* لما تمكن يوسف بمصر وقحط الناس جمع يعقوب بنيه وقال : بلغني أنه يباع الطعام بمصر وأن صاحبه رجل صالح ، فاذهبوا إليه ، فتجهزوا وساروا حتى وردوا مصر * (فدخلوا) * على يوسف * (فعرفهم) * لأن همته كانت معقودة بهم وبمعرفتهم * (وهم له منكرون) * لم يعرفوه لطول العهد ، ولاعتقادهم أنه قد هلك .
* (ولما جهزهم بجهازهم) * أي : أصلحهم بعدتهم وأوقر ركائبهم بما طلبوه من الميرة * (قال ائتونى بأخ لكم من أبيكم) * لابد من مقدمة سبقت معهم حتى جرت هذه المسألة ، روي
(1) : أنه لما رآهم قال : من أنتم ؟ قالوا : نحن إخوة
عشرة وأبونا نبي من الأنبياء اسمه : يعقوب ، وكنا اثني عشر إخوة
(2) فهلك منا واحد ، قال : فأين الأخ الحادي عشر ؟ قالوا : هو عند أبيه يتسلى به من الهالك * (قال) * يوسف : * (ائتونى) * به * (ألا ترون أني أوفي الكيل) * ولا أبخس أحدا شيئا * (وأنا خير المنزلين) * المضيفين .
* (فإن لم تأتوني به ف) * ليس * (لكم عندي) * طعام أكيله عليكم ، وقوله : * (ولاتقربون) * يجوز أن يكون مجزوما عطفا على محل قوله : * (فلاكيل لكم) * كأنه قال : فإن لم تأتوني به تحرموا ولا تقربوا ، ويجوز أن يكون بمعنى النهي .
* (قالوا سنرا ود عنه أباه) * أي : سنخادعه عنه ونحتال حتى ننتزعه من يده * (وإنا لفعلون) * لقادرون على ذلك .
-------------------
(1) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 484 .
(2) كذا في النسخ ، والصحيح : ( أخا ) . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 228 _
( وقال لفتيته ) (1) وقرئ : * (لفتينه) * وهما : جمع فتى ، مثل إخوة وإخوان في جمع أخ ، وفعلة : جمع القلة ، وفعلان : جمع الكثرة ، أي : لغلمانه الكيالين * (اجعلوا بضعتهم في رحالهم) * يعني : ثمن طعامهم وما كانوا جاؤوا به في أوعيتهم ، واحدها رحل ، يقال للوعاء : رحل ، وللمسكن : رحل ، واصله : الشئ المعد للرحيل * (لعلهم يعرفونها) * لعلهم يعرفون حق ردها وحق التكرم بإعطاء البدلين * (إذا انقلبوا إلى أهلهم) * وفرغوا ظروفهم * (لعلهم يرجعون) * لعل معرفتهم بذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا ، قيل : لم ير من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمنا (2) .
* (فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ * قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِي مَوْثِقاً مِنْ اللَّهِ لَتَأْتُونَنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) * * (منع منا الكيل) * أرادوا قول يوسف (عليه السلام) : * (فلاكيل لكم عندي) * لأنه إذا أعلمهم بمنع الكيل فقد منعهم الكيل * (فأرسل معنآ أخانا) * بنيامين * (نكتل) * برفع المانع من الكيل فنكتل ما نحتاج إليه من الطعام ، وقرئ : (يكتل ) بالياء (3) ، أي : يكتل أخونا فينضم اكتياله إلى اكتيالنا ، أو يكن سببا للاكتيال * (قال هل ءامنكم) *
-------------------
(1) الظاهر أن المصنف اعتمد هنا على قراءة الياء ثم التاء بعدها تبعا للزمخشري .
(2) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 485 .
(3) وهي قراءة حمزة والكسائي ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 350 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 229 _
أي : لاآمنكم * (على) * بنيامين في الذهاب به * (إلا كمآ أمنتكم على أخيه) * يوسف إذ قلتم فيه : * (إنا له لحفظون) * (1) كما تقولونه في أخيه ثم لم تفوا بضمانكم * (فالله خير حفظا) * فتوكل على الله فيه ودفعه إليهم ، و * (حفظا) * نصب على التمييز كقولهم : ( لله دره فارسا ) ، ويجوز أن يكون حالا ، وقرئ : ( حفظا ) (2) ، * (وهو أرحم الراحمين) * يرحم ضعفي وكبر سني ، فيحفظه ويرده علي ولايجمع علي مصيبتين .
* (ولما فتحوا متعهم) * أي : أوعية طعامهم * (وجدوا بضعتهم ردت إليهم) *، وقرأ يحيى بن وثاب (3) : ( ردت ) بكسر الراء (4) على أن كسر الدال المدغمة نقلت إلى الراء * (مانبغى) * : * (ما) * للنفي ، أي : ما نبغي في القول ، أو ما نبتغي شيئا وراء ما فعل بنا من الإحسان والإكرام ، أو للاستفهام بمعنى : أي شئ نطلب وراء هذا من الإحسان ؟ وقيل : معناه : ما نريد منك بضاعة أخرى (5) ، وقوله : * (هذه بضعتنا ردت إلينا) * جملة مستأنفة موضحة لقوله : * (مانبغى) * والجمل بعدها معطوفة عليها على معنى : أن بضاعتنا ردت إلينا فنستظهر بها * (ونمير أهلنا) * في رجوعنا إلى الملك * (ونحفظ أخانا) * فما يصيبه شئ مما تخافه * (ونزداد) * باستحضار أخينا وسق (6) بعير زائدا على أوساق أباعرنا ، فأي شئ نطلب وراء
-------------------
(1) الآية : 12 .
(2) وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وعاصم برواية أبي بكر وابن عامر ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 350 .
(3) هو يحيى بن وثاب الأسدي بالولاء ، الكوفي ، إمام أهل الكوفة في القرآن ، قليل
الحديث ، سمع ابن عمر وابن عباس ، وروى عن ابن مسعود وأبي هريرة وعائشة مرسلا ، وروى
عنه الأعمش وقتادة ، توفي سنة 103 ه ، انظر تهذيب الاسماء واللغات للنووي : ج 2 ص
159 .
(4) حكاها عنه ابن جني في المحتسب : ج 1 ص 345 .
(5) قاله قتادة : راجع تفسير الطبري : ج 7 ص 247 ، وتفسير الماوردي : ج 3 ص 58 .
(6) الوسق : ستون صاعا ، قال الخليل : هو حمل البعير ، (الصحاح : مادة وسق) . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 230 _
هذه المباغي التي نستصلح بها أحوالنا ؟ * (ذلك كيل يسير) * أي : ذلك مكيل قليل لا يكفينا ، يعنون : ما يكال لهم فأرادوا أن يزدادوا إليه ما يكال لأخيهم ، أو يكون * (ذلك) * إشارة إلى كيل بعير ، أي : ذلك الكيل شئ قليل لا يضايقنا فيه الملك ، أو سهل عليه لا يتعاظمه .
* (حتى تؤتون) * أي : تعطوني ماأتوثق به * (من) * عند * (الله) * من عهد أو حلف * (لتأتنني به) * جواب القسم ، لأن المعنى : حتى تقسموا بالله لتأتنني
به * (إلا أن يحاط بكم) * إلا أن تغلبوا فلم تقدروا على الإتيان به ، أو إلا أن
تهلكوا * (فلمآ ءاتوه موثقهم) * أي : أعطوه ما يوثق به من العهود والأيمان * (قال) *
يعقوب * (الله على ما نقول وكيل) * أي : رقيب مطلع ، إن أخلفتم انتصف لي منكم .
* (وَقَالَ يَا بَنِي لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) * نهاهم أن يدخلوا * (من باب وا حد) * لأنهم كانوا ذوي جمال وبهاء وهيئة حسنة ، قد شهروا في مصر بالقربة من الملك
والتكرمة الخاصة التي لم تكن لغيرهم ، فخاف عليهم العين * (وما أغنى عنكم من الله من
شئ) * يعني : إن أراد الله بكم سوء لم ينفعكم ، ولم يدفع عنكم ما أشرت به عليكم من
التفرق وهو مصيبكم لا محالة * (إن الحكم إلا لله) * .
* (ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم) * أي : متفرقين * (ماكان يغنى عنهم) * رأي يعقوب ودخولهم متفرقين شيئا قط * (إلا حاجة) * استثناء منقطع على معنى :
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 231 _