المخصبة ، وتبني الأهراء (1) فيأتيك الخلق من النواحي ويمتارون منك ، ويجتمع لك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك ، فقال الملك : من لي بهذا ؟ ف‍ * (قال اجعلني على خزائن الارض) * أي : ولني خزائن أرضك * (إنى حفيظ) * لما استودعتني أحفظه عن أن تجري فيه خيانة * (عليم) * بوجوه التصرف ، وصف نفسه بالأمانة والكفاية اللتين يطلبهما الملوك ممن يولونه ، وإنما طلب يوسف الولاية ليتوصل بذلك إلى إمضاء أحكام الله وبسط العدل ، ووضع الحقوق مواضعها ، ويتمكن من الأمور التي كانت مفوضة إليه من حيث كان نبيا إماما ، ولعلمه أن غيره لا يقوم في ذلك مقامه ، وفي ذلك دلالة على جواز تولي القضاء من جهة السلطان الجائر إذا كان فيه تمكن من إقامة الحق وتنفيذ أحكام الدين ، ؤوقيل : إن الملك كان يصدر عن رأيه ولا يعترض عليه في كل ما رأى ، فكان في حكم التابع له والمطيع (2) .
  * (وكذلك) * أي : ومثل ذلك التمكين الظاهر * (مكنا ليوسف في) * أرض مصر * (يتبوأ منها حيث يشآء) * أي : كل مكان أراد أن يتخذه منزلا ومتبوأ لم يمتنع منه لاستيلائه على جميعها ، وقرئ : ( نشاء ) بالنون (3) * (نصيب برحمتنا) * بعطائنا في الدنيا والدين * (من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين) * في الدنيا .
  * (ولاجر الاخرة خير) * لهم .
  * (وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ * قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ * وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)

-------------------
(1) الهرى : بيت كبير يجمع فيه طعام السلطان ، والجمع : أهراء ، (القاموس المحيط : مادة هرى) .
(2) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 482 .
(3) قرأه ابن كثير والمفضل ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 468 . (*) =

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)_ 227 _

  * لما تمكن يوسف بمصر وقحط الناس جمع يعقوب بنيه وقال : بلغني أنه يباع الطعام بمصر وأن صاحبه رجل صالح ، فاذهبوا إليه ، فتجهزوا وساروا حتى وردوا مصر * (فدخلوا) * على يوسف * (فعرفهم) * لأن همته كانت معقودة بهم وبمعرفتهم * (وهم له منكرون) * لم يعرفوه لطول العهد ، ولاعتقادهم أنه قد هلك .
  * (ولما جهزهم بجهازهم) * أي : أصلحهم بعدتهم وأوقر ركائبهم بما طلبوه من الميرة * (قال ائتونى بأخ لكم من أبيكم) * لابد من مقدمة سبقت معهم حتى جرت هذه المسألة ، روي (1) : أنه لما رآهم قال : من أنتم ؟ قالوا : نحن إخوة عشرة وأبونا نبي من الأنبياء اسمه : يعقوب ، وكنا اثني عشر إخوة (2) فهلك منا واحد ، قال : فأين الأخ الحادي عشر ؟ قالوا : هو عند أبيه يتسلى به من الهالك * (قال) * يوسف : * (ائتونى) * به * (ألا ترون أني أوفي الكيل) * ولا أبخس أحدا شيئا * (وأنا خير المنزلين) * المضيفين .
  * (فإن لم تأتوني به ف‍) * ليس * (لكم عندي) * طعام أكيله عليكم ، وقوله : * (ولاتقربون) * يجوز أن يكون مجزوما عطفا على محل قوله : * (فلاكيل لكم) * كأنه قال : فإن لم تأتوني به تحرموا ولا تقربوا ، ويجوز أن يكون بمعنى النهي .
   * (قالوا سنرا ود عنه أباه) * أي : سنخادعه عنه ونحتال حتى ننتزعه من يده * (وإنا لفعلون) * لقادرون على ذلك .

-------------------
(1) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 484 .
(2) كذا في النسخ ، والصحيح : ( أخا ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 228 _
  ( وقال لفتيته ) (1) وقرئ : * (لفتينه) * وهما : جمع فتى ، مثل إخوة وإخوان في جمع أخ ، وفعلة : جمع القلة ، وفعلان : جمع الكثرة ، أي : لغلمانه الكيالين * (اجعلوا بضعتهم في رحالهم) * يعني : ثمن طعامهم وما كانوا جاؤوا به في أوعيتهم ، واحدها رحل ، يقال للوعاء : رحل ، وللمسكن : رحل ، واصله : الشئ المعد للرحيل * (لعلهم يعرفونها) * لعلهم يعرفون حق ردها وحق التكرم بإعطاء البدلين * (إذا انقلبوا إلى أهلهم) * وفرغوا ظروفهم * (لعلهم يرجعون) * لعل معرفتهم بذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا ، قيل : لم ير من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمنا (2) .
  * (فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ * قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِي مَوْثِقاً مِنْ اللَّهِ لَتَأْتُونَنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) * * (منع منا الكيل) * أرادوا قول يوسف (عليه السلام) : * (فلاكيل لكم عندي) * لأنه إذا أعلمهم بمنع الكيل فقد منعهم الكيل * (فأرسل معنآ أخانا) * بنيامين * (نكتل) * برفع المانع من الكيل فنكتل ما نحتاج إليه من الطعام ، وقرئ : (يكتل ) بالياء (3) ، أي : يكتل أخونا فينضم اكتياله إلى اكتيالنا ، أو يكن سببا للاكتيال * (قال هل ءامنكم) *

-------------------
(1) الظاهر أن المصنف اعتمد هنا على قراءة الياء ثم التاء بعدها تبعا للزمخشري .
(2) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 485 .
(3) وهي قراءة حمزة والكسائي ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 350 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 229 _
  أي : لاآمنكم * (على) * بنيامين في الذهاب به * (إلا كمآ أمنتكم على أخيه) * يوسف إذ قلتم فيه : * (إنا له لحفظون) * (1) كما تقولونه في أخيه ثم لم تفوا بضمانكم * (فالله خير حفظا) * فتوكل على الله فيه ودفعه إليهم ، و * (حفظا) * نصب على التمييز كقولهم : ( لله دره فارسا ) ، ويجوز أن يكون حالا ، وقرئ : ( حفظا ) (2) ، * (وهو أرحم الراحمين) * يرحم ضعفي وكبر سني ، فيحفظه ويرده علي ولايجمع علي مصيبتين .
  * (ولما فتحوا متعهم) * أي : أوعية طعامهم * (وجدوا بضعتهم ردت إليهم) *، وقرأ يحيى بن وثاب (3) : ( ردت ) بكسر الراء (4) على أن كسر الدال المدغمة نقلت إلى الراء * (مانبغى) * : * (ما) * للنفي ، أي : ما نبغي في القول ، أو ما نبتغي شيئا وراء ما فعل بنا من الإحسان والإكرام ، أو للاستفهام بمعنى : أي شئ نطلب وراء هذا من الإحسان ؟ وقيل : معناه : ما نريد منك بضاعة أخرى (5) ، وقوله : * (هذه بضعتنا ردت إلينا) * جملة مستأنفة موضحة لقوله : * (مانبغى) * والجمل بعدها معطوفة عليها على معنى : أن بضاعتنا ردت إلينا فنستظهر بها * (ونمير أهلنا) * في رجوعنا إلى الملك * (ونحفظ أخانا) * فما يصيبه شئ مما تخافه * (ونزداد) * باستحضار أخينا وسق (6) بعير زائدا على أوساق أباعرنا ، فأي شئ نطلب وراء

-------------------
(1) الآية : 12 .
(2) وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وعاصم برواية أبي بكر وابن عامر ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 350 .
(3) هو يحيى بن وثاب الأسدي بالولاء ، الكوفي ، إمام أهل الكوفة في القرآن ، قليل الحديث ، سمع ابن عمر وابن عباس ، وروى عن ابن مسعود وأبي هريرة وعائشة مرسلا ، وروى عنه الأعمش وقتادة ، توفي سنة 103 ه‍ ، انظر تهذيب الاسماء واللغات للنووي : ج 2 ص 159 .
(4) حكاها عنه ابن جني في المحتسب : ج 1 ص 345 .
(5) قاله قتادة : راجع تفسير الطبري : ج 7 ص 247 ، وتفسير الماوردي : ج 3 ص 58 .
(6) الوسق : ستون صاعا ، قال الخليل : هو حمل البعير ، (الصحاح : مادة وسق) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 230 _
  هذه المباغي التي نستصلح بها أحوالنا ؟ * (ذلك كيل يسير) * أي : ذلك مكيل قليل لا يكفينا ، يعنون : ما يكال لهم فأرادوا أن يزدادوا إليه ما يكال لأخيهم ، أو يكون * (ذلك) * إشارة إلى كيل بعير ، أي : ذلك الكيل شئ قليل لا يضايقنا فيه الملك ، أو سهل عليه لا يتعاظمه .
  * (حتى تؤتون) * أي : تعطوني ماأتوثق به * (من) * عند * (الله) * من عهد أو حلف * (لتأتنني به) * جواب القسم ، لأن المعنى : حتى تقسموا بالله لتأتنني به * (إلا أن يحاط بكم) * إلا أن تغلبوا فلم تقدروا على الإتيان به ، أو إلا أن تهلكوا * (فلمآ ءاتوه موثقهم) * أي : أعطوه ما يوثق به من العهود والأيمان * (قال) * يعقوب * (الله على ما نقول وكيل) * أي : رقيب مطلع ، إن أخلفتم انتصف لي منكم .
  * (وَقَالَ يَا بَنِي لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) * نهاهم أن يدخلوا * (من باب وا حد) * لأنهم كانوا ذوي جمال وبهاء وهيئة حسنة ، قد شهروا في مصر بالقربة من الملك والتكرمة الخاصة التي لم تكن لغيرهم ، فخاف عليهم العين * (وما أغنى عنكم من الله من شئ) * يعني : إن أراد الله بكم سوء لم ينفعكم ، ولم يدفع عنكم ما أشرت به عليكم من التفرق وهو مصيبكم لا محالة * (إن الحكم إلا لله) * .
  * (ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم) * أي : متفرقين * (ماكان يغنى عنهم) * رأي يعقوب ودخولهم متفرقين شيئا قط * (إلا حاجة) * استثناء منقطع على معنى :

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 231 _
  ولكن حاجة * (في نفس يعقوب قضيها) * وهي إظهار الشفقة عليهم بما قاله لهم * (وإنه لذو علم) * أي : إنه لذو يقين ومعرفة بالله * (لما علمنه) * أي : من أجل تعليمنا إياه .
  * (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ * قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) * * (ءاوى إليه) * أي: ضم إليه * (أخاه) * بنيامين ، روي : أنهم قالوا له : هذا أخونا قد جئناك به ، فقال : أحسنتم ، فأنزلهم وأكرمهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقي بنيامين وحده ، فأجلسه معه على مائدته وقال له : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك ؟ قال : من يجد أخا مثلك ؟ ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل ، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وقال له : * (إنى أنا أخوك فلاتبتئس) * فلا تحزن * (بما كانوا يعملون) * بنا فيما مضى ، فإن الله تعالى قد أحسن إلينا وجمعنا ، ولا تعلمهم بما أعلمتك (1) .

-------------------
(1) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 489. (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 232 _
  و * (السقاية) * : مشربة يسقى بها وهي الصواع ، قيل : كان يسقى بها الملك ثم جعلت صاعا يكال به وكانت من فضة مموهة بالذهب (1) ، وقيل : كانت من ذهب مرصعة بالجواهر (2) * (ثم أذن مؤذن) * ثم نادى مناد ، يقال : آذن : أعلم ، وأذن : أكثر الإعلام ، و * (العير) * : الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير ، أي : تجئ وتذهب ، وقيل : هي قافلة الحمير ثم كثر حتى قيل لكل قافلة : عير (3) ، والمراد: أصحاب العير كقوله : يا خيل الله اركبي . *
  (وأنا به زعيم) * أي : قال المنادي : من * (جاء) * بالصواع فله * (حمل بعير) * من الطعام * (وأنا) * بذلك كفيل : ضامن أؤديه إليه .
  * (تالله) * قسم فيه معنى التعجب مما أضيف إليهم ، وإنما قالوا : * (لقد علمتم) *فاستشهدوا بعلمهم لما ثبت عندهم من دلائل دينهم وأمانتهم وحسن سيرتهم في معاملتهم معهم مرة بعد أخرى ، ولأنهم ردوا بضاعتهم التي وجدوها في رحالهم مخافة أن يكون وضع ذلك بغير إذن العزيز * (وما كنا سرقين) * وما كنا موصوفين بالسرقة قط. * (قالوا فما جزا ؤه) * الهاء للصواع ، أي : فما جزاء سرقته * (إن كنتم كذبين) * في ادعائكم البراءة منه ؟ * (قالوا جزا ؤه) * أي : جزاء سرقته أخذ * (من وجد في رحله) * ، وكانت السنة في بني إسرائيل أن يسترق السارق سنة فلذلك استفتوا في جزائه ، وقولهم : * (فهو جزاؤة) * معناه : فهو جزاؤه لاغير ، كقولك : حق فلان أن يكرم وينعم عليه فذلك حقه ، أي : فهو حقه ، ويجوز أن يكون * (جزا ؤه) * مبتدأ والجملة الشرطية خبره ، والأصل : جزاؤه من وجد في رحله فهو هو ، فوضع * (جزاؤة) * موضع ( هو ) إقامة للظاهر مقام المضمر .

-------------------
(1) قاله قتادة ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 61 .
(2) قاله عبد الرحمن بن زيد ، راجع المصدر السابق .
(3) قاله مجاهد ، راجع تفسير الطبري : ج 7 ص 254 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 233 _
  * (فبدأ ب‍) * تفتيش * (أوعيتهم قبل وعاء أخيه) * بنيامين لنفي التهمة * (ثم استخرجها من) * وعائه ، والصواع يذكر ويؤنث * (كذلك) * أي : مثل ذلك الكيد العظيم * (كدنا ليوسف) * يعني : علمناه إياه وأوحينا به إليه * (ماكان ليأخذ أخاه في دين الملك) * هذا تفسير للكيد وبيان له ، لأنه كان في دين ملك مصر وحكمه في السارق أن يضرب ويغرم مثل ما أخذ لا أن يستعبد * (إلا أن يشآء الله) * أي : ماكان يأخذ إلا بمشيئة الله وإذنه فيه * (نرفع درجت من نشاء) * في العلم كما رفعنا درجة يوسف فيه ، وقرئ : ( يرفع ) بالياء (1) و * (درجت) * بالتنوين (2) ، * (وفوق كل ذي علم عليم) * أرفع درجة منه في علمه حتى ينتهي إلى الله تعالى العالم لذاته ، فلا يختص بمعلوم دون معلوم فيقف عليه ولا يتعداه .
  * (قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ * قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ * فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنْ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) * (أخ له) * عنوا به يوسف ، واختلف فيما أضافوه إلى يوسف من السرقة ، وأصح الأقوال (3) فيه : أن عمته كانت تحضنه بعد وفاة أمه وتحبه حبا شديدا ،

-------------------
(1) قرأه يعقوب والحسن وعيسى ، راجع التبيان : ج 6 ص 174 ، والبحر المحيط لابي حيان : ج 5 ص 332 .
(2) الظاهر أن القراءة المعتمدة لدى المصنف من غير تنوين ، أي بالإضافة كما لا يخفي .
(3) وهو قول مجاهد على ما حكاه القرطبي في تفسيره : ج 9 ص 239 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 234 _
  فلما ترعرع أراد يعقوب استرداده منها ، وكانت منطقة إسحاق عندها لكونها أكبر ولده وكانوا يتوارثونها بالكبر ، فعمدت إلى المنطقة وشدته على يوسف تحت ثيابه وادعت أنه سرقها ، فحبسته بذلك السبب عندها * (فأسرها يوسف) * هذا إضمار قبل الذكر على شريطة التفسير ، وتفسيره : * (أنتم شر مكانا) * فكأنه قال : فأسر الجملة أو الكلمة التي هي قوله : * (أنتم شر مكانا) * ، والمعنى : قال * (في نفسه) * : أنتم شر مكانا ، لأن قوله : * (قال أنتم شر مكانا) * بدل من * (فأسرها) * أي : أنتم شر منزلة في السرقة ، لأنكم سرقتم أخاكم من أبيكم * (والله أعلم بما تصفون) * يعلم أنه ليس الأمر كما تصفون ، ولم يصح لي ولا لأخي سرقة .
  ثم رفقوا في القول واستعطفوه بذكر أبيهم يعقوب ، وأنه شيخ كبير السن أو كبير القدر ، وأن بنيامين أحب إليه منهم * (فخذ أحدنا مكانه) * أي : بدله على وجه الاسترهان أو الاستعباد * (إنا نربك من المحسنين) * إلينا فأتمم إحسانك ، أو اجر على عادتك في الإحسان فإنه عادتك .
  * (قال معاذ الله) * هو كلام موجه ، ظاهره : أنه يجب أخذ من وجد الصواع في رحله على مقتضى فتياكم ، فلو أخذنا غيره كان ظلما عندكم فلا تطلبوا مني ما تعرفون أنه ظلم ، وباطنه : أن الله تعالى أمرني بأخذ بنيامين واحتباسه لمصالح علمها في ذلك ، فلو أخذت غيره كنت ظالما : عاملا بخلاف ما أمرت به ، ومعنى * (معاذ الله أن نأخذ) * : نعوذ بالله معاذا من أن نأخذ ، و * (إذا) * جواب لهم وجزاء ، لأن المعنى : إن نأخذ بدله ظلمنا .
  * (فلما استيسوا) * يئسوا * (خلصوا) * أي : اعتزلوا وانفردوا عن الناس خالصين لا يشوبهم سواهم * (نجيا) * : ذوي نجوى ، فيكون النجي مصدرا بمعنى التناجي ، كما قيل : * (وإذ هم نجوى) * (1) تنزيلا للمصدر منزلة الوصف ، أو قوما

-------------------
(1) الاسراء : 47 . (*)

h3>تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 235 _
  نجيا أي : مناجيا لمناجاة بعضهم بعضا ، فيكون مثل العشير والسمير بمعنى المعاشر والمسامر ، ومنه قوله تعالى : * (وقربنه نجيا) * (1) ، وكان تناجيهم في تدبير أمرهم : أيرجعون أم يقيمون ، وإذا رجعوا فماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم * (قال كبيرهم) * في السن وهو روبيل ، وقيل : رئيسهم وهو شمعون (2)، وقيل : كبيرهم في الرأي والعقل وهو يهوذا (3) أو لاوي (4) * (ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله) * ذكرهم الوثيقة التي أخذها عليهم يعقوب * (ومن قبل ما فرطتم في يوسف) * فيه وجوه : أن تكون * (ما) * مزيدة ، أي : ومن قبل هذا قصرتم في شأن يوسف ولم تحفظوا عهد أبيكم ، وأن تكون مصدرية على أن تكون مبتدأ و * (من قبل) * خبره ، أي : وقع من قبل تفريطكم في يوسف ، أو يكون في محل نصب عطفا على مفعول * (ألم تعلموا) * أي : ألم تعلموا أخذ أبيكم موثقا عليكم وتفريطكم من قبل في يوسف ؟ وأن تكون موصولة بمعنى : ومن قبل هذا ما فرطتموه ، أي : قدمتموه في حق يوسف من الخيانة العظيمة ، ومحله الرفع أو النصب على الوجهين * (فلن أبرح الارض) * فلن أفارق أرض مصر * (حتى يأذن لى أبى) * في الانصراف إليه * (أو يحكم الله) * بالخروج منها ، أو بالانتصاف ممن أخذ أخي ، أو بخلاصه من يده .
  * ( ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ * وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * يَا بَنِي اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ)

-------------------
(1) مريم : 52 .
(2) قاله مجاهد ، راجع تفسير الطبري : ج 7 ص 269 .
(3) وهو قول مجاهد على ما حكاه الماوردي في تفسيره : ج 3 ص 67 .
(4) وهو قول محمد بن كعب وابن إسحاق ، راجع تفسير القرطبي : ج 9 ص 241 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 236 _
  * * (وماشهدنآ) * عليه * (إلا بما علمنا) * في الظاهر أن الصواع استخرج من وعائه * (وما كنا للغيب) * أي : للأمر الخفي * (حفظين) * ولم نشعر أسرق أم دس الصاع في رحله .
   * (وسل القرية التي كنا فيها) * هي مصر ، أي : أرسل إلى أهلها فسلهم عن كنه القصة * (والعير التي أقبلنا فيها) * أي : أصحاب العير .
  والمعنى : فرجعوا إلى أبيهم وقالوا له : ما قال أخوهم ، ف‍ * (قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا) * أردتموه ، وإلا فما أدرى ذلك الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته لولا تعليمكم * (عسى الله أن يأتيني بهم جميعا) * بيوسف وأخيه وروبيل أو غيره * (إنه هو العليم) * بحالي في الحزن والأسف * (الحكيم) * الذي لم يبتلني إلا لحكمة ومصلحة .
  * (وتولى) * وأعرض * (عنهم) * كراهة لما جاؤوا به * (وقال يأسفي) * أضاف الأسف إلى نفسه ، والألف بدل من ياء الإضافة ، والأسف : أشد الحزن والحسرة ، وتأسفه * (على يوسف) * دون غيره دليل على أنه لم يقع فائت عنده موقعه ، وأن الرزء (1) فيه كان عنده غضا طريا مع طول العهد * (وابيضت عيناه من الحزن) *

-------------------
(1) الرزء : المصيبة ، (الصحاح : مادة رزأ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 237_
  والبكاء حتى أشرف على العمى فكان لا يرى إلا رؤية ضعيفة ، وقيل : إنه عمي (1) * (فهو كظيم) * أي : مملوء من الغيظ على أولاده ولا يظهر مايسؤهم .
  * (تفتؤا) * أي : لاتفتأ ، حذف حرف النفي لأنه لا يلتبس بالإثبات لأنه لو كان إثباتا لم يكن بد من اللام والنون ، ونحوه : فقلت : يمين الله أبرح قاعدا (2) ومعنى ( لاتفتأ ) : لا تزال ، كما يقال : ما فتئ يفعل كذا * (حتى تكون حرضا) * أي : مشفيا على الهلاك ، وأحرضه المرض ، ويستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأنه مصدر ، والصفة حرض ، ومثله : دنف ودنف .
  البث : أصعب الهم الذي لا يصبر عليه صاحبه فيبثه إلى الناس ، أي : ينشره ، و * (إنما أشكوا) * معناه : لاأشكو إلى أحد وإنما أشكو * (إلى الله وأعلم من) * صنع * (الله) * ورحمته * (ما لا تعلمون) * وحسن ظني به أنه يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب ، وروي : أنه رأى ملك الموت (عليه السلام) فسأله : هل قبضت روح يوسف ؟ فقال : لا ، فعلم أنه حي (3) .
  فقال : * (اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه) * أي : فتعرفوا منهما وتطلبوا خبرهما ، وهو تفعل من الإحساس وهو المعرفة * (من روح الله) * من فرجه وتنفيسه ، وقيل : من رحمته (4) *(إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ) * لأن المؤمن من الله على خير ، يرجوه عند البلاء ، ويشكره في الرخاء .

-------------------
(1) قاله مجاهد ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 70 .
(2) وعجزه : ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي ، البيت لأمرئ القيس من قصيدته اللامية التي يصف فيها مغامراته وصيده وسعيه الى المجد ، راجع ديوان امرئ القيس : ص 141 .
(3) رواه البغوي في تفسيره : ج 2 ص 445 .
(4) قاله قتادة والضحاك ، راجع تفسير الطبري : ج 7 ص 284 ـ 285 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 238 _
  * ( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ * قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) * * (الضر) * الهزال من الجوع والشدة ، شكوا إلى يوسف ما نالهم من القحط وهلاك المواشي ، والبضاعة المزجاة : المدفوعة ، يدفعها كل تاجر رغبة عنها وتحقيرا لها ، من أزجيته : إذا دفعته وطردته ، قيل : كانت من متاع الأعراب : الصوف والسمن (1) ، وقيل : كانت دراهم زيوفا (2) لا تنفق في ثمن الطعام (3) ، * (فأوف لنا الكيل) * كما كنت توفيه في السنين الماضية * (وتصدق علينا) * وتفضل علينا بالمسامحة ، وزدنا على حقنا * (إن الله يجزى المتصدقين) * يثيبهم على صدقاتهم بأفضل منها .
  فرق يوسف لهم ولم يتمالك أن عرفهم نفسه ، و * (قال) * لهم : * (هل علمتم ما فعلتم) * استفهم عن وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب ، أي : هل علمتم قبح * (مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ) * لا تعلمون قبحه فلذلك أقدمتم عليه ، يعني : هل علمتم قبحه فتبتم إلى الله منه ؟ لأن علم القبح يجر إلى التوبة ، فكان

-------------------
(1) قاله عبد الله بن الحارث ، راجع تفسير الماوردي : ج 2 ص 73 .
(2) زافت الدراهم : إذا صارت مردودة لغش فيها ، (القاموس المحيط : مادة زفت ) .
(3) قاله ابن عباس ، راجع تفسير البغوي : ج 2 ص 446 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 239 _
  كلامه شفقة عليهم ونصحا لهم في الدين ، إيثارا لحق الله على حق نفسه في ذلك المقام الذي ينفث فيه المصدور ويتشفي المحنق المغيظ ، وقيل : معناه : إذ أنتم صبيان أو شبان حين يغلب على الإنسان الجهل (1) .
  وقرئ : * (أءنك) * على الاستفهام ، و ( إنك ) على الإيجاب (2) ، قيل : إنه تبسم فأبصروا ثناياه فعرفوه وكانت كاللؤلؤ المنظوم (3) ، وقيل : رفع التاج عن رأسه فعرفوه (4) * (إنه من يتق) * الله: من يخف الله وعقابه * (ويصبر) * عن المعصية وعلى الطاعة * (فإن الله لا يضيع أجر) * هم ، فوضع * (المحسنين) * موضع الضمير ، لاشتماله على المتقين والصابرين .
  * (لقد ءاثرك الله علينا) * أي : فضلك علينا بالتقوى والصبر وسيرة المحسنين ، وإن شأننا وحالنا أنا * (كنا لخطين) * متعمدين للإثم ، لاجرم أن الله أعزك وأذلنا .
  * (لاتثريب عليكم) * لاعتب ولا تعيير ولا تأنيب * (عليكم اليوم) * أي : لاأثربكم اليوم فيما فعلتم * (يغفر الله لكم) * ذنوبكم ، دعا لهم بالمغفرة لما فرط منهم .
  * (اذهبوا بقميصي هذا) * ، قيل : إنه القميص المتوارث الذي كان في تعويذ يوسف وكان من الجنة (5) * (يأت بصيرا) * أي : يرجع بصيرا ، أو يأت إلي وهو بصير ، وينصره قوله : * (وأتوني بأهلكم أجمعين) * أي : ليأتني أبي وآله جميعا .
  * (وَلَمَّا فَصَلَتْ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)

-------------------
(1) قاله ابن عباس والحسن ، راجع تفسير القرطبي : ج 9 ص 256 .
(2) قرأه ابن كثير وحده ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 351 .
(3 و 4) قاله ابن عباس على ما حكاه عنه القرطبي في تفسيره : ج 9 ص 256 .
(5) وهو قول مجاهد ، راجع تفسير القرطبي : ج 9 ص 258 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 240 _
  * * (ولما) * خرجت القافلة وانفصلت * (العير) * من مصر * (قال أبوهم) * يعقوب لولد ولده ومن حوله : * (إنى لاجد ريح يوسف) * أوجده الله تعالى ريح القميص حين أقبل من مسيرة ثمان أو عشر * (لولا أن تفندون) * أي : تنسبوني إلى الفند وهو الخرف ، والمعنى : لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني .
  * (إنك لفي ضللك القديم) * أي : في ذهابك عن الصواب قدما (1) في إفراط محبتك ليوسف ورجائك للقائه ، وكان عندهم أنه قد مات .
  * (فلمآ أن جاء البشير ألقبه) * يعني : القميص ، طرحه * (على) * وجه يعقوب ، أو ألقاه يعقوب * (فارتد) * فرجع * (بصيرا قال ألم أقل لكم) * يعني قوله : * (ولا تايسوا من روح الله) * (2) ، وقوله : * (إنى أعلم) * كلام مبتدأ لم يقع عليه القول ، ويجوز أيضا أن يكون واقعا عليه .
  * (سوف أستغفر لكم) * قيل : إنه أخر الاستغفار إلى وقت السحر ، لأنه أقرب إلى إجابة الدعاء (3) ، وقيل : إلى سحر ليلة الجمعة (4) .
  * (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ)

-------------------
(1) في نسخة : قديما .
(2) الآية : 87 .
(3) قاله ابن مسعود وابراهيم التميمي وابن جريج ، راجع تفسير الطبري : ج 7 ص 300 .
(4) كما ورد في الحديث عنه (صلى الله عليه وآله) ، أخرجه الطبري في تفسيره : ج 7 ص 300 وهو المروي عن الباقر والصادق (عليه السلام) كما في تفسير العياشي : ج 2 ص 196 ح 81 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 241 _
  * معنى دخولهم * (على يوسف) * قبل دخولهم مصر : أنهم حين استقبلهم يوسف كأنه نزل لهم في بيت أو مضرب هناك ، فدخلوا عليه وضم * (إليه ابويه) * ثم * (قال) * لهم : * (ادخلوا مصر إن شآء الله ءامنين) * وتعلقت المشيئة بالدخول مقيدا بالأمن ، والتقدير : ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله دخلتموه آمنين ، ثم حذف الجزاء لدلالة الكلام عليه ، ثم اعترض بالجملة الجزائية بين الحال وذي الحال ، وقوله : * (ءاوى إليه ابويه) * معناه : ضمهما إليه واعتنقهما .
  ولما دخل مصر وجلس في مجلسه مستويا على سريره واجتمعوا إليه أكرم أبويه فرفعهما * (على) * السرير * (وخروا له) * يعني : الإخوة الأحد عشر * (سجدا) * وكانت السجدة عندهم جارية مجرى التحية والتكرمة ، وقيل : معناه : خر إخوته وأبواه لأجله سجدا لله شكرا (1) ، ويعضده ماروي عن الصادق (عليه السلام) أنه قرأ : ( وخروا لله ساجدين ) ، * (وقدأحسن بى) * يقال : أحسن به وإليه ، وأساء به وإليه ، قال : أسيئي بنا أو أحسني لاملومة * لدينا ولا مقلية إن تقلت (2) و * (البدو) * البادية ، وهم كانوا أهل بادية وأصحاب مواش ، ينتقلون في المياه

-------------------
(1) قاله ابن عباس كما في تفسير الماوردي : ج 3 ص 82 ، وأخرجه العياشي في تفسيره : ج 2 ص 197 مسندا الى أبي جعفر (عليه السلام) وبطريق آخر عن علي بن محمد بن الرضا (عليه السلام) .
(2) البيت لكثير بن عبد الرحمن الخزاعي المشهور بكثير عزة ، وهي من قصيدة يجيب فيها عزة لما سمعها تسبه ، تقدم شرح البيت وتفصيله في ص 71 فراجع . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 242_
  والمناجع (1) * (نزغ الشيطن بينى وبين إخوتى) * أي : أفسد بيننا وحرش * (إن ربى لطيف) * في تدبير عباده يسهل لهم العسير ، وبلطفه اجتمعنا .
  وروي : أن يعقوب أقام معه أربعا وعشرين سنة ثم مات ودفن بالشام عن وصية منه بذلك (2) ، وقيل : إنه عاش مع يوسف حولين ، وعاش يوسف بعد أبيه ثلاثا وعشرين سنة (3) ، فلما تم أمره وعلم أنه لا يدوم له ملكه طلبت نفسه الملك الدائم الذي لا يفنى ، فتمنى الموت وماتمناه نبي قبله ولا بعده ، فتوفاه الله طيبا طاهرا .
  و * (من) * في قوله : * (من الملك) * و * (من تأويل الاحاديث) * للتبعيض ، لأنه لم يؤت إلا بعض ملك الدنيا أو بعض ملك مصر وبعض التأويل * (أنت ولى ى) * أنت الذي تتولاني بالنعمة في الدارين ، وتوصل الملك الفاني بالملك الباقي * (فاطر السموات) * وصف لقوله : * (رب) * أو نصب على النداء * (وألحقني بالصلحين) * من آبائي ، أو على العموم .
  * (ذلك) * إشارة إلى ما سبق من نبأ يوسف وهو مبتدأ ، و * (من أنباء الغيب نوحيه إليك) * خبران، والمعنى : أن هذا النبأ غيب لم يحصل لك إلا من جهة الوحي ، لأنك لم تحضر بني يعقوب حين * (أجمعوا أمرهم وهم يمكرون) * بيوسف ، ويبغون له الغوائل حتى ألقوه في الجب .

-------------------
(1) النجعة : طلب الكلأ والعرف ، (لسان العرب : مادة نجع) .
(2) انظر تاريخ الطبري : ج 1 ص 255 ـ 256 .
(3) أخرج العياشي عن محمد بن مسلم قال : قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : كم عاش يعقوب مع يوسف بمصر بعد ما جمع الله يعقوب شمله ، وأراه تأويل رؤيا يوسف الصادقة ؟ قال : عاش حولين ، قلت : فمن كان يومئذ الحجة لله في الأرض يعقوب أم يوسف ؟ فقال : كان يعقوب الحجة وكان الملك ليوسف ، فلما مات يعقوب حمل يوسف عظام يعقوب في تابوت الى الشام ، فدفنه في بيت المقدس ثم كان يوسف بن يعقوب الحجة ، تفسير العياشي : ج 2 ص 198 ح 87 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 243 _
  * (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ * وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ * أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ) * (وما أكثر الناس) * يريد العموم ، وعن ابن عباس : يريد أهل مكة (1) ، أي : وماهم بمؤمنين * (ولو حرصت) * على إيمانهم ، لعنادهم وتصميمهم على الكفر .
  * (وما تسلهم) * على تبليغ الرسالة أجرا فيصدهم ذلك عن الإيمان * (إن هو إلا ذكر) * عظة من الله تعالى * (للعلمين) * عامة ، يعني : القرآن .
  * (و) * كم * (من ءاية) * أي : علامة ودلالة على توحيد الله * (يمرون عليها) * ويشاهدونها * (وهم ... معرضون) * عنها ، لا يعتبرون بها .
  * (وما يؤمن أكثرهم) * في إقرارهم * (بالله) * وبأنه خلقهم وخلق السماوات والأرض * (إلا وهم مشركون) * بعبادة الأوثان ، يريد : مشركي قريش ، وقيل : هم الذين يشبهون الله بخلقه (2) ، وقيل : هم أهل الكتاب معهم شرك وإيمان (3) .

-------------------
(1) تفسير ابن عباس : ص 204 .
(2) قاله ابن عباس والسدي ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 87 .
(3) قاله الحسن ، راجع الكشاف : ج 2 ص 508 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 244 _
  وعن الباقر (عليه السلام) : ( أنه شرك الطاعة لاشرك العبادة ، أطاعوا الشيطان في ارتكاب المعاصي ) (1) .
  * (أفأمنوا أن تأتيهم غشية) * أي : نقمة تغشاهم ، وعذاب يغمرهم .
  * (قل هذه سبيلى) * هذه السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد سبيلي ، ثم فسر سبيله بقوله : * (أدعوا إلى الله على بصيرة) * أي : أدعو إلى دينه مع حجة واضحة ، و * (أنا) * : تأكيد للضمير المستكن في * (أدعوا) * ، و * (من اتبعنى) * عطف عليه ، أي : أدعو إليها أنا ويدعو إليها من اتبعني ، ويجوز أن يكون * (على بصيرة) * حالا من * (أدعوا) * عاملة الرفع في * (أنا ومن اتبعنى) * ، * (وسبحن الله) * وأنزه الله من الشركاء .
  * (إلا رجالا) * لاملائكة ، وقرئ : * (نوحي إليهم) * بالنون (2) * (من أهل القرى) * لأنهم أعلم وأحلم ، وأهل البوادي أهل الجفاء والقسوة * (ولدار) * الساعة * (الاخرة) * ، أو الحالة * (الاخرة خير للذين اتقوا) * أي : خافوا الله فلم يشركوا به .
  * (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) * هنا حذف دل الكلام عليه ، كأنه قيل : وما أرسلنا قبلك إلا رجالا قد تأخر نصرنا إياهم كما أخرناه عن هذه الأمة * (حتى إذا) * استيأسوا عن النصر * (وظنوا أنهم قد كذبوا) * أي : فظن * (الرسل) * أنهم قد كذبهم قومهم فيما وعدوهم من

-------------------
(1) تفسير العياشي : ج 2 ص 200 ح 98 .
(2) إذ الظاهر أن القراءة المعتمدة لدى المصنف بالياء مبنيا للمجهول . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 245 _
  العذاب والنصر عليهم ، وقرئ : * (كذبوا) * بالتخفيف ، وهو قراءة أئمة الهدى (عليهم السلام) (1) ، ومعناه: وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به من نصرة الله إياهم (2) ، جاء الرسل * (نصرنا) * بإرسال العذاب على الكفار ( فننجى من نشاء ) (3) أي : نخلص من نشاء من العذاب عند نزوله ، وقرئ : * (فنجى) * بالتشديد على لفظ الماضي المبني للمفعول ، والمراد ب‍ * (من نشاء) * : المؤمنون ، ويبين ذلك قوله : * (ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين) * .
  الضمير في * (قصصهم) * راجع إلى يوسف وإخوته * (عبرة) * أي : اعتبار للعقلاء ، فإن نبينا (صلى الله عليه وآله) لم يقرأ كتابا ولا سمع حديثا ولا خالط أهله ثم حدثهم به في حسن نظمه ومعانيه بحيث لم يرد عليه أحد من ذلك شيئا ، وفيه أوضح برهان على صحة نبوته * (ماكان) * القرآن * (حديثا يفترى) * أي : يختلق * (ولكن) * كان * (تصديق الذي بين يديه) * أي : قبله من الكتب السماوية * (وتفصيل كل شئ) * يحتاج إليه في الدين * (وهدى) * ودلالة * (ورحمة) * ونعمة ينتفع بها المؤمنون علما وعملا .

-------------------
(1) انظر تفسير العياشي : ج 2 ص 201 ح 102 .
(2) وهو قول ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد والضحاك ، راجع التبيان : ج 6 ص 207 .
(3) الظاهر من عبارة المصنف أنه يعتمد هنا على القراءة بنونين . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 247 _
سورة الرعد مختلف فيها (1)
  وهي خمس وأربعون آية بصري ، وثلاث كوفي ، عد غير الكوفي * (لفي خلق جديد) * (2) ، * (الظلمت والنور) * (3) .
  في حديث أبي : ( ومن قرأ سورة الرعد أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل سحاب مضى وكل سحاب يكون إلى يوم القيامة ، وكان يوم القيامة من الموفين بعهد الله ) (4) .
  وعن الصادق (عليه السلام) : ( من أكثر قراءة الرعد لم يصبه الله بصاعقة أبدا ، وأدخل الجنة بغير حساب ) (5) .

-------------------
(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان : ج 6 ص 211 : قال قتادة : هي مدنية إلا آية منها فانها مكية وهي قوله : * (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة) * ، وقال مجاهد : هي مكية وليس فيها ناسخ ولا منسوخ ، وهي ثلاث وأربعون آية في الكوفي وأربع في المدنيين وخمس في البصري ، وقال الماوردي في تفسيره : ج 3 ص 91 : مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، ومدنية في قول الكلبي ومقاتل ، وقال ابن عباس : مدنية إلا آيتين منها وهما قوله تعالى : * (ولو أن قرءانا سيرت به الجبال) * الى آخرهما ، وقال الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 511 : مدنية ، نزلت بعد سورة محمد (صلى الله عليه وآله) .
(2) الآية : 5 .
(3) الآية : 16 .
(4) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 536 مرسلا .
(5) ثواب الأعمال : ص 133 ، تفسير العياشي : ج 2 ص 202 ح 1 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 248 _
بسم الله الرحمن الرحيم

  * (المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ * اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ * وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) * * (تلك) * مبتدأ و * (ءايت الكتب) * خبره * (والذي أنزل إليك) * من القرآن كله هو * (الحق) * الذي لا مزيد عليه .
  * (الله) * مبتدأ و * (الذي رفع) * خبره ، بدليل قوله : * (وهو الذي مد الارض) * ، ويجوز أن يكون صفة وقوله : * (يدبر الامر يفصل الايت) * خبرا بعد خبر * (ترونها) * كلام مستأنف بمعنى : وأنتم ترونها كذلك ، ليس دونها دعامة ولا فوقها علاقة ، وقيل : * (ترونها) * صفة ل‍ * (عمد) * (1) ، وقرئ : ( عمد ) بضمتين (2) ، يعني : بغير عمد مرئية ، وإنما تعمدها قدرة الله عزوجل * (يدبر) * أمر ملكوته وأمور خلقه على الوجه الذي توجبه الحكمة * (يفصل) * آياته في كتبه المنزلة * (لعلكم ... توقنون) * بالجزاء ، وبأن هذا المدبر المفصل قادر على البعث والنشور ، ولابد لكم من الرجوع إليه .
  * (مد الارض) * بسطها طولا وعرضا * (وجعل فيها روا سى) * جبالا ثوابت

-------------------
(1) قاله قتادة واياس بن معاوية وغيرهما ، راجع تفسير القرطبي : ج 9 ص 279 .
(2) قرأه أبو حيوة ويحيى بن وثاب ، راجع البحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 359 .

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 249 _
  * (ومن كل الثمرا ت جعل فيها زوجين اثنين) * أي : خلق فيها من جميع أنواعها زوجين زوجين : أسود وأبيض وحلوا وحامضا ورطبا ويابسا وما أشبه ذلك من الأصناف المختلفة * (يغشى اليل النهار) * يلبس ظلمة الليل ضياء النهار فيصير مظلما بعد أن كان مضيئا .
  * (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) * * (قطع متجورا ت) * بقاع مختلفة مع كونها متجاورة متلاصقة : طيبة إلى سبخة ، وصلبة إلى رخوة ، وصالحة للزرع والشجر إلى أخرى على عكسها مع انتظام جميعها في جنس الأرضية ، وكذلك الكروم والزروع والنخيل النابتة (1) في هذه القطع مختلفة الأجناس والأنواع وهي تسقى * (بماء وا حد) * وتراها متغايرة الثمار في الأشكال والهيئات والطعوم والروائح ، متفاضلة فيها ، و * (في ذلك) *دلالة على صنع القادر العالم الموقع أفعاله على وجه دون وجه ، وقرئ : ( وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان ) بالجر (2) عطفا على * (أعنب) * ، والصنوان : جمع صنو ، وهي النخلة لها رأسان واصلهما واحد ، وقرئ بضم الصاد (3) وكسرها وهما

-------------------
(1) في بعض النسخ : الثابتة .
(2) وهي قراءة عاصم برواية أبي بكر ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 356 .
(3) قرأه مجاهد والسلمي والحسن بن العباس عن حفص والمفضل ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 356 ، وتفسير القرطبي : ج 9 ص 282 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 250 _
  لغتان ، وقرئ : * (يسقى) * بالتاء (1) والياء ، وقرئ : * (نفضل) * بالنون والياء (2) * (في الاكل) * بضم الكاف وسكونها (3) .
  * (وإن تعجب) * يا محمد من قولهم في إنكار البعث * (ف‍) * قولهم * (عجب) * حقيق بأن يتعجب منه ، لأن من قدر على إنشاء ماعدد عليك من الصنائع العجيبة والفطر البديعة كانت الإعادة أهون عليه * (أءذا كنا) * إلى آخر قولهم ، يجوز أن يكون في محل الرفع بدلا من * (قولهم) * ، وأن يكون في محل نصب بالقول ، و * (إذا) * نصب بما دل عليه قوله : * (أءنا لفي خلق جديد) * فكأنه قيل : أنبعث إذا متنا و * (كنا ترا با) *، * (أولئك الذين كفروا) * أولئك المتمادون في كفرهم الكاملون فيه * (وأولئك الاغلل في أعناقهم) * وصف لهم بالإصرار ، كقوله : * (إنا جعلنا في أعنقهم أغللا) * (4) ، وكقول الشاعر : لهم عن الرشد أغلال وأقياد (5) أو هو من جملة الوعيد .
  * (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ * وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ * اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِي * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)

-------------------
(1) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 356 .
(2) وبالياء هي قراءة حمزة والكسائي ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 475 .
(3) وبسكونها قرأه نافع وابن كثير ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 528 .
(4) يس : 8 .
(5) وصدره : ضلوا وإن سبيل الغي مقصدهم ، لم نعثر على قائله ، يقول في ذم قوم : إنهم اتخذوا سبيل الغي دون الرشد والهداية مقصدا لهم ، فكأنهم عن سبيل الرشد مكبلين لا يقدرون أن يمشوا إليه بأرجلهم ، راجع شرح شواهد الكشاف للأفندي : ص 377 . (*)