أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا ، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلاّ ما نعرف
(1).
وقيل : إن كتاباً فيه قضاء عليّ اُتي إلى ابن عباس فمحاه إلاّ قدراً
(2).
وجاء في طبقات الفقهاء ، عن سعيد بن جبير ، قال : سألت عبدالله بن عمر عن الإيلاء ؟
قال : أتريد أن تقول : قال ابن عمر ، قال ابن عمر ؟
قلت : نعم ، ونرضى بقولك .
فقال ابن عمر : يقول في ذلك اُولو الأمر ، بل يقول في ذلك الله ورسوله .
ولا ندري كيف صارت صوافي الاُمراء ـ عند فقدان الحكم في الكتاب والسنة ـ حجة شرعية عند بعض المسلمين ... فهل هي حقاً حجة ؟
جاء في أعلام الموقعين ، عن المسيب بن رافع ، قال :
كان إذا جاء الشيء في القضاء وليس في الكتاب ولا في السنة فيدفع إلى الاُمراء ، فيجمع له أهل العلم ، فإذا اجتمع عليه رأيهم فهو الحق
(3).
ولماذا نرى ابن عمر يدل الناس على التمسك بفقه عبدالملك بن مروان من بعده ، إذ قيل له : من نسأل بعدكم ؟
قال : إن لمروان ابناً فقيهاً فسلوه
(4).
فمن هو مروان ؟ !
ألم يكن ذلك الطريد الذي أبعده رسول الله مع أبيه إلى خارج المدينة ..ثم صار عميد الاُسرة الحاكمة بعد يزيد ؟ !
 |
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 1 : 81 والمسترشد للطبري : 174 .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 1 : 83 .
(3) أعلام الموقعين 1 : 84 ، وقد أخرجه البخاري في صحيحه وابن سعد في طبقاته أيضاً .
(4) تهذيب التهذيب 6 : 422 ، تهذيب الكمال 18 : 410 ، تاريخ بغداد 10 : 389 ، المنتظم 6 : 39 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 197 ـ
أو لم يقل أبو سعيد الخدري ـ عندما اعترض عليه في تقديمه الخطبة على الصلاة : غيّرتم والله
(1)؟ !
وهل يمكن تصديق قول جرير بن حازم : سمعت نافعاً يقول : لقد رأيت المدينة وما بها أشد تشميراً ، ولا أفقه ، ولا أقرأ لكتاب الله من عبدالملك
(2)!
مع علمنا بأن عبدالملك هذا هو ابن مروان بن الحكم ـ طريد رسول الله ـ وقد ولد من أبوين أمويين أبوه : مروان بن الحكم بن العاص (طريد رسول الله) .
واُمه : عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن العاصّ ، الذي جدع أنف حمزة عم النبي يوم اُحد
(3)، والذي أمر رسول الله بضرب عنقه .
ثم بأي منطق يمكن أن يعد عبدالملك أفقه وأقرأ الناس ، مع علمنا أن المدينة لم تخلو يوماً من الفقهاء والعلماء ، فهل كانت الساحة خالية حقاً حتى يتصدر الحاكم ريادة الفقه والقراءة ، لأنه الأفقه والأقرأ ؟ !
ولماذا يبكي أنس ، عندما كان في دمشق ؟ !
قال الزهري : دخلت على أنس بن مالك بدمشق ، وهو يبكي ..فقلت : ما يُبكيك ؟ !
قال : لا أعرف شيئاً مما أدركت إلاّ هذه الصلاة ، وهذه الصلاة قد ضيعت
(4)! !
وأخرج البخاري ، عن غيلان ، أنه قال : قال أنس : ما أعرف شيئاً مما كان على عهد النبي !
قيل : الصلاة !
 |
(1) صحيح البخاري 2 : 22 باب الخروج الى المصلى بغير منبر .
(2) تهذيب التهذيب 6 : 422 ، تهذيب الكمال 18 : 410 : تاريخ بغداد 10 : 389 ، المنتظم : 6 : 39 .
(3) انظر : البداية والنهاية 9 : 67 .
(4) البداية والنهاية 9 : 94 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 198 ـ
قال : أليس ضيعتم ما ضيعتم فيها
(1)!
ولماذا نرى العبادة في هذا العهد جسداً بلا روح ، وقالباً بلا محتوى ؟ !
فقد أخرج البخاري ، عن الأعمش ، قال : سمعت سالماً قال : سمعت اُم الدرداء تقول : دخل عليّ أبو الدرداء ، وهو مغضب ، قلت : ما أغضبك ؟
فقال : والله ! ما أعرف من أُمة محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) إلا أنهم يصلون جميعاً
(2).
وهل تطمئن نفوسنا بعد هذا إلى احاديث أمثال هؤلاء الحكام واجتهادات الحجاج وفتاوى عبد الملك و ... بعد أن عرفنا مواقفهم من الشريعة ؟
عجباً لدوران الزمان ! ... إذ كيف صار هؤلاء حكاماً حتى يتصدروا للقضاء والإفتاء ، بعد أن جذبوا إليهم من وعاظ السلاطين ذلك العدد الذي تمكنوا من خلاله من أن يقولوا كل ما يريدون ! !
قال سعيد بن جبير : كان رجاء بن حيوة يعد من أفقه فقهاء الشام ، ولكن كنت إذا حركته ، وجدته شامياً يقول : قضى عبد الملك بن مراوان بكذا وكذا
(3).
وأحسبك ـ بعد هذا ـ قد عرفت عبد الملك ، وعرفت موقفه من الشريعة .
إذا كان هذا هو حال الحكام ، وهذه هي حال الشريعة ... فكيف بأُولئك الناس في وضوئهم ، بعد أن أحكم الحاكم قبضته ، وأعلن عن منهجه المخالف للنبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) وسنته ؟ !
وتراه يؤكد لزوم الأخذ بفقه عثمان ، قال عبد الملك فيما قال : ... فالزموا ما في مصحفكم الذي حملكم عليه الامام المظلوم ، وعليكم بالفرائض التي جمعكم عليه إمامكم المظلوم رحمه الله ، فإنه قد استشار في ذلك زيد بن ثابت ، ونعم المشير كان للإسلام رحمه الله ، فأحكما ما أحكما ، واستقصيا ما شذ عنهما
(4).
 |
(1) صحيح البخاري 1 : 140 .
(2) صحيح البخاري 1 : 166 باب فضل صلاة الفجر في جماعة ، فتح الباري 2 : 109 .
(3) انظر : ترجمة رجاء بن حيوة في طبقات الفقهاء وتهذيب الكمال 9 : 154 .
(4) البداية والنهاية 9 : 68 .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 199 ـ
فهل يمكن الاطمئنان بمرويات الحكام في الوضوء والحال هذه ؟ !
وماذا يعني إكراه الزهري على تدوين السنة الشريفة ؟ ولماذا يستحي أن يكتبها للسلطان ، ولا يكتبها للناس ؟
وما معنى كتاب عمر بن عبدالعزيز إلى الآفاق : عليكم بابن شهاب [ الزهري ] فإنكم لا تجدون أعلم بالسنة الماضية منه !
وكيف يستتر بعد هذا معنى ومقصود كلام الزهري : لو جمع علم عائشة إلى علم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل ! !
وقول عطاء ـ فقيه الحكومة ـ : كانت عائشة أفقه الناس وأحسنهم رأياً في العامة ! !
وهل يصح قول ابن عمر : لا اُقاتل في الفتنة ، واُصلي وراء من غلب
(1)؟
فما معنى قوله تعالى : ( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ )
(2)إذاً ؟
وهل أن الشرعية للأقوى من ضمن مفاهيم الشريعة الإلهية ، حتى يستمدوا من شريعة الغاب رؤاهم ؟ !
ولماذا تصدر أمثال هذه الرؤى عن : ابن عمر ، وابي هريرة ، وأشباههما ؟
وكيف يجرؤ البعض أن ينسب إلى ابن عمر الإقلال في الحديث ؟ ! في حين نراه يروي أكثر من 2000 حديثاً ، فهل هذا هو المقل ، أم المُقلّ ، أم المقل أم سلمة ( زوجة الرسول ) وأبوذر وعمار وغيرهم من المخالفين للحكام ؟ !
ولا ندري أنصدق الواقع ، أم نصدق ما قاله الشعبي : جالست ابن عمر سنة فما سمعته يحدث عن رسول الله
(3)؟
 |
(1) طبقات ابن سعد 4 : 149 .
(2) الحجرات : 9 .
(3) الإصابة 2 : 349 عن مجاهد .
|
وضُوء النّبيّ صلى الله عليه واله وسلّم من خلال ملابسات التّشريع
ـ 200 ـ
وكيف نصدّق ما نقله ابن سعد والذهبيّ عن الإمام الباقر وأنّه قال في ابن عمر إنّه أحذر أصحاب النبيّ إذا سمع من رسول الله شيئاً إلاّ يزيد ولا ينقص
(1)وأقوال عائشة والنصوص الأخرى تكذّب هذا الخبر !
وكيف صار أبو هريرة من الأدوات الفاعلة في المخطّط الامويّ ، حتّى أنّه ليعرف متى يأتي قطعان الشام ، ويدعو إلى إطاعتهم وعدم سبّ الظالمين ؟ ! !
قال العجّاج الراجز : قال لي أبو هريرة : من أين أنت ؟
قلت : من أهل العراق .
قال : يوشك أن يأتيك بقطعان الشام [ أي خدمهم وعمّال الزكاة ] فيأخذوا صدقتك ، فإذا أتوك فتلقّهم بها ، فإذا دخلوها ، فكن في أقاصيها ، وخلّ عنهم عنها ، وإيّاك أن تشتمهم ، فإنّك إن سببتهم ذهب أجرك ، وأخذوا صدقتك ، وإن صبرت ... جاءت في ميزان عملك يوم القيامة
(2).
وفي كتاب الأموال لأبي عبيد : انّ رجلأ جاء إلى أبي هريرة فقال : أأُخبّي منهم كريمة مالي ؟
قال : لا ، إذا أتوكم فلا تعصوهم ، وإذا أدبروا فلا تسبّوهم ، فتكون عاصياً خفّف عن ظالم ، ولكن قل : هذا مالي ، وهذا الحق ، فخذوا الحقّ وذر الباطل ، فإن أخذه فذلك ، وإن تعداه إلى غيره جمعا لك في الميزان يوم القيامة
(3).
نعم ، قد طرح الحكام هذه الرؤى لئلا يقف أحد أمام تصرفاتهم ، لترك ما لله لله ، وما لقيصر لقصير ، ولتخدير الأمّة ، وترويضها على الابتعاد عن التدخّل في أجواء الحكم والحاكم ، والاكتفاء بالخروج إلى الصلاة أيّام الجمع ، لتجريدهم من روح النصيحة ، وجعلهم أناساً بلا مسؤوليّة ، حتّى لا يقف
 |
(1) طبقات ابن سعد 4 : 144 ، سير أعلام النبلاء 3 : 213 .
(2) الشعر والشعراء لابن قتيبة : 392 .
(3) كتاب الأموال : 412 .
|