* وضع سبحانه إعادة الخلق موضع ما يكون دافعه مكابرا ، لظهور برهانه ، ثم قال لنبيه (صلى الله عليه وآله) : * (وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) * أمره أن ينوب عنهم في الجواب ، إذ لا يدعهم لجاجهم ومكابرتهم أن ينطقوا بكلمة الحق ، هداه للحق وإلى الحق : لغتان ، فجمع سبحانه بين اللغتين ، ويقال : هدى بنفسه ، بمعنى : اهتدى ، كما يقال : شرى بمعنى : اشترى ، ومنه قراءة من قرأ : ( أمن لا يهدي ) (1) ، وقرئ : ( لا يهدي ) بفتح الهاء (2) وبكسرها ، وبكسر الهاء والياء (3)، وأصله : ( يهتدي ) ، فأدغم وفتحت الهاء لحركة التاء ، أو كسرت لالتقاء الساكنين ، وكسرت الياء لاتباع ما بعدها ، ومعناه : أن الله وحده هو الذي يهدي للحق بما ركب في المكلفين من العقول ومكنهم من النظر في الأدلة ووقفهم (4) على الشرائع ، ف‍ * (هل من شركائكم) * الذين جعلتموهم لله أندادا أحد * (يهدي إلى الحق) * مثل هداية الله ؟ ثم قال : * (أفمن يهدي إلى الحق) * هذه الهداية * (أحق) * بالاتباع أم الذي * (لا يهدي) * أي : لا يهتدي بنفسه ، أو لا يهدي غيره * (إلا أن) * يهديه الله،

-------------------
(1) وهي قراءة حمزة والكسائي وخلف والمفضل ويحيى بن وثاب والأعمش ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 326 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 156 .
(2) قرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وورش وابن محيصن ، راجع التبيان : ج 5 ص 375 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 156 .
(3) وهي قراءة عاصم برواية أبي بكر كما في كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 326 ، وفي التبيان : ج 5 ص 375 : هي قراءة أبي بكر إلا الأعشى والبرجمي .
(4) في بعض النسخ : وفقهم ، وفي بعض الآخر زيادة : وأعلمهم . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 127 _

  أو لا يهتدي إلا أن ينقله الله من حاله إلى أن يجعله حيوانا مكلفا فيهديه ؟ ! * (فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) * بالباطل ؟ ! * (وما يتبع أكثرهم) * في إقرارهم بالله * (إلا ظنا) * لأنه قول لا يسند إلى دليل * (إن الظن) * في معرفة الله * (لا يغنى من الحق) * وهو العلم * (شيا إن الله عليم بما يفعلون) * وعيد .
  * (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) * أي : * (وما كان هذا القرءان) * افتراء * (من دون الله ولكن)
  * كان * (تصديق الذي بين يديه) * وهو ما تقدمه من الكتب المنزلة ، لأنه معجز دونها ، وهو عيار عليها وشاهد بصحتها ، ومعنى * (وما كان ... أن يفترى) * : وما صح وما استقام وكان محالا أن يكون مثله في إعجازه وعلو شأنه مفترى * (وتفصيل الكتب) * وتبيين ما شرع وفرض من الأحكام من قوله : * (كتب الله عليكم) * (1) ، * (ولكن) * كان القرآن تصديقا للكتب السماوية وتفصيلا للأحكام الشرعية ، منتفيا عنه الريب كائنا * (مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) * .
  * (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ) * بل أيقولون : اختلقه ؟ ! والهمزة : إما تقرير لإلزام الحجة عليهم ، أو استبعاد لقولهم وإنكار ، والمعنيان متقاربان * (قل) * إن افتريته كما

-------------------
(1) النساء : 24 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 128 _
  زعمتم * (فأتوا) * أنتم * (بسورة) * مفتراة * (مثله) * في البلاغة وحسن النظم ، كما أنتم مثلي في العربية والفصاحة * (وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ ) * للاستعانة به على الإتيان بمثله * (من دون الله) * يعني أن الله وحده هو القادر على أن يأتي بمثله ، لا يقدر على ذلك أحد غيره ، فاستعينوا بكل من دونه على ذلك * (إن كنتم صدقين) * أنه افتراه .
  * ( بَلْ كَذَّبُوا ) * بالقرآن قبل أن يعلموا كنه أمره ، ويقفوا على * (تأويله) * ومعانيه ، لنفورهم عما يخالف ما ألفوه من دين آبائهم ، وقيل : * (ولما يأتهم تأويله) * أي : ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب ـ أي عاقبته ـ حتى تبين لهم أهو كذب أم صدق (1) ، يعني : أنه كتاب معجز من جهتين : إعجاز نظمه ، وما فيه من الإخبار بالغائبات ، فسارعوا إلى التكذيب قبل أن ينظروا في بلوغه حد الإعجاز ، وقبل أن يختبروا إخباره بالمغيبات .
  * (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ) * في نفسه ويعلم أنه حق ، ولكنه يعاند * (ومنهم من لا) * يصدق * (به) * ، أو : ومنهم من سيؤمن به في المستقبل ، ومنهم من يصر على الكفر * (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ) * بالمعاندين ، أو المصرين .
  * (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ * إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) * * (وإن) * يئست من إجابتهم وأصروا على تكذيبك فتبرأ منهم وخلهم ، فقد

-------------------
(1) حكاه الشيخ في التبيان : ج 5 ص 380 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 129 _
  أعذرت إليهم ، ومثله : * (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ) * (1) ، * (قل يأيها الكفرون) * إلى آخر السورة (2) ، وقيل : هي منسوخة بآية القتال (3) .
  * (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) * أي : ناس يستمعون إذا قرأت القرآن وعلمت الأحكام ولكنهم لا يقبلون ولا يعون ، وناس ينظرون إليك ويعاينون دلالاتك وأعلام نبوتك ولكنهم لا يصدقون ، ثم قال : أتقدر على إسماع * (الصم) * ولو انضم إلى صممهم عدم العقل ؟ ! لأن الأصم العاقل ربما استدل وعلم ، و : أتطمع أن تقدر على هداية * (العمى) * ولو انضم إلى فقد البصر فقد البصيرة ؟ ! يعني : أنهم في اليأس من قبولهم وتصديقهم كالصم والعمي الذين لا عقول لهم ولا بصائر .
  * (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ) * لا ينقصهم شيئا مما يتصل بمصالحهم ، أو لا يظلمهم في تعذيبهم يوم القيامة ، بل العذاب لاحق بهم على سبيل العدل والاستحقاق .
  * (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ * وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) * يستقربون أيام لبثهم في الدنيا لقلة انتفاعهم بها ، وقيل : في القبور لهول ما يرون (4) * (يتعارفون بينهم) * يعرف بعضهم بعضا كأنهم لم يتفارقوا (5) إلا قليلا ، وذلك عند خروجهم من القبور ، ثم ينقطع التعارف بينهم لشدة الأمر عليهم ، قوله : * (كأن لم يلبثوا) * حال من ( هم ) أي : نحشرهم مشابهة أحوالهم أحوال من لم

-------------------
(1) الشعراء : 216 .
(2) سورة ( الكافرون ) .
(3) قاله ابن زيد والكلبي ومقاتل ، راجع التبيان : ج 5 ص 381 ، وتفسير البغوي : ج 2 ص 355 .
(4) قاله ابن عباس ، راجع تفسيره : ص 174 ، وتفسير البغوي : ج 2 ص 355 ، واختاره الزجاج في معاني القرآن : ج 3 ص 22 .
(5) في بعض النسخ : يتعارفوا . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 130 _
  يلبث * (إلا ساعة) * ، و * (يتعارفون) * جملة مبينة لقوله : * (كأن لم يلبثوا إلا ساعة) * ، لأن التعارف لا يبقى مع طول العهد ويصير تناكرا ، أو يتعلق بالظرف * (قد خسر) * على إرادة القول ، أي : يتعارفون بينهم قائلين ذلك ، أو هو شهادة من الله على خسرانهم ، والمعنى : قد خسروا في تجارتهم وبيعهم الإيمان بالكفر * (وما كانوا مهتدين) * للتجارة عارفين بها ، وهو استئناف فيه معنى التعجب ، كأنه قال : ما أخسرهم ! * (فإلينا مرجعهم) * جواب * (نتوفينك) * ، وجواب * (نرينك) * محذوف كأنه قال : وإما نرينك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك ، أو نتوفينك قبل أن نريكه فنحن نريكه في الآخرة * (ثم الله شهيد) * ذكر الشهادة والمراد مقتضى الشهادة وهو العقاب ، فكأنه قال : ثم الله معاقب * (على ما يفعلون) * .
  * (ولكل أمة رسول) * يبعث إليهم * (فإذا جاء رسولهم) * بالمعجزات فكذبوه * (قضى بينهم) * أي : بين النبي ومن كذبه * (بالقسط) * بالعدل ، فأنجي الرسول وعذب المكذبون ، وقيل : * (ولكل أمة) * يوم القيامة * (رسول) * تنسب إليه * (فإذا جاء رسولهم) * الموقف فيشهد عليهم بالكفر والإيمان * (قضى بينهم) * (1) .
  * (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ أَالآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ * ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) *

-------------------
(1) قاله مجاهد ومقاتل ، راجع التبيان : ج 5 ص 387 ، وتفسير البغوي : ج 2 ص 356 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 131 _
  * (متى هذا الوعد) * استعجال لما وعدوا من العذاب على سبيل التكذيب والاستبعاد * (قل لا أملك لنفسي ضرا) * من فقر أو مرض * (ولا نفعا) * من غنى أو صحة * (إلا ما شآء الله) * استثناء منقطع ، أي : ولكن ما شاء الله من ذلك كائن فكيف أملك لكم الضر ؟ ! * (لكل أمة أجل) * في عذابهم وحد محدود من الزمان * (إذا جاء) * ذلك الوقت أنجز وعدكم فلا تستعجلوه .
  * (إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً ) * ظرف ، أي : وقت بيات فبيتكم وأنتم نائمون * (أو نهارا) * أي : أو في وقت أنتم فيه مشتغلون بطلب معاشكم ، والبيات بمعنى التبييت ، كالسلام بمعنى التسليم * (مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ) * أي : أي شئ يستعجلون من العذاب وليس شئ منه يوجب الاستعجال ؟ ويجوز أن يكون معناه التعجب ، كأنه قال : أي هول شديد يستعجلون منه ؟ ! وقيل : الضمير في * (منه) * لله تعالى وتعلق الاستفهام ب‍ * (أرءيتم) * (1) ، والمعنى : أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون ؟ وجواب الشرط محذوف وهو ( تندموا على الاستعجال ) أو ( تعرفوا الخطأ فيه ) ، ويجوز أن يكون * (ماذا يستعجل منه المجرمون) * جوابا للشرط ، كقولك : إن أتيتك ماذا تطعمني ؟ ثم تتعلق الجملة ب‍ * (أرءيتم) * ، وأن يكون * (أثم إذا ما وقع ءامنتم به) * جواب الشرط ، و * (ماذا يستعجل منه المجرمون) * اعتراضا ، والمعنى : إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان به ؟ ودخول حرف الاستفهام على ( ثم ) كدخوله على الواو والفاء في قوله : * (أفأمن) * (2) * (أو أمن أهل القرى) * (3) ، * (ءآلن) * على إرادة القول ، أي : قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب : الآن آمنتم به وقد كنتم تكذبون به ؟ لأن استعجالهم كان

-------------------
(1) قاله الفراء في معاني القرآن : ج 1 ص 467 .
(2 و 3) الأعراف : 97 و 98 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 132 _
  للتكذيب .
  * (ثم قيل للذين ظلموا) * عطف على ( قيل ) المضمر قبل * (ءآلن) * .
  * (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) * أي : ويستخبرونك فيقولون : * (أحق هو) * ، وهو استفهام على وجه الإنكار والاستهزاء * (قل إى) * ومعناه : ( نعم ) في القسم ، كما كان ( هل ) بمعنى ( قد ) في الاستفهام خاصة * (وما أنتم بمعجزين) * بفائتين العذاب ، وهو لاحق بكم لا محالة .
   * (ظلمت) * صفة * (نفس) * أي : * (ولو أن لكل نفس) * ظالمة * (ما في) * الدنيا اليوم من خزائنها وأموالها على كثرتها * (لافتدت به) * لجعلته فدية لها ، يقال : فداه فافتدى * (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ) * لأنهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحتسبوه ، عاينوا من تفاقم الأمر ما سلبهم قواهم فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخا سوى إسرار الندامة في القلوب ، وقيل : أسروا الرؤساء منهم الندامة من أتباعهم حياء منهم وخوفا من توبيخهم (1) ، وقيل : * (أسروا الندامة) * أخلصوها ، لأن سر الشئ خالصه (2) ، وقيل : معناه : أظهروها (3) * (وقضى بينهم) * بين الظالمين والمظلومين .
  ثم ذكر سبحانه : أن له الملك كله ، وأنه المثيب والمعاقب ، وأن ما وعده * (حق) * ، وهو القادر على الإحياء والإماتة لا يقدر عليهما غيره ، وإلى حسابه وجزائه

-------------------
(1) قاله الفراء في معاني القرآن : ج 1 ص 469 ، والزجاج في معاني القرآن : ج 3 ص 25 .
(2) ذكره الشيخ في التبيان : ج 5 ص 392 .
(3) وهو قول أبي عبيدة كما حكاه عنه الشيخ في التبيان : ج 5 ص 393 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 133 _
  المرجع ، ليعلم أن الأمر كذلك فيخاف ويرجى .
  * ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) * أي : قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من : * (موعظة) * وتنبيه على التوحيد * (وشفاء) * أي : دواء * (لما في الصدور) * من العقائد الفاسدة * (وهدى) * أي : دلالة تؤدي إلى الحق * (ورحمة) * لمن آمن به وعمل بما فيه .
  الأصل : * (قل بفضل الله وبرحمته) * فليفرحوا * (فبذلك فليفرحوا) * (1) ، والتكرير للتأكيد والتقرير ، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا ، وأحد الفعلين حذف لدلالة الآخر عليه ، ودخلت الفاء لمعنى الشرط ، أي : إن فرحوا بشئ فليخصوهما بالفرح فإنه لا مفروح به أحق منهما ، وقرئ : ( فلتفرحوا ) بالتاء (2) على الأصل والقياس ، وقيل : فضل الله: الإسلام، ورحمته : القرآن (3) .

-------------------
(1) ليس في بعض النسخ : ( فبذلك فليفرحوا ) .
(2) قرأه ابي وعثمان والسلمي وأنس يزيد بن القعقاع وابن عامر والحسن ورويس وهلال بن يساف والأعمش وعمرو بن قائد والعباس بن الفضل الأنصاري وقتادة وأبو رجاء وابن هرمز وابن سيرين وأجازها الفراء ونسبها الى زيد بن ثابت ، وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) ، راجع التبيان : ج 5 ص 395 ، والفريد في إعراب القرآن للهمداني : ج 2 ص 570 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 172 .
(3) وهو قول ابن عباس وأبي سعيد الخدري والحسن وقتادة ومجاهد ، راجع تفسير الحسن البصري : ج 2 ص 7 ، والتبيان : ج 5 ص 397 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 134 _
  وعن الباقر (عليه السلام) : ( فضل الله: رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ورحمته : علي بن أبي طالب (عليه السلام) ) (1) .
  * (أرأيتم) * أخبروني ، و * (مآ أنزل الله) * : * (مآ) * منصوب ب‍ * (أنزل) * أو ب‍ * (أرأيتم) * في معنى : أخبرونيه * (رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً ) * أي : أنزله الله رزقا حلالا كله ، فجعلتم بعضه حلالا وبعضه حراما ، كقولهم : * (هذه أنعم وحرث حجر) * (2) ، * (قل ءالله أذن لكم) * : * (قل) * تكرير ، و * (ءالله أذن لكم) * تعلق ب‍ * (أرأيتم) * ، أي أخبروني : أالله أذن لكم في التحريم والتحليل * (أم) * تكذبون على الله في نسبة ذلك إليه ؟ ويجوز أن يكون * (أم) * منقطعة ، بمعنى : بل أتفترون على الله ؟ تقريرا للافتراء .
  وكفي بهذه الآية زاجرة عن التجوز فيما يسأل عنه من أحكام الشرع ، وباعثة على وجوب الاحتياط فيه ، وأن لا يقال : جائز وغير جائز إلا بعد الإيقان والإتقان، حتى لا يكون مفتريا على الله.
  * ( وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ ) * أي: وأي شئ ظن المفترين في ذلك اليوم ما يصنع بهم فيه ؟ وهو يوم الجزاء بالإحسان والإساءة ، وهو وعيد عظيم حيث أبهم أمره * (إن الله لذو فضل على الناس) * بما فعل بهم من ضروب الإنعام * (ولكن أكثرهم لا يشكرون) * نعمه .
   * (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)

-------------------
(1) تفسير القمي : ج 1 ص 313 .
(2) الأنعام : 138 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 135 _
  +* (ما) * نافية ، والخطاب لرسول الله (صلى الله عليه وآله ) ، والشأن : الأمر ، وهو من شأنت شأنه ، ومعناه : قصدت قصده ، والضمير في * (منه) * للشأن ، لأن تلاوة القرآن شأن من معظم شأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، أو للتنزيل ، أي : * (وما تتلوا) * من التنزيل * (من قرءان) * ، وهو إضمار قبل الذكر للتفخيم * (ولا تعملون) * أنتم جميعا * (من عمل إلا كنا عليكم) * شاهدين ، به عالمين * (إذ تفيضون فيه) * من أفاض في العمل : إذا اندفع فيه * (وما يعزب) * قرئ بالضم والكسر (1) ، أي وما يغيب وما يبعد * (عن) * علم * (ربك) * ، * (من مثقال ذرة) * في موضع رفع * (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر) * قرئ بالنصب والرفع (2) ، فالرفع على الابتداء ليكون كلاما برأسه ، والنصب على نفي الجنس ، فأما العطف على موضع * (من مثقال ذرة) * في الرفع ، والعطف على لفظ * (مثقال) * في النصب ، إذا جعلته فتحا في موضع الجر ، فليسا بالوجه ، لأن قولك : لا يعزب عنه شئ إلا في كتاب لا وجه له .
  * (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) * وهم الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالحفظ والكرامة ، وقد أبان عنهم بقوله : * (الذين ءامنوا وكانوا يتقون) *. وعن سعيد بن جبير ، قال : سئل النبي (صلى الله عليه وآله) عن أولياء الله، فقال : ( هم الذين

-------------------
(1) وبالكسر هي قراءة يحيى بن وثاب والأعمش وابن مصرف والكسائي ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 328 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 174 .
(2) قرأه حمزة وخلف ويعقوب ، راجع التبيان : ج 5 ص 399 ، والتذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 451 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 136 _
  يذكر الله برؤيتهم ) (1) ، يعني : في السمت (2) والهيئة ، وقيل : هم المتحابون في الله (3) .
  * (الذين ءامنوا) * نصب أو رفع على المدح أو الابتداء ، والخبر : * (لهم البشرى) * ، والبشرى * (في ... الدنيا) * : ما بشر الله المتقين في غير موضع من كتابه .
  وعن النبي (صلى الله عليه وآله) : ( هي في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المؤمن لنفسه أو ترى له ، وفي الآخرة الجنة ) (4) .
  وعنه (عليه السلام) : ( ذهبت النبوة وبقيت المبشرات ) (5) .
  وعن عطاء (6) : لهم البشرى عند الموت يأتيهم الملائكة بالرحمة ، قال الله تعالى : * (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا) * (7) ، وأما البشرى في الآخرة فتلقي الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة وغير ذلك من البشارات ، نحو إعطاء الصحف بأيمانهم وما يرون من بياض وجوههم * (لا تبديل لكلمت الله) * لا تغيير لأقواله ، ولا إخلاف لمواعيده * (ذلك) * إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين ، وكلتا الجملتين اعتراض .
  * (ولا يحزنك قولهم) * تكذيبهم وتدبيرهم في إبطال أمرك وسائر ما يتكلمون

-------------------
(1) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 355 .
(2) السمت : هيئة أهل الخير ، يقال : ما أحسن سمته ، أي سيرته ، (الصحاح : مادة سمت) .
(3) أخرجه الطبري في تفسيره : ج 6 ص 575 ـ 576 باسناده الى أبي هريرة وعمر بن الخطاب وأبي مالك الأشعري كلهم عن النبي (صلى الله عليه وآله) .
(4) مسند أحمد : ج 6 ص 452 ، مستدرك الحاكم : ج 2 ص 340 .
(5) مسند أحمد : ج 6 ص 381 ، سنن الدارمي : ج 2 ص 123 .
(6) هو عطاء بن أبي رباح أسلم ، أبو محمد ، تابعي ، من الفقهاء ، كان عبدا أسود ولد في جند باليمن ، ونشأ بمكة ، فكان مفتي أهلها ومحدثهم ، مات سنة خمس عشرة ومائة وهو ابن ثمان وثمانين سنة بعدما عمي ، راجع المعارف لابن قتيبة : ص 320 .
(7) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 356 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 137 _
  به في شأنك * (إن العزة لله) * استئناف فيه تعليل ، كأنه قال : مالي لا أحزن ؟ فأجيب : * (إن العزة لله جميعا) * أي : إن الغلبة والقهر جميعا لله وفي ملكته ، لا يملك أحد شيئا منهما ، لا هم ولا غيرهم ، فهو يغلبهم وينصرك عليهم ، إنا لننصر رسلنا * (هو السميع) * لما يقولون * (العليم) * بما يعزمون عليه ، فيكافئهم بذلك .
  * (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ * هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمْ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) * * (من في السموات ومن في الارض) * هم العقلاء المميزون من الملائكة والجن والإنس ، وإنما خصهم ليبين أنهم إذا كانوا عبيده وفي ملكته ولا يصلح أحد منهم للإلهية فما وراءهم مما لا يعقل ولا يميز أحق أن لا يكون شريكا له ؟ ! ومعنى * (وما) * يتبعون * (شركاء) * : وما يتبعون حقيقة الشركاء ، لأن شركة الله في الإلهية محال * (إن يتبعون إلا) * ظنهم أنهم شركاء * (وإن هم إلا يخرصون) * يقدرون تقديرا باطلا ، ويجوز أن يكون * (وما يتبع) * استفهاما ، أي : وأي شئ يتبعون ؟ وعلى هذا فيكون * (شركاء) * نصبا ب‍ * (يدعون) * ، وعلى الأول ب‍ * (يتبع) * ، وكان حقه : وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء ، فاقتصر على أحدهما للدلالة ، ويجوز أن يكون * (ما) * موصولة عطفا على * (من) * ، بمعنى :

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 138 _
  ولله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء ، أي : وله شركاؤهم .
  ثم نبه على عظيم نعمته بأنه * (جعل ... اليل) * مظلما * (والنهار) * مضيئا * (مبصرا) * ليسكنوا في الليل ، ويبصروا في النهار مطالب أرزاقهم .
  * (سبحنه) * تنزيه له عن اتخاذ الولد * (هو الغنى) * علة لنفي الولد ، لأن ما يطلب به الولد من يلد ، وما يطلبه له ، السبب في كله الحاجة ، وإذا كانت عنه منتفية كان الولد عنه منتفيا * (له ما في السموات وما في الارض) * فهو مستغن عن اتخاذ أحد منهم ولدا * (إن عندكم من سلطن) * أي : ما عندكم من حجة * (بهذا) * القول ، ولما نفي عنهم الحجة جعلهم غير عالمين ، فدل بذلك على أن كل قول ليس عليه برهان فهو جهل وليس بعلم .
  * (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) * بإضافة الولد إليه .
  * (متع في الدنيا) * أي : افتراؤهم هذا متاع قليل ومنفعة يسيرة في الدنيا * (ثم) * يلقون الشقاء المؤبد بعده .
  * (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) * * (إن كان كبر عليكم) * أي : شق وثقل عليكم مكاني و * (مقامي) * يعني : نفسه ، كما يقال : فعلت كذا لمكان فلان ، ومنه * (ولمن خاف مقام ربه) * (1) يعني : خاف

-------------------
(1) الرحمن : 46 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 139 _
  ربه ، أو يريد : قيامي ومكثي بين أظهركم مددا طوالا ، أو مقامي (1) * (وتذكيري) * لأنهم كانوا إذا وعظوا قاموا على أرجلهم ليكون كلامهم مسموعا * (فأجمعوا أمركم) * من أجمع على الأمر وأجمع الأمر وأزمعه : إذا عزم عليه ، والواو بمعنى ( مع ) ، أي : فأجمعوا أمركم مع * (شركاءكم) * واحتشدوا (2) فيما تريدون من إهلاكي ، وابذلوا وسعكم فيه * (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ) * أي : ولا يكن قصدكم إلى إهلاكي مستورا عليكم ولكن مكشوفا مشهورا تجاهرونني به ، والغمة : السترة ، من غمه : إذا ستره ، ومنه الحديث (لا غمة في فرائض الله ) (3) أي : لا تستروا ، ولكن تجاهروا بها ، ويجوز أن يكون المعنى : ثم أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غمة ، أي : غما وهما ، والغمة والغم بمعنى كالكربة والكرب * (ثم اقضوا إلى) * ذلك الأمر الذي تريدون بي ، أي : أدوا إلي ما هو حق عليكم عندكم ، من إهلاكي كما يقضي الرجل غريمه * (ولا تنظرون‍) * ي ولا تمهلوني .
  * (فإن توليتم) * فإن أعرضتم عن نصيحتي وعن اتباع الحق * (فما سألتكم من أجر) * فما كان عندي ما ينفركم عني من طمع في أموالكم ، وطلب أجر على موعظتكم * (إن أجرى إلا على الله) * وهو الثواب الذي يثيبني في الآخرة * (وأمرت أن أكون من المسلمين) * المستسلمين لأمر الله، أو الذين لا يطلبون على تعليم الدين أجرا ولا يأخذون به دنيا ، يريدون : أن ذلك مقتضى الإسلام .
  * (فكذبوه) * أي : فتموا على تكذيبه ، وكان تكذيبهم له في آخر المدة الطويلة كتكذيبهم في أولها * (فنجينه ومن معه في) * السفينة * (وجعلنهم خلئف) * خلفاء لمن هلك بالغرق * (فانظر كيف كان عقبة المنذرين) * هذا تعظيم لما جرى عليهم ،

-------------------
(1) في نسخة : قيامي .
(2) احتشد : إذا اجتمع ، (الصحاح : مادة حشد) .
(3) رواه الزمخشري في كشافه : ج 2 ص 360 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 140 _
  وتحذير لمكذبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن مثله .
  * ( ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ * ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ) * أي : * (بعثنا من) * بعد نوح * (رسلا) * يعني : هودا وصالحا وإبراهيم ولوطا وشعيبا * (فجاءوهم) * بالمعجزات والحجج المبينة (1) لدعواهم * (فما كانوا ليؤمنوا) * أي : فما كان إيمانهم إلا ممتنعا لتصميمهم على الكفر * (بما كذبوا به من قبل) * يريد : أنهم كانوا أهل جاهلية قبل بعثة الرسل ، فلم يكن بين حالتيهم فرق : قبل البعثة وبعدها * (كذلك) * أي : مثل ذلك الطبع * (نطبع على قلوب المعتدين) * كأن الطبع جار مجرى الكناية عن عنادهم ، لأن الخذلان يتبعه ، ألا ترى أنه وصفهم بالاعتداء وأسنده إليهم .
   * (من بعدهم) * أي : من بعد الرسل * (فاستكبروا) * عن قبول الآيات بعد تبينها * (وكانوا قوما مجرمين) * كفارا ذوي آثام عظام، فلذلك استكبروا عنها واجترأوا على ردها .
  * (فلما) * عرفوا أنه هو * (الحق) * وأنه * (من) * عند الله * (قالوا إن هذا السحر مبين) * .

-------------------
(1) في نسخة : المثبتة . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 141 _
  * (أتقولون للحق) * أي : أتعيبونه وتطعنون فيه ؟ ونحوه : * (سمعنا فتى يذكرهم) * (1) أي : يعيبهم * (أسحر هذا) * إنكار لما قالوه في عيبه والطعن عليه ، ويجوز أن يكون مفعول * (أتقولون) * محذوفا ، وهو مادل عليه قولهم : * (إن هذا لسحر مبين) * ، ثم قال : * (أسحر هذا) * .
  * (لتلفتنا) * لتصرفنا ، واللفت والفتل مثلان ، مطاوعهما : الالتفات والانفتال * (عما وجدنا عليه ءابآءنا) * يريدون عبادة الأصنام * (وتكون لكما الكبرياء) * أي : الملك ، لأن الملوك موصوفون بالكبر ، وقرئ : ( ويكون ) بالياء (2) .
  * (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ * فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ) * * (ما جئتم به) * : * (ما) * موصولة ، و * (السحر) * خبر المبتدأ ، أي : الذي جئتم به هو السحر ، لا الذي سميتموه سحرا من المعجزات ، وقرئ : ( السحر ) على الاستفهام (3) ، وعلى هذه القراءة تكون * (ما) * استفهامية ، بمعنى : أي شئ جئتم به ؟ أهو السحر ؟ * (إن الله سيبطله) * سيظهر بطلانه * (لا يصلح عمل المفسدين) *

-------------------
(1) الأنبياء : 60 .
(2) قرأه ابن مسعود والحسن وإسماعيل وابن أبي ليلى وأبو عمرو وعاصم بخلاف عنهما ، راجع إعراب القرآن للنحاس : ج 2 ص 263 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 182 .
(3) وهي قراءة أبي عمرو ومجاهد وأصحابه ويزيد بن القعقاع ، راجع البحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 182 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 142 _
  لا يثبته ولا يديمه ، بل يدمر عليه .
  * (ويحق الله الحق) * ويثبته * (بكلمته) * بقضاياه ووعده النصر .
  * (فما ءامن لموسى) * في أول أمره * (إلا ذرية من قومه) * أي : طائفة من ذراري بني إسرائيل ، كأنه قال : إلا أولاد من أولاد قومه ، وذلك أنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفا * (من فرعون) * وقيل : هم بنو إسرائيل ، وكانوا ستمائة ألف ، وكان يعقوب دخل مصر منهم باثنين وسبعين ، وإنما سماهم ذرية على وجه التصغير لقلتهم بالإضافة إلى قوم فرعون (1) ، وقيل : الضمير في * (قومه) * لفرعون ، و ( الذرية ) : مؤمن آل فرعون وآسية امرأته وخازنه وامرأة خازنه وماشطة امرأته (2) ، والضمير في * (وملإيهم) * يرجع إلى فرعون ، والمعنى : حزب آل فرعون كما يقال : ربيعة ومضر ، ويجوز أن يرجع إلى ( الذرية ) ، أي : على خوف من فرعون وخوف من أشراف بني إسرائيل ، لأنهم كانوا يمنعونهم خوفا من فرعون عليهم وعلى أنفسهم ، ويدل عليه قوله : * (أن يفتنهم) * أي : يعذبهم * (وإن فرعون لعال) * أي : قاهر * (في الارض) * ، * (وإنه لمن المسرفين) * في الظلم والفساد ، وفي الكبر والعتو .
  * (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) * * (فعليه توكلوا) * أي : إليه أسندوا أموركم في العصمة من فرعون ، ثم شرط في التوكل الإسلام ، وهو أن يسلموا نفوسهم لله ، أي : يجعلوها له سالمة خالصة

-------------------
(1) وهو قول ابن عباس على ما حكاه عنه السمرقندي في تفسيره : ج 2 ص 107 .
(2) حكاه البغوي في تفسيره : ج 2 ص 364 ونسبه الى ابن عباس . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 143 _
  لاحظ للشيطان فيها .
  * (فقالوا على الله توكلنا) * لا جرم قبل الله توكلهم ، وأجاب دعاءهم ، ونجاهم وأهلك أعداءهم ، وجعلهم خلفاء في أرضه * (لا تجعلنا فتنة) * أي : موضع فتنة لهم ، أي : عذاب يعذبوننا أو يفتنوننا عن ديننا ، أو فتنة لهم يفتتنون بنا ، يقولون : لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا .
  * (ونجنا برحمتك من) * قوم فرعون واستعبادهم إيانا .
  * (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) * تبوأ المكان : اتخذه مباءة ، نحو توطنه : اتخذه موطنا (1) ، والمعنى : اجعلا * (بمصر بيوتا) * من بيوته مباءة * (لقومكما) * ومرجعا يرجعون إليه * (واجعلوا بيوتكم) * تلك * (قبلة) * أي : مساجد يذكر فيها اسم الله، وقيل : اجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا (2) * (وأقيموا الصلوة) * داوموا على فعلها * (وبشر المؤمنين) * خطاب لموسى ، وقيل : لمحمد (صلى الله عليه وآله) (3) .
  والزينة : ما يتزين به من لباس أو حلي أو فراش أو غير ذلك * (ليضلوا عن

-------------------
(1) في بعض النسخ : وطنا .
(2) قاله سعيد بن جبير على ما حكاه عنه الماوردي في تفسيره : ج 2 ص 447 .
(3) قاله ابن جرير الطبري ومكي ، راجع تفسير الطبري : ج 6 ص 598 ، وتفسير الثعالبي : ج 2 ص 109 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 144 _
  سبيلك) * قيل : هو دعاء بلفظ الأمر (1) كقوله : * (ربنا اطمس... واشدد) * لما لم يبق له طمع في إيمانهم اشتد غضبه عليهم فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره ، ليشهد عليهم أنهم لا يستحقون إلا الخذلان ، وأن يخلي بينهم وبين ضلالهم ، ومعنى الطمس على الأموال : تغييرها عن جهتها إلى جهة لا ينتفع بها ، قيل : صارت جميع أموالهم حجارة (2) ، والشد على القلوب : عبارة عن الخذلان والطبع * (فلا يؤمنوا) * جواب للدعاء ، وقيل : إن اللام في * (ليضلوا) * للتعليل (3) على أنهم جعلوا نعمة الله سببا في الضلال فكأنهم أعطوها ليضلوا ، وقوله : * (فلا يؤمنوا) * عطف على * (ليضلوا) * ، وقوله : * (ربنا اطمس على أموا لهم واشدد على قلوبهم) * دعاء معترض بين المعطوف والمعطوف عليه ، وكان موسى يدعو وهارون يؤمن فسماهما داعيين (4) .
  * (فاستقيما) * فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة والزيادة في إلزام الحجة .
  الصادق (عليه السلام) : ( مكث فرعون بعد هذا الدعاء أربعين سنة ) (5) .
  * (وَلا تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) * أي : لاتتبعا طريق الجهلة ولا تعجلا ، وقرئ : ( ولاتتبعان ) بنون الخفيفة وكسرها (6) لالتقاء الساكنين تشبيها بنون التثنية .

-------------------
(1) قاله الحسن والكسائي وأبو عبيدة والفراء ، راجع التبيان : ج 5 ص 423 ، ومجاز القرآن : ج 1 ص 281 ، ومعاني القرآن : ج 1 ص 477 ، والبحر المحيط : ج 5 ص 186 .
(2) وهو قول ابن عباس ومحمد بن كعب وقتادة والضحاك وأبي صالح والسدي ومحمد بن سليمان المقدسي ، راجع البحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 187 .
(3) وهو قول الخليل وسيبويه على ما حكاه عنهما القرطبي في تفسيره : ج 8 ص 374 .
(4) وهو قول ابن عباس ومحمد بن كعب والربيع وابن زيد وعكرمة وأبي العالية ، راجع التبيان : ج 5 ص 424 ، والبحر المحيط : ج 5 ص 187 .
(5) تفسير العياشي : ج 2 ص 127 ح 40 .
(6) وهي قراءة ابن ذكوان وابن عامر إلا الداحوني عن هشام ، راجع التبيان : ج 5 ص 425 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 145 _
  * (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ * أَلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) * أي : عبرنا بهم * (البحر) * حتى جاوزوه سالمين * (فأتبعهم) * لحقهم * (فرعون وجنوده) * يقال : تبعته حتى أتبعته ، قرئ : * (أنه) * بالفتح على حذف الباء ، و ( إنه ) بالكسر (1) على الاستئناف ، بدلا من * (ءامنت) * كرر المعنى الواحد ثلاث مرات في ثلاث عبارات حرصا على القبول ، ثم لم يقبل منه حيث أخطأ وقته وقاله في وقت الإلجاء ، وكانت المرة الواحدة كافية وقت الاختيار وبقاء التكليف .
  * (ءآلن) * أي : أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين أدركك الغرق ؟ ويحكى : أنه حين قال : * (ءامنت) * أخذ جبرئيل من حال (2) البحر فدسه في فيه (3) * (وكنت من المفسدين) * أي : الضالين المضلين عن الإيمان .
  قرئ : * (ننجيك) * بالتشديد والتخفيف (4) ، أي : نبعدك مما وقع فيه قومك ، وقيل : نلقيك بنجوة من الأرض وهي المكان المرتفع (5) * (ببدنك) * في موضع الحال ، أي : في الحال التي لا روح فيك وإنما أنت بدن ، أو ببدنك كاملا سويا لم ينقص منه شئ ولم يتغير ، أو بدرعك وكانت له درع من ذهب يعرف بها * (لمن

-------------------
(1) قرأه حمزة والكسائي ، راجع الكشف عن وجوه القراءات للقيسي : ج 1 ص 522 .
(2)الحال : الطين الأسود ، (الصحاح : مادة حول) .
(3) حكاها الطبري في تاريخه : ج 1 ص 292 ، وأخرجها الترمذي في سننه : ج 5 ص 268 .
(4) وبالتخفيف قرأه قتيبة ويعقوب ، راجع التبيان : ج 5 ص 428 .
(5) قاله ابن عباس ، راجع تفسيره : ص 179 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 146 _
  خلفك ءاية) * لمن وراءك من الناس علامة ، وهم بنو إسرائيل ، وكان في أنفسهم أن فرعون أجل شأنا من أن يغرق فألقاه الله على الساحل حتى عاينوه ، ومعنى كونه آية : أن يظهر للناس عبوديته ومهانته ، وأن ما كان يدعيه من الربوبية محال ، وأن يكون عبرة يعتبر بها الأمم بعده فلا يجترئوا على ما اجترأ عليه .
  * (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمْ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنْ المُمْتَرِينَ * وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنْ الْخَاسِرِينَ * إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ) * * (مبوأ صدق) * منزلا صالحا مرضيا وهو بيت المقدس والشام * (ورزقنهم من الطيبت) * وهي الأشياء اللذيذة * (فما اختلفوا) * في دينهم ، وما تشعبوا فيه شعبا * (حتى جاءهم العلم) * بدين الحق ولزمهم الثبات عليه ، وقيل : العلم بمحمد (صلى الله عليه وآله) ونعته (1) ، واختلافهم فيه : أنه هو أم ليس به .
  * (فإن كنت في شك) * أي : فإن وقع لك شك فرضا وتقديرا * (فسل) * علماء أهل * (الكتب) * فإنهم محيطون علما بصحة ما أنزل إليك ، وعن الصادق (عليه السلام) : ( لم يشك ولم يسأل ) (2) ، * (لقد جاءك الحق من ربك) * أي : ثبت عندك بالآيات والبراهين أن ما أتاك هو الحق الذي لا مدخل فيه للمرية * (فلا تكونن من

-------------------
(1) قاله ابن بحر على ما حكاه عنه الماوردي في تفسيره : ج 2 ص 450 .
(2) تفسير القمي : ج 1 ص 317 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 147 _
  الممترين ولا تكونن من الذين كذبوا بايت الله) * أي : فاثبت على ما أنت عليه من انتفاء المرية والتكذيب بآيات الله عنك ، وقيل : خوطب رسول الله والمراد أمته (1) ، والمعنى : فإن كنتم في شك مما أنزلنا إليكم ، كقوله : * (وأنزلنا إليكم نورا مبينا) * (2) ، وقيل : الخطاب للسامع ممن يجوز عليه الشك (3) ، كقول العرب : ( إذا عز أخوك فهن ) (4) .
  وقيل : * (إن) * للنفي (5) ، أي : فما كنت في شك ... فسأل ، والمعنى : لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك ولكن لتزداد يقينا ، كما ازداد إبراهيم بمعاينة إحياء الموتى * (حقت عليهم كلمت ربك) * ثبت عليهم قول الله الذي كتبه في اللوح وأخبر به الملائكة أنهم يموتون كفارا ، فلا يكون غيره ، وتلك كتابة علم لا كتابة إرادة ، تعالى الله عن ذلك .
   * ( فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) *

-------------------
(1) قاله الزجاج في معاني القرآن : ج 3 ص 32 .
(2) النساء : 174 .
(3) حكاه السمرقندي في تفسيره : ج 2 ص 111 ونسبه الى القتبي .
(4) أول من قال ذلك الهذيل بن هبيرة أخو بني ثعلبة التغلبي ، وكان أغار على بني ضبة فغنم فأقبل بالغنائم ، فقال له أصحابه : أقسمها بيننا ، فقال : إني أخاف إن تشاغلتم بالاقتسام أن يدرككم الطلب ، فأبوا ، فعندها قال : إذا عز أخوك فهن ، ثم نزل فقسم بينهم الغنائم ، ويضرب لمن لا يخاف استدلاله وهوانه ، أي إذا غلبك ولم تقاومه فلن له ، راجع مجمع الأمثال للميداني : ج 1 ص 24 .
(5) ذكره الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 371 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 148 _
  فهلا * (كانت قرية) * واحدة من القرى التي أهلكناها تابت عن الكفر ، و * (ءامنت) * وقت بقاء التكليف قبل معاينة البأس ، ولم تؤخر التوبة كما أخرها فرعون إلى أن أدركه الغرق * (فنفعهآ إيمنهآ) * بأن يقبله الله منها * (إلا قوم يونس) * استثناء من القرى ، لأن المراد أهاليها ، وهو استثناء منقطع بمعنى : ولكن قوم يونس ، ويجوز أن يكون متصلا والجملة في معنى النفي ، كأنه قيل : ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس ، وكان قد بعث إلى نينوى (1) من أرض الموصل (2)، فكذبوه ، فذهب عنهم مغاضبا ، فلما فقدوه خافوا نزول العذاب ، فلبسوا المسوح وعجوا وبكوا ، فصرف الله * (عنهم) * العذاب وكان قد نزل وقرب منهم ، وعن الفضيل بن عياض : أنهم قالوا : اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل ، افعل بنا ما أنت أهله ، ولا تفعل بنا ما نحن أهله (3) .
  * (ولو شآء ربك) * مشيئة الإلجاء * (لامن من في الارض كلهم) * على وجه الإحاطة والعموم * (جميعا) * مجتمعين على الإيمان ، يدل عليه قوله : * (أفأنت تكره الناس) * يعني : إنما يقدر الله على إكراههم لا أنت ، لأنه هو يقدر أن يفعل في قلوبهم ما يضطرون عنده إلى الإيمان ، وليس ذلك في مقدور القدر ، ولا يستطيعه البشر .

-------------------
(1) وهي قرية قديمة لا تزال آثارها باقية قبالة مدينة الموصل في العراق ، وهي مدينة يونس ابن متى النبي (عليه السلام) ، راجع معجم البلدان للحموي : ج 4 ص 870 .
(2) الموصل : وهي مدينة قديمة مشهورة ، اختطها هرثمة بن عرفجة البارقي ، وكان قبل ذلك حصنا فيه بيع ومنازل للنصارى واليهود ، فانزل هرثمة المسلمين منازلهم ، ومصر المدينة لهم ،قالوا : وسميت بالموصل لأنها وصلت بين الجزيرة والعراق ، وقيل : وصلت بين دجلة والفرات ، وفي وسطها قبر جرجيس النبي (عليه السلام) ، راجع فتوح البلدان للبلاذري : ج 2 ص 331 ـ 333 .
(3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 372 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 149 _
  * (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ * فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) * * (وما كان لنفس) * من النفوس التي علم الله أنها تؤمن * (أن تؤمن إلا بإذن الله) * أي : بتسهيله وتوفيقه له وتمكينه منه ودعائه إليه * (ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) * قابل الإذن بالرجس وهو الخذلان ، والنفس المعلوم إيمانها ب‍ * (الذين لا يعقلون) * وهم المصرون على الكفر ، كقوله : * (صم بكم عمى فهم لا يعقلون) * (1) ، وسمى الخذلان رجسا وهو العذاب لأنه سببه .
  * (مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ) * من العبر والآيات * (وما تغنى الايت والنذر) * الرسل المنذرون أو الإنذارات * (عن قوم لا يؤمنون) * أي : لا يتوقع إيمانهم ، و * (ما) * نافية أو استفهامية .
  و * (أيام الذين خلوا من قبلهم) * وقائع الله فيهم ، كما يقال : أيام العرب ، لوقائعها .
  * (ثم ننجي رسلنا) * عطف على كلام محذوف يدل عليه ما قبله ، كأنه قال : نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا ، على حكاية الأحوال الماضية * (والذين ءامنوا) * معهم ، و * (كذلك... ننج المؤمنين) * أي : مثل ذلك الإنجاء ننج المؤمنين منكم ونهلك المشركين ، و * (حقا علينا) * اعتراض ، يعني : حق ذلك علينا حقا ، وقرئ : ( ننجي ) بالتشديد (2) .

-------------------
(1) البقرة : 171 .
(2) وهي قراءة الجمهور غير الكسائي وحفص عن عاصم ، راجع كتاب السبعة في القراءات : ص 330 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 150 _
  * ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ * وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنْ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) * * (إن كنتم في شك من) * صحة * (دينى ف‍) * هذا ديني وهو : أني * (لاأعبد) * الحجارة التي * (تعبدون) * ـ ها * (من دون) * من هو ربكم وإلهكم * (ولكن أعبد الله الذي يتوفيكم) * فهو الحقيق بأن يخاف ويرجى ويعبد * (وأمرت أن أكون من) * المصدقين بالتوحيد .
  * (وأن أقم) * والباء مراد فحذف ، أي : بأن أكون وبأن أقم ، فإن ( أن ) قد توصل بالأمر والنهي ، وشبه ذلك بقولهم : ( أنت الذي تفعل ) على الخطاب ، لأن الغرض وصلها بما يكون معه في معنى المصدر ، والأمر والنهي يدلان على المصدر كما يدل غيرهما من الأفعال .
  * (أقم وجهك) * استقم إليه فلا تلتفت يمينا ولا شمالا ، و * (حنيفا) * حال من * (الدين) * أو من الوجه .
  * (فإن فعلت) * أي : فإن دعوت * (من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك) * فكنى عنه بالفعل إيجازا * (فإنك إذا من الظلمين) * : * (إذا) * جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر ، كأن سائلا سأل عن تبعة عبادة غير الله، فأعلم أن الشرك من أعظم الظلم .