ولا تَحمِد أحداً بما آتاكَ اللّه ، ولا تَذُمَّ أحداً على ما لم يُؤتِكَ اللّه (5) ، فإنّ الرزقَ لا يجرُّه حِرصُ حريص ولا تصرفُه كراهةُ كارِه (6) ، انّ اللّهَ بحكُمه وَفضله جعل الرَّوْحَ (7) والفَرَحَ في اليقينِ والرضا (8) ، وجعلَ الهَمَّ والحُزنَ في الشكِّ والسَخَط (9) .
(5) فعلامة وجود اليقين بالله هو العلم بأنّ الله تعالى مالك ضرّه ونفعه ، ومقسّم رزقه على طبق مصلحته ، وأنّه يوصله إليه ويرزقه كيف يشاء .
ولازم هذا الإعتقاد أن لا يُرضي الناس بسخط الله ولا يوافقهم في معصية الله طلباً للرزق ، ولا يحمدهم تزلّفاً لرزق ساقه الله إليه ، ولا يذُمَّهم على ترك صلتهم ما دام كون الرزق من الله تعالى .
(6) أي الرزق المقدّر المقسوم فإنّه لا يحتاج في وصوله للإنسان إلى حرص ، كما لا يمنع عن وصوله كراهة كاره أو حاسد .
فانّ العبد لو كان في جُحر مخبّأ لأتاه رزقه ، ولم تخطئه قسمته .
نعم لله تعالى الفضل والجود والكرم ، فيسأل الله تعالى الزيادة من فضله والمزيد من رزقه .
(7) الرَّوح ـ بفتح الراء ـ ، هي الراحة والإستراحة والرحمة ، وسكون القلب .
(8) فإذا حصل في قلبه اليقين كانت ثمرته الرضا والراحة .
(9) فإذا لم يُحرز اليقين بل كان في شكّ وعدم إطمئنان النفس ، وفي سخط وعدم رضا القلب كانت ثمرتهما الهمّ والإهتمام وإضطراب النفس في تحصيل الرزق ، والحزن والجزع عند فواته .
وفي الحديث العلوي الشريف ، ( لا يجد أحد طعم الإيمان حتّى يعلم أنّ ما
يا علي ، إنّه لا فَقر أشدُّ من الجَهل (10) ، ولا مالَ أعودُ من العَقل ، ولا وحدةَ أوحشُ من العُجب (11) ، ولا مُظاهرةَ أحسنُ من المُشاوَرة (12) ، ولا عقلَ كالتدبير ، ولا حَسَب كحُسنِ الخُلُق (13) ، ولا عبادةَ كالتفكّر (14) .
أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه )
(1) .
(10) وردت هذه الفقرة في وصيّة الفقيه المتقدّمة الكبيرة فلاحظها مع بيانها .
(11) أي إعجاب المرء بنفسه ، فانّه يدعو إلى أن يرى الإنسان نفسه فوق الآخرين ومتفرّداً عن الباقين ، فيحسّ بالوحدة والوحشة .
قال المحدّث القمّي ، ( العُجب إستعظام العمل الصالح وإستكثاره والإبتهاج له والإدلال به ، وأن يرى الإنسان نفسه خارجاً عن حدّ التقصير .
وامّا السرور به مع التواضع له تعالى والشكر له على التوفيق لذلك فهو حسن ممدوح )
(2) .
(12) في المحاسن ، ( ولا مظاهرة أوثق من المشاورة ) .
(13) في المحاسن جاء قبله ، ( ولا ورع كالكفّ ) .
(14) أي التفكّر في آيات الله ونعمه وآلاءه ، وقد جعل الله تعالى التفكّر من أوصاف اُولي الألباب من قوله عزّ اسمه ، ( وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا ما خَلَقْتَ هَذا بَاطِلا )
(3) وقد جاء مدحه في أحاديثنا الكريمة التي عقد لها باب مستقل .
منها حديث أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ( التفكّر يدعو إلى البرّ والعمل به ) .
-------------------------------
(1) اُصول الكافي ، ج 2 ، ص 57 ، ح 4 .
(2) سفينة البحار ، ج 6 ، ص 152 .
(3) سورة آل عمران ، الآية 191 .
وصايا الرسول (ص) لزوج البتول
_ 226 _
يا علي ، آفةُ الحديثِ الكذب (15) ، وآفةُ العلِم النسيان ، وآفةُ العبادِة الفَتْرَة ، وآفةُ السّماحةِ المَنّ (16) ، وآفةُ الشّجاعةِ البَغي (17) ، وآفةُ الجمالِ الخُيَلاء ،
ومنها حديثه فيما أوصى به الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، ( لا عبادة كالتفكّر في صنعة الله عزّوجلّ ) .
ومنها ما رواه الصيقل قال ، قلت لأبي عبدالله ( عليه السلام ) ، تفكّر ساعة خير من قيام ليلة ؟
قال ، نعم ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، تفكّر ساعة خير من قيام ليلة .
قلت ، كيف يتفكّر ؟
قال ، يمرّ بالدور الخربة فيقول ، أين بانوكِ ؟ أين ساكنوكِ ؟ ما لكِ لا تتكلّمين
(1) ؟
(15) أغلب هذه الفقرة أيضاً ورد في وصيّة الفقيه المتقدّمة فراجع .
(16) السماحة هو الجود والبذل في العسر واليسر
(2) .
وآفته المنّ بأن يمنّ على من جاد عليه. ويقول له مثلا ، ألم أعطك ؟ ألم اُحسن إليك ؟ وزاد بعده في المحاسن ، ( وآفة الظرف الصلف ) أي أنّ آفة الظرافة في الكلام هي الصلافة والعنف .
(17) الشجاعة هي شدّة القلب عند البأس ، وآفتها البغي أي الفساد والظلم فإنّ مكرمة الشجاعة ينبغي أن تكون مع العدل والإنصاف ، كما كانت في الأولياء المتّقين الهداة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين .
-------------------------------
(1) بحار الأنوار ، ج 71 ، ص 314 ، ب 8 ، الأحاديث 5 و 11 و 16 .
(2) سفينة البحار ، ج 4 ، ص 268 .
وصايا الرسول (ص) لزوج البتول
_ 227 _
وآفةُ الحَسَبِ الفَخر (18) .
يا علي ، عليك بالصِّدقِ (19) ولا تَخْرج من فيكَ كِذبةٌ أَبداً ، ولا تجترأَنَّ على خيانة أبَداً (20) .
(18) الحسب هي الشرافة بالآباء ، وآفته هي المفاخرة والمباهاة بها .
وزاد هنا في المحاسن قوله :
( يا علي ، إنّك لا تزال بخير ما حفظت وصيّتي ، أنت مع الحقّ والحق معك ) .
(19) الصدق في الكلام هو مطابقته للواقع ، والصدق في الوعد هو الوفاء به .
والصادق حقّاً هو من يصدق في دين الله نيّةً وقولا وعملا
(1) .
وقد عقد ثقة الإسلام الكليني باباً في الحثّ على الصدق وأداء الأمانة ، وذكر أحاديث أنّ الله عزّوجلّ لم يبعث نبيّاً إلاّ بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البَرِّ والفاجر ، وأنّ من صَدَقَ لسانه زكى عمله ، وأنّ علياً ( عليه السلام ) إنّما بلغ ما بلغ به عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بصدق الحديث وأداء الأمانة فلاحظ
(2) .
(20) الخيانة هي مخالفة الحقّ بنقض العهد في السرّ ، وهي نقيض الأمانة
(3) .
فكلّ ما كان نقضاً للعهد سرّاً فهي خيانة سواء أكان في الدين أم في المال أم في الأهل أم في غيرها .
وقد عقد العلاّمة المجلسي في ذمّها باباً من الأحاديث منها قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ( من خان أمانةً في الدنيا ، ولم يردّها إلى أهلها ثمّ أدركه الموت مات على غير ملّتي ، ويلقى الله وهو عليه غضبان ) و ( الأمانة تجلب الغنا ، والخيانة تجلب الفقر )
-------------------------------
(1) مجمع البحرين ، ص 437 .
(2) اُصول الكافي ، ج 2 ، ص 104 .
(3) مجمع البحرين ، ص 556 .
وصايا الرسول (ص) لزوج البتول
_ 228 _
والخوفِ من اللّهِ كأنّكَ تراه (21) ، وابذِلْ مالَكَ ونفسَك دونَ دينِك (22) ، وعليكَ بمحاسنِ الأخلاقِ فاركبْها (23) ، وعليكَ بمساوىءِ الأخلاقِ فاجتنْبها .
يا علي ، أحبُّ العملِ إلى اللّهِ ثلاثُ خصال ، من أتى اللّهَ بما افتَرضَ عليه فهو من أعبدِ الناس ، ومن وَرِعَ عن محارِم اللّهِ فهو من أورعِ الناس ،
و ( ليس منّا من خان مسلماً في أهله وماله )
(1) .
(21) ومبدأ الخوف من الله تعالى هو معرفة عظمة الخالق ووعيده ، وتصوّر أهوال البرزخ والقيامة ، وإدراك قهره وعقابه .
فيلزم الخوف من الله تعالى خوف من يشاهده بعينه ، وإن كانت هذه الرؤية مستحيلة ، إلاّ أنّ رؤية الله تكون بالقلوب ولم تره العيون بمشاهدة الأبصار بل رأته القلوب بحقائق الإيمان وفي حديث إسحاق بن عمّار قال ، قال أبو عبدالله ( عليه السلام ) ، ( يا إسحاق خف الله كأنّك تراه ، وإن كنت لا تراه فإنّه يراك ، وإنْ كنتَ ترى أنّه لا يراك فقد كفرت ، وإنْ كنتَ تعلم أنّه يراك ثمّ برزت له بالمعصية فقد جَعلْتَهُ من أهون الناظرين عليك )
(2) .
(22) فإنّ بقاء الدين يُفدّى بالنفس والنفيس والمال والمنال ، فيُبذل المال والنفس في سبيل الدين .
(23) يقال ، رَكبَ الأمر أي فعله ـ وهذا أمر بإتيان المحاسن الأخلاقية ـ وما بعده أمرٌ باجتناب المساويء الأخلاقية .
-------------------------------
(1) بحار الأنوار ، ج 75 ، ص 170 ، باب 58 ، الأحاديث .
(2) بحار الأنوار ، ج 70 ، ص 355 ، باب 59 ، ح 2 .
وصايا الرسول (ص) لزوج البتول
_ 229 _
ومن قَنَع بما رزقُه اللّهُ فهو من أغنى الناس (24) .
يا علي ، ثلاثٌ من مكارمِ الأخلاقِ ، تصلُ من قطَعَك ، وتُعطي مَن حَرَمك ، وتعفو عمّن ظَلَمك (25) .
يا علي ، ثلاثٌ منجيات (26) ، تكفُّ لسانَك ، وتبكي على خطيئتِك ، ويَسَعُك بيتُك (27) .
يا علي ، سيُّد الأعمالِ ثلاثُ خصال ، إنصافُك الناسَ من نفسِك ، ومساواةُ الأخِ في اللّه ، وذكُر اللّهِ على كلِّ حال (28) .
يا علي ، ثلاثةٌ من حُلَلِ اللّه (29) .
(24) جاءت هذه الفقرة في وصيّة الفقيه المتقدّمة ، فلاحظها مع بيانها في الهامش .
(25) مرّ مضمون هذه الفقرة في وصيّة الفقيه .
(26) أي توجب النجاة ، وتقتضي الخلاص من المعاصي والعقوبات .
(27) أي كفّ اللسان عمّا حرّم الله النطق به ، والبكاء على الخطيئة والإستغفار منها ، والإستقرار في البيت .
(28) مرّت هذه الخصال في وصيّة الفقيه أيضاً تحت عنوان ، ثلاث خصال لا تطيقها هذه الاُمّة فراجع .
(29) الحُلَل جمع حُلّة كقُلل وقُلَّة هو الثوب الساتر للجميع كالإزار والرداء ، وجاء في المجمع ، أنّه لا يكون حلّة إلاّ من ثوبين أو ثوب له بطانة
(1) ، ووسامات الشرف الآتية يعني ، زَور الله ، وضيف الله ، ووفد الله حلل إلهية تُمنح للطوائف الآتية .
-------------------------------
(1) مجمع البحرين ، ص 469 .
وصايا الرسول (ص) لزوج البتول
_ 230 _
رجلٌ زار أخاه المؤمن في اللّهِ فهو زَوْرُ اللّه (30) وحقٌّ على اللّهِ أن يُكرَم زَوْرَه ويعطيهِ ما سأَل ، ورجلٌ صلّى ثمّ عقَّبَ إلى الصلاةِ الأُخرى (31) فهو ضَيْفُ اللّهِ وحقٌّ على اللّهِ أن يُكرَم ضيفَه ، والحاجُّ والمعتمرُ فهما وَفْدُ اللّهِ (32) وحقٌّ على اللّهِ أن يُكرمَ وَفْدَه .
يا علي ، ثلاثٌ ثوابُهنَّ في الدنيا والآخرة (33) ، الحجُّ ينفي الفقر (34) ، والصّدقةُ تدفع ...
(30) فاعل من الزيارة يقال ، زائر وزَوْر وزَوّار ، أي الزائر والقاصد .
(31) التعقيب في الصلاة هو الجلوس بعدها لدعاء أو مسألة فيُعقّب إلى صلاة اُخرى ما بين الصلاتين مثل ما بين الظهر والعصر ، وما بين المغرب والعشاء .
وقد ورد للتعقيب فضائل كثيرة في أحاديث وفيرة فلاحظ فضله
(1) وما يستحبّ من التعقيبات
(2) .
(32) الوفد هم القوم يجتمعون ويَرِدون البلاد ، واحدهم الوافد وفي الدعاء ، أنا عبدك الوافد عليك ، أي الوارد القادم إليك
(3) .
(33) فيستفيد العامل بهنّ فوائد الدنيا قبل مثوبات الآخرة .
(34) كما تلاحظه في أحاديث عديدة بأنّ الحجّ والعمرة ينفيان الفقر والذنوب
(4) .
-------------------------------
(1) بحار الأنوار ، ج 85 ، ص 313 ، باب 36 .
(2) بحار الأنوار ، ج 86 ، ص 1 /193 ، باب 38 ـ 65 ، الأحاديث .
(3) مجمع البحرين ، ص 231 .
(4) وسائل الشيعة ، ج 8 ، ص 74 ، باب 38 ، ح 43 .
وصايا الرسول (ص) لزوج البتول
_ 231 _
البليّة (35) ، وصلةُ الرَّحِمِ تزيدُ في العُمر (36) .
(35) كما تلاحظ مفصّل ذلك في أحاديث باب فضل الصدقة وأنواعها وآدابها
(1) .
جاء فيها أنّ الصدقة تطفىء غضب الربّ ، وأنّها تدفع ميتة السوء ، وأنّها يداوى بها المرضى ، وأنّها يُستنزل بها الرزق ، وأنّها تدفع الهدم والسبُع ، وأنّها تزيد في العمر ، وتعمّر الديار ، وتنفي الفقر ، وتدفع القضاء المبرم ، وأنّها تسدّ سبعين باباً من الشرّ ، وأنّها تُخلِّف البركة ، وأنّها تدفع الخوف ، وتوجب أمان الله تعالى ، وتُنجي من اليوم العَسير ، وأنّ من تصدّق بصدقة فله بوزن كلّ درهم مثل جبل اُحد من نعيم الجنّة ، وأنّ من تصدّق إذا أصبح دفع الله عنه نحس ذلك اليوم ، وأنّ صدقة الليل تطفىء غضب الربّ وتمحو الذنب العظيم وتهوّن الحساب ، وأنّ مَلَك الموت يُدفَع إليه الصّك بقبضِ روح العبد فيتصدّق ، فيُقال له ، رُدّ عليه الصّك .
(36) كما تلاحظ ذلك في أحاديث باب صلة الرحم وإعانتهم والإحسان إليهم والمنع من القطع
(2) .
جاء في بعضها أنّ الرجل ليصل رحمه وقد بقى من عمره ثلاث سنين فيصيّرها الله عزّوجلّ ثلاثين سنة ، وإنّ الرجل ليقطع رحمه وقد بقى من عمره ثلاثون سنة فيصيّرها الله ثلاث سنين ، وصلة الرحم تهوّن الحساب ، وتُنْمي العدد ، وتُنمي المال ، وتُزكّي الأعمال ، وتدفع البلوى ، وتسمّح الكفّ ، وتحسّن الخلق ، وتطيّب النفس ، وتحبّب المرء في الأهل ، وتقي من مصارع السوء ، وأنّ من مشى إلى ذي قرابة بنفسه وما له ليصل رحمه أعطاه الله عزّوجلّ أجر مائة شهيد ، وله بكلّ خطوة
-------------------------------
(1) بحار الأنوار ، ج 96 ، ص 111 ، باب 14 ، الأحاديث .
(2) بحار الأنوار ، ج 74 ، ص 87 ، باب 3 ، الأحاديث .
وصايا الرسول (ص) لزوج البتول
_ 232 _
يا علي ، ثلاثٌ من لم يكنَّ فيه لم يَقُمْ له عمل (37) ، وَرَعٌ يحجزهُ عن معاصي اللّهِ عزّوجلّ ، وعلمٌ يَرُدّ به جهلَ السفيه ، وعقلٌ يداري به الناس .
يا علي ، ثلاثةٌ تحت ظلِّ العرش يومَ القيامة (38) ، رجلٌ أحبَّ لأخيه ما أحبَّ لنفسه ، ورجلٌ بلغهُ أمرٌ فلم يقدمْ فيه ولم يتأخّرْ حتّى يعلَم أنّ ذلك الأمرُ للّهِ رضىً أو سَخَط (39) ، ورجلٌ لم يَعَبْ أخاهُ بعيب حتّى يُصلَح ذلكَ العيبَ من نفسِه ، فإنّه كلّما أصلَحَ من نفسِه عيباً بَدا لهُ منها آخر ، وكفى بالمرءِ في نفسِه شُغلا (40) .
أربعون ألف حسنة ، ويُمحى عنه أربعون ألف سيّئة ، ويُرفع له من الدرجات مثل ذلك ، وكان كإنّما عَبَد الله مائة سنة صابراً محتسباً .
(37) أي لا يستقيم عمله ، ووردت هذه الفقرة في وصيّة الفقيه أيضاً ، إلاّ أنّ فيها لم يتم عمله ، أي كانت أعماله غير كاملة أو غير مقبولة لتأثير الورع في الطاعات ، وتأثير الحلم والعلم في المعاشرات .
(38) وهو أشرف موضع من حيث السمو والكرامة والراحة في ذلك المشهد العظيم ، واليوم الرهيب .
وتلاحظ معنى العرش في كتاب التصحيح
(1) ، وتفصيل بيانه في الحديث الشريف
(2) .
(39) فيقدم على ما فيه رضا الله ، ويتأخّر عمّا فيه سخط الله تعالى .
(40) وبهذا يعلم أنّه لا يعيب أخاه أبداً ودائماً بواسطة إشتغاله بعيوب نفسه وإصلاحها .
-------------------------------
(1) تصحيح الإعتقادات ، ص 75 .
(2) بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 1 ، باب 1 ، الأحاديث .
وصايا الرسول (ص) لزوج البتول
_ 233 _
يا علي ، ثلاثٌ من أبوابِ البرِّ (41) ، سخاءُ النّفسِ ، وطيبُ الكلام ، والصبرُ على الأذى .
يا علي ، في التوراةِ أربعٌ في جنبهِنّ أربع (42) ، من أصبحَ على الدنيا حريصاً أصبحَ وهو على اللّهِ ساخِط (43) ، ومن أصبحَ يشكُو مصيبةً نزَلتْ بهِ فإنّما يشكُو ربّه (44) ، ومن أتى غنيّاً فتضَعْضَعَ لهُ (45) ذهَب ثُلثا دينِه ، ومَن دخَل النارَ من هذه الأُمّةِ فهو مَنْ اتّخذَ آياتِ اللّهِ هُزُواً ولَعْباً (46) .
أربعٌ إلى جنبهِنّ أربع ، من مَلِكَ استأثَر (47) .
(41) البرّ ـ بالكسر ـ ، إسم جامع للخير كلّه ، وهذه الثلاثة المذكورة أبواب وطرق للخيرات الكثيرة .
(42) أي متقارنات ، فبوجود كلّ منها يوجد قرينه .
(43) فإنّه إذا كان حريصاً وهمّه وجهده الدنيا غضب إذا حُرِم من شيء منها فيكون ساخطاً غير راض من الله تعالى الذي هو القاسم .
(44) فانّ الشكوى والشكاية هي الإخبار بسوء الفعل ويلزم أن تكون الشكوى إلى الخالق لا الخلق ، ثمّ المفروض هو الإسترجاع والصبر عند المصيبة لا الشكاية حتّى يكون شاكياً ربّه .
(45) أي خضع له وذلّ لغناه .
(46) أي أنّه إذا اتّخذ آيات الله هزواً ولعباً قارنه دخول النار .
(47) الإستيثار هو الإنفراد والإستبداد ، يُقال استأثر بالشيء أي استبدّ به ، وطبيعة الملوكية وعزّتها توجب الإستبداد بالرأي إلاّ من عصمه الله تعالى وأعانه ووفّقه .
وصايا الرسول (ص) لزوج البتول
_ 234 _
ومَن لم يَستشِرْ ينَدم (48) ، كما تدين تُدان (49) ، والفقرُ الموتُ الأكبرُ (50) فقيل له ، الفقرُ من الدينارِ والدِّرهم ؟ فقال ، الفقرُ من الدّين .
يا علي ، كلُّ عين باكيةٌ يومَ القيامة (51) إلاّ ثلاثة أعين ، عين سَهَرتْ في سبيلِ اللّه (52) ، وعينٌ غَضَّتْ عن محارمِ اللّه (53) .
(48) فإنّ الإستشارة من العاقل بحدودها كما مرّ توجب البصيرة في الأمر والرشد في العمل ، فإذا لم يستشر لم يكن فعله على بصيرة فيوجب تعقّب الندامة .
(49) فمن دان الناس بالمعروف أُحسن إليه ، ومن دان الناس بالسيّئة أُسيء إليه ، والدنيا مزرعة يحصد فيها كلٌّ ما يزرعه إنْ كان خيراً فخير وإنْ كان شرّاً فشرّ ، فكما تدين تُدان .
(50) أي أنّ الفقر يقارنه الموت الأكبر .
لا الفقر بمعنى الإحتياج إلى المال الذي هو شعار الصالحين ، بل الفقر بمعنى إعواز الدين الذي هو أشدّ من القتل ، وأسوء من الموت لأنّه المؤدّي إلى الهلاك الاُخروي فهو الموت الأكبر للإنسان .
فلاحظ لهذا المعنى أحاديث الباب وقد تقدّمت الإشارة إليها ، وتدبّر في نفس رواية الوصيّة وصراحتها .
(51) فإنّ هول المطّلع وخوف الحساب يوجبان الحزن والبكاء .
(52) السَّهَر ـ بفتحتين ـ ، هو عدم النوم في الليل كلّه أو بعضه ، فلا تبكي عين باتت ولم تنم في طريق طاعة الله تعالى كالعلم ، والعبادة ، وتلاوة القرآن ، وسلوك الحجّ والزيارة ونحوها .
(53) الغضْ هو عدم النظر ، يقال غضّ بصره أي خفضها ولم ينظر ، فلاتبكي عين لم تنظر إلى ما حرّم الله النظر إليه وأمر بغضّ البصر عنه .
وصايا الرسول (ص) لزوج البتول
_ 235 _
وعينٌ فاضَتْ من خشيةِ اللّه (54) .
(54) فاض الماء أي سال وجرى ، وفاضت عينه بالدموع أي سالت ، فلا تبكي عين سال دمعها من خوف الله تعالى .
ولا يخفى في المقام ورود الأحاديث الاُخرى المتظافرة في فضل البكاء لمصيبة الأئمّة النجباء أيضاً ، خصوصاً خامس أصحاب الكساء صلوات الله عليهم في جميع الآناء .
ففي حديث الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، ( من تذكّر مصابنا وبكى لما اُرتكب منّا كان معنا في درجتنا يوم القيامة ، ومن ذُكِّر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون ... )
(1) .
وفي حديث الإمام الباقر ( عليه السلام ) ، ( كان علي بن الحسين ( عليه السلام ) يقول ، أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي ( عليه السلام ) دمعةً حتّى تسيل على خدّه بوّأه الله بها في الجنّة غرفاً يسكنها أحقاباً ، وأيّما مؤمن دمعت عيناه حتّى تسيل على خدّه فينا لأذىً مسَّنا من عدوِّنا في الدنيا بوّأه الله بها في الجنّة مبوّأ صدق ، وأيّما مؤمن مسَّه أذىً فينا فدمعت عيناه حتّى تسيل على خدّه من مضاضة ما اُوذي فينا صرف الله عن وجهه الأذى وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار )
(2) .
وفي حديث الإمام الصادق ( عليه السلام ) في فضل البكاء على الإمام الحسين ( عليه السلام ) جاء قوله :
( ... وما عينٌ أحبّ إلى الله ولا عبرة من عين بكت ودمعت عليه ، وما من
-------------------------------
(1) بحار الأنوار ، ج 44 ، ص 278 ، باب 34 ، ح 1 .
(2) كامل الزيارات ، ص 100 ، باب 32 ، ح 1 .
وصايا الرسول (ص) لزوج البتول
_ 236 _
يا علي ، طُوبى (55) لصورة (56) نَظَر اللّهُ إليها وهي تبكي على ذنب لم يَطّلع على ذلك الذّنب أحدٌ غيرُ اللّه .
يا علي ، ثلاثٌ موبقات (57) وثلاثٌ منجيات ، فأمّا الموبِقات ، فهوىً متّبع ، وشُحٌّ مُطاع ، وإعجابُ المرء بنفسه ، وأمّا المنجيات ، فالعدلُ في الرِّضا والغَضب ، والقصدُ في الغنى والفَقر ، وخوفُ اللّهِ في السرِّ
باك يبكيه إلاّ وقد وصل فاطمة وأسعدها عليه ، ووصل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأدّى حقّنا ، وما من عبد يحشر إلاّ وعيناه باكية إلاّ الباكين على جدّي فانّه يحشر وعينه قريرة والبشارة تلقاه ، والسرور في وجهه ، والخلق في الفزع وهم آمنون ، والخلق يُعرَضون وهم حُدّاث الحسين ( عليه السلام ) تحت العرش وفي ظلّ العرش ، لا يخافون سوء الحساب ، يقال لهم ، اُدخلوا الجنّة فيأبون ويختارون مجلسه وحديثه.
وانّ الحور لترسل إليهم انّا قد إشتقناكم مع الولدان المخلّدين ، فما يرفعون رؤوسهم إليهم ، لما يرون في مجلسهم من السرور والكرامة .
وإنّ أعداءهم من بين مسحوب بناصيته إلى النار ، ومن قائل ، ( ما لَنا مِنْ شافِعين ولا صَديق حَميم ) ... )
(1) .
(55) طوبى في الأصل إسم شجرة الخير المعروفة في الجنّة ويُدعى بها لطيب العيش ولبلوغ الخير ، وللوصول إلى أقصى الاُمنيّة والأمل ، وقد تقدّم ذكرها في وصيّة الفقيه فلاحظ .
(56) الصورة وجمعها صُوَر كغرفة وغُرَف هي وجه الشيء ، أي طوبى لوجه نظر الله إليه وهو يبكي على ذنبه الذي لم يطلع عليه إلاّ الله تعالى .
(57) أي مهلكات وقد مضت هذه الخصال في وصيّة الفقيه فراجع .
-------------------------------
(1) بحار الأنوار ، ج 45 ، ص 207 ، ب 4 ، ح 13 .
وصايا الرسول (ص) لزوج البتول
_ 237 _
والعَلانية كأَنّك تراهُ فإنْ لم تكن تراهُ فإنّه يَراك .
يا علي ، ثلاثٌ يَحسُنُ فيهنّ الكِذب (58) ، المكيدةُ في الحرب ، وعِدَتُك زوجتَك ، والإصلاحُ بين الناس .
يا علي ، ثلاثٌ يقُبح فيهِنّ الصدق (59) ، النّميمةُ ، وإخبارُك الرّجلَ عن أهلِه بما يكره ، وتكذيبُك الرجلَ عن الخير .
يا علي ، أربعٌ يذهبن ضَلالا (60) ، الأكلُ بعد الشبع ، والسِراجُ في القَمر ، والزرعُ في الأرضِ السَّبْخة ، والصَّنيعةُ عند [ غير ] أهلِها (61) .
يا علي ، أربعٌ أسرعُ شيء عقوبةً (62) ، رجلٌ أحسنتَ إليه فكافأكَ بالإحسانِ إساءة ، ورجلٌ لا تبغي عليهِ وهو يبغي عليك ، ورجلٌ عاقدتَه على أمر فمن أمْرِكَ الوفاءُ له ومن أمرِه الغدُر بك ، ورجلٌ تَصلُ رحمَه ويقطعُها .
(58) تقدّمت أيضاً في وصيّة الفقيه ونبّهنا على أنّ حسن الكذب فيهنّ لدوران الأمر بين الأهمّ والمهمّ ، وإرتكاب أقلّ القبيحين في باب التزاحم الذي هو المجوّز والمحسّن للكذب عَرَضاً ، وإن كان أصل الكذب قبيحاً لولا هذا المحسِّن ذاتاً .
(59) فإنّ هذه الاُمور الثلاثة وإن كانت متضمّنة للإخبارات الصادقة إلاّ أنّها يترتّب عليها المفسدة .
(60) تقدّمت في وصيّة الفقيه أيضاً وجاء فيها يذهبن ضياعاً أي تلفاً وبلا فائدة فتكون من الإسراف .
(61) أي الصنع والإحسان إلى غير أهله .
(62) تقدّمت أيضاً في وصيّة الفقيه مع إختلاف يسير .
وصايا الرسول (ص) لزوج البتول
_ 238 _
يا علي ، أربعٌ مَنْ يكُنَّ فيه كُمَل إسلامُه ، الصدقُ ، والشكُر ، والحياءُ ، وحسنُ الخلق (63) .
يا علي ، قلّةُ طلبِ الحوائج من الناسِ هو الغِنى الحاضِر ، وكثرةُ الحوائجِ إلى الناسِ مَذلّةٌ وهو الفقرُ الحاضر (64) (65) .
(63) فإنّها من جوامع صفات الخير في الدين الحنيف ، بحيث ورد فيها الحديث عن مولانا الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ( أربع من كُنّ فيه وكان من قرنه إلى قدمه ذنوباً بدّلها الله حسنات ، الصدق ، والحياء ، وحسن الخُلُق ، والشكر )
(1) .
إشارة إلى قوله تعالى : ( إلاّ مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلا صالحاً فاُولئكَ يُبَدّلُ اللّهُ سيّئاتِهمْ حَسَنات وكانَ اللّهُ غَفُوراً رَحيماً )
(2) .
(64) فإنّ خير الغنا غنى النفس ، ونفس عدم السؤال من الناس استغناء عنهم ، فيكون قليل الطلب غنيّاً بالفعل ، وكثير الطلب محتاجاً بالفعل ... ولذلك كانت قلّة طلب الحوائج من الناس هو الغنى الموجود ، وكثرة طلب الحوائج من الناس هو الفقر الموجود وإن كان صاحب الطلب كثير ذات اليد .
ونفس قلّة السؤال توجب العزّة عند الناس ، وقطع الطمع يوجب العون من الله وتيسير الحوائج .
وفي حديث عبدالأعلى بن أعين قال ، سمعت أبا عبدالله ( عليه السلام ) يقول ، ( طلب الحوائج إلى الناس إستلاب للعزّ ، ومذهبة للحياء ، واليأس ممّا في أيدي الناس عزّ
-------------------------------
(1) اُصول الكافي ، ج 2 ، ص 107 ، ح 7 .
(2) سورة الفرقان ، الآية 70 .
وصايا الرسول (ص) لزوج البتول
_ 239 _
للمؤمن في دينه ، والطمع هو الفقر الحاضر )
(1) .
نعم السعي في طلب حوائج المؤمنين الآخرين مطلوب مرغوب بل هو باب مندوب فلاحظ أحاديثه الكثيرة
(2) .
وأمّا بالنسبة إلى حوائج شخصه ونفسه فالمطلوب فيه الإستغناء عن الناس ، وقلّة الطلب منهم ... بل اليأس عمّا في أيديهم كما تلاحظه في الأحاديث
(3) ، خصوصاً ما رواه شيخ الطائفة بسنده عن حفص قال ، قال أبو عبدالله ( عليه السلام ) ، ( إذا أراد أحدكم أن لا يسأل الله شيئاً إلاّ أعطاه فلييأس من الناس كلّهم ، ولا يكون له رجاء إلاّ من عند الله ( عزّوجلّ ) ، فإذا علم الله ( تعالى ) ذلك من قلبه لم يسأل الله شيئاً إلاّ أعطاه ... )
(4) .
(65) جاءت هذه الوصيّة المباركة في تحف العقول ، ص 6 ، ورواها عنه العلاّمة المجلسي في بحار الأنوار ، ج 77 ، ص 61 ، ب 3 ، ح 4 ، وقد وردت الفقرة الاُولى منها في نزهة الناظر للشيخ أبي يعلي الجعفري تلميذ الشيخ المفيد ، ص 8 ، والمحاسن للشيخ البرقي ، ص 16 ، ح 47 .
وفيها وصيّتان اُخريان تأتيان تباعاً إن شاء الله تعالى .
-------------------------------
(1) اُصول الكافي ، ج 2 ، ص 148 ، ح 4 .
(2) بحار الأنوار ، ج 74 ، ص 283 ، باب 20 ، الأحاديث .
(3) بحار الأنوار ، ج 75 ، ص 105 ، باب 49 ، الأحاديث .
(4) أمالي الطوسي ، ص 36 و 110 ، ح 38 و 169 .
وصايا الرسول (ص) لزوج البتول
_ 240 _
الوصيّة السادسة :
نقلها المحدّث الحرّاني في : تحف العقول
التحف ، روى الشيخ المحدّث الفقيه الحرّاني أيضاً في تحف العقول وصيّة اُخرى مختصرة من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) جاء فيها :
يا علي ، إنّ للمؤمنِ ثلاثَ علامات ، الصيامَ والصلاةَ والزكاةَ (1) ، وإنّ للمتكلِّف (2) من الرجالِ ثلاثَ علامات ، يتملّق (3) إذا شَهِد ، ويغتابُ إذا غاب ، ويَشْمِتُ (4) بالمصيبة .
وللظالم ثلاثُ علامات ، يقهرُ مَن دونَه بالغَلَبة (5) ، ومَن فوقَه بالمعصية ، ويُظاهرُ الظَّلَمة (6) .
(1) فإنّها من دعائم الإسلام ، وأركان الدين ، ولا تجد مؤمناً واقعياً يترك ما وجب من الصلاة والصوم والزكاة ، وكذلك الحجّ والولاية التي هي الدعائم الخمسة .
(2) المتكلِّف هو المتصنِّع والذي يتعرّض لما لا يعنيه كمن يدّعي العلم وليس بعالم ، ويتصنّع الزهد وليس بزاهد .
(3) التملُّق هو التودّد والتلطّف باللسان بما ليس في القلب ، والتزلّف لإنسان بوجه لا يتّصف به في الواقع .
(4) الشماتة هو السرور بمكاره الأعداء والفرج بمصائبهم .
(5) أي يتغلّب على من هو أضعف منه ، ويتفوّق عليه بتخسيره وإستخدامه .
(6) المظاهرة هي المعاونة ، والظهير هو العون .