الجهة الثالثة
  محاولات القوم في ردّ حديث الطير فننتقل الان إلى محاولات القوم في ردّ هذا الحديث وإبطاله ، وفي المنع عن نقله وانتشاره وما صنعوا ، تتلخّص محاولاتهم في وجوه :
  الاول : المناقشة في سند الحديث فإذا راجعتم كتاب العلل المتناهية في الاحاديث الواهية لابي الفرج ابن الجوزي ، تجدونه يذكر هذا الحديث بسند أو ببعض أسانيده ويضعّفه ويسكت عن بعض الاسانيد الاُخرى (1) ، لكن ابن الجوزي أبا الفرج الحنبلي المتوفى سنة 597 هـ معروف بالتسرّع بالحكم ، لا بالتضعيف فقط بل حتّى الحكم بالوضع ، ولربّما ضعّف أو كذّب في كتبه أحاديث موجودة في الصحاح ، وهذا ما دعا كبار المحدّثين من المحققين من أهل السنّة إلى التحذير من الاعتماد على حكم ابن الجوزي ، في أي حديث من الاحاديث ، وأنّه لابدّ من التثبّت ، والعجيب أنّهم ربّما ينسبون إلى ابن الجوزي أنّه أدرج حديث الطير في كتاب الموضوعات ، راجعوا كتاب المرقاة في شرح المشكاة للقاري (2) وبعض الكتب الاُخرى ، ينسب إلى ابن الجوزي أنّه حكم على هذا الحديث بالوضع وأدرجه في كتاب الموضوعات ، والحال أنّه غير موجود في كتاب الموضوعات ، نعم ، موجود في كتاب العلل المتناهية ، لكنّه ببعض أسناده ، وإنّما يتكلّم على بعض رجال هذا الحديث في بعض الاسانيد ـ ونحن لا ندّعي أنّ كلّ أسانيده صحيحة ـ ويسكت عن البعض الاخر ، ويأتي من بعده ابن كثير، فيذكر في تاريخه (3) حديث الطير ، ويرويه عن عدّة من الائمّة الاعلام ، يرويه عن الترمذي ، وعن أبي يعلى ، وعن الحاكم ، وعن الخطيب البغدادي ، وعن ابن عساكر ، وعن الذهبي ، وعن غيرهم ، إلى أنْ قال :

---------------------------
(1) العلل المتناهية 1/228 من رقم 360 ـ 377 .
(2) مرقاة المفاتيح 10/465 رقم 6094 ـ دارالفكر ـ بيروت ـ 1414 هـ .
(3) البداية والنهاية المجلد الرابع الجزء السابع : 350 ـ دارالفكر ـ بيروت .

حديث الطير _ 22 _

  وقد جمع الناس في هذا الحديث مصنّفات مفردة منهم : أبو بكر ابن مردويه ، والحافظ أبو طاهر محمّد بن أحمد بن حمدان فيما رواه شيخنا أبو عبد الله الذهبي يقول : ورأيت مجلداً في جمع طرقه وألفاظه لابي جعفر ابن جرير الطبري المفسّر صاحب التاريخ ، ثمّ وقفت على مجلّد كبير في ردّه وتضعيفه سنداً ومتناً للقاضي أبي بكر الباقلانيّ المتكلّم ، ثمّ يذكر ابن كثير رأيه في هذا الحديث قائلاً : وبالجملة ، ففي القلب من صحّة هذا الحديث نظر وإن كثرت طرقه ، أقول : فدليل ابن كثير على ضعف هذا الحديث أنّ قلبه لا يساعد ، قلب ابن كثير لا يساعد على قبول هذا الحديث ، كما أنّ قلب أبي جهل لم يساعد على قبول القرآن والاسلام ، فليكنْ ، وأيّ مانع ؟ قلبه لا يساعد ، لا يقول : إنّه موضوع ، لا يقول : إنّه حديث مكذوب ، لا يقول : في سنده كذا وكذا ، لا يقول : الراوي ضعيف لقول فلان ، لنصّ فلان على ضعفه ، وأمثال ذلك ، فإنّها مناقشات علميّة تسمع ، إنّها مناقشات علميّة قابلة للبحث ، قابلة للنظر ، وأيّ مانع ! يقول: وبالجملة ، ففي القلب من صحّة هذا الحديث نظر وإن كثرت طرقه ، الرجوع إلى القلب من جملة أساليبهم في ردّ بعض الاحاديث ، أذكر لكم شاهداً واحداً فقط ، وإلاّ لطال بنا المجلس ، عندما يريدون أنْ يردّوا حديثاً وقد أعيتهم السبل ، فلم يمكنهم المناقشة في سنده بشكل من الاشكال ، يلجأون إلى القَسَم أحياناً ، كقولهم : والله إنّه موضوع ، وأيّ دليل أقوى من هذا ؟ ! أوْ يلتجئون إلى قلوبهم : والقلب يشهد بأنّ هذا الحديث موضوع ، أذكر لكم شاهداً واحداً فقط .

حديث الطير _ 23 _

  في مستدرك الحاكم حديث عن علي ( عليه السلام ) : أخبرني رسول الله : «إنّ أوّل من يدخل الجنّة أنا وفاطمة والحسن والحسين» ، قلت : يا رسول الله فمحبّونا ؟ قال : «من ورائكم» ، يقول الحاكم : صحيح الاسناد ولم يخرجاه (1) ، هذا حديث الحاكم ، وما ذنبنا إنْ كان الحاكم كاذباً بنقل هذا الحديث وفي حكمه بصحّته ، نحن المحبّون لاهل البيت ندخل الجنّة وراء أهل البيت ، هم يدخلون ونحن وراءهم ، لانّنا نحبّ أهل البيت ، وهذا لا يمكن لاحد إنكاره ، فيقول الذهبي في تلخيصه للمستدرك في ذيل هذا الحديث : الحديث منكر من القول يشهد القلب بوضعه (2) ، ليته ناقش في سند الحديث ، بضعف راو من رواته ، يشهد القلب بوضعه !! ولماذا يشهد قلب الذهبي بوضع هذا الحديث ؟ الحديث يقول : إنّ أوّل من يدخل الجنّة رسول الله وعلي وفاطمة والحسن ومحبّوهم من وراءهم ، أيّ مانع من هذا ؟ وأيّ ضير على الذهبي حتّى يشهد قلبه بأنّ هذا الحديث موضوع ؟ ولماذا ؟ هل حبّ أهل البيت مانع من دخول الجنّة فيكون قلبه يشهد بوضع هذا الحديث ؟ أو يشُك في أنّ رسول الله وعليّاً وفاطمة والحسنين أوّل من يدخل الجنّة ؟ أيشُك في هذا ؟ لماذا قلبه يشهد بوضعه ؟ فتأمّلوا في هذا ، إذن ، كانت المحاولة الاُولى ، المناقشة في سند الحديث والحكم بضعف الحديث ، لكن الحديث في الصحاح كما ذكرنا ، وله أسانيد صحيحة ، وقسم كبير من أسانيده أنا بنفسي صحّحتها على ضوء كلمات كبار علماء الحديث وأئمّة الجرح والتعديل وهي في خارج الصحاح .

---------------------------
(1) مستدرك الحاكم 3/151 وذيل الصفحة .
(2) مستدرك الحاكم 3/151 وذيل الصفحة .

حديث الطير _ 24 _

  الثاني : تحريف اللفظ وهذا هو الطريق الثاني لردّ هذا الحديث ، قد قرأنا بعض الالفاظ ، وعرفتم كيف يكون التحريف ، أمّا أحمد بن حنبل ، فقد قرأنا لفظ الحديث من كتاب فضائله أو مناقبه ، فلنقرأ لفظ الحديث في مسنده فلاحظوا :
  قال: سمعت أنس بن مالك وهو يقول : أُهديت لرسول الله ثلاثة طوائر ، فأطعم خادمه طائراً ، فلمّا كان من الغد أتت به ـ كلمة الخادم تطلق على المرأة والرجل ـ فقال لها ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : «ألم أنهك أن ترفعي شيئاً ، فإنّ الله ( عزّ وجلّ ) يأتي برزق كلّ غد» ، هذا هو الحديث في مسند أحمد (1) ، ولك أن تقول : لعلّ هذا الحديث في قضيّة أُخرى لا علاقة لها بحديث الطير ، لكنْ عندما نراجع ألفاظ الحديث نجد بعض ألفاظه بنفس هذا اللفظ وبنفس السند الذي أتى به أحمد ، وفيه ما يتعلّق بعليّ ( عليه السلام )وكونه أحبّ الخلق إلى الله إلى آخره ، نعم ، كنت أتصوّر أنّ هذا الحديث وارد في قضيّة لا علاقة لها بحديث الطير الذي نحن نبحث عنه ، هذا تبادر إلى ذهني لاوّل وهلة ، لكنّني دقّقت النظر في الاحاديث فوجدت الحديث حديث الطير ، إلاّ أنّه جاء به بهذا الشكل ، وهل الذي جاء في مسند أحمد من أحمد نفسه أو النسّاخ أو الطابعين لكتابه ؟ الله أعلم .

---------------------------
(1) مسند أحمد 4/52 رقم 12631 .

حديث الطير _ 25 _

  وأبو الشيخ الاصفهاني الذي ذكرناه مراراً ، يروي هذا الحديث وفيه ما يتعلّق بأمير المؤمنين (عليه السلام) ، إلاّ أنّ ما يتعلّق بأنس ، وكذب أنس ، وخيانة أنس ، هذا محذوف ومحرّف ، لاحظوا :
  عن أنس بن مالك قال : أُهدي لرسول الله طير فقال : «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير» ، فجاء علي فأكل معه ، ثمّ هو يقول: فذكر الحديث انتهى (1) ، وكأنّه يريد أنْ يحفظ الامانة فلا يخون يضع كلمة : فذكر الحديث ، ومن العجيب إسقاط بعضهم كلا الفقرتين ، ما يتعلّق بعلي وما يتعلّق بأنس ، فأسقط كلتا الفقرتين وجاء فقط بذلك العذر الذي ذكر أنس في آخر القضية : عن أنس عن النبي قال : «لا يلام الرجل على حبّ قومه» ، حينئذ يقول ابن حجر العسقلاني : هذا طرف من حديث الطير (2) .
  الثالث : تأويل الحديث وحمل مدلوله على خلاف ما هو ظاهر فيه فيحملون أوّلاً لفظ الحديث الذي يقول : «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك» ، يحملونه على أنّ المراد اللهمّ ائتني بمن هو من أحبّ خلقك إليك وإلى رسولك ، فحينئذ لا اشكال ، لانّ مشايخ القوم أحبّ الخلق إليه أيضاً ، فيكون علي أيضاً من أحبّ الخلق إليه ، «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك» ، أي اللهمّ ائتني بمن هو من أحبّ خلقك إليك وإلى رسولك ، راجعوا شروح مصابيح السنّة ، راجعوا شروح المشكاة (3) وكتاب التحفة الاثنا عشرية (4) لوجدتم هذا التأويل موجوداً في كتبهم حول هذا الحديث .

---------------------------
(1) طبقات المحدّثين باصبهان 3 / 454 .
(2) لسان الميزان 5 / 58 .
(3) المرقاة في شرح المشكاة : 212 .
(4) التحفة الاثنا عشرية : 212 .

حديث الطير _ 26 _

  وهل توافقون عليه ؟ وهل هناك مجال لقبول هذا التأويل بلا أيّ دليل ؟ وقال صاحب التحفة الاثني عشرية : إنّ القضيّة إنّما كانت في وقت كان الشيخان في خارج المدينة المنوّرة ، فلذا لم يحضرا فحضر علي ، راجعوا كتاب التحفة الاثنا عشرية (1) ، وهذا الكتاب عندهم من أحسن الكتب في باب الامامة ، أو في أبواب العقائد كلّها ، وطبع مراراً وتكراراً طبعات مختلفة ، وطبعوا خلاصته باللغة العربية مع تعاليق ذلك العدو من أعداء الدين ، مراراً وتكراراً في البلاد المختلفة ، أقول : هل كانت هذه القضية في وقت كان أبو بكر وعمر في خارج المدينة المنوّرة ؟ والله لو كانا في خارج المدينة المنوّرة لما كان عندنا أي كلام ، فنحن ما عندنا أي غرض في إثبات شيء أو في نفي شيء ، لكنْ ماذا نفعل مع حديث النسائي ، مع حديث أبي يعلى : إنّه جاء أبو بكر فردّه ، جاء عمر فردّه ، وأضاف صاحب المسند فقال : بأنّ عثمان أيضاً جاء وردّه ؟ ! فهؤلاء كانوا في المدينة المنوّرة ، وأيّ ذنب لنا لو كان النسائي وغيره ورواة خبر حضورهم في المدينة كاذبين عليهم ؟ !
  الرابع : المعارضة المعارضة لها وجه علمي ، نحن نوافق على هذا ، لانّ المعارضة هي الاتيان بحديث معتبر ليعارض به حديث معتبر آخر في مدلوله ، فتلاحظ بينهما قواعد الجرح والتعديل لتقديم البعض على البعض الاخر ، تلك القواعد المقررة في كتب السنّة ، فهذا أُسلوب علمي للبحث والمناظرة ، وأيُّ مانع من هذا ، المعارضة وإلقاء التعارض بين الحديثين ، ثمّ دراسة الحديثين بالسند والدلالة وإلى آخره عمل جميل وعلى القاعدة ، وله وِجهةٌ علمية ، ونحن مستعدون لدراسة ما يذكرونه معارضاً لحديث الطير بلا أيّ تعصّب ، لكنْ أيّ شيء ذكروا ليعارضوا به حديث الطير ؟ في كتاب التحفة الاثنا عشرية استند إلى حديث : «إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر » في مقابلة حديث الطير .

---------------------------
(1) التحفة الاثنا عشرية : 212 .

حديث الطير _ 27 _

  فو الله لو تمّ هذا الحديث سنداً ودلالة ، حتّى لو ثبت اعتباره عندهم واتّفقوا على صحّته ، فنحن نغضّ النظر عن انفراد القوم به ، وقد قلنا منذ الاوّل أنّ الحديث الذي يريد كلّ طرف من الطرفين أن يستند إليه لابدّ وأن يكون مقبولاً عند الجانبين ، نحن نغضّ النظر عن هذه الناحية ، وندرس الحديث على ضوء كتبهم وأقوال علمائهم هم فقط ، ولو تمّ لوافقنا ولرفعنا اليد عن حديث الطير المقبول بين الطرفين بواسطة حديث : «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» ، ولكنْ ماذا نفعل وهم لا يقبلون بحديث الاقتداء بالشيخين ، وسنقرأ ما يقولونه حول هذا الحديث بالتفصيل في موضعه إن شاء الله تعالى .
  الخامس : بعد أنْ أعيتهم السبل العلمية في الظاهر وهي : المناقشات في السند أو الدلالة ، يلجأون إلى طريقة أُخرى ، وماذا نسمّي هذه الطريقة ؟ لا أدري الان ، لاقرأ لكم ما وجدته تحت هذا العنوان الذي عنونته أنا ، فأنتم سمّوا ما فعلوا بأيّ تسمية تريدون !! أذكر لكم قضيّة الحافظ ابن السقا الواسطي المتوفى سنة 373 هـ : يقول الذهبي في كتاب سير أعلام النبلاء (1) بعد أن يصف ابن السقا بما يلي : الحافظ الامام محدّث واسط ، بعد أن يلقّبه بهذه الالقاب ينقل عن الحافظ السلفي يقول :

---------------------------
(1) سير أعلام النبلاء 16/351 ـ 352 ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ 1404 هـ .

حديث الطير _ 28 _

  سألت الحافظ خميساً الجوزي عن ابن السقا ؟ فقال: هو من مزينة مضر ولم يكن سقّاءً بل لقب له ، من وجوه الواسطيين وذي الثروة والحفظ ، رحل به أبوه فأسمعه من أبي خليفة وأبي يعلى وفلان وفلان وبارك الله في سنّه وعلمه ، واتفق أنّه أملى حديث الطائر فلم تحتمله نفوسهم ، فوثبوا عليه فأقاموه وغسلوا موضعه ، فمضى ولزم بيته لا يحدّث أحداً من الواسطيين ، فلهذا قلّ حديثه عندهم ، أقول : ولم يذكر الراوي كلّ ما وقع على هذا المحدّث من ضرب وشتم وإهانة وغير ذلك ، يكتفي بهذه العبارة : وثبوا عليه فأقاموه عن مجلسه وغسلوا موضعه ، كأنّ الموضع الذي كان جالساً فيه تنجّس لاملائه طرق حديث الطير ، وغسلوا موضعه ، فمضى ولزم بيته ولم يخرج ، فماذا تسمّون هذه الطريقة ؟ لا أدري ، هذا ما ذكره الذهبي في ترجمة هذا الرجل في سير أعلام النبلاء ، وفي كتاب تذكرة الحفّاظ (1) ، أمّا الحاكم النيسابوري ، فقد كان مصرّاً على صحّة حديث الطير ، وعلى تصحيح حديث الطير ، يقول في كتابه علوم الحديث (2) : حديث الطير من مشهورات الاحاديث ، وكان على أصحاب الصحاح أن يخرّجوه في الصحاح ، ويقول: ذاكرت به كثيراً من المحدثين ، ويقول : كتبت فيه كتاباً ، أي كتب في جمع طرقه كتاباً ، ثمّ إنّه في المستدرك (3) يروي هذا الحديث ويقول : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وقد رواه عن أنس جماعة من أصحابه زيادة على ثلاثين نفساً ، وقد قلت لكم أنّ الرواة عن أنس هم أكثر من ثمانين شخصاً لا ثلاثين شخصاً ، يقول : ثمّ صحّت الرواية عن علي وأبي سعيد الخدري وسفينة .

---------------------------
(1) تذكرة الحفاظ 3/966 ـ دار احياء التراث العربي ـ بيروت .
(2) معرفة علوم الحديث : 93 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ 1397 .
(3) مستدرك الحاكم 3/131 .

حديث الطير _ 29 _

  واضطرب القوم تجاه تصحيح الحاكم ، وإخراج الحاكم هذا الحديث في مستدركه ، وإصراره على صحّة هذا الحديث ، وأصبحت قضيّة حديث الطير والحاكم قضيّة تذكر في أكثر الكتب المتعلّقة بالحاكم وبحديث الطير ، أي حدثت هناك ضجّة من فعل الحاكم هذا ، وقام القوم عليه وقامت قيامتهم ، ولاجل هذا الحديث رماه بعضهم بالرفض فقال : الحاكم رافضي ، لكن الذهبي وابن حجر العسقلاني يقولان : الله يحبّ الانصاف ، ما الرجل برافضي ، فراجعوا لسان الميزان ، وراجعوا سير أعلام النبلاء ، وغير هذين الكتابين (1) ، ثمّ جاء بعضهم وجعل يرمي كتاب المستدرك بأنّ هذا الكتاب ليس فيه ولا حديث واحد على شرط الشيخين ، وحينئذ يقول الذهبي : هذه مكابرة وغلو (2) ، ثمّ نسبوا إلى الدارقطني أنّه لمّا بلغه أنّ الحاكم قد أخرج حديث الطير في المستدرك انتقد فعل الحاكم هذا ، لكن الذهبي يقول: إنّ الحاكم إنّما ألّف المستدرك بعد وفاة الدارقطني بمدة (3) وحينئذ ، إذا راجعتم كتاب طبقات الشافعية للسبكي (4) رأيتموه ينقل عن الذهبي إنّ الحاكم سُئل عن حديث الطير فقال : لا يصحّ ولو صحّ لما كان أحد أفضل من علي بعد رسول الله ، ثمّ قال شيخنا : وهذه الحكاية سندها صحيح ، فما باله أخرج حديث الطير في المستدرك ، يعني : إذا كان الحاكم يعتقد بأنّ الشيخين أفضل من علي ، فلماذا أخرج الحديث في المستدرك ؟ ولماذا صحّحه ؟ حينئذ يقول السبكي : قد جوّزت أنْ يكون زيد في كتابه ، يعني: حديث الطير زيد في كتاب المستدرك !! لاحظوا إلى أي حدٍّ يحاولون إسقاط حديث من الاحاديث ، قد جوّزتُ أن يكون زيد في كتابه ، أنْ لا يكون من روايات الحاكم ، يقول السبكي : وبحثت عن نسخ قديمة من المستدرك فلم أجد ما ينشرح الصدر بعدمه [ أي وجدت الحديث في كلّ النسخ ] وتذكّرت الدارقطني إنّه يستدرك حديث الطير ، فغلب على ظنّي إنّه لم يوضع عليه [ أي إنّ الحديث لم يوضع على الحاكم ، ولم يزده أحد في المستدرك ] ثمّ تأمّلت قول من قال : إنّه [ أي الحاكم ]أخرجه من الكتاب ، فإنْ ثبت هذا صحّت الحكايات ، ويكون خرّجه في الكتاب قبل أن يظهر له بطلانه، ثمّ أخرجه منه لاعتقاده عدم صحّته كما في هذه الحكاية التي صحّح الذهبي سندها ، ولكنّه بقي [ أي الحديث ] في بعض النسخ ، إمّا لانتشار النسخ بالكتاب ، أو لادخال بعض الطاعنين في الشيخين إيّاه [ أي الحديث ] فيه [ أي في المستدرك ] فكلّ هذا جائز ، والعلم عند الله تعالى .

---------------------------
(1) سير أعلام النبلاء 17/174 ، وفيه : قلت : كلاّ ليس هو رافضياً ، بل يتشيّع ، لسان الميزان 6/251 وفيه : قلت : إنّ الله يحبّ الانصاف ، ما الرجل برافضي بل شيعي فقط .
(2) سير أعلام النبلاء 17/175 .
(3) نفس المصدر 17/176 .
(4) طبقات الشافعية 4/168 ـ 169 ـ دار إحياء الكتب العربية ـ القاهرة ـ 1418 هـ .

حديث الطير _ 30 _

  هذا نصّ عبارة السبكي ، أقول : هذه نماذج من محاولات القوم لاسقاط الحديث ، ولاثبات أنّ الحاكم لم يروه في مستدركه ، وذلك يكشف عن اضطراب القوم أمام تصحيح الحاكم وإخراجه هذا الحديث في كتابه ، وهل اكتفوا بهذا ؟ لا ، وهل استفادوا من هذه الاساليب شيئاً ؟ لا ، فما كان عليهم إلاّ أنْ يهجموا على الحاكم داره فيضربوه ويكسروا منبره الذي كان يجلس عليه ويحدّث ، ويمنعوه من الخروج من داره ، وهلاّ فعلوا هذا من أوّل يوم، وقبل أن يتعبوا أنفسهم في التحقيق عن كتاب المستدرك باحتمال أنْ يكون هذا الحديث قد أدرجه بعض الطاعنين ، فما أحسن هذا الطريق لاثبات الخلافة لاسيادهم !! وهكذا فعلوا مع غير الحاكم ، مع كثير من أئمّتهم !! أما فعلوا مع النسائي في دمشق ؟ أما بقروا بطن الحافظ الكنجي في داخل المسجد لانّه كان يملي فضائل علي ؟ وأما فعلوا ؟ وأما فعلوا ؟ أمّا بعلماء الطائفة الشيعيّة ، وبالائمّة الاثني عشر ، فأيّ شيء فعلوا ؟ وكيف عاملوا ؟ وهكذا ثبتت الامامة والخلافة للشيخين وللمشايخ ، فأيّ داع لكلّ ما قاموا به من المناقشة في السند ، من المناقشة في الدلالة ، من المعارضة ، من تحريف اللفظ ؟ من ضرب وهتك لابن السقا والحاكم ؟ لماذا لا يقلّدون إمامهم وشيخ إسلامهم الذي قال : حديث الطير من الموضوعات المكذوبات (1) ، فأراح نفسه من كلّ هذا التعب ؟ وهذه فتوى ابن تيميّة ، وتلك فتوى ابن كثير ، وتلك أفعالهم وأعمالهم مع أئمّتهم كالحاكم وغيره ، وتلك تحريفاتهم لالفاظ الحديث النبوي ، وتلك خياناتهم تبعاً لخيانة صاحبهم أنس بن مالك ، وتلك إمامة مشايخهم التي يريدون أن يثبتوها بهذه السبل !! وعلى كلّ منصف ، كلّ محقّق ، وكلّ حرّ أنْ يستمع القول فيتّبع أحسنه ، والله على ما نقول شهيد ، ونعم الحكم الله ، والخصيم محمّد ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين .

---------------------------
(1) منهاج السنة 7 / 371 .