الفهرس العام

الجواب عن إحتجاجه للتثليث بكتبه


الجواب عن إحتجاجه للتثليث بقول التوراة : ((في البدء خلق الآلهة ودعا الآلهة وقال الآلهة ... ))
الجواب عن إحتجاجه للتثليث بقول التوراة : ((وقال الإله : نعمل الإنسان على صورتنا ... ))
شواهد غلط التوراة بالكتابة
إعتماده في ترجمة التوراة بقولك : ((على صورتنا)) فليس إلا على الأصل العبراني
وقالت التوراة في الوثن الذي سمّته توعباه
قول التوراة : ((إنّ الإنسان صار كواحد منّا)) وقولها : ((ننزل ونبلبل))
قول دانيال بأنّ الله قال لبخت نصر : لك نقول يا بخت نصر ...
أحتجاج التوراة في شأن إبراهيم وظهر له الربّ عند بلّوطات
الجواب عن إحتجاجه للتثليث بقول داود : (( بكلمة الله صنعت السماوات ... ))
الجواب عن إحتجاجه بقول المزامير : ((لكلمة الله أسبّح))
الجواب عن إحتجاجه بقول المزامير : (( تبارك الله يوماً فيوماً ، يسهّله الله علينا ))
الجواب عن إحتجاجه بقول اشعيا : ((والآن السيّد أرسلني وروحه))
الجواب عن إحتجاجه بقول الكتاب المقدّس : ((فإنّ الذين يشهدون في السماء ثلاثة : الأب والكلمة والروح القدس))
الجواب عن إحتجاجه بقول المسيح لليهود : ((أليس مكتبوباً في ناموسكم أنا قلت : إنّكم آلهة))
الجواب عن إحتجاجه بقول وحي بولس : ((لمن من الملائكة قال قطّ : أنت ابني ... ))
الجواب عن إحتجاجه بالمثل الذي ضربه المسيح بغارس الكرم
الجواب عن الإحتجاج بسجود الأعمى والمريمين والتلاميذ للمسيح

  وأما ما ذكرته من احتجاجك للتثليث بأوهامك من كتبك ، فهو اللائق بمن لم يرتض العقل والمعقول ، ولم يرتدع برادع الامتناع ، وإنك ـ عافاك الله ـ إذ جانبت العقل والمعقول والوجدان والاعتبار بالإمكان والامتناع ، كان عليك أن تتشبث أقلا بكتب جامعة لصفات الحجة :
  الصفة الأولى : كونها معلومة النسبة لمصدرها الذي تدعى به.
  الثانية ، كونها سالمة من تلاعب التحريف والتبديل ، ومداومة الأيام والأهواء على إكرامها وتحسينها بالزيادة والنقصان.
  الثالثة ، أن لا يكون بعضها شاهدا على بعضها بالتحريف.
  الرابعة ، أن لا تكون ـ بنفسها ـ شاهدة على أن نسختها الوحيدة ـ في بعض الأزمنة ـ كانت كتابة جاهل لا يعرف الكتابة ومواقع الحروف ، بل يقوم ويقع في الغلط الذي يمسخ المعاني مسخا واضحا ، ويظهر عليه زيادة الحرف المغير للمعنى ونقصانه ، وتبادل الحروف وزيادة الكلمات ونقصانها ، وقد فضحها بذلك متبعوها حرصا على تدارك فارط الأيام وتقلبات الأحوال بالتلاعب فيها ، فأكرموا وحدتها بأن تداولوها على صورتها المشوهة وغلطها الفاضح ، وصاروا يصححون في حاشيتها ما يتضح غلطه فيها ، ثم جاء المترجمون وأعرضوا عن صورتها واتبعوا في تراجمهم تصحيح الحواشي ، الذي أوضحته القرائن القطعية ـ وفي خصوص أسفار التوراة الخمسة ـ من جميع أنواع هذه الأغلاط ما يزيد

التوحيد والتثليث _ 27 _

  على ستين موردا (1).
  الصفة الخامسة ، إن تكون دلالتها على مدعاك جارية ولو على أضعف الدلالات المتبعة عند أهل المعرفة واللسان ، لا كما نشاهده من بعض المعتوهين في الاحتجاج لهوساتهم بأمور يزعمون أنها رموز إلى خيالاتهم.
  السادسة ، أن لا تكون صراحتها المتكررة تناقض مدعاك.
  السابعة ، أن لا يكون أئمة نحلتك وقدوتك من سلفك بين من جعل على ما تحتج به على علامة الشك وعدم الوجود في أقدم النسخ وأصحها ، وبين من جاهر بزيادتها على الكتاب وأسقطها منه.
  ثم بعد ذلك يلزمك أن تكون من العارفين بلسان كتبك الأصلي ، وأوضاع لغاتها ، ووضع محاوراتها.
  فكيف بك ـ هداك الله ـ وأنت لم يسعفك الحظ ، ولم يؤاتك الوقت بواحدة من هذه الصفات المذكورة ؟! وفي هذا كفاية لسقوط احتجاجك بكتبك.
  ومع ذلك ، فإنا لا نتجافى عن التعرض لحججك واحدة واحدة لنرشدك إلى ما فيها من الخطل والفشل ، فلعل الله أن يأخذ بيدك إلى الصواب إذا كنت قد جعلت الحق ضالتك التي تطلبها ، فجاهدت في سبيل الله ولم تجمح مع الهوى.
  (13)

الجواب عن إحتجاجه للتثليث بقول التوراة : ((في البدء خلق الآلهة ودعا الآلهة وقال الآلهة ... ))

  فأما تشبثك في احتجاجك على التثليث بدعوى قول

---------------------------
(1) أنظر : الصدر والتمهيد في الجزء الثاني من كتاب (الهدى).

التوحيد والتثليث _ 28 _

  التوراة : (في البدء : خلق الآلهة ... ودعا الآلهة ... وقال الآلهة) (1) إلى آخره ، حيث جاء لفظه في الأصل العبراني (الهيم) فإنه تشبث قد سمعنا غفلته من أوائل الرسالة المنسوبة لعبد المسيح.
  وإنا لو أعرضنا عما ذكرناه في التوراة الرائجة من وجوه الوهن والغلط ـ كما أشرنا إليه في الصفات الأربع الأول من السبع ـ لقلنا : يكفي في شطط هذا التشبث كونه ناشئا عن الجهل باللسان العبراني!
  فلماذا تجهل ـ عافاك الله ـ من كتابك ولغته أن ما يكون علامة الجمع ـ وهو الميم بعد الياء ـ في آخر الكلمة قد يجئ في أواخر الأعلام المفردة ؟! نحو : (موفيم) و (حوفيم) ولدا (بنيامين) و (حوشيم) ابن (دان) و (شليم) ابن (نفتالي) (2) و (شحريم) و (حوشيم) امرأته (3).
  وقد يجئ في أواخر أسماء الأجناس ، كما جاء في الشعير (شعريم) وفي العدس (عدسيم) وفي الكرسنة (كوسميم) (4) وفي الماء (ميم) (5) وفي العنب (عنبيم) وفي الرمان (رمنيم) وفي التين (تانيم) (6) وفي التفاح (تفوحيم) (7) وفي الزيتون (زيتيم) (8) وفي الكتان (بستيم) (9) وفي الحنطة

---------------------------
(1) تك 1 : 1 ـ 31.
(2) تك 46 : 21 ـ 25.
(3) 1 أي 8 : *.
(4) خر 4 : 9.
(5) تك 26 : 32.
(6) عد 13 : 23.
(7) نش 7 : 9.
(8) زك 4 : 12.
(9) أش 19 : 9.

التوحيد والتثليث _ 29 _

  (حطيم) (1) إلى غير ذلك مما يطول المقام بذكره.
  هداك الله ، فلماذا لا يكون لفظ (الهيم) في الموارد التي تذكرها علما مفردا هو اسم لله جل شأنه وإن وقعت الميم في آخره كما وقعت في أواخر الأعلام التي ذكرناها ؟!
  وإن كل ما رأيناه من التراجم قد ترجمت فيه هذه اللفظة بما هو اسم مفرد علم لله تبارك اسمه في لغة ترجمته ، ولم يطرق سمعي ترجمته ـ قبلك ـ بالآلهة إلا من المنسوب لعبد المسيح ، ووجدته في الكتاب المستعار له اسم (الهداية) في الجزء الرابع ، صحيفة 250.
  ويؤيد العلمية أن هذه اللفظة ـ في الموارد التي تعنيها ـ لم تقترن في الأصل العبراني بعلامة التعريف في العبرانية ، التي هي (الهاء) فلم يقل فيها : (هألهيم) بل يوضح العلمية أنه قد جاء في التوراة الرائجة العبرانية اسم علم يلحق بالميم مرة ، ويجرد منها أخرى.
  وذلك كقولها مرة : (ابني عناق) (2).
  وتارة تقول : (يليدي ها عناق ويلدي ها عناق) (3) أي : أولاد عناق.
  وتارة تقول في هذا الموضوع : (بني عناقيم) (4).
  ولو كانت لفظة (الهيم) اسم الجنس أو جمعا ـ كما تزعم ـ لما حسن

---------------------------
(1) نش 7 : 3.
(2) عد 13 : 33 ، وتث 9 : 2.
(3) عد 13 : 22 و 28.
(4) تث 1 : 28 ، و 9 : 2 ، وانظر : يش 15 : 13 و 14.

التوحيد والتثليث _ 30 _

  تجريدها من علامة التعريف ، فانظر كيف قبح قولك في تعريب التوراة في البدء : خلق إله أو : خلق آلهة ، أو : وقال إله ، أو : وقال آلهة ... وهلم جرا.
  ولعلك تقول : إن علامة التعريف في العبرانية قد تسقط من اللفظ مع كون التعريف مرادا أو لازما ، وذلك لأجل الاكتفاء بدلالة المقام.
  فنقول لك : وما البناء على ما تقول ، لماذا لا يكون لفظ (الهيم) اسم جنس معرف بتعريف العهد كما تقول : خلق الإله ، وقال الإله ؟!
  فإن قلت : إن (الهيم) قد جاء في المقابلة (ال) (1) و (الوه) (2) فيدل ذلك على أن (الهيم) جمع بمعنى الآلهة ، و (ال) و (الوه) مفرده.
  قلنا : لا دلالة في ذلك ، فإنه قد جاء مثله في أسماء الأجناس ، فذكرت الميم وحذفت والمعنى واحد.
  فقد جاء في الحنطة ـ حطيم) و (حطه) (3) وفي الشعير (شعريم) و (شعره) (4) وفي الماء (ميم) و (مي) (5) وفي التفاح (تفوحيم) و (تفوح) (6) وفي العنب (عنبيم) و (عنب) (7) وفي الزيتون (زيتيم) و (زيت) (8) وفي الكتان (بستيم) و (بسته) (9)

---------------------------
(1) تث 6 : 15 ، و 32 : 4.
(2) أش 44 : 8.
(3) تث 8 : 8.
(4) خر 9 : 31.
(5) عد 5 : 18 و 20 و 22 و 24.
(6) نش 2 : 3.
(7) تث 32 : 4.
(8) خر 27 : 20 ، ولا 24 : 2.
(9) 1 مل 7 : 20.

التوحيد والتثليث _ 31 _

  ومما يفصح ويوضح بندائه أن (الهيم) في اللغة العبرانية ـ وخصوص التوراة ـ لا يختص بالجمع ، هو أن توراتكم استعملت هذا اللفظ في مقام لا تقول أنت ولا غيرك بأن المراد منه الجمع ، وذلك أن توراتكم خاطبت موسى في شأن هارون بقولها : (وأنت تكون له إلها ، ع واتاه تهيه لولالهيم) (1) وخاطبت موسى أيضا : (جعلتك إلها لفرعون ، ع نتيتك الوهيم لفرعه) (2) ... أفتقول أنت أو غيرك أنه قيل (الوهيم) لأن موسى جماعة ، أو ذو ثلاث أقانيم ؟!
  وأيضا يقول كتابكم : إن شاول طلب من صاحبة الجان أن تصعد له صموئيل النبي ورأته واضطربت.
  وقال لها شاول : ما رأيت ؟
  قالت ـ ما لفظه بالعبراني ـ : (الهيم رائيتي عليم من هأرص) (3).
  فلم يحتمل شاول أنهم جماعة ، بل عرف من المحاورة المتعارفة في العبرانية أنها عنت واحدا ، ولذا قال لها : ما صورته ؟
  فقالت : (رجل شيخ صاعد وهو مغطى بجبة).
  فعلم من ذلك أن المتعارف في المحاورات العبرانية أن لفظ (إله) يلحقون الميم به وبوصفه ، مع أنهم لا يريدون ولا يفهمون منه في محاوراتهم إلا الواحد المفرد ، بحيث لا يخفى ذلك على السامع ولا يحتمل الجمع ، ولا علينا أن نقول : إن إلحاق الميم ههنا للتعظيم أو لغيره.

---------------------------
(1) خر 4 : 16.
(2) خر 7 : 1.
(3) 1 صم 28 : 13 و 14.

التوحيد والتثليث _ 32 _

  فإن قلت : إن لفظ (الوهيم) قد استعمل في اللغة العبرانية ـ وخصوص التوراة ـ بالجمع أيضا ، فهو لا يعدو أن يكون مشتركا بين الواحد والجمع.
  قلت : إذن لهفي عليك وعلى إدراكك البشري ، إذ صرت تحتج في دينك ومعرفتك بإلهك بلفظ مشترك ، وتتشبث به لهذه الدعوى التي يستهزئ بها العقل ، ويطردها الوجدان ، ويجرها الامتناع إليه من تلابيبها.
  (14)

الجواب عن إحتجاجه للتثليث بقول التوراة : ((وقال الإله : نعمل الإنسان على صورتنا ... ))

  وأما تشبثك بقول توراتكم : (وقال الإله : نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا ... الإنسان صار كواحد منا ... تعالوا ننزل ونبلبل هناك لسانهم).
  فقد أبيت فيه إلا أن تواسي المتسمي بعبد المسيح في أوهامه أو تجاهله في تشبثه بقول الأصل العبراني (نعسه آدام) وغفلته أو تغافله عن أن توراتكم العبرانية ـ زيادة على ما أشرنا إليه من غلطها في الكتابة ـ قد تفاحش فيها الاضطراب في شأن الضمائر ، إفرادا وجمعا ، وتذكيرا وتأنيثا ، وكم حذفت هاء التأنيث في المؤنث ! وكم أبدلت حرفا بحرف ! وكم زادت ونقصت في الحروف ! وزادت كلمة برأسها كما فضحها بذلك الحواشي ومراغمة التراجم بالمخالفة لأصلها.
  كما كثر اضطرابها في شأن الفعل وهيئته ، فتارة تقول فيما تعريبه : (ارتحلوا ويرتحلون) : (يسعو) بالياء (1) وتارة تقول : (نسعو) بالنون (2).

---------------------------
(1) انظر أقلا : عد 9 : 17 ـ 20.
(2) 9 : 21 ، و 10 : 18 و 21.

التوحيد والتثليث _ 33 _

شواهد غلط التوراة بالكتابة

  وذكرت اسم واحد من أولاد شمعون بن يعقوب ، فتارة (يموئيل) (1) بالياء في أوله ، وتارة أخرى (نموئيل) (2) بالنون بدل الياء.
  وتارة تقول في (أعطى) للماضي الغائب المفرد (يتن) (3) بالياء ، وتارة تقول فيه (نتن) (4) بالنون.
  وتارة في تقول في (أخرج) للماضي المتعدي (يوصا) (5) ، وتارة تقول ذلك في (أخرج) (6) للمتكلم ، وتقول فيه أيضا (اصا) (7).
  وتقول في (ظهر) للماضي (يرأ) (8) بالياء ، وتقول فيه أيضا (نرأه) (9) بالنون وزيادة الهاء.
  وتقول في (تكون) للغائبة (تهي) (10) بالتاء (وهايتاه) (11) و (نهايتاه) (12).
  وتقول في (حلف) للمفرد المذكر (يشبع) (13) بالياء و (نشبع) (14) بالنون.
  وتقول في (حلفت) المسند إلى المتكلم المفرد (نشبعتني) (15) ، وفي

---------------------------
(1) تك 46 : 10 ، وخر 6 : 15.
(2) عد 26 : 12.
(3 و 4 و 5) تك 24 : 53.
(6) خر 8 : 25 ، و 11 : 4.
(7) خر 11 : 8.
(8 و 9) خر 3 : 2 و 16.
(10) تك 2 : 12.
(11 و 12) خر 11 : 6.
(13 و 14) لا 5 : 22 و 14.
(15) تك 22 : 16 ، و 26 : 3.

التوحيد والتثليث _ 34 _

  (أعطيت) كذلك (نتيتي) (1) بالنون في أولهما.
  وأمثال ذلك كثير حدا في التوراة والعهد القديم وإن اقتصرنا على بعض مواردها.
  فلماذا لا تكون النون في (نعسه) كهذه النونات ، في عدم الدلالة على إرادة غير المفرد ، بل جئ بها كغيرها مما ذكرناه ؟!.
  ويطرد أيضا في التوراة واللغة العبرانية مجئ النون في أول الفعل المبني للمجهول المسند إلى المفرد الغائب ، ويؤتى بالنون في أوله علامة للبناء للمجهول ، فمن أمثلته في التوراة : (تقطع : نكرتاه) (2) و (يحرق : نأكل) (3) و (يقدم : نقرب) (4) و (يكسر : نشبر) (5) و (ينهب : نشباه) (6) و (تفدى : نفداتاه) (7) و (يباع : نمكر) (8) و (يبقى : نوتر) (9).
  وهذه الموارد وإن ترجمت في العربية بالفعل الماضي ، لكن صيغتها في العبرانية صيغة الفعل المضارع ، فإن العادة فيها أن تعبر عن الماضي الواقع بعد الواو بصيغة المضارع ، وعلى هذا فإن كلمة (نعسه) هي فعل مضارع مبني للمجهول ، ترجمته (يصنع).
  كما ذكرت التوراة أن الله جل اسمه قال في إنشاء خلق السماوات

---------------------------
(1) تك 26 : 4 ، وقض 1 : 12.
(2) خر 12 : 19.
(3 و 6) خر 22 : 5 و 6 و 9.
(7) لا 19 : 30.
(8) لا 25 : 39.
(9) خر 10 : 15 ، وعد 26 : 65.

التوحيد والتثليث _ 35 _

  وما فيها وما في الأرض : (يهي : يكون ، ويقاوو : تجتمع ، وتد شاء : تنبت) (1) فكان كما قال جل اسمه.
  ويدل على أن كلمة (نعسه) هي فعل مبني للمجهول ، وأن (آدم) نائب الفاعل ، هو أنه لو كانت كلمة (نعسه) فعلا مبنيا للفاعل و (آدم) مفعولا لقيل : (نعسه ات آدم) لأن لفظة (ات) لازمة في اللغة العبرانية للمفعول به ، ولا تذكر مع نائب الفاعل ، فكان عدمها ههنا حجة قاطعة من اللغة العبرانية على أن (نعسه) فعل مبني للمجهول ، و (آدم) نائب الفاعل لا مفعول.

إعتماده في ترجمة التوراة بقولك : ((على صورتنا)) فليس إلا على الأصل العبراني

  وأيضا ، فإن اعتمادك في ترجمة توراتك بقولك : (على صورتنا كشبهنا) فليس إلا على قول الأصل العبراني (بصلمنو كد موتنو) وهو اعتماد واه ، وتشبث سخيف ، يعرف سخافته كل من وقف على الغلط الفاحش في الأصل العبراني مما نبهت عليه الحواشي والتراجم وزيادة ، وكل من وقف على الهرج والمرج القائم في أمر النون في أواخر الكلمات ، فقد ذكرت اسما في آخر نون ، وحذفتها عند النسبة إليه هو (نعمان ونعمي) (2) وكم عكست فزادت النون عند النسبة إلى ما لا نون فيه نحو (ادموني) (3) للأحمر ، من : ادوم ، ونحوه (شلاه وشلاني) (4) وتقول في كلمة

---------------------------
(1) أنظر : تك 1 : 3 ـ 11.
(2) عد 26 : 40.
(3) تك 25 : 25.
(4) عد 26 : 20.

التوحيد والتثليث _ 36 _

وقالت التوراة في الوثن الذي سمّته توعباه

  وبيان الغلط في الكتابة أو التوسع في اللغة الجواب بأن علامة التشديد لم توضع باللغة العبرانية إلا في مدرسة طبريا
  (بعد : عود) (1) (وبعدك : عودك) (2) وفي (بعده : عودنو) (3) وفي (تحت ـ أي عوض ـ : تحتنه) (4) أي عوضها ، وفي (تفتح وتنفتح : وتفقحو وتفقحنه) (5).
  وقالت التوراة أيضا في الوثن الذي سمته (توعباه) أي قبيحا أو رجسا (شقص بشقصنو وتعب تتعبنو) (6) أي بغضا تبغضه وكراهة تكرهه ، فسبيل النون في قولها : (بصلمنو كد موتنو) كسبيلها في الموارد المذكورة وأمثالها الكثير جدا ، من حيث الغلط في الكتابة أو التوسع في اللغة.
  فإن قلت : إن النون في مثل (عودنو وتشقصنو) عليها علامة التشديد بخلاف النون في (بصلمنو كد موتنو).
  قلنا : إن علامات التشديد والحركات والسكون لم توضع في الكتابة العبرانية إلا في مدرسة طبريا التي انشئت في قرن المسيح عليه السلام أو بعده ، فعلامة التشديد ونحوه لم تكن في كتب اليهود قبل ذلك العصر ، بل وإلى الآن لا توجد في التوراة التي يكتبونها ويقدسونها للتلاوة في معابدهم.
  فإن قلت : إن قرينة المقام تعين موارد التشديد من غيرها.
  قلت : وأي قرينة إذن أوضح من توحيد الله جل شأنه وتنزهه عن

---------------------------
(1) تك 45 : 3.
(2) تك 46 : 30.
(3) تك 43 : 27 و 28.
(4) 2 : 21.
(5) تك 3 : 7.
(6) تث 7 : 26.

التوحيد والتثليث _ 37 _

  الصورة والشبيه كما صادقت على ذلك صراحة العهد القديم المتكررة حيث قال : (من يشبه الرب بأبناء الله) (1) ، (بمن تشبهون الله وأي شبيه تعادلون به ، وبمن شبهوني وأساويه ، يقول القدوس ، وبمن تشبهونني وتساووا وتمثلونني فنتشابه) (2).
  وإن كنت تنجح لصحة التوراة الرائجة فعليك أن تفسر ما يوهم التشبيه ، ويقول : إن الإنسان بصورته ومثاله خلقه الله ، وعلى صورة مثال خلقه الله ذكرا وأنثى ولم يخلقه روحا مجردة ... وإن العهدين ـ وخصوص التوراة ـ لتنوه صراحتهما المكررة بوحدة الإله ، فلماذا تحمل مشتبهات ألفاظها وأغلاطها على التعدد الذي يشمئز العقل والفطرة من فرض إمكانه ؟! ومن لا يرضى بالعقل فيصلا في معرفة الإله كيف تقبل منه في أوهامه هذه الأغاليط المتضاعفة والغفلات المتراكمة ؟!
  (15)

قول التوراة : ((إنّ الإنسان صار كواحد منّا)) وقولها : ((ننزل ونبلبل))

  وأما قول توراتك : (الإنسان صار كواحد منا).
  فلسنا نحتاج في إبطاله نحتاج في إبطاله إلى أن نذكرك بما ذكرناه إجمالا من حال توراتكم ، وخصوص هرجها ومرجها في الغلط والاضطراب بالضمائر والحروف.
  بل يكفي في سخافته كونه كلام متحسر مقهور نادم مغبون ، يمكن أن تستلب منه صفاته الخاصة بالقهر والاختلاس ، إلا أن يتحذر عما يأتي ويحامي عن حوزة استبداده بإعمال التدابير اللازمة.
  بل مقتضاه مع الكلام السابق أن آدم قد تم له دست الألوهية ،
---------------------------
(1) مز 89 : 6.
(2) أش 40 : 18 و 25 ، و 46 : 5.

التوحيد والتثليث _ 38 _

  حيث كان على صورة الآلهة ، ثم صار كواحد منهم ، ولا يضر كونه مغلوبا بالإخراج من الجنة ، فإنه كان غالبا بصيرورته كواحد من الآلهة ، ولا يضر أيضا كونه يموت ، فإنكم تقولون : إن أقنوم الابن قد صلب ومات ودفن!
  ثم التفت ـ عافاك الله ـ إلى قول توراتكم : (إن الله خلق آدم على صورته وشبهه) وما هي تلك الصورة ؟! ولا تقدر أن تقول هي صفة المعرفة ، لأن ذلك كان قبل أن يصير عارفا بالخير والشر!
  (16)
  وأما قول توراتكم ـ التي شرحنا حالها ـ : (هلم ننزل ونبلبل ... إلى آخره).
  فهو قول من لم يفهم من صراحة توراتكم معناها السخيف ، فإنها قالت قبل ذلك : (فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما ، وقال الرب : هو ذا شعب واحد ، ولسان واحد لجميعهم ، وهذا ابتداؤهم بالعمل ، والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه ، هلم ننزل نبلبل ... إلى آخره) وحاصل هذه الخرافة هو أن الله القادر يقول جل شأنه : إن بناءهم لهذا الاستحكام يؤول إلى استقلال هذه الرعية ، فلا بد من تدارك هذا الأمر قبل أن يحدث ما لا يمكن دفعه ، وفي ذلك الحال قال : (هلم ننزل) فلا بد أن يكون قد طلب النزول ممكن لم ينزل معه.
  فإن زعمت أن ذلك طلب لنزول الأقنومين اللذين بقيا في السماء ولم ينزلا معه.
  قلنا : سامحناك في سخافة هذا الزعم ، ولكنه دعوى بلا شاهد ، ولو بمثل سخافتها ! ولماذا لا يكون طلبا لنزول جند السماء وروح الكذب ؟! كما ذكرت كتب إلهامكم في تاريخ (اخاب) ملك إسرائيل ، أن الرب كان

التوحيد والتثليث _ 39 _

  جالسا على كرسيه وكل جند السماء وقوف عن يمينه ويساره فاستشارهم فيمن يغوي (اخاب) فتفاوضوا في المشورة ، وقال هذا : هكذا ، وقال هذا : هكذا ، إلى أن توفق روح الكذب للرأي السديد ، ففوض إليه العمل لأجل اقتداره ، ولكن (ميخا) النبي أفشى سر هذه المشورة ، وكاد أن يبطل تدبير الرب وروح الكذب فيها ، فراجع : الملوك الأول 22 : 19 ـ 23 ، والأيام الثاني 18 : 18 ـ 22 ، وافرح بعناية الوحي بتكرار هذه الخرافة ، وأظن متبعيه يحسبونها تمجيدا لله !!
  (17)

قول دانيال بأنّ الله قال لبخت نصر : لك نقول يا بخت نصر ...

  وأما قولك : (ودانيال يخبرنا في كتابه أن الله قال لبخت نصر : لك نقول يا بخت نصر).
  فإنه كلام اتبعت فيه غفلة المدعو بعبد المسيح ، فإن الذي تنسبه لدانيال إنما نصه في الأصل العبراني (لك آمرين نبوخذ نصر ، لك طاردين) والتراجم العربية والفارسية مما عندي قد تجمعت ذلك بقولها : (لك يقولون) أو (لك يقال) أو (لك قيل) مع أنها اتفقت على ترجمة (طاردين) بيطردونك (1).
  (18)
  قول التوراة في مقام آخر: ((إله إبراهيم وإله إسحاق)) وتكرير لفظ الجلالة، وفيه إشارة إلى سرّ وهو أنّه واحد ذو ثلاثة أقانيم
  وأما قولك : (إن التوراة تقول في مقام آخر : إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب ، فكررت لفظ الجلالة ثلاث مرات تفصيلا للجمع المتقدم ، وإشارة إلى أن في هذا الموضع سرا وهو أن الله واحد ذو ثلاثة أقانيم ، فثلاثة أقانيم إله واحد ، وإله واحد ثلاثة أقانيم ، فأي دليل أوضح ، وأي نور أضوأ من هذا).

---------------------------
(1) أنظر : دا 4 : 31 و 32.

التوحيد والتثليث _ 40 _

  فإنه قول اتبعت فيه المدعو بعبد المسيح ، وليتك راجعت الأصل العبراني وتتبعت توراتكم لكي تسلم ـ أقلا ـ من سوء الاتباع والخطل في النقل.
  عافاك الله ، فكم يوقعك الاتباع للسلف في المهاوي ، فإن احتجاجك هذا لو سامحناك في جميع مقدماته ـ التي نسأل الله أن يعافي من وبالها كل من لم يعاند الله بالشرك ـ لكانت نتيجتها الشوهاء : إما تربيع الأقانيم ، أو مذهب المجوس في التثنية ، فإن الذي في الأصل العبراني هكذا تعريبه ، (إله آبائك إله إبراهيم إله إسحاق وإله يعقوب) (1).
  فإنك إن تشبثت بتكرار لفظ الجلالة فقد تكرر أربع مرات ، وإن اعتمدت على المغايرة بالعطف بالواو فليس في المقام إلا عطف واحد ، أفتقول : إن الإله أربعة ؟! أحدهم إله الآباء خاصة ، وثانيهم إله إبراهيم خاصة ، وثالثهم إله إسحاق خاصة ، ورابعهم إله يعقوب خاصة ، واختص بالعطف بالواو لأجل امتيازه عن الآخرين ، فتقول : إنه امتاز عنهم بمصارعته ليعقوب (2) وبمؤاتاته له في أخذ البركة من إسحاق بالخديعة والكذب (3)!
  أم تقول : إن المتكرر بلا عطف هو واحد ، والمعطوف هو ثان كقول المجوس ... وإن المجوسي ليأخذك بمثل شطط حجتك ، ويقول لك : إن توراتكم تقول (الهيم) وإن لغتها لا تميز بين التثنية والجمع ، وقد تبينت هذا

---------------------------
(1) خر 3 : 6 و 15 ، و 4 : 5.
(2) تك 32 : 24 ـ 32.
(3) تك 27 : 14 ـ 40.

التوحيد والتثليث _ 41 _

  المجمل بالعطف ، وقالت أيضا : إله إبراهيم وإله إسحاق (1) فالعطف في المقامين دليل الإثنينية ، ثم يتحمس عليك ويقول لك مثل قولك : أي دليل أوضح وأي نور أضوأ من هذا ؟! وإنها لظلمات بعضها فوق بعض.
  (19)

أحتجاج التوراة في شأن إبراهيم وظهر له الربّ عند بلّوطات

  وأما احتجاجك بقول توراتكم في شأن إبراهيم : (وظهر له الرب عند بلوطات (ممرا) وهو جالس في باب الخيمة ، فرفع عينيه ونظر ، إذا ثلاث رجال واقفون لديه ، فلما نظر ركض لاستقبالهم وسجد إلى الأرض ، وقال : يا سيد ، إن كنت وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك).
  فإن اتباعك لغفلة المدعو بعبد المسيح قد أغفلك عن التدبر في محاورات توراتكم التي عرفت حالها ، فإنها كثيرا ما تسمي الملاك بالله والرب ، جهلا من كاتبها ، الذي استعار لها اسم التوراة الحقيقية ، أو لأنه قد دفعه إلى ذلك طوايا الوثنية وعبادة جند السماء!
  أفلا تراها بينما تكرر أن الرب يسير أمام بني إسرائيل (2) إذ تقول : إن السائر هو ملاك الرب (3) وتقول : إن الذي ظهر لموسى في عليقة النار هو ملاك الرب (4) ؟! كما صرح به استفانوسكم الذي تقولون : إنه ممتلئ من الروح القدس!

---------------------------
(1) تك 28 : 13.
(2) خر 13 : 21 و 14 : 34 ، وعد 14 : 14 ، وتث 1 : 32 مع 33.
(3) خر 14 : 19 ، وعد 20 : 16.
(4) خر 3 : 2.

التوحيد والتثليث _ 42 _

   أنّ سفر القضاة نسب إلى ملاك الربّ ما نسبته التوراة إلى الله جلّ شأنه ، وفيه صعد ملاك الربّ من الجلجال
  ثم تقول : إن الذي ظهر هو الرب الإله (1) وإنها تقول : إن الذي كلم موسى هو الله (2) واستفانوسكم يقول : إن الملاك الذي كان سائرا مع موسى في البرية هو الذي كان يكلمه في جبل سينا (3).
  وإن سفر القضاة قد نسب إلى ملاك الرب ما نسبته التوراة إلى الله جل اسمه ففيه : (وصعد ملاك الرب من الجلجال إلى (بوكيم) وقال : قد أصعدتكم من مصر ، وأتيت بكم إلى الأرض التي أقسمت لآبائكم وقلت : لا أنكث عهدي معكم إلى الأبد ، وأنتم فلا تقطعوا عهدا مع سكان هذه الأرض ، اهدموا مذابحهم ، فلا تسمعوا لصوتي ، فماذا عملتم ، فقلت : لا أطردهم من أمامكم ، بل يكونون لكم وتكون آلهتهم لكم شركا ، وكان لما تكلم ملاك الرب بهذا الكلام) (4).
  ثم قل ـ هداك الله وعافاك ـ : ما صورة احتجاجك بقصة إبراهيم ؟! أتقول ـ عافاك الله ـ : إن إبراهيم كان عارفا بأن الرجال الثلاثة كانوا أقانيم الإله الواحد ، ولذلك خاطبهم خطاب الواحد ، لأجل أنهم وإن كانوا ثلاثة فهم واحد حقيقة ، ومن أجل هذه المعرفة دعاهم إلى الضيافة ليغسلوا أرجلهم ، ويتكئوا تحت الشجرة ، ويسندوا قلوبهم بكسرة خبز ، فعمل لهم ثلاث كيلات خبز ملة وعجلا سمينا وزبدا ولبنا ووضعها قدامهم فأكلوا ؟!

---------------------------
(1) خر 3 : 16.
(2) وهو كثير في التوراة وعليه مدارها ، فانظر : خر 3 : 4 و 11 ، و 4 : 10 ، وعد 12 : 8.
(3) أع 7 : 38.
(4) قض 2 : 1 ـ 5.

التوحيد والتثليث _ 43 _

  عافاك الله ، أفتدعوني إلى عبادة مثل هذه الآلهة ؟! أفهذا إنصافك ؟! وقد عهدنا من بعض السكارى المنصفين أنهم ـ في حال سكرهم ـ يعظون من يشفقون عليه ، ويمنعونه عن السكر معهم ، ويقولون له : إنا قد ابتلينا بشرب هذا المنحوس ، ولا تدعنا العادة الوخيمة أن نتركه ، فلا تبتل بسفاهتنا!
  أم تقول : إن إبراهيم لم يكن عارفا بأنهم أقانيم الإله الواحد ، ولكن اتفاق هذه الواقعة في تعدد الرجال ووحدة الخطاب يشير إلى تثليث الأقانيم ؟!
  قلنا : وحاصل ما تقول إذن أن وحدة الخطاب مع تعدد الرجال كان غلطا ، ولكنه يشير إلى تثليث أقانيم الإله الواحد ، فبخ بخ لك في هذه الحجة ، وهل يناسب الغلط أن يحتج له بغير الغلط ؟!
  ولكن المجوسي يحتج عليك بأقوى من حجتك ويقول : إن هذا الغلط ، الاتفاقي لا يصلح حجة ، ولكن الحجة هو الغلط اللازم في المرض المزمن ، وهو كون الأحول يرى الواحد اثنين متماثلين ، فيه إشارة إلى أن الإله الذي يعتبره الموحدون واحدا إنما هو اثنان!
  ثم يجئ الوثني ويقول للمثلث والمثنى : لا ينبغي أن يحتج لمثل هذه المعرفة بالغلط ، بل إن التوراة كثيرا ما خاطبت الألوف المتعددة ـ من بعيد ـ شبحا واحدا ، وفي هذا كله إشارة إلى أن الإله الذي يعتبره الموحدون واحدا إنما هو ألوف من الأوثان!
  عافاك الله ، وليس للموحد حينئذ إلا أن يوقفه العجب موقف

التوحيد والتثليث _ 44 _

  الحيرة ، لا يدري أيضحك أم يبكي! ؟
  (20)

الجواب عن إحتجاجه للتثليث بقول داود : (( بكلمة الله صنعت السماوات ... ))

  وأما قولك : (قال داود : بكلمة الله صنعت السماوات ، وبروح فيه كل جنودها (مز 33 : 6) ، فذكر الله وكلمته وروحه ، الأقانيم الثلاثة).
  فلم تعد فيه أن تكون تابعا لغفلة المدعو بعبد المسيح ، أفلم تنظر في المزمور الذي تذكره لكي ترى فيه قوله : (في خلق الله للسماوات اسم الرب ، لأنه أمر فخلقت) (1).
  ألم تسمع من إنجيلكم نقله عن قول المسيح : (إنه مكتوب : ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ، بل بكل كلمة تخرج من فم الله) (2) وأشير بالمكتوب إلى قول التوراة ذلك مع زيادة في النقل ، فإن نص الذي في التوراة (بل بما يخرج من فم الله) (3).
  أفلم تعلم من ذلك أن المراد بالكلمة هو فيض الله عليه العالم بالتكوين والتعليم والتشريع ، فقيل عن الفيض : إنه كلمة ... وأمر ... وليكن ... وكلمة تخرج من فم الله ... وريح فمه ، أو روح فمه ، أفلا تفهم من قوله : (ريح فمه) أو (روح فمه) أنه كناية عن الفيض والمشيئة التكوينية التي يعبر عنها بكن ... ولتكن ... وكلمة ، كما تذكر التوراة خلق الأشياء بقوله جل اسمه : (يهي) أي : لتكن.
  عافاك الله ، وقد موه قلبك عبد المسيح فأخبر جازما بأن الذي في

---------------------------
(1) مز 148 : 5.
(2) مت 4 : 4 ، ولو 4 : 4.
(3) تث 8 : 3.

التوحيد والتثليث _ 45 _

  المزامير : (روح فمه) مع أن اللفظ العبراني يحتمل معنى الريح ، كما هو الأنسب ، وفسره مترجموكم بالنسمة ، فانظر الأصل العبراني تك 3 : 8 ، وخر 14 : 21 ، وعد 11 : 31.
  والحاصل أن كلمة الله ، وريح فمه ، ونسمة فمه ، بل وروح فمه ، هذه كلها كناية عن مشيئة الله التي بها أوجدت السماوات وكل جنودها.
  (21)

الجواب عن إحتجاجه بقول المزامير : ((لكلمة الله أسبّح))

  وأما حجتك بقول المزامير : (لكلمة الله اسبح).
  فإنك اتبعت فيه عبد المسيح ، وهو غير معتمد في نقله ، ولم نجد هذا المنقول على الاستعجال في المزامير لننظر فيه!
  ولكنا نقول : هبه صدق في النقل ، وهبنا أغمضنا عن مشاركة المزامير للتوراة في وجوه الخلل التي ذكرناها ، فإنا يكفينا في جهالته في حجته أنه جاء في المزامير : (في كل يوم أباركك وأسبح اسمك ... دور إلى دور يسبح أعمالك وبجبروتك يخبرون) (1).
  فهل تقول : إن اسم الله هو الأقنوم الرابع ؟! وإن أعمال الله أقانيم لا تحصى ، وهي الله ؟! أم لم تدر بأنه يوجد مثل هذا أيضا في المزامير ؟!!
  (22)

الجواب عن إحتجاجه بقول المزامير : (( تبارك الله يوماً فيوماً ، يسهّله الله علينا ))

  وأما احتجاجك بقول المزامير أيضا : (تبارك الله إلهنا ، تبارك الله يوما فيوما ، يسهله الله علينا).
  فقد سمعناه قبلك من المدعو بعبد المسيح ، ولم نجد لمنقولكما في المزامير عينا ولا أثرا يشبه به إلا قولها : (مبارك السيد يوما فيوما ، يحملنا إله خلاصنا ، الله لنا إله خلاص) وكيف كان ، فخرافة هذا الاحتجاج

---------------------------
(1) مر 145 : 2 و 4.

التوحيد والتثليث _ 46 _

  قتضي تكثير الآلهة والأقانيم حسب ما يتكرر في المزامير ! وماذا تقول لمن يحتج عليك بأن المزامير قد تكرر فيها لفظ الجلالة أكثر من ألف مرة ؟!!
  (23)

الجواب عن إحتجاجه بقول اشعيا : ((والآن السيّد أرسلني وروحه))

  وأما احتجاجك بالقول المنسوب لأشعيا : (والآن السيد الرب أرسلني وروحه).
  فلماذا غفلت فيه ، كالمدعو بعبد المسيح ، أو تغافلتما عن أن روح الرب هو الملاك الذي يكلم الأنبياء ويكون واسطة في إرسالهم ؟! حتى أن التوراة الرائجة تسميه الله والرب ، كما ذكرناه عن التوراة واستفانوسكم في شأن الذي كلم موسى وظهر له وسار معه.
  (24)
  الجواب عن إحتجاجه بقول الإنجيل : ((وعمّدوهم باسم الأب والابن والروح القدس))
  وأما احتجاجك بما يذكره إنجيلكم عن قول المسيح : (وعمدوهم باسم الإله ، واسم النبي العبد الصالح صاحب الدعوة ومبلغ الرسالة ، واسم الروح القدس الملك المتوسط بين الله ورسله في الوحي ... ليعترفوا بالإله الواحد ، ويصدقوا برسالة النبي ووحيه بواسطة الروح القدس ، فإن الابن في اصطلاح العهدين هو الموحد والمؤمن كما سمت التوراة بني إسرائيل بالابن البكر (1) وقال الإنجيل : (لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات) (2).
  وبمقتضى احتجاجاتك هذه الأربع أنك لا بد لك من تربيع

---------------------------
(1) خر 4 : 22 و 23.
(2) مت 5 : 45.

التوحيد والتثليث _ 47 _

  الأقانيم أقلا ! لأن كتابكم يقول : (إن الله محبه) (1) ، فلماذا لا تعد ذلك أقنوما رابعا ؟! بل عليك أن تخمس الأقانيم ، لأنه قد تكرر ذلك ! بل عليك ـ في سخافة هذه الحجج المضحكة ـ أن تزيد في عدد الآلهة والأقانيم كلما تنظر في كتبكم.
  (25)

الجواب عن إحتجاجه بقول الكتاب المقدّس : ((فإنّ الذين يشهدون في السماء ثلاثة : الأب والكلمة والروح القدس))

  وأما قولك : (وقال الكتاب المقدس : فإن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة ، الأب والكلمة والروح القدس ، وهؤلاء الثلاثة هم واحد).
  فقد غشتك فيه أمانيك ، وغالطك ـ عافاك الله ـ هواك ، ولئن كنت لا تدري فإنا ندري بأن العهد الجديد الذي هو كملكي صاروق (2) بلا أب ، بلا أم ، بلا نسب ، لا بداية أيام معلومة له ، ولا نهاية وقوف لتقلبه ، لطالما يقئ هذه الفقرة ثم يوجرها العناد في حلقه ، وأن الكثير من أسلافك وقدوتك ومصلحيك قد أنكر هذه الفقرة فأسقطت حتى في التراجم المطبوعة في هذا الدور ! وأن أنكر المطبوعات تجعلهما بين الخطين الهلاليين الذين هما علامة الشك فيها وعدم وجودها في أقدم النسخ وأوضحها.
  (26)
  وأما قولك : (وأما ألوهية المسيح فلا ينبغي بعد هذا أن يرتاب فيها ذو عقل).
  فلهفي عليك فيه من غفلتك عما شرحنا لك فيما أشرت إليه :

---------------------------
(1) 1 يو 4 : 8 و 16.
(2) عب 7 : 3.

التوحيد والتثليث _ 48 _

  فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم (1) عافاك الله ، إن أناجيلك هي التي تذكر في شأن المسيح ما لا يكون إلا من عبد مخلوق ، حادث ، فقير ضعيف ، لا يقدر على شئ إلا بإقدار الله ، ولا يعلم ما يعلمه الله ، ولم يتخلص من غواية الشيطان ، وتصرفه به ، وطمعه في تكفيره إلا بعد اللتيا والتي.
  (27)

الجواب عن إحتجاجه بقول المسيح لليهود : ((أليس مكتبوباً في ناموسكم أنا قلت : إنّكم آلهة))

  وأما قولك : (إن المسيح ذاته قد كشف القناع عن ذلك باحتجاجه على اليهود في قوله لهم له المجد : أليس مكتوبا في ناموسكم ، أنا قلت : إنكم آلهة ، إن قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله ولا يمكن أن ينقض المكتوب ، فالذي قدسه الأب وأرسله إلى العالم أتقولون له : إنك تجدف ، لأني قلت : إني ابن الله).
  فقد كنت أظن أن ذا الفطنة منكم يستر هذا على كتابه ، أفلست ترى هذا القول يجاهر بتعدد الآلهة الكثيرة على خلاف ما تقوله التوراة ، بل وجميع كتبكم ؟! ولا أبهظك بذكر العقل الذي تضجر من اسمه وحكمه.
  وزيادة على هذا ، إن هذا المحتج ـ وحاشا المسيح من ذلك ـ لم يفهم ما في ما في المزمور الثاني والثامنين ، فلم يفهم أنه مسوق للإنكار والتوبيخ ، وإلا كان من أقبح الشرك ، ومع سوء الفهم لم يأت بشئ في حجته المضحكة أو المبكية! فإنه بعد إن وقع في أقبح ما يكون من سوء الفهم ، والشرك ، ونسبته إلى الوحي ، لم يثبت للمسيح إلا كونه ابن الله ، وكتبكم

---------------------------
(1) (م).

التوحيد والتثليث _ 49 _

  قد سمت بذلك حتى فساق بني إسرائيل!
  وبهذا تعرف ما في تشبثك بقول إنجيلكم : (إنه جاء صوت من السماء : هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت) فإنه على سخافة مستنده لا يدل ـ باصطلاح العهدين ـ إلا على أنه مؤمن محبوب ، ولكنه لا يبلغ فضل الابن البكر ، وهم بنو إسرائيل!
  (28)

الجواب عن إحتجاجه بقول وحي بولس : ((لمن من الملائكة قال قطّ : أنت ابني ... ))

  وأما قولك : (إن وحي بولس أوضح الحجة إذ قال ـ لمن من الملائكة قال قط : أنت ابني ، أنا اليوم ولدتك ـ : وأيضا أنا أكون له أبا وهو يكون لي ابنا).
  فنقول فيه : إن هذا الوحي انتهب نهارا جهارا وهو يحسب أنه اختلس ليلا ، فإن الفقرة الأولى قد جاءت في المزمور الثاني وهي لا تنطبق على المسيح ، لأن ولادته بأي نحو كانت لم تكن في اليوم الذي كتب فيه هذا المزمور ، أو أوحي على زعمكم ، لأن ولادات المسيح عندكم دائرة بين الولادة الأزلية ، أو الولادة الكائنة في بيت لحم ، أو التي عند اعتماده من يوحنا بعد ثلاثين سنة من عمره الشريف!
  وأما الفقرة الثانية ، فإن كتابكم صريح بأنها مقولة في سليمان بن داود (1).
  وقال بعض الظرفاء : ما أشأم التسمية بالابن على التوحيد ، فقد سمت التوراة الرائجة بني إسرائيل بالابن البكر ، فكان منهم ما كان من تقلبهم في الشرك ، وتمردهم على التوحيد ، من يوم عبادة العجل إلى سبي

---------------------------
(1) 1 أي 22 : 9 و 10 ، و 2 صم 7 : 12 ـ 16.

التوحيد والتثليث _ 50 _

  بابل.
  وسمى (صموئيل الثاني) و (الأيام الأول) سليمان بالابن ، وقد ذكر (الملوك الأول) أن سليمان ـ وحاشاه ـ مال قلبه وراء آلهة أخرى ، وذهب وراء عشتاروت آلهة الصيدونيين ، وملكوم رجس العمونيين ، وبنى مرتفعة لكموش الصنمين وذلك عبادة لهما.
  وسمت الأناجيل المسيح بالابن ، فجاء الناس من ذلك بداهية التثليث ، فصار المنادون يهتفون بنعي الإله ليبشروا بالفداء والتفلت من الشريعة.
  (29)

الجواب عن إحتجاجه بالمثل الذي ضربه المسيح بغارس الكرم

  وأما تشبثك بقولك : (وإن شئت التثبت في الاستيضاح فراجع المثل الذي ضربه المسيح بغارس الكرم ، إذ أرسل إلى الكرامين عبيده ثم ابنه من بعدهم).
  فقد سمعنا بذلك قبلك عن أناستاس الكرملي نزيل بغداد حالا ، فراجعنا المثل ـ عافاك الله ـ وإنه لو صحت الأحلام بنسبته للمسيح لما كان فيه إلا التمثيل لإرسال الأقرب منزلة بعد من هو دونه ، ولا ينكر أن المسيح أقرب منزلة إلى الله مما عدا موسى من أنبياء بني إسرائيل الذين هم من أتباع موسى.
  وإن الالتزام بالمطابقة بين المثل له في جميع الخصوصيات المذكورة في المثل ليفضي إلى أقبح الكفر ، فإن المثل يقول : إن غارس الكرم سافر ، ويقول : إنه غرته الأوهام ، وقال في عملة الكرم : إنهم يهابون ابني ، فخاب ظنه وضل رأيه فلم يهابوا ابنه!
  أفتقول ذلك في الله جل شأنه ؟!

التوحيد والتثليث _ 51 _

  (30)
  الجواب عن إحتجاجه بقول المسيح للأعمى : ((أتؤمن بابن الله ... )) إلخ
  وأما قولك بأن (المسيح طلب من الأعمى الذي شفاه أن يؤمن بهذه الحقيقة قائلا : أتؤمن بابن الله ؟ فأجاب الأعمى : من هو لكي أؤمن به ؟ فقال له : إن الذي يتكلم معك هو هو ، فقال الأعمى : أؤمن وسجد له).
  فقد سمعناه قبلك أيضا من اناستاس ، ولو صح هذا الكلام عن المسيح - وأنى - لما عدا أن يكون جاريا على اصطلاح العهدين من تسمية المؤمن الصالح بابن الله.
  (31)

الجواب عن الإحتجاج بسجود الأعمى والمريمين والتلاميذ للمسيح

  وأما قولك : (إن هذا الأعمى ومريم المجدلية ومريم أم يعقوب والتلاميذ سجدوا للمسيح ولم يردعهم ، مع أن السجود لا يحق إلا لله ، فكيف يرضى المسيح أن يسجدوا له لو لم يكن إلها حقيقة).
  فقد سمعناه قبلك أيضا عن احتجاجات أناستاس ، وكنا نعجب من أن الذي ينصب قسا ورئيسا في ديانته كيف يجهل من كتبه كثرة نقلها لسجود الأنبياء للبشر ، وسجود البشر للأنبياء ، وسجود النبي للنبي ؟!
  وإن توراتكم لتقول مكررا : إن إبراهيم خليل الله قد سجد لشعب الأرض لبني حث (1) وقد كان هؤلاء مشركين !
  وإن يعقوب عند ملاقاته لعيسو سجد إلى الأرض سبع مرات ، وسجد أيضا نساؤه وأولاده (2) ولسانها ينادي بأن هذا السجود كان تحية وتملقا لعيسو لئلا يبطش بهم ، إذ كان يعقوب خائفا منه!

---------------------------
(1) تك 23 : 7 و 12.
(2) تك 33 : 3 ـ 7.

التوحيد والتثليث _ 52 _

  وإن إخوة يوسف سجدوا له (1).
  وسجد يوسف أمام وجه أبيه (2).
  وموسى خرج لاستقبال حميه وسجد وقبله (3) وفي الأصل العبراني : (ويشتحو ويشق لو).
  وسجد داود ثلاث مرات لما ودع يوناثان ابن شاول (4).
  وسجد لشاول (5).
  وسجدت له ابيجايل (6).
  وسجدت له بثشبع (7).
  وسجد ناثان النبي لداود النبي (8).
  وسجد سليمان النبي لأمه (9).
  فإن قلت : إن هؤلاء كلهم قد أخطأوا وعصموا في السجود لغير الله!
  قلنا : إن الاحتجاج الذي تنقله أناجيلكم عن المسيح ليخرسك عن هذه الجرأة ، أولم تجد أن أناجيلكم تذكر أن المسيح لما اعترض عليه

---------------------------
(1) تك 42 : 6 ، و 43 : 26 و 28.
(2) تك 48 : 12.
(3) خر 18 : 7.
(4) 1 صم 2 : 21.
(5) 1 صم 42 : 8.
(6) 1 صم 25 : 23.
(7) 1 مل 1 : 16.
(8) 1 مل 1 : 23.
(9) 1 مل 2 : 19.

التوحيد والتثليث _ 53 _

  اليهود بأكل تلاميذه من الزرع يوم السبت ، احتج عليهم بأكل داود من خبز التقدمة الذي لا يحل إلا للكهنة (1) فلو لم يكن داود معصوما في فعله ، بل لا يجوز أن يفعل الحرام ، لما صح من المسيح هذا الاحتجاج.
  وإن سجود داود لشاول ، وسجود ابيجايل وبثشبع وناثان النبي لداود كان بعد أكله من خبز التقدمة الذي احتج المسيح به.
  فإن قلت : إن داود وهؤلاء الساجدين لغير الله كلهم قد أخطأوا وعصموا بسجودهم هذا ، وإن هذا الاحتجاج المنقول عن المسيح إنما هو دخيل في الأناجيل ، قد زاده عبث الأيام.
  قلنا : مرحبا ، فما العلامة القاطعة على أن حكاية سجود التلاميذ للمسيح ، وكذا توما والأعمى والمريمين قد كانت من شق فم الوحي ، وفلذة من كبد الإنجيل الحقيقي ، لم يلدها العبث في حجر الضلال كحكاية الاحتجاج بفعل داود ؟!
  وما الحجة القاطعة على أن المسيح مالأهم على السجود له ؟! أولسنا نرى أن أناجيلكم قد أهمل كل واحد كثيرا مما يذكر الآخر ، وإن اتفقت على مادة حكاية ، أوردها كل واحد بصورة غريبة (2) ؟!
  وما الحجة القاطعة على أن سكوت المسيح ـ عند السجود له ـ لم يكن على نهج سكوت داود كيفما تقول فيه ؟!
  فإن زعمت أن الفارق ألوهية المسيح.
  قلنا : هذه هي الدعوى الداهية التي ورطك بها الهوى في مزالق الأوهام!

---------------------------
(1) مت 12 : 2.
(2) تعرف بعض ذلك من الجزء الأول من كتاب (الهدى) صحيفة 205 ـ 227.