* (يعلم السر) * وهو ما أسررته إلى غيرك * (وأخفي) * من ذلك وهو ما أخطرته ببالك ، أو ما أسررته في نفسك * (وأخفي) * منه وهو ما ستسره فيها ، والمعنى : * (وإن تجهر) * بذكر الله وغيره فاعلم أنه غني عن جهرك لأنه علم * (السر وأخفي) * منه (1) .
  و * (الحسنى) * تأنيث الأحسن .
  * (وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى) * ثم قفاه بقصة * (موسى) * (عليه السلام) ليقتدي به في الصبر على تكاليف الرسالة ومقاساة الشدائد ، و * (إذ) * ظرف ل‍ * (حديث) * أو مفعول ل‍ ( اذكر ) ، استأذن موسى (عليه السلام) شعيبا في الخروج إلى أمه ، وخرج بأهله ، فولد له في الطريق ابن في ليلة شاتية مظلمة ، وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته ولم ينقدح زنده (2) ، ف‍ * (رءا نارا) * من بعيد * (فقال لاهله امكثوا) * في مكانكم * (إنى ءانست) * أي : أبصرت ، والإيناس : الإبصار البين الذي لاشبهة فيه ، وقيل : هو إبصار ما يؤنس به (3)، ولما كان الإيناس متيقنا حققه بلفظة ( إن ) ، ولما كان الإتيان بالقبس ـ وهو النار المقتبسة ـ

-------------------
(1) في نسخة زيادة : عنده .
(2) الزند : العود الذي يقدح به النار ، (الصحاح : مادة زند) .
(3) قاله ابن عباس ، راجع تفسير القرطبي : ج 11 ص 171 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)_ 477 _

  ووجود الهدى متوقعين بنى الأمر فيهما على الرجاء والطمع فقال : * (لعلى) * لئلا يعد ما ليس الوفاء به مستيقنا ، وأراد ب‍ * (هدى) * قوما يهدونه إلى الطريق ، أو ينفعونه بهداهم في أبواب الدين ، لأن أفكار الأبرار مغمورة بالهمم الدينية في جميع أحوالهم ، والمعنى : ذوي هدى ، أو إذا وجد الهداة فقد وجد الهدى .
  وقرئ : ( أني ) بالفتح (1) ، أي : * (نودي) * بأني * (أنا ربك) * ومن كسر فالمعنى : نودي فقيل : * (يموسى) * ، أو لأن النداء ضرب من القول ، والمعنى في تكرير الضمير : توكيد الدلالة وتحقيق المعرفة .
  وروي (2) : أنه حين انتهى رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى علاها تتوقد فيها نار بيضاء ، وسمع تسبيح الملائكة ، ورأى نورا عظيما لم تكن الخضرة تطفئ النار ولا النار تحرق الخضرة ، فعلم أنه لأمر عظيم ، فبهت فألقيت عليه السكينة ثم نودي : * (فاخلع نعليك) * قيل : أمر بخلع النعلين لأنهما كانتا من جلد حمار ميت (3) ، وقيل : ليباشر الوادي بقدميه متبركا به واحتراما له (4) (5) * (طوى) * قرئ بالتنوين وغير التنوين (6) بتأويل المكان والبقعة ، وقيل : سمي به لأنه قدس مرتين فكأنه طوي بالبركة كرتين (7) .

-------------------
(1) قرأه ابن كثير وأبو عمرو ونصير ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 531 .
(2) وهو ما رواه ابن عباس ، راجع تفسير السمرقندي : ج 2 ص 337 .
(3) قاله كعب الأحبار وعكرمة والحسن ، وروته العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 213 ، وتفسير الحسن البصري : ج 2 ص 116 ، وتفسير ابن العربي : ج 3 ص 253 .
(4) في نسخة زيادة : وقيل : لأن الحفوة تواضع ، ومن ثم طاف السلف بالكعبة حافين .
(5) وهو قول علي (عليه السلام) والحسن وابن جريج ومجاهد وعكرمة ، راجع التبيان : ج 7 ص 164 ، وتفسير الماوردي : ج 3 ص 396 .
(6) وبغير التنوين قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو والحسن وأبو السمال والأعمش وابن محيصن ، راجع شواذ القرآن لابن خالويه : ص 90 ، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 417 .
(7) قاله الحسن البصري في تفسيره : ج 2 ص 115 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 478 _
  * (وأنا اخترتك) * أي : اصطفيتك للرسالة ، وقرئ : ( وإنا اخترناك ) (1) ، * (لما يوحى) * تعلق اللام ب‍ * (استمع) * أو ب‍ * (اخترتك) * و ( ما ) موصولة أو مصدرية .
  * (لذكرى) * أي : لتذكرني (2) فيها ، لأن * (الصلوا ة) * تشتمل على الأذكار ، وعن مجاهد : لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها (3) ، وقيل : لأن أذكرك بالمدح والثناء وأجعل لك لسان صدق (4) ، أو لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري ، أو لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة ، واللام مثلها في قولك : جئتك لوقت كذا ولست مضين ، ومثله قوله : * (قدمت لحياتي) * (5) ، وقيل : إنه ذكر الصلاة بعد نسيانها أي : أقمها متى ذكرت : كنت في وقتها أو لم تكن (6) ، وروي ذلك عن الباقر (7) (عليه السلام) (8) ، وكان ينبغي أن يقال : لذكرها ولكنه على حذف المضاف أي : لذكر صلاتي ، أو لأنه إذا ذكر الصلاة فقد ذكر الله.
  * (أكاد أخفيها) * أي : فلا أقول : هي * (ءاتية) * لفرط إرادتي إخفاءها ، ولولا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به ، وفي مصحف أبي : ( أكاد أخفيها من نفسي ) (9) وروي ذلك عن الصادق (عليه السلام) (10) * (لتجزى) * يتعلق ب‍ * (ءاتية) * ، * (بما تسعى) * أي : بسعيها .

-------------------
(1) وهي قراءة حمزة والمفضل ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 532 .
(2) في بعض النسخ زيادة : فإن ذكري أن اعبد ويصلى لي أو لتذكرني .
(3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 55 .
(4) حكاه الزمخشري أيضا في الكشاف .
(5) الفجر : 24 .
(6) وهو قول ابن عباس وابراهيم ، ورواه سعيد بن المسيب عن النبي (صلى الله عليه وآله) ، راجع تفسير ابن عباس : ص 260 ، وتفسير الماوردي : ج 3 ص 397 ، وتفسير السمرقندي : ج 2 ص 338 .
(7) في نسخة : الصادق (عليه السلام) .
(8) رواه الكليني في الكافي : ج 3 ص 293 ح 4 ، والآلوسي في تفسيره : ج 16 ص 171 .
(9) حكاها أبو الليث السمرقندي في تفسيره : ج 2 ص 338 .
(10) رواه عنه (عليه السلام) الآلوسي في تفسيره : ج 16 ص 172 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 479_
  * (فلا يصدنك) * عن تصديقها ، والضمير للقيامة أو عن الصلاة * (من لا يؤمن بها) * بالقيامة ، ولا يهولنك كثرة عددهم ووفور سوادهم فإن بناء أمرهم على اتباع الهوى * (فتردى) * أي : فتهلك .
  * (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى * وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) * * (بيمينك) * في موضع الحال ، والعامل فيه معنى الإشارة ، وإنما سأله ليريه عظم ما يفعله بها (1) ، وينبهه على باهر قدرته .
  * (أتوكؤا عليها) * أعتمد عليها إذا مشيت أو وقفت على رأس القطيع * (وأهش) * أي : أخبط الورق * (بها على) * رؤوس * (غنمي) * تأكله * (ولى فيها مارب أخرى) * أي : حاجات أخر ، قالوا : انقطع لسانه من الهيبة فأجمل (2) .
  * (تسعى) * أي : تمشي بسرعة وخفة حركة ، وعن ابن عباس : انقلب ثعبانا

-------------------
(1) في نسخة زيادة : من قلبها حية .
(2) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 58 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _480 _
  ذكرا يبتلع الصخر والشجر ، فلما رآه موسى خاف (1) .
  ولما * (قال) * سبحانه : * (خذها ولا تخف) * بلغ من ذهاب خوفه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحيها ، والسيرة : من السير كالركبة من الركوب ثم نقلت إلى معنى الطريقة (2) فقيل : سير الأولين ، فيجوز أن ينتصب على الظرف أي : * (سنعيدها) * في طريقتها * (الاولى) * أي : في حال ما كانت عصا ، ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا ل‍ ( أعاد ) ، أو ينتصب بفعل مضمر والمعنى : سنعيدها سائرة * (سيرتها الاولى) * حيث كنت تتوكأ عليها ولك * (فيها) * المآرب التي عرفتها .
  * (واضمم يدك إلى جناحك) * إلى جنبك (3) تحت العضد مستعار من جناح الطائر * (من غير سوء) * كناية عن البرص كما كني عن العورة بالسوءة (4) .
  روي : أنه (عليه السلام) كان آدم (5) ، فأخرج يده من مدرعته * (بيضاء) * لها شعاع كشعاع الشمس تغشي البصر (6) .
  وقوله : * (بيضاء) * و * (ءاية) * حالان ، و * (من غير سوء) * حال من معنى * (بيضاء) * أي : ابيضت من غير سوء ، ويجوز أن ينتصب * (ءاية) * بإضمار ( خذ ) ونحوه ، وتعلق به * (لنريك) * أي : خذ هذه الآية أيضا بعد قلب العصا حية لنريك

-------------------
(1) أخرجه عنه الطبري في تفسيره : ج 8 ص 407 .
(2) في نسخة هكذا : ثم اتسع فيها فنقلت الى معنى المذهب والطريقة .
(3) في نسخة : جيبك .
(4) كما في قوله تعالى : * (ليبدي لهما ماوورى عنهما من سوءا تهما) * الأعراف : 20 ، * (بدت لهما سوءا تهما) * الأعراف : 22 ، * (يوا رى سوءا تكم) * الأعراف : 26 ، * (ليريهما سوءا تهمآ) * الأعراف : 27 ، * (يوا رى سوءة أخيه) * و * (فأوا رى سوءة أخى) * المائدة : 31 ، * (فأكلا منها فبدت لهما سوءا تهما) * طه : 121 .
(5) الآدم من الناس : الأسمر ، (الصحاح : مادة ادم) .
(6) رواه مجاهد ووهب بن منبه ، راجع تفسير الطبري : ج 8 ص 408 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 481_
  بهاتين الآيتين بعض * (ءايتنا الكبرى) * أو لنريك بهما الكبرى من آياتنا ، ويجوز أن يكون التقدير : لنريك من آياتنا فعلنا ذلك .
  ولما أمره سبحانه بالذهاب * (إلى فرعون) * عرف أنه كلف أمرا عظيما ، فسأل ربه أن يشرح صدره حتى لا يضجر ولا يغتم ، ويستقبل الشدائد بجميل الصبر ، وأن يسهل عليه أمره الذي هو خلافة الله في أرضه وما يصحبها من مقاساة الخطوب الجليلة ، وعن ابن عباس : كان في لسانه رتة (1) (2) لما روي من حديث الجمرة (3) ، واختلف في زوال العقدة : فقيل : انحلت عن لسانه وزالت وهو الصحيح لقوله : * (أوتيت سؤلك يموسى) * (4) ، وقيل : بقي بعضها لقوله : * (وأخى هرون هو أفصح منى لسانا) * (5) (6) .
  والوزير من الوزر ، لأنه يتحمل عن الملك أوزاره (7) ، أو من الوزر (8) لأن الملك يعتصم برأيه (9) ، أو من المؤازرة وهي المعاونة * (وزيرا) * و * (هرون) * مفعولان ل‍ * (اجعل) * أي : اجعل هارون وزيرا * (لى) * فقدم عناية بأمر الوزارة ،

-------------------
(1) الرتة بالضم : عجلة في الكلام وقلة أناة ، وقيل : هو أن يقلب اللام ياء ، وقيل : هي ردة قبيحة في اللسان من العيب ، وقيل : هي العجمة في الكلام، (لسان العرب : مادة رتت) .
(2) انظر تفسير ابن عباس : ص 261 .
(3) أخرجه الطبري في تفسيره : ج 8 ص 410 ، وحديث الجمرة باختصار : أنه أراد فرعون قتل موسى (عليه السلام) وهو طفل لأنه أخذ بلحيته ونتفها ، فقالت له آسية زوجته : انه صبي لا يعقل وعلامة جهله أنه لا يميز بين الدرة والجمرة ، فاحضر فرعون الدرة والجمرة لامتحانه ، فأراد موسى أن يأخذ الدرة فصرف جبرائيل يده الى الجمرة فأخذها ووضعها في فيه فاحترق لسانه .
(4) قاله السدي ، راجع تفسير الطبري : ج 8 ص 410 .
(5) القصص : 34 .
(6) وهو قول الحسن البصري في تفسيره : ج 2 ص 116 .
(7) في نسخة زيادة : ومؤنه .
(8) الوزر : يعني الملجأ ،(الصحاح : مادة وزر) .
(9) في نسخة زيادة : ويلتجئ إليه في اموره . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _482 _
  وقيل : إن المفعولين * (لى وزيرا) * و * (هرون) * عطف بيان (1) ، وقرأ ابن عامر : ( اشدد ... وأشركه ) على الجواب (2) ، والأزر : القوة ، وأزره : قواه ، أي : اجعله شريكي في الرسالة حتى نتعاون على عبادتك وذكرك ونتزايد الخير .
  * (إنك كنت بنا بصيرا) * أي : عالما بأحوالنا ، وأن هارون نعم المعين (3) لي والشاد لعضدي ، والسؤل : الطلبة ، فعل في معنى مفعول كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول .
  * (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنْ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى * وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي * اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) *

-------------------
(1) قاله الزجاج في معاني القرآن : ج 3 ص 356 .
(2) انظر كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 418 .
(3) في بعض النسخ : النصير . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 483_
  * (أوحينا إلى أمك) * أي : ألهمناها * (ما) * يلهم ، وهو ماكان سبب نجاتك من القتل ، أو بعثنا إليها ملكا كما بعثنا إلى مريم .
  * (أن اقذفيه ... في اليم) * أي : ضعيه وألقيه ، وهي * (أن) * المفسرة ، لأن الوحي بمعنى القول ، والضمائر كلها ترجع إلى * (موسى) * ، * (فليلقه اليم الساحل) * وهو شط البحر ، كأنه أمر البحر كما أمر أم موسى ، وهذا على طريق المجاز جعله كذي تمييز ، أمر بذلك ليطيع لما كانت مشيئته عزاسمه إلقاءه إلى الساحل * (يأخذه عدو لى وعدو له) * وهو فرعون ، لأنه تصور أن ملكه ينقرض على يده ، و * (منى) * إن تعلق ب‍ * (ألقيت) * فالمعنى : إني أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب ، وإن تعلق بمحذوف هو صفة ل‍ * (محبة) * فالمعنى : * (ألقيت عليك محبة) * واقعة * (منى) * قد ركزته أنا في القلوب وزرعته فيها ولذلك أحبك فرعون وكل من رآك ، و * (لتصنع) * معطوف على علة مضمرة (1) ، مثل : ( ليعطف عليك ) ونحوه ، أو حذف المعلل أي : ( ولتصنع فعلت ذلك ) والمعنى : ولتربى وتغذي ويحسن إليك وأنا أراعيك كما يراعى الرجل الشئ بعينيه (2) إذا اعتنى به ، وكما تقول للصانع ، اصنع هذا على عيني أنظر إليك ليكون صنيعك على حسب ما أريده منك ، وقرئ : ( ولتصنع ) بالجزم وسكون اللام (3) أو كسرها على أنه أمر .
  والعامل في * (إذ تمشى) * : * (ألقيت) * أو * (تصنع) * أو يكون بدلا من * (إذ أوحينا) * .
  وروي : أن أخت موسى (عليه السلام) لما قالت لها أمه : قصيه اتبعت موسى متعرفة خبره ، فرأتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها لأنه كان لا يقبل ثدي امرأة ، فقالت : * (هل أدلكم) * فجاءت بأم موسى فقبل ثديها (4) * (وقتلت نفسا) * يعني : القبطي

-------------------
(1) في نسخة : مقدرة .
(2) في بعض النسخ : بعينه .
(3) وهي قراءة أبي جعفر المدني ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 217 .
(4) رواه ابن اسحاق . راجع تفسير الطبري : ج 8 ص 414 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 484 _
  الذي استغاثه عليه الذي هو من شيعته فوكزه فقتله * (فنجينك من) * غم القصاص ومن بأس فرعون ، و * (فتونا) * يجوز أن يكون مصدرا على فعول في المتعدي كالشكور والثبور ، وأن يكون جمع فتن أو فتنة كبدور في جمع بدرة ، أي : * (فتنك) * ضروبا من الفتن فتنة بعد فتنة ، وذاك أنه ولد في عام كان يقتل فيه الولدان ، وألقته أمه في البحر ، وهم فرعون بقتله ، وقتل القبطي ، وآجر نفسه عشر سنين ، والفتنة : المحنة وكل ما يشق على الإنسان ، و * (مدين) * على ثماني مراحل من مصر * (على قدر) * على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء وهو رأس أربعين سنة ، وقيل : معناه : سبق في قدري وقضائي أن أكلمك في وقت بعينه (1) ، ف‍ * (جئت) * على ذلك القدر .
  * (واصطنعتك لنفسي) * اتخذتك صنيعتي وخالصتي ، واختصصت (2) بكرامتي .
  * (ولاتنيا في ذكرى) * الونى : الفتور والتقصير ، يعني : ولا تنسياني ولا أزال منكما على ذكر حيثما كنتما ، أو يريد بالذكر تبليغ الرسالة أي : لاتضعفا في ذلك ولا تقصرا .
  و ( القول اللين ) نحو قوله تعالى : * (هل لك إلى أن تزكى) * (3) * (وأهديك إلى ربك فتخشى) * (4) ، وقيل : عداه شبابا لا يهرم بعده وملكا لا ينزع منه إلا بالموت (5) ، واذهبا على رجائكما وطمعكما فعل من يبذل أقصى وسعه وطاقته ، وإنما أرسلهما إليه مع علمه بأنه لا يؤمن ، إلزاما للحجة * (يتذكر) * أي : يتأمل فينصف من نفسه ويذعن للحق * (أو يخشى) * أن يكون الأمر كما تصفان .

-------------------
(1) وهو قول الفراء في معاني القرآن : ج 2 ص 179 .
(2) في بعض النسخ : واختصصتك .
(3) النازعات : 18 .
(4) النازعات : 19 .
(5) قاله السدي : راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 219 ، (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 485_
  * (نخاف) * أي : نخاف * (أن) * يعجل * (علينا) * بالعقوبة ، يقال : فرط منه فعل أي : سبق ، وفرس فرط : يسبق الخيل * (أو أن يطغى) * أي : يجاوز الحد في الإساءة بنا .
  * (إننى معكمآ) * بالحفظ والنصرة ، أي : حافظكما وناصركما * (أسمع وأرى) * ما يجري بينكما وبينه ، وكانت بنو إسرائيل في ملكة فرعون ، والقبط يعذبونهم بتكليف الأعمال الشاقة والسخرة في كل شئ .
  * (قد جئنك باية من ربك) * أي : بمعجزة وبرهان على ما ادعيناه * (والسلم) * سلام الملائكة ، أو السلامة من عذاب الله * (على) * المهتدين ، و * (العذاب على) * المكذبين .
  * (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى * مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى * وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى) * خاطب الاثنين ووجه النداء إلى موسى ، لأن الأصل في النبوة موسى ، أو حمله خبثه على استدعاء كلام موسى دون كلام أخيه لما عرف من فصاحة هارون .
  * (خلقه) * مفعول أول ل‍ * (أعطى) * أي : أعطى خلقه يعني : خليقته * (كل شئ) * يحتاجون إليه ، أو مفعول ثان بمعنى : أعطى كل شئ صورته وشكله الذي يوافق المنفعة المنوطة به كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار ، والأذن

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 486 _
  الشكل الذي يطابق الاستماع ، وكذلك باقي الأعضاء وقيل : أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة أي : زوجه (1) ، وقرئ : ( خلقه ) (2) أي : كل شئ خلقه الله لم يخله من عطائه وإنعامه .
  * (ما بال القرون الاولى) * أي : ما حال الأمم الماضية في السعادة والشقاوة ؟ فأجاب أن علم أحوالها مكتوب * (عند ربى في) * اللوح المحفوظ ، لا يخطئ شيئا ولاينساه ، وقيل : لا يتركه حتى يجازيه (3) أي : * (لا يضل) * كما تضل أنت * (ولا ينسى) * كما تنسى يا مدعي الربوبية .
  * (الذي جعل) * صفة ل‍ * (ربى) * أو خبر مبتدأ محذوف * (مهدا) * أي : مهدها مهدا ، أو يمهدونها فهي لهم كالمهد الذي يمهد للصبي ، وقرئ : ( مهادا ) (4) أي : فراشا وبساطا ، و * (سلك لكم) * أي : حصل لكم * (فيها سبلا ... فأخرجنا) * ، انتقل فيه من لفظ الغيبة إلى لفظ المتكلم على طريقة الالتفات ، ومثله قوله تعالى : * (وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شئ) * (5) وفيه تخصيص بأنا نحن نقدر على مثل ذلك ولا يدخل تحت قدرة أحد * (أزوا جا) * أصنافا ، و * (شتى) * جمع شتيت ، والنبات : مصدر سمي به النابت كما سمي بالنبت فاستوى فيه الواحد والجمع ، يعني : أنها مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل .
  والمعنى : قائلين : * (كلوا وارعوا) * حال من الضمير في * (أخرجنا) * أي : مبيحين أكلها والانتفاع بها .

-------------------
(1) قاله ابن عباس والسدي ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 406 .
(2) وهي قراءة نصير عن الكسائي ، راجع التبيان : ج 7 ص 177 .
(3) قاله ابن عباس ، في تفسيره : ص 262 .
(4) وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 418 .
(5) الأنعام : 99 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 487_
  * (أرينه ءايتنا كلها) * يعني : الآيات التسع ، أي : معجزاتنا الدالة على صدق موسى (عليه السلام) * (فكذب) * بجميع ذلك * (وأبى) * أن يؤمن .
  * (قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى * فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى * قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى * قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى * قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) * قوله : * (بسحرك) * تعلل من فرعون ، وإلا فلا يخفي على أحد أن ساحرا لا يقدر على أن يخرج ملكا مثله من أرضه بالسحر ، ويلوح من كلامه هذا أنه كان يخاف منه أن يغلبه على ملكه .
  * (موعدا) * مصدر بمعنى ( الوعد ) على تقدير مضاف محذوف ، أي : مكان موعد ، والهاء في * (نخلفه) * للموعد ، و * (مكانا) * بدل من المكان المحذوف ، وهو بمعنى الوقت في قوله : * (موعدكم) * أي : وقت الوعد * (يوم الزينة) * وهو يطابق ما تقدم معنى وإن لم يطابقه لفظا من حيث إن الاجتماع يوم الزينة لابد أن يكون في مكان مشهور ، فبذكر الزمان يعلم المكان ، ويجوز أن لا يقدر في الأول مضاف محذوف ويكون المعنى : اجعل بيننا وبينك وعدا لانخلفه ، وينتصب * (مكانا) *

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _488_
  بالمصدر ويكون * (موعدكم) * معناه : وعدكم وعد يوم الزينة ، وقرئ : ( لانخلفه ) بالجزم (1) على جواب (2) الأمر ، وقرئ : ( سوى ) و * (سوى) * بكسر السين (3) وضمها ومعناه : منصفا بيننا وبينك أي : يستوي مسافته على الفريقين ، وقرئ : ( يوم الزينة ) بالنصب (4) وهو مثل قولك : قيامك يوم الجمعة ، فيكون * (موعدكم) * مصدرا والظرف خبرا عنه أو على تقدير : إنجاز موعدكم يوم الزينة ، و * (أن يحشر) * في موضع جر ، أي : موعدكم يوم الزينة وحشر * (الناس) * فيكون معطوفا على * (الزينة) * ، أو في موضع رفع أي : إنجاز موعدكم وحشر الناس * (ضحى) * في يوم الزينة ، وهو يوم عيد كان لهم في كل عام ، وقيل : يوم كانوا يتخذون فيه سوقا ويتزينون ذلك اليوم (5) ، وإنما واعدهم ذلك اليوم ليكون ظهور دين الله وعلو كلمته وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد ويشيع ذلك في الناس .
  * (فتولى فرعون) * أي : انصرف * (فجمع كيده) * أي : حيلته ومكره وذلك جمعه السحرة .
  * (لا تفتروا على الله كذبا) * أي : لا تكذبوا على الله بأن تدعوا آياته ومعجزاته سحرا ، قرئ : ( فيسحتكم ) (6) و * (فيسحتكم) * والسحت والإسحات بمعنى وهو الاستئصال .
  * (فتنزعوا أمرهم بينهم) * أي : تشاوروا وتجاذبوا أهداب القول * (وأسروا

-------------------
(1) وهي قراءة يزيد بن القعقاع وشيبة والأعرج ، راجع تفسير القرطبي : ج 11 ص 212 .
(2)في نسخة : وجوب .
(3) وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو والكسائي ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 418 .
(4) قرأه الحسن ، راجع الكشاف : ج 3 ص 71 .
(5) قاله قتادة ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 409 .
(6) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم برواية أبي بكر ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 419 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _489_
  النجوى) * يعني : السحرة ، ونجواهم : إن غلبنا موسى اتبعناه ، وقيل : إن كان ساحرا فسنغلبه وإن كان من السماء فله أمر (1) ، ولما * (قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا ... قالوا) * : ماهذا بقول ساحر .
  قال فرعون وقومه للسحرة : ( إن هذان لساحران ) (2) وهي لغة بلحرث (3) ابن كعب ، جعلوا الاسم المثنى نحو الأسماء التي آخرها ألف كعصا وسلمى ولم يقلبوها ياء في الجر والنصب ، وقيل : ( إن ) هنا بمعنى : نعم و ( ساحران ) خبر مبتدأ محذوف تقديره : لهما ساحران (4) ، وقرئ : * (إن هذا ن لسحرا ن) * وهو مثل قولك : إن زيد لمنطلق ، واللام هي الفارقة بين ( إن ) النافية والمخففة من الثقيلة ، وقرأ أبو عمرو : ( إن هذين لساحران ) (5) على الوجه الظاهر ، وقرئ : ( هذان ) بتشديد النون (6) وهو لغة .
  و * (المثلى) * تأنيث الأمثل ، وهو الأفضل والأشبه بالحق ، والمعنى : * (يريدان أن) * يصرفا وجوه الناس إليهما ، وقيل : الطريقة : اسم لوجوه الناس وأشرافهم الذين هم قدوة لغيرهم (7) ، ويقال أيضا للواحد : هو طريقة قومه ، وقيل : إن طريقتهم المثلى : بنو إسرائيل وكانوا أكثر القوم عددا ومالا (8) ، أي : يريدان أن

-------------------
(1) وهو قول قتادة ، راجع تفسير الطبري : ج 8 ص 428 .
(2) الظاهر أن القراءة المعتمدة لدى المصنف هنا بتشديد ( إن ) .
(3) في نسخة : لحارث ، و ( بلحرث ) مخفف ( بني حرث ) ، والحرث بن كعب هو جد جاهلي ، انظر القاموس المحيط : مادة ( حرث ) .
(4) قاله المبرد واسماعيل بن اسحاق القاضي ، راجع التبيان : ج 7 ص 184 .
(5) انظر كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 419 .
(6) قرأه ابن كثير ، راجع التيسير في القراءات للداني : ص 151 .
(7) وهو قول ابن عباس وأبي صالح ، راجع التبيان : ج 7 ص 185 ، وتفسير البغوي : ج 3 ص 223 .
(8) قاله ابن عباس وقتادة ، راجع تفسير الطبري : ج 8 ص 430 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _490 _
  * (يذهبا) * بهم لأنفسهم لقول موسى : * (فأرسل معنا بنى إسرا ءيل) * (1) .
  * (فأجمعوا كيدكم) * أي : أزمعوه واجعلوه مجمعا عليه حتى لا تختلفوا ، وهذا قول فرعون للسحرة أو قول بعض لبعض ، وقرئ : ( فاجمعوا ) (2) ويعضده قوله : * (فجمع كيده) * ، * (ثم ائتوا صفا) * أي : مصطفين مجتمعين ليكون أشد لهيبتكم * (وقد أفلح اليوم من استعلى) * أي : فاز من غلب وعلا .
  * (أن تلقى) * مرفوع بأنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا ، أو منصوب بفعل مضمر معناه : اختر أحد الأمرين ، وهذا التخيير منهم حسن أدب وخفض جناح له .
  * (فإذا حبالهم) * : * (إذا) * هذه للمفاجأة ، والتقدير : * (فإذا حبالهم وعصيهم) * مخيلة * (إليه) * السعي ، وقوله : * (أنها تسعى) * فاعل (3) (يخيل) * والضمير في * (إليه) * يرجع إلى * (موسى) * (عليه السلام) ، وقيل : إلى * (فرعون) * (4) ، وقرئ : ( تخيل ) بالتاء (5) على أن يكون مسندا إلى ضمير ( الحبال ) و ( العصي ) ، ويكون * (أنها تسعى) * بدلا من الضمير وهو بدل الاشتمال ، كقولك : أعجبني زيد علمه .
   * (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى)

-------------------
(1) الآية : 47 .
(2) قرأه أبو عمرو ، راجع الكشف عن وجوه القراءات للقيسي : ج 2 ص 100 .
(3) كذا في النسخ ، والظاهر هو نائب فاعل ل‍ * (يخيل) * المبني للمجهول .
(4) حكاه الماوردي في تفسيره : ج 3 ص 413 .
(5) وهي قراءة ابن عباس وأبي حيوة وابن ذكوان وروح عن يعقوب ، راجع تفسير القرطبي : ج 11 ص 222 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 491_
  * (أوجس) * الخوف : أضمر شيئا منه ، وكان إيجاس الخيفة من موسى (عليه السلام) للجبلة البشرية عند رؤية أمر فظيع ، وقيل : لأجل أن يتخالج فيه شك على الناس فلا يتبعوه (1) .
  * (إنك أنت الاعلى) * فيه تقرير لقهره (2) وغلبته ، وتأكيد بالاستئناف وبكلمة التحقيق وبتكرير الضمير وبلام التعريف وبلفظ العلو ـ وهو الغلبة الظاهرة ـ وبلفظ التفضيل .
  قرئ : ( تلقف ) (3) بالرفع (4) على الاستئناف أو على الحال ، أي : ألقها متلقفة ، وقرئ : * (تلقف) * بالتخفيف * (ما صنعوا) * أي: ما زوروا وافتعلوا * (إنما صنعوا) * أي : الذي صنعوه ( كيد سحر ) (5) أي : ذوي سحر ، أو بين الكيد بسحر كما يبين

-------------------
(1) قاله مقاتل والجبائي والبلخي ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 224 ، والتبيان : ج 7 ص 187 .
(2) في نسخة : لأمره .
(3) لقفت الشئ ألقفه لقفا : أي تناولته بسرعة ، (الصحاح : مادة لقف) .
(4) وهي قراءة ابن عامر وابن ذكوان ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 335 .
(5) يظهر من عبارته أنه اعتمد هنا ـ تبعا للزمخشري ـ على هذه القراءة كما هو واضح . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 492 _
  المائة بدرهم ، لأن الكيد يكون سحرا أو غير سحر ، ومثله : علم فقه ، وقرئ : * (كيد سحر)* وحد لأن القصد معنى الجنسية لا معنى العدد ، يدل عليه قوله : * (ولا يفلح الساحر) * أي : هذا الجنس * (حيث أتى) * هو كقولهم : أينما كان ، وأية سلك ، وهاهنا حذف أي : فألقى عصاه فتلقفت ما صنعوا .
  * (فألقى السحرة سجدا) * وعن عكرمة : لما سجدوا أراهم الله في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة (1) .
  * (قبل أن ءاذن لكم) * أي : من غير إذني * (إنه لكبيركم) * أي : رئيسكم و (2) أسحركم و (3) أستاذكم ومعلمكم * (من خلف) * هو أن يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى ، لأن كل واحد من العضوين يخالف الآخر بشيئين : بأن هذا يد وذاك رجل وهذا يمين وذاك شمال ، و * (من) * لابتداء الغاية ، لأن القطع مبتدأ (4) من مخالفة العضو العضو ، والجار والمجرور في موضع الحال ، أي : لاقطعنها مختلفات * (في جذوع النخل) * شبه تمكن المصلوب في الجذع بتمكن الشئ في وعائه فهذا معنى ( في ) * (ولتعلمن) * أيها السحرة * (أينآ أشد عذابا) * يريد الملعون نفسه وموسى (عليه السلام) ، بدليل قوله : * (ءامنتم له) * ، واللام مع الإيمان لغير الله في القرآن كقوله : * (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) * (5) ، وقيل : يريد الله تعالى (6) .
  * (قالوا لن نؤثرك) * أي : لن نختارك * (على ما) * أتانا * (من) * المعجزات * (و) * على * (الذي فطرنا) * أي : خلقنا ، أو هو قسم أي : والله الذي فطرنا * (فاقض مآأنت قاض) * أي : فاصنع ما أنت صانعه فإنا لا نرجع عن الإيمان ، أو : فاحكم ما أنت

-------------------
(1) حكاه عنه الفخر الرازي في تفسيره : ج 22 ص 86 .
(2) في بعض النسخ : ( أو ) بدل الواو .
(3) في بعض النسخ : ( أو ) بدل الواو .
(4) في نسخة زيادة : وناش .
(5) التوبة : 61 .
(6) حكاه الآلوسي في تفسيره : ج 16 ص 231 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 493_
  حاكمه * (هذه الحيواة الدنيآ) * منصوبة على الظرف .
  * (وما أكرهتنا عليه) * روي : أنهم قالوا لفرعون : أرنا موسى نائما ، ففعل ، فوجدوه تحرسه عصاه ، فقالوا : ماهذا بسحر ، فإن الساحر إذا نام بطل سحره ، فأبى فرعون إلا أن يعملوا ، فذلك إكراههم (1) * (والله خير) * لنا منك * (و) * ثوابه * (أبقى) * لنا من ثوابك .
  والآيات الثلاث بعد حكاية قولهم ، وقيل : هي خبر من الله عزوجل (2) * (مجرما) * أي : كافرا ، و * (العلى) * جمع العليا تأنيث ( الأعلى )، و * (تزكى) * تطهر من أدناس الذنوب ، وعن ابن عباس : قال : لا إله إلا الله (3) .
  * (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى * يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى * وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي)

-------------------
(1) رواه البغوي في تفسيره : ج 3 ص 225 عن عبد العزيز بن أبان .
(2) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 77 .
(3) حكاه عنه الفخر الرازي في تفسيره : ج 22 ص 91 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 494 _
  * (أن أسر بعبادي) * أي : سر بهم ليلا من أرض مصر ، فاجعل * (لهم طريقا في البحر يبسا) * أي : يابسا ، من قولهم : ضرب له في ماله سهما ، أو ضرب اللبن أي : عمله ، وأصل اليبس مصدر * (لا تخف) * حال من الضمير في * (فاضرب) * ، وقرئ : ( لا تخف ) (1) على الجواب * (دركا) * هو اسم من الإدراك ، أي : لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك ، وإذا قرئ : ( لا تخف ) بالجزم ففي * (لا تخشى) * وجهان : أن يكون مقطوعا من الأول أي : وأنت لا تخشى ، وأن يكون الألف للإطلاق من أجل الفاصلة كقوله : * (فأضلونا السبيلا) * (2) .
  * (ما غشيهم) * من جوامع الكلم المستقلة بالمعاني الكثيرة مع قلتها ، وفيه تفخيم للأمر ، و * (ما هدى) * تهكم به لقوله : * (وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) * (3) .
  * (يبنى إسرا ءيل) * خطاب لهم بعد إنجائهم من البحر وإهلاك فرعون ، أي : قلنا لبني إسرائيل أو للذين كانوا في عهد نبينا (صلى الله عليه وآله) : من الله عليهم بما فعل بأسلافهم ، وقرئ : ( أنجيتكم ... وواعدتكم ... ورزقتكم ) (4) ، وقرئ : ( وعدناكم ) (5) ، ذكرهم النعمة في نجاتهم وهلاك عدوهم وفيما وعد موسى (عليه السلام) من المناجاة ب‍ * (جانب الطور) * وكتب التوراة في الألواح ، ونسب المواعدة إليهم حيث كانت لنبيهم ولنقبائهم وإليهم رجعت منافعها التي بها قوام دينهم .
  * (ولا تطغوا فيه) * أي : لاتتعدوا حدود الله تعالى * (فيحل عليكم غضبى) * أي :

-------------------
(1) وهي قراءة حمزة وحده ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 421 .
(2) الأحزاب : 67 .
(3) غافر : 29 .
(4) وهي قراءة حمزة والكسائي ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 422 .
(5) قرأه أبو عمرو ويعقوب ، راجع التبيان : ج 7 ص 192 ، (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 495 _
  فيجب عليكم عقوبتي ، من حل الدين يحل : إذا وجب أداؤه ، وقرئ : ( فيحل ) بضم الحاء (1) أي : فينزل ، لأن الغضب بمعنى العقوبة * (ومن يحلل) * بالضم (2) والكسر * (فقد هوى) * أي : هلك ، وأصله : أن يسقط من جبل ، كما قيل : هوى من رأس مرقبة * ففتت تحتها كبده (3) أو (4) سقط سقوطا لا نهوض بعده .
  * (ثم اهتدى) * أي : استقام واستمر عليه حتى يموت .
  وعن الباقر (عليه السلام) : * (ثم اهتدى) * إلى ولايتنا أهل البيت (5) .
  * (وما أعجلك) * أي شئ عجل بك عنهم ؟ ! وكان قد مضى مع النقباء إلى الطور ، ثم تقدمهم شوقا إلى كلام ربه .
  * (قال) * موسى (عليه السلام) * (هم أولاء على أثرى) * يدركونني عن قريب ، وسبقتهم إليك حرصا على تحصيل رضاك .
  * (فتنا قومك من بعدك) * يريد الذين خلفهم مع هارون ، أضاف سبحانه الفتنة إلى نفسه والضلال إلى * (السامري) * ليدل على أن الفتنة غير الإضلال ، أي : امتحناهم بخلق العجل وحملهم السامري على الضلال وأوقعهم فيه بقوله : * (هذا إلهكم وإله موسى) * (6) والمراد بالفتنة : تشديد التكليف عليهم بما حدث فيهم من أمر العجل ليظهر المؤمن المخلص من المنافق .
  والوعد الحسن : هو أن وعدهم إعطاء التوراة التي فيها هدى ونور (7) ،

-------------------
(1) قرأه الكسائي وحده ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 537 .
(2) وهي قراءة الكسائي ، راجع العنوان في القراءات السبع لابن خلف : ص 130 .
(3) البيت منسوب لأعرابي يرثي ابنا له سقط من جبل ، انظر شرح شواهد الكشاف : ص 381 .
(4) في بعض النسخ : ( أي ) بدل ( أو ) .
(5) تفسير فرات الكوفي : ص 91 .
(6) الآية : 88 .
(7) في نسخة زيادة : ولا وعد أحسن من ذلك وأجمل ، حكي لنا أنها كانت الف سورة ، كل سورة نزلت يحمل أسفارها سبعون جملا . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 496_
  و * (العهد) * : الزمان ، يريد مدة مفارقته لهم ، يقال : طال عهدي بك أي : طال زماني بسبب مفارقتك ، وهم وعدوه أن يقيموا على ماتركهم عليه من الإيمان فأخلفوا موعده بعبادتهم العجل .
  * ( قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً * وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمْ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى * قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي * قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) ) * (بملكنا) * قرئ بالحركات الثلاث (1) ، أي : * (مآأخلفنا موعدك) * بأن ملكنا أمرنا ، أي : لو ملكنا أمرنا وخلينا ورأينا لما أخلفناه ، ولكن غلبنا من جهة السامري وكيده ، والمعنى : ( حملنا ) (2) أحمالا * (من) * حلي القبط التي استعرناها منهم * (فقذفنها) * في نار السامري التي أوقدها في الحفرة وأمرنا أن نطرح فيها الحلي ،

-------------------
(1) فقد قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بكسر الميم ، ونافع وعاصم بفتحها ، وحمزة والكسائي بضمها ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 422 .
(2) الظاهر أن القراءة المعتمدة لدى المصنف هنا بالتخفيف مبنيا للمعلوم . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 497_
  وقرئ : * (حملنا) * أي : جعلنا نحمل ( أوزار ) القوم * (فكذلك ألقى السامري) * أراهم أنه يلقي حليا في يده (1) ، وإنما ألقى التربة التي أخذها من موطئ فرس جبرئيل .
  * (فأخرج لهم) * من الحفرة * (عجلا جسدا ... فنسى) * أي : فنسي موسى أن يطلبه هاهنا وذهب يطلبه عند الطور ويكون من قول السامري ، أو : فنسي السامري أي : ترك ماكان عليه من الإيمان الظاهر .
  * (ألا يرجع) * من رفعه فعلى أن ( أن ) مخففة من الثقيلة ، ومن نصبه فعلى أنها الناصبة للفعل .
  * (من قبل) * أي : من قبل أن يعود موسى إليهم ، و ( لا ) مزيدة ، والمعنى : ( ما منعك ... أن... تتبعني ) في شدة الزجر عن الكفر وقتال من كفر بمن آمن ، أو مالك لم تلحقني ؟ وكان موسى (عليه السلام) شديد الغضب لله ولدينه مجبولا على الحدة الخشونة في ذات الله، فلم يتمالك حين رأى القوم يعبدون العجل بعد رؤيتهم المعجزات والآيات أن ألقى الألواح لما عرته من الدهشة غضبا لله وحمية ، وعنف بأخيه وخليفته على قومه إذ أجراه مجرى نفسه إذا غضب في القبض على شعر رأسه ووجهه .
  * (إنى خشيت أن تقول فرقت بين بنى إسرا ءيل) * أي : لو قاتلت بعضهم ببعض لتفرقوا وتفانوا ، فأردت أن تكون أنت المتلاقي لأمرهم بنفسك ، وخشيت عتابك على ترك ما أوصيتني به حين قلت : * (اخلفنى في قومي وأصلح) * (2) .
  * (فما خطبك يسمرى) * أي : ما شأنك وما دعاك إلى ما صنعت ؟ وهو مصدر خطب الأمر : إذا طلبه ، فكأنه * (قال) * : ما طلبك ؟ * (قال بصرت بما لم يبصروا به) * أي : رأيت ما لم يروه ، أو : علمت ما لم يعلموه ، من البصيرة ، وعن ابن مسعود وأبي

-------------------
(1) في نسخة زيادة : مثل ماالقوا .
(2) الأعراف : 142 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _498_
  والحسن : ( فقبصت قبصة ) بالصاد (1) ، ومعنى الضاد (2) : الأخذ بجميع الكف ، والصاد (3) : بأطراف الأصابع .
  روي : أن موسى (عليه السلام) لما حل ميعاد ذهابه إلى الطور أرسل الله تعالى جبرئيل راكب حيزوم فرس الحياة ليذهب به ، فأبصره السامري فقال : إن لهذا شأنا ، فقبض * (قبضة) * من تربة موطئه ، فلما سأله موسى عن قصته قال : قبضت * (من أثر) * فرس * (الرسول) * الذي أرسل إليك * (فنبذتها) * في العجل ، وكما حدثتك يا موسى * (سولت) * أي : زينت * (لى نفسي) * من أخذ القبضة وإلقائها في صورة العجل (4) .
  * (قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً * إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً * كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً * يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً) * عوقب السامري في الدنيا بأن منع من مخالطة الناس منعا كليا ، وحرمت عليهم مكالمته ومبايعته ومجالسته ومؤاكلته ، وإذا اتفق أن يماس أحدا ، رجلا كان أو امرأة حم الماس والممسوس ، فكان يهيم في البرية مع الوحش ، وإذا لقي أحدا

-------------------
(1) حكاه القرطبي في تفسيره : ج 11 ص 240 .
(2) في بعض النسخ زيادة : المعجمة .
(3) في بعض النسخ زيادة : المهملة .
(4) رواه الرازي في تفسيره : ج 22 ص 110 عن علي (عليه السلام) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 499_
  قال : * (لامساس) * أي : لاتقربني ولا تمسني ، وقيل : إن ذلك بقي في ولده إلى اليوم : إن مس واحد من غيرهم واحدا منهم حم كلاهما في الوقت (1) * (لن تخلفه) * أي : لن يخلفك الله تعالى موعده الذي وعدك على الشرك والفساد في الأرض، ينجزه لك في الآخرة ، فأنت ممن خسر الدنيا والآخرة ، وقرئ : ( لن تخلفه ) بكسر اللام (2) وهو من أخلفت الموعد : إذا وجدته خلفا ، وقرئ : ( لن نخلفه ) بالنون (3) حكاية لقوله عزوجل * (ظلت) * أي : ظللت ، حذفت اللام الأولى، وقرئ : ( لنحرقنه ) (4) وهي قراءة علي (عليه السلام) (5) ، ومعناه : لنبردنه بالمبرد ولنحتنه حتا ، ويجوز أن يكون * (لنحرقنه) * مبالغة في حرق : إذا برد ، وهذه القراءة تدل على أنه كان ذهبا وفضة ولم يصر حيوانا .
  * (كل شئ) * مفعول * (وسع) * ، و * (علما) * منصوب على التمييز وهو في المعنى فاعل .
  * (كذلك) * أي : مثل ذلك الاقتصاص وهو ما قصصنا عليك من قصة موسى وفرعون * (نقص عليك من) * سائر أخبار الأمم السالفة وأحوالهم تكثيرا في آياتك ومعجزاتك ، والمراد بالذكر : القرآن ، لأن فيه ذكر كل ما يحتاج إليه من أمور الدين ، أي : * (ذكرا) * مشتملا على هذه الأقاصيص وعلى الأخبار الحقيقة بالتفكر فيها ، فمن أقبل عليه سعد ونجا ، و * (من أعرض عنه) * فقد شقي وهوى ، والمراد

-------------------
(1) قاله ابن عباس ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 230 .
(2) قرأه ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب ، راجع الكشف عن وجوه القراءات للقيسي : ج 2 ص 105 ، والتذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 538 .
(3) قرأه ابن مسعود على ما حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 85 .
(4) قرأه ابن عباس وأبو جعفر وابن محيصن وأشهب العقيلي ، راجع تفسير القرطبي : ج 11 ص 242 .
(5) انظر معاني القرآن للفراء : ج 2 ص 191 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 500 _
  ب‍ ( الوزر ) : العقوبة لما فيها من الثقل والصعوبة تشبيها بالحمل الثقيل الذي يفدح حامله ، أو : لأنها جزاء الوزر الذي هو الإثم * (خلدين) * حمل على معنى * (من) * ووحد الضمير في * (أعرض) * حملا على اللفظ * (فيه) * أي : في ذلك الوزر أو في احتماله * (وساء) * حكمه حكم ( بئس ) ، وفيه ضمير مبهم يفسره * (حملا) * ، والمخصوص بالذم محذوف لدلالة الوزر الذي تقدم ذكره عليه ، تقديره : وساء حملا وزرهم ، ونحوه : * (وساءت مصيرا) * (1) جهنم ، و * (لهم) * للبيان ، مثله في * (هيت لك) * (2) .
  وقرأ أبو عمرو : ( ننفخ ) بالنون (3) ، وقيل في ( الزرق ) : إن المراد : العمى (4) ، وقيل : العطاش (5) يظهر في عيونهم كالزرقة (6) ، وقيل : زرق العيون : سود الوجوه (7) .
  * (يتخفتون) * أي : يتسارون * (بينهم) * يقول بعضهم لبعض : ما * (لبثتم إلا) * عشر ليال ، وإنما تخافتوا لما اعتراهم من الرعب والهول ، استقصروا مدة لبثهم في الدنيا لاستطالتهم في الآخرة ، أو مدة لبثهم في القبور .
  و * (أمثلهم طريقة) * أوفرهم عقلا وأصوبهم رأيا عند نفسه ، ونحوه : * (قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم) * (8) .
  * (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً * يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً * وَعَنَتْ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)

-------------------
(1) النساء : 97 و 115 .
(2) يوسف : 23 .
(3) انظر كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 424 .
(4) ذهب إليه الفراء في معاني القرآن : ج 2 ص 191 .
(5) العطاش : داء يصيب الإنسان يشرب الماء فلا يروى ، (الصحاح : مادة عطش) .
(6) وهو قول الأزهري في تهذيب اللغة : ج 8 ص 428 مادة ( زرق ) .
(7) قاله الضحاك ومقاتل ، راجع تفسير الرازي : ج 22 ص 114 .
(8) الكهف : 19 . (*)