أصابع أيديهم من شدة الغيظ والضجر لما جاءت به الرسل ، كقوله : * (عضوا عليكم الانامل من الغيظ) * (1) ، أو أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم ومانطقت به من قولهم : * (إنا كفرنا بمآ أرسلتم به) * أي : هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره إقناطا لهم من التصديق ، أو وضعوا أيديهم على أفواههم يقولون للأنبياء : اسكتوا ، وقيل : ألايدي جمع يد وهي : النعمة ، بمعنى الأيادي ، أي : ردوا نعم الأنبياء التي هي أجل النعم من مواعظهم والشرائع التي أوحيت إليهم في أفواههم ، لأنهم إذا لم يقبلوها فكأنهم ردوها في أفواههم ورجعوها إلى حيث جاءت منه على طريق المثل (2) * (شك ... مريب) * موقع في الريبة ، أو ذي ريبة .
  * (أفي الله شك) * دخلت همزة الإنكار على الظرف لأن الكلام في المشكوك فيه ، وأنه لا يحتمل الشك لافي الشك * (يدعوكم ليغفر لكم) * أي : لأجل المغفرة ، كما تقول : دعوته ليأكل معي ، أو يدعوكم إلى الإيمان ليغفر لكم * (ويؤخركم إلى أجل مسمى) * أي : إلى وقت بين مقداره وسماه يبلغكموه : إن آمنتم وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت * (إن أنتم) * أي : ما أنتم * (إلا بشر مثلنا) * لافضل لكم علينا ، فلم خصصتم بالنبوة ؟ * (بسلطن مبين) * بحجة واضحة ، أرادوا بذلك ما اقترحوه من الآيات تعنتا (3) وعنادا .
  * (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ))

-------------------
(1) آل عمران : 119 .
(2) قاله مجاهد وقتادة ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 125 .
(3) في نسخة : بغيا . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)_ 277 _

  * * (إن نحن إلا بشر مثلكم) * تسليم لقولهم ، يعنون : أنهم مثلهم في البشرية وحدها * (ولكن الله يمن على من يشآء من عباده) * بالنبوة ، ولايخصهم بتلك الكرامة إلا لخصائص فيهم ليست في أبناء جنسهم * (وما) * صح * (لنآ أن نأتيكم) * بالآية التي اقترحتموها * (إلا) * بمشيئة * (الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * أمر منهم للمؤمنين كافة بالتوكل وقصدوا بذلك أنفسهم ، أي : ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاداتكم وعنادكم ، وأي عذر * (لنآ) * في * (ألا نتوكل على الله وقد) * فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه ، وهو التوفيق لهداية كل واحد منا إلى السبيل الذي يجب عليه سلوكه في الدين .
  * (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ * مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) * أي : * (لنخرجنكم من) * بلادنا ، إلا أن ترجعوا إلى أدياننا ومذاهبنا * (لنهلكن الظلمين) * حكاية تقتضي إضمار القول أو أجري الإيحاء مجرى القول ، والمراد ب‍ ( الارض ) : أرض الظالمين وديارهم .

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 278 _
  وفي الحديث : ( من آذي جاره ورثه الله داره ) (1) .
  * (ذلك) * إشارة إلى ما قضى الله به من الهلاك للظالمين (2) وإسكان المؤمنين ديارهم ، أي : ذلك الأمر حق * (لمن خاف مقامي) * أي : موقفي وهو موقف الحساب ، لأنه موقف الله الذي يقف فيه عباده ، أو على إقحام المقام .
  * (واستفتحوا) * واستنصروا الله على أعدائهم ، أو استحكموا الله وسألوه القضاء بينهم ، من الفتاحة وهي الحكومة ، ومنه : * (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق) * (3) ، وهو عطف على * (أوحى إليهم) * ، * (وخاب كل جبار عنيد) * معناه : فنصروا وظفروا وخاب كل جبار عنيد وهم قومهم .
  * (من ورائه) * من بين يدي هذا الجبار نار * (جهنم) * يلقى فيها ما يلقى * (ويسقى من ماء صديد) * هو عطف بيان، كأنه قال : ويسقى من ماء ، فأبهمه إبهاما ثم بينه بقوله : * (صديد) * وهو ما يسيل من جلود أهل النار من الدم والقيح . * (يتجرعه) * يتكلف جرعه * (ولا يكاد يسيغه) * دخل ( كاد ) للمبالغة ، أي : ولا يقارب أن يسيغه فكيف يكون الإساغة ، كقوله : * (لم يكد يربها) * (4) أي : لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها * (ويأتيه الموت من كل مكان) * كأن أسباب الموت قد أحاطت به من كل الجهات * (وما هو بميت) * فيستريح * (ومن ورائه عذاب غليظ) * أي : ومن بين يديه عذاب أشد مما قبله وأغلظ .
  * (مثل الذين كفروا بربهم) * مبتدأ محذوف الخبر عند سيبويه (5) ، والتقدير : فيما نقص عليكم مثل الذين كفروا ، وقوله : * (أعملهم كرماد) * جملة مستأنفة على

-------------------
(1) رواه الزمخشري الكشاف ج 2 ص 545 .
(2) في بعض النسخ : إهلاك الظالمين .
(3) الأعراف : 89 .
(4) النور : 40 .
(5) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 547 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 279 _
  تقدير جواب سائل يقول : كيف مثلهم ؟ فقيل : أعمالهم كرماد ، أو يكون * (أعملهم) * بدلا من * (مثل الذين كفروا) * والتقدير : مثل أعمال الذين كفروا * (كرماد اشتدت به الريح) * فذرته وسفته * (في يوم عاصف) * جعل العصف لليوم وهو لما فيه ، كما تقول : يوم ماطر ، و * (أعملهم) * هي : المكارم التي كانت لهم من صلة الأرحام وعتق الرقاب وإغاثة الملهوفين وإكرام الأضياف وغير ذلك من صنائعهم ، شبهت في حبوطها وذهابها هباء منثورا لبنائها على غير أساس من معرفة الله تعالى والإيمان به برماد طيرته الريح العاصف * (لا يقدرون) * يوم القيامة منها * (على شئ) * كما لا يقدر من الرماد المطير على شئ لا يرون بشئ منها ثوابا .
  * (أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ * وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ) * (بالحق) * بالحكمة والغرض الصحيح ولم يخلقهما عبثا ولا شهوة ، وقرئ : ( خالق السموات والارض ) (1) * (إن يشأ يذهبكم) * أي : يعدمكم * (و) * يخلق مكانكم خلقا آخرين .
  * (وما ذلك على الله) * بممتنع متعذر ، بل هو عليه هين يسير ، لأنه قادر لذاته ، لا اختصاص له بمقدور دون مقدور .
  * (وبرزوا لله) * ويبرزون يوم القيامة لله ، أي : يظهرون من قبورهم ويخرجون منها لحكم الله وحسابه ، و * (الضعفؤا) * : الأتباع والعوام ، والذين * (استكبروا) * : سادتهم وكبراؤهم الذين استتبعوهم واستغووهم وصدوهم عن اتباع الأنبياء

-------------------
(1) قرأه حمزة والكسائي ، راجع التبيان : ج 6 ص 286 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _280 _
  واستماع كلامهم ، و ( التبع ) : جمع التابع ، مثل : خادم وخدم وغائب وغيب * (قالوا لو هدبنا الله لهدينكم) * أي : لو هدانا الله إلى طريق الخلاص من العقاب لهديناكم إلى ذلك * (سوآء علينا أجزعنا أم صبرنا) * مستويان علينا الجزع والصبر * (مالنا من محيص) * أي : منجى ومهرب .
  * (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ) * يقول * (الشيطن) * وهو إبليس ، يقوم خطيبا في الأشقياء من الجن والإنس إذا * (قضى الامر) * أي : قطع وفرغ من الأمر وهو الحساب : * (إن الله وعدكم وعد الحق) * وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفي لكم بما وعدكم * (ووعدتكم) * خلاف ذلك * (فأخلفتكم) * ولم أوف لكم بما وعدتكم * (وما كان لى عليكم من سلطن) * أي : تسلط وقهر ، فأقسركم على الكفر والمعاصي وأكرهكم عليها * (إلا أن دعوتكم) * إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني ، وليس الدعاء من جنس السلطان ، ولكنه كقولهم : ماتحيتهم إلا الضرب * (فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) * حيث اغتررتم بي وأطعتموني إذ دعوتكم ولم تطيعوا ربكم إذ دعاكم * (مآ أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي) * لا ينجي بعضنا بعضا من عذاب الله ولايغيثه ، والإصراخ : الإغاثة ، و ( ما ) في * (بمآ أشركتمون) * مصدرية ، يعني : * (كفرت) * اليوم بإشراككم إياي * (من قبل) * هذا اليوم أي : في الدنيا ، ونحوه :

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 281 _
  * (ويوم القيمة يكفرون بشرككم) * (1) ، ومعنى كفره بإشراكهم إياه : تبرؤه منه واستنكاره له ، وقيل : تعلق * (من قبل) * ب‍ * (كفرت) * (2) ، و ( ما ) موصولة أي : كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي أشركتمونيه وهو الله جل جلاله ، تقول : شركت زيدا ، ثم تقول : أشركنيه فلان أي : جعلني له شريكا ، وهذا آخر قول إبليس ، وقوله : * (إن الظلمين) * قول الله عزوجل ، ويحتمل أن يكون من جملة قول إبليس .
  * (أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ * أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ * وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) * (ضرب الله مثلا) * أي : اعتمد مثلا ووضعه ، و * (كلمة) * منصوبة بفعل مضمر ، أي : جعل * (كلمة طيبة كشجرة طيبة) * ، وهو تفسير لقوله : * (ضرب الله مثلا) * كما تقول : أكرم الأمير زيدا : كساه حلة وحمله على فرس ، ويجوز أن ينتصب * (مثلا) * و * (كلمة) * ب‍ * (ضرب) * أي : ضرب كلمة طيبة مثلا ، بمعنى : جعلها مثلا ، ثم قال : * (كشجرة) * على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي كشجرة طيبة * (أصلها ثابت) *

-------------------
(1) فاطر : 14 .
(2) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 551 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 282 _
  في الأرض : ضارب بعروقه فيها * (وفرعها في السماء) * أي : في جهة العلو والصعود ، أي : وفروعها ، على الاكتفاء بلفظ الجنس ، والكلمة الطيبة : كلمة التوحيد (1) ، وقيل : هي كل كلمة حسنة كالتسبيحة والتحميدة والتوبة والاستغفار (2) ، وأما الشجرة : فكل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة والتين والرمان وغير ذلك ، وعن ابن عباس : شجرة في الجنة (3) .
   وعن الباقر (عليه السلام) : ( الشجرة : رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وفرعها : علي (عليه السلام) ، وعنصر (4) الشجرة : فاطمة (عليها السلام) ، وثمرها : أولادها ، وأغصانها (5) وورقها : شيعتها (6) ) (7) .
  وعن النبي (صلى الله عليه وآله) : ( أنا شجرة ، وفاطمة فرعها ، وعلي لقاحها ، والحسن والحسين ثمرها ، وشيعتنا أوراقها ) (8) .
   * (تؤتى أكلها كل حين) * تعطي ثمرها كل وقت وقته الله لإثمارها * (بإذن ربها) * بتيسير خالقها وتكوينه * (كشجرة خبيثة) * كمثل شجرة ، أي : صفتها كصفتها ، والكلمة الخبيثة : كلمة الشرك ، وقيل : كل كلمة قبيحة (9) ، وأما الشجرة الخبيثة : فكل شجرة لا يطيب ثمرها كشجرة الحنظل والكشوث (10) .

-------------------
(1) وهو قول ابن عباس ، راجع تفسيره : ص 213 .
(2) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 553 .
(3) حكاه عنه الشيخ في التبيان : ج 6 ص 291 .
(4) في نسخة : غصن .
(5) ليس في بعض النسخ لفظة : ( وأغصانها ) .
(6) في بعض النسخ : شيعتنا .
(7) تفسير القمي : ج 1 ص 369 ، معاني الأخبار : ص 400 ح 61 .
(8) أمالي الطوسي : ج 2 ص 18 ح 20 ، تاريخ ابن عساكر : ج 4 ص 321 .
(9) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 553 .
(10) الكشوث : نبت يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الأرض، (الصحاح : مادة كشث) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 283 _
  وعن الباقر (عليه السلام) : ( أنها بنو أمية ) (1) .
  * (اجتثت) * أي : استوصلت ، وهي في مقابلة قوله : * (أصلها ثابت) * ، * (مالها من قرار) * أي : استقرار ، يقال : قر قرارا مثل : ثبت ثباتا ، شبه بها القول الذي لم يعضد بحجة فهو داحض غير ثابت يضمحل عن قريب ، ونحوه : الباطل لجلج (2) .
  والقول * (الثابت) * الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه واطمأنت إليه نفسه ، وتثبيتهم به في الدنيا أنهم إذا فتنوا في دينهم لم يزلوا * (وفي الاخرة) * أنهم إذا سئلوا في القبر عن معتقدهم ودينهم ونبيهم يقول كل منهم : الله ربي وديني الإسلام ونبيي محمد (صلى الله عليه وآله) ، فيقول له الملكان : نم قرير العين نوم الشاب الناعم * (ويضل الله الظلمين) * الذين لم يتمسكوا بحجة في دينهم ، واقتصروا على تقليد شيوخهم في الدنيا ، فلا يثبتون في مواقف الفتن ، وتزل أقدامهم عن الحق ، وهم في الآخرة أضل وأزل * (ويفعل الله ما يشاء) * ولا يشاء إلا ما توجبه الحكمة من تثبيت المؤمنين وتأييدهم وخذلان الظالمين . * (بدلوا نعمت الله كفرا) * أي : شكر نعمة الله كفرا بأن وضعوه مكانه ، وقيل : هم الأفجران من قريش : بنو أمية وبنو المغيرة ، فأما بنو أمية فمتعوا إلى حين ، وأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر (3) * (وأحلوا قومهم) * ممن تابعهم على الكفر * (دار البوار) * أي : الهلاك .
  * (جهنم) * عطف بيان ل‍ * (دار البوار) * .
  وقرئ : * (ليضلوا) * بفتح الياء (4) وضمها ، ولما كان الضلال والإضلال نتيجة

-------------------
(1) تفسير القمي: ج 1 ص 369 .
(2) أي يردد من غير أن ينفذ ، (الصحاح : مادة لجج) .
(3) وهو قول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) والصادق (عليه السلام) وابن عباس وعمر وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك ، راجع تفسير القمي : ج 1 ص 371 ، وتفسير العياشي : ج 2 ص 230 ح 28 ، وتفسير الماوردي : ج 3 ص 136 .
(4) قرأه ابن كثير وأبو عمرو ورويس ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 482 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 284 _
  اتخاذ ( الأنداد ) أدخل اللام وإن لم يكن غرضا على طريق التشبيه والتقريب * (تمتعوا) * إيذان بأنهم كأنهم مأمورون بالتمتع (1) لانغماسهم فيه ، وأنهم لا يعرفون غيره ولا يريدونه .
  * (قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) *المقول محذوف ، لأن جواب * (قل) * يدل عليه ، والتقدير : * (قل لعبادي) * أقيموا الصلاة وأنفقوا * (يقيموا الصلوا ة وينفقوا) * ، وقيل : هو بمعنى : ليقيموا ولينفقوا وهو المقول (2) ، وجاز حذف اللام لأن الأمر الذي هو * (قل) * عوض منه ، ولو قيل ابتداء : * (يقيموا الصلوا ة وينفقوا) * لم يجز ، وانتصب * (سرا وعلانية) * على الحال ، بمعنى : مسرين ومعلنين ، أو على الظرف أي : وقتي سر وعلانية ، أو على المصدر أي : إنفاق سر وإنفاق علانية ، والخلال : المخالة .
  * (الله) * مبتدأ و * (الذي خلق) * خبره ، و * (من الثمرات) * بيان للرزق ، أي : ( أخرج به ... رزقا ) هو ثمرات ، ويجوز أن يكون * (من الثمرا ت) * مفعول ( أخرج )و * (رزقا) * حالا من المفعول أو نصبا على المصدر ل‍ ( أخرج ) لأنه في

-------------------
(1) في نسخة : بالتمتيع ، وفي نسخة اخرى زيادة : بالحاضر .
(2) قاله الزجاج في معاني القرآن : ج 3 ص 162 ـ 163 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 285 _
  معنى : رزق * (لتجري في البحر بأمره) * أي : بقوله : كن فيكون .
  * (دائبين) * يد أبان في سيرهما ، لايفتران في منافع الخلق وإصلاح مايصلحان من الأرض والأبدان والنبات * (وسخر لكم اليل والنهار) * يتعاقبان لمعاشكم وسباتكم .
  * (وءاتيكم من كل ما سألتموه) * من جميع ما سألتموه نظرا في مصالحكم ، و * (من) * للتبعيض ، وقيل : معناه : من كل شئ سألتموه ولم تسألوه (1) ، فيكون * (ما) * موصوفة بالجملة وحذف ( ولم تسألوه ) ، لأن ماأبقي يدل على ماألقي ، ومثله : * (سرا بيل تقيكم الحر) * (2) وحذف ( والبرد ) ، وقرئ : ( من كل ) بالتنوين (3) وهو قراءة السيدين : الباقر والصادق (عليهما السلام) ، وعلى هذا فيكون * (ما سألتموه) * نفيا ومحله نصب على الحال ، أي : آتاكم من جميع ذلك غير سائليه ، أو تكون * (ما) * موصولة بمعنى : ما آتاكم من كل ذلك مااحتجتم إليه ، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال * (لاتحصوهآ) * أي : لا تعدوها ولا تطيقوا حصرها * (لظلوم) * للنعمة لايشكرها * (كفار) * يكفرها ، أو ظلوم في الشدة : يشكو ويجزع ، كفار في النعمة : يجمع ويمنع .
  * (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)

-------------------
(1) قاله الزجاج في معاني القرآن : ج 3 ص 163 .
(2) النحل : 81 .
(3) قرأه ابن عباس والحسن وسلام بن المنذر وقتادة والضحاك ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 36 ، وتفسير القرطبي : ج 9 ص 367 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 286 _
  * يريد * (البلد) * الحرام * (ءامنا) * ذا أمن ، ويقال : جنبه الشر وجنبه الخير وأجنبه ، والمعنى : ثبتني * (وبنى) * على اجتناب عبادة * (الاصنام) * وأراد بنيه من صلبه .
  * (إنهن أضللن كثيرا من الناس) * فأعوذ بك لأن تعصمني وبني من ذلك ، ومعنى إضلالهن الناس : أنهم ضلوا بسببهن فكأنهن أضللنهم ، كما يقال : غرته الدنيا بمعنى : اغتر بها وبسببها * (فمن تبعني) * على ملتي * (فإنه منى) * أي : هو بعضي ، لاختصاصه بي وملابسته لي ، ونحوه قوله (صلى الله عليه وآله) : ( من غشنا فليس منا ) (1) أي : ليس بعض المؤمنين ، لأن الغش ليس من أفعالهم * (ومن عصاني فإنك غفور) * تستر على العباد معاصيهم * (رحيم) * بهم .
  * (من ذريتي) * أي : بعض أولادي وهو إسماعيل وأولاده * (بواد) * هو وادي مكة * (غير ذي زرع) * لا يكون فيه شئ من زرع قط * (عند بيتك المحرم) * الذي لم يزل ممنعا عزيزا يهابه كل جبار كالشئ المحرم الذي حقه أن يجتنب ، أو جعل محرما على الطوفان ممنوعا منه كما سمي عتيقا لأنه أعتق منه ، أو هو محرم محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكها ، وما حوله حرم لحرمته * (ربنا ليقيموا الصلوة ) * يتعلق اللام ب‍ * (أسكنت) * أي : ما أسكنتهم بهذا الوادي إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم ويعمروه بذكرك وعبادتك * (فاجعل أفدة من) * أفئدة

-------------------
(1) مسند أحمد : ج 3 ص 498 ، سنن الدارمي : ج 2 ص 248 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _287_
  * (الناس) * ، و * (من) * للتبعيض * (تهوى إليهم) * أي : تسرع إليهم وتفزع ، وقرئ : ( تهوى إليهم ) (1) من هوى يهوى : إذا أحب ، ضمن معنى ( تنزع ) فعدي تعديته ، وهي قراءة أهل البيت (عليهم السلام) * (وارزقهم من الثمرات) * مع سكناهم واديا ليس فيه شئ منها بأن تجلب إليهم من البلاد * (لعلهم يشكرون) * النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات حاضرة في واد يباب (2) .
  * (إنك تعلم مانخفي ومانعلن) * أي : تعلم السر كما تعلم العلن علما لا تفاوت فيه ، فلا حاجة بنا إلى الدعاء والطلب وإنما ندعوك إظهارا للعبودية لك ، وافتقارا إلى ما عندك ، واستعجالا لنيل مواهبك * (ومايخفي على الله) * الذي هو علام الغيوب * (من شئ في) * كل مكان من * (الارض و ... السماء) * و * (من) * للاستغراق .
  * (على الكبر) * أي : مع الكبر ، كقول الشاعر : إني على ماترين من كبري * أعلم من حيث يؤكل الكتف (3) وهو في موضع الحال ، أي : وهب لي وأنا كبير أو في حال الكبر * (إن ربى لسميع الدعاء) * أي : مجيبه وقابله ، وهو إضافة الصفة إلى مفعولها ، والأصل : لسميع الدعاء .
  * (ومن ذريتي) * أي : وبعض ذريتي عطفا على الضمير المنصوب في* (اجعلني) * ، * (وتقبل) * دعائي أي : عبادتي ، أو : وأجب دعائي ، لأن قبول الدعاء : الإجابة ، وقبول الطاعة : الإثابة .
  * (ربنا اغفر لى ولولدي) * في هذا دلالة على أن

-------------------
(1) وهي قراءة مجاهد على ما حكاه عنه القرطبي في تفسيره : ج 9 ص 373 .
(2) أرض يباب : أي خراب ، (الصحاح : مادة يبب) .
(3) لم نعثر على قائله ، يقول : إني مع ماترين من هرمي وكبري الموجبين للخرف عادة ، لكنني عارف بالامور متفطن لها على بصيرة منها ، وقوله : ( أعلم من أين يؤكل الكتف ) مثل يضرب للمجرب العارف بالامور ، راجع شرح شواهد الكشاف للأفندي : ص 458 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 288_
  أبويه لم يكونا كافرين وإنما كان آزر عمه أو جده لأمه على الخلاف فيه ، لأنه سأل المغفرة لهما * (يوم يقوم الحساب) * وهو يوم القيامة ، وقرئ : ( ولولدي ) (1) وهو قراءة أهل البيت (عليهم السلام) ، وهما إسماعيل وإسحاق ، و * (يقوم الحساب) * معناه : يثبت ، وهو مستعار من قيام القائم على الرجل ، يدل عليه قولهم : قامت الحرب على ساق ، ويجوز أن يسند إلى * (الحساب) * قيام أهله إسنادا مجازيا ، أو أن يكون مثل * (وسل القرية) * (2) .
  * (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ) * هذا وعيد للظالم وتسلية للمظلوم * (تشخص فيه الابصر) * أي : أبصارهم لاتقر في أماكنها من هول ما ترى في ذلك اليوم .
  * (مهطعين) * مسرعين إلى الداعي ، وقيل : الإهطاع : أن تقبل ببصرك على ما ترى تديم النظر إليه لاتطرف (3) * (مقنعي رؤوسهم) * رافعي رؤوسهم * (لا يرتد إليهم طرفهم) * لا ترجع إليهم أعينهم ، فلا يغمضونها لكنها مفتوحة ممدودة من غير تحريك الأجفان * (وأفدتهم

-------------------
(1) وهي قراءة ابراهيم النخعي ويحيى بن يعمر ، راجع تفسير القرطبي : ج 9 ص 375 .
(2) يوسف : 82 .
(3) قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وأبو الضحى ، راجع تفسير الطبري : ج 7 ص 468 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 289 _
  هواء) * أي خلاء : خالية عن العقول ، وصفت الأفئدة بالهواء إذا كان صاحبها لاقوة في قلبه ولا جرأة ، قال حسان : فأنت مجوف نخب هواء (1) وعن ابن جريج (2) : هواء صفر من الخير خاوية منه (3) .
  * (يوم يأتيهم العذاب) * مفعول ثان ل‍ * (أنذر) * وهو يوم القيامة * (أخرنا إلى أجل قريب) * ردنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى أمد من الزمان قريب نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة دعوتك واتباع رسلك ، ويجوز أن يكون المراد يوم هلاكهم بالعذاب العاجل أو يوم موتهم معذبين فيسألون يومئذ تأخيرهم إلى أجل كما في قوله : * (لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق) * (4) ، * (أولم تكونوا أقسمتم) * على إرادة القول ، أي : حلفتم * (مالكم من) * انتقال إلى دار أخرى ، أو قلتم ذلك بلسان الحال حيث بنيتم شديدا وأملتم بعيدا ، و * (مالكم) * جواب القسم وإن جاء بلفظ الخطاب .
  يقال : سكن الدار وسكن فيها ، من السكنى أو من السكون ، أي : اطمأننتم فيها طيبي النفوس سائرين سيرة من قبلكم في الظلم * (وتبين لكم) * بالإخبار والمشاهدة * (كيف) * أهلكناهم * (وضربنا لكم الامثال) * فلم تعتبروا .
  * (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)

-------------------
(1) وصدره : ألا أبلغ أبا سفيان عني ، والبيت من قصيدة طويلة قالها قبل فتح مكة ، مدح بها النبي (صلى الله عليه وآله) وهجا أبا سفيان وكان قد هجا النبي (صلى الله عليه وآله) من قبل ، راجع ديوان حسان : ج 1 ص 18 .
(2) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ، تقدمت ترجمته في ص 41 من سورة الأنفال .
(3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 564 .
(4) المنافقون : 10 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _290 _
  * * (وقد مكروا مكرهم) * العظيم * (وعند الله مكرهم) * يمكن أن يكون مضافا إلى الفاعل كالأول ، والمعنى : وعند الله مكرهم يجازيهم عليه ، وأن يكون مضافا إلى المفعول ، والمعنى : وعند الله مكرهم الذي يمكرهم به وهو عذابهم الذي يأتيهم من حيث لا يشعرون * (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) * أي : وإن كان مكرهم لعظمه وكبره يكاد يزيل الجبال عن أماكنها ، وعلى هذا تكون * (إن) * هي المخففة من الثقيلة ، واللام في * (لتزول) * هي الفارقة ، وقد جعلت * (إن) * نافية واللام مؤكدة لها ، كقوله : * (وما كان الله ليضيع إيمنكم) * (1) ، أي : وما كان مكرهم لتزول منه ما هو مثل الجبال من دلائل النبي (صلى الله عليه وآله) وشرائعه في الثبات والتمكن .
  وقرأ علي (عليه السلام) وعمر وابن مسعود : ( وإن كاد مكرهم ) (2) .
  * (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله) * مثل قوله : * (إنا لننصر رسلنا) * (3) ، * (كتب الله لاغلبن أنا ورسلي) * (4) ، وقدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلا ، ثم قال : * (رسله) * ليؤذن أنه إذا لم يخلف أحدا وعده فكيف يخلفه رسله الذين هم خيرته من عباده ؟ * (يوم تبدل الارض) * بدل من * (يوم يأتيهم) * أو على الظرف للانتقام ،

-------------------
(1) البقرة : 143
(2) راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 40 ، والكشاف : ج 2 ص 566 .
(3) غافر : 51 .
(4) المجادلة : 21 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 291_
  والمعنى : يوم تبدل هذه الأرض التي تعرفونها أرضا أخرى غيرها ، وكذلك * (السموات) * ، والتبديل : التغيير ، وقد يكون في الذوات كقولك : بدلت الدراهم دنانير ، ومنه : * (بدلنهم جلودا غيرها) * (1) ، * (وبدلنهم بجنتيهم جنتين) * (2) ، وقد يكون في الأوصاف كقولك : بدلت الحلقة خاتما : إذا أذبتها وسويتها خاتما فنقلتها من شكل إلى شكل .
  واختلف في تبديل الأرض والسماوات ، فقيل : تبدل أوصافها فتسير على الأرض جبالها ، وتفجر بحارها ، وتسوى فلا يرى فيها عوج ولا أمت (3) (4) ، وقيل : تخلق أرض وسماوات أخر (5) .
  * (مقرنين) * قرن بعضهم مع بعض ومع الشياطين ، أو مغللين قرنت أيديهم إلى أرجلهم * (في الاصفاد) * أي : الأغلال .
  * (سرابيلهم) * أي : قميصهم * (من قطران) * وهو ما يطلى به الإبل الجربى فيحرق الجرب والجلد ، وقرئ : ( من قطر ءان ) (6) ، والقطر : النحاس أو الصفر المذاب ، والآني : المتناهي حره * (وتغشى وجوههم النار) * خص الوجوه لأن الوجه أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه كالقلب في باطنه ، ولذلك قال : * (تطلع على الافدة) * (7) .
  * (ليجزى الله) * هو من صلة قوله : * (وترى المجرمين) * أي : يفعل بهم ما يفعل

-------------------
(1) النساء : 56 .
(2) سبأ : 16 .
(3) الأمت : التلال الصغار ، (الصحاح : مادة أمت) .
(4) وهو قول الحسن ، راجع التبيان : ج 6 ص 309 .
(5) قاله ابن عباس وابن مسعود وأنس ومجاهد ومحمد بن كعب وكعب الأحبار وابن جبير وابن عيسى ، ورووه عن علي (عليه السلام) ، راجع تفسير الطبري : ج 7 ص 482 ـ 483 ، وتفسير الماوردي : ج 3 ص 143 ـ 144 .
(6) قرأه سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس وعيسى ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 145 ، وشواذ القرآن لابن خالويه : ص 74 ، والتبيان : ج 6 ص 311 .
(7) الهمزة : 7 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 292 _
  ليجزي الله * (كل نفس ما كسبت) * .
  * (هذا بلغ للناس) * أي : كفاية للتذكير والموعظة ، ويعني ب‍ * (هذا) * ما وصفه من قوله : * (فلا تحسبن الله) * إلى قوله : * (سريع الحساب) * ، * (ولينذروا به) * معطوف على محذوف ، أي : لينصحوا ولينذروا به أي : بهذا البلاغ * (وليعلموا أنما هو إله وا حد) * لأن الخوف يدعو إلى النظر الموصل إلى التوحيد ، وقيل : معناه : هذا القرآن عظة بالغة كافية للناس ، أنزل ليبلغوا ولينذروا بما فيه من الوعيد ، وليعلموا أنما هو إله واحد بالنظر في الأدلة المؤدية إلى التوحيد المثبتة في القرآن (1) ، وليتذكر وليتعظ به * (أولوا الالبب) * ذوو العقول والنهى .

-------------------
(1) وهو قول ابن زيد ، راجع التبيان : ج 6 ص 311 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 293 _
سورة الحجر مكية (1)
  وهي تسع وتسعون آية بلا خلاف .
  في حديث أبي : ( من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار والمستهزئين بمحمد (صلى الله عليه وآله) ) (2) .

بسم الله الرحمن الرحيم

   (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ * رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ * وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ * مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ)

-------------------
(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان : ج 6 ص 313 : مكية في قول قتادة ومجاهد ، وقال الماوردي في تفسيره : ج 3 ص 147 : مكية باتفاق ، إلا قوله تعالى : * (ولقد ءاتينك سبعا من المثانى والقرءان العظيم) * فمدنية ، وقال الزمخشري في كشافه : ج 2 ص 569 : مكية إلا آية 87 فمدنية ، وهي تسع وتسعون آية ، نزلت بعد سورة يوسف ، وفي تفسير الآلوسي : ج 14 ص 2 ما لفظه : أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة ، وروي ذلك عن قتادة ومجاهد ، وفي مجمع البيان عن الحسن أنها مكية إلا قوله تعالى : * (ولقد ءاتينك سبعا من المثانى والقرءان العظيم) * وقوله سبحانه : * (كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرءان عضين) * وذكر الجلال السيوطي في الاتقان عن بعضهم استثناء الآية الاولى فقط ثم قال : قلت : وينبغي استثناء قوله تعالى : * (ولقد علمنا المستقدمين) * الآية لما أخرجه الترمذي .
(2) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 592 مرسلا . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 294 _
  * (ربما) * قرئ بتشديد الباء (1) وتخفيفها ، ودخلت على الفعل المضارع وإن كانت إنما تدخل على الماضي فإنها إنما تدل على أمر قد مضى ، لأن المترقب في أخبار الله عزوجل بمنزلة الماضي المقطوع به في التحقق ، فكأنه قال : ربما ودوا ، والمعنى : ربما يتمنى الكفار يوم القيامة إذا عاينوا حالهم وحال المسلمين ، وروي : أن ذلك يكون إذا رأوا المسلمين يخرجون من النار (2) ، و * (لو كانوا مسلمين) * حكاية ودادتهم .
  * (ذرهم) * أي : اقطع طمعك منهم ودعهم عن النهي عما هم عليه وخلهم * (يأكلوا ويتمتعوا) * بدنياهم ، ويشغلهم أملهم الكاذب عن اتباعك * (فسوف يعلمون) * سوء صنيعهم ، وهذا إيذان بأنهم لا ينفعهم الوعظ ولاينجع فيهم النصح ، ومبالغة في الإنذار وإلزام للحجة .
  * (إلا ولها كتاب) * صفة ل‍ * (قرية) * ، والقياس أن لا يتوسط الواو بينهما كما في قوله : * (وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون) * (3) ، وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما تقول في الحال : جاءني زيد عليه ثوب ، وجاءني وعليه

-------------------
(1) وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي ، انظر كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 366 .
(2) رواها أبو موسى الاشعري عن النبي (صلى الله عليه وآله) كما في تفسير البغوي : ج 3 ص 43 .
(3) الشعراء : 208 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 295 _
  ثوب ، ومعناه : مكتوب * (معلوم) * وهو أجلها الذي كتب في اللوح المحفوظ ، ألا ترى إلى قوله : * (ما تسبق من أمة أجلها) * في موضع كتابها ، وأنث ( الأمة ) أولا ثم ذكرها ثانيا حملا على اللفظ والمعنى ، وأراد : * (ما يستخرون) * عنه فحذف .
  * (يأيها الذي نزل عليه الذكر) * كان هذا النداء منهم على وجه الاستهزاء ، كما قال فرعون : * (إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) * (1) ، والمعنى : إنك لتقول قول المجانين حين تدعي أن الله تعالى نزل عليك الذكر .
  وركبت ( لو ) مع ( لا ) و ( ما ) لمعنيين : أحدهما : امتناع الشئ لوجود غيره ، والآخر : التحضيض ، وأما ( هل ) فلم تركب إلا مع ( لا ) وحدها للتحضيض ، قال ابن مقبل (2) : لوما الحياء ولوما الدين عبتكما * ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري (3) والمعنى : هلا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك ، أو هلا يأتوننا الملائكة للعقاب على تكذيبنا إياك .
  ( ما تنزل ) أي : ما تتنزل الملائكة (4) ، وقرئ : * (ننزل) * بالنونين * (الملئكة) * بالنصب ، وقرئ : ( تنزل الملائكة ) على البناء للمفعول (5) * (إلا بالحق) * إلا تنزيلا ملتبسا بالحق أي : بالحكمة والمصلحة ، وقيل : بالوحي أو بالعذاب (6) ، و * (إذا) *

-------------------
(1) الشعراء : 27 .
(2) هو تميم بن ابي بن مقبل ، من بني العجلان ، شاعر جاهلي أدرك الاسلام وأسلم ، ورثى عثمان بن عفان ، وكان يبكي اهل الجاهلية ، عاش نيفا ومائة سنة ، وعد من المخضرمين ، انظر كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة : ص 276 ـ 278 .
(3) البيت من قصيدة قالها ردا على الذين سخروا منه لعوره ، ومعنى البيت واضح ، راجع الشعر والشعراء لابن قتيبة : ص 277 .
(4) يبدو أن المصنف اعتمد هنا ـ تبعا للزمخشري ـ على هذه القراءة كما لا يخفي .
(5) قرأه أبو بكر والمفضل ، راجع كتاب التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 485 .
(6) وهو قول الحسن ومجاهد ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 149 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 296 _
  جواب وجزاء ، والتقدير : * (و) * لو نزلنا الملائكة * (ما كانوا ... منظرين) * أي : مؤخرين ممهلين ، والمعنى : لانمهلهم ساعة .
  * (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ * وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنْ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ * وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلاَّ مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ) * هذا رد لإنكارهم واستهزائهم في قولهم : * (يأيها الذي نزل عليه الذكر) * ولذلك قال : * (إنا نحن) * فأكد عليهم أنه هو المنزل للقرآن على القطع والثبات ، وأنه حافظه من كل زيادة ونقصان وتغيير وتحريف ، بخلاف الكتب المتقدمة فإنه لم يتول حفظها وإنما استحفظها الربانيين ولم يكل القرآن إلى غير حفظه ، وعن الفراء : يجوز أن يكون الضمير في * (له) * لرسول الله (صلى الله عليه وآله) (1) ، كقوله : * (والله يعصمك من الناس) * (2) .
  * (في شيع الاولين) * أي : في فرقهم وطوائفهم ، والشيعة : الفرقة إذا اتفقوا في (3) مذهب وطريقة ، أي : نبأنا من قبلك رسلا فيهم .
   * (وما يأتيهم) * حكاية حال ماضية ، لأن ( ما ) لايدخل على مضارع إلا وهو في معنى الحال ، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال .

-------------------
(1) معاني القرآن : ج 2 ص 85 .
(2) المائدة : 67 .
(3) في نسخة : على . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _297_
  والضمير في * (نسلكه) * للذكر ، وسلكت الخيط في الإبرة وأسلكته : أدخلته فيها ونظمته ، أي : مثل ذلك السلك ونحوه نسلك الذكر * (في قلوب المجرمين) * ، على معنى : أنه يلقيه في قلوبهم مكذبا به غير مقبول ، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها تقول : كذلك أنزلها باللئام ، يعني : هذا الإنزال أنزلها بهم مردودة غيرمقضية .
  و * (لا يؤمنون به) * في محل النصب على الحال أي : غير مؤمنين به ، أو هو بيان لقوله : * (كذلك نسلكه) * ، * (وقد خلت سنة الاولين) * أي : طريقتهم التي سنها الله في إهلاكهم حين كذبوا رسلهم ، وهو وعيد .
  وقرئ : * (يعرجون) * بضم الراء وكسرها (1) ، و * (سكرت) * بالتثقيل والتخفيف (2) ، والمعنى : حبست عن الإبصار ، من السكر أو السكر ، أي : كما يحبس النهر من الجري ، يريد : أن هؤلاء المشركين بلغ من عنادهم أن لو فتح لهم باب من أبواب السماء ، ويسر لهم معراج يصعدون فيه إليها لقالوا : هو شئ خيل إلينا على غير حقيقة ، بل قالوا : قد سحرنا محمد ـ (صلى الله عليه وآله) ـ بذلك ، وقيل : الضمير للملائكة (3) ، أي : لو أريناهم الملائكة يصعدون في السماء عيانا * (لقالوا) * ذلك ، وذكر ( ظلوا ) ليجعل عروجهم بالنهار ليكونوا مستوضحين لما يرونه ، وقال : * (إنما) * ليدل على أنهم يقطعون بأن ذلك ليس إلا تسكيرا لأبصارهم .
  * (من استرق) * في محل النصب على الاستثناء .
  عن ابن عباس : أنهم كانوا لا يحجبون عن السماوات ، فلما ولد عيسى منعوا من ثلاث سماوات ، فلما ولد محمد (صلى الله عليه وآله) منعوا من السماوات كلها (4) .
  * (شهاب مبين) * أي : ظاهر للمبصرين .

-------------------
(1) والقراءة بالكسر هي قراءة الأعمش وابن أبي الزناد وعيسى ، راجع شواذ القرآن لابن خالويه : ص 74 .
(2) وبالتخفيف قرأه ابن كثير وحده ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 366 .
(3) قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج والضحاك ، راجع تفسير الطبري : ج 7 ص 496 .
(4) حكاه عنه البغوي في تفسيره : ج 3 ص 45 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _298 _
  * (وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ * وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) * (مددنها) * بسطناها وجعلنا لها طولا وعرضا * (روا سى) * جبالا ثابتة ، والموزون : المقدر (1) المعلوم ، وزن بميزان الحكمة ، أو الذي له وزن وقدر في أبواب المنفعة ، وقيل : هو ما يوزن نحو الذهب والفضة وغيرهما (2) .
  * (معيش) * بياء صريحة بخلاف ( الشمائل ) ونحوها فإنها تهمز ، وتصريح الياء فيها خطأ ، أو يخرج الياء بين بين (3) * (ومن لستم له برا زقين) * عطف على * (معيش) * أو على محل * (لكم) * ، كأنه قيل : وجعلنا لكم فيها معايش وجعلنا لكم من لستم له برازقين ، وأراد بهم العيال والمماليك الذين يحسبون أنهم يرزقونهم وإنما الله رازقهم وإياهم ، ولايجوز أن يكون مجرورا عطفا على الضمير المجرور في * (لكم) * .

-------------------
(1) في بعض النسخ : المقدار .
(2) وهو قول الحسن وابن زيد ، راجع التبيان : ج 6 ص 326 .
(3) قال الهمداني : ( معايش ) جمع معيشة ، والياء أصلية متحركة في التقدير بإزاء الذال من ( معذرة ) ، وأصلها معيشة بوزن مفعلة ، فإذا جمعت على مفاعل فالوجه تصحيح الياء ردا الى أصلها ، ولا يجوز فيه الهمز كما جاز في ( صحائف ) لأجل أن ياء ( صحيفة ) أتبعت ألف رسالة من حيث إنها مدة عارية من تقدير الحركة كالألف فهمزت لذلك ... الى أن قال : والمعيشة : ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرهما ، راجع الفريد في اعراب القرآن : ج 2 ص 274 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 299 _
  * (و) * ما * (من شئ) * ينتفع به العباد * (إلا) * ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه ، وضرب ( الخزائن ) مثلا لاقتداره على كل مقدور * (وما ننزله) * أي : ومانعطيه * (إلا) * بمقدار * (معلوم) * نعلم أنه مصلحة لهم .
  * (لوا قح) * فيه قولان : أحدهما : أن معناها الملاقح ، جمع ملقحة (1) ، كما قال : ومختبط مما تطيح الطوائح (2) .
  أراد المطاوح جمع مطيحة ، والثاني : أنه يقال : ريح لاقح : إذا جاءت بخير وضدها العقيم (3) ، ونحوه : سحاب ماطر * (فأسقينكموه) * فجعلناه لكم سقيا * (وما أنتم له بخزنين) * نفي عنهم ما أثبته لنفسه في قوله : * (وإن من شئ إلا عندنا خزآئنه) * أي : نحن الخازنون للماء ، القادرون على خلقه في السماء وإنزاله منها ، ولا تقدرون على ذلك .
  * (ونحن الوا رثون) * الباقون بعد هلاك الخلق كله ، وهو استعارة من وارث الميت ، لأنه يبقى بعد فناء الموروث منه .
  وفي حديثه صلوات الله عليه وآله : ( واجعله الوارث منا ) (4) .

-------------------
(1) قاله أبو عبيدة والجوهري ، راجع مجاز القرآن : ج 1 ص 348 ، والصحاح : مادة (لقح) .
(2) وصدره : ليبك يزيد ضارع لخصومة ، وقد اختلفوا في قائله ، نسبه بعض الى الحارث بن نهيك ، ونسبه الآخر الى لبيد ، وفي الخزانة نسبه الى نهشل بن حري النهشلي من قصيدة يرثي بها أخاه يزيد بن نهشل ويصفه بالنصر والكرم للذليل وطالب المعروف، ونهشل هذا شاعر مخضرم شريف قومه ، بقي الى أيام معاوية ، وكان مع علي (عليه السلام) في حروبه ، وقتل أخوه مالك بصفين وهو يومئذ رئيس بني حنظلة ، راجع خزانة الأدب للبغدادي : ج 1 ص 303 وج 8 ص 139 .
(3) وهو قول الحسن في تفسيره : ج 2 ص 65 .
(4) وهو من دعاء كان (صلى الله عليه وآله) يدعو به وهو : ( اللهم متعني بسمعي وبصري ، واجعلهما الوارث مني ، وانصرني على من ظلمني ، وأرني فيه ثاري ) أخرجه الحاكم في المستدرك : ج 1 ص 523 وج 2 ص 142 ، والطبراني في المعجم الصغير : ج 2 ص 108 ، وأخرج الحاكم أيضا في المستدرك : ج 4 ص 413 ـ 414 عن أنس : ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان إذا أصابه رمد أو أحدا من أهله وأصحابه دعا بهؤلاء الكلمات : ( اللهم متعني ببصري ، واجعله الوارث مني ، = (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 300 _
  * (ولقد علمنا) * من استقدم ولادة وموتا ، ومن استأخر أي : تأخر من الأولين والآخرين ، أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد ، أو من تقدم في الإسلام ، أو في صف الجماعة ومن تأخر .
  * (هو يحشرهم) * أي : هو وحده القادر على حشرهم ، والعالم بحصرهم مع كثرتهم ووفور عدتهم * (إنه حكيم) * باهر الحكمة * (عليم) * واسع العلم ، أحاط بكل شئ علما .
  * (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ) الصلصال : الطين اليابس الذي يصلصل وهو غير مطبوخ فإذا طبخ فهو فخار ، والحمأ : الطين الأسود المتغير ، والمسنون : المصور ، وسنة الوجه : صورته ، وقيل : هو المصبوب المفرغ كأنه أفرغ حتى صار صورة (1) ، وحق * (مسنون) * بمعنى :

-------------------
=
(وأرني في العدو ثاري ، وانصرني على من ظلمني ) .
(1) وهو قول أبي عمرو بن العلاء وأبي عبيدة ، راجع مجاز القرآن : ج 1 ص 351 ، وتفسير الماوردي : ج 3 ص 158 . (*)