وقال ابن قدامة في المغني ج 9 ص 192 : ( مسألة : قال أبوالقاسم رحمه الله ( والرضاع الذي لا يشك في تحريمه أن يكون خمس رضعات فصاعدا ) في هذه المسألة مسألتان : أحدهما ، أن الذي يتعلق به التحريم خمس رضعات فصاعدا هذا الصحيح في المذهب وروي هذا عن عائشة وابن مسعود وابن الزبير وعطاء وطاووس وهو قول الشافعي ، وعن أحمد رواية ثانية أن قليل الرضاع وكثيره يحرم .
  وروي ذلك عن علي وابن عباس ، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن ومكحول والزهري وقتادة والحكم وحماد ومالك والأوزاعي والثوري والليث وأصحاب الرأي وزعم الليث أن المسلمين أجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد ما يفطر به الصائم ... ) .
  وقال الكاشاني الحنفي في بدائع الصنائع ج 4 ص 7 : ( ويستوى في الرضاع المحرم قليله وكثيره عند عامة العلماء وعامة الصحابة رضي الله عنهم وروى عن عبدالله بن الزبير وعائشة رضي الله عنهما أن قليل الرضاع لا يحرم وبه أخذ الشافعي فقال لا يحرم إلا خمس رضعات متفرقات واحتج بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان فيما نزل عشر رضعات يحرم ثم صرن الى خمس فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو فيما يقرأ ... وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقد قيل أنه لم يثبت عنها وهو الظاهر فإنه روي أنها قالت توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو مما يتلى في القرآن فما الى نسخه ( سبيل ) ولا نسخ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يحتمل أن يقال ضاع شئ من القرآن ولهذا ذكر الطحاوي في اختلاف العلماء أن هذا حديث منكر ، وإنه من صيارفة الحديث ولئن ثبت فيحتمل أنه كان في رضاع الكبير فنسخ العدد بنسخ رضاع الكبير ) انتهى .
  وقال ابن حزم في المحلى ج 10 ص 14 : ( قال أبو محمد : وهذان أثران في غاية الصحة والحجة بهما قائمة ، ثم نظرنا فيما احتج به من قال : لا يحرم من الرضاع أقل من خمس رضعات فوجدنا ما رويناه من طريق حماد بن سملة عن يحيى بن سعيد الأنصارى .
  وعبدالرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق كلاهما عن عمرة عن عائشة أم المؤمنين قالت : نزل القرآن أن لا يحرم إلا عشر رضعات ثم نزل بعد وخمس معلومات هذا لفظ يحيى بن سعيد ، ولفظ عبدالرحمن قالت : كان مما نزل من القرآن ثم سقط لا يحرم من الرضاع إلا عشر رضعات ثم نزل بعد وخمس معلومات ، ومن طريق القعنبي عن مالك عن عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة بنت عبدالرحمن عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت : كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات يحرمن ، فتوفي رسول الله (ص) وهن مما يقرأ من القرآن ، وروينا أيضاً معناه من طريق مسلم نا القعنبي ومحمد بن المثنى قال ابن المثنى نا عبدالوهاب بن عبدالمجيد الثقفي ، وقال القعنبي نا سليمان بن بلال ثم اتفق سليمان وعبدالوهاب كلاهما عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة عن عائشة أم المؤمنين قالت لما نزل في القرآن عشر رضعات معلومات ثم نزل أيضاً خمس معلومات ...

تدوين القرآن _ 76 _

  قال أبومحمد : وهذان خبران في غاية الصحة وجلالة الرواة وثقتهم ولا يسع أحداً الخروج عنهما ... لكن لما جاءت رواية الثقات التي ذكرنا بأنه لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان وأنه إنما يحرم خمس رضعات كانت هذه الأخبار زائدة على ما في تلك الآية وفي تلك الأخبار وكانت رواية ابن جريج في حديث أبي حذيفة أرضعيه خمس رضعات هي زائدة .
  وقالوا أيضاً : قول الراوي فمات عليه الصلاة والسلام وهو مما يقرأ من القرآن قول منكر وجرم في القرآن ولا يحل أن يجوز أحد سقوط شئ من القرآن بعد موت رسول الله (ص) فقلنا : ليس كما ظنتم إنما معنى قول عبدالله بن أبى بكر في روايته لما ذكرتم ثم أي أنه عليه الصلاة والسلام مات وهو مما يقرأ مع القرآن بحروف الجر يبدل بعضها من بعض ، ومما يقرأ من القرآن الذي بطل أن يكتب في المصاحف وبقي حكمه كالآية الرجم سواء سواء فبطل إعتراضهم المذكور ... فمن ذلك قلنا إن استنفاد الراضع ما في الثديين متصلاً رضعة واحدة ، وأن المصة لا تحرم إلا إذا علمنا أنها قد سدت مسداً من الجوع ) انتهى .
  وهكذا وافق ابن حزم عائشة في الخمس رضعات التي أكلت آيتها السخلة ، وزاد عليها أنه اعتبر المصة الطويلة رضعة ، فيكفي عنده خمس مصات متفرقات .
  ثم كان من النادرين الذين آنسوا وحدة أم المؤمنين في رضاع الكبير ، فيكفي عنده أن يرضع رجل كبير ولو كان عمره خمسين سنة من امرأة غير محرم عليه ! خمس مصات متفرقات فتصير أمه وتحرم عليه هي وقريباتها !!
  قال في ص 19 : ( قال أبومحمد : وقالت طائفة : إرضاع الكبير والصغير يحرم كما ذكرنا قبل عن أبي موسى وإن كان قد رجع عنه ... ومن طريق مالك عن ابن شهاب أنه سئل عن رضاع الكبير ؟ فقال : أخبرني عروة بن الزبير بحديث أمر رسول الله (ص) سهلة بنت سهيل بأن ترضع سالماً مولى أبي حذيفة خمس رضعات وهو كبير ففعلت فكانت تراه ابناً لها قال عروة : فأخذت بذلك عائشة أم المؤمنين فيمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال فكانت تأمر أختها أم كلثوم وبنات أخيها يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال ، ومن طريق عبدالرزاق نا ابن جريج قال : سمعت عطاء بن أبي رباح وسأله رجل فقال : سقتني امرأة من لبنها بعدما كنت رجلاً كبيراً أفأنكحها ؟ قال عطاء لا ، قال ابن جريج فقلت له وذلك رأيك قال : نعم كانت عائشة تأمر بذلك بنات أخيها وهو قول الليث بن سعد ... فهذه أحاديث تدعي زيادات لا وجود لها في كتاب الله تعالى ، وكثير منها بمقاييس إخواننا أحاديث صحيحة على شرط البخاري ومسلم ، أو شرط غيرهما ، أو موثقة ... فهل يمكن لأحد أن يقبلها ويضيف هذه الآيات والزيادات المزعومة في كتاب الله والعياذ بالله بحجة التمسك بالحديث إذا صح سنده !!
  أم أن علماء إخواننا يردونها كما نفعل نحن الشيعة ، فيقلدوننا في هذا الموضوع من أجل الحفاظ على كتاب الله تعالى ؟!
  أم يبحثون لها عن تأويلات بعيدة لا تقبلها عبارة عربية مستقيمة ؟!

تدوين القرآن _ 77 _
الفصل الخامس قراءات شخصية ومحاولات تحريف قراءات للخليفة لم يطعه فيها المسلمون
  1 ـ فامضوا الى ذكر الله !
  اتفقت مصادر إخواننا السنة على أن الخليفة عمر كان يقرأ فاسعوا الى ذكر الله في الآية التاسعة من سورة الجمعة ( فامضوا الى ذكر الله ) حتى في صلاته ، وأنه كان يصر على ذلك ويأمر بمحو ( فاسعوا ) ويقول إنها منسوخة !!
  فما هو سبب ذلك ؟ ثم ما هو السبب في أن جميع المفسرين وفقهاء المذاهب السنية لم يطيعوا الخليفة ولم يكتبوها في المصاحف ، ولم يقرؤوا بها ، مع أنهم يتعصبون لأقوال الخليفة عمر ويتشبثون بها ؟!
  أما السر في اجتهاد الخليفة في نص القرآن فهو أن كلمة ( السعي ) في ذهنه تعني الركض ، بينما المضي تعني الذهاب ... وبما أن المطلوب من المسلمين إذا سمعوا النداء لصلاة الجمعة هو الذهاب بسكينة ووقار وليس الركض ... فلا يصح التعبير بالسعي ! ومادام القرآن نازلاً من عند الله تعالى فلا بد أنه قال : فامضوا ولم يقل فاسعوا ! أو أن الركض للجمعة كان مطلوباً أولاً ثم نسخ بالمضي !! أو أنه كان اشتباهاً من النبي أو جبرئيل ثم صححه أحدٌ لهما !!
  قال البخاري في صحيحه ج 6 ص 63 ( قوله وآخرين منهم لما يلحقوا بهم ، وقرأ عمر : فامضوا الى ذكر الله ) .
  وروى ابن شبة في تاريخ المدينة ج 2 ص 711 ( عن إبراهيم عن خرشة بن الحر قال : رأى معي عمر بن الخطاب رضي الله عنه لوحاً مكتوباً فيه : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله ، فقال : من أملى عليك هذا ؟ قلت أبي بن كعب ، فقال إن أبياً كان أقرأنا للمنسوخ ، إقرأها : فامضوا الى ذكر الله ! ) .
  وروى البيهقي في سننه ج 3 ص 227 ( عن سالم عن أبيه قال : ما سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرؤها إلا : فامضوا الى ذكر الله ... أنبأ الشافعي ، أنبأ سفيان بن عيينة ، فذكره بنحوه ) .
  وقال السيوطي في الدر المنثور ج 6 ص 219 ( قوله تعالى : فاسعوا الى ذكر الله .. الآية ، أخرج أبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف عن خرشة بن الحر قال رأى معي عمر بن الخطاب لوحاً مكتوباً فيه إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله فقال : من أملى عليك هذا ؟ قلت أبي بن كعب ، قال إن أبياً أقرؤنا للمنسوخ ، إقرأها فامضوا الى ذكر الله ! ) انتهى .
  ورووا أن الخليفة أقنع برأيه هذا عبدالله بن مسعود فمحى من مصحفه ( فاسعوا ) وكتب فيه ( فامضوا ) !
  روى الهيثمي بسند موثق في مجمع الزوائد ج 7 ص 124 ( عن إبراهيم قال ، قال عبد الله بن مسعود ... لو قرأتها فاسعوا سعيت حتى يسقط ردائي ! وكان يقرؤها فامضوا ، رواه الطبراني وإبراهيم لم يدرك ابن مسعود ورجاله ثقات . وعن قتادة قال : في جزء ابن مسعود ( مصحفه ) فامضوا الى ذكر الله ... رواه الطبراني وقتادة لم يدرك ابن مسعود ولكن رجاله ثقات ) انتهى .

تدوين القرآن _ 78 _
  أما علي وأهل البيت (ع) فكانوا ملتفتين الى أن السعي هنا ليس بمعنى الركض بل بمعنى السعي المعنوي الذي يتناسب مع المشي الى صلاة الجمعة بسكينة ووقار ... روى القاضي المغربي في دعائم الإسلام ج 1 ص 182 ( عن علي (ع) أنه سئل عن قول الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله ، قال : ليس السعي الاشتداد ولكن يمشون إليها مشياً ) .
  وروى الصدوق في علل الشرائع ج 2 ص 357 ( عن حماد عن الحلبي عن أبي عبد الله (ع) قال : إذا قمت الى الصلاة إن شاء الله فأتها سعياً وليكن عليك السكينة والوقار ، فما أدركت فصل وما سبقت به فأتمه ، فإن الله عزوجل يقول : يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله ، ومعنى قوله فاسعوا هو الإنكفات ) .
  وروى علي بن إبراهيم في تفسيره ج 2 ص 367 عن الإمام الباقر (ع) ( إسعوا : إعملوا لها وهو قص الشارب ، ونتف الابط وتقليم الأظافير والغسل ولبس أفضل ثيابك ، وتطيب للجمعة فهو السعي ، يقول الله : ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن ) انتهى .
  وروى هذا المعنى أيضاً عن أبي ذر رحمه الله ، قال السيوطي في الدر المنثور ج 6 ص 219 ( وأخرج البيهقي في سننه عن عبدالله بن الصامت قال خرجت الى المسجد يوم الجمعة فلقيت أباذر فبينا أنا أمشي إذ سمعت النداء فرفعت في المشي لقول الله : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله ، فجذبني جذبة فقال : أولسنا في سعي ؟! ) انتهى .
  وتؤيد مصادر اللغة هذا الإشتراك في مادة ( سعى ) فهي تستعمل في المشي السريع الذي هو دون الركض ، وتستعمل في ( السعي المعنوي ) وهو الإهتمام والجد في الشئ المقصود ... وأكثر ما وردت في القرآن بهذا المعنى الثاني .
  قال الراغب في مفرداته ص 233 ( السعي المشي السريع وهو دون العدو .
  ويستعمل للجد في الأمر خيراً كان أو شراً ، قال تعالى وسعى في خرابها وقال نورهم يسعى بين أيديهم وقال ويسعون في الأرض فساداً ، وإذا تولى سعى في الأرض ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، وأن سعيه سوف يرى ، إن سعيكم لشتى وقال تعالى وسعى لها سعيها ، كان سعيهم مشكوراً وقال تعالى فلا كفران لسعيه ) .
  وقال الخليل في كتاب العين ج 2 ص 202 ( السعي عدو ليس بشديد ، وكل عمل من خير أو شر فهو السعي ، يقولون السعي العمل أي الكسب ، والمسعاة في الكرم والجود ) .
  وقال الجوهري في الصحاح ج 6 ص 2377 ( سعى الرجل يسعى سعياً أي عدا ، وكذلك إذا عمل وكسب ) .
  وقال الطريحي في مجمع البحرين ج 2 ص 375 ( قوله تعالى فاسعوا الى ذكر الله ، أي بادروا بالنية والجد ، ولم يرد للعدو والإسراع في المشي ، والسعي يكون عدواً ومشياً وقصداً وعملاً ، ويكون تصرفاً بالصلاح والفساد ، والأصل فيه المشي السريع لكنه يستعمل لما ذكر وللأخذ في الأمر ) انتهى .
  وعندما وجد إخواننا السنة أنفسهم أمام هذا الواقع ، ورأوا أن قراءة ( فامضوا ) اشتباه محض من الخليفة وإصرار غير منطقي ، فاختاروا أن يبقوا الآية في مصاحفهم ( فاسعوا ) وأن يحفظوا كرامة الخليفة في نفس الوقت ولا يخطئوه ... فلذلك لا تجد منهم منتقداً للخليفة ، ولا متسائلاً عن معنى شهادة الخليفة بأن اسعوا منسوخة !! بل تجد أن بعضهم فضل السكوت وطلب الستر والسلامة للخليفة ، كما فعل البخاري ! وبعضهم قلد الخليفة وأفتى بجواز القراءة بقراءته ، وحاول أن يستر خطأه بالإصرار عليه ، مدعياً أن المضي هو السعي في لغة قريش والحجاز ! ولو كان السعي مرادفاً للمضي فلماذا هرب منه الخليفة وجعل ابن مسعود يهرب منه خوفاً على ردائه ، وهما حجازيان ؟!

تدوين القرآن _ 79 _
  وغاية ما وصلت إليه جرأة علماء إخواننا الانتقاد البعيد بالإشارة التي لايفهمها إلا اللبيب اللبيب ... قال البيهقى في سننه ج 3 ص 227 ( قال الشافعي : ومعقول أن السعي في هذا الموضع العمل لا السعي على الأقدام ، قال الله تعالى إن سعيكم لشتى ، وقال ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن ، وقال وكان سعيكم مشكوراً ، وقال وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، وقال وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ، قال الشيخ ( البيهقي ) وقد روي عن أبي ذر ما يؤكد هذا ) انتهى ، وقد أخذها الشافعي عن أهل البيت (ع) كما رأيت !
  وتبع الشافعي ابن قدامة في المغني ج 2 ص 143 قال ( ... والمراد بالسعي هاهنا الذهاب إليها لا الإسراع ، فإن السعي في كتاب الله لم يرد به العدو قال الله تعالى وأما من جاءك يسعى وقال وسعى لها سعيها وقال سعى في الأرض ليفسد فيها وقال ويسعون في الأرض فساداً ، وأشباه هذا لم يرد بشئ منه العدو ، وقد روى عن عمر أنه كان يقرؤها فامضوا الى ذكر الله ) !!
  ومن أكثرهم أمانة وجمعاً لروايات الموضوع جلال الدين السيوطي ، قال في الدر المنثور ج 6 ص 219 : ( وأخرج عبد بن حميد عن إبراهيم قال قيل لعمر إن أبياً يقرأ فاسعوا الى ذكرالله قال عمر : أبيٌّ أعلمنا بالمنسوخ ، وكان يقرؤها فامضوا الى ذكر الله !
  وأخرج الشافعي في الأم وعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف والبيهقي في سننه عن ابن عمر قال : ما سمعت عمر يقرؤها قط إلا فامضوا الى ذكر الله !
  وأخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف والبيهقي في سننه عن ابن عمر قال : ما سمعت عمر يقرؤها قط إلا فامضوا الى ذكر الله !!
  وأخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد عن ابن عمر قال : لقد توفي عمر وما يقول هذه الآية التي في سورة الجمعة إلا فامضوا الى ذكر الله !!
  وأخرج عبدالرزاق والفريابي وأبوعبيد وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري والطبراني من طرق عن ابن مسعود أنه كان يقرأ : فامضوا الى ذكر الله ، قال ولو كانت فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي !
  وأخرج عبدالرزاق والطبراني عن قتادة قال في حرف ابن مسعود فامضوا الى ذكر الله وهو كقوله إن سعيكم لشتى .
  وأخرج عبد بن حميد من طريق أبي العالية عن أبي بن كعب وابن مسعود أنهما كانا يقرآن : فامضوا الى ذكر الله .
  وأخرج ابن المنذر عن عبدالله بن الزبير أنه كان يقرؤها فامضوا الى ذكر الله .
  وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله فاسعوا الى ذكر الله قال : فامضوا .
  وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن أنه سئل عن قوله فاسعوا الى ذكر الله قال : ما هو بالسعي على الأقدام ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ، ولكن بالقلوب والنية والخشوع .

تدوين القرآن _ 80 _
  وأخرج عبد بن حميد والبيهقي في شعب الإيمان عن قتادة في قوله فاسعوا الى ذكر الله قال : السعي أن تسعى بقلبك وعملك وهو المضي إليها ، قال الله فلما بلغ معه السعي قال لما مشى مع أبيه .
  وأخرج عبد بن حميد عن ثابت قال كنا مع أنس بن مالك يوم الجمعة فسمع النداء بالصلاة فقال قم لنسعى إليها .
  وأخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن عطاء في قوله فاسعوا الى ذكر الله قال : الذهاب والمشي .
  وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد في الآية قال : إنما السعي العمل وليس السعي على الأقدام .
  وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن محمد بن كعب قال : السعي العمل.
  وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس وعكرمة مثله .
  وروى في كنز العمال عدداً من هذه الروايات ج 2 ص 591 تحت الأرقام : 48087 و 4809 و4821 و4822 وقال ابن جزي في كتاب التسهيل ج 2 ص 445 ( قرأ عمر : وامضوا الى ذكر الله ) انتهى ... ويطول الأمر لو أردنا استعراض بقية المصادر ... والحمد لله أن أحداً من المسلمين لم يطع الخليفة في تحريف هذه الآية ، حتى أشد المتعصبين له .
  ومن المؤكد أن الخليفة كان مصراً عليها حتى توفي فقد كتبها في مصحفه ، وبما أن مصحفنا الذي كتبه الخليفة عثمان فيه ( فاسعوا ) فهو دليل على أنه لم ينسخه من مصحف الخليفة عمر ، والحمد لله .
  2 ـ عظاماً ناخرة
  قال الله تعالى في الآيتين الحادية عشرة والثانية من سورة النازعات : أإذا كنا عظاماً نخرة ، قالوا تلك إذن كرة خاسرة ، والموجود في القرآن هو ( نخرة ) فلو أن أحداً في عصرنا قرأها ( ناخرة ) بالألف بحجة أنه يريد أن تتناسب أواخر الآيات ، أو بحجة أن جنابه تعود على لفظ ناخرة واستحسنه ... فماذا يقول عنه إخواننا السنة ؟ نقول له جميعاً : إن القرآن نص منزل من عند الله تعالى ، ولا يجوز لك أن تغير في كلام الله تعالى من عندك ، فلا جبرئيل ينزل عليك ، ولا أنت مفوض من الله تعالى بهذا العمل !!
  هذا هو الموقف الطبيعي الصحيح من القراءات الذوقية التي نجدها تملأ كتب التفسير ، والتي فتح بابها الخليفة عمر ، فقرأ ( فامضوا الى ذكر الله ) كما تقدم وشجع عليها بعض الصحابة وكتبها في مصاحفهم ، وفتح بذلك الباب لهم وللتابعين أن يقرأ كل منهم كلمات القرآن باجتهاده وذوقه وسليقته !!

تدوين القرآن _ 81 _
  قال السيوطي في الدر المنثور ج 6 ص 312 ( وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن عمر بن الخطاب أنه كان يقرأ : أئذا كنا عظاماً ناخرة ، بألف .
  وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود أنه كان يقرأ : ناخرة بالألف .
  وأخرج الطبراني عن ابن عمر أنه كان يقرأ هذا الحرف أئذا كنا عظاماً ناخرة .
  وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن مجاهد قال سمعت ابن الزبير يقرؤها : عظاماً ناخرة فذكرت ذلك لابن عباس فقال : أو ليس كذلك ؟
  وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر من طرق عن ابن عباس أنه كان يقرأ التي في النازعات : ناخرة بالألف وقال بالية .
  وأخرج عبد بن حميد عن محمد بن كعب القرظي وعكرمة وإبراهيم النخعي أنهم كانوا يقرؤون : ناخرة بالألف .
  وأخرج الفراء عن ابن الزبير أنه قال على المنبر ما بال صبيان يقرؤن : نخرة إنما هي ناخرة .
  وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك : عظاماً ناخرة ، قال بالية .
  وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال الناخرة العظم يبلى فتدخل الريح فيه ) .
  وروى الهيثمي في مجمع الزوائد ج 7 ص 133 ( عن ابن عمر أنه كان يقرأ هذا الحرف : أئذا كنا عظاماً ناخرة ، رواه الطبراني من طريق زيد بن معاوية عن ابن عمر ولم أعرفه ، وبقية رجاله رجال الصحيح ) انتهى .
  وروى في كنز العمال ج 2 ص 591 ( عن عمر أنه كان يقرأ : إذا كنا عظاماً ناخرة ، بألف ـ ص وعبد بن حميد ) .
  وقال الطوسي في التبيان ج 10 ص 251 ( قرأ أهل الكوفة إلا حفصاً ( عظاماً ناخرة ) بألف ، والباقون ( نخرة ) بلا ألف ، من قرأ ( ناخرة ) اتبع رؤوس الآي نحو ( الساهرة ، والحافرة ) ومن قرأ نخرة بلا ألف قال لأنه الأكثر في كلام العرب ، ولما روي عن علي (ع) أنه قرأ ( نخرة ) وقال النحويون : هما لغتان مثل باخل وبخل ، وطامع وطمع ، وقال الفراء : النخرة البالية والناخرة المجوفة ) .
  وقال في ص 255 ( والنخرة البالية بما حدث فيها من التغيير واختلال البنية ، جذع نخر إذا كان بهذه الصفة ، وإذا لم تختل بنيته لم يكن نخراً وإن بلي بالوهن والضعف ، وقيل ناخرة مجوفة تنخر الرياح فيها بالمرور في جوفها ، وقيل : ناخرة ونخرة سواء مثل ناخل ونخل ، ونخرة أوضح في المعنى ، وناخرة أشكل برؤس الآي ) انتهى .
  وقال الطريحي في مجمع البحرين ج 4 ص 284 ( قال الشيخ أبو علي : قرأ أهل الكوفة ويعني أكثرهم ، عظاماً ناخرة بالألف ، ثم قال : ناخرة ونخرة لغتان ، وقال الفراء النخرة البالية والناخرة المجوفة ، وقال الزجاج : ناخرة أكثر وأجود لأجل مراعاة أواخر الآي ، مثل الخاسرة والحافرة ، والمنخر كمجلس وكسر الميم للإتباع كمنبر لغة ، والمنخران : ثقبا الأنف ، وفي حديث العابد : فنخر إبليس نخرة واحدة فاجتمع إليه جنوده ، من النخير وهو صوت الأنف ، يقال نخر ينخر من باب قتل ، إذا مد النفس في الخياشيم ، والجمع مناخر ) انتهى .

تدوين القرآن _ 82 _
  نفهم من هذه الروايات أن الخليفة عمر كان يجيز لنفسه وللصحابة الإجتهاد في نص القرآن الكريم ... وكأن المسألة أن أحداً كتب نصاً وأبقى المجال مفتوحاً للقراء لإجراء بعض التحسينات عليه والإجتهادات فيه ... فهل أن نص القرآن الكريم كذلك ؟! إن ملاك الخليفة في اختيار كلمة نخرة أو ناخرة هو الأنسب لقوافي الآيات ، أو للمألوف من الكلمات ... هكذا وبكل بساطة وجرأة ... وكأنه أحاط بعلم الله في اختيار ألفاظ كتابه أو حصل منه على تفويض ... ! ثم يجب على العباد أن يقبلوا قراءته ويتعبدوا بها ، ويعتقدوا أنها الكلمة التي أنزلها الله تعالى !
  قد يقول قائل : لا فرق يذكر بين قراءة نخرة بدون ألف أو بألف ، فالأمر سهل ، ولا يصح أن نعطي المسألة أكثر من حجمها !
  ولكن الأمر ليس سهلاً والفرق ليس قليلاً ، سواء في ألفاظ القرآن أوفي معانيه ... لأن بناء القرآن بناء خاص لا يشبهه بناء كلام البشر ، والحرف الواحد منه له دوره بل أدواره في موضعه وفي مجموع القرآن ، بل في عوالم وجود القرآن وتأثيراتها في الوجود ... فالقول بعدم تأثير زيادة حرف أو نقصه قول سطحي يصدر عمن لم يستوعب خطورة البناء اللفظي للقرآن وكونية هذا البناء ... !
  والكلام نفسه يصح في زيادة شئ في المعنى القرآني أو نقصه ، أو إحداث أدنى تغيير فيه !
  فمن يدري لعل الله تعالى يريد الخروج عن قافية الآيات بكلمة نخرة ؟ ثم من يدري ما هو بالضبط القول الذي يريد الله تعالى نقله عن المشركين المستبعدين لبعث العظام البالية ... هل قولهم النخرة أو الناخرة ... ؟
  إن مقولة عدم الفرق بين هذه اللفظة وتلك مقولة سطحية ، فالترادف الكامل من كل الجهات إن كان موجوداً في اللغة العربية فهو غير موجود في ألفاظ القرآن ، والفرق بين الناخرة والنخرة هنا قد يكون من عشرين وجهاً ... وقد يكون أولها التغيرات الفيزيائية التي تحدث على العظام حتى تكون نخرة بالية ، أو حتى تكون ناخرة مجوفة ولو لم يكمل بلاها ... !
  فمن أين يدري الخليفة أن الله تعالى اختار أن ينقل عن المشركين استبعادهم لإحياء العظام البالية تماماً ، أو البالية نصف بلى ، أو البالية الى حد التجويف فقط ، أو البالية مطلقاً مجوفة كانت أو غير مجوفة ... ؟! الى آخر الاحتمالات في المسألة ... إن ما يبدو لنا بسيطاً هو كبير في البناء القرآني ... فهل يصح مثلاً أن نقول : إن المنزل والبيت والمسكن كلمات مترادفة ، فيجوز أن نبادل مواضعها في القرآن ... ؟ كلا ، ثم كلا ... فإن الزاوية والأبعاد التي يريدها الله تعالى من الكلمة لها موضعها ودورها الذي لا يؤديه مرادفها ! وحروفها لها أدوارها أيضاً ... ونَغَمَهَا ... إلخ .
  ثم لو سلمنا أن اللفظين مترادفان من جميع الأبعاد ، وأن المعنى لا يتغير باختيار أحدهما أبداً ... فما هو المجوز الشرعي والأخلاقي لأحد أن يمد يده أو لسانه الى نصوص الآخرين ، فضلاً عن نصوص رب العالمين ؟!!

تدوين القرآن _ 83 _
  إنها نظرة الخليفة عمر المتساهلة الى نص القرآن والسنة ، وفي مقابلها نظرة أهل البيت (ع) ، الذين يرون وجوب التمسك بالنص والمحافظة عليه كما نزل ، وستعرف أن الخليفة عمر يرى التساهل في نص القرآن الى حد ... التعويم !
  3 ـ صراط من أنعمت عليهم ... وغير الضالين !
  قال السيوطي في الدر المنثور ج 1 ص 15 ( أخرج وكيع وأبو عبيد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي داود وابن الأنباري كلاهما في المصاحف من طرق عن عمر بن الخطاب أنه كان يقرأ : سراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين .
  وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد وابن أبي داود وابن الأنباري عن عبدالله بن الزبير قرأ : صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغيرالضالين ، في الصلاة .
  وأخرج ابن أبي داود عن ابراهيم قال كان عكرمة والأسود يقرآنها : صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين ) .
  وقال في ص 17 ( وأخرج ابن شاهين في السنة عن إسماعيل ابن مسلم قال في حرف أبي بن كعب غير المغضوب عليهم وغير الضالين ، آمين ، بسم الله ) .
  ورواه في كنز العمال ج 2 ص 593 ( عن عمر أنه كان يقرأ : سراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ـ وكيع وأبو عبيد ، ص ، وعبد بن حميد وابن المنذر ، وابن أبي داود ، وابن الأنباري معاً في المصاحف ) .
  ورواه البغوي في معالم التنزيل ج 1 ص 42 والراغب في محاضراته ج 2 ص 199 وابن جزي في التسهيل ... وغيرهم ... وغيرهم .
  ومن الواضح أن قراءة الخليفة عمر أسبق من قراءة عكرمة وابن الزبير ، وأنهما قلداه فيها .
  وإذا سألت نفسك لماذا يقرأ الخليفة هذه القراءة ، وهو يعرف أن المسلمين كلهم يقروؤن غيرها ... ؟ وهو يروي أن النبي قد أمره وأمر غيره من المسلمين أن يأخذوا القرآن من أشخاص معينين ويقرؤوه كما يقرؤونه ؟! فسوف لا تجد جواباً لهذا السؤال، إلا أن الخليفة استذوق أن ( يصحح ) في كلام الله تعالى أو يحسن في عبارته ! أو أن ذهنه ولسانه كانا قاصرين عن قراءة القرآن كما أنزل !
  لكن نحمد الله تعالى أن أحداً من المسلمين لم يطع الخليفة عمر في هذه التصحيحات أو التحسينات ، ولا في غيرها من قراءاته المستهجنة ... وبذلك يتجلى قوله تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون !
  4 ـ الحي القيَّام !
  قال البخاري في صحيحه ج 6 ص 72 ( سورة إنا أرسلنا ... دياراً من دور ، ولكنه فيعال من الدوران ، كما قرأ عمر : الحي القيام ، وهي من قمت ... ) ، ودافع عن الخليفة في ج 8 ص 184 فقال ( ... وقال مجاهد القيوم القائم على كل شئ ، وقرأ عمر القيام ، وكلاهما مدح ) انتهى .

تدوين القرآن _ 84 _
  ولكن المسألة هنا ليست في أن القيَّام هل هو مدح أو ذم حتى يقال إنه مدح لله تعالى مثل القيوم ، بل المسألة أن القيوم إسم من أسماء الله الحسنى ، وهو توقيفي لا يجوز فيه التغيير ! فهل يصح أن تقول : بسم الله الرحمن الراحم ، وتقول لا فرق كلاهما مدح ؟!
  وروى الحاكم في المستدرك ج 2 ص 287 ( ... عن يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب عن أبيه عن عمر رضي الله عنه أنه صلى بهم فقرأ : آلم الله لا إله إلا هو الحي القيام ) ووصف الحديث بأنه صحيح .
  وروى الهيثمي في مجمع الزوائد ج 7 ص 154 ( ... عن أبي خالد الكناني عن ابن مسعود أنه كان يقرؤها : الحي القيام ، رواه الطبراني ، وأبو خالد لم أعرفه ، وبقية رجاله ثقات ) .
  وروى السيوطي في الدر المنثور ج 2 ص 3 ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، وأخرج سعيد بن منصور والطبراني عن ابن مسعود أنه كان يقرؤها القيام ، وأخرج ابن جرير عن علقمة أنه قرأ الحي القيوم ) .
  وفي كنز العمال ج 2 ص 592 ( عبدالرحمن بن حاطب أن عمر صلى بهم العشاء الآخرة فاستفتح سورة آل عمران فقرأ : آلم الله لا إله إلا هو الحي القيام ـ أبو عبيد في الفضائل ص ، وعبد بن حميد وابن أبي داود وابن الأنباري معاً في المصاحف وابن المنذر ، ك ) .
  وقال الطوسي في التبيان ج 2 ص 388 ( ... وقرأ عمر بن الخطاب : الحي القيام وهي لغة أهل الحجاز ، ويقولون في الصواغ صياغ ، الباقون : قيوم ) وفي صحاح الجوهري ج 5 ص 2018 ( والقيوم : إسم من أسماء الله تعالى ، وقرأ عمر رضي الله عنه : الحي القيام ، وهو لغة ) انتهى .
  ولم تذكر بقية مصادر اللغة أن القيام لغة في القيوم ، ولكن لو تأكد ذلك فإن اسم الله تعالى هو القيوم وليس القيام ! وقد صرح الراغب في المفردات بأن القيام بناء آخر ، ولم يقل إنه لغة في القيوم ، قال في ص 417 ( وقوله : الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، أي القائم الحافظ لكل شئ والمعطي له ما به قوامه ، وذلك هو المعنى المذكور في قوله الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى ، وفي قوله أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ، وبناء قيوم فيعول ، وقيام فيعال نحو ديون وديان ) انتهى .
  وهناك نماذج أخرى متعددة نقلتها مصادر الحديث والتفسير من قراءات الخليفة عمر وكبار شخصيات الصحابة الذين يتعصب إخواننا السنة لرأيهم ، لا نطيل فيها الكلام ، مثل قراءة عمر : فأخذتهم الصعقة : قال السيوطي في الدر المنثور ج 2 ص 238 ( وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن عمر بن الخطاب أنه قرأ : فأخذتهم الصعقة ) .
  وإن كاد مكرهم : قال السيوطي في الدر المنثور ج 4 ص 89 ( وأخرج ابن الأنباري كان المصاحف عن عمر بن الخطاب أنه قرأ : وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال .
  يعني بالدال ) ورواه في كنز العمال ج 2 ص 596 ( عن أبي عبيد ص ، وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف ) .

تدوين القرآن _ 85 _
  يا فلان ما سلككم : قال السيوطي في الدر المنثور ج 6 ص 285 ( أخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد وعبدالله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي داود وابن الأنباري معاً في المصاحف وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمرو بن دينار قال : سمعت عبدالله بن الزبير يقرأ في جنات يتساءلون عن المجرمين يا فلان ما سلككم في سقر ، قال عمر وأخبرني لقيط قال سمعت ابن الزبير قال سمعت عمر بن الخطاب يقرؤها كذلك ) ورواه في كنز العمال ج 2 ص 594 عن ( عب ، وعبد بن حميد عم في زوائد الزهد وابن أبي داود وابن الأنباري معاً في المصاحف وابن المنذر وابن أبى حاتم ) .
  فتناه بالتشديد : قال البخاري في صحيحه ج 4 ص 135 ( قرأ عمر : فتناه بتشديد التاء فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب ) انتهى .
  ... الى آخر ما ورد من قراءات الخليفة الشاذة المخالفة لما أجمع عليه المسلمون ، أو ما هو مدون في المصاحف ! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ! محاولات تحريف فاشلة روت مصادر إخواننا السنة محاولتين مكشوفتين للخليفة عمر لتغيير آيتين ، إحداهما موجهة ضد الأنصار لمصلحة قريش ، والثانية موجهة ضد بني هاشم لمصلحة قريش ! وقد يكون ما لم تروه المصادر أكثر وأعظم !!
  1 ـ محاولة تغيير آية الأنصار
  قال الله تعالى : ( الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمْ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ـ التوبة 97 ـ 100 وقال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ * لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) ـ التوبة 116 ـ 117 وروى الحاكم في مستدركه ج 3 ص 305 ( عن أبي سلمة ومحمد بن ابراهيم التيمي قالا : مر عمر بن الخطاب برجل وهو يقول السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ... الى آخر الآية ، فوقف عليه عمر فقال إنصرف ، فلما انصرف قال له عمر : من أقرأك هذه الآية ؟ قال أقرأنيها أبي بن كعب ، فقال : انطلقوا بنا إليه فانطلقوا إليه فإذا هو متكئ على وسادة يرجل رأسه فسلم عليه فرد السلام فقال : يا أبا المنذر ، قال لبيك ، قال : أخبرني هذا أنك أقرأته هذه الآية ؟ قال صدق ، تلقيتها من رسول الله (ص) ، قال عمر : أنت تلقيتها من رسول الله (ص) ؟ ! قال : نعم أنا تلقيتها من رسول الله (ص) ، ثلاث مرات كل ذلك يقوله .
  وفي الثالثة وهو غضبان : نعم والله ، لقد أنزلها الله على جبريل وأنزلها جبريل على محمد فلم يستأمر فيها الخطاب ولا ابنه !! فخرج عمر وهو رافع يديه وهو يقول : ألله أكبر ألله أكبر !! ) .

تدوين القرآن _ 86 _
  ورواه في كنز العمال ج 2 ص 605 وقال ( أبو الشيخ في تفسيره ، ك ، قال الحافظ ابن حجر في الأطراف : صورته مرسل . قلت : له طريق آخر عن محمد بن كعب القرظي مثله أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ ، وآخر عن عمر بن عامر الأنصاري نحوه ، أخرجه أبو عبيد في فضائله ، وسنيد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه هكذا ، صححه ، ك ) انتهى .
  ولكن ابن شبة روى القصة في تاريخ المدينة ج 2 ص 707 بنحو آخر فقال ( حدثنا معاذ بن شبة بن عبيدة قال حدثني أبيّ عن أبيه عن الحسن : قرأ عمر رضي الله عنه ( والسابقون الأولون من المهاجرين الذين اتبعوهم بإحسان ، ( بدون واو ) فقال أبي والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، فقال عمر رضي الله عنه : والسابقون الأولون من المهاجرين الذين اتبعوهم بإحسان ، وقال عمر رضي الله عنه : أشهد أن الله أنزلها هكذا ، فقال أبي رضي الله عنه : أشهد أن الله أنزلها هكذا ، ولم يؤامر فيها الخطاب ولا ابنه ! ) ، وقال في هامشه : في منتخب كنز العمال 2 : 55 عن عمرو بن عامر الأنصاري أن عمر بن الخطاب قرأ : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين ... ورد في نفس المرجع 2 : 56 عن أبي سلمة ومحمد بن ابراهيم التيمي قالا ... وروى رواية الحاكم المتقدمة ، ثم قال : وانظر تفسير ابن كثير 4 : 228 ) انتهى .
  وروى في كنز العمال ج 2 ص 597 ( عن عمرو بن عامر الأنصاري أن عمر بن الخطاب قرأ : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان ، فرفع الأنصار ولم يلحق الواو في الذين ، فقال زيد : والذين اتبعوهم بإحسان ، فقال عمر : الذين اتبعوهم بإحسان ، فقال زيد : أمير المؤمنين أعلم !! فقال عمر : ائتوني بأبي بن كعب ، فسأله عن ذلك ؟ فقال أبي : والذين اتبعوهم بإحسان ، فجعل كل واحد منهما يشير الى أنف صاحبه بإصبعه ، فقال أبي : والله أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تتبع الخبط ، فقال عمر : نعم إذن ، فنعم إذن فنعم إذن ، نتابع أبياً ـ أبوعبيد في فضائله ، وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه ، وقال في هامشه : الخبط بفتح الخاء والباء ـ الورق ينفض بالمخابط ويجفف ويطحن ) انتهى .
  وقال السيوطي في الدر المنثور ج 3 ص 269 ( قوله تعالى : والسابقون الأولون ... الآية ، أخرج أبوعبيد وسنيد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن حبيب الشهيد عن عمرو بن عامر الأنصاري أن عمر بن الخطاب قرأ : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان ، فرفع الأنصار ولم يلحق الواو في الذين ! فقال له زيد بن ثابت : والذين ، فقال عمر الذين ؟ فقال زيد أمير المؤمنين أعلم ! فقال عمر رضي الله عنه : إئتوني بأبي بن كعب ، فأتاه فسأله عن ذلك فقال أبي : والذين ، فقال عمر رضي الله عنه : فنعم إذن نتابع أبياً ، ( وقد حذفت منه المشادة بينهما كما رأيت !
  ثم قال السيوطي : وأخرج ابن جرير وأبوالشيخ عن محمد بن كعب القرظي قال مر عمر رضي الله عنه برجل يقرأ : السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، فأخذ عمر بيده فقال : من أقرأك هذا ؟ قال أبي بن كعب ، قال : لا تفارقني حتى أذهب بك إليه ، فلما جاءه قال عمر : أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا ؟ قال نعم ، قال وسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال نعم ، قال : لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا !! فقال أبيٌّ : تصديق ذلك في أول سورة الجمعة وآخرين منهم لما يلحقوا بهم .
  وفي سورة الحشر والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالايمان وفي الأنفال والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم .

تدوين القرآن _ 87 _
  وأخرج أبو الشيخ عن أبا أسامة ومحمد بن إبراهيم التيمي قالا : مر عمر بن الخطاب برجل وهو يقرأ والسابقون الأولون ... وأورد رواية الحاكم ) انتهى .
  نفهم من هذه الروايات الصحيحة بمقاييس إخواننا ، أن الخليفة يرى أن قريشاً فوق الجميع ، ولا يجوز أن يساوى بها أحد ( لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا ) وكان يرى أن وجود الواو في الآية يجعل الأنصار على قدم المساواة مع المهاجرين ، فالحل أن تقرأ الآية المئة من سورة التوبة ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان ... ) فترفع كلمة الأنصار وتحذف الواو بعدها وتكون جملة ( الذين اتبعوهم ) صفة للأنصار ، ليكون المعنى : أن الله رضي عن المهاجرين وعن أتباعهم من الأنصار !!
  وقد أثار هذا التحريف حفيظة الأنصار ولا شك ، لأنه الله تعالى جعلهم على قدم المساواة مع المهاجرين وإن ذكر اسمهم بعدهم ... ويريد الخليفة عمر أن يجعلهم تابعين لهم !!
  أما زيد بن ثابت ( الأنصاري ) فقد سلم للخليفة ( فقال له زيد بن ثابت : والذين ، فقال عمر : الذين ؟ فقال زيد : أمير المؤمنين أعلم ! ) ولو وقف زيد في وجه الخليفة ولم يخف من سطوته ، لربح المعركة لأن كل الأنصار سيقفون الى جانبه ، وسيؤيدهم أهل البيت (ع) ، وعدد من المسلمين الذين لا يسمحون للخليفة أن يحرف آية من كتاب الله تعالى !! ولكن زيداً صغير السن ضعيف الشخصية ، وقد وبخه أبي بن كعب يوماً بأنه نشأ مع صبيان اليهود وكان يلعب معهم ، وقد يكون منزله في محلتهم ، فقد تعلم العبرية منهم ! بل قد يكون أبوه يهودياً وأمه أنصارية ، فقد قال ابن شبة في تاريخ المدينة ج 3 ص 1008 ( حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن ابن إسحاق ، عن أبي الأسود ـ أو غيره ـ قال : قيل لعبد الله ألا تقرأ على قراءة زيد ؟ قال : مالي ولزيد ولقراءة زيد ، لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة ، وإن زيد بن ثابت ليهودي له ذؤابتان ) !! وسيأتي بحث نسبه في فصل جمع القرآن إن شاء الله تعالى .
  أما أبي بن كعب فمع أنه يخاف سطوة الخليفة عمر ويداريه كثيراً ... لكنه أكبر سناً من عمر ويرى أنه من صحابة النبي المقربين ، وحافظ القرآن ، ولذا سجلت له الروايات مواقف في مقابل الخليفة ومنها هذا الموقف في هذه المسألة التي تمس كيان الأنصار !
  وقد يحاول البعض الدفاع عن الخليفة بأن المسألة منه مجرد اشتباه ، وقد رجع عنه عندما شهد له ابن كعب !
  ولكن منطق التغيير الذي أراده الخليفة في الآية ، ومنطق وجود المهاجرين في مدينة الأنصار ، ومواقف الخليفة من الأنصار في حياة النبي (ص) ، وفي السقيفة وبعدها ، وتأكيده وشهادته أن الآية نزلت بدون واو ... كلها تدل على أن المسألة كانت جدية وحامية ، وأن أبياً كان يتكلم وهو مسنود بإجماع الأنصار واستعدادهم للدفاع عن هذا الإمتياز الذي منحهم إياه الله تعالىحتى لو احتاج الأمر الى السلاح ، كما تذكر بعض المصادر !
  والذي يهمنا هنا ليس سياسة الخليفة عمر مع الأنصار ، وإنما شهادته بأن الآية نزلت بدون واو ، وأن الله مدح الأنصار فيها بأنهم تابعون للمهاجرين !! قال عمر ( أشهد أن الله أنزلها هكذا ـ ابن شبة ـ ج 2 ص 707 ) فإذا كان قوله هذا اجتهاداً من عنده ، لأن مكانة قريش برأيه عند الله أعلى من مكانة الأنصار ... فوا مصيبتاه من هذه الجرأة على تحريف آية من كتاب الله !! وإن كان صادقاً ، فلماذا تراجع بمجرد شهادة أبي بن كعب وتأكيده ؟! فقول أبي شهادة في مقابل شهادة ، والشهادتان المتعارضتان تتكافآن وتتساقطان ، ويجب الرجوع الى شهادات الصحابة ... فلماذا لم يسأل عمر عدداً من المهاجرين والأنصار عن الآية التي نزلت بالأمس قبل وفاة النبي (ص) بشهور ! وكيف خضع لشهادة أبي بن كعب ؟ ثم كيف أمر بكتابتها في القرآن كما قال ابن كعب ولم يطلب حتى شاهداً آخر معه عليها ؟!
  مهما يكن من أمر ، فلولا موقف أبي بن كعب لقام الخليفة بتغيير آية في كتاب الله تعالى ، بضربة فنية وحذف واو واحدة ! ولكن الله تعالى حفظ كتابه ، وهو القائل : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون !

تدوين القرآن _ 88 _
  2 ـ محاولة تحريف آية نزلت في علي آية : ومن عنده علم الكتاب في القرآن الكريم عدة تعبيرات عن العلم بالكتاب الإلهي ... منها تعبير : إيتاء الكتاب ، ويستعمل بمعنى الإيتاء العام للأمم ، حتى لأولئك الذين انحرفوا عن الكتاب الإلهي وضيعوه ولم يعرفوا منه إلا أماني ... قال الله تعالى : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) ـ آل عمران 19 ويستعمل بمعنى الإيتاء الخاص للأنبياء وأوصيائهم ، قال تعالى : ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ) ـ الأنعام 90 ومنها تعبير : توريث الكتاب ، ويستعمل أيضاً بمعنى عام وخاص ، وقد اجتمعا في قوله تعالى : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) ـ فاطر 32 ومنها تعبير : الراسخون في العلم ، قال تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) ـ آل عمران 7 ومنها تعبير : الذي عنده علم من الكتاب ، قال تعالى : ( قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) ـ النمل 38 ـ 40 ومنها تعبير : الذي عنده علم الكتاب ، قال تعالى : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ * وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ) .
  ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ * وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) ـ الرعد ـ 43 وقد وردت الروايات الصحيحة عندنا أن الراسخين في العلم ، والذين عندهم علم الكتاب ، هم بعد النبي أهل بيته (ص) .
  ويدل عليه قول النبي (ص) : إني أوشك إن أدعى فأجيب وإني تارك فيكم الثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض وعترتي أهل بيتي وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروني بم تخلفوني فيهما ، الذي رواه أحمد في مسنده ج 3 ص 17 وغيره ، وغيره ... بأسانيد صحيحة عند إخواننا ، فإنه لا معنى لإخبار الله تعالى لرسوله أنهما لن يفترقا الى يوم القيامة ، إلا أنه سيكون منهم إمام في كل عصر ، وأن علم الكتاب عنده ، فيكون أفضل من وزير سليمان ووصيه آصف بن برخيا الذي عنده علم من الكتاب .

تدوين القرآن _ 89 _
  وبما أن نص الآية الموجود في القرآن ( وَمَنْ عِنْدَهُ علم الكتاب ) فتكون من موصولة بمعنى الذي ... لكن يطالعك في مصادر إخواننا أن الخليفة عمر حاول إبعاد الآية عن علي (ع) فقرأها ( وَمِنْ عِنْدِهِ ) فكسر مَنْ وكسر عِنْدَه ! وأراد بهاتين الكسرتين أن يغير معنى الآية من أساسه ليصير : قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عند الله علم الكتاب ، وهذه القراءة لا معنى لها لأنها تقطع الربط بين الفقرتين ، وتجعل مِنْ عنده ابتداء بجملة جديدة بعيدة عن الموضوع ، مع أن الآية آخر آية في سورة الرعد ! والعجيب أن عمر نسب ذلك الى النبي (ص) !!
  قال السيوطي في الدر المنثور ج 4 ص 69 ( وأخرج تمام في فوائده وابن مردويه عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ ومن عنده علم الكتاب ، قال : من عند الله علم الكتاب ) .
  وفي كنز العمال ج 2 ص 593 ( عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : ( وَمِنْ عِنْدِهِ عِلمُ الكتاب ) ـ قط في الافراد وتمام وابن مردويه ) .
  وفي ج 12 ص 589 ( عن ابن عمر قال : قال عمر وذكر إسلامه فذكر أنه حيث أتى الدار ليسلم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ : ومن عنده علم الكتاب ـ ابن مردويه ).
  وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ج 7 ص 155 ( وعن ابن عمر قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وَمِنْ عِنْدِهِ عِلمُ الكتاب ) ـ رواه أبو يعلى وفيه سليمان بن أرقم وهو متروك ) انتهى .
  والحمد لله أن إخواننا السنة لم يطيعوا هذه الروايات ، فالموجود في مصحف الجميع ( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكتاب ) !
  وبعد فشل محاولة قراءة ( وَمِنْ عِنْدِهِ ) بكسر ( مِن ) يبقى السؤال عن هذا الذي جعله الله شاهداً في الأمة على نبوة النبي (ص) ؟
  أما أهل البيت وشيعتهم فقد رووا أن هذا الشاهد عليٌّ (ع) ... قال الحويزي في تفسير نور الثقلين ج 2 ص 523 ( في أمالي الصدوق رحمه الله بإسناده الى أبي سعيد الخدري قال : سألت رسول الله (ص) عن قول الله جل ثناؤه قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ؟ قال : ذاك أخي علي بن أبي طالب ) .
  وقال العياشي في تفسيره ج 2 ص 220 ( عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر (ع) في قوله ومن عنده علم الكتاب ، قال : نزلت في علي (ع) ، إنه عالم هذه الأمة بعد النبي صلوات الله عليه وآله .
  عن بريد بن معاوية العجلي قال : قلت لأبي جعفر (ع) قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب قال : إيانا عني ، وعليٌّ أفضلنا وأولنا وخيرنا بعد النبي (ص) .
  عن عبدالله بن عطاء قال : قلت لأبي جعفر (ع) : هذا ابن عبدالله بن سلام يزعم أن أباه الذي يقول الله قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب قال : كذب ... هو علي بن أبي طالب !
  عن عبدالله بن عجلان عن أبي جعفر (ع) قال : سألته عن قوله قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ، فقال : نزلت في علي بعد رسول الله (ص) وفي الأئمة بعده ، وعلي عنده علم الكتاب ) انتهى .

تدوين القرآن _ 90 _
  وقال علي بن إبراهيم القمي في تفسيره ج 1 ص 367 ( ... فإنه حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن ابن أذينة عن أبي عبدالله (ع) قال : الذي عنده علم الكتاب هو أمير المؤمنين (ع) ، وسئل عن الذي عنده علم من الكتاب أعلم أم الذي عنده علم الكتاب ؟ فقال : ما كان علم الذي عنده علم من الكتاب عند الذي عنده علم الكتاب إلا بقدر ما تأخذ البعوضة بجناحها من ماء البحر ... فقال أمير المؤمنين (ع) : ألا إن العلم الذي هبط به آدم من السماء الى الأرض وجميع ما فضلت به النبيون الى خاتم النبيين في عترة خاتم النبيين (ص) ) انتهى ، ولا نطيل بإيراد الروايات الدالة على ذلك من مصادرنا .
  أما مفسروا إخواننا السنة فمنهم من تحير في تفسيرها ، ومنهم من فسرها برجل يهودي أسلم ! وكأن المهم عندهم إبعاد الآية عن علي ولو بتلبيسها ليهودي ، ولو لزم منها أن لا يكون في الأمة الإسلامية شخص عنده علم القرآن !!
  قال السيوطي في الدر المنثور ج 4 ص 69 ( قوله تعالى ويقول الذين كفروا ... الآية ، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقف من اليمن فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تجدني في الإنجيل رسولاً ؟ قال لا ، فأنزل الله قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب يقول عبدالله بن سلام ! ) انتهى .
  وحادثة أسقف اليمن كانت في المدينة ، لكن واضع الحديث لم يلتفت الى أن الآية نزلت في مكة قبل الهجرة !
  ثم قال السيوطي ( وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق عبدالملك بن عمير أن محمد بن يوسف بن عبدالله بن سلام قال قال عبدالله بن سلام : قد أنزل الله فيَّ القرآن : قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب !
  وأخرج ابن مردويه من طريق عبد الملك بن عمير عن جندب رضي الله عنه قال جاء عبد الله بن سلام رضي الله عنه حتى أخذ بعضادتي باب المسجد ثم قال أنشدكم بالله أتعلمون أني أنا الذي أنزلت فيه ومن عنده علم الكتاب ؟ قالوا اللهم نعم !
  وأخرج ابن مردويه من طريق عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عبدالله بن سلام رضي الله عنه أنه لقي الذين أرادوا قتل عثمان رضي الله عنه فناشدهم بالله فيمن تعلمون نزل قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عند علم الكتاب ؟ قالوا فيك .
  وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد رضي الله عنه أنه كان يقرأ ومن عنده علم الكتاب ، قال هو عبدالله بن سلام ) انتهى .
  ثم روى السيوطي روايتين تكذبان أن يكون المقصود بالآية ابن سلام ، قال ( وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه عن سعيد بن جبير رضي الله عنه أنه سئل عن قوله ومن عنده علم الكتاب أهو عبد الله بن سلام رضي الله عنه ؟ قال وكيف وهذه السورة مكية ؟! )
  وأخرج ابن المنذر عن الشعبي رضي الله عنه قال : ما نزل في عبدالله ابن سلام رضي الله عنه شئ من القرآن ) !

تدوين القرآن _ 91 _
  ثم روى تفسيراً آخر وسع فيه من عنده علم الكتاب ليشمل عدة أشخاص مع ابن سلام ، قال ( وأخرج عبدالرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه في الآية قال كان من أهل الكتاب قوم يشهدون بالحق ويعرفونه منهم عبدالله بن سلام والجارود وتميم الداري وسلمان الفارسي ) .
  ثم روى تفسيراً آخر جعل الشهداء على الأمة الإسلامية كل أهل الكتاب ! ـ الذين يشهدون ضدها ! قال ( وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما ومن عنده علم الكتاب قال هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ! ) .
  وتفسيراً آخر جعله جبرئيل ، قال ( وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير رضي الله عنه في قوله ومن عنده علم الكتاب قال : جبريل ) .
  وتفسيراً آخر جعله الله عز وجل ، قال ( وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه ومن عنده علم الكتاب قال : هو الله عز وجل ) .
  أما الطبري فخلاصة ما قاله في تفسيره ج 7 ص 118 أن في الآية قراءتين ، قراءة بالفتح فتكون من إسماً موصولاً ، وعليه فسروها بابن سلام واليهود والنصارى ، وروى في ذلك روايات ، ومن طريف ما رواه فيما بينها ( ... عن أبي صالح في قوله وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكتاب قال رجل من الإنس ولم يسمه ) وكأن أبا صالح خاف أن يقول إنه علي (ع) !
  ثم ذكر الطبري أن في الآية قراءة بالكسر وأنه كان يقرؤها المتقدمون ، وكأنها عاشت مدة بعد عمر ثم تلاشت ! ثم روى روايات هذه القراءة عن مجاهد والحسن البصري وشعبة وقتادة وهارون والضحاك بن مزاحم ... وكلهم يبغضون علياً ... ! ثم قال ( وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر بتصحيح هذه القراءة وهذا التأويل غير أن في إسناده نظراً ، وذلك ما حدثنا القاسم قال ثنا الحسين قال ثنى عباد بن العوام عن هرون الأعور عن الزهري عن سالم بن عبدالله عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ وَمِنْ عِنْدِهِ عِلم الكتاب ، عند الله علم الكتاب ، وهذا خبر ليس له أصل عند الثقات من أصحاب الزهري ، فإذا كان ذلك كذلك وكانت قراء الأمصار من أهل الحجاز والشام والعراق على القراءة الأخرى وهي وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكتاب كان التأويل الذي على المعنى الذي عليه قراء الأمصار أولى بالصواب ممن خالفه ، إذ كانت القراءة بما هم عليه مجمعون أحق بالصواب ) انتهى .
  يقصد الطبري أن قراءة الفتح على الموصولية أصح من قراءة الجر ، وقراءة قراء الأمصار أصح من قراءة الخليفة عمر ومن تبعه من كبار القراء والمفسرين القدماء ... والخبر الذي نفاه الطبري وقال لا أصل له عند الثقات من أصحاب الزهري هو الخبر المروي عن الخليفة عمر ، ولكن رواية القراءة بالكسر عن عمر ليست محصورة بطريق الزهري ، مع أنه يكفي أن أول من اخترع الكسر في الآية هو رواية الخليفة عمر !
  أما الفخر الرازي فقد عجز عن تفسير الآية أو هرب من معركتها ! فاكتفى في تفسيره ج 19 ص 69 بذكر الأقوال في تفسيرها بناء على قراءة الفتح وبناء على قراءة الكسر ، ولم يستطع ترجيح أي قول منها ، فقال ( والله تعالى أعلم بالصواب ) .

تدوين القرآن _ 92 _
  وهكذا فرض مفسروا إخواننا السنة أن المقصود بالكتاب في الآية التوراة والإنجيل ، ودارت أقوالهم بين أن يكون الذي عنده علم الكتاب عبدالله بن سلام أو غيره من أمثاله ! وتركز جهدهم على إبعاد ( الكتاب ) عن القرآن !
  وإن سألتهم : حسناً هذا عن علم التوراة والإنجيل ، فأين الذي عنده علم القرآن ؟ لقالوا : لا يوجد بعد النبي عند أحد ! أو يوجد عند الأمة كلها ! أو يوجد عند فلان وفلان الصحابي الذي يتحير في قراءة آية ، وفي معنى مفرداتها !
  وهكذا استطاعت السياسة المعادية لأهل بيت النبي (ص) أن تشوش معنى الآية في مصادر التفسير ، وتحول البحث فيها من معرفة المقصود بقوله تعالى وَمَنْ عِنْدَهُ عِلمُ الكتاب الى البحث في ( من ) وهل هي موصولة أو جارة ، فإن كانت جارة كما يرى الخليفة عمر فالمقصود الله تعالى ويكون معنى الآية قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ، وبالله !! وإن كانت موصولة كما اختاره الطبري فالمقصود بها عبد الله بن سلام ، فهو الشاهد الذي ارتضاه الله تعالى شاهداً على الأمة الإسلامية والعالم !! ولك الله يا علي بن أبي طالب !
  وعندما نرجع الى حياة عبدالله بن سلام الذي ادعوا أنه الشاهد الرباني على الأمة ، نجد أن تعصبه اليهودي لا يجعله أهلاً لهذه المسؤولية الضخمة ، فقد روى الذهبي عنه أنه استجاز النبي (ص) في أن يقرأ القرآن ليلة والتوراة ليلة ... فأجازه النبي (ص) !!
  قال في تذكرة الحفاظ ج 1 ص 27 ( ... عن يوسف بن عبدالله بن سلام عن أبيه أنه جاء الى النبي (ص) فقال إني قرأت القرآن والتوراة ، فقال : إقرأ هذا ليلة وهذا ليلة ! فهذا إن صح ففيه الرخصة في تكرير التوراة وتدبرها !! اتفقوا على موت ابن سلام في سنة ثلاث وأربعين بالمدينة رضي الله عنه ) انتهى .
  وإذا جاز ذلك عند الذهبي فينبغي عملاً بفتواه أن توزع نسخ التوراة على المسلمين أو يطبعوها مع القرآن !!
  ومنها ما رواه الهيثمي من أن عبدالله بن سلام وأولاده كانوا من مرتزقة بني أمية ، قال في مجمع الزوائد ج 9 ص 92 ( وعن عبد الملك بن عمير أن محمد بن يوسف بن عبدالله بن سلام استأذن على الحجاج بن يوسف فأذن له فدخل وسلم وأمر رجلين مما يلي السرير أن يوسعا له فأوسعا له فجلس ، فقال له الحجاج : لله أبوك أتعلم حديثاً حدثه أبوك عبد الملك بن مروان عن جدك عبدالله بن سلام ؟ قال فأي حديث رحمك الله ؟ قال حديث المصريين حين حصروا عثمان ، قال قد علمت ذلك الحديث ، أقبل عبدالله بن سلام وعثمان محصور فانطلق فدخل عليه فوسعوا له حتى دخل فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين ، فقال وعليك السلام ما جاء بك يا عبدالله بن سلام ؟ قال جئت لأثبت حتى استشهد أو يفتح الله لك ... في حديث طويل قال في آخره : رواه الطبراني ورجاله ثقات ) انتهى .

تدوين القرآن _ 93 _
  ونعرف من النص التالي أنه كان يوجد اتجاه لتكبير ابن سلام حتى جعلوه بدرياً ! قال في هامش تهذيب الكمال ج 15 ص 75 ( وقال ابن حجر : ذكره أبو عروبة في البدريين وانفرد بذلك ، وأما ابن سعد فذكره في الطبقة الثالثة ممن شهد الخندق وما بعدها ، والله أعلم ـ تهذيب التهذيب : 5 ـ 249 ) .
  وينبغي أن نشير هنا الى أن مصادر الشيعة تروي أن عدة آيات نزلت في علي (ع) ، وأن إخواننا السنة يروون في بعضها نفس روايات الشيعة ، ولكنهم يخلطونها بروايات وتفاسير أخرى تشوش الموضوع وتبعد الآية عن علي (ع) ... ونذكر فيما يلي منها آية ويتلوه شاهد منه ، لأنها تكشف عن الشاهد في قوله تعالي ( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) .
  قال الله تعالى ( فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ) سورة هود ـ 12 ـ 17 وقد أوردنا الآية مع سياقها ليتضح أن من معجزات القرآن ذكر الأحزاب المكذبة للنبي قبل ظهورها ، وذكر الشاهد على الأمة بعد نبيها ... فإن سورة هود نزلت بعد عشر سور من القرآن فقط كما ذكر المفسرون .
  وهذه الآيات تسلي النبي (ص) أمام استهزاء المشركين وسخريتهم وأقوالهم بأن محمداً يدعي النبوة وليس له مال وليس معه ملك يصدقه ويشهد له ... فيقول الله تعالى لنبيه : ألا يكفيهم هذا القرآن الذي أنزل عليك ؟ ! فادعوهم أن يأتوا بعشر سور مثله ، فإن لم يستطيعوا ذلك مع أن تأليف الكلام من أسهل الأمور عليهم وفيهم المتمكنون من أنواعه وفنونه !
  فادعوهم الى الإيمان بالله الذي أنزله ، فإن لم يستجيبوا فاعلموا أنهم مكابرون يريدون الحياة الدنيا ثم مأواهم النار ... ثم أجرى الله تعالى مقايسة بين النبي الفقير وأتباعه القلائل وبين الأحزاب المكذبة الصادة عن سبيل الله ، فقال أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ... الى آخر الآية ، فالذي على بينة من ربه هو النبي (ص) والذين آمنوا معه ، أولئك يؤمنون ... ولكن من هو هذا الشاهد الذي وعد الله تعالى بأنه يتلو نبيه ؟!

تدوين القرآن _ 94 _
  إذا رجعت الى مصادر الحديث والتفسير عند شيعة أهل البيت(ع) ، تجد أنها مجمعة على أن الشاهد الذي يتلو النبي هو عليٌّ (ع) .
  قال الحويزي في تفسير نور الثقلين ج 2 ص 344 ( في أصول الكافي ... عن أحمد بن عمر الحلال قال : سألت أبا الحسن (ع) عن قول الله عزوجل : أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ؟ فقال : أمير المؤمنين الشاهد على رسول الله ، ورسول الله(ص) على بينة من ربه .
  ـ في بصائر الدرجات ... عن أبي الجارود عن الأصبغ بن نباتة قال قال أمير المؤمنين : والله ما نزلت آية في كتاب الله في ليل أو نهار إلا وقد علمت فيمن أنزلت ولا مر على رأسه المواسي إلا وقد أنزلت عليه آية من كتاب الله تسوقه الى الجنة أو الى النار ، فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ما الآية التي نزلت فيك ؟ قال له : أما سمعت الله يقول أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ، فرسول الله (ص) على بينة من ربه وأنا الشاهد له فيه وأتلوه منه ، ( وفي نسخة وأنا الشاهد التالي وهي أصح ) .
  ـ في أمالي شيخ الطائفة (ره) بإسناده الى أمير المؤمنين (ع) أنه إذا كان يوم الجمعة يخطب على المنبر فقال : والذي فلق الحبة وبرئ النسمة ما من رجل من قريش جرت عليه المواثيق إلا وقد نزلت فيه آية من كتاب الله عز وجل أعرفها كما أعرفه ، فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ما آيتك التي نزلت فيك ؟ فقال : إذا سألت فافهم ، ولا عليك ألا تسأل عنها غيري ، أقرأت سورة هود ؟ قال نعم يا أمير المؤمنين ، قال أفسمعت الله عزوجل يقول أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ؟ قال نعم ، قال : فالذي على بينة من ربه محمد (ص) والذي يتلوه شاهد منه وهو الشاهد وهو منه أنا علي بن أبي طالب أنا الشاهد ، وأنا منه (ص) .
  ـ وقال سليم بن قيس : سأل رجل ، علي بن أبي طالب (ع) فقال وأنا أسمع : أخبرني بأفضل منقبة لك ؟ قال : ما أنزل الله في كتابه ، قال : وما أنزل الله فيك ؟ قال : أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ، أنا الشاهد من رسول الله (ص) ... والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة .
  ـ في تفسير العياشي عن بريد بن معاوية العجلي عن أبي جعفر (ع) قال : الذي على بينة من ربه رسول الله (ص) ، والذي تلاه من بعده الشاهد منه أمير المؤمنين (ع) ، ثم أوصياؤه واحد بعد واحد .
  ـ عن جابر عن عبدالله بن يحيى قال : سمعت عليا (ع) وهو يقول : ما من رجل من قريش إلا وقد أنزل فيه آية أو آيتان من كتاب الله ، فقال له رجل من القوم: فما نزل فيك يا أمير المؤمنين ؟ فقال أما تقرء الآية التي في هود أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ، محمد (ص) على بينة من ربه وأنا الشاهد ) انتهى .
  أما مصادر إخواننا السنة ففيها روايات مطابقة لرواياتنا ، لكن معها أضعافها من الأقوال والاحتمالات المتناقضة والغريبة التي تصرف الألفاظ عن ظواهرها ، وكأن الغرض تشويش الذهن بتكثير الاحتمالات !

تدوين القرآن _ 95 _
  قال السيوطي في الدر المنثور ج 3 ص 324 ( أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال ما من رجل من قريش إلا نزل فيه طائفة من القرآن فقال له رجل ما نزل فيك ؟ قال أما تقرأ سورة هود أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بينة من ربه وأنا شاهد منه ) .
  وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن علي رضي الله عنه في الآية قال : رسول الله صلى عليه وسلم على بينة من ربه ، وأنا شاهد منه .
  وأخرج ابن مردويه من وجه آخر عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفمن كان على بينة من ربه : أنا ويتلوه شاهد منه : قال علي ) انتهى .
  ثم قال السيوطي (وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وأبوالشيخ عن محمد بن علي بن أبي طالب قال قلت لأبي إن الناس يزعمون في قول الله ويتلوه شاهد منه أنك أنت التالي قال وددت أني أنا هو ، ولكنه لسان محمد صلى الله عليه وسلم ! وأخرج أبوالشيخ عن محمد بن علي بن الحنفية أفمن كان على بينة من ربه قال محمد صلى الله عليه وسلم ويتلوه شاهد منه قال : لسانه ) انتهى.
  ولا يمكن قبول هذه الرواية لأن راويها عن محمد بن الحنفية عروة بن الزبير وهو معروف ببغضه لعلي (ع) ، ولأنها تفسير غير منطقي حيث يصير المعنى بموجبها أن النبي على بينة من ربه ويأتي بعده لسانه وبيانه !! فهل يصح في اللغة العربية أن تقول : إن الشخص الفلاني على بصيرة من أمره ويليه لسانه ! فلو أنك قلت يتقدمه لسانه لكان له وجه ولو معلول !
  ثم قال السيوطي ( وأخرج أبوالشيخ من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد رضي الله عنه أفمن كان على بينة من ربه قال هو محمد صلى الله عليه وسلم ويتلوه شاهد منه قال : أما الحسن رضي الله عنه ( البصري ) فكان يقول : اللسان ، وذكر عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جبريل (ع) ، ووافقه سعيد بن جبير رضي الله عنه قال هو جبريل ، وأخرج أبو الشيخ عن عطاء رضي الله عنه ويتلوه شاهد منه قال : هو اللسان ويقال أيضاً جبريل .
  وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما أفمن كان على بينة من ربه قال : محمد ، ويتلوه شاهد منه قال جبريل ، فهو شاهد من الله بالذي يتلو من كتاب الله الذي أنزل على محمد ) انتهى .
  وجبرئيل (ع) شاهد على الأمة ولكنه مع النبي وليس يتلوه بعده ؟! وقد حاول بعضهم أن يصحح ذلك ففسر يتلوه بالقراءة وأرجع ضميره على البينة لا على النبي ... وقال كان اللازم أن يقول يتلوها ولكن تذكير الضمير باعتبار أن البينة تشتمل على القرآن ... ولكنه تمحل ، لأنه
  أولاً ، لا يصح تفسير ( يتلوه ) هنا بالقراءة لمقابلتها بـ ( ومن بعده) ؟! قال الراغب في المفردات ص 75 ( ويتلوه شاهد منه : أي يقتدي به ويعمل بموجب قوله ) .
  وثانياً ، لأن البينة من ربه أعم من القرآن ، ولم نعهد في القرآن مورداً أرجع فيه الضمير المذكر على لفظ مؤنث بحجة اشتماله على مذكر !
  وثالثاً ، لو سلمنا ، فكيف يصح وصف جبرئيل بأنه منه ؟ فهل جبرئيل من النبي أو من المتلو ؟!
  ورابعاً ، لأن المعنى يكون على هذا التفسير : النبي ومن معه على بينة من ربه ، ويتلو القرآن شاهد من ربه هو جبرئيل ، ولو قبلنا هذا اللعب بالضمائر ، فما هو الربط بين المعنيين ؟!
  ثم قال السيوطي ( وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد أفمن كان على بينة من ربه قال هو محمد صلى الله عليه وسلم ، ويتلوه شاهد منه قال ملك يحفظه ) انتهى .

تدوين القرآن _ 96 _
  ولكن هذا الملك الذي يحفظ النبي (ص) إذا صح أنه يتلوه ويمشي وراءه ، فلماذا قال عنه إنه شاهد على الأمة ، وكيف يصح وصفه بأنه من النبي (ص) ؟!
  ثم قال السيوطي ( وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن الحسين بن علي في قوله ويتلوه شاهد منه قال محمد هو الشاهد من الله ) انتهى .
  فيكون المعنى أن النبي على بينة من ربه ، وهو يأتي بعد نفسه !!
  ثم قال السيوطي ( وأخرج أبوالشيخ عن الحسن في قوله أفمن كان على بينة من ربه قال المؤمن على بينة من ربه ) انتهى ، وهذا ذهاب بالآية الى مكان بعيد ليكون معناها : كل مؤمن على بينة من ربه حتى الجهلة والفساق ، وكل منهم لابد أن يتلوه شاهد من أهل بيته أو عشيرته ، فتكون الآية دليلاً على أن من انقطع نسله أو انقرضت عشيرته فهو كافر !
  وقال الطبري في تفسيره ج 7 ص 10 ( واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ... فقال بعضهم يعني بقوله أفمن كان على بينة من ربه محمداً صلى الله عليه وسلم ... ثم أورد الطبري تسع روايات في أن معنى شاهد منه : لسانه !!
  ثم قال ( وقال آخرون يعني بقوله ويتلوه شاهد منه محمد صلى الله عليه وسلم ) وأورد ثمان روايات !
  ثم قال ( وقال آخرون هو علي بن أبي طالب وأورد رواية واحدة . ثم قال ( وقال آخرون هو جبرئيل ) وأورد تسع عشرة رواية !
  ثم قال ( وقال آخرون هو ملك يحفظه ) وأورد ست روايات !
  ثم قال الطبري ( وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بالصواب في تأويل قوله ويتلوه شاهد منه قول من قال هو جبرئيل لدلالة قوله ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمةً على صحة ذلك ، وذلك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لم يتل قبل القرآن كتاب موسى فيكون ذلك دليلاً على صحة قول من قال عنى به لسان محمد صلى الله عليه وسلم أو محمد نفسه ، أو على قول من قال عنى به علياً ، ولا يعلم أن أحداً كان تلا ذلك قبل القرآن أو جاء به ممن ذكر أهل التأويل أنه عنى بقوله ويتلوه شاهد منه غير جبرئيل (ع) .
  فإن قال قائل : فإن كان ذلك دليلك على أن المعني به جبرئيل فقد يجب أن تكون القراءة في قوله ومن قبله كتاب موسى بالنصب لأن معنى الكلام على ما تأولت يجب أن يكون : ويتلو القرآن شاهد من الله ، ومن قبل القرآن كتاب موسى ؟
  قيل : إن القراء في الأمصار قد أجمعت على قراءة ذلك بالرفع فلم يكن لأحد خلافها ، ولو كانت القراءة جاءت في ذلك بالنصب كانت قراءة صحيحة ومعنى صحيحاً .
  فإن قال : فما وجه رفعهم إذن الكتاب على ما ادعيت من التأويل ؟
  قيل : وجه رفعهم هذا أنهم ابتدؤا الخبر عن مجئ كتاب موسى قبل كتابنا المنزل على محمد فرفعوه بمن قبله والقراءة كذلك ، والمعنى الذي ذكرت من معنى تلاوة جبرئيل ذلك قبل القرآن ، وأن المراد من معناه ذلك ، وإن كان الخبر مستأنفاً على ما وصفت إكتفاء بدلالة الكلام على معناه !

تدوين القرآن _ 97 _
  وأما قوله إماماً فإنه نصب على القطع من كتاب موسى ، وقوله ورحمةً عطف على الإمام كأنه قيل ومن قبله كتاب موسى إماماً لبني اسرائيل يأتمون به ورحمة من الله تلاه على موسى ، كما حدثناه ابن وكيع قال ثنا أبي عن أبيه عن منصور عن ابراهيم في قوله ومن قبله كتاب موسى قال من قبله جاء بالكتاب الى موسى ، وفي الكلام محذوف قد ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما ذكر عليه منه وهو أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى اماماً ورحمة كمن هو في الضلالة متردد لا يهتدي لرشد ولا يعرف حقا من باطل ولا يطلب بعمله إلا الحياة الدنيا وزينتها ، وذلك نظير قوله أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة به قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) انتهى .
  وهكذا فرض هذا المفسر ( المنصف ) أن معنى يتلوه : يقرؤه لا غير ، ثم حاكم التفاسير الأخرى على أساسه حتى تلك التي تقول إن معنى ( يتلوه ) يأتي بعده ! وهذا في اصطلاح المنطق مصادرة ، وبتعبير عصرنا : إرهاب فكري ، وإلغاء للآراء الأخرى !!
  أما الفخر الرازي فقال في تفسيره جزء 17 ص 200 ـ 202 ( واعلم أن أول هذه الآية مشتمل على ألفاظ أربعة كل واحد مجمل ، فالأول : أن هذا الذي وصفه الله تعالى بأنه على بينة من ربه من هو ، والثاني : أنه ما المراد بهذه البينة ، والثالث : أن المراد بقوله ( يتلوه ) القرآن أو كونه حاصلاً عقيب غيره ، والرابع : أن هذا الشاهد ما هو ؟ فهذه الألفاظ الأربعة مجملة ، فلهذا كثر اختلاف المفسرين في هذه الآية .
  ( أما الأول ) وهو أن هذا الذي وصفه الله تعالى بأنه على بينة من ربه من هو ؟ فقيل : المراد به النبي عليه الصلاة والسلام ، وقيل : المراد به من آمن من اليهود كعبدالله بن سلام وغيره ، وهو الأظهر لقوله تعالى في آخر الآية أولئك يؤمنون به وهذا صيغة جمع ، فلا يجوز رجوعه الى محمد صلى الله عليه وسلم ، والمراد بالبينة هو البيان والبرهان الذي عرف به صحة الدين الحق والضمير في ( يتلوه ) يرجع الى معنى البينة ، وهو البيان والبرهان والمراد بالشاهد هو القرآن ، ومنه أي من الله ، ومن قبله كتاب موسى ، أي ويتلو ذلك البرهان من قبل مجئ القرآن كتابُ موسى ، واعلم أن كون كتاب موسى تابعاً للقرآن ليس في الوجود بل في دلالته على هذا المطلوب و ( إماماً ) نصب على الحال ، فالحاصل أنه يقول اجتمع في تقرير صحة هذا الدين أمور ثلاثة : أولها دلالة البينات العقلية على صحته ، وثانيها شهادة القرآن بصحته ، وثالثها شهادة التوراة بصحته ، فعند اجتماع هذه الثلاثة لا يبقى في صحته شك ولا إرتياب ، فهذا القول أحسن الأقاويل في هذه الآية وأقربها الى مطابقة اللفظ ، وفيها أقوال أخر .
  والمراد بقوله ( يتلوه ) هو التلاوة بمعنى القراءة وعلى هذا التقدير فذكروا في تفسير الشاهد وجوهاً : أحدها: أنه جبريل (ع) ، والمعنى : أن جبريل (ع) يقرأ القرآن على محمد (ع) .
  وثانيها : أن ذلك الشاهد هو لسان محمد (ع) وهو قول الحسن ، ورواية عن محمد بن الحنفية عن علي رضي الله عنهما قال : قلت لأبي أنت التالي قال : وما معنى التالي قلت قوله ( ويتلوه شاهد منه ) قال وددت أني هو ولكنه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما كان الإنسان إنما يقرأ القرآن ويتلوه بلسانه لا جرم جعل اللسان تالياً على سبيل المجاز كما يقال : عين باصرة وأذن سامعة ولسان ناطق ، وثالثها : أن المراد هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، والمعنى أنه يتلو تلك البينة وقوله ( منه ) أي هذا الشاهد من محمد وبعض منه ، والمراد منه تشريف هذا الشاهد بأنه بعض من محمد (ع) .
  ورابعها : أن لا يكون المراد بقوله ( ويتلوه ) القرآن بل حصول هذا الشاهد عقيب تلك البينة ، وعلى هذا الوجه قالوا إن المراد : أن صورة النبي (ع) ووجهه ومخايله كل ذلك يشهد بصدقه ، لأن من نظر إليه بعقله علم أنه ليس بمجنون ولا كاهن ، ولا ساحر ولا كذاب ، والمراد بكون هذا الشاهد منه كون هذه الأحوال متعلقة بذات النبي صلى الله عليه وسلم .

تدوين القرآن _ 98 _
  واعلم أن هذين القولين وإن كانا محتملين إلا أن القول الأول أقوى وأتم ) انتهى .
  وهكذا اختار هذا المفسر الكبير أن يكون معنى الآية : هل يمكن أن يكون خيار اليهود كالكفار ، وهم الذين على بينة من أمرهم ويتلو هذه البينة عليهم توراة موسى ، بعد شهادة القرآن !! فقد جعل كتاب موسى فاعل يتلوه ، وجعل الشاهد القرآن ! ثم قال ( فهذا القول أحسن الأقاويل في هذه الآية وأقربها الى مطابقة اللفظ ) !!
  فانظر الى فن التفسير ومطابقته اللفظ للمعنى عند هذا المفسر الفيلسوف !! وكأنه تبع في ذلك الثعالبي حيث قال في الجواهر الحسان ج 2 ص 120 ( والراجح عندي من الأقوال في هذه الآية أن يكون ( فمن ) للمؤمنين أولهم وللنبي صلى الله عليه وسلم معهم ، والبينة القرآن وما تضمن ، والشاهد الإنجيل ، يريد أو إعجاز القرآن في قول ، والضمير في ( يتلوه ) للبينة ، وفي ( منه ) للرب ... الخ ) .
  أما المراغي فقال في تفسيره ج 12 ص 18 ( بعد أن ذكر سبحانه مآل من كان يريد الدنيا وزينتها ولا يهتم بالآخرة وأعمالها ، قفى على ذلك بذكر من كان يريد الآخرة ويعمل لها ، وكان على بينة من ربه في كل ما يعمل ، ومعه شاهد يدل على صدقه ، وهو القرآن ، ومآل من أنكر صحته وكفر به ) انتهى.
  فقد جعل المراغي ، الذي هو على بينة من ربه : كل مؤمن ، وجعل يتلوه : معه ! وجعل شاهد منه : القرآن مع المؤمن ! وهكذا فعل المراغي والمراغيون ! ولا نطيل الكلام فيما فعل بقية المفسرين !
  إنهم يرون جواً مفروضاً في كتب التفسير ، فيه روايات رووها عن مفسري العصر الأموي والعباسي لم يسند شئ منها الى النبي (ص) إلا نادراً ... فيقعون في أسرها ويعاملونها كالروايات عن النبي (ص) ، حتى لو كانت مخالفة لألف باء اللغة العربية ، وفهم العرف والأذهان السوية !
  ومنهم من يمتلئ قلبه ببغض علي وآله فيطفح على لسانه وقلمه ، فيفعل المستحيل لإبعاد الآيات عن علي (ع) ، أو يتكلف تفسيرات تجعل الآية القرآنية البليغة عبارة عامية ركيكة ، فلا يبقي منها من عربيتها إلا حروفها !!
  أما إذا وجد رواية عن أحد الصحابة أو التابعين المعروفين بنصبهم العداء لأهل بيت نبيهم (ص) فهي بغيته المطلوبة ، والتمسك بها فريضة !
  وكم مرة أراني أقرأ آيات من القرآن فأفهم منها أشياء تقربني خطوات من فهم معناها ... ثم أرجع الى أقاويل هؤلاء المفسرين فأراهم يتأرجحون ذات الشمال وذات اليمين ... يشط واحدهم في احتمالاته ويشذ في تفسيراته ، ويمرغ المعاني السامية والكلمات الصافية بتراب سليقته وأوحال طريقته ، حتى كأن هدفه التضييع لا التفسير، وأن يشوش فهمك العربي السليم ، ويضلل ذهنك الإنساني القويم !!

تدوين القرآن _ 99 _
الفصل السادس : نظريات لا يمكن أن يقبلها المسلمون
  تمهـيــد
  القرآن كلام الله تعالى ... وهي حقيقة يقف عندها الذهن لاستيعابها ، ويتفكر فيها العقل لإدراك أبعادها ، ويخشع لها القلب لجلالها ... وهي تعني فيما تعني أنه عز وجل قد انتقى معاني القرآن وألفاظه ، وصاغها بعلمه وقدرته وحكمته ... وهي حقيقة تفاجئ كل منصف يقرأ القرآن ، فيجد نفسه أمام متكلم فوق البشر ، وأفكار أعلى من أفكارهم ، وألفاظ لا يتمكن إنسان أن ينتقيها أو يصوغها !!
  يجد ... أن نص القرآن متميز عن كل ما قرأ وما سمع ... وكفى بذلك دليلاً على سلامته عن تحريف المحرفين وتشكيك المشككين .
  إن القوة الذاتية لنص القرآن هي أقوى سند لنسبته الى الله تعالى ... وأقوى ضمان لإباء نسيجه عما سواه ، ونفيه ما ليس منه !
  إن التكفل الإلهي بحفظ القرآن لابد أن يكون بأسباب عديدة ... ولكن من أولها قوة بناء القرآن ، وتفرده وتعاليه على جميع أنواع كلام البشر ... الماضي منه والآتي ! فقد قال تعالى وإنا له لحافظون ولا يلزم أن يكون حفظه له بنوع أو نوعين من الأسباب فقط ... فحفظه تعالى لكتابه كأفعاله الأخرى ... لها وسائلها وجنودها وقوانينها ! ولا شك أن من أعظم جنودها بناء القرآن الفريد ، وأهل بيت النبي الأطهار !
  بل تدل الآيات الشريفة على أن بناء القرآن قد أتقن بدقة متناهية وإعجاز كبناء السماء ! قال الله تعالى ( فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ) الواقعة 75 ـ 77 والتناسب بين المقسم به والمقسم عليه الذي تراه دائماً حاضراً في القرآن ، يدل على التشابه في حكمة البناء ودقته بين سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه ، ولبناء مجرات السماء ومواقع نجومها ...!
  وإلى اليوم لم يكتشف العلماء من بناء الكون إلا القليل ، وكلما اكتشفوا جديداً خضعت أعناقهم لبانيه عز وجل !
  وكذلك لم يكتشفوا من بناء القرآن إلا القليل ، وكلما اكتشفوا منه جديداً خضعت أعناقهم لبانيه عز وجل !!
  أجل ، إن التاريخ لم يعرف أمة اهتمت بحفظ كتاب وضبطه والتأليف حول سوره وآياته وكلماته وحروفه ، فضلاً عن معانيه ، كما اهتمت أمة الإسلام بالقرآن ... وهذا سند ضخم ، رواته الحفاظ والقراء والعلماء وجماهير الأجيال سنداً متصلاً جيلاً عن جيل ... الى جيل السماع من فم الذي أنزله الله على قلبه (ص) ... ولكن سند القرآن الأعظم هو قوته الذاتية ومعماريته الفريدة !!
  هذا اعتقاد المسلمين بالقرآن سواء منهم الشيعة والسنة ... وسواء استطاع علماؤهم وأدباؤهم أن يعبروا عنه ، أم بقي حقائق تعيش في عقولهم وقلوبهم وإن عجزت عنها ألسنتهم والأقلام ... !