا اختلاف فيه . والآن لنسرد بعض الروايات المرويّة عنه : 1 ـ قال عن زرارة : قال أبو جعفر (أي الباقر) : ( ألا أحكي لكم وضوء رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) ؟ ) قلنا : بلى ، فدعا بقعب فيه شيء من ماء ، فوضعه بين يديه ، ثمّ حسر عن ذراعيه ، ثمّ غمس فيه كفّه اليمنى ، ثمّ قال : ( هكذا ، إذا كانت الكفّ طاهرة ) ، ثمّ غرف بملئها ماءً فوضعه على جبينه ، ثمّ قال : ( بسم الله ) ، وسدله على أطراف لحيته ، ثمّ أمرّ يده على وجهه وظاهر جبينيه مرّة واحدة . ثمّ غمس يده اليسرى ، فغرف بها فملأها ، ثمّ وضعه على مرفقه اليمنى ، فأمرّ كفّه على ساعده حتّى جرى الماء على أطراف أصابعه . ثمّ غرف بيمينه ملأها ، فوضعه على مرفقه اليسرى ، فأمرّ كفّه على ساعده حتّى جرى الماء على أطراف أصابعه ، ومسح مقدّم رأسه وظهر قدميه ببلّة يساره وبقيّة بلّة يمناه . قال : وقال ابو جعفر : ( إنّ الله وتر ، يحبّ الوتر ، فقد يجزيك من الوضوء وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع![]() فقال : ( هذا من عظم الساق ، والكعب أسفل من ذلك ) (1) . وإنّ في جملة (لا يردّها إلى المرافق) و (ثمّ مسح رأسه وقدميه ببلل كفّه لم يحدث لهما ماءً جديداً) إشارة إلى فعل بعض الناس في ردّ الماء إلى المرفق وفي المسح بماء جديد ، وهو ربّما يعدّونه من سنة رسول الله ، فالراوي أراد أن يؤكّد على أنّ ما شاهده من وضوء الباقر ليس فيه شيء من هذا الذي يقال . 3 ـ وعن بكير بن أعين ، عن أبي جعفر ، أنّه قال : ( ألا أحكي لكم وضوء رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) ؟ ) ، فأخذ بكفّه اليمنى كفّاً من ماء فغسل به وجهه ، ثمّ أخذ بيده اليسرى كفّاً فغسل به يده اليمنى ، ثمّ أخذ بيده اليمنى كفّاً من ماء فغسل به يده اليسرى ، ثمّ مسح بفضل يديه رأسه ورجليه (2) . 4 ـ وعن ميسر ، عن أبي جعفر ، قال : ( ألا أحكي لكم وضوء رسول الله ؟ ) ، ثمّ أخذ كفّاً من ماء ، فصبّها على وجهه ، ثمّ أخذ كّاً فصبّها على ذراعه ، ثمّ أخذ كفاً آخر فصبّها على ذراعه الأخرى ، ثمّ مسح رأسه وقدميه ، ثمّ وضع يده على ظهر القدم ، ثمّ قال : ( إنّ هذا هو الكعب ) . قال : وأومأ بيده إلى أسفل العرقوب ، ثمّ قال : ( إنّ هذا هو الظنبوب ) ، [ وفي القاموس : الظنبوب : حرف الساق أو عظمه (3) ] . من هذا النصّ وما مرّ في رقم (2) نعرف أنّ الاختلاف في مفهوم الكعب والمناقشات فيه قد بدأت ملامحه في عهد الإمام الباقر . 5 ـ عن ابن أذينة ، عن بكير وزرارة بن أعين ، أنّهما سألا أبا جعفر عن وضوء رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) ؟ فدعا بطشت أو بتور فيه ماء ، فغسل كفيّه ، ثمّ غمس كفّه اليمنى في التور فغسل وجهه بها ، واستعان بيده اليسرى بكفّه على غسل
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع![]() فدعا بقدح ، فأخذ كفّاً من ماء فأسدله على وجهه ، ثمّ مسح وجهه من الجانبين جميعاً ، ثمّ أعاد بده اليسرى في الإناء ، فأسدلها على يده اليمنى ، ثمّ مسح جوانبها ، ثمّ أعاد اليمنى في الإناء ، فصبّها على اليسرى ، ثمّ صنع بها كما صنع باليمنى ، ثمّ مسح بما بقي في يده رأسه ورجليه ، ولم يعدهما في الإناء (1) . 8 ـ عن داود بن فرقد ، قال : سمعت أبا عبد الله يقول : ( إنّ أبي كان يقول : إنّ للوضوء حدّاً ، من تعدّاه لم يؤجر . وكان أبي يقول : إنّما يتلدد ، فقال له رجل : وما حدّه ؟ قال : تغسل وجهك ويديك ، وتمسح رأسك ورجليك ) (2) . وقد عرّف المجلسيّ معنى ( يتلدد ) بمن يتجاوز عن حدّ الوضوء ويتكلّف مخاصمة الله في أحكامه ، من اللدد وهو الخصومة ونقل ما قاله ابن الأثير في النهاية (3) . وعلّق الحرّ العامليّ على الخبر السابق بقوله : (والمراد انّ من تعدّى حدّ الوضوء فإنّما يوقع نفسه في التحيّر والتردّد والتعب بغير ثواب ، لأنّه لم يؤمر بأكثر من مسمّى الغسل والمسح (4) . وقد روينا سابقاً عن الامامين الباقر والصادق في معنى التعدّي ، وأنّ الباقر لمّا سئل عن معنى كلام الإمام أمير المؤمنين ( هذا وضوء من لم يحدث ) : فأي حدث أحدث من البول ؟ فقال : ( إنّما يعني بذلك التعدّي في الوضوء ، أن يزيد على حدّ الوضوء ) (5) . وأخرج الكلينيّ بسنده إلى حمّاد بن عثمان ، قال : كنت قاعداً عند أبي عبد الله (أي الصادق) فدعا بماء فملأ به كفّه فعم به وجهه ، ثمّ ملأكفّه فعمّ به يده
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع![]() رأسه أجزأه . وهناك اختلافات أخرى منها في حدّ الوجه ومنها ما يتعلّق بأمور أخرى نشرحها مفصّلاً تحت العنوان التالي : خلافيّات الوضوء في العهد الأموي فقد عرفنا ـ مضافاً إلى ما سبق ـ أنّ المسائل الخلافيّة الجديدة في الوضوء في العهد الأمويّ كانت كالآتي : 1 ـ اختلاف المسلمين في جواز ردّ الماء في غسل الذراعين ، فذهب بعضهم إلى جوازه ، وذهب غيرهم إلى عدم جوازه ، وأنّ الراوي بنقله الخبر رقم (2) و (5) أراد أن يشير إلى أنّ الإمام الباقر كان لا يردّ الماء من رؤوس الأصابع إلى المرافق بعد صبّ الماء على المرافق ، مؤكّداً أنّ هذا كان فعل النبيّ وهو من جملة وضوئه . 2 ـ اختلافهم في جواز أخذ ماء جديد لمسح الرأس والرجلين ، فالراوي بنقله (ثمّ مسح رأسه وقدميه ، ببلل كفّه ، لم يحدث لهما ماءً جديداً) كما في الخبر (2) ، و(ثمّ مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفّيه ، لم يجدّد ماءً) كما في الخبر (5) أراد الإشارة إلى أنّ المسح يمكن تحقّقه بدون وجود الماء ، وهو خلاف الغسل ، الذي يتوقّف تحقّقه عليه ، وأنّ الباقر كان يمسح ببلل كفّه لم يحدث ماءً جديداً لها . 3 ـ جواز المسح بجزء الرأس أو الرجل ، بعكس العضو الغسليّ فإنّ الغسل يجب تعميمه واستيعابه لجميع أجزاء العضو المغسول ، كما رأيت ذلك في الخبر رقم (2) . 4 ـ اختلافهم في معنى ومفهوم الكعب ، وأنّ الإمام الباقر أكّد أنّ الكعب هو على قبّة القدم ومعقد الشراك ، وليس القبّتان على طرفي الساق ، بل الكعب أسفل من ذلك ، انظر رقم (2) و (5) . وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع |