عشية قارعنا جذام وحميرا (1) [ وقوله : ] غداة طفت علماء بكر بن وائل (2) أي : على الماء ، و * (العسرة) * : حالهم في غزوة تبوك ، كان يعتقب العشرة على بعير واحد ، وكان زادهم الشعير المسوس والتمر المدود والإهالة (3) السنخة (4) ، وبلغت الشدة بهم أن اقتسم التمرة اثنان ، وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء ، وكانوا في حمارة القيظ (5) وفي الضيقة الشديدة من القحط وقلة الماء ( كاد تزيغ قلوب فريق منهم ) عن الثبات على الإيمان ، أو عن اتباع الرسول (صلى الله عليه وآله) في تلك الغزوة ، وفي * (كاد) * ضمير الأمر والشأن ، وشبهه سيبويه بقولهم : ( ليس خلق الله مثله ) (6) ، وقرئ : * (يزيغ) * بالياء (7) ، قيل : إن قوما منهم هموا بالانصراف من غزاتهم بغير استئذان ، فعصمهم الله تعالى حتى مضوا (8) ، * (ثم تاب عليهم) * من بعد ذلك الزيغ * (إنه بهم رءوف رحيم) * تداركهم

-------------------
(1) قائله : زفر بن الحارث الكلابي ، وصدره : وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة ، قاله يوم مرج راهط ، وهو موضع كانت فيه وقعة بالشام وفيها قتل الضحاك بن قيس ، أراد أنه حينما قابلنا القبيلتين علمنا أنهما ليسوا كما توهمنا في شأنهم ضعفاء بل هم أقوياء وغير منخذلين ، انظر شرح شواهد المغني : ص 930 .
(2) وعجزه : وعاجت صدور الخيل شطر تميم ، ذكره في شرح شواهد الكشاف ولم يذكر قائله ، أراد انهم علوا في المنزلة والعز بحيث لايعلوهم أحد كما أن الشئ يطفو وجه الماء وغيره يرسب ، انظر شرح شواهد الكشاف : ص 525 .
(3) الإهالة : الودك ، أي دسم اللحم ، (الصحاح : مادة أهل) .
(4) سنخ الدهن : إذا فسد وتغيرت ريحه ، (الصحاح: مادة سنخ).
(5) حمارة القيظ : أي شدة حر الصيف ، (لسان العرب : مادة قيظ) .
(6) انظر كتاب سيبويه : ج 1 ص 69 ـ 70 .
(7) فان المصنف لم يعتمد إلا على القراءة بالتاء تبعا للزمخشري .
(8) قاله ابن عباس في تفسيره : ص 167 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 102 _

  برأفته ورحمته .
  * (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ) * وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال ابن أمية ، خلفوا عن قبول التوبة بعد قبول توبة من قبل توبتهم ، وقيل : خلفوا عن غزوة تبوك لما تخلفوا (1) ، وقراءة أهل البيت (عليهم السلام) وأبي عبد الرحمن السلمي (2) : ( خالفوا ) (3) ، * (بما رحبت) * أي : برحبها ، والمعنى : مع سعتها ، وهو مثل لحيرتهم في أمرهم ، كأنهم لا يجدون في الأرض موضع قرار * (وضاقت عليهم أنفسهم) * أي : قلوبهم من فرط الوحشة والغم * (وظنوا) * وعلموا * (أن لا ملجأ من) * سخط * (مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) * ثم رجع عليهم بالقبول والرحمة مرة بعد أخرى ليستقيموا على توبتهم ويثبتوا ، أو ليتوبوا أيضا في المستقبل إن فرطت منهم خطيئة ، علما منهم ب‍ * (ان الله) * تواب على من تاب ولو عاد في اليوم سبعين مرة .
   * (مع الصدقين) * الذين صدقوا في دين الله نية وقولا وعملا ، وعن الباقر (عليه السلام) : (كونوا مع آل محمد ) (4) .
  وقرأ ابن عباس : ( من الصادقين ) (5) ، وروي أيضا ذلك عن الصادق (عليه السلام) (6) .

-------------------
(1) قاله الحسن وقتادة ، راجع البحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 109 .
(2) هو عبد الله بن حبيب الكوفي ، من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) ، كان مقرئا وفقيها ، فقد أقرأ القرآن في المسجد لمدة أربعين سنة ، شهد مع أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في صفين ثم صار عنه بعدها ، توفي في زمن عبد الملك بن مروان عام (72 ه‍) ، راجع رجال السيد الخوئي : ج 10 ص 155 .
(3) انظر شواذ القرآن لابن خالويه : ص 60 .
(4) المناقب لابن شهرآشوب : ج 3 ص 92 ـ 93 .
(5) حكاها عنه أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط : ج 5 ص 110 .
(6) رواها عنه (عليه السلام) في البحر المحيط : ج 5 ص 111 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 103 _
  * (مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) * ظاهره خبر ومعناه نهي ، مثل قوله : * (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ) * (1) ، * (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) * أمروا بصحبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) على البأساء والضراء ، وبأن يكابدوا معه الشدائد برغبة ونشاط * (ذلك) * إشارة إلى مادل عليه قوله : ( ما كان لهم أن يتخلفوا ) من وجوب مشايعته ، أي * (ذلك) * الوجوب * (ب‍) * سبب * (أنهم لا يصيبهم) * شئ من عطش ولا تعب ولا مجاعة في طريق الجهاد ، ولا يضعون أقدامهم ولا يدوسون بحوافر خيولهم وأخفاف رواحلهم موضعا * (يغيظ الكفار) * وطأهم إياه ، ولا يتصرفون في أرضهم تصرفا يضيق صدورهم * (وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) * ولا يرزؤونهم شيئا بقتل أو أسر أو أمر يغمهم * (إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ) * واستوجبوا الثواب عند الله، والموطئ : إما مصدر كالمورد وإما مكان ، والنيل : يجوز أن يكون مصدرا مؤكدا وأن يكون بمعنى المنيل ، وهو عام في كل مايسوؤهم ويضرهم .
  * (ولا يقطعون واديا) * أي : أرضا في ذهابهم ومجيئهم ، والوادي : كل منعرج بين جبال وآكام يكون منفذا للسيل ، وهو في الأصل فاعل من ودى : إذا سال ، ومنه الودي (2) * (إلا كتب لهم) *

-------------------
(1) الأحزاب : 53 .
(2) الودي : مايخرج بعد البول ، (الصحاح : مادة ودي) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 104 _
  ذلك الإنفاق وقطع الوادي ، وتعلق * (ليجزيهم) * ب‍ * (- كتب) * أي : أثبت في صحائفهم لأجل الجزاء .
  * (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) * (لينفروا) * اللام لتأكيد النفي ، والمعنى : أن نفير الكافة عن أوطانهم لطلب الفقه (1) والعلم غير صحيح ولا ممكن ، وفيه : أنه لو صح وأمكن ولم يؤد إلى مفسدة لوجب على الكافة ، لأن طلب العلم فريضة على كل مسلم * (فلولا نفر) * فحين لم يمكن نفير الكافة فهلا نفر * (من كل فرقة) * أي : جماعة كثيرة * (طائفة) * أي : جماعة قليلة ( منهم ) : * (ليتفقهوا في الدين) * ليتكلفوا الفقاهة فيه ، ويتجشموا المشاق في تحصيلها * (ولينذروا قومهم) * وليجعلوا غرضهم بالتفقه إنذار قومهم وإرشادهم * (لعلهم يحذرون) * عقاب الله ويطيعونه .
  * (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ ) * أي : يقربون منكم ، فإن القتال واجب مع جميع الكفار ، ولكن الأقرب فالأقرب أوجب ، ونظيره : * (وأنذر عشيرتك الاقربين) * (2) ، وقد حارب رسول الله (صلى الله عليه وآله) قومه ثم غيرهم من العرب ، وقيل :

-------------------
(1) في بعض النسخ : التفقه .
(2) الشعراء : 214 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 105 _
  هم قريظة والنضير (1) وفدك (2) وخيبر (3) ، والأول أصح ، لأن السورة نزلت في سنة تسع ، وقد فرغ النبي من أولئك * (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) * أي : شدة وصبرا على جهادهم ، ونحوه : * (واغلظ عليهم) * (4) .
  * (فمنهم من يقول) * فمن المنافقين من يقول بعضهم لبعض : * (أيكم زادته هذه) * السورة * (إيمنا) * استهزاء باعتقاد المؤمنين زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي * (فزادتهم إيمنا) * أي : تصديقا ويقينا وثلجا لصدورهم .
  وقوله : * (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) * أي : كفرا مضموما إلى كفرهم ، لأنهم بتجديد الوحي جددوا كفرا ونفاقا فازداد كفرهم عنده واستحكم .
  * ( أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)

-------------------
(1) قريظة والنضير : قبيلتان من يهود خيبر ، وقد دخلوا في العرب على نسبهم الى هارون أخي موسى (عليه السلام) ، منهم محمد بن كعب القرظي ، انظر الصحاح : مادة نضر .
(2) فدك : قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان ، أفاءها الله على رسوله (صلى الله عليه وآله) سنة سبع صلحا فكانت خالصة له ، وفيها عين فوارة ونخيل كثيرة ، وهي التي قالت فاطمة (عليها السلام) : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نحلنيها فقال أبو بكر : اريد لذلك شهودا ، وبقيت كذلك حتى ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب الى عامله بالمدينة يأمره برد فدك الى ولد فاطمة ، فكانت في أيديهم حتى ولي يزيد بن عبد الملك فقبضها ، فلم تزل في أيدي بني امية حتى ولي أبو العباس السفاح الخلافة فدفعها الى الحسن بن الحسن بن علي (عليه السلام) فكان هو القيم عليها يفرقها في بني علي بن أبي طالب ، فلما ولي المنصور وخرج عليه بنو الحسن قبضها عنهم ، فلما ولي المهدي أعادها عليهم ، ثم قبضها موسى الهادي ومن بعده الى أيام المأمون فأمر أن يسجل لهم بها فكتب لهم ، وفيها يقول دعبل : أصبح وجه الزمان قد ضحكا * برد مأمون هاشم فدكا انظر معجم البلدان للحموي : ج 3 ص 856 .
(3) قاله ابن عباس في تفسيره : ص 168 .
(4) الآية 73 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 106_
  * قرئ : ( أو لاترون ) بالتاء (1) أيضا * (يفتنون) * أي : يبتلون ويمتحنون بالمرض والقحط وغيرهما من البلايا * (ثم) * لا ينتهون و * (لايتوبون) * من نفاقهم * (ولاهم يذكرون) * لا يعتبرون ، أو يبتلون بالجهاد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويعاينون أمره وما ينزل الله عليه من النصرة والتأييد ، أو يفتنهم الشيطان فينقضون عهودهم مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيقتلهم وينكل بهم ثم لاينزجرون .
  * (نظر بعضهم إلى بعض) * أي : تغامزوا بعيونهم إنكارا للوحي قائلين : * (هل يربكم من أحد) * من المسلمين لننصرف فإنا لانصبر على استماعه ، أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والانسلال * (ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) * دعاء عليهم بالخذلان ، أو بصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان من الانشراح * (ب‍) * سبب * (أنهم قوم لا يفقهون) * لا يتدبرون حتى يفقهوا ويعلموا .
  * (من أنفسكم) * من جنسكم ومن نسبكم عربي قرشي مثلكم ، شديد * (عليه) * ـ لكونه بعضا منكم ـ عنتكم ولقاؤكم المكروه ، فهو يخاف عليكم سوء العاقبة والوقوع في العذاب * (حريص عليكم) * حتى لا يخرج أحد منكم عن الاستسعاد به وبدينه الذي جاء به * (بالمؤمنين) * منكم ومن غيركم * (رءوف رحيم) * ، وقرئ : ( من أنفسكم ) (2) أي : من أشرفكم وأفضلكم ، وقيل :

-------------------
(1) وهي قراءة حمزة ويعقوب ، راجع التبيان : ج 5 ص 326 .
(2) قرأه ابن عباس والزهري وأبو العالية والضحاك وابن محيصن ومحبوب عن أبي عمرو و عبد الله بن قسيط المكي ويعقوب من بعض طرقه ، راجع تفسير القرطبي : ج 8 ص 301 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 118 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 107 _
  هي قراءة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفاطمة (عليها السلام) (1) .
  * (فإن تولوا) * عن الإيمان بك فاستعن بالله وفوض إليه ، فإنه يكفيك أمرهم وينصرك عليهم .
  وقيل : هي آخر آية نزلت من السماء (2) ، وهذه السورة آخر سورة كاملة نزلت (3) .
  سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : سألته عن سورة التوبة ؟ فقال : تلك الفاضحة ، ما زال ينزل منهم ومنهم ، حتى خشينا أن لا يبقى منا أحد إلا ذكر (4) .

-------------------
(1) قاله ابن خالويه في شواذه : ص 60 ، وأبو حيان في بحره : ج 5 ص 118 .
(2) وهو قول ابي وسعيد بن جبير والحسن وقتادة ، راجع التبيان : ج 5 ص 330 ، وتفسير القرطبي : ج 6 ص 524 .
(3) قاله البراء بن عازب ، راجع تفسير ابن كثير : ج 2 ص 317 ، وفي التبيان : ج 5 ص 167 : قال مجاهد وقتادة وعثمان : هي آخر ما نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله) بالمدينة .
(4) ذكره الطوسي في التبيان : ج 5 ص 167 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 109 _
سورة يونس مكية (1)
  وهي مائة وتسع آيات .
  وفي حديث أبي : ( من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات ، بعدد من صدق بيونس وكذب به ، وبعدد من غرق مع فرعون ) (2) .
  وعن الصادق (عليه السلام) : ( من قرأها في كل شهرين لم يخف عليه أن يكون من الجاهلين ، وكان يوم القيامة من المقربين ) (3) .

بسم الله الرحمن الرحيم

  * (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ)

-------------------
(1) قال الماوردي: هي مكية كلها عن الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، وقال ابن عباس : إلا ثلاث آيات من قوله تعالى : * (فإن كنت في شك) * الى آخرهن ، راجع تفسيره : ج 2 ص 420 ، وزاد القرطبي في تفسيره : ج 8 ص 304 : وقال مقاتل : إلا آيتين وهي قوله : * (فإن كنت في شك) * نزلت بالمدينة ، وقال الكلبي : مكية إلا قوله : * (ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به) * نزلت بالمدينة في اليهود ، وقالت فرقة : نزل من أولها نحو من أربعين آية بمكة وباقيها بالمدينة ، انتهى ، وقال الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 326 : مكية ، إلا الآيات 40 و 94 و 95 و 96 فمدنية ، وهي مائة وتسع آيات ، نزلت بعد الاسراء .
(2) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 376 مرسلا .
(3) ثواب الأعمال للصدوق : ص 132 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 110 _
  * (تلك) * إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات * (الكتب الحكيم) * اللوح المحفوظ ، أو القرآن ذي الحكمة لاشتماله عليها ، أو نطقه بها .
  * (أكان للناس عجبا) * الهمزة لإنكار التعجب والتعجيب منه ، و * (أن أوحينا) * اسم * (كان) * ، و * (عجبا) * خبره ، ومعنى اللام في * (للناس) * : أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها ، والذي تعجبوا منه : أن يوحى * (إلى) * بشر يكون رجلا من جنس رجالهم دون أن يكون عظيما من عظمائهم ، وهذا ليس بعجب ، لأن الله إنما يختار من يستقل بما اختير له من أعباء الرسالة (1) * (أن أنذر الناس) * : * (أن) * هي المفسرة ، لأن * (أوحينا) * فيه معنى القول ، ويجوز أن تكون المخففة من الثقيلة ، وأصله : أنه أنذر الناس ، على معنى : أن الشأن قولنا : أنذر الناس * (أن لهم) * أي : بأن لهم ، فحذف الباء * (قدم صدق) * أي : سابقة وفضلا * (عند ربهم) * ، ولما كان السعي والسبق بالقدم سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدما ، كما سميت النعمة يدا وباعا (2) لأنها تعطى باليد وصاحبها يبوع بها ، وإضافته إلى * (صدق) * دلالة على زيادة فضل ، وأنه من السوابق العظيمة * (إن هذا) * الكتاب ( لسحر ) (3) ، وقرئ : * (لسحر) * فعلى هذه القراءة يكون * (هذا) * إشارة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وهو دليل عجزهم واعترافهم بذلك وإن كانوا كاذبين في تسميته سحرا .
  * (إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ)

-------------------
(1) في بعض النسخ : النبوة .
(2) الباع : قدر مد اليدين ، (الصحاح : مادة بوع) .
(3) الظاهر أن المصنف اعتمد هنا على هذه القراءة بحذف الألف متبعا للزمخشري . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 111 _
  (يدبر الامر) * يقضيه ويقدره ويرتبه في مراتبه على أحكام عواقبه ، كما يفعل الناظر في أدبار الأمور ، والامر : أمر الخلق كله ، وقد دل سبحانه بالجملة قبلها على عظمة ملكوته بخلق * (السموات والارض في) * وقت يسير مع بسطتها واتساعها ، وبالاستواء * (على العرش) * ، ثم أتبعها هذه الجملة لزيادة الدلالة على العظمة في أنه لا يخرج شئ من قضائه وتقديره ، وكذا قوله : * (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) * دليل على العزة والكبرياء * (ذا لكم) * إشارة إلى المعلوم بتلك العظمة ، أي : ذلك العظيم الموصوف بما وصف به هو * (الله) * الذي يستحق العبادة منكم ، وهو * (ربكم فاعبدوه) * وحده ولا تشركوا به بعض خلقه من ملك أو إنسان فضلا عن جماد لا يضر ولا ينفع * (أفلا تذكرون) * وأصله ( تتذكرون ) يعني : أن أدنى تذكر ينبه على الخطاء فيما أنتم عليه .
  * (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ) * أي : إليه رجوعكم جميعا في العاقبة فاستعدوا للقائه * (وعد الله) * مصدر مؤكد لقوله : * (إليه مرجعكم) * ، و * (حقا) * مصدر مؤكد لقوله : * (وعد الله) * ، * (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) * استئناف معناه التعليل لوجوب المرجع إليه ، وهو : أن الغرض بابتداء الخلق وإعادته جزاء المكلفين على أعمالهم ، وقرئ : ( أنه ) بالفتح (1) ، بمعنى : لأنه ، أو هو منصوب بالفعل الذي نصب * (وعد الله) * أي : وعد الله وعدا إبداء الخلق ثم إعادته ، والمعنى : إعادة الخلق

-------------------
(1) قرأه عبد الله بن مسعود ويزيد بن القعقاع والأعمش وسهل بن شعيب ، راجع إعراب القرآن للنحاس : ج 2 ص 244 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 124 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 112 _
  بعد إبدائه * (بالقسط) * أي : بالعدل ، وهو متعلق ب‍ ( يجزي ) والمعنى : ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجورهم ، أو بقسطهم وعدلهم حين * (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) * لأن الشرك ظلم ، ويؤيد هذا الوجه أنه يقابل قوله : * (بما كانوا يكفرون) * .
  * (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) * الياء في * (ضياء) * منقلبة عن واو (1) لكسرة ما قبلها ، والضياء أقوى من النور * (وقدره) * أي : قدر * (القمر) * ، * (منازل) * أي : ذا منازل ، أو قدر مسيره منازل ، كقوله : * (وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ ) * (2) ، *(والحساب) * حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي * (ذلك) * إشارة إلى المذكور ، أي : * (ما خلق ‍) * (إلا) * ملتبسا * (بالحق) * الذي هو الحكمة البالغة ولم يخلقه عبثا .
  وخص ( المتقين ) لأنهم يحذرون العاقبة فيدعوهم ذلك إلى التأمل والنظر .
  * (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) * أي : لا يأملون حسن * (لقاءنا) * كما يأمله السعداء ، أو : لا يخافون سوء لقائنا * (وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) * قنعوا بها من الآخرة ، واختاروا القليل الفاني على

-------------------
(1) في نسخة زيادة : ضوء .
(2) يس : 39 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 113 _
  الكثير الباقي * ( واطمأنوا بها) * وسكنوا إليها سكون من لا يزعج عنها * (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ) * ذاهبون عن تأملها ، ذاهلون عن النظر فيها .
  * (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ) * يوفقهم بسبب إيمانهم للاستقامة على سلوك الطريق الموصل إلى الثواب ، ولذلك جعل قوله : * (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ ) * بيانا له وتفسيرا ، لأن التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها ، أو : * (يهديهم) * في الآخرة بنور إيمانهم إلى سبيل الجنة ، نحو قوله : * (يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمنهم) * (1) .
  * (دعوبهم) * أي : دعاؤهم * (فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ) * ، ومعناه : اللهم إنا نسبحك ، كما ورد في دعاء القنوت : ( اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد ) (2) ، ويجوز أن يراد بالدعاء العبادة على معنى : أنه لا تكليف في الجنة ولا عبادة ، وما عبادتهم إلا أن يسبحوا الله ويحمدوه ، وينطقون بذلك تلذذا من غير كلفة * (وءاخر دعويهم) * وخاتمة دعائهم * (أن) * يقولوا : * (الحمد لله رب العلمين) * ، وقوله : * (وتحيتهم فيها سلم) * معناه : أن بعضهم يحيي بعضا بالسلام ، وقيل : هي تحية الملائكة إياهم (3) ، فيكون المصدر مضافا إلى المفعول ، وقيل : هي تحية الله لهم (4) ، و ( أن ) هي المخففة من الثقيلة ، وأصله : أنه الحمد لله .
  * (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) *

-------------------
(1) الحديد : 12 .
(2) المزار للمشهدي : ص 139 .
(3) قاله الضحاك كما في تفسير السمرقندي : ج 2 ص 90 .
(4) حكاه الزجاج في معاني القرآن : ج 3 ص 8 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 114 _
  وضع * (استعجالهم بالخير) * موضع تعجيله لهم الخير إشعارا بسرعة إجابته لهم حتى كأن استعجالهم بالخير تعجيل له ، والمراد قول من قال : * (فأمطر علينا حجارة من السماء) * (1) ، والمعنى : * (ولو) * عجلنا لهم * (الشر) * الذي دعوا به كما نعجل لهم الخير ونجيبهم إليه * (لقضى إليهم أجلهم) * لأميتوا وأهلكوا ، وقرئ : ( لقضى إليهم أجلهم ) (2) وتنصره قراءة عبد الله : ( لقضينا إليهم أجلهم ) (3) ، * (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ) * معناه : فلا نعجل لهم الشر ولا نقضي إليهم أجلهم ، فنذرهم * (في طغينهم) * أي : فنمهلهم ونملي لهم إلزاما للحجة عليهم .
  وقوله : * (لجنبه) * في موضع الحال أي : مضطجعا ، والمعنى : أنه لا يزال داعيا لا يفتر في الدعاء حتى يزول عنه * (الضر) * فهو يدعو في حالاته كلها ليستدفع البلاء ، و * (الانسن) * للجنس * (فلما كشفنا) * أي : أزلنا * (عنه ضره مر) * أي : مضى على طريقته الأولى قبل أن مسه الضر ، أو مر عن موقف الدعاء والتضرع لا يرجع إليه كأنه لا عهد له به * (كأن) * تخفيف ( كأن ) وحذف ضمير الشأن منه ، كقوله : كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم (4) * (كذلك) * أي : مثل ذلك التزيين * (زين للمسرفين) * زين الشيطان بوسوسته لهم ترك الدعاء عند الرخاء واتباع الشهوات والأماني الباطلة .

-------------------
(1) الأنفال : 32 .
(2) وهي قراءة ابن عامر ويعقوب ، راجع التبيان : ج 5 ص 344 .
(3) حكاها عنه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 332 .
(4) البيت منسوب لباعث بن صريم اليشكري عن سيبويه والنحاس ، وقيل : لأرقم بن علباء اليشكري عن القالي ، وقيل : لراشد بن شهاب اليشكري عن أبي عبيد البكري ، وقيل لغيرهم ، وصدره : ويوما توافينا بوجه مقسم ، راجع خزانة الأدب للبغدادي : ج 10 ص 411 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 115_
  * (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) * (لما) * ظرف ل‍ * (أهلكنا) * ، والواو في * (وجاءتهم) * للحال ، أي : * (ظلموا) * بالتكذيب وقد * (جاءتهم رسلهم) * بالمعجزات والدلالات * (وما كانوا ليؤمنوا) * اللام لتأكيد النفي ، أي : وما كانوا يؤمنون حقا ، والمعنى : أن السبب في إهلاكهم تكذيبهم الرسل ، وعلم الله إصرارهم على الكفر ، وأنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن لزمتهم الحجة بإرسال الرسل * (كذلك) * أي : مثل ذلك الجزاء يعني الإهلاك * (نجزى) * المشركين في المستقبل إذا لم يؤمنوا ، وهو وعيد لأهل مكة .
  * (ثم جعلنكم خلئف) * أي : استخلفناكم * (في الارض من بعد) * القرون التي أهلكناها * (لننظر) * أتعملون خيرا أم شرا فنعاملكم على حسب أعمالكم ، و * (كيف) * في محل نصب ب‍ * (تعملون) * : إما حالا وإما مصدرا ، والنظر هنا مستعار بمعنى العلم المحقق الذي هو العلم بالشئ موجودا ، شبه بنظر الناظر وعيان المعاين في تحققه .
  * (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) * أي : قالوا : * (ائت بقرءان) * آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذم عبادة الأوثان

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 116 _
  والوعيد لعابديها * (أو بدله) * بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة ، وتسقط ذكر الآلهة وذم عبادتها ، فأمر بأن يجيب عن التبديل لأنه داخل تحت مقدور الإنسان ، فأما الإتيان بقرآن آخر فغير مقدور عليه للإنسان * (ما يكون لى) * ما ينبغي لي * (أن أبدله من تلقآءى نفسي) * من قبل نفسي ، من غير أن يأمرني بذلك ربي * (إن أتبع إلا ما يوحى إلى) * لا آتي ولا أذر شيئا من نحو ذلك إلا متبعا لوحي الله، إن نسخت آية أو بدلت مكان أخرى تبعت ذلك ، وليس إلي تبديل ولا نسخ * (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي ) * في التبديل والنسخ من عند نفسي * (عذاب يوم عظيم) * .
  * (قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) * يعني : أن تلاوته ليست إلا بمشيئة الله وإحداثه أمرا عجيبا خارقا للعادة ، وهو أن يخرج رجل أمي لم يتعلم ساعة من عمره ولا نشأ في بلد فيه العلماء فيقرأ عليكم كتابا بهر بفصاحته كل كلام فصيح ، مشحونا بعلوم الأصول والفروع والإخبار بما كان ويكون لا يعلمها إلا الله، وقد نشأ فيكم لم تسمعوا منه حرفا من ذلك منذ أربعين سنة * (ولا أدربكم به) * أي : ولا أعلمكم به على لساني ، وقرئ : ( ولادربكم به ) (1) على إثبات الإدراء، واللام لام الابتداء ، والمعنى : لو شاء الله ماتلوته أنا عليكم ولاعلمكم به على لسان غيري ولكنه خصني بهذه الكرامة * (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً) * أي : فقد أقمت فيما بينكم ناشئا وكهلا فلم تعرفوني متعاطيا شيئا من نحوه فتتهموني باختراعه * (أفلا تعقلون) * فتعلموا أنه ليس إلا من عند الله تعالى .
  * (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)

-------------------
(1) وهي قراءة ابن كثير إلا عن البزي وأبي ربيعة وقنبل إلا المالكي والعطار ، راجع التبيان : ج 5 ص 351 ، والبحر المحيط لأبي حيان ج 5 ص 132 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 117 _
  * كان أهل الطائف * (يعبدون) * اللات (1) ، وأهل مكة العزى (2) ومناة (3) وهبل (4) ،

-------------------
(1) قال هشام بن السائب الكلبي في كتابه الأصنام : ص 31 ـ 33 : واللات بالطائف ، وكانت صخرة مربعة ، وكان يهودي يلت عندها السويق ، وسدنتها من ثقيف بنو عتاب بن مالك ، وكانوا قد بنوا عليها بناء ، وكانت قريش وجميع العرب تعظمها ، وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم ، فلم تزل كذلك حتى أسلمت ثقيف ، فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) من هدمها وحرقها بالنار ، وفي ذلك يقول شداد بن عارض الجشمي : لا تنصروا اللات إن الله مهلكها * وكيف نصركم من ليس ينتصر إن التي حرقت بالنار فاشتعلت * ولم تقاتل لدي أحجارها هدر
(2) وقال : وكان الذي اتخذ العزى ظالم بن اسعد ، وكانت بواد من نخلة الشامية يقال له حراض ، فبنى عليها بيتا ، وكانوا يسمعون فيه الصوت ، وكانت أعظم الأصنام عند قريش ، وكانوا يزورونها ويهدون لها ويتقربون عندها بالذبح ، وسدنتها بنو شيبان بن جابر بن مرة من بني سليم ، ولم تزل كذلك حتى بعث الله نبيه (صلى الله عليه وآله) فعابها وغيرها ونهاهم عن عبادتها ، فلما كان عام الفتح دعا النبي (صلى الله عليه وآله) الى هدمها فهدمت ، المصدر السابق : ص 33 ـ 42 .
(3) وقال : وكانت أقدمها كلها ، وكانت منصوبة على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد بين المدينة ومكة ، وكانت العرب جميعا تعظمها وتذبح لها ويهدون لها ، ولم يكن أحد أشد إعظاما لها من الأوس والخزرج ، فلم تزل ذلك حتى خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من المدينة سنة (8)هجرية وهو عام فتح الله عليه ، فلما سار من المدينة أربع ليال أو خمس بعث عليا (عليه السلام) إليها فهدمها وأخذ ما كان لها ، فكان فيما أخذ سيفان كان الحارث بن أبي شمر الغساني ملك غسان أهداهما لها ، فوهبهما النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) ، المصدر نفسه : ص 28 ـ 31 .
(4) وقال : وكان أعظمها عندهم ، وكان فيما بلغني من عقيق أحمر على صورة الانسان مكسور اليد اليمنى ، أدركته قريش كذلك فجعلوا له يدا من ذهب ، وكان أول من نصبه خزيمة بن مدركة ، وكان في جوف الكعبة قدامه سبعة أقداح مكتوب في أولها صريح والآخر ملصق ، فإذا شكوا في نسب مولود أهدوا له هدية ثم ضربوا بالقداح ، فإن خرج صريح ألحقوه ، وإن كان ملصقا دفعوه ، وقدح على الميت ، وقدح على النكاح ، فإذا اختصموا في أمر أو أرادوا سفرا أو عملا أتوه فاستقسموا بالقداح عنده ، فما خرج عملوا به وانتهوا إليه ، فلما ظفر = (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 118 _
  وإسافا ونائلة (1) ، وكانوا يقولون : * (هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ ) * أتخبرونه بكونهم شفعاء عنده وهو إخبار * (بما) * ليس بمعلوم لله ، وإذا لم يكن معلوما له وهو العالم بالذات المحيط بجميع المعلومات لم يكن شيئا ، لأن الشئ ما يصح أن يعلم وقد أخبرتم بما لا يدخل تحت الصحة ، وقوله : * (في السموات ولا في الارض) * تأكيد لنفيه ، لأن ما لا يوجد فيهما فهو منتف معدوم * (عما يشركون) * ( ما ) موصولة أو مصدرية ، أي : عن الشركاء الذين يشركونهم به ، أو عن إشراكهم ، وقرئ : ( تشركون )بالتاء (2) أيضا .
  * (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً ) * متفقين على ملة واحدة ودين واحد من غير أن يختلفوا بينهم ، وذلك في عهد آدم إلى أن قتل قابيل هابيل ، وقيل : بعد الطوفان (3) * (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ) * وهو تأخير الحكم بينهم إلى يوم

-------------------
=
رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم فتح مكة دخل المسجد والأصنام منصوبة حول الكعبة ، فجعل يطعن بسية قوسه في عيونها ووجوهها ويقول : * (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) * ثم أمر بها فكفئت على وجوهها ثم اخرجت وحرقت ، وفيه يقول راشد بن عبد الله السلمي : قالت : هلم الى الحديث فقلت : لا * يأبى الإله عليك والإسلام أو ما رأيت محمدا وقبيله * بالفتح حين تكسر الاصنام لرأيت نور الله أضحى ساطعا * والشرك يغشى وجهه الإظلام راجع المصدر السابق : ص 43 ـ 47 .
(1) وقال الكلبي : وكان لهم إساف ونائلة ، وهما رجل وامرأة من جرهم من أرض اليمن ، وكان أساف يتعشقها ، فاقبلوا حجاجا الى الكعبة فدخلا الكعبة فوجدا خلوة ففجر بها فمسخا حجرين ووضعا عند الكعبة ليتعظ الناس بهما ، فلما طال مكثهما وعبدت الأصنام عبدا معها ، وكان أحدهما بلصق الكعبة الى الآخر ، فكانوا ينحرون ويذبحون عندهما ، المصدر نفسه : ص 44 ـ 45 .
(2) قرأه حمزة والكسائي ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 448 .
(3) قاله الضحاك والكلبي ، وروي عن الباقر (عليه السلام) ، راجع تفسير العياشي : ج 1 ص 104 ح 308 ، وتفسير الماوردي : ج 2 ص 428 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 119 _
  القيامة * (لقضى بينهم فيما) * اختلفوا * (فيه) * ويميز المحق من المبطل ، ولكن الحكمة أوجبت أن تكون هذه الدار للتكليف وتلك للثواب والعقاب .
  * (وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنْتَظِرِينَ * وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلْ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ) * أرادوا * (ءاية) * من الآيات التي كانوا يقترحونها * (فقل إنما الغيب لله) * هو المختص به ، والصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب لا يعلمه إلا هو * (فانتظروا) * نزول ما اقترحتموه * (إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنْتَظِرِينَ) * لما يفعل الله بكم لعنادكم وتماديكم في جحود الآيات الباهرة التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها ، ومن جملتها القرآن المعجز الباقي على وجه الدهر .
  * (إذا) * الأولى للشرط والأخيرة جوابها ، وهي ظرف مكان ، والمكر : إخفاء المكيدة وطيها ، من الجارية الممكورة : المطوية الخلق ، و * (مستهم) * خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم ، وهو أنه سبحانه سلط على أهل مكة القحط سبع سنين حتى كادوا يهلكون ، ثم لما رحمهم بالحيا (1) صاروا يطعنون في آيات الله ويعادون رسوله ويكيدونه ، فلذلك وصفهم بسرعة المكر حتى أتى بكلمة المفاجأة ، فكأنه قال : فاجأوا وقوع المكر منهم وسارعوا إليه * (قُلْ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً ) * يدبر عقابكم ويوقعه بكم قبل أن تدبروا في إطفاء نور الإسلام * (إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ) * إعلام بأن ما يظنونه خافيا غير خاف عند الله تعالى .
  * (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

-------------------
(1) أحيا القوم: إذا صاروا في الحيا وهو الخصب ، وأيضا : المطر، (الصحاح : مادة حيا) .(*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 120_
  * قرئ : ( ينشركم ) (1) من النشر ، ومثله : * (ثم إذا أنتم بشر تنتشرون) * (2) والمعنى : * (هو الذي) * يمكنكم من السير بما هيأ لكم من أسباب السير * (في البر) * بخلق الدواب وتسخيرها لكم * (و) * في * (البحر) * بإرسال الرياح التي تجري السفن في الجهات المختلفة * ا (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ ) * خص الخطاب براكبي البحر ، أي : إذا كنتم في السفن * (وجرين بهم) * عدل عن الخطاب إلى الغيبة للمبالغة ، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ، أي : وجرت الفلك أي : السفن بالناس * (بريح طيبة) * لينة يستطيبونها ، وجواب * (إذا) * قوله : * (جآءتها ريح عاصف) * أي : شديدة الهبوب هائلة * (وَجَاءَهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ) * من أمكنة الموج * (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) * وهو مثل في الهلاك * (دعوا الله) * هو بدل من * (ظنوا) * لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك ، وهو ملتبس به ، والجملة الشرطية الواقعة بعد * (حتى) * بما في حيزها غاية للتسيير ، فكأنه قال : هو الذي يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكان كيت وكيت من مجئ الريح العاصف وتراكم الأمواج والظن للهلاك والدعاء بالإنجاء ، وقال : * (مخلصين له الدين) * لأنهم

-------------------
(1) وهي قراءة زيد بن ثابت وابن عامر وأبي جعفر يزيد بن القعقاع والحسن وأبي العالية وزيد ابن علي و عبد الله بن جبير وأبي عبد الرحمن وشيبة ، راجع التبيان : ج 5 ص 359 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 137 .
(2) الروم : 20 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 121 _
  لا يدعون حينئذ غيره معه * (لئن أنجيتنا) * على إرادة القول ، أو لأن * (دعوا) * من جملة القول .
  * (يبغون في الارض) * يفسدون فيها ويعيثون ممعنين في ذلك ، وقرئ : * (متع الحيواة الدنيا) * بالنصب ، والفرق بين القراءتين (1) أنك إذا رفعت كان ( المتاع ) خبر المبتدأ الذي هو * (بغيكم) * ، و * (على أنفسكم) * صلته كقوله : * (فبغى عليهم) *(2) ، ومعناه : إنما بغيكم على أمثالكم ، أي : بغي بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا لا بقاء لها ، وإذا نصبت فالخبر * (على أنفسكم) * والمعنى : إنما بغيكم وبال على أنفسكم ، و * (متع) * مصدر مؤكد .
  وفي الحديث : ( لا تمكر ولا تعن ماكرا ، ولا تبغ ولا تعن باغيا ، ولا تنكث ولا تعن ناكثا ) وكان يتلوها (3) .
  وروي : ( ثنتان يعجلهما الله في الدنيا : البغي ، وعقوق الوالدين ) (4) .
  * (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) *

-------------------
(1) يظهر أن المصنف (قدس سره) اعتمد على القراءة الأخرى أي بالرفع كما هو واضح من عبارته .
(2) القصص : 76 .
(3) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 339 .
(4) رواه البخاري في تاريخه الكبير : ج 1 ص 166 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 122 _
  شبه حال * (الدنيا) * في سرعة انقضائها بحال * (نبات الارض) * في جفافه بعد خضرته ونضرته * (فاختلط به) * فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضا * (أخذت الارض زخرفها وازينت) * مثل الأرض بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون ، فاكتستها وتزينت بغيرها من أنواع الزين ، وأصل * (ازينت) * : تزينت * (قدرون عليها) * متمكنون منها محصلون لمنفعتها * (أتيهآ أمرنا) * وهو ضرب زروعها ببعض العاهات والآفات بعد أمنهم وإيقانهم أنه قد سلم * (فجعلنها) * أي : فجعلنا زرعها * (حصيدا) * شبيها بما يحصد من الزرع من قطعه واستئصاله * (كأن لم تغن) * أي : كأن لم تغن زرعها ، فحذف المضاف ، أي : لم ينبت ، ولابد من حذف المضاف الذي هو الزرع في هذه المواضع وإلا لم يستقم المعنى .
  وعن الحسن : ( كأن لم يغن ) بالياء (1) ، على أن الضمير للمضاف المحذوف الذي هو الزرع ، و ( الأمس ) : مثل في الوقت القريب ، كأنه قيل : كأن لم يوجد من قبل .
  * (دار السلم) * الجنة ، أضافها إلى اسمه ، وقيل : السلام : السلامة (2) ، لأن أهلها سالمون من كل مكروه ، وقيل : لفشو السلام بينهم وتسليم الملائكة عليهم (3) * (ويهدي) * ويوفق * (من يشآء) * وهم الذين لهم في المعلوم لطف يجدي عليهم .
  و * (الحسنى) * : المثوبة الحسنى * (وزيادة) * وما يزيد على المثوبة وهي التفضل ، ويدل عليه قوله : * (ويزيدهم من فضله) * (4) ، وعن علي (عليه السلام) : ( الزيادة : غرفة من لؤلؤة واحدة ) (5) ، وعن ابن عباس : الزيادة : عشر

-------------------
(1) حكاها عنه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 341 .
(2) وهو قول الزجاج والجبائي ، راجع معاني القرآن : ج 3 ص 15 ، والتبيان : ج 5 ص 364 .
(3) حكاه الزمخشري في كشافه : ج 2 ص 341 .
(4) النساء : 173 ، والشورى : 26 .
(5) أخرجه الطبري من طرقه في تفسيره : ج 6 ص 552 ح 17649 و 17650 و 17651 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 123 _
  أمثالها (1) ، وعن مجاهد (2) : الزيادة : مغفرة من الله ورضوان (3) * (ولا يرهق وجوههم) * ولا يغشاها * (قتر) * غبرة فيها سواد * (ولا ذلة) * ولا أثر هوان ، والمعنى : لا يرهقهم ما يرهق أهل النار ، كقوله : * (ترهقها قترة) * (4) ، و * (ترهقهم ذلة) * .
  * (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ * هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمْ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) * * (والذين كسبوا) * إما أن يكون معطوفا على قوله : * (للذين أحسنوا) * كأنه قيل : * (و) * ل‍ * (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا ) * ، وإما أن يكون تقديره : * (و) * جزاء * (الذين كسبوا السيات جزاء سيئة بمثلها) * ، والمعنى : جزاؤهم أن تجازى سيئة واحدة بمثلها لا يزاد عليها ، وهذا أوجه لأن في الأول

-------------------
(1) حكاه عنه الماوردي في تفسيره : ج 2 ص 433 .
(2) هو مجاهد بن جبر ، مولى بني مخزوم ، تابعي ، مفسر من أهل مكة ، قال الذهبي : أخذ التفسير عن ابن عباس ، قرأه عليه ثلاث مرات ، تنقل في الأسفار واستقر في الكوفة ، أما كتابه في التفسير فيتقيه المفسرون ، وسئل الأعمش عن ذلك فقال : كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب ، يعني اليهود والنصارى ، مات بمكة سنة ثلاث ومائة وهو ابن ثلاث وثمانين سنة ، انظر ميزان الاعتدال للذهبي : ج 3 ص 9 .
(3) حكاه عنه الطبري في تفسيره : ج 6 ص 552 ح 17655 ، والسيوطي في الدر المنثور : ج 4 ص 359 ـ 360 وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم ، وأبو حيان في البحر المحيط : ج 5 ص 146 .
(4) عبس : 41 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 124 _
  عطفا على عاملين ، وفي هذا دليل على أن المراد بالزيادة : الفضل * (ما لهم من الله من عاصم) * أي: لا يعصمهم أحد من سخط الله وعذابه ، أو مالهم من جهة الله من يعصمهم كما يكون للمؤمنين * (مظلما) * حال من الليل ، ومن قرأ : ( قطعا ) بالسكون (1) جعله صفة له * (مكانكم) * الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم ، و * (أنتم) * تأكيد للضمير في * (مكانكم) * ، لأنه سد مسد ( الزموا ) * (وشركاؤكم) * عطف عليه * (فزيلنا بينهم) * ففرقنا بينهم وقطعنا الوصل التي كانت بينهم في الدنيا * (ما كنتم إيانا تعبدون) * إنما كنتم تعبدون الشياطين حيث أمروكم أن تتخذوا لله أندادا فأطعتموهم .
  * (إن كنا) * هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة ، وهم الملائكة والمسيح ومن عبدوه من دون الله من أولي العقل ، وقيل : هم الأصنام ينطقها الله عزوجل بذلك مكان الشفاعة التي رجوها منهم (2) .
  * (هنالك) * أي : في ذلك المقام ، أو في ذلك الوقت على الاستعارة * (تبلوا) * أي : تختبر وتذوق * (كل نفس مآ أسلفت) * من العمل فتعرف كيف هو ، أنافع أم ضار ؟ أو مقبول أو مردود ؟ ومنه * (يوم تبلى السرائر) * (3) ، وقرئ : ( تتلوا ) (4) أي : تتبع ما أسلفت ، لأن عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة أو إلى طريق النار ، أو تقرأ في صحيفتها ما قدمت من خير أو شر * (موليهم الحق) * ربهم الصادق ربوبيته ، أو الذي يتولى حسابهم العدل الذي لا يجور * (وضل عنهم ما كانوا يفترون) *

-------------------
(1) وهي قراءة ابن كثير والكسائي ويعقوب ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 325 .
(2) قاله مجاهد وابن زيد وابن عطية راجع تفسير الطبري : ج 6 ص 556 .
(3) الطارق : 9 .
(4) قرأه حمزة والكسائي ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 325 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 125_
  وضاع عنهم ما كانوا يدعون أنهم شركاء لله .
  * ( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ * كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) * أي : * (من يرزقكم) * منهما جميعا ؟ لم يقتصر برزقكم على جهة واحدة ليفيض عليكم نعمته * (أمن يملك السمع والابصر) * من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحد الذي هما عليه من الفطرة العجيبة ؟ أو من يحميهما ويحصنهما من الآفات ؟ * (ومن يدبر الامر) * ومن يلي تدبير أمر العالم كله ؟ * (أفلا تتقون) * عقابه في عبادة غيره .
  * (فذا لكم) * إشارة إلى من هذه صفته وأفعاله * (الله ربكم الحق) * الثابت ربوبيته وإلهيته ثباتا لاريب فيه لمن نظر * (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ ) * لأن الحق والضلال لا واسطة بينهما ، فمن تعدى الحق وقع في الضلال * (فأنى تصرفون) * عن الحق ؟ * (كذلك) * أي : مثل ذلك الحق * (حقت كلمت ربك) * أي : كما حق وثبت أن الحق بعده الضلال فكذلك حقت كلمة ربك * (على الذين) * تمردوا في الكفر وخرجوا إلى الغاية القصوى فيه * (أنهم لا يؤمنون) * بدل من ( الكلمة ) ، أي : حق عليهم انتفاء الإيمان وعلم الله ذلك منهم ، أو أراد بالكلمة : العذاب ، و * (أنهم لا يؤمنون) * تعليل ، بمعنى : لأنهم لا يؤمنون .
  * (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلْ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ)