* (أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ * وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) * * (يزجى) * يسوق ، ومنه : البضاعة المزجاة ، يزجيها كل أحد لا يرضاها ، والسحاب قد يكون واحدا كالغماء وجمعا كالرباب * (ثم يؤلف بينه) * أي : بين أجزائه بأن يضم بعضها إلى بعض ، ولذلك جاز ( بينه ) وهو واحد ، كما قيل في قوله : بين الدخول فحومل (1) والركام : المتراكم ، والودق : المطر * (من خلله) * من فتوقه ومخارج القطر منه جمع خلل ، وقرئ في الشواذ : ( من خلله ) (2) .
  ذكر من جملة الدلائل على ربوبيته : تسبيح من في السماوات والأرض وكل ما يطير ، ثم ذكر سبحانه : تسخير السحاب ، وإنزال المطر منه ، وما يحدث فيه من الأفعال على ما تقتضيه الحكمة .
  و * (من) * الأولى لابتداء الغاية والثانية للتبعيض والثالثة للتبيين ، أو : الأولتان للابتداء ، والآخرة للتبعيض ، على معنى : ينزل البرد من السماء * (من جبال فيها) * ،

-------------------
(1) وتمام البيت : قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل * بسقط اللوى بين الدخول فحومل لامرئ القيس وهو مطلع معلقته المشهورة. انظر شرح المعلقات السبعة للزوزني : ص 4 .
(2) قرأه ابن عباس وابن مسعود والضحاك ، راجع شواذ القرآن لابن خالويه : ص 104 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 627 _
  وعلى الأول يكون * (من جبال) * مفعول * (ينزل) * وقرئ : * (يذهب بالأبصر) * على أن يكون الباء مزيدة كما في قوله : * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * (1) أي : يكاد ضوء برقه يخطف البصر لشدة لمعانه .
  * (يقلب الله اليل والنهار) * أي : يصرفهما ويخالف بينهما بالطول والقصر .
  ولما كان اسم ( الدابة ) يقع على المميز وغير المميز غلب حكم المميز بأن قال : * (فمنهم من يمشى) * في الماشي على بطنه ، والماشي على * (أربع) * قوائم ، ولم يذكر ما يمشي على أكثر من أربع ، لأنه كما يمشي على أربع في مرأى العين .
  وعن الباقر (عليه السلام) : ( ومنهم من يمشي على أكثر من ذلك ) (2) .
  وإنما نكر قوله : * (من ماء) * لأن المعنى : أنه خلق كل دابة من نوع من الماء مختص بتلك الدابة ، فمنها ناس ، ومنها بهائم ، ومنها هوام ، ومن نحوه قوله : * (يسقى بماء وا حد) * (3) .
  وسمى الزحف على البطن مشيا على طريق الاستعارة ، كما قالوا : مشى هذا الأمر ، أو : على طريق المشاكلة لأنه ذكرها مع الماشين .
  وقرئ : ( خالق ) (4) .
  * (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ)

-------------------
(1) البقرة : 195 .
(2) تفسير القمي : ج 2 ص 107 وفيه عن الصادق (عليه السلام) .
(3) الرعد : 4 .
(4) قرأه حمزة والكسائي ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 569 .

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 628 _
  *يعني بقوله : * (إلى الله ورسوله) * إلى رسول الله بدلالة قوله : * (ليحكم بينهم) * ، كما قيل : أعجبني زيد وكرمه ، والمراد : كرم زيد .
  وروي : أن رجلا كانت بينه وبين علي (عليه السلام) خصومة في ماء وأرض ، فقال الرجل : لا أحاكم إلى محمد (صلى الله عليه وآله) فإني أخاف أن يحكم له علي (1) .
  وذكر أبو القاسم البلخي : أنها كانت بين علي (عليه السلام) وبين عثمان ، وكان قد اشترى أرضا من علي (عليه السلام) ، فخرجت فيها أحجار ، فأراد ردها بالعيب ، فقال : بيني وبينك رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فقال الحكم بن أبي العاص : إن حاكمته إلى ابن عمه حكم له ، فنزلت (2) .
  * (مذعنين) * مسرعين منقادين ، و * (إليه) * صلته أو صلة * (يأتوا) * ، والمعنى : أنهم ينحرفون عن المحاكمة إليك إذا كان الحق عليهم لعلمهم بأنك لا تحكم إلا بالحق المر والعدل البحت ، وإن ثبت لهم حق على خصم أسرعوا إليك ولم يرضوا إلا بحكومتك ، لتأخذ لهم ما ثبت لهم في ذمة الخصم .
  * (بل أولئك هم الظلمون) * أي : لا يخافون أن يحيف عليهم لمعرفتهم بحاله ، وإنما هم ظالمون يريدون ظلم من له الحق عليهم .
  وقرئ : * (يتقه) * بكسر القاف والهاء مع الوصل (3) وبغير وصل (4) ، وبسكون

-------------------
(1) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 248 .
(2) حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان : ج 7 ص 450 .
(3) قرأه ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وورش وقالون وابن سعدان عن اسحاق المسيبي عن نافع ، راجع التبيان : ج 7 ص 452 .
(4) قرأه قالون عن نافع والأعشى ويعقوب ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 570 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _629 _
  الهاء (1) ، وبسكون القاف وكسر الهاء .
  شبه ( تقه ) بكتف فخفف ، كقول الشاعر : قالت سليمى : اشتر لنا سويقا (2) وعن ابن عباس : * (ومن يطع الله) * في فرائضه * (ورسوله) * في سننه ، ويخشى * (الله) * على ما مضى من ذنوبه ويتقه في المستقبل (3) .
  * (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ * وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ) *
  * (جهد أيمنهم) * أصله : يجهدون الأيمان جهدا ، فحذف الفعل وقدم المصدر فوضع موضعه مضافا إلى المفعول ، كقوله : * (فضرب الرقاب) * (4) ، وحكم هذا المنصوب حكم الحال ، كأنه قال : جاهدين أيمانهم ، وجهد يمينه مستعار من جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها ، وذلك إذا بالغ في اليمين وبلغ غاية وكادتها ، وعن ابن عباس : من قال : بالله ، فقد جهد يمينه (5) .
  * (لئن أمرتهم) * بالخروج في غزواتك

-------------------
(1) وهي قراءة أبي عمرو وأبي بكر وابن عامر ويحيى ، راجع المصدر السابق .
(2) وعجزه : وهات خبز البر أو دقيقا والبيت منسوب للعذافر الكندي ، والسويق : ما تعمله العرب من الحنطة والشعير ، انظر الكشاف : ج 3 ص 249 .
(3) تفسير ابن عباس : ص 298 .
(4) محمد (صلى الله عليه وآله) : 4 .
(5) تفسير ابن عباس : ص 298 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 630_
  * (طاعة معروفة) * خبر مبتدأ محذوف ، أي : أمركم ، والذي يطلب منكم طاعة معلومة لا يشك فيها كطاعة المخلصين لا أيمان تقسمون بها بأفواهكم وقلوبكم لا تطابقها ، أو : مبتدأ محذوف الخبر أي : طاعة معلومة (1) أولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة * (إن الله خبير بما) * في ضمائركم يجازيكم عليه .
  * (فإن) * تتولوا عن طاعة الله ورسوله فإنما ضررتم أنفسكم ، فإن الرسول ليس عليه إلا ما حمله الله وكلفه من أداء الرسالة ، فإذا أدى فقد خرج عن العهدة * (وعليكم) * ما كلفتم من التلقي بالقبول والانقياد للطاعة ، و * (البلغ) * : التبليغ ، كالأداء بمعنى التأدية ، و * (المبين) * المقرون بالآيات والمعجزات .
  * (وعد الله) * المؤمنين المطيعين لله ، ورسوله أن ينصر دين الإسلام على الكفر، ويورثهم الأرض ، ويجعلهم خلفاء فيها كما فعل ببني إسرائيل إذ أهلك الجبابرة ، وأورثهم أرضهم وأموالهم ، وأن يمكن * (لهم دينهم الذي) * أمرهم أن يدينوا به ، وتمكينه وتثبيته وتوطيده وإظهاره على الدين كله ، كما قال (عليه السلام) : ( زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها ) (2) .
  وروى المقداد عنه (عليه السلام) أنه قال : ( لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعز عزيز أو ذل ذليل ، إما أن يعزهم الله فيجعلهم من أهلها ، وإما أن يذلهم فيدينون لها ) (3) .
  وقرئ : ( كما استخلف ) بضم التاء (4) * (وليبدلنهم) * من الأبدال * (يعبدونني) * استئناف أو حال من ( وعدهم ) .

-------------------
(1) في نسخة : ( معروفة ) .
(2) سنن ابن ماجة : ج 2 ص 1304 ح 3952 .
(3) رواه الشيخ الطوسي في التبيان : ج 7 ص 455 .
(4) قرأه أبو بكر ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 571 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _631 _
  وروي عن علي بن الحسين (عليهما السلام) ، أنه قال : ( هم والله شيعتنا أهل البيت ، يفعل ذلك بهم على يدي رجل منا ، وهومهدي هذه الأمة ، وهو الذي قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي اسمه اسمي وكنيته كنيتي ، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ) (1) .
  وروي ذلك عن الباقر (عليه السلام) والصادق أيضا (عليه السلام) .
  * (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) * * (أقيموا) * معطوف على * (وأطيعوا الرسول) * وجاز وإن طال الفاصل بينهما ، لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه .
  وقرئ : ( لا يحسبن ) بالياء (2) ، والوجه فيه أن يكون فاعله ضمير النبي (صلى الله عليه وآله)

-------------------
(1) رواه الميرزا المشهدي في كنز الدقائق : ج 7 ص 109 عن العياشي .
(2) قرأه ابن عامر وحمزة ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 571 .

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 632_
  لتقدم ذكره ، أو يكون أحد المفعولين محذوفا ، أي : ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين .
  أمر سبحانه بأن يستأذن العبيد والأطفال الذين لم يحتلموا من الأحرار * (ثلث مرا ت) * في اليوم والليلة : * (قبل صلوا ة الفجر) * لأنه وقت القيام عن المضاجع ولبس الثياب ، وب‍ * (الظهيرة) * لأنه وقت وضع الثياب للقائلة ، و * (بعد صلوا ة العشاء) * لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم ، وسمى كل وقت من هذه الأوقات عورة لأن الناس يختل تحفظهم وتسترهم فيها .
  والعورة : الخلل ، ثم عذرهم في ترك الاستئذان في غير هذه الأحوال ، وبين وجه العذر في ذلك بقوله : * (طوا فون عليكم) * أي : هم خدمكم يطوفونب عليكم للخدمة ، فلا يجدون بدا من دخولهم عليكم * (بعضكم على بعض) * أي : يطوف بعضكم وهم المماليك على الموالي .
  وقرئ : ( ثلاث عورات ) بالنصب (1) بدلا عن * (ثلث مرات) * أي : أوقات ثلاث عورات ، وإذا رفعت * (ثلث عورات) * كان قوله : * (ليس عليكم) * في محل الرفع على الوصف ، والمعنى : هن ثلاث عورات مخصوصة بالاستئذان ، وإذا نصبت كان * (ليس عليكم) * كلاما مستأنفا مقررا للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة ، و * (بعضكم) * مبتدأ ، والتقدير : بعضكم طائف على بعض ، فحذف لأن* (طوا فون) * يدل عليه .
  * (بلغ الأطفل منكم) * الأحرار دون المماليك ، والمعنى : أن الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن إلا في الأحوال الثلاث ، فإذا خرجوا من حد الطفولية *فليستئذنوا) * في جميع الأوقات كالرجال الكبار .
  وعن ابن مسعود : عليكم أن تستأذنوا على آبائكم وأمهاتكم وأخواتكم وإخوانكم (2) .

-------------------
(1) قرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ، راجع كتاب السبعة في القراءات : ص 459 .
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 254 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 633 _
  القاعد : التي قعدت عن الحيض والولد لكبرها * (لا يرجون نكاحا) * لا يطمعن فيه ، والمراد بالثياب : الثياب الطاهرة (1) كالملحفة والجلباب الذي فوق الخمار ، وفي قراءة أهل البيت (عليهم السلام) : ( أن يضعن من ثيابهن غير متبرجات بزينة ) (2) غير مظهرات زينة بوضع ثيابهن .
  وحقيقة التبرج : تكلف إظهار ما يجب إخفاؤه ، واختص بأن تنكشف المرأة للرجال بإبداء زينتها ، وإظهار محاسنها ، والاستعفاف بلبس الجلابيب * (خير لهن) * وإن سقط الحرج عنهن فيه .
  * (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) * كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي العاهات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم ، وإلى بيوت أقربائهم وأصدقائهم فيطعمونهم منها ، فخافوا أن يلحقهم فيه حرج فقيل : ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على أنفسكم ) يعني :

-------------------
(1) في نسخة : ( الظاهرة ) .
(2) التبيان : ج 7 ص 461 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 634_
  ليس عليكم وعلى من في مثل حالكم من المؤمنين * (حرج) * في ذلك ، وقيل : كان هؤلاء يتوقون مجالسة الناس ومؤاكلتهم لما عسى أن يلحقهم من الكراهة من قبلهم (1) .
  وقيل : كانوا يخرجون إلى الغزو ويخلفون الضعفاء في بيوتهم ويدفعون إليهم المفاتيح ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم فكانوا يتحرجون ، فقيل : ليس على هؤلاء الضعفاء حرج فيما تحرجون عنه ولا عليكم * (أن تأكلوا) * من هذه البيوت (2) ، ولم يأت ذكر الأولاد لأن ذكرهم قد دخل في قوله : * (من بيوتكم) * لأن ولد الرجل بعضه ، وحكمه حكم نفسه .
  وفي الحديث : ( إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه ، وإن ولده من كسبه ) (3) .
  وملك المفاتيح : كونها في يده وحفظه ، و ( الصديق ) يكون واحدا أو (4) جمعا ، وكذلك العدو ، والمعنى : أو بيوت أصدقائكم ، وعن أئمة الهدى (عليهم السلام) قالوا : ( لا بأس بالأكل لهؤلاء من بيوت من ذكره الله تعالى بغير إذنهم قدر حاجتهم من غير إسراف ) (5) .
  وعن الحسن : أنه دخل داره فإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة وهم يأكلون ، فتهلل وجهه سرورا وقال : هكذا وجدناهم ـ يريد كبراء الصحابة ـ وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب ، فيسأل جاريته كيسه فيأخذ ما شاء ، فإذا حضر مولاها فأخبرته أعتقها سرورا بذلك (6) .

-------------------
(1) قاله ابن عباس والضحاك والكلبي ، راجع تفسير الماوردي : ج 4 ص 122 .
(2) قاله سعيد بن المسيب ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 357 .
(3) مسند أحمد : ج 6 ص 31 و 42 ، سنن البيهقي : ج 7 ص 480 .
(4) في نسخة : ( و ) بدل ( أو ) .
(5) التبيان : ج 7 ص 463 .
(6) حكاه عنه البغوي في تفسيره : ج 3 ص 358 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 635 _
  وعن جعفر الصادق (عليه السلام) : ( من عظم حرمة الصديق أن جعله الله من الأنس والثقة والانبساط وطرح الحشمة بمنزلة النفس والأب والأخ والابن ) (1) .
  * (جميعا أو أشتاتا)* أي : مجتمعين أو متفرقين ، كانوا لا يأكلون إلا مع ضيفهم ، ويتحرج الرجل أن يأكل وحده ، و * (إذا دخلتم بيوتا) * من هذه البيوت فابدأوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم دينا وقرابة * (تحية من عند الله) * ثابتة بأمره ، مشروعة من لدنه ، ولأن التسليم طلب سلامة للمسلم عليه ، والتحية طلب حياة للمحيى من عند الله، ووصفها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن ، يرجى بها من الله زيادة الخير وطيب الرزق .
  ومنه قوله (عليه السلام) : ( سلم على أهل بيتك يكثر خير بيتك ) (2) و * (تحية) * منصوبة ب‍ ( سلموا ) لأنها في معنى ( تسليما ) ، كما تقول : حمدت شكرا .
  * (وإذا كانوا) * مع النبي (صلى الله عليه وآله) * (على أمر جامع) * يقتضي الاجتماع عليه والتعاون فيه ، من حضور حرب أو مشورة في أمر أو صلاة جمعة وما أشبهها * (لم يذهبوا حتى يستئذنوه) * جعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله مع تصدير الجملة ب‍ * (إنما) * ، وإيقاع ( المؤمنين ) مبتدأ مخبرا عنه بموصول يحيط صلته بذكر الإيمانين ، ثم أكد ذلك بأن أعاد ذكره على أسلوب آخر فقال : * (إن الذين يستئذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله) * ضمنه شيئا آخر ، وهو أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين ، ثم خيره (صلى الله عليه وآله) بين أن يأذن وبين أن لا يأذن ، وهكذا حكم من قام مقامه من الأئمة (عليهم السلام) .

-------------------
(1) رواه عنه (عليه السلام) الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 257 .
(2) أخرجه ابن كثير في تفسيره : ج 3 ص 295 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 636_
  * (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) * أي : * (لا تجعلوا) * تسميته ونداءه * (بينكم) * كما يسمي بعضكم بعضا ويناديه باسمه ، فلا تقولوا : يا محمد (صلى الله عليه وآله) ، ولكن : يا نبي الله، ويا رسول الله، مع التوقير والتعظيم والتواضع وخفض الصوت ، أو : لا تقيسوا دعاء (1) إياكم على * (دعاء بعضكم بعضا) * ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي ، فإن في القعود عن أمره قعودا عن أمر الله تعالى ، أو : لا تجعلوا * (دعاء الرسول) * لكم أو عليكم مثل دعائكم ، فإن دعوته مستجابة مسموعة * (يتسللون منكم) * قليلا * (لواذا) * أي : ملاوذة ، يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا ، المعنى : يتسللون عن الجماعة في الخفية ، يستتر بعضهم ببعض .
  و * (لواذا) * حال ، أي: ملاوذين ، وقيل : نزلت في حفر الخندق وكان قوم يتسللون بغير إذن (2) ، وقيل : كانوا يتسللون عن الجهاد يرجعون عنه (3) ، وقيل : عن خطبة النبي (صلى الله عليه وآله) يوم الجمعة (4) .
  يقال : خالفه إلى الأمر : إذا ذهب هو إليه دونه ، ومنه قوله تعالى : * (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهكم عنه) * (5) وخالفه عن الأمر : إذا صد عنه دونه ، ومعناه : الذين يصدون عن أمره دون المؤمنين ، والمفعول محذوف ، والضمير في * (أمره) * لله أو للرسول ، والمعنى :

-------------------
(1) في نسخة : ( دعاءه ) .
(2) قاله عروة ومحمد بن كعب القرظي ، راجع الدر المنثور : ج 6 ص 229 .
(3) وهو قول مجاهد ، راجع تفسير الماوردي : ج 4 ص 128 .
(4) قاله الفراء في معاني القرآن : ج 2 ص 262 .
(5) هود : 88 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _637_
  عن طاعة الله ودينه * (أن تصيبهم فتنة) * أي : محنة في الدنيا تظهر نفاقهم أو بلية .
  وعن جعفر بن محمد (عليهما السلام) : ( يسلط عليهم سلطانا جائرا ، وعذابا أليما في الآخرة ) (1) ، وهذا يدل على أن أوامر النبي (صلى الله عليه وآله) على الوجوب .
  أدخل * (قد) * ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة ، وتوكيد العلم لتوكيد الوعيد ، وذلك أن ( قد ) إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى ( ربما ) ، فوافقت ( ربما ) في خروجها إلى معنى التكثير في نحو قوله : فإن تمس مهجور الغناء فربما * أقام به بعد الوفود وفود (2) ونحوه قول زهير : أخي ثقة لا تهلك الخمر ماله * ولكنه قد يهلك المال نائله (3) * (ألا إن لله ما في السموات والارض) * قد اختص جميعها به ، خلقا وملكا وعلما ، فكيف يخفي عليه أحوال المنافقين وإن كانوا يجتهدون في سترها عن العيون وإخفائها ، وس‍ * (ينبئهم) * يوم القيامة بما أبطنوه ويجازيهم عليه .
  والخطاب والغيبة في قوله : * (قد يعلم مآ أنتم عليه) * ، * (ويوم يرجعون إليه) * يجوز أن يكونا معا (4) للمنافقين على طريق الالتفات ، ويجوز أن يكون * (ما أنتم عليه) * عاما و * (يرجعون) * خاصا (5) .

-------------------
(1) رواه عنه (عليه السلام) الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 260 .
(2) البيت منسوب لابن عطاء السندي من قصيدة نظمها في رثاء ابن هبيرة لما قتله المنصور الدوانيقي ، يقول : فإن هجر الناس بيتك الآن فلا حزن ، لأنه كثيرا ما اجتمعوا فيه في حياتك ومنحوا خيرا ، راجع شرح شواهد الكشاف للأفندي : ص 62 .
(3) البيت من قصيدة يمدح بها حصن بن حذيفة بن بدر ويصفه بالكريم ، يقول : إن ماله ( لا يتلفه ) شئ بقدر ما ( يتلفه ) عطاؤه المتواصل ، راجع ديوان زهير : ص 68 .
(4) في نسخة : ( عاما ).
(5) في المخطوطة زيادة : بهم . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 639 _
سورة الفرقان مكية إلا آيات (1)
  وهي سبع وسبعون آية بلا خلاف .
  وفي حديث أبي : ( من قرأها بعث يوم القيامة وهو مؤمن بأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأدخل الجنة بغير نصب ) (2) .
  [ عن إسحاق بن عمار ] عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال : ( يابن عمار ، لا تدع قراءة سورة * (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده) * فإن من قرأها في كل ليلة لم يعذبه الله أبدا ، ولم يحاسبه ، وكان منزله في الفردوس الأعلى (3) .

-------------------
(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان : ج 7 ص 669 : قال مجاهد وقتادة : هي مكية ، وقال ابن عباس : نزلت ثلاث آيات منها بالمدينة ، من قوله : * (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) * الى قوله : * (رحيما) * ، عدد آياتها سبع وسبعون آية ليس فيها خلاف ، وقال القرطبي في تفسيره : ج 13 ص 1 : مكية كلها في قول الجمهور ، وقال ابن عباس وقتادة : إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة وهي : * (والذين لا يدعون مع الله) * الى قوله : * (وكان الله غفورا رحيما) * ، وقال الضحاك : هي مدنية ، وفيها آيات مكية قوله : * (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) * ، وفي الكشاف : ج 3 ص 262 : مكية إلا الآيات 68 و 69 و 70 فمدنية وآياتها 77 ، نزلت بعد يس .
(2) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 298 مرسلا .
(3) ثواب الأعمال للصدوق : ص 135 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _640 _
  بسم الله الرحمن الرحيم * (الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً * تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) * البركة : الكثرة من الخير ، ومنها : * (تبارك) * الله أي : عظمت خيراته وكثرت .
  وسمي القرآن ( فرقانا ) لفصله بين الحق والباطل ، أو : لأنه لم ينزل جملة واحدة بل متفرقا مفصولا بين بعضه وبعض في الإنزال * (ليكون) * الضمير ل‍ * (عبده) * أو ل‍ * (الفرقان) * ، * (للعلمين) * للجن والإنس * (نذيرا) * منذرا مخوفا ، أو : إنذارا كالنكير بمعنى الإنكار .
  * (الذي له) * بدل من * (الذي نزل) * ، أو مدح * (وخلق كل شئ) * أي : وأوجد كل شئ * (فقدره) * هيأه لما يصلح له .

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 641 _
  والخلق بمعنى الافتعال (1) في قوله : * (لا يخلقون شيئا) * (2) أي : لا يقدرون على شئ من أفعال الله ولا من أفعال العباد ، فلا يفتعلون شيئا وهم يفتعلون ، لأنهم عبدتهم ينحتونهم ويصورونهم * (ولا يملكون) * لا يستطيعون * (لأنفسهم) * دفع ضرر عنها ولا جلب نفع إليها ، وإذا عجزوا عن ذلك فهم عن الموت والحياة أعجز .
  * (وأعانه عليه قوم ءاخرون) * وهم اليهود ، وقيل : عداس مولى حويطب بن عبد العزى ، ويسار مولى العلاء بن الحضرمي (3) .
  ( جاء ) و ( أتى ) يستعملان في معنى فعل ، فيعديان تعديته ، ويجوز أن يحذف الجار ويوصل الفعل ، وظلمهم أنهم جعلوا العربي يتلقن من العجمي كلاما عربيا أعجز الفصحاء (4) بفصاحته ، والزور : بهتهم بنسبة ما هو برئ منه إليه .
  و * (أسطير الأولين) * : ما سطره المتقدمون في كتبهم * (اكتتبها) * كتبها لنفسه وأخذها ، كما تقول : إصطب الماء : إذا صبه لنفسه وأخذه ، * (فهي تملى عليه) * أي : تلقى عليه من كتابه يتحفظها * (بكرة وأصيلا) * أي : دائما ، أو : في الخفية قبل أن ينتشر الناس ، وحين يأوون إلى مساكنهم ، أي : يعلم الخفيات وبواطن الأمور ، ومن جملتها : ما تسرونه أنتم من الكيد لرسوله مع علمكم بأن ما تقولونه باطل وزور * (إنه كان غفورا رحيما) * لا يعاجل بعقابكم مع استيجابكم بمكابرتكم هذه أن يصب عليكم العذاب .
  * (مال هذا الرسول) * حاله مثل حالنا * (يأكل الطعام) * كما نأكل * (ويمشى في الأسواق) * لطلب المعاش كما نمشي وكان يجب أن يكون مستغنيا عن الأكل والتعيش بأن يكون ملكا ، ثم نزلوا عن هذا إلى اقتراح أن يكون إنسانا معه

-------------------
(1) في نسخة : ( الاقتدار ) .
(2) النحل : 20 .
(3) قاله الكلبي ومقاتل ، راجع تفسير الماوردي : ج 4 ص 132 .
(4) في نسخة زيادة : ( والبلغاء ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 642 _
  * (ملك) * يعينه على الإنذار والتخويف ، ثم نزلوا أيضا بأن قالوا : * (أو يلقى إليه كنز) * يستظهر به ويستغني عن طلب المعاش ، ثم نزلوا فاتسعوا بأن يكون رجلا له بستان يأكل منه ويأكلون منه ، فقد قرئ : * (يأكل) * بالياء والنون (1) * (وقال الظلمون) * وضع الظاهر موضع المضمر ، وإنما أرادهم ، وقوله : * (فيكون) * نصب لأنه جواب ، * (لولا) * بمعنى ( هلا ) ، وحكمه حكم الاستفهام ، وعطف * (يلقى) * و * (يكون) * على * (أنزل) * لأن محله الرفع ، لأنه في معنى ( ينزل ) بالرفع .
  * (ضربوا لك الأمثل) * أي : قالوا فيك تلك الأقوال النادرة من نبوة مشتركة بين إنسان وملك ، وإلقاء كنز عليك من السماء وغير ذلك ، فهم متحيرون ضلال لا يجدون قولا يستقرون عليه ، أو : فضلوا عن الحق لا يهتدون إليه ، تكاثر خير * (الذي إن شآء) * وهب لك في الدنيا خيرا مما قالوا .
  وقرئ : * (ويجعل لك) * بالرفع (2) والجزم عطفا على * (جعل) * لأن الشرط إذا وقع ماضيا جاز في جزائه الجزم والرفع ، كقول زهير : وإن أتاه خليل يوم مسغبة * يقول لا غائب مالي ولا حرم (3) * (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً * إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً * قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيراً * لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْئُولاً * وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً * فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً * وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً)

-------------------
(1) وبالنون قرأه حمزة والكسائي ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 462 .
(2) وهي قراءة ابن كثير وعاصم برواية أبي بكر وابن عاصم ، راجع الكشف عن وجوه القراءات السبع للقيسي : ج 2 ص 144 .
(3) والبيت من قصيدة يمدح بها هرم بن سنان ، ومعناه واضح ، انظر ديوان زهير بن أبي سلمى : ص 91 وفيه ( مسألة ) بدل ( مسغبة ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 643_
  * (بل كذبوا بالساعة) * عطف على ما حكى عنهم ، يقول : بل أتوا بما هو أعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم بالساعة ، أو هو متصل بما يليه أي : كيف يصدقون بذلك وهم لا يؤمنون بالآخرة ، والسعير : النار المستعرة .
  * (إذا رأتهم) * نسب الرؤية إلى النار ، وإنما يرونها هم وهو كقولهم : دور بني فلان تترى (1) أي : كان بعضها يرى بعضا ، فالمعنى : إذا كانت منهم بمرائي النظر (2) سمعوا صوت التهابها ، وشبه ذلك بصوت المتغيظ والزافر ، وقيل : التغيظ للنار والزفير لأهلها (3) .
  * (مكانا ضيقا) * جمع على أهل النار التضييق والإرهاق ، نعوذ بالله منها .
  وعن ابن عباس : أنه يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح ، وهم مع ذلك الضيق مسلسلون مصفدون ، قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الجوامع والأصفاد (4) .
  وقيل : قرنوا مع الشياطين في السلاسل (5) .
  والثبور : الهلاك ، ودعاؤه أن يقولوا : واثبوراه ،

-------------------
(1) كذا في النسخ ، وهو مصحف ( تتراءى ) كما هو واضح .
(2) في نسخة : ( الناظر ) .
(3) وهو قول قطرب ، راجع تفسير الرازي : ج 24 ص 56 .
(4) تفسير ابن عباس : ص 301 .
(5) قاله يحيى بن سلام ، راجع تفسير الماوردي : ج 4 ص 134 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 644 _
  أي : تعال فهذا زمانك .
  * (لا تدعوا) * أي : يقال لهم ، أو : هم حري بأن يقال لهم ذلك وإن لم يكن هناك قول ، أي : وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه بواحد ، إنما هو ثبور كثير .
  أي : وعدها المتقون * (لهم فيها ما يشاءون‍) * ـ * (كانت لهم جزاء) * أي : كان ذلك مكتوبا في اللوح ، أو : لأن موعد الله في تحققه كأنه قد كان ، والضمير في * (كان) * ل‍ * (ما يشاءون) * أي : كان ذلك موعودا واجبا * (على ربك) * إنجازه ، حقيقا بأن يسأل ويطلب لأنه ثواب مستحق ، وقيل : * (مسئولا) * يسأله الملائكة والناس في دعواتهم (1) * (ربنا وأدخلهم جنت عدن التي وعدتهم) * (2) * (ربنا وءاتنا ما وعدتنا على رسلك) * (3) .
  وقرئ : * (يحشرهم ... فيقول) * كلاهما بالنون (4) والياء * (وما يعبدون) * يريدون معبودهم من الملائكة والإنس والأصنام إذا أنطقهم الله.
  والفائدة في * (أنتم) * و * (هم) * وإيلائهما حرف الاستفهام : أن السؤال إنما وقع عن متولي الفعل لا عن الفعل ووجوده ، فقدم ليعلم أنه المسؤول عنه .
  * (قالوا سبحنك) * أي : تنزيها لك عن الشريك ، وهذا تعجب منهم مما قيل لهم لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون ، أو : قالوا سبحانك ليدلوا على أنهم المسبحون الموسومون بذلك * (ما كان) * يصح لنا ولا يستقيم أن نتولى أحدا دونك ، فكيف يصح لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولانا دونك ؟ وقرئ : ( نتخذ ) (5) ، وروي ذلك

-------------------
(1) قاله محمد بن كعب القرظي ، راجع المصدر السابق : ص 135 .
(2) غافر : 8 .
(3) آل عمران : 194 .
(4) قرأه ابن عامر والحسن وطلحة ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 462 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 6 ص 487 .
(5) قرأه أبو الدرداء وزيد بن علي (عليه السلام) والحسن وأبو جعفر والسلمي ، راجع شواذ القرآن لابن خالويه : ص 105 ، وتفسير القرطبي : ج 13 ص 10 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 645 _
  عن الصادق (عليه السلام) (1) .
  و ( اتخذ ) قد يتعدى إلى مفعول واحد وإلى مفعولين ، فالقراءة الأولى من المتعدي إلى مفعول واحد وهو * (من أولياء) * ، والأصل : ( أن نتخذ أولياء ) فزيدت * (من) * لتأكيد النفي ، والثانية من المتعدي إلى مفعولين و * (من) * للتبعيض أي : نتخذ بعض أولياء ، و * (الذكر) * ذكر الله والإيمان به ، أو : القرآن والشرع ، والبور : الهلاك يوصف به الواحد والجمع ، أو : هو جمع بائر كعائذ وعوذ .
  وفي هذه الآية دلالة على أن بطلان قول من يزعم أن الله تعالى يضل عباده على الحقيقة ، حيث يقول للمعبودين من دونه : * (ءأنتم أضللتم عبادي .. أم هم ضلوا) * أنفسهم ، فيتبرؤون من إضلالهم ويستعيذون به من أن يكونوا مضلين ، ويقولون : بل أنت تفضلت على هؤلاء وآبائهم ، فجعلوا النعمة التي هي سبب الشكر سببا للكفر ونسيان الذكر ، وكان ذلك سبب هلاكهم ، فبرؤا أنفسهم من الإضلال ونزهوه سبحانه أيضا منه حيث أضافوا إليه ( التمتيع بالنعمة ) ، وأضافوا نسيان الذكر الذي هو سبب البوار إليهم ، فشرحوا الإضلال المجازي الذي نسبه الله إلى ذاته في قوله : * (يضل من يشآء) * (2) ، ولو كان هو المضل على الحقيقة لكان الجواب أن يقولوا : بل أنت أضللتهم .
  * (بما تقولون) * قرئ بالتاء والياء (3) ، فالتاء على معنى : فقد كذبوكم بقولكم : لهم آلهة ، والياء على معنى : فقد كذبوكم بقولهم : * (سبحنك ما كان ينبغى لنا) * الآية ، وقرئ : * (فما تستطيعون) * بالتاء والياء (4) أيضا ، فالتاء على : فما تستطيعون

-------------------
(1) رواه أبو حيان في البحر المحيط : ج 6 ص 489 عن أبي جعفر (عليه السلام) .
(2) الرعد : 27 ، النحل : 93 ، فاطر : 8 .
(3) وبالياء قرأه ابن أبي بزة عن ابن كثير ، راجع كتاب السبعة في القراءات : ص 463 .
(4) وبالياء هي قراءة الجمهور وأبي بكر عن عاصم ، وروي عن علي (عليه السلام) ، راجع كتاب السبعة في القراءات : ص 463 ، والبحر المحيط : ج 6 ص 490 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 646_
  أنتم صرف العذاب عنكم ، وقيل : الصرف : التوبة (1) ، وقيل : الحيلة (2) من قولهم : إنه ليتصرف ، أي : ليحتال ، والياء على : فما يستطيع آلهتكم ذلك * (نذقه عذابا كبيرا) * في الآخرة ، والكافر ظالم لقوله : * (إن الشرك لظلم عظيم) * (3) .
   والجملة بعد * (إلا) * صفة لمحذوف ، والمعنى : وما أرسلنا أحدا من لمرسلين إلا آكلين وماشين ، وإنما حذف لدلالة الجار والمجرور عليه ، ونحوه : * (وما منآ إلا له مقام معلوم) * (4) أي : وما منا أحد ، وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : ( ويمشون ) على البناء للمفعول (5) أي : يمشيهم حوائجهم أو الناس * (فتنة) * أي : محنة وابتلاء ، وهذا تسلية لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وتصبير له على ما قالوه واستبدعوه من أكله الطعام ومشيه في الأسواق ، يعني : إنا نبتلي المرسلين بالمرسل إليهم وأنواع أذاهم .
  وموقع قوله : * (أتصبرون) * بعد ذكر الفتنة موقع ( أيكم ) بعد الابتلاء في قوله : * (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) * (6) ، * (وكان ربك بصيرا) * أي : عالما بالصواب فيما يبتلى به وغيره ، فلا يضيقن صدرك بأقوالهم واصبر ، وقيل : هو تسلية له عما عيروه به من الفقر حين قالوا : * (أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة) * (7) أي : جعلنا الأغنياء فتنة للفقراء لننظر هل يصبرون ، وقيل : جعلناك فتنة لهم لأنك لو كنت غنيا صاحب كنوز وجنات لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا أو ممزوجة بها ، فبعثناك فقيرا لتكون طاعة من يطيعك خالصة لنا من غير طمع وغرض دنيوي (8) ، وقيل : كان أبو جهل وأضرابه يقولون : إن أسلمنا وقد أسلم

-------------------
(1) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 271 .
(2) حكاه ابن قتيبة ، نقله عنه الماوردي في تفسيره : ج 4 ص 138 .
(3) لقمان : 13 .
(4) الصافات : 164 .
(5) تفسير القرطبي : ج 13 ص 13 .
(6) هود : 7 ، والملك : 2 .
(7) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 272 ، والآية : 8 من هذه السورة .
(8) قاله ابن عطية ، راجع تفسير الآلوسي : ج 18 ص 255 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 647_
  قبلنا صهيب وبلال وفلان وفلان ، ترفعوا علينا إذلالا بالسابقة فذلك الفتنة (1) .
  * (وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدْ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً * يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً * وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً * أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً * وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً * وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً * وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) * أي : لا يأملون لقاءنا بالخير لأنهم كفرة ، أو : لا يخافون لقاءنا بالشر ، والرجاء : الخوف في لغة تهامة ، جعلت الصيرورة إلى دار جزائه بمنزلة لقائه لو كان ملقيا ، هلا * (أنزل علينا الملئكة) * فتخبرنا بأن محمدا صادق * (أو نرى ربنا) * جهرة فيأمرنا بتصديقه واتباعه * (استكبروا في أنفسهم) * بأن أضمروا الاستكبار عن الحق والعناد في قلوبهم ، ونحوه : * (إن في صدورهم إلا كبر) * (2) ، و * (عتوا) * أي : تجاوزوا لحد في الطغيان ، ووصف العتو بالكبير فبالغ في إفراطه ، أي : أنهم لم يجسروا على هذا القول العظيم إلا لأنهم بلغوا أقصى العتو وغاية الاستكبار ، واللام جواب قسم محذوف .

-------------------
(1) قاله مقاتل ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 365 .
(2) غافر : 56 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _648_
  * (يوم يرون) * منصوب بما دل عليه * (لا بشرى) * أي : يمنعون البشرى ، و * (يومئذ) * تكرير ، أو منصوب ب‍ ( ذكر ) أي : اذكر يوم * (يرون الملئكة) * ، ثم ابتدأ * (لا بشرى يومئذ) * ، وقوله : * (للمجرمين) * إما ظاهر في موضع مضمر ، وإما لأنه عام ، فقد تناولهم بعمومه * (حجرا محجورا) * منصوب بفعل ترك إظهاره ، قال سيبويه : يقول الرجل للرجل : أتفعل كذا وكذا ؟ فيقول : حجرا (1) ، وهو من حجره : إذا منعه .
  والمعنى : أسأل الله أن يحجر ذلك حجرا ، ومجيئه على فعل أو فعل تصرف فيه لاختصاصه بموضع واحد ، كما قيل : فديت وعمرك ، قال : عوذ بربي منكم وحجر ، وهذه كلمة كانوا يقولونها عند لقاء عدو أو هجوم نازلة يضعونها موضع الاستعاذة * (محجورا) * صفة ل‍ * (حجرا) * جاءت لتأكيد معناه ، كما قالوا : موت مائت .
  والمعنى : أنهم يطلبون الملائكة ، وإذا رأوهم يوم القيامة كرهوا لقاءهم وقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدو الموتور ، وقيل : هو من قول الملائكة (2) ، ومعناه : حراما محرما عليكم الغفران والجنة أو البشرى ، أي : جعل الله ذلك حراما عليكم .
  * (وقدمنا إلى ما عملوا) * ليس هنا قدوم ولكن شبه حالهم وأعمالهم التي عملوها في كفرهم من صلة رحم وقري ضيف وإغاثة ملهوف وغيرها من المكارم بحال قوم عصوا ملكهم فقدم إلى أسبابهم وأملاكهم فأبطلها ولم يترك لها أثرا ، والهباء : ما يخرج من الكوة مع ضوء الشمس ، شبيه بالغبار * (منثورا) * صفة ل‍ * (هباء) * أي : منتشرا متناثرا .

-------------------
(1) كتاب سيبويه : ج 1 ص 193 .
(2) قاله قتادة والضحاك ومجاهد وعطية العوفي والحسن وعطاء وعكرمة وخصيف ، راجع التبيان : ج 7 ص 483 ، وتفسير الماوردي : ج 4 ص 141 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 649 _
  المستقر : المكان الذي يستقرون فيه متحادثين ، والمقيل : المكان الذي يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم ، وسمي مقيلا على طريق التشبيه ، وفي لفظ * (أحسن) * رمز إلى ما يتزين به مقيلهم من حسن الوجوه والصور وغير ذلك من التحاسين .
  وقرئ : * (تشقق) * والأصل ( تتشقق ) فحذف التاء في إحدى القراءتين وأدغم في القراءة الأخرى * (بالغمم) * الباء للحال ، أي : تتشقق السماء وعليها الغمام ، كما تقول : ركب الأمير بسلاحه ، أي : وعليه سلاحه * (ونزل الملئكة) * ينزلون وفي أيديهم صحائف أعمال العباد ، وقرئ : (وننزل الملائكة ) (1) .
  * (الملك يومئذ الحق) * الثابت * (للرحمن) * ، لأن كل ملك يزول يومئذ ويبطل ولا يبقى إلا ملكه ، ف‍ * (الملك) * مبتدأ ، و * (يومئذ) * ظرف له ، و * (الحق) * صفة له ، و * (للرحمن) * خبره .
  ويجوز أن يكون * (يومئذ) * ظرفا للخبر ، ويجوز أن يكون * (الحق) * خبرا ، والجار والمجرور في موضع الحال .
  العض على اليدين ، والسقوط في اليد ، وأكل البنان ، وحرق الإرم ، وقرع الأسنان ، كنايات عن الغيظ والحسرة لأنها من روادفهما ، واللام في * (الظالم) * يجوز أن يكون للعهد فيكون مخصوصا على ما ذكر في الرواية ، ويجوز أن يكون للجنس فيتناول كل ظالم تبع خليله وتابعه على إضلاله تمنى أن لو صحب الرسول وسلك معه سبيل الحق .
  الأصل ( يا ويلتي ) فقلبت الياء ألفا كما في ( صحارى ) و ( مدارى ) * (فلانا) * كناية عن الأعلام ، كما أن الهن كناية عن الأجناس (2) .

-------------------
(1) وهي قراءة ابن كثير ، راجع التبيان : ج 7 ص 484 .
(2) في نسخة : ( الأخباث ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 650 _
  * (عن الذكر) * ذكر الله أو القرآن أو متابعة الرسول ، والشيطان إشارة إلى ( خليله ) ، سماه شيطانا لأنه أضله كما يضل الشيطان ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة ، أو : أراد إبليس فإنه الذي حمله على مخالة المضل ومخالفة الرسول ثم خذله ، ويحتمل أن يكون * (وكان الشيطن) * حكاية كلام الظالم ، وأن يكون كلام الله الرسول (1) محمد (صلى الله عليه وآله) وقومه قريش ، حكى الله عنه شكواه قومه إليه .
  * (مهجورا) * أي : تركوه ولم يؤمنوا به ، وقيل : هو من هجر إذا هذي (2) ، أي : جعلوه مهجورا فيه ، أي : زعموا أنه هذيان وباطل ، أو : هجروا فيه حين سمعوه كقوله : * (لا تسمعوا لهذا القرءان والغوا فيه) * (3) .
  * (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً * الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً * فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً * وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً * وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً * وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً * وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) *

-------------------
(1) في نسخة : ( والرسول ) .
(2) قاله ابن قتيبة ، راجع تفسير الماوردي : ج 4 ص 143 .
(3) فصلت : 26 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 651 _
  هذا تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله) ، أي : * (كذلك) * كان كل نبي قبلك مبتلى بعداوة قومه ، وكفاك بي * (هاديا) * إلى الانتصار منهم ، وناصرا لك عليهم .
  والعدو يكون واحدا وجمعا .
  و * (نزل) * هنا بمعنى ( أنزل ) ، كخبر وأخبر ، أي : هلا أنزل * (عليه القرءان) * دفعة في وقت واحد كما أنزلت التوراة والإنجيل والزبور * (جملة وا حدة) * ، وقوله : * (كذلك) * جواب لهم ، أي : كذلك أنزل مفرقا .
  والحكمة فيه أن نثبت به قلبك ونقويه بتفريقه حتى تعيه وتحفظه ، لأن المتلقن إنما يقوى قلبه بأن يحفظ العلم شيئا بعد شئ ، وأيضا فإن فيه ناسخا ومنسوخا وما هو جواب للسائل على حسب سؤاله ، ولا يتأتى ذلك فيما ينزل جملة واحدة ، ولأنه كان (عليه السلام) أميا لا يقرأ ولا يكتب ولابد له من التلقن ، فأنزل عليه مفرقا ، وكان موسى وعيسى قارئين وكاتبين * (ورتلنه) * معطوف على الفعل الذي تعلق به * (كذلك) * ، كأنه قال : فرقناه * (ورتلنه) * أي : قدرناه آية بعد آية ، وسورة عقيب سورة ، أو : أمرنا بترتيل قراءته وهو أن يقرأ بترتل (1) وتثبت ، وأصل الترتيل : في الأسنان ، يقال : ثغره رتل ومرتل أي : مفلج ، وقيل : هو تنزيله على تمكث وتمهل في مدة بعيدة (2) .
  * (ولا يأتونك) * بسؤال عجيب كأنه مثل في البطلان * (إلا) * أتيناك بالجواب الحق الذي لا محيد لهم عنه ، وبما هو * (أحسن) * معنى من سؤالهم ، وضع ( التفسير )* موضع ( المعنى ) لأن التفسير هو الكشف عما يدل عليه الكلام ، يعني : أن تنزيله مفرقا وتحديهم بسورة سورة منها أدخل في باب الاعجاز من أن ينزل جملة واحدة فيقال لهم : إئتوا بمثلها في الفصاحة ، كأنه قال : إنما يحملكم على هذه

-------------------
(1) في نسخة : ( بترسل ) .
(2) قاله مجاهد ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 368 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 652 _
  السؤالات أنكم تضللون سبيله وتحقرون مكانه ومنزلته .
  وإذا سحبتم * (على) * وجوهكم * (إلى جهنم) * علمتم أن مكانكم شر من مكانه ، وسبيلكم أضل من سبيله ، ويجوز أن يراد بالمكان : الشرف والمنزلة ، وأن يراد الدار والمسكن ، كقوله : * (أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا) * (1) .
  * (وزيرا) * أي : مؤازرا له على تأدية الرسالة .
  والمعنى : فذهبا إليهم فكذبوهما * (فدمرنهم) * فاختصر لأن المقصود من القصة إلزام الحجة بإرسال الرسل واستحقاق التدبير بتكذيبهم .
  ورووا عن علي (عليه السلام) : ( فدمراهم ) (2) ، و ( فدمرانهم ) على التأكيد بالنون المشددة (3) .
  * (كذبوا الرسل) * لأن تكذيبهم له تكذيب لجميعهم ، أو : كذبوه ومن قبله من الرسل ، أو : لم يروا بعثة الرسل كالبراهمة * (وجعلنهم) * أي : إغراقهم وقصتهم * (وأعتدنا للظلمين) * أي : لهم ، إلا أنه قصد تظليمهم فأظهر ، أو تناول الظالمين بعمومه .
   * (وعادا) * عطف على ( هم ) في * (جعلنهم) * ، * (وأصحب الرس) * كان لهم نبي اسمه حنظلة ، فقتلوه فأهلكوا ، والرس : البئر غير المطوية ، وقيل : الرس : قرية باليمامة يقال لها فلج (4) ، وروي عن الصادق (عليه السلام) : ( أن نساءهم كن سحاقات ) (5) .
  * (وقرونا بين ذلك) * المذكور ، كما يحسب الحاسب أعدادا كثيرة ثم يقول : فذلك كذا ، بمعنى : فذلك المحسوب أو المعدود .

-------------------
(1) مريم : 73 .
(2) رواه عنه (عليه السلام) الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 280 .
(3) انظر البحر المحيط لأبي حيان : ج 6 ص 498 .
(4) قاله قتادة ، راجع التبيان : ج 7 ص 490 .
(5) رواه الشيخ الطوسي في التبيان : ج 7 ص 491 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 653 _
  * (وكلا) * منصوب بمضمر وهو ( أنذرنا ) و ( حذرنا ) ، ودل عليه قوله : * (ضربنا له الأمثل) * أي : بينا له القصص العجيبة * (وكلا) * الثاني (1) بمضمر وهو * (تبرنا) * والتتبير : التكسير .
  وأراد ب‍ * (ـ القرية) * سدوم من قرى قوم لوط ، وكانت خمسا ، أهلك الله أربعا منها وبقيت واحدة ، و * (مطر السوء) * : الحجارة ، وكانت قريش يمرون في متاجرهم إلى الشام على تلك القرية التي أهلكت بالحجارة ويرونها * (لا يرجون) * أي : لا يتوقعون وضع الرجاء موضع التوقع ، لأنه إنما يتوقع العاقبة من يكون مؤمنا ، أو : لا يأملون * (نشورا) * ، أو : لا يخافون فلذلك لم ينظروا ولم يتذكروا .
  * (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً * أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً * أَلَمْ تَرَى إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً)* (إن) * الأولى نافية ، والثانية مخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بينهما ، أي :

-------------------
(1) في نسخة زيادة : ( منصوب ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 654 _
  ما * (يتخذونك إلا) * موضع هزء ومهزوءا به ، ومعناه : يستهزئون بك ويقولون : * (أهذا الذي) * بعثه * (الله) * ؟ ! وهذا استصغار .
  وفي قولهم : * (إن كاد ليضلنا) * دليل على بذل رسول الله (صلى الله عليه وآله) غاية المجهود في دعوتهم وعرض الآيات والمعجزات عليهم حتى قاربوا أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام ، و * (لولا) * هنا جار مجرى التقييد للحكم المطلق من حيث المعنى و * (سوف يعلمون) * وعيد ، وقوله : * (من أضل سبيلا) * كالجواب عن قولهم : * (إن كاد ليضلنا عن ءالهتنا) * أي : من جعل هواه معبوده ، أفتتوكل عليه بأن تدعوه إلى الهدى وتجبره عليه وتقول : لابد أن تسلم شئت أو أبيت ؟ كما قال : * (لست عليهم بمصيطر) * (1) * (وما أنت عليهم بجبار) * (2) .
  * (أم) * منقطعة ، أي : بل أ * (تحسب) * ، * (بل هم أضل سبيلا) * لأن الأنعام تنقاد لمن يتعهدها ، وتعرف من يحسن إليها ممن يسئ إليها ، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها ، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان ، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ، ولا يجتنبون العقاب الذي هو أشد المضار .
  * (ألم تر إلى ربك) * ألم تنظر إلى صنع ربك وقدرته * (كيف مد الظل) * أي : جعله ممتدا منبسطا لينتفع به الناس * (ولو شآء لجعله ساكنا) * أي : لاصقا بأصل كل ذي ظل من بناء أو شجر فلم ينتفع به أحد ، سمى سبحانه انبساط الظل وامتداده تحركا منه ، وعدم ذلك سكونا .
  ومعنى كون الشمس * (دليلا) * : أن الناس يستدلون بالشمس وأحوالها في مسيرها على أحوال الظل من كونه ثابتا في مكان وزائلا (3)

-------------------
(1) الغاشية : 22 .
(2) ق : 45 .
(3) في نسختين زيادة : ( ومنبسطا ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 655 _
  ومتسعا ومتقلصا ، ولولا الشمس ما عرف الظل ، ولولا النور لما عرفت الظلمة .
  ومعنى ( قبضه إليه ) : ينسخه بضح الشمس * (قبضا يسيرا) * على مهل شيئا بعد شئ ، وفي ذلك منافع غير محصورة ، ولو قبض دفعة واحدة لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعا .
  وأما فائدة * (ثم) * في الموضعين فهو أنه بيان لتفاضل الأمور الثلاثة تشبيها لتباعد ما بينها في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت .
  وفي الآية وجه آخر وهو : أنه سبحانه مد الظل حين بنى السماء كالقبة ، فألقت القبة ظلها على وجه الأرض * (ولو شآء لجعله ساكنا) * مستقرا على تلك الحالة ، ثم خلق الشمس وجعلها على ذلك الظل دليلا متبوعا له كما يتبع الدليل في الطريق ، فهو يزيد بها وينقص ، ثم نسخه بها وقبضه قبضا سهلا يسيرا غير عسير .
  ويمكن أن يكون المراد قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام ذوات الظل ، أي : نعدمه بإعدام أسبابه كما أنشأه بإنشاء أسبابه ، وفي قوله : * (قبضنه إلينا) * دلالة عليه ، وكذلك في قوله : * (يسيرا) * كقوله : * (ذلك حشر علينا يسير) * (1) .
  جعل ظلام الليل مثل اللباس الساتر ، والنائم شبه الميت ، والسبات : الموت لأن في مقابلته النشور ، فالنوم واليقظة مشبهان بالموت والحياة ، وقيل : * (سباتا) * راحة لابد منها للناس (2) وقطعا لأعمالهم (3) * (وجعل النهار نشورا) * ينتشر الناس فيه لطلب معاشهم ، ويتفرقون لحوائجهم ، نشرا أي : إحياء ، ونشر جمع نشور وهي المحيية ، و ( نشرا ) تخفيف ( نشر ) .

-------------------
(1) ق : 44 .
(2) في بعض النسخ : ( لأبدان الناس ) .
(3) قاله الخليل وأبو مسلم وابن عيسى ، راجع تفسير الماوردي : ج 4 ص 147 ، وتفسير القرطبي : ج 13 ص 39 . س (*)