ولا يحتاج الأمر الى أن ينبري كتاب الوهابية أمثال إحسان ظهير فينصحوا الشيعة بضرورة الايمان بكتاب الله تعالى وسلامته من التحريف ... فنحن الشيعة نفتخر بأن اعتقادنا بالقرآن راسخ ، ورؤيتنا له صافية ، ونظرياتنا حوله واضحة ، لأنها مأخوذة من منبع واضح صاف ، منبع أهل بيت النبي (ص) ، وأبواب مدينة علمه !
  أما إخواننا السنة فقد أخذوا رؤيتهم للقرآن من عدد من الصحابة ... والصحابة كلهم أمرهم النبي (ص) أن يرجعوا في أمور القرآن الى مفسريه الشرعيين من عترته ، فقال لهم : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ولكن بعض الصحابة لم يفعلوا ، ثم تدخلوا في تحليل أمور القرآن ووضعوا له نظريات بدون علم إلا اتباع الظن ، فوقعوا وأوقعوا الذين قلدوهم من الأمة في مشكلات فكرية لا حل لها ... وفيما يلي نستعزض نظريتين منها !
  1 ـ نظرية التوسع في نص القرآن !
  إذا كنت مسلماً سنياً وكنت من أعلم العلماء ، فلن تستطيع أن تقنع أطفالك بأن القرآن نزل على سبعة حروف ... بل سوف تتحير من أول الأمر ماذا تقول لهم ؟! فهل تقول لهم إن الله تعالى أنزل القرآن بسبعة نصوص ؟ يعني أنزل سبعة قرائين ؟! أو أنزله بسبع طبعات منقحة ؟!
  وماذا تجيب إذا سألك ولدك الناشئ فقال لك : يا أبتي نحن نعرف أن الملك أو رئيس الجمهورية يصدر المرسوم بنسخة واحدة ونص واحد ! وأنت تقول إن جبرئيل كان يضبط نص القرآن على النبي كل سنة مرة ، فهل تقصد أنه نزل على النبي من الأول سبع نسخ ، وكان جبرئيل يضبط عليه سبعة ؟ ولماذا ، ألا تكفي نسخة واحدة؟! ثم ما هو الفرق بين هذه النسخ ؟!
  تقول لابنك : لا يا ولدي ، القرآن نسخة واحدة ومعنى أنه على سبعة حروف أن الله تعالى استعمل فيه سبعة أنواع من لغات العرب أو لهجاتهم .
  فيقول لك : ولكن هذا لا يقال له نزل على سبعة حروف ، بل يقال إن ألفاظه مختارة من كلمات سبع قبائل !
  ثم تقول له ... ويقول لك ... حتى تعجز أمام ابنك !!
  وقد يمكنك أن تسكته بأن هذه المقولة حديث نبوي وردت في المصادر المعتمدة ، فيجب عليك أن تقبلها حتى ولو لم تفهمها ولم يفهمها أبوك وعلماؤك !
  وقد يسكت ابنك : ولكن يبقى السؤال يجول في أعماق نفسه : هل يعقل أن يكون هذا كلام النبي (ص) ؟! وهل يمكن أن يتكلم النبي بغير المعقول أو بغير المفهوم ؟!
  لقد تحير كبار علماء السنة ومفسروهم وما زالوا متحيرين الى يومنا هذا ... فلا هم يستطيعون أن يردوا نظرية الخليفة عمر ( الأحرف السبعة ) لأنها بتصورهم حديث نبوي رواه عمر ... ولا هم يستطيعون أن يقنعوا بها أحداً ، أو يقتنعوا بها هم !!

تدوين القرآن _ 101 _

  وسيظلون متحيرين الى آخر الدهر ، لسبب بسيط ... هو أنهم يبحثون عن معنى معقول لمقولة ليس لها معنى معقول !!
  من العلماء المتحيرين في هذا الموضوع الإمام ابن جزي المشهود له في التفسير وعلوم القرآن الذي نقل في تاريخ القرآن ص 87 قوله ( ولا زلت أستشكل هذا الحديث ـ أي حديث نزول القرآن على سبعة أحرف ـ وأفكر فيه وأمعن النظر من نحو نيف وثلاثين سنة حتى فتح الله علي بما يمكن أن يكون صواباً إن شاء الله تعالى ، وذلك أني تتبعت القراءات صحيحها وضعيفها وشاذها فإذا هي يرجع اختلافها الى سبعة أوجه ) !!
  فترى ابن جزي بعد تفكير أكثر من ثلاثين سنة غير مطمئن الى ما توصل إليه وإن سماه فتحاً علمياً ولذا عبر عنه بأنه ( يمكن أن يكون صواباً ) ومن حقه أن يشك في هذا الفتح ، لأن معناه أن نسخة القرآن نزلت من عند الله تعالى مفصلة على حسب قراءات سوف يولد أصحابها ! وسوف تكون اختلافاتهم في سبعة وجوه لا أكثر !! فكيف تعقل هذا العالم أن نسخة القرآن نزل بها جبرئل مفتوحة لاجتهادات القراء الذين سوف يأتون !! ثم اعتبر ذلك فتحاً علمياً ؟! بالله عليك هل تتعقل أن مؤلفاً يؤلف كتاباً بسبعة نصوص سوف تظهر على يد أشخاص بعد نشره ؟ !!
  قال السيوطي في الإتقان في علوم القرآن ج 1 ص 172 ( وقال ابن حجر : ذكر القرطبي عن ابن حبان ، أنه بلغ الإختلاف في الأحرف السبعة الى خمسة وثلاثين قولاً ، ولم يذكر القرطبي منها سوى خمسة ، ولم أقف على كلام ابن حبان في هذا ، بعد تتبعي مظانه .
  قلت : قد حكاه ابن النقيب في مقدمة تفسيره عنه بواسطة الشرف المزني المرسي ، فقال : قال ابن حبان اختلف أهل العلم في معنى الأحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولاً ) .
  وقال السيوطي في ص 176 ( قال ابن حبان : فهذه خمسة وثلاثون قولاً لأهل العلم واللغة في معنى إنزال القرآن على سبعة أحرف ، وهي أقاويل يشبه بعضها بعضاً وكلها محتملة وتحتمل غيرها ) انتهى .
  وهو اعتراف من ابن حبان بأن جميع هذه الأقوال لا تزيد عن كونها احتمالات استنسابية غير مقنعة !
  ثم نقل السيوطي تصريحاً مشابهاً لأحد علمائهم فقال ( وقال المرسي : هذه الوجوه أكثرها متداخلة ، ولا أدري مستندها ، ولا عمن نقلت ، ولا أدري لم خص كل واحد منهم هذه الأحرف السبعة بما ذكر ، مع أن كلها موجودة في القرآن فلا أدري معنى التخصيص ! وفيها أشياء لا أفهم معناها على الحقيقة، وأكثرها يعارضه حديث عمر مع هشام بن حكيم الذي في الصحيح ، فإنهما لم يختلفا في تفسيره ولا أحكامه ، إنما اختلفا في قراءة حروفه . وقد ظن كثير من العوام أن المراد بها القراءات السبع ، وهو جهل قبيح ) انتهى .
  هذه نماذج من أقوال هؤلاء العلماء الكبار ، وهي كافية للتدليل على أن النظرية برأيهم غير قابلة للفهم والتعقل ... فهل يجوز نسبتها والحال هذه الى الله تعالى ، وإلى رسوله (ص) ؟!
  سبب وضع الخليفة عمر لهذه النظرية ؟
  السبب ببساطة أن النبي (ص) كان في حياته يقرأ نص القرآن ويصححه لمن يقرؤه ، فكان مصدر نص القرآن واحداً مضبوطاً .
  أما بعد وفاته (ص) وأحداث السقيفة وبيعة أبي بكر ، فقد جاءهم علي (ع) بنسخة القرآن بخط يده حسب أمر النبي (ص) ، فرفضوا اعتمادها لأنه كان فيها تفسير كل الآيات أو كثير منها لمصلحة علي برأيهم ، فأخذها علي وقال لهم إن النبي (ص) أمرني أن أعرضها عليكم فإن قبلتموها فهو ، وإلا فإني أحفظها وأقرأ النسخة التي تعتمدونها ، حتى لا يكون في أيدي الناس نسختان للقرآن !

تدوين القرآن _ 102 _
  روى الكليني في الكافي ج 2 ص 633 : ( عن عبدالرحمن بن أبي هاشم ، عن سالم بن سلمة قال : قرأ رجل على أبي عبدالله (ع) وأنا أستمع حروفاً من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس ، فقال أبوعبد الله (ع) : كف عن هذه القراءة إقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم فإذا قام القائم (ع) قرأ كتاب الله عزو جل على حده وأخرج المصحف الذي كتبه علي (ع) وقال : أخرجه علي (ع) الى الناس حين فرغ منه وكتبه فقال لهم : هذا كتاب الله عزوجل كما أنزله الله على محمد (ص) وقد جمعته من اللوحين فقالوا : هو ذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن لا حاجة لنا فيه ، فقال أما والله ما ترونه بعد يومكم هذا أبداً ، إنما كان علي أن أخبركم حين جمعته لتقرؤوه ! ) وسوف نتعرض في جمع القرآن الى ما يؤيده من مصادر إخواننا .
  من ذلك اليوم ... ولدت أرضية التفاوت في النص القرآني ، وأخذ الخليفة والناس يقرؤون ولا مصحح لهم ، ولا مرجع يرجعون إليه في نص القرآن !!
  وما لبث أن انتشر التفاوت في قراءاتهم ، ثم تحول التفاوت الى اختلاف بين القراء في هذه الكلمة وتلك ، وهذه الآية وتلك ... فهذا يقرأ في صلاته أو يعلم المسلمين على نحو ، وذاك على نحو آخر ... وهذا يؤكد صحة قراءته وخطأ القراءة المخالفة ، وذاك بعكسه ... وهذا يتعصب لهذه القراءة وقارئها ، وهذا لذاك ... الى آخر المشكلة الكبيرة التي تهم كيان الدولة الإسلامية وتمس قرآنها المنزل !!
  هنا كان لا بد أن يتدخل الخليفة عمر لحل المشكلة ، وكان الأحرى به أن يختار نسخة من القرآن ويعتمدها ، وقد كانت موجودة عند عدد من الصحابة غير علي ... ومنهم من روى عمر نفسه أن النبي أمر بأخذ القرآن منهم ... أو يجمع نسخة ويعتمدها، ويحل المشكلة من أساسها كما فعل عثمان ... ولكن عمر لم يرد اعتماد نسخة معينة ، بل اختار حل المشكلة بالتسامح في نص القرآن ، والفتوى بصحة جميع القراءات المختلف عليها ، واستند بذلك الى حديث ادعاه على النبي (ص) ولم يدعه غيره ، بأن في القرآن سعة ، وأنه نزل على سبعة أحرف !!
  فالنظرية إذن ولدت على يد الخليفة عمر عندما واجه مشكلة ! وحيث لم يعالجها بنسخة علي ، أو عثمان أو زيد أو عمرو ... بل روى عن النبي حديث الأحرف السبعة لكي يثبت مشروعية التسامح في قراءة النص القرآني ... ولكنه بذلك سكن المشكلة تسكيناً آنياً ... وحير علماء الأمة أربعة عشر قرناً في تصور معنى معقول لهذا الحديث أو هذه النظرية !
  إن ابن جزي الذي اعترف بتحيره وبحثه أكثر من ثلاثين سنة عن معنى مفهوم لنظرية الخليفة ... ما هو إلا نموذج لحيرة خيرة أئمتهم وعلمائهم الذين عملوا المستحيل حتى يجدوا وجها معقولاً لنظرية الأحرف السبعة ، وما ازدادوا إلا حيرة وتخبطاً ... فكلما خرجوا من مطب وقعوا في آخر أكبر منه ... وليس ذلك بسبب ضعفهم العلمي، ولكن بسبب أنهم تبنوا نظرية عصمة الخليفة عمر ، فصاروا مجبورين أن يبحثوا عن وجه معقول لمقولة الأحرف السبعة التي قالها الخليفة ورواها عنه البخاري ... حتى لو كان البحث عن ذلك عقيماً ... وطال الى يوم القيامة !!

تدوين القرآن _ 103 _
  لقد حاول بعض عقلائهم أن يجد مخرجاً سليماً لهذه الورطة ويقنعهم بأن حديث ( نزل القرآن على سبعة أحرف ) يقصد معاني القرآن لا ألفاظه ، فالقرآن كَوْنٌ مثل هذا الكون ، ونظامه سباعي كالسماوات السبع ... ولكنهم ردوه بأن الأحاديث تصرح بأن الخليفة عمر قال إن المقصود بالأحرف السبعة الألفاظ لا المعاني ... وهكذا أقفلوا الباب على أنفسهم ... وعادوا في الورطة !!
  وستعرف أن رأي أهل البيت (ع) أن القرآن نزل من عند الواحد على حرف واحد ، وأن حديث نزوله على سبعة أحرف قصد به النبي(ص) معاني القرآن... ولكن الخليفة أصر على توظيفه لحل مشكلة الألفاظ وتفاوت القراءات!
  قال السيوطي في الإتقان في علوم القرآن ج 1 ص 168 ( قال الطحاوي : وإنما كان ذلك رخصة ( أي القراءة بسبعة أحرف ) لما كان يتعسر على كثير منهم التلاوة بلفظ واحد لعدم علمهم بالكتابة والضبط وإتقان الحفظ ، ثم نسخ بزوال العذر وتيسر الكتابة والحفظ ، وكذا قال ابن عبد البر والباقلاني وآخرون ، وفي فضائل أبي عبيد من طريق عون بن عبدالله أن ابن مسعود أقرأ رجلاً ( إن شجرة الزقوم ، طعام الأثيم ) فقال الرجل : طعام اليتيم ، فردها فلم يستقم بها لسانه ، فقال أتستطيع أن تقول طعام الفاجر ؟ قال نعم ، قال فافعل ) انتهى .
  وقد روى قصة طعام اليتيم في الدر المنثور ج 6 ص 33 عن ابن مردويه عن أبي بن كعب ، وعن أبي عبيد في فضائله وابن الأنباري وابن المنذر عن ابن مسعود ، وعن سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن همام بن الحارث عن أبي الدرداء ) انتهى .
  لكن ما هو دليل الباقلاني وابن عبد البر والطحاوي على أن السبعة أحرف كانت فقط لظرف خاص ثم نسخت ؟! فإن كانت حديثاً نبوياً صحيحاً كما زعموا ... وتوسعة من الله ورسوله على المسلمين في النص القرآني ... فما هو الحديث الذي نسخها ؟!
  وإن كانت استنساباً عمرياً فما هو المجوز للخليفة أن يفتي بالتوسع في نص كتاب الله تعالى بسبعة أشكال أو أكثر ... ثم يفتي هو أو غيره بالتضييق ووجوب القراءة بنص واحد ؟! على أن مقولة الباقلاني وجماعته بتيسر الكتابة في زمن عثمان وعدم تيسرها في عهد أبي بكر وعمر ، إلقاء للكلام على عواهنه من أجل تصحيح عمل الخليفة ... فأين مقولتهم بأن الخليفة أول من مدن الدولة ودون الدواوين ...؟ فقد كانت الكتابة ميسرة في عهده إذن ، بل في عهد النبي (ص) بل وقبله ، خاصة في المدن ... كما سيأتي ذلك في قصة جمع القرآن .
  كلا ... ليست المسألة صعوبة الكتابة في عهد الخليفة عمر ... بل المسألة أن الخليفة لا يريد أن يلتزم بنسخة محددة من القرآن ، ويريد إبقاء المجال مفتوحاً في جمع القرآن وقراءته ... لقد رخص عمر بقراءة القرآن الى سبعة أنواع وأكثر ! ثم نسخ الخليفة عثمان هذه الرخصة وأوجب أن يقرأ القرآن بالحرف الذي كتب عليه مصحفه ... ونحن نقبل من الطحاوي وزملائه القول بالحرف الواحد الموحد الذي عممه الخليفة عثمان على البلاد الإسلامية ، وذلك لأن علياً (ع) أقر هذا العمل ، ولأن الأدلة تشير الى أن نسخ مصاحفه عن مصحف علي (ع) ، ولكن نسألهم : أين صار حديث نزول القرآن على سبعة أحرف والذي قلتم إنه كلام النبي (ص) ، وقلتم إنه صحيح ومتواتر ... ؟!
  صار معناه أن القرآن نزل من عند الله تعالى على سبعة أحرف ، لكن الذي يجب أن يقرأ منها في زمن النبي (ص) حرف واحد كما يقرؤه النبي فقط ، ثم يصير في زمن أبي بكر وعمر سبعة أحرف ، ثم يرجع في زمن عثمان الى حرف واحد !! فتكون فائدة هذا النص في مدة حكم أبي بكر وعمر فقط ، ويكون مفصلاً لمعالجة مشكلة اضطراب القراءة في هذه الفترة كما ذكرنا !

تدوين القرآن _ 104 _
  فهل يمكن لباحث أن يغمض عينيه ويقبل حديثاً نسب الى النبي (ص) وليس له دور في الحياة الى يوم القيامة إلا أداء وظيفة خاصة من وجهة نظر خليفة معين ؟!
  ولكن حتى هذه الوظيفة التي أرادها عمر من نظرية الأحرف السبعة أحرف ... لم تستطع النهوض بها ! بدليل أن المشكلة بقيت وتفاقمت وصارت تنذر بالخطر في زمن عثمان فبادر الى حلها بما كان يجب أن يحلها به عمر !! بل تدل الروايات الصحيحة على أن الخليفة عمر لم يسمح لأحد أن يستفيد من الأحرف السبعة إلا هو !

أحاديث نظرية التوسع في نص القرآن
  ننقل روايات السبعة أحرف من رواية النسائي أولاً ، لأنه جمعها في مكان واحد ، بينما وزعها البخاري في بضعة أمكنة من أجزاء كتابه ... قال النسائي في صحيحه ج 2 ص 150 : ( عن ابن مخرمة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان فقرأ فيها حروفاً لم يكن نبى الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها ! قلت من أقرأك هذه السورة ؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت كذبت ، ما هكذا أقرأك رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فأخذت بيده أقوده الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقلت : يا رسول الله إنك أقرأتني سورة الفرقان وإني سمعت هذا يقرأ فيها حروفاً لم تكن أقرأتنيها ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إقرأ يا هشام فقرأ كما كان يقرأ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أنزلت ! ثم قال إقرأ يا عمر فقرأت ، فقال : هكذا أنزلت !! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ! ) .
  ثم رواه بروايتين أخريين وفيهما ( فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هكذا أنزلت ، ثم قال لي إقرأ فقرأت فقال : هكذا أنزلت ، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه ! ) .
  ثم روى ثلاث روايات عن أبي بن كعب ، قال ( ... عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار فأتاه جبريل (ع) فقال : إن الله عز وجل يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف ، قال : أسأل الله معافاته ومغفرته ، وإن أمتي لا تطيق ذلك ! ثم أتاه الثانية فقال إن الله عز وجل يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين ، قال : أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك ! ثم جاءه الثالثة فقال إن الله عزوجل يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال : أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتى لا تطيق ذلك ! ثم جاءه الرابعة فقال إن الله عز وجل يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف ، فأيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا !!
  ... عن أبي بن كعب قال أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة فبينا أنا في المسجد جالس إذ سمعت رجلاً يقرؤها يخالف قراءتي فقلت له من علمك هذه السورة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت لا تفارقني حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته فقلت يا رسول الله إن هذا خالف قراءتي في السورة التي علمتني ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إقرأ يا أبي فقرأتها فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحسنت ، ثم قال للرجل : إقرأ فقرأ فخالف قراءتي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحسنت ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبي إنه أنزل القرآن على سبعة أحرف كلهن شاف كاف !!

تدوين القرآن _ 105 _
  ... عن أبي قال ما حاك في صدري منذ أسلمت إلا أني قرأت آية وقرأها آخر غير قراءتي فقلت أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال الآخر أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا نبي الله أقرأتني آية كذا وكذا ، قال نعم ، وقال الآخر ألم تقرئني آية كذا وكذا ؟ قال نعم ، إن جبريل وميكائيل(ص) أتياني فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري فقال جبريل (ع) : إقرأ القرآن على حرف ، قال ميكائيل استزده استزده حتى بلغ سبعة أحرف ، فكل حرف شاف كاف ! ) انتهى .
  روى البخاري في صحيحه ج 6 ص 100 رواية عمر مع هشام تحت عنوان ( باب أنزل القرآن على سبعة أحرف ) ورواها أيضا في ج 6 ص 110 و في ج 3 ص 90 وفي ج8 ص 215 ورواها مسلم في ج 2 ص 201 بروايتين وأبو داود في سننه ج 1 ص 331 والترمذى في سننه ج4 ص263 والبيهقي في سننه ج2 ص 383 وأحمد في مسنده ج 1 ص 24 وص 39 وص 45 وص 264 وقال السيوطي في الإتقان ج 1 ص 163 ( المسألة الثالثة : في الأحرف السبعة التي نزل القرآن عليها .
  قلت : ورد حديث ( نزل القرآن على سبعة أحرف ) من رواية جمع من الصحابة : أبي بن كعب ، وأنس ، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن أرقم ، وسمرة بن جندب ، وسليمان بن صرد ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وعبدالرحمن ابن عوف ، وعثمان بن عفان ، وعمر بن الخطاب ، وعمر بن أبي سلمة ، وعمرو بن العاص ، ومعاذ بن جبل ، وهشام بن حكيم ، وأبي بكرة ، وأبي جهم وأبي سعيد الخدري ، وأبي طلحة الأنصاري ، وأبي هريرة ، وأبي أيوب .
  فهؤلاء أحد وعشرون صحابياً ، وقد نص أبو عبيد على تواتره ، وأخرج أبو يعلى في مسنده أن عثمان قال على المنبر : أذكر الله رجلاً ، سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف ، لما قام ، فقاموا حتى لم يحصوا ، فشهدوا بذلك ، فقال : وأنا أشهد معهم ) انتهى .
  ملاحظات على النظرية
  الإشكالات على حديث الأحرف السبعة كثيرة ، نجملها فيما يلي :
  أولاً : الظاهر أن أصل جميع أحاديث النظرية رواية واحدة أو اثنتان رواهما الخليفة عمر ، وإن اعتبرها بعضهم أحاديث عديدة وصل فيها الى حد التواتر ... ويكفي تدليلاً على ذلك أن حديث ابن كعب تكملة لحديث عمر أو هو نفسه ... وأن أكثر الصحابة رووه عن عمر ، ولم يرووه عن النبي مباشرة ! بل حتى على فرض تعدد الحديث ورواته الذين رووه عن النبي (ص) مباشرة عن غير طريق عمر ، فإن مخالفة أي حديث للقرآن والعقل توجب التوقف في أمره .
  ثانياً : إن أسلوب النقاشات المروية فيه بين النبي (ص) وبين جبرئيل وميكائيل وبقية الملائكة ، نسخة طبق الأصل عما يرويه اليهود من نقاشات موسى مع ربه ! وأكثرها ( اتزاناً ) لا يمكن قبول مضمونه ، وهو ما رواه الترمذي في سننه ج 4 ص 263 تحت عنوان ( باب ماجاء أن القرآن أنزل على سبعة أحرف ... عن أبي بن كعب قال : لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرئيل فقال : يا جبرئيل إني بعثت الى أمة أميين منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتأبا قط ، قال : يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ! ) انتهى .
  ثالثاً : إن التوسعة على الناس والتسامح في نص القرآن مسألة كبيرة وخطيرة ، فكيف لم تكن معروفة في زمن النبي (ص) ، ثم عرفت على يد عمر عندما وجدت مشكلة تفاوت القراءات ؟!
  رابعاً : روى الخليفة عمر وغيره أن النبي (ص) أمرالمسلمين أن يأخذوا القرآن من أحد أربعة ( أبي بن كعب ، وعبدالله بن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، وسالم مولى حذيفة ) كما سيأتي في قصة جمع القرآن ... وقراءة القرآن على حرف أو سبعة أو عشرين من صلب مسائل أخذه ... فكان الواجب على الخليفة أن يرجع الى هؤلاء الأربعة ويقبل القرآن بقراءتهم ... ولكنه رفع شعار هذا الحديث ولم يرجع اليهم لا في أصل تلقي القرآن ولا في حروفه ! بل كانت معاملته لهم سلبية شديدة كما سنرى !

تدوين القرآن _ 106 _
  خامساً : إذا صحت نظرية عمر في الأحرف السبعة ، وأن الله تعالى قد وسع على المسلمين في قراءة نص كتابه ، فلماذا حرم الله نبيه من هذه النعمة وألزمه بحفظ القرآن حرفياً بدقة وتشدد معه في ذلك ، وكان ينزل عليه كبير ملائكته كل عام مرة ليضبط عليه نص القرآن ، وفي سنة وفاته ضبطه عليه مرتين ليتأكد من دقة ضبط النبي لنص القرآن ؟!!
  ألايكون ذلك شبيهاً بقانون يصدره رئيس ويتشدد مع وزيره في ضبط نصه وطباعته ، ولكنه بعد نشره للتطبيق يجيز للناس أن يتسامحوا في نصه وأن يقرؤوه بعدة نصوص ؟!!
  سادساً : هشام بن حكيم بن حزام الذي يروي عمر أن القصة حدثت معه ، أحد الطلقاء الذين يسمونهم مسلمة الفتح ... مما يعني أن زمن القصة هو السنة الأخيرة من حياة النبي (ص) ... ويعني أن النبي (ص) كان كل هذه المدة يقرأ نص القرآن بصيغة واحدة ولم يقل لجبرئيل شيئاً ، ولم يقل له جبريل شيئاً ! الى أن اكتشف النبي المشكلة في أواخر حياته فشكا ذلك الى جبرئيل فلم يراجع جبرئيل ربه ، وكان الجواب عنده حاضراً !!
  سابعاً : كان سلوك عمر ضد نظريته ... فكان يتدخل في القراءات ويحاسب عليها ، ويرفض منها ويقبل ، ويأمر بمحو هذا وإثبات ذاك ، كما رأيت في نماذج من قراءاته وكما ترى من سلوكه مع القراء ... وقد ( هجم ) بيت عبدالله بن مسعود عندما بلغه أنه قرأ آية بلغة هذيل كما سترى !
  وبهذا نعرف أن مقصوده بالحروف السبعة التوسعة على نفسه فقط ، ليختار الحرف الذي يريده ويلزم به المسلمين ، ويرفض الحرف الذي لا يريده وينهى عنه المسلمين ... ويجمع ذلك في مصحفه عند حفصة حتى يستكمل اجتهاداته في كتاب الله تعالى ... فيخرجه الى المسلمين ويلزمهم به ... ولكن الأجل أدركه قبل ذلك ...!
  على أي حال لم يكن لأحد من المسلمين حق أن يستفيد من هذه التوسعة المزعومة إلا الخليفة عمر فقط ، وكان نصيب من يستفيد منها من المسلمين ... التعرض لسوط الخليفة !!
  الفتاوى الفقهية بالتوسع في نص القرآن !
  لقد حفظ الله تعالى كتابه من نظرية الخليفة في التوسع في نصه ، ولم تؤثر إلا التشويش على النص القرآني في عهده ، ولكن بقيت آثارها وأثمرت في فقه مذاهب إخواننا السنة فأفتى فقهاؤهم بجواز التغيير في نص القرآن ، وفي نص التشهد في الصلاة لأنه أخف من نص القرآن !
  قال الشافعي في اختلاف الحديث ص 489 وفي كتاب الأم ج 1 ص 142 : ( وقد اختلف بعض أصحاب النبي في بعض لفظ القرآن عند رسول الله ولم يختلفوا في معناه فأقرهم وقال : هكذا أنزل إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه ، فما سوى القرآن من الذكر أولى أن يتسع ، هذا فيه إذا لم يختلف المعنى ! قال : وليس لأحد أن يعمد أن يكف عن قراءة حرف من القرآن إلا بنسيان ، وهذا في التشهد وفي جميع الذكر أخف !! ) .
  وقال البيهقي في سننه ج 2 ص 145 ، في الاستدلال على أن التشهد في الصلاة لا يجب أن يكون بصيغة واحدة : ( قال الشافعي رحمه الله فإذا كان الله برأفته بخلقه أنزل كتابه على سبعة أحرف معرفة منه بأن الحفظ قد نزر ليجعل لهم قراءته وإن اختلف لفظهم فيه ، كان ما سوى كتاب الله أولى أن يجوز فيه اختلاف اللفظ ما لم يخل معناه ! ) وقال ابن قدامة في المغني ج 1 ص 575 : ( فصل ، وبأي تشهد تشهد مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم جاز ، نص عليه أحمد فقال : تشهد عبد الله أعجب إلي ، وإن تشهد بغيره فهو جائز ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما علمه الصحابة مختلفاً دل على جواز الجميع كالقراءات المختلفة التي اشتمل عليها المصحف ... وقال ابن حامد رأيت بعض أصحابنا يقول لو ترك واواً أو حرفاً أعاد الصلاة لقول الأسود : فكنا نتحفظه عن عبدالله كما نتحفظ حروف القرآن ، والأول أصح لما ذكرنا ، وقول الأسود يدل على أن الأولى والأحسن الإتيان بلفظه وحروفه ، وهو الذي ذكرنا أنه المختار ، وعلى أن عبد الله كان يرخص في إبدال لفظات من القرآن فالتشهد أولى ! فقد روي عنه أن إنساناً كان يقرأ عليه إن شجرة الزقوم طعام الأثيم ، فيقول طعام اليتيم ، فقال له عبدالله : قل طعام الفاجر ، فأما ما اجتمعت عليه التشهدات كلها فيتعين الإتيان به ، وهذا مذهب الشافعي ) .

تدوين القرآن _ 107 _
  وقال ابن حزم في المحلى ج 3 ص 253 : ( والحق من هذا أن النص قد صح بوجوب قراءة أم القرآن فرضاً ، ولا يختلف اثنان من أهل الاسلام في أن هذه القراءات حق كلها مقطوع به مبلغة كلها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل (ع) عن الله عز وجل بنقل الملوان فقد وجب ، إذ كلها حق أن يفعل الإنسان في قراءته أي ذلك شاء ! ) انتهى .
  وهكذا ذهب إخواننا فقهاء المذاهب الى أن القراء كلهم على حق ولا ذنب لهم ، لأن النبي (ص) أقرأهم متفاوتاً أو أمضى قراءاتهم المتفاوتة ، والنبي أيضاً لا ذنب له ، لأن جبرئيل أبلغه القرآن متفاوتاً ... وجبرئيل أيضاً لا ذنب له لأن الله تعالى أعطاه القرآن متفاوتاً ... تعالى الله عن ذلك ، وتنزه رسله !!
  وسترى في البحث التالي أن نظرية التسامح في نص القرآن لم تقف عند حد التفاوت في بعض الحروف والكلمات في الآيات ، بل أخذت مجراها ونموها السرطاني حتى وصلت الى نظرية تعويم نص القرآن وجواز قراءته بالمعنى بدون التقيد بألفاظه !!
  ولكن مع خطورة هذه الفتاوي وهذه النظريات ... فإن ضررها والحمد لله بقي محصوراً تقريباً في مصادر إخواننا السنة ، خاصة في تفاسيرهم ، ولم يؤثر تأثيراً كبيراً على القرآن في حياتهم وسلوكهم ... والسبب في ذلك هو فقط تكفل الله تعالى بحفظ كتابه : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون !!
  رأي أهل البيت (ع) وعلماء الشيعة روى الكليني في الكافي ج 2 ص 630 ( ... عن زرارة عن أبي جعفر (ع) قال : إن القرآن واحد نزل من عند واحد ، ولكن الاختلاف يجئ من قبل الرواة .
  ... عن الفضيل بن يسار قال : قلت لأبي عبدالله (ع) : إن الناس يقولون : إن القرآن نزل على سبعة أحرف ، فقال : كذبوا أعداء الله ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد ! ) انتهى ، ويدل قوله (ع) ( كذبوا أعداء الله ) على أنه كان يوجد جماعة يريدون تمييع نص القرآن بهذه المقولة !
  وروى المجلسي في بحار الأنوار ج 90 ص 3 حديثاً مطولاً جاء فيه ( عن إسماعيل بن جابر قال سمعت أبا عبدالله جعفر بن محمد الصادق (ع) يقول : إن الله تبارك وتعالى بعث محمداً فختم به الأنبياء فلا نبي بعده ، وأنزل عليه كتاباً فختم به الكتب فلا كتاب بعده ، أحل فيه حلالاً وحرم حراماً ، فحلاله حلال الى يوم القيامة وحرامه حرام الى يوم القيامة ، فيه شرعكم وخبر من قبلكم وبعدكم ، وجعله النبي (ص) علماً باقياً في أوصيائه ، فتركهم الناس وهم الشهداء على أهل كل زمان ، فعدلوا عنهم ثم قتلوهم واتبعوا غيرهم ... ضربوا بعض القرآن ببعض ، واحتجوا بالمنسوخ ، وهم يظنون أنه الناسخ ، واحتجوا بالمتشابه وهم يرون أنه المحكم ، واحتجوا بالخاص وهم يقدرون أنه العام ، واحتجوا بأول الآية وتركوا السبب في تأويلها ، ولم ينظروا الى ما يفتح الكلام وإلى ما يختمه ، ولم يعرفوا موارده ومصادره ، إذ لم يأخذوه عن أهله ... ولقد سأل أمير المؤمنين صلوات الله عليه شيعتُه عن مثل هذا فقال : إن الله تبارك وتعالى أنزل القرآن على سبعة أقسام كل منها شاف كاف ، وهي أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل ومثل وقصص ، وفي القرآن ناسخ ومنسوخ ، ومحكم ومتشابه ، وخاص وعام ، ومقدم ومؤخر ، وعزائم ورخص ، وحلال وحرام ، وفرائض وأحكام ، ومنقطع ومعطوف ، ومنقطع غير معطوف ، وحرف مكان حرف ، ومنه ما لفظه خاص ، ومنه ما لفظه عام محتمل العموم ، ومنه مالفظه واحد ومعناه جمع ، ومنه ما لفظه جمع ومعناه واحد ، ومنه ما لفظه ماض ومعناه مستقبل ، ومنه ما لفظه على الخبر ومعناه حكاية عن قوم أخر ، ومنه ماهو باق محرف عن جهته ، ومنه ما هو على خلاف تنزيله ، ومنه ماتأويله في تنزيله ، ومنه ما تأويله قبل تنزيله ، ومنه ماتأويله بعد تنزيله .
  ومنه آيات بعضها في سورة وتمامها في سورة أخرى ، ومنه آيات نصفها منسوخ ونصفها متروك على حاله ، ومنه آيات مختلفة اللفظ متفقة المعنى ، ومنه آيات متفقه اللفظ مختلفة المعنى ، ومنه آيات فيها رخصة وإطلاق بعد العزيمة ... ) انتهى .

تدوين القرآن _ 108 _
  وينبغي الإلتفات الى أن الإمام علي (ع) استعمل كلمة ( أقسام ) وترك استعمال كلمة ( أحرف أو حروف ) حتى لا يفسرها أحد بألفاظ القرآن كما فسروا السبعة أحرف في الحديث المروي عن النبي (ص) !!
  وقال الشيخ الطوسي في تفسير التبيان ج 1 ص 7 ( ... وروى المخالفون لنا عن النبي (ص) أنه قال : نزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف ، وفي بعضها : على سبعة أبواب ، وكثرت في ذلك رواياتهم ، ولا معنى للتشاغل بإيرادها ، واختلفوا في تأويل الخبر ، فاختار قوم أن معناه على سبعة معان : أمر ، ونهى ، ووعد ، ووعيد ، وجدل ، وقصص ، وأمثال ، وروى ابن مسعود عن النبي أنه قال : نزل القرآن على سبعة أحرف : زجر ، وأمر ، وحلال ، وحرام ، ومحكم ، ومتشابه ، وأمثال ... وقال آخرون : أي سبع لغات مختلفة ، مما لا يغير حكماً في تحليل وتحريم ... وكانوا مخيرين في أول الاسلام في أن يقرؤوا بما شاؤوا منها ، ثم أجمعوا على حدها ، فصار ما أجمعوا عليه مانعاً مما أعرضوا عنه ، وقال آخرون نزل على سبع غات ... الخ ) انتهى .
  وقال الشهيد الثاني في مسالك الأفهام ج 1 ص 429 ( ووجه تسمية القراءة بالحرف ما روي أن النبي (ص) قال نزل القرآن على سبعة أحرف ، وفسرها بعضهم بالقراءات وليس بجيد ، لأن القراءة المتواترة لا تنحصر في السبعة بل ولا في العشرة كما حقق في موضعه ، وإنما اقتصروا على السبعة تبعاً لابن مجاهد حيث اقتصر عليها تبركاً بالحديث .
  وفي أخبارنا أن السبعة أحرف ليست هي القراءة بل هي أنواع التركيب من الأمر والنهي والقصص وغيرها ) انتهى .
  وقال المحقق البحراني في الحدائق الناضرة ج 8 ص 99 ( ثم اعلم أن العامة قد رووا في أخبارهم أن القرآن قد نزل على سبعة أحرف كلهاشاف واف ، وادعوا تواتر ذلك عنه (ص) ، واختلفوا في معناه الى ما يبلغ أربعين قولاً ، أشهرها الحمل على القراءات السبع ، وقد روى الصدوق (ره) في كتاب الخصال بإسناده اليهم (ع) ، قال قال رسول الله (ص) أتاني آت من الله عز وجل يقول إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد ، فقلت يارب وسع على أمتي فقال إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف ، وفي هذا الحديث ما يوافق أخبار العامة المذكورة ، مع أنه (ع) قد نفى ذلك في الأحاديث المتقدمة وكذبهم في ما زعموه من التعدد ، فهذا الخبر بظاهره مناف لما دلت عليه تلك الأخبار والحمل على التقية أقرب فيه ) انتهى .
  وروى المجلسي في بحار الأنوار ج 82 ص 65 عن النبي (ص) أنه قال ( أتاني آت من الله ، فقال إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد ، فقلت : يا رب وسع على أمتي ، فقال إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف ) ثم قال : بيان ، الخبر ضعيف ومخالف للأخبار الكثيرة كما سيأتي ، وحملوه على القراءات السبعة ، ولا يخفى بعده لحدوثها بعده (ص) ، وسنشبع القول في ذلك في كتاب القرآن إن شاء الله ، ولاريب في أنه يجوز لنا الآن أن نقرأ موافقاً لقراءاتهم المشهورة ) انتهى.

تدوين القرآن _ 109 _
  وقال المحقق الهمداني في مصباح الفقيه ج 2 ص 274 ( والحق أنه لم يتحقق أن النبي (ص) قرأ شيئاً من القرآن بكيفيات مختلفة ، بل ثبت خلافه فيما كان الاختلاف في المادة أو الصورة النوعية التي يؤثر تغييرها في انقلاب ماهية الكلام عرفاً ، كما في ضم التاء من أنعمت ، ضرورة أن القرآن واحد نزل من عند الواحد كما نطقت به الأخبار المعتبرة المروية عن أهل بيت الوحي والتنزيل ، مثل ما رواه ثقة الإسلام الكليني بإسناده عن أبي جعفر (ع) قال : إن القرآن واحد من عند الواحد ولكن الإختلاف يجئ من قبل الرواة ! وعن الفضيل بن يسار في الصحيح قال قلت لأبي عبدالله (ع) : إن الناس يقولون نزل القرآن على سبعة أحرف ، فقال كذبوا أعداء الله ، ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد ، ولعل المراد بتكذيبهم تكذيبهم بالنظر الى ما أرادوه من هذا القول مما يوجب تعدد القرآن ، وإلا فالظاهر كون هذه العبارة صادرة عن النبي (ص) بل قد يدعى تواتره ، ولكنهم حرفوها عن موضعها وفسروها بآرائهم ، مع أن في بعض رواياتهم إشارة الى أن المراد بالأحرف أقسامه ومقاصده ، فإنهم على ما حكي عنهم رووا عنه (ص) أنه قال نزل القرآن على سبعة أحرف : أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل وقصص ومثل . ويؤيده ما روى من طرقنا عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال : إن الله تبارك وتعالى أنزل القرآن على سبعة أقسام كل قسم منها كاف شاف ، وهي أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل ومثل وقصص .
  ... فظهر مما ذكرنا أن الاستشهاد بالخبر المزبور لصحة القراءات السبع وتواترها عن النبي (ص) في غير محله ، وكفاك شاهداً لذلك ما قيل من أنه نقل اختلافهم في معناه الى ما يقرب من أربعين قولاً ! ، والحاصل : أن دعوى تواتر جميع القراءات السبعة أو العشرة بجميع خصوصياتها عن النبي (ص) تتضمن مفاسد ومناقضات لا يمكن توجيهها ، وقد تصدى جملة من القدماء والمتأخرين لإيضاح ما فيها من المفاسد بما لا يهمنا الإطالة في إيراده ) انتهى .
  وقال السيد الخوئي في مستند العروة ج 14 ص 474 ( ... هذا وحيث قد جرت القراءة الخارجية على طبق هذه القراءات السبع لكونها معروفة مشهورة ظن بعض الجهلاء أنها المعني بقوله (ص) على ما روي عنه ، إن القرآن نزل على سبعة أحرف ، وهذا كما ترى غلط فاحش ، فإن أصل الرواية لم تثبت ، وإنما رويت من طريق العامة ، بل هي منحوله مجعولة كما نص الصادق (ع) على تكذيبها بقوله : كذبوا أعداء الله نزل على حرف واحد ... ) انتهى .
  وقال السيد الخوئي في البيان في تفسير القرآن ص 180 بعد إيراد روايات السبعة أحرف ( وعلى هذا فلا بد من طرح الروايات ، لأن الإلتزام بمفادها غير ممكن .
  والدليل على ذلك :
  أولاً : أن هذا إنما يتم في بعض معاني القرآن ، التي يمكن أن يعبر عنها بألفاظ سبعة متقاربة ...
  ثانياً : إن كان المراد من هذا الوجه أن النبي (ص) قد جوز تبديل كلمات القرآن الموجودة بكلمات أخرى تقاربها في المعنى ، ويشهد لهذا بعض الروايات المتقدمة ، فهذا الاحتمال يوجب هدم أساس القرآن ، المعجزة الأبدية ، والحجة على جميع البشر ... وقد قال الله تعالى : قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي ، وإذا لم يكن للنبي أن يبدل القرآن من تلقاء نفسه ، فكيف يجوز ذلك لغيره ؟ وإن رسول الله (ص) علم البراء بن عازب دعاء كان فيه ونبيك الذي أرسلت فقرأ براء : ورسولك الذي أرسلت ، فأمره (ص) أن لا يضع الرسول موضع النبي ، فإذا كان هذا في الدعاء ، فماذا يكون الشأن في القرآن ؟ ...
  ثالثاً : أنه صرحت الروايات المتقدمة بأن الحكمة في نزول القرآن على سبعة أحرف هي التوسعة على الأمة ، لأنهم لا يستطيعون القراءة على حرف واحد ، وأن هذا هو الذي دعا النبي الى الإستزادة الى سبعة أحرف ، وقد رأينا أن اختلاف القراءات أوجب أن يكفر بعض المسلمين بعضاً حتى حصر عثمان القراءة بحرف واحد وأمر بإحراق بقية المصاحف .
  ويستنتج من ذلك ... أن الاختلاف في القراءة كان نقمةً على الأمة وقد ظهر ذلك في عصر عثمان ، فكيف يصح أن يطلب النبي (ص) من الله ما فيه فساد الأمة ، وكيف يصح على الله أن يجيبه الى ذلك ؟ وقد ورد في كثير من الروايات النهي عن الإختلاف ، وأن فيه هلاك الأمة ، وفي بعضها أن النبي (ص) تغير وجهه واحمر حين ذكر له الاختلاف في القراءة ...

تدوين القرآن _ 110 _
  وحاصل ما قدمناه : أن نزول القرآن على سبعة أحرف لا يرجع الى معنى صحيح ، فلا بد من طرح الروايات الدالة عليه ، ولا سيما بعد أن دلت أحاديث الصادقين (ع) على تكذيبها وأن القرآن إنما نزل على حرف واحد ، وأن الاختلاف قد جاء من قبل الرواة ) انتهى .
  وقال في ص 160 عن القراءات السبع ( ... والأولى أن نذكر كلام الجزائري في هذا الموضع ، قال : لم تكن القراءات السبع متميزة عن غيرها حتى قام الإمام أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد ـ وكان على رأس الثلاثمائة ببغداد ـ فجمع قراءات سبعة من مشهوري أئمة الحرمين و العراقين والشام ، وهم : نافع ، وعبد الله ابن كثير ، وأبو عمرو بن العلاء ، وعبدالله بن عامر ، وعاصم وحمزة ، وعلي الكسائي ، وقد توهم بعض الناس أن القراءات السبعة هي الأحرف السبعة ، وليس الأمر كذلك ... وقد لام كثير من العلماء ابن مجاهد على اختياره عدد السبعة ، لما فيه من الايهام ... قال أحمد ابن عمار المهدوي : لقد فعل مسبِّع هذه السبعة ما لا ينبغي له ، وأشكل الأمر على العامة بإيهامه كل من قل نظره أن هذه القراءات هي المذكورة في الخبر ، وليته إذ اقتصر نقص عن السبعة أو زاد ليزيل الشبهة ... قال أبو شامة : ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث ، وهوخلاف إجماع أهل العلم قاطبة ، و إنما يظن ذلك بعض أهل الجهل ... ) انتهى .
  وقال في ص 167 ( ذهب الجمهور من علماء الفريقين الى جواز القراءة بكل واحدة من القراءات السبع في الصلاة ، بل ادعي على ذلك الإجماع في كلمات غير واحد منهم وجوز بعضهم القراءة بكل واحدة من العشر ، وقال بعضهم بجواز القراءة بكل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً وصح سندها ، ولم يحصرها في عدد معين ، والحق أن الذي تقتضيه القاعدة الأولية ، هو عدم جواز القراءة في الصلاة بكل قراءة لم تثبت القراءة بها من النبي الأكرم (ص) أو من أحد أوصيائه المعصومين (ع) ، لأن الواجب في الصلاة هو قراءة القرآن فلا يكفي قراءة شئ لم يحرز كونه قرآناً ، وقد استقل العقل بوجوب إحراز الفراغ اليقيني بعد العلم باشتغال الذمة ... وأما بالنظر الى ماثبت قطعياً من تقرير المعصومين (ع) شيعتهم على القراءة ، بأية واحدة من القراءات المعروفة في زمانهم ، فلا شك في كفاية كل واحدة منها ، فقد كانت هذه القراءات معروفة في زمانهم ، ولم يرد عنهم أنهم ردعوا عن بعضها ، ولو ثبت الردع لوصل إلينا بالتواتر ، ولا أقل من نقله بالآحاد ، بل ورد عنهم (ع) إمضاء هذه القراءات بقولهم : إقرؤوا كما يقرأ الناس ، إقرؤا كما علمتم ، وعلى ذلك فلا معنى لتخصيص الجواز بالقراءات السبع أو العشر ، نعم يعتبر في الجواز أن لا تكون القراءة شاذة ... وصفوة القول : أنه تجوز القراءة في الصلاة بكل قراءة كانت متعارفة في زمان أهل البيت (ع) ) انتهى .
  ونلفت هنا الى نكتة نحوية في الرواية عن الإمام الصادق (ع) ( كذبوا أعداء الله ) فقد ورد في كثير من الأحاديث والنصوص الفصيحة الجمع بين فاعلين مضمر وظاهر ، مما يجعلنا نطمئن الى أنه أسلوب عربي في التأكيد على الفاعل لغرض من الأغراض ، وكذلك تمييز أحد المعطوفات بإعراب آخر لتأكيده كما ورد في القرآن ، وأن هذه القواعد قد فات النحاة استقراؤها من لغة العرب ، كما فاتهم إضافة ( بقي ) الى أخوات كان مع أنه لا فرق بينها وبينها .

الروايات السنية الموافقة لرأي أهل البيت
  لا أدري لماذا أعرض علماء إخواننا السنة عن هذه الأحاديث مع أن فيها الصحيح ، وأقل ما يقال فيها أنها تصلح لمعارضة الأحاديث التي تفسر السبعة أحرف بالألفاظ ، وقواعدهم عند تعارض الأحاديث الصحيحة مثل قواعدنا ... فعندما يتعارض الحديثان أو المجموعتان من الأحاديث ولا يمكن الجمع بينها ، فإذا وجد مرجح لبعضها رجحناه ، وإلا فإنها جميعاً تتساقط ونتوقف عن الأخذ بأي منها ... وبما أن الجمع بين هاتين المجموعتين غير ممكن ، فكيف صح لهم أن يرجحوا الأحاديث التي تفسر الأحرف السبعة بالألفاظ على الأحاديث التي تفسرها بالمعاني ؟! مع أن أكبر مرجح للأحاديث التي تفسرها بالمعاني أنها تسد ذريعة التوسع في نص القرآن ، وأنها مضافاً الى صحة أسنادها ذات معنى مفهوم معقول ... بعكس الأخرى ...

تدوين القرآن _ 111 _
  روى الحاكم في مستدركه ج 1 ص553 وفي ج 2 ص 289 ( ... عن ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله (ص) قال نزل الكتاب الأول من باب واحد على حرف واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف : زاجراً وآمراً وحلالاً وحراماً ومحكماً ومتشابهاً وأمثالاً ، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه ، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا .
  هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ) ورواه السيوطي في الدر المنثور ج 2 ص 6 عن ابن جرير والحاكم وصححه وأبو نصر السجزي في الابانة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ... وعن الطبراني عن عمر بن أبي سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن مسعود ... إلخ ، وعن ابن الضريس وابن جرير وابن المنذر عن ابن مسعود ... إلخ ، وعن البيهقي في شعب الايمان عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعربوا القرآن واتبعوا غرائبه وغرائبه فرائضه وحدوده ، فإن القرآن نزل على خمسة أوجه حلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال ، فاعملوا بالحلال واجتنبوا الحرام واتبعوا المحكم وآمنوا بالمتشابه واعتبروا بالأمثال ) انتهى .
  وقال السيوطي في الإتقان ص 170 وهو يعدد الأربعين وجهاً التي توصل اليها علماء السنة في تفسير الأحرف السبعة : ( الحادي عشر : أن المراد سبعة أصناف ، والأحاديث السابقة ترده ، والقائلون به اختلفوا في تعيين السبعة فقيل : أمر ونهي وحلال وحرام ومحكم و متشابه وأمثال ، واحتجوا بما أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال ( كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف : زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه ، وأمثال ... ) انتهى ، وقصده بالأحاديث السابقة التي ترد هذا الوجه : أحاديث الخليفة عمر التي تنص على أن السبعة أحرف تقصد ألفاظ القرآن لا معانيه ! وبهذا يكون السيوطي وقف الى صف الذين أقفلوا باب الحل المعقول لورطة الأحرف السبعة !
  وقال في ص 172 ( السادس عشر : إن المراد بها سبعة علوم : علم الإنشاد والإيجاد ، وعلم التوحيد والتنزيه ، وعلم صفات الذات ، وعلم صفات الفعل ، وعلم العفو والعذاب ، وعلم الحشر والحساب ، وعلم النبوات ) انتهى ، ولا بد أنه يرد هذا الوجه أيضاً ، لأن حديث الخليفة ينص على أن المقصود بالسبعة الألفاظ لا المعاني !
  وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ج 7 ص 152 ( وعن عبد الله يعني ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل آية منها ظهر وبطن ... الخ ، رواه البزار وأبو يعلى في الكبير وفي رواية عنده لكل حرف منها بطن وظهر ، والطبراني في الأوسط باختصار آخره ورجال أحدهما ثقات ، ورواية البزار عنه محمد بن عجلان عن أبي إسحق قال في آخرها لم يرو محمد بن عجلان عن إبراهيم الهجرى غير هذا الحديث ، قلت ومحمد بن عجلان إنما روى عن أبي إسحق السبيعي فإن كان هو أبو إسحق السبيعي فرجال البزار أيضاً ثقات ) انتهى .
  2 ـ أخطر فتاوى الخليفة عمر : فتواه بتعويم نص القرآن !
  ماذا يقول علماء إخواننا السنة في الفتوى التالية : ( لا يجب على المسلمين أن يتقيدوا في قراءة القرآن بنصه ! لا في صلاتهم ولا في غيرها ، بل يجوز أن يقرؤوه بالمعنى ، أو بما يقرب من المعنى ، بأي ألفاظ شاؤوا ! والشرط الوحيد أن لايبدلوا المعنى بحيث ينقلب رأساً على عقب وتصير آية الرحمة آية عذاب وآية العذاب آية رحمة ! فإذا قرؤوا بهذا الشرط فقراءتهم صحيحة شرعاً ! وقراءتهم شرعاً قرآن أنزله الله تعالى ! لأن الله رخص أن يقرأ الناس كتابه بأي لفظ بهذا الشرط !! ) .

تدوين القرآن _ 112 _
  لابد أن هذه الفتوى ستغيضهم وتثير غيرتهم على القرآن ، ويصبون بحر غضبهم على صاحبها أياً كان ... وقد يقولون إنه رافضي كافر !!
  لكن إذا كان صاحبها الخليفة عمر فسوف يختلف الحال ، وسوف يتحمس علماؤهم الغيارى لتفسير نظرية الخليفة ، ويكثرون من ذكر الأقوال والوجوه والاحتمالات فيها ، ويفكر بعضهم نيفاً وثلاثين سنة حتى يفتح الله عليه بالعثور على وجه جديد معقول ! بينما يسكت بعضهم ... طالباً من الله الستر والسلامة له وللخليفة !!
  روى أحمد في مسنده ج 4 ص 30 عن ( إسحق بن عبدالله بن أبي طلحة عن أبيه عن جده قال قرأ رجل عند عمر فَغَيَّر عليه فقال : قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يغير علي ! قال فاجتمعنا عند النبي صلى الله عليه وسلم قال فقرأ الرجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : قد أحسنت ! قال فكأن عمر وجد من ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا عمر إن القرآن كله صواب ، ما لم يجعل عذاب مغفرة أو مغفرة عذاباً !! ) .
  وروى في ج 5 ص 41 ( عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أتاني جبريل وميكائيل فقال جبريل إقرأ القرآن على حرف واحد ، فقال ميكائيل استزده ، قال إقرأه على سبعة أحرف كلها شاف كاف ، مالم تختم آية رحمة بعذاب أو آية عذاب برحمة !! ) .
  ورواه أيضاً في ج 5 ص 51 وأضاف في آخره ( ... نحو قولك تعال وأقبل وهلم واذهب وأسرع وأعجل ) .
  وروى في ج 5 ص 124 ( ... عن أبي بن كعب قال قرأت آية وقرأ ابن مسعود خلافها فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : ألم تقرئني آية كذا وكذا ؟ قال بلى .
  فقال ابن مسعود ألم تقرئنيها كذا وكذا ؟ فقال بلى ! كلاكما محسن مجمل !
  قال فقلت له ... فضرب صدري فقال : يا أبي بن كعب إني أقرئت القرآن فقيل لي على حرف أو على حرفين ؟ قال فقال الملك الذي معي : على حرفين فقلت على حرفين ؟! فقال على حرفين أو ثلاثة ، فقال الملك الذي معي على ثلاثة ؟ فقلت على ثلاثة حتى بلغ سبعة أحرف ليس منها إلا شاف كاف ، إن قلت غفوراً رحيماً أو قلت سميعاً عليماً أو عليماً سميعاً فالله كذلك ، مالم تختم آية عذاب برحمة أوآية رحمة بعذاب !! ) .
  وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ج 7 ص 150 عن رواية أحمد الأولى ( رواه أحمد ورجاله ثقات ) ثم قال الهيثمي ( وعن أبي بكرة أن جبريل(ع) قال يا محمد إقرا القرآن على حرف ، قال ميكائيل استزده فاستزدته قال إقرأ على حرفين ، قال ميكائيل استزده فاستزدته قال إقرأ على ثلاثة أحرف ، قال ميكائيل استزده حتى بلغ سبعة أحرف ، قال كل شاف كاف مالم يختم آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب ، نحو قولك تعال وأقبل وهلم واذهب وأسرع واعجل ، رواه أحمد والطبراني بنحوه إلا أنه قال واذهب وأدبر ، وفيه علي بن زيد بن جدعان وهو سئ الحفظ وقد توبع ، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح ) انتهى .
  وروى البخاري في التاريخ الكبير ج 1 ص 382 ( حدثنا موسى بن اسمعيل قال حدثنا حرب بن ثابت المنقر ، قال حدثني إسحاق الأنصاري عن أبيه عن جده ، وكانت له صحبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : القرآن كله صواب ، وقال عبدالصمد : حدثنا حرب أبوثابت سمع إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ مثله ) وقال في أسد الغابة ج 5 ص 156 ( أبوجارية الأنصاري ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : القرآن كله صواب ، روى حديثه حرب بن ثابت عن إسحاق بن جارية عن أبيه عن جده ، أخرجه ابن مندة ) .

تدوين القرآن _ 113 _
  وقال السيوطي في الإتقان ج 1 ص 168 ( وعند أحمد من حديث أبي هريرة : أنزل القرآن على سبعة أحرف ، عليماً حكيماً غفوراً رحيماً ، وعنه أيضاً من حديث عمر : أن القرآن كله صواب ، ما لم تجعل مغفرة عذاباً أو عذاباً مغفرة ) أسانيدها جياد ) انتهى .
  وروى في كنز العمال ج 1 ص 550 ( القرآن كله صواب ـ خ في تاريخه عن رجل له صحبة ) .
  وفي ص 618 ( أَنْفِرِ الشيطان أنفر الشيطان أنفر الشيطان ، يا عمر القرآن كله صواب ما لم يجعل المغفرة عذاباً والعذاب مغفرة - البغوي عن إسحق بن حارثة الأنصاري عن أبيه عن جده ) .
  وفي ص 619 ( يا عمر إن القرآن كله صواب ما لم يجعل عذاب مغفرة ومغفرة عذاباً ـ حم وسمويه عن إسحق بن عبدالله بن أبي طلحة عن أبيه عن جده ) وفي ج2 ص 52 ( يا أبي إني أقريت القرآن على حرف أو حرفين ، فقال الملك الذي معي قل على حرفين ، قلت على حرفين ، فقيل لي على حرفين أو ثلاثة ، فقال الملك الذي معي قل على ثلاثة ، قلت على ثلاثة حتى بلغ سبعة أحرف ، ثم قال ليس منها إلا شاف كاف ، إن قلت سميعاً عليماً عزيزاً حكيماً ، ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب ـ د عن أبي ) .
  وفي ج 2 ص 603 ( قرأت آية وقرأ ابن مسعود خلافها ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : ألم تقرئني كذا وكذا ؟ قال : بلى ، فقال ابن مسعود : ألم تقرئني كذا وكذا ؟ قال : بلى ، كلاكما محسن مجمل ، فقلت له فضرب في صدري وقال : يا أبي بن كعب إني أقرئت القرآن فقيل لي على حرف أو حرفين ، فقال الملك الذي معي : على حرفين فقلت على حرفين ، قال حرفين أو ثلاثة ، فقال الذي معي : على ثلاثة فقلت على ثلاثة ، حتى بلغ سبعة أحرف ليس منها إلا شاف كاف ، إن قلت غفوراً رحيماً ، أو قلت سميعاً عليماً ، أو عليماً سميعاً فالله كذلك ، ما لم تختم آية عذاب برحمة ، أو آية رحمة بعذاب ـ حم ، وابن منيع ، ن ، ع ، ص ) انتهى .
  ماذا تعني هذه الروايات ؟
  تعني أولاً : الفتوى القنبلة المتقدمة وأن نص القرآن مفتوح لقراءة من يريد بالألفاظ التي يريد ، مع شرط واحد خفيف جداً ... وهو أن لا تقلب المعنى من رحمة ومغفرة الى عذاب ... أو من عذاب الى رحمة ومغفرة !!
  وتعني ثانياً : أن روايات تعويم نص القرآن بمقاييس إخواننا السنة يجب أن تقبل ، لأنها على الأقل موثقة ، وقد تكون بدرجة صحة روايات البخاري ، الذي هو عندهم أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى !
  وتعني ثالثاً : أن الخليفة يقول : إذا رأيت أحدا يقرأ القرآن غلطاً فلا تغيِّر عليه ، فهل أنت أعلم بالقرآن من النبي الذي أنزل عليه ؟! فلقد غيرت يوماً على شخص قراءته فلم يقبل ، فاحتكمنا عند النبي فصحح قراءته فوجدت في نفسي ... أو كما رووا عن ابن كعب : ما شككت في نبوة النبي منذ الجاهلية مثل ذلك اليوم ! فقال لي النبي : لا تشك فنص القرآن هكذا أنزل من عند الله تعالى مفتوحاً عائماً يصح أن تقرأه بأي لفظ ، بهذا الشرط البسيط !!
  وتعني رابعاً : أن نظرية تعويم نص القرآن تجعل الانسان يشك في أحاديث السبعة أحرف ، لأن نظرية التعويم إنما هي نتيجة طبيعية لها ... فنظرية الأحرف السبعة هي ( الأميبا ) أو البذور لنظرية التعويم !! ونظرية الأحرف السبعة لو طبقها المسلمون لا سمح الله لأدت الى هدم لبنات القرآن واحدة واحدة ، أما نظرية التعويم هذه فلو طبقت لا سمح الله لأدت الى هدم القرآن سورة سورة ، ثم هدم صرح القرآن كله !!
  وأخيراً ، فإن الناظر في سياسة الخليفة عمر تجاه القرآن يجد فيها حقائق غريبة تبعث على الحيرة ... ويتساءل عن هدف الخليفة من ورائها فلا يجد الجواب حتى عند ابن جزي ... فماذا كان يريد الخليفة عمر ؟
  فقد تعمد أولاً ، تغييب النص القرآني الواحد في عهد أبي بكر وعهده !

تدوين القرآن _ 114 _
  وثانياً ، شكل لجنة لجمع القرآن جعل رئاستها لشاب صغير السن أنصاري ويقال أصله يهودي هو زيد بن ثابت ، وأبعد منها كل الذين شهد بأن النبي أمر المسلمين أن يأخذوا القرآن منهم !!
  وثالثاً ، أعلن أنه ضاع من القرآن أكثره ، وأن اللجنة التي كلفها بجمعه بذلت جهودا كبيرة لجمعه من الناس والمكتوبات بشرط شاهدين عاديين فقط ... الخ ! .
  ورابعاً ، القرآن الذي جمعته اللجنة المحترمة لم يره المسلمون ... بل خبأه الخليفة عند بنته أم المؤمنين حفصة ولم يكن يطلع عليه أحداً ... وربما كان يواصل جمعه وتنقيحه باجتهاده ... ولكن كان نصيبه الإحراق بعد وفاة حفصة!!
  وخامساً ، روى الخليفة نظرية الأحرف السبعة ولكن لم يسمح بها للناس ، ولا لقراء القرآن المشهود لهم من النبي (ص) ... ولم يستفد منها أحد إلا هو نفسه !!
  وسادساً ، كان الخليفة عمر يتدخل في صغير الأمور التي تتعلق بالقرآن والسنة وكبيرها ، بل في صغير شؤون الآخرين وكبيرها حتى واجهته أم سلمة كما روى البخاري ج 6 ص 69 ( فقالت أم سلمة عجباً لك يابن الخطاب دخلت في كل شئ حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه ! ) فلم يكن غائباً عن معاناة المسلمين واختلافهم في قراءة القرآن ، ولا كان من طبيعته التوسعة على الناس وعدم التدخل ...
  وسابعاً ، وإن عجبت فاعجب من أن الخليفة عمر أعطى لنفسه الحق في أن يرخص لكل الناس بما لم يرخصه الله تعالى لرسوله الذي هو أعظم عقلية بشرية على الاطلاق ، فقد قال تعالى وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا : ائت بقرآن غير هذا ، أو بدله ، قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ، إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ ، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ـ يونس ـ 15
  وثامناً ، روى الخليفة نظرية تعويم نص القرآن ... ولكن الجو العام للمسلمين لم يسمح لأحد بالاستفادة منها والحمد لله ... وذلك بسبب قوة القرآن الذاتية وفرادة نصه المعجز ... فالمسلمون يعرفون أنه كلام رب العالمين وأن النبي نفسه (ص) لا يستطيع أن يغير منه حرفاً من تلقاء نفسه ، وهم يريدون هذا النص المعجز ولا يسمعون لقول قائل بأنه سبعة أشكال ، أو أنه مفتوح ليتصرف في نصه المتصرفون ويحرفوا كلام الله عن مواضعه ويلوون به ألسنتهم ويقولون هو من عند الله تعالى !
  لا يجد الإنسان جواباً لأعمال الخليفة هذه ... ولكنه يجد ظروفاً خطيرةً حدثت على القرآن بعد النبي (ص) ، واستمرت بضع عشرة سنة ، وسببت اختلاف الأمة في نصوصه ... حتى نهض الغيارى على الإسلام ، وكتبوا نسخته على نسخة علي (ع) كما ستعرف ، وتجلَّت فاعلية قوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ، فالحمد لله الذي جعل الأعمال والنظريات المنافية لحفظ كتابه حبراً على ورق ، وهواء في شبك !!

تدوين القرآن _ 115 _
الفصل السابع : تحريم الخليفة البحث العلمي في القرآن
  محنة صبيغ التميمي وثائق القضية
  1 ـ روى الدارمي في سننه ج 1 ص 54 ( عن سليمان بن يسار أن رجلاً يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل فقال : من أنت ؟ قال أنا عبدالله صبيغ ، فأخذ عمر عرجوناً من تلك العراجين فضربه وقال : أنا عبدالله عمر ، فجعل له ضرباً حتى دمي رأسه ، فقال يا أمير المؤمنين حسبك قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي !
  2 ـ ... عن نافع مولى عبد الله أن صبيغ العراقي جعل يسأل عن أشياء من القرآن في أجناد المسلمين حتى قدم مصر ، فبعث به عمرو بن العاص الى عمر بن الخطاب فلما أتاه الرسول بالكتاب فقرأه فقال : أين الرجل ؟ فقال في الرحل ، قال عمر أبصر أن يكون ذهب فتصيبك مني به العقوبة الموجعة ! فأتاه به فقال عمر تسأل محدثة !! فأرسل عمر الى رطائب من جريد فضربه بها حتى ترك ظهره دبرة ثم تركه حتى برأ ، ثم عاد له ! ثم تركه حتى برأ ، فدعا به ليعود له !! قال فقال صبيغ : إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً ، وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت !! فأذن له الى أرضه وكتب الى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين ! فاشتد ذلك على الرجل فكتب أبوموسى الى عمر أن قد حسنت توبته ، فكتب عمر أن يأذن للناس بمجالسته !! ) .
  3 ـ ورواه في كنز العمال ج 2 ص 331 وقال ( الدارمي ، وابن عبد الحكم ، كر) ورواه بروايات أخرى مختلفة ، منها ( عن السائب بن يزيد قال : أتى عمر بن الخطاب فقيل : يا أمير المؤمنين إنا لقينا رجلاً يسأل عن تأويل مشكل القرآن ، فقال عمر : اللهم أمكني منه ، فبينما عمر ذات يوم جالس يغدي الناس إذ جاء وعليه ثياب وعمامة صفراء ، حتى إذا فرغ قال يا أميرالمؤمنين ( والذاريات ذرواً فالحاملات وقرا ) فقال عمر أنت هو ، فقام اليه وحسر عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته ، فقال : والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقاً لضربت رأسك ، ألبسوه ثياباً واحملوه على قتب ، وأخرجوه حتى تقدموا به بلاده ، ثم ليقم خطيب ، ثم يقول : إن صبيغاً ابتغى العلم فأخطأه ، فلم يزل وضيعاً في قومه حتى هلك ، وكان سيد قومه ـ ابن الأنباري في المصاحف ، ونصر المقدسي في الحجة ، واللالكائي ، كر ) ، ورواه عن سليمان بن يسار كرواية الدارمي الأولى ، وقال ( الدارمي ونصر والأصبهاني معاً في الحجة وابن الأنباري واللا لكائي كر ) .
  4 ـ عن أبي العديس قال : كنا عند عمر بن الخطاب فأتاه رجل ، فقال يا أمير المؤمنين ( ما الجوار الكنس ) فطعن عمر بمخصرة معه في عمامة الرجل ، فألقاها عن رأسه ، فقال عمر : أحروري ؟
  والذي نفس عمر بن الخطاب بيده لو وجدتك محلوقاً لأنحيت القمل عن رأسك ـ الحاكم في الكنى ) .
  5 ـ عن أبي عثمان النهدي عن صبيغ أنه سأل عمر بن الخطاب عن المرسلات والذاريات والنازعات ، فقال له عمر : ألق ما على رأسك فإذا له ضفيرتان ، فقال له : لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك ، ثم كتب الى أهل البصرة أن لا تجالسوا صبيغاً ! قال أبو عثمان : فلو جاء ونحن مائة لتفرقنا عنه ـ نصر المقدسي في الحجة كر ).
  6 ـ عن محمد بن سيرين قال : كتب عمر بن الخطاب الى أبي موسى الأشعري أن لا تجالسوا صبيغاً ، وأن يحرم عطاءه ورزقه ، ابن الأنباري في المصاحف كر ) .
  7 ـ عن إسحاق بن بشر القريشي قال أخبرنا ابن إسحاق قال جاء رجل الى عمر بن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين ما النازعات غرقاً ، فقال عمر من أنت ؟ قال امرؤ من أهل البصرة من بني تميم ثم أحد بني سعد ، قال من قوم جفاة ، أما إنك لتحملن الى عاملك ما يسوءك ، ولهزه حتى فرت قلنسوته ، فإذا هو وافر الشعر ، فقال أما إني لو وجدتك محلوقاً ما سألت عنك ، ثم كتب الى أبي موسى ، أما بعد فإن الأصبغ بن عليم التميمي تكلف ما كفي وضيع ما ولي ، فاذا جاءك كتابي هذا فلا تبايعوه ، وإن مرض فلا تعودوه ، وإن مات فلا تشهدوه ، ثم التفت الى القوم فقال : إن الله عزوجل خلقكم وهو أعلم بضعفكم فبعث إليكم رسولاً من أنفسكم وأنزل عليكم كتاباً ، وحد لكم فيه حدودا أمركم أن لا تعتدوها ، وفرض عليكم فرائض أمركم أن تتبعوها ، وحرم حرماً نهاكم أن تنتهكوها . وترك أشياء لم يدعها نسيانا ، فلا تكلفوها وإنما تركها رحمة لكم !

تدوين القرآن _ 116 _
  قال فكان الاصبغ بن عليم يقول قدمت البصرة فأقمت بها خمسة وعشرين يوماً ، وما من غائب أحب الي أن ألقاه من الموت ، ثم إن الله ألهمه التوبة وقذفها في قلبه فأتيت أبا موسى وهو على المنبر ، فسلمت عليه فأعرض عني فقلت أيها المعرض إنه قد قبل التوبة من هو خير منك ومن عمر ، إني أتوب الى الله عزوجل مما أسخط أمير المؤمنين وعامة المسلمين ، فكتب بذلك الى عمر ، فقال صدق ، إقبلوا من أخيكم !!
  8 ـ وروى في كنز العمال ج 2 ص 510 ( عن سعيد بن المسيب قال : جاء صبيغ التميمي الى عمربن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين : أخبرني عن الذاريات ذرواً ، فقال : هي الرياح ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته ، قال : فأخبرني عن الحاملات وقراً ، قال : هي السحاب ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته ، قال : فأخبرني عن الجاريات يسراً قال : هي السفن ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته ، قال فأخبرني عن المقسمات أمراً ، قال : هي الملائكة ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته ، ثم أمر به فضرب مائة وجعل في بيت فلما برأ دعاه فضربه مائة أخرى ، وحمله على قتب ، وكتب الى أبي موسى الأشعري : إمنع الناس من مجالسته ، فلم يزالوا كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف له بالأيمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئاً ، فكتب في ذلك الى عمر ، فكتب عمر ما إخاله إلا قد صدق فخلَّ بينه وبين مجالسة الناس ـ البزار قط في الافراد وابن مردويه ـ كر ) .
  9 ـ وفي كنز العمال ج 11 ص 296 ( مسند عمر ، عن صبيغ بن عسل قال : جئت عمر بن الخطاب زمان الهدنة وعليَّ غديرتان وقلنسوة فقال عمر : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يخرج من المشرق حلقوا الرؤوس يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، طوبى لمن قتلوه وطوبى لمن قتلهم ! ثم أمر عمر أن لا أدواى ولا أجالس ـ كر ) .
  10 ـ وفي الدر المنثور ج 2 ص 7 ( وأخرج الدارمى في مسنده ونصر المقدسي في الحجة عن سليمان بن يسار أن رجلاً يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن ، فأرسل إليه عمر وقد أعدَّ له عراجين النخل ... ـ وأخرج الدارمي عن نافع أن صبيغا العراقي ... الخ .
  11 ـ وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن أنس أن عمر بن الخطاب جلد صبيغاً الكوفي في مسألة عن حرف من القرآن حتى اطردت الدماء في ظهره .
  12 ـ وأخرج ابن الأنباري في المصاحف ونصر المقدسي في الحجة وابن عساكر ، عن السائب بن يزدان أن رجلاً قال قال لعمر إني مررت برجل يسأل عن تفسير مشكل القرآن ! فقال عمر : اللهم أمكني منه ، فدخل الرجل يوماً على عمر فسأله ، فقام عمر فحسر عن ذراعيه وجعل يجلده ثم قال ألبسوه تباناً واحملوه على قتب وأبلغوا به حيه ، ثم ليقم خطيب فليقل إن صبيغاً طلب العلم فأخطأه ، فلم يزل وضيعاً في قومه بعد أن كان سيداً فيهم .
  13 ـ وأخرج نصر المقدسي في الحجة وابن عساكر عن أبي عثمان النهدي أن عمر كتب الى أهل البصرة أن لا يجالسوا صبيغاً ، قال فلو جاء ونحن مائة لتفرقنا .
  14 ـ وأخرج ابن عساكر عن محمد بن سيرين قال : كتب عمر بن الخطاب الى أبي موسى الأشعري أن لا يجالس صبيغاً ، وأن يحرمه عطاءه ورزقه .
  15 ـ وأخرج نصر في الحجة وابن عساكر عن زرعة قال : رأيت صبيغ بن عسل بالبصرة كأنه بعير أجرب يجئ الى الحلقة ويجلس وهم لا يعرفونه ، فتناديهم الحلقة الأخرى عزمة أميرالمؤمنين عمر ، فيقومون ويدعونه .
  16 ـ وأخرج نصر في الحجة عن أبي إسحق أن عمر كتب الى أبي موسى الأشعري : أما بعد فإن الأصبغ تكلف ما خفي وضيع ماولي ، فإذا جاءك كتابي هذا فلا تبايعوه ، وإن مرض فلا تعودوه ، وإن مات فلا تشهدوه .

تدوين القرآن _ 117 _
  17 ـ وأخرج الهروي في ذم الكلام عن الأم للشافعي رضي الله عنه قال : حكمي في أهل الكلام حكم عمر في صبيغ أن يضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر والقبائل ، وينادى عليهم : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة ، وأقبل على علم الكتَّاب !!
  18 ـ وفي الدر المنثور ج 3 ص 161 ( وأخرج مالك وابن أبي شيبة وأبو عبيد وعبد بن حميد وابن جرير والنحاس وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبوالشيخ وابن مردويه عن القاسم بن محمد قال : سمعت رجلاً يسأل ابن عباس عن الأنفال فقال الفرس من النفل والسلب من النفل ، فأعاد المسألة فقال ابن عباس ذلك أيضاً ، قال الرجل الأنفال التي قال الله في كتابه ما هي ؟ فلم يزل يسأله حتى كاد يحرجه ، فقال ابن عباس : هذا مثل صبيغ الذي ضربه عمر ، وفي لفظ فقال : ما أحوجك الى من يضربك كما فعل عمر بصبيغ العراقي ، وكان عمر ضربه حتى سالت الدماء على عقبيه ! ) .
  19 ـ وفي الدر المنثور ج 6 ص 111 ( وأخرج البزار والدارقطني في الإفراد وابن مردويه وابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال : جاء صبيغ التميمي الى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال أخبرني عن الذاريات ذرواً ... الخ .
  20 ـ وأخرج الفريابي عن الحسن قال سأل صبيغ التميمي عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الذاريات ذرواً وعن المرسلات عرفاً وعن النازعات غرقاً ؟ فقال عمر رضي الله عنها : كشف رأسك فإذا له ضفيرتان ، فقال : والله لو وجدتك محلوقاً لضربت عنقك ! ثم كتب الى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه مسلم ولا يكلمه ! ) .
  21 ـ وفي إكمال الكمال ج 5 ص 221 ( وأما صبيغ بالصاد المهملة وغين معجمة فهو صبيغ بن عسل الذي كان يسأل عمر عن غريب القرآن .
  22 ـ وفي إكمال الكمال ج 6 ص 206 ( وعسل بن عبدالله بن عسل التميمي ، حدث عن عمه صبيغ بن عسال قال : جئت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ـ وهو الذي كان يتتبع مشكل القرآن فأمر عمر رضي الله تعالى عنه أن لا يجالس ، وقال يحيى بن معين : هو صبيغ ابن شريك من بني عمرو بن يربوع ، روى خالد بن نزار عن عمر بن قيس عن عسل .
  وقال في هامشه : في الأصل ( كتب ، وفي الإصابة ) روى الخطيب من طريق عسل بن عبد الله بن عسيل ( كذا ) التميمي عن عطاء بن أبي رباح عن عمه صبيغ بن عسل قال جئت عمر فذكر قصة ثم قال : الضمير في قوله عن عمه يعود على عسل ، وربيعة بن عسل أحد بني عمرو بن يربوع بن حنظلة ـ ذكره ابن الكلبي في جمهرة بنى تميم ، وأما عسل بفتح العين والسين فهو عسل بن ذكوان ، أخباري ) انتهى ، والأخباري في ذلك الوقت هو المؤرخ في عصرنا .
  23 ـ وفي معجم البلدان ج 4 ص 124 ( عسل : بكسر أوله ، وسكون ثانيه ، وآخره لام ، يقال : رجل عسل مال كقولك ذو مال ، وهذا عسل هذا وعسنه أي مثله ، وقصر عسل : بالبصرة بقرب خطة بني ضبة ، وعسل : هو رجل من بني تميم من ولده صبيغ بن عسل الذي كان يتتبع مشكلات القرآن فضربه عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، وأمر أن لا يجالس ) .

تدوين القرآن _ 118 _
الصيغة القضائية لقضية صبيغ
  المتهم : صبيغ التميمي رئيس عشيرة صغيرة من مراد من تميم تسكن في البصرة ، وكان يقرأ ويكتب وعنده بعض الكتب ، أي كان متعلماً أو مثقفاً ، وكان جده أو أبوه مؤرخاً .
  التهمة : ثبت عند الخليفة أن المتهم سأل عن أمور محدثة ، يعني أسئلة دينية جديدة لم يسأل أحد عنها سابقاً ، كما في الوثيقة رقم 2 ، أو عن متشابه القرآن أو مشكل القرآن أو غريب القرآن ، كما في الوثيقة رقم 1 و 3 و12 و22 و23 أو عن حرف من القرآن كما في الوثيقة رقم 11 أو عن معنى الذاريات كما في الوثيقة رقم 3 و5 و8 و 19 أو عن معنى النازعات كما في الوثيقة رقم 5 و7 و20 أو عن معنى الجواري الكنس كما في الوثيقة رقم 4 ... وقد ذكرت المصادر أنه طرح هذه الأسئلة على بعض الناس عندما كان مجنداً في مصر كما في الوثيقة رقم 2 وأنه جاء الى عاصمة الخلافة ليسأل الخليفة عن ذلك كما في الوثيقة رقم 1 و7 و8 و9 و19 و22 ، ولم تذكر أنه طرح أي أفكار مخالفة للعقيدة أو أنه أثر على أحد من الناس .
  الحكم : حيث أن المتهم سأل عن أمور محدثة سكت عنها القرآن ، كما في الوثيقة رقم 2 ، وقد ثبت ذلك عليه جهاراً نهاراً في محضر الخليفة وتحت سمعه وبصره ! وحيث أنه بذلك اعتدى على الخليفة وعلى حدود الله تعالى ، وتكلف البحث فيما تركه الله وماخفي من أمور الدين !
  وحيث أنه بذلك ضيع ماولي وما وجب عليه من أداء واجباته الدينية كما في الوثيقة رقم 3 و7 و12 و16 !
  لذلك حكم عليه الخليفة بما هو آت :
  أولاً : القبض على المتهم صبيغ التميمي بكل وسيلة وإحضاره الى العاصمة ، وإن هرب من يد الرسول الذي أحضره فعليه العقوبة لتقصيره في تسليمه ، كما في الوثيقة رقم 2.
  ثانياً : تعد له حزمة من عراجين النخل الرطبة قبل حضوره كما في الوثيقة رقم 1 و2 و10 و12 ، فيضرب بها على رأسه المكشوف وبدنه حتى يسيل الدم على رأسه كما في الوثيقة رقم 1 وحتى يجري دمه على ظهره كما في الوثيقة رقم 2 و11 ويسيل على عقبيه كما في الوثيقة رقم 18 وحتى يصير ظهره مثخناً بجراح العراجين كما في الوثيقة رقم 2 ، ثم يرسل الى السجن حتى تبرأ جراحه ، ثم يعاد ضربه بنفس الطريقة مرة ثانية ، كما في الوثيقة رقم 2 و 8 ...
  ثالثاً : وحيث أن المتهم قد يسبب بعمله أن يفتح في الإسلام باب الأسئلة المحرمة ، ولكي تكون العقوبة رادعة لأمثاله من المجرمين ... فقد أصدر الخليفة عليه حكمه بأن يلبس تباناً ( لباس مثل الكيس ) ويحمل على جمل الى عشيرته ويطاف به فيها وفي القبائل الأخرى ويشهر به وينادى عليه كما في الوثيقة رقم 3 و12 ثم يقوم خطيب ويقول إن صبيغاً ابتغى العلم فأخطأه كما في الوثيقة رقم 3 و12 وتكلف ما كفي وما خفي رقم 7 و16 وأن يحرم رزقه وعطاءه من بيت المال كما في الوثيقة رقم 6 و14 وأن لا يجالسه أحد ، كما في أكثر الوثائق ، وأن لا يبايعه ، أحد وإن مرض فلا يعوده أحد وإن مات فلا يشهد أحد جنازته ، كما في الوثيقة رقم 16 وغيرها .
  رابعاً : أما إذا تاب صبيغ وأناب ، فينتظر به سنة كما ذكر الفقهاء المدافعون عن الخليفة، حتى يطمأن بأن توبته صادقة وأنه ترك الأسئلة المحرمة ، فإن ثبت للخليفة حسن توبته ، يطلب من المسلمين الذين أساء اليهم المجرم صبيغ بأسئلته ، أن يعفوا عنه ويقبلوا من أخيهم توبته كما في الوثيقة رقم 7 !!

تدوين القرآن _ 119 _
تحليل قضية صبيغ
  إن قصة صبيغ التميمي تثير التعجب والتساؤل عن ذنب الرجل ؟ وهل السؤال عن معنى آيات القرآن حرام ؟ وإذا كان حراماً ، فهل جزاؤه الشرعي هذا الجزاء القاسي ؟! أم أن في الأمر شيئاً آخر ؟
  حاولت أن أجد في حيثيات الحكم الذي أصدره الخليفة ما يبرره ... فلم أجد ! وبحثت عن وجود تهمة غير السؤال على صبيغ ، فقد يكون زنديقاً ، أو جاسوساً ، أو مبتدعاً في الدين له شخص واحد يتبعه ... فما وجدت إلا أنه كان يتساءل عن مشكلات القرآن ، حتى أتى الى الخليفة يسأله !!
  ظاهر المسألة أنها دينية صرفة وأن صبيغاً من أهل البحث والجدل ، فأراد الخليفة أن يسد باب البحث والجدل ويحذر المسلمين من ذلك ، فقد كان يتبنى خط تحريم البحث في معاني القرآن وموضوعاته ، وحتى في تفسير ألفاظه ومفرداته ، كما نرى في روايات أخرى !
  وحسب الأصول القضائية والشرعية لابد أن نبقى متمسكين بدلالة ظاهر النص حتى نجد قرائن توجب الاطمئنان بخلافه ، وقد فهم الإمام الشافعي قضية صبيغ على ظاهرها هذا كما رأيت في الوثيقة رقم 17 ، وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء ج 10 ص 29 : ( الزعفراني وغيره : سمعنا الشافعي يقول : حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ، ويحملوا على الابل ، ويطاف بهم في العشائر ، ينادى عليهم : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة ، وأقبل على الكلام .
  وقال أبو عبدالرحمن الأشعري صاحب الشافعي : قال الشافعي : مذهبي في أهل الكلام تقنيع رؤوسهم بالسياط ، وتشريدهم في البلاد ، قلت : لعل هذا متواتر عن الإمام ) انتهى .
  ولكن كيف يحكم الشافعي على صبيغ بأنه ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام ؟! فأسئلته لاتدل على ذلك ؟ وحيثيات حكم الخليفة لا تتضمن شيئاً من ذلك ؟! على أن الشافعي دافع عن ضرب الخليفة لصبيغ فقط ، لكن تبقى فتوى الخليفة بقتله لو كان حلق رأسه ، وفتواه بعدم قبول توبته إلا بعد سنة ... وستعرف أن الشافعي خالف فيهما الخليفة ، فلا يجوز قتال الخوارج عنده مالم يشهروا السلاح ضد الدولة ، كما أن التوبة تقبل عنده رأساً !

محاولة جعل صبيغ من الخوارج
  حاول محبوا الخليفة في بعض مصادر الفقه والتراجم أن يتهموا صبيغاً بأنه كان خارجياً ، ولكن الخوارج بدأ وجودهم في زمن الإمام علي (ع) بعد زمان الخليفة عمر وعثمان ، فكيف يكون صبيغ خارجياً قبل الخوارج ؟! وحتى لو كان للخوارج وجود فكري في ذلك الوقت فهو بدايات أفكار ومفاهيم تكونت لديهم بحكم أنهم قراء للقرآن لم تزد عن كونها أسئلة ، ولنفرض أن أسئلة صبيغ منها ، وأن أسئلة الوفد المصري منها ... فهل يستحقون هذه العقوبة ... وهل معالجة ظاهرتهم تكون بما فعله الخليفة ؟!

تدوين القرآن _ 120 _
  قال ابن حجر في لسان الميزان ج 3 ص 439 ( قال أبو سعيد بن يونس في تاريخ مصر : عبدالرحمن بن ملجم المرادي أحد بني مدرك ، أي حي من مراد ، شهد فتح مصر واختط بها ـ بني بها داراً ـ يقال إن عمرو بن العاص أمره بالنزول بالقرب منه لأنه كان من قراء القرآن وكان فارس قومه المعدود فيهم بمصر ، وكان قرأ على معاذ بن جبل وكان من العبَّاد .
  ويقال إنه كان أرسل صبيغ بن عسل الى عمر يسأل عن مشكل القرآن ، وقيل إن عمر كتب الى عمرو أن قرب دار عبد الرحمن بن ملجم من المسجد ليعلم الناس القرآن والفقه ، فوسع له فكان داره الى جنب دار ابن عديس ، وهو الذي قتل علي بن ابي طالب رضي الله عنه ) .
  وقال السمعاني في الأنساب ج 1 ص 451 ( التدؤلي : بفتح التاء المنقوطة باثنتين من فوقها وسكون الدال المهملة وهمزة الواو المضمومة في آخرها اللام ، هذه النسبة الى تدؤل وهو بطن من مراد من جملتهم عبد الرحمن بن ملجم المرادي التدؤلي أحد بني تدؤل شهد فتح مصر واختط بها وخطته بالراية مع الأشراف ، وله خطة أيضاً مع قومه بمراد ، وله مسجد هنالك معروف ، يقال إن عمرو بن العاص أمره بالنزول بالقرب منه لأنه كان من قراء القرآن وأهل الفقه ، وكان فارس تدؤل المعدود فيهم بمصر وكان قرأ القرآن على معاذ بن جبل ، وكان من العباد ، ويقال هو الذي كان أرسل صبيغ بن عسل التميمي الى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسأله عما سأله من معجم القرآن ، وقيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب الى عمرو بن العاص أن قرب دار عبدالرحمن بن ملجم من المسجد ليعلم الناس القرآن والفقه فوسع له مكان داره التي في الراية في الزيارتين الى جانب دار ابن عديس البلوي قاتل عثمان رضي الله عنه ، وعبدالرحمن بن ملجم هو الذي قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقُتل ابن ملجم لعنه الله بالكوفة سنة أربعين وكان من شيعة علي رضي الله عنه ، وخرج إليه الى الكوفة ليبايعه ويكون معه وشهد صفين معه ، وروي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه دعا الناس الى البيعة فجاء ابن ملجم فرده ، ثم جاء فرده ، ثم جاء فبايعه ، ثم قال علي رضي الله عنه : ما يحبس أشقاها ؟ ما يحبس أشقاها ؟ أما والذي نفسي بيده لتخضبن هذه وأخذ بلحيته من هذا وأخذ برأسه ثم تمثل : أشددحيازيمك للموت فإن الموت آتيك ولا تجزع من الموت إذا حل بواديكا ) انتهى .
  وهذان الخبران لايفيدان تهمة لصبيغ ولا يثبتان غرضاً سياسياً لأسئلته حتى لو كان قاصداً من مصر لطرحها على الخليفة ، بل لو كان أرسله عبد الرحمن بن ملجم لكان احترمه الخليفة وما هجم عليه هذه الهجمة المنكرة ، لأن ابن ملجم يومذاك كان مقرباً عند الخليفة وقد أمر عمراً بن العاص أن يجعله معلماً ومفقهاً للمسلمين في مصر ... ولعل هذا السبب في أن السمعاني روى دعوى إرسال ابن ملجم لصبيغ بلفظ ( قيل ) وكذلك ابن حجر .
  ثم لو كان صبيغ خارجياً لانضم إليهم عندما ظهروا ، ولما روى عن الخليفة ذم الخوارج ووجوب قتلهم كما في الوثيقة رقم 9 .

تدوين القرآن _ 121 _
  ومع ذلك فهناك مؤشرات تفتح باب الإحتمال لأن تكون قضية صبيغ شخصية أو سياسية ، فبعض روايات الحادثة تذكر أن الخليفة عرف صبيغاً من سؤاله عن الذاريات كما في الوثيقة رقم 3 ( حتى إذا فرغ قال يا أميرالمؤمنين والذاريات ذرواً فالحاملات وقراً فقال عمر أنت هو ، فقام إليه وحسر عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته ، فقال : والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقاً لضربت رأسك ، ألبسوه ثياباً ( تباناً ) واحملوه على قتب ... ) وأنه كان أعد له العراجين أي عروق سعف النخل مسبقاً كما في الوثيقة 1 و11 ، فقد يكون صبيغ جاء الى المدينة سابقاً وسأل الخليفة عن الذاريات فلم يعرف الخليفة جوابها ، فذهب الى مصر يشهر بالخليفة بأنه لا يفهم القرآن ، فكتب له ابن العاص بالخبر وأن جماعة من قراء القرآن في مصر يغتابون الخليفة ويتهمونه بأنه لا يعرف تفسير القرآن ، ولا يطبق كثيراً من آياته ! فأمر ابن العاص أن يحضره وعرفه من سؤاله ... ويؤيد هذا الإحتمال ما رواه السيوطي في الدر المنثور ج 2 ص 145 والهندي في كنز العمال ج 2 ص 330 ( عن الحسن أن ناساً لقوا عبد الله بن عمرو بمصر ، فقالوا نرى أشياء من كتاب الله أمر أن يعمل بها لا يعمل بها ، فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك فقدم وقدموا معه فلقي عمر ، فقال : يا أمير المؤمنين أن ناساً لقوني بمصر ، فقالوا إنا نرى أشياء من كتاب الله أمر أن يعمل بها لا يعمل بها ، فأحبوا أن يلقوك في ذلك ، فقال أجمعهم لي فجمعهم له ، فأخذ أدناهم رجلاً فقال : أنشدك بالله وبحق الإسلام عليك أقرأت القرآن كله ؟
  فقال : نعم : قال فهل أحصيته في نفسك ؟ قال لا ، قال فهل أحصيته في بصرك ؟ قال لا ، قال فهل أحصيته في لفظك ؟ هل أحصيته في أثرك ؟ ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم ، قال : ثكلت عمر أمه ، أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله ؟ قد علم ربنا أنه سيكون لنا سيئات وتلا إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريما ) هل علم أهل المدينة فيم قدمتم ؟ قالوا لا ، قال لو علموا لوعظت بكم !! ـ ابن جرير ) .
  وقال في هامشه : لوعظت بكم أي خفقهم بالدرة أو غيرها حيث أن سؤالهم يترتب عليه بعض الشبهات في العقيدة الايمانية ) انتهى .
  فهذه القصة تشبه قصة صبيغ في أن هؤلاء المصريين جاؤوا من مصر ليسألوا الخليفة عن آيات من القرآن فيها أوامر إلهية لا يرون تطبيقها في دولة الخليفة ... فكانت أسئلتهم إدارية سياسية ، وقد أجابهم الخليفة بأن القرآن بحر لا يمكن إحصاؤه كله في الحفظ أو الفهم أو النظر الى صفحات كتابه في آن واحد ! فكيف يمكن لخليفة مثلي تطبيقه كله ! فارضوا بما ترون من تطبيقي وتطبيق عمالي منه ولا تثيروا علينا المشاكل ، ولا تذكروا إشكالاتكم هذه أمام أحد ، وإلا فالدرة وعراجين النخل حاضرة !
  فقد أمر الخليفة بإغلاق باب البحث والسؤال عن تطبيق الدولة للقرآن تحت تهديد العقوبة ... وقول المعلق على كتاب كنز العمال إن أسئلة المصريين تستحق الضرب لأنها يترتب عليها بعض الشبهات في العقيدة الايمانية ، قول لادليل عليه إلا التبرع بالدفاع عن عمر !
  على أي حال ، من المحتمل أن يكون صبيغاً التميمي من نوع هؤلاء المصريين ، ولكن لو صح هذا الاحتمال فهل يستحق تلك العقوبة ؟ ألم يكن تهديد الخليفة كافياً له كزملائه ؟! أم أن ذنب صبيغ أنه ليس مصرياً ، ولو كان مصرياً لنجا بجلده ؟!

تدوين القرآن _ 122 _
  ومن المحتمل أيضاً أن السؤال عن الذاريات كانت له قصة في ذلك الوقت وكان مرتبطاً بأسئلة أخرى ، قال الصديق المغربي في كتابه فتح الملك العلي ص 75 ( قال الحاكم في المستدرك ... ثنا أبوالطفيل قال : رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قام على المنبر فقال : سلوني قبل أن تفقدوني ولن تسألوا بعدي مثلي ، قال فقام ابن الكوا فقال : يا أمير المؤمنين ما الذاريات ذرواً ؟ قال : الرياح ، قال : فما الحاملات ؟ وقراً ، قال : السحاب ، قال : فما الجاريات يسراً ؟ قال : السفن ، قال : فما المقسمات أمراً ؟ قال : الملائكة ، قال : فمن الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم ؟ قال : منافقوا قريش ، صححه الحاكم ) انتهى .
  ولكن لو صح هذا الإحتمال أيضاً وكان مع أسئلتهم عن الذاريات أسئلة أخرى محرجة عن انحراف الأمة ... فهي لا تستحق العقوبة التي نزلت بصبيغ !!

تحير الفقهاء في عقوبة صبيغ
  وقد تحير الفقهاء في توجيه حكم الخليفة على صبيغ ، فحاولوا أن يثبتوا لسؤاله بعداً عقائدياً سياسياً ، قال ابن قدامة في المغني ج 1 ص 73 : ( فصل : واختلفت الرواية عن أحمد في حلق الرأس فعنه أنه مكروه لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الخوارج ( سيماهم التحليق ) فجعله علامة لهم وقال عمر لصبيغ : لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك بالسيف ) انتهى .
  وقال في ج 10 ص 58 ( فصل ، وإذا أظهر قوم رأي الخوارج مثل تكفير من ارتكب كبيرة وترك الجماعة واستحلال دماء المسلمين وأموالهم إلا أنهم لم يخرجوا عن قبضة الإمام ولم يسفكوا الدم الحرام ، فحكي القاضي عن أبي بكر أنه لايحل بذلك قتلهم ولاقتالهم ، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور أهل الفقه... وأما من رأى تكفيرهم فمقتضى قوله أنهم يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا لكفرهم كما يقتل المرتد ، وحجتهم قول النبي صلى الله عليه وسلم ( فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ) ... وقول عمر لصبيغ لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك بالسيف ، يعني لقتلتك ، وإنما يقتله لكونه من الخوارج ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال سيماهم التسبيد يعني حلق رؤوسهم ) انتهى .
  يقصد ابن قدامة أن الخليفة كان يفتي بقتل من حلق رأسه لأن ذلك شعار الخوارج ، وأن المسلمين كانوا يعرفون هذه العلامة لهم من حديث النبي (ص) ، ولكن أحاديث النبي عن الخوارج لا يعلم أنها كانت تشتمل على علامة حلق الرأس ، فقد تكون العلامة أضيفت فيما بعد .
  وينبغي الإلتفات هنا الى أن من عادة العرب عند العزم على شئ والاستماتة في سبيله أن يحلقوا رؤوسهم علامة على ذلك ... وقد ورد أن جماعة من الأنصار والمهاجرين جاؤوا الى علي (ع) بعد فراغه من مراسم جنازة النبي(ص) واعترضوا بشدة على عدم دعوته الى السقيفة وبيعة أبي بكر ، وقالوا للإمام نحن معك وفي عنقنا لك بيعة أخذها النبي من الجميع يوم غدير خم ، فقال لهم الإمام : إن كنتم صادقين فاغدوا إلي محلقين ... فجاءه منهم في الغد سبعة فقط أو ثلاثة ، فأخبرهم أن النبي(ص) أوصاه أن لا يتحرك إلا إذا اجتمع له أربعون رجلاً !
  فالخوارج لم ينشؤوا عادة حلق الرؤوس من عندهم ، بل استفادوا من عرف عربي موجود استفاد منه قبلهم علي (ع) ، فقد يكون الخليفة مثلاً أراد أن يعرف هل أن صبيغاً عضو في حركة حلقوا رؤوسهم وتعاهدوا على معارضة الخليفة ، فيكون ذلك مؤشراً احتمالياً آخر على أن قضية صبيغ سياسية .
  وهناك مؤشر ثالث وهو أن الشاكي صاحب التقرير على صبيغ هو عمرو بن العاص الذي كان فكره وعمله الأمور السياسية والتخطيط ضد هذا وذاك ، ولم يعهد عنه اهتمام بالأمور الفكرية والعقائدية كالسؤال عن القرآن ! بل قد يكون هو الذي أرسل المصريين المعترضين الى الخليفة مع ولده عبد الله ليلاقوا جزاءهم !
  هذا ، ولكنها تبقى احتمالات ، ويبقى الحكم على قضية صبيغ حسب ظاهرها كما فهمها الفقهاء وأنها قضية بحث وجدل في القرآن ، أو قضية شخصية ، أقوى من الحكم عليها بأنها سياسية ، خاصة عندما نرى حياة صبيغ العادية غير السياسية ... فقد عاش بعد الخليفة ولم يظهر منه شئ مخالف لخط الخليفة !

تدوين القرآن _ 123 _
  وتحير الفقهاء في توبة صبيغ عن أي شئ كانت توبة صبيغ التميمي ؟ الظاهر أنها توبة عن السؤال فقط وفقط !! وقد تاب وهو تحت عراجين النخل وقال للخليفة : اعفني ، سامحني ، فقد كان في رأسي أسئلة أو تساؤلات ، وذهب الذي كان في رأسي ، وإني تائب الى الله واليك ... ولكن الخليفة لم يعفه ولم يقبل توبته إلا بعد أن دمر شخصيته وجعله ميتاً في الأحياء ! فلماذا اشترط الخليفة مضي سنة من إعلان توبة صبيغ حتى يثبت صدقها ، مع أن التوبة إما أن لا تقبل ، وإما تقبل رأساً ؟! هذا ما حير فقهاء المذاهب الأربعة !
  قال ابن قدامة في المغني ج 12 ص 80 : ( فصل : ظاهر كلام أحمد والخرقي أنه لايعتبر في ثبوت أحكام التوبة من قبول الشهادة وصحة ولايته في النكاح إصلاح العمل ، وهو أحد القولين للشافعي ، وفي القول الآخر يعتبر إصلاح العمل ... ولأن عمر رضي الله عنه لما ضرب صبيغاً أمر بهجرانه حتى بلغته توبته ، فأمر أن لا يكلم إلا بعد سنة .
  ولنا : قوله (ع) : التوبة تجب ما قبلها ، وقوله : التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، ولأن المغفرة تحصل بمجرد التوبة فكذلك الأحكام ، ولأن التوبة من الشرك بالاسلام لا تحتاج الى اعتبار ما بعده وهو أعظم الذنوب كلها ، فما دونه أولى ! فأما الآية فيحتمل أن يكون الإصلاح هو التوبة وعطفه عليها لاختلاف اللفظين ، ودليل ذلك قول عمر لأبي بكرة : تب أقبل شهادتك ، ولم يعتبر أمراً آخر ، ولأن من كان غاصباً فرد ما في يديه أو مانعاً الزكاة فأداها وتاب الى الله تعالى قد حصل منه الإصلاح ، وعُلِمَ نزوعه من معصيته بأداء ما عليه ، ولو لم يُرِدِ التوبة ما أدى ما في يديه ، ولأن تقييده بالسنة تحكُّمٌ لم يرد الشرع به ، والتقدير إنما يثبت بالتوقيف ) انتهى .
  الى هنا تلاحظ أن كلام ابن قدامة كلام فقهي قوي ... ثم أخذ ينقض مبانيه التي أثبتها لتوه فقال : ( وما ورد عن عمر في حق صبيغ إنما كان لأنه تائب من بدعة وكانت توبته بسبب الضرب والهجران فيحتمل أنه أظهر التوبة تستراً بخلاف مسألتنا . وقد ذكر القاضي أن التائب من البدعة يعتبر له مضي سنة لحديث صبيغ رواه أحمد في الورع قال : ومن علامة توبته أن يجتنب من كان يواليه من أهل البدع ، ويوالي من كان يعاديه من أهل السنة ، والصحيح أن التوبة من البدعة كغيرها إلا أن تكون التوبة بفعل يشبه الإكراه كتوبة صبيغ فيعتبر له مدة تظهر أن توبته عن إخلاص لا عن إكراه ، وللحاكم أن يقول للمتظاهر بالمعصية تب أقبل شهادتك قال مالك لا أعرف هذا ، قال الشافعي وكيف لا يعرفه وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتوبة ، وقاله عمر لأبي بكرة !! ) انتهى .
  وهكذا طبق الفقهاء على صبيغ أنه لابد أن تمضي عليه سنة ليعرف أنه ( اجتنب من كان يواليه من أهل البدع ويوالي من كان يعاديه من أهل السنة ) ولكن صبيغاً لم يكن له فئة غير أهل السنة ، وإن كان له فئة فكيف يعرف أنه اجتنبهم وهو ممنوع المجالسة والمكالمة الخ ...

تدوين القرآن _ 124 _
النتيجة
  والنتيجة أن صبيغاً دفع في حياته ثمن أسئلته غالياً ، ثم دفعها على يد الفقهاء من سمعته لأجل تبرير عمل الخليفة ، فصار صاحب بدعة ، وصار خارجياً مستحقاً للعقوبة قبل ظهور الخوارج وتسميتهم خوارج بربع قرن أو أكثر ... كل ذلك بدون دليل عند أحد من هؤلاء الفقهاء إلا عمل الخليفة ... ويمكن أن يصير صبيغ بعد مدة رافضياً خبيثاً ، مع أني لم أجد له إشارة مدح واحدة في مصادر الشيعة !
  ولكن لا يختلف الحال في غرض بحثنا ، فسواء اعتبرنا قضية صبيغ قضية علمية أو عقائدية أو شخصية أو سياسية ... فإنها قضية تخدم تحريم البحث العلمي في القرآن والسؤال عن غوامضه وحتى عن معاني ألفاظه ومفرداته ، كما نرى في نهي الخليفة عن البحث في معنى : وفاكهة وأباً ... وغيرها ، وغيرها !
  وإذا أردنا تطبيق أحكام الخليفة على صبيغ في عصرنا فيجب على الحاكم المسلم أن يجمع كتب التفسير ويحرقها ، ثم يقيم الحد الشرعي على المفسرين وطلبة العلوم القرآنية، فيجلدهم حتى تسيل دماؤهم على رؤوسهم وظهورهم وأعقابهم ، والأحوط أن يكون ذلك بجريد النخل الرطب ، ثم يسجنهم حتى يبرؤوا ، ثم يضربهم مرة ثانية وثالثة ... ثم يلبسهم تبابين ويركبهم في شاحنات ويطوفهم في مدنهم وقراهم ... ويحذر الناس من شرهم ... الى آخر أحكام الخليفة .
  هذا إذا كانت أسئلتهم بمقدار أسئلة صبيغ ، أما إذا كانت أسئلتهم أكثر مثل طلبة المعاهد والجامعات الدينية في عصرنا ، فيجب أن يحكم عليهم بالإعدام حتى يخلص الأمة من شرهم !!
  وفاكهة وأبا ؟!
  روى الحاكم في المستدرك ج2 ص 290 ( ... عن أنس رضي الله عنه قال قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه : وفاكهة وأباً ، فقال بعضهم هكذا ، وقال بعضهم هكذا ... فقال عمر : دعونا من هذا آمنا به كل من عند ربنا ، هذا حديث صحيح الاسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه ) .
  وروى في نفس المجلد ص 514 ( ... عن ابن شهاب أن أنس بن مالك رضي الله عنه أخبره أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : فأنبتنا فيها حبا ، وعنباً وقضبا ، وزيتوناً ونخلا ، وحدائق غلبا ، وفاكهة وأبا ، قال : فكل هذا قد عرفناه فما الأب ؟ ثم نفض عصا كانت في يده فقال : هذا لعمر الله التكلف ، اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب ! هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ) انتهى .
  وروى السيوطي في الدر المنثور ج 6 ص 317 أن هذه القصة حدثت وكان الخليفة على المنبر ، وأن رجلاً سأل الخليفة عن معنى الأب ، قال ( وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن سعد وعبد حميد وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان والخطيب والحاكم وصححه عن أنس أن عمر قرأ على المنبر فانبتنا فيها حبا ، وعنباً وقضبا الى قوله وأبا قال : كل هذا قد عرفناه فما الأب ؟ ثم نفض عصا كانت في يده فقال : هذا لعمر الله هو التكلف فما عليك أن لا ندري ما الأب ، إتبعوا ما بين لكم هداه من الكتاب فاعملوا به وما لم تعرفوه فكلوه الى ربه .