ووجود الهدى متوقعين بنى الأمر فيهما على الرجاء والطمع فقال : * (لعلى) * لئلا يعد ما ليس الوفاء به مستيقنا ، وأراد ب * (هدى) * قوما يهدونه إلى الطريق ، أو ينفعونه بهداهم في أبواب الدين ، لأن أفكار الأبرار مغمورة بالهمم الدينية في جميع أحوالهم ، والمعنى : ذوي هدى ، أو إذا وجد الهداة فقد وجد الهدى .
وقرئ : ( أني ) بالفتح
(1) ، أي : * (نودي) * بأني * (أنا ربك) * ومن كسر فالمعنى : نودي فقيل : * (يموسى) * ، أو لأن النداء ضرب من القول ، والمعنى في تكرير الضمير : توكيد الدلالة وتحقيق المعرفة .
وروي
(2) : أنه حين انتهى رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى علاها تتوقد فيها نار بيضاء ، وسمع تسبيح الملائكة ، ورأى نورا عظيما لم تكن الخضرة تطفئ النار ولا النار تحرق الخضرة ، فعلم أنه لأمر عظيم ، فبهت فألقيت عليه السكينة ثم نودي : * (فاخلع نعليك) * قيل : أمر بخلع النعلين لأنهما كانتا من جلد حمار ميت
(3) ، وقيل : ليباشر الوادي بقدميه متبركا به واحتراما له
(4) (5) * (طوى) * قرئ بالتنوين وغير التنوين
(6) بتأويل المكان والبقعة ، وقيل : سمي به لأنه قدس مرتين فكأنه طوي بالبركة كرتين
(7) .
-------------------
(1) قرأه ابن كثير وأبو عمرو ونصير ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص
531 .
(2) وهو ما رواه ابن عباس ، راجع تفسير السمرقندي : ج 2 ص 337 .
(3) قاله كعب الأحبار وعكرمة والحسن ، وروته العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 213 ، وتفسير الحسن البصري : ج 2 ص 116 ، وتفسير ابن العربي : ج 3 ص 253 .
(4) في نسخة زيادة : وقيل : لأن الحفوة تواضع ، ومن ثم طاف السلف بالكعبة حافين .
(5) وهو قول علي (عليه السلام) والحسن وابن جريج ومجاهد وعكرمة ، راجع التبيان : ج 7 ص 164 ، وتفسير الماوردي : ج 3 ص 396 .
(6) وبغير التنوين قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو والحسن وأبو السمال والأعمش وابن محيصن ، راجع شواذ القرآن لابن خالويه : ص 90 ، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 417 .
(7) قاله الحسن البصري في تفسيره : ج 2 ص 115 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 478 _
* (وأنا اخترتك) * أي : اصطفيتك للرسالة ، وقرئ : ( وإنا اخترناك ) (1) ، * (لما يوحى) * تعلق اللام ب * (استمع) * أو ب * (اخترتك) * و ( ما ) موصولة أو مصدرية .
* (لذكرى) * أي : لتذكرني (2) فيها ، لأن * (الصلوا ة) * تشتمل على الأذكار ، وعن مجاهد : لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها (3) ، وقيل : لأن أذكرك بالمدح والثناء وأجعل لك لسان صدق (4) ، أو لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري ، أو لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة ، واللام مثلها في قولك : جئتك لوقت كذا ولست مضين ، ومثله قوله : * (قدمت لحياتي) * (5) ، وقيل : إنه ذكر الصلاة بعد نسيانها أي : أقمها متى ذكرت : كنت في وقتها أو لم تكن (6) ، وروي ذلك عن الباقر (7) (عليه السلام) (8) ، وكان ينبغي أن يقال : لذكرها ولكنه على حذف المضاف أي : لذكر صلاتي ، أو لأنه إذا ذكر الصلاة فقد ذكر الله.
* (أكاد أخفيها) * أي : فلا أقول : هي * (ءاتية) * لفرط إرادتي إخفاءها ، ولولا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به ، وفي مصحف أبي : ( أكاد أخفيها من نفسي ) (9) وروي ذلك عن الصادق (عليه السلام) (10) * (لتجزى) * يتعلق ب * (ءاتية) * ، * (بما تسعى) * أي : بسعيها .
-------------------
(1) وهي قراءة حمزة والمفضل ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 532 .
(2) في بعض النسخ زيادة : فإن ذكري أن اعبد ويصلى لي أو لتذكرني .
(3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 55 .
(4) حكاه الزمخشري أيضا في الكشاف .
(5) الفجر : 24 .
(6) وهو قول ابن عباس وابراهيم ، ورواه سعيد بن المسيب عن النبي (صلى الله عليه وآله) ، راجع تفسير ابن عباس : ص 260 ، وتفسير الماوردي : ج 3 ص 397 ، وتفسير السمرقندي : ج 2 ص 338 .
(7) في نسخة : الصادق (عليه السلام) .
(8) رواه الكليني في الكافي : ج 3 ص 293 ح 4 ، والآلوسي في تفسيره : ج 16 ص 171 .
(9) حكاها أبو الليث السمرقندي في تفسيره : ج 2 ص 338 .
(10) رواه عنه (عليه السلام) الآلوسي في تفسيره : ج 16 ص 172 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 479_
* (فلا يصدنك) * عن تصديقها ، والضمير للقيامة أو عن الصلاة * (من لا يؤمن بها) * بالقيامة ، ولا يهولنك كثرة عددهم ووفور سوادهم فإن بناء أمرهم على اتباع الهوى * (فتردى) * أي : فتهلك .
* (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى * وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) * * (بيمينك) * في موضع الحال ، والعامل فيه معنى الإشارة ، وإنما سأله ليريه عظم ما يفعله بها (1) ، وينبهه على باهر قدرته .
* (أتوكؤا عليها) * أعتمد عليها إذا مشيت أو وقفت على رأس القطيع * (وأهش) * أي : أخبط الورق * (بها على) * رؤوس * (غنمي) * تأكله * (ولى فيها مارب أخرى) * أي : حاجات أخر ، قالوا : انقطع لسانه من الهيبة فأجمل (2) .
* (تسعى) * أي : تمشي بسرعة وخفة حركة ، وعن ابن عباس : انقلب ثعبانا
-------------------
(1) في نسخة زيادة : من قلبها حية .
(2) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 58 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_480 _
ذكرا يبتلع الصخر والشجر ، فلما رآه موسى خاف (1) .
ولما * (قال) * سبحانه : * (خذها ولا تخف) * بلغ من ذهاب خوفه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحيها ، والسيرة : من السير كالركبة من الركوب ثم نقلت إلى معنى الطريقة (2) فقيل : سير الأولين ، فيجوز أن ينتصب على الظرف أي : * (سنعيدها) * في طريقتها * (الاولى) * أي : في حال ما كانت عصا ، ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا ل ( أعاد ) ، أو ينتصب بفعل مضمر والمعنى : سنعيدها سائرة * (سيرتها الاولى) * حيث كنت تتوكأ عليها ولك * (فيها) * المآرب التي عرفتها .
* (واضمم يدك إلى جناحك) * إلى جنبك (3) تحت العضد مستعار من جناح الطائر * (من غير سوء) * كناية عن البرص كما كني عن العورة بالسوءة (4) .
روي : أنه (عليه السلام) كان آدم (5) ، فأخرج يده من مدرعته * (بيضاء) * لها شعاع كشعاع الشمس تغشي البصر (6) .
وقوله : * (بيضاء) * و * (ءاية) * حالان ، و * (من غير سوء) * حال من معنى * (بيضاء) * أي : ابيضت من غير سوء ، ويجوز أن ينتصب * (ءاية) * بإضمار ( خذ ) ونحوه ، وتعلق به * (لنريك) * أي : خذ هذه الآية أيضا بعد قلب العصا حية لنريك
-------------------
(1) أخرجه عنه الطبري في تفسيره : ج 8 ص 407 .
(2) في نسخة هكذا : ثم اتسع فيها فنقلت الى معنى المذهب والطريقة .
(3) في نسخة : جيبك .
(4) كما في قوله تعالى : * (ليبدي لهما ماوورى عنهما من سوءا تهما) * الأعراف : 20 ، * (بدت لهما سوءا تهما) * الأعراف : 22 ، * (يوا رى سوءا تكم) * الأعراف : 26 ، * (ليريهما سوءا تهمآ) * الأعراف : 27 ، * (يوا رى سوءة أخيه) * و * (فأوا رى سوءة أخى) * المائدة : 31 ، * (فأكلا منها فبدت لهما سوءا تهما) * طه : 121 .
(5) الآدم من الناس : الأسمر ، (الصحاح : مادة ادم) .
(6) رواه مجاهد ووهب بن منبه ، راجع تفسير الطبري : ج 8 ص 408 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 481_