وتخرج من أدبارهم فتقطعهم عضوا عضوا ، وقيل : أراد بالتنجية الثانية إنجاءهم من عذاب الآخرة (1) .
* (وتلك عاد) * إشارة إلى آثارهم وقبورهم ، ثم استأنف وصفهم فقال : *
(جحدوا بايت ربهم وعصوا رسله) * لأنهم إذا عصوا رسولهم فقد عصوا جميع رسل الله *
(كل جبار عنيد) * يريد رؤساءهم ودعاتهم إلى تكذيب الرسل .
* (وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة) * جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين تكبهم على وجوههم في عذاب الله، وتكرير * (ألا) * مع الشهادة بكفرهم والدعاء عليهم تفظيع لأمرهم ، وبعث على الاعتبار بهم ، والحذر من مثل حالهم .
* (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ * قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنْ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ * وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ * فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ9+) *
-------------------
(1) قاله الزجاج في معاني القرآن : ج 3 ص 59 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 177 _
* (هو أنشأكم من الارض) * معناه : ماأنشأكم من الأرض إلا هو * (و) * لا * (استعمركم فيها) * غيره ، وإنشاؤهم منها هو : خلق آدم من تراب ، واستعمارهم فيها هو : أمرهم بعمارتها ، والعمارة متنوعة إلى: واجب ومندوب ومباح ومكروه ، وقيل : * (استعمركم) * من العمر ، نحو : استبقاكم ، من البقاء (1) ، وقيل : هو من العمرى (2) ، فيكون * (استعمركم) * بمعنى : أعمركم (3) ، أي : أعمركم فيها دياركم ثم هو وارثها منكم إذا انقضت أعماركم ، وبمعنى : جعلكم معمرين دياركم فيها ، لأن الرجل إذا ورث داره غيره من بعده فكأنما أعمره إياها ، لأنه يسكنها عمره ، ثم يتركها لغيره * (إن ربى قريب) * داني الرحمة * (مجيب) * لمن دعاه .
* (كنت فينا) * فيما بيننا * (مرجوا) * نرجو منك الخير ، لما كانت تلوح فيك من مخائله ، فكنا نسترشدك في تدابيرنا ، ونشاورك في أمورنا ، فالآن انقطع رجاؤنا عنك ، وعلمنا أن لاخير فيك * (يعبد أآباؤنا) * حكاية حال ماضية * (مريب) * من أرابه : إذا أوقعه في الريبة ، أو من أراب الرجل : إذا كان ذا ريبة .
*(وءاتينى منه رحمة) * وهي النبوة * (فما تزيدونني) * بما تقولون * (غير تخسير) * غير أن أخسركم ، أي : أنسبكم إلى الخسران وأقول لكم : إنكم خاسرون .
* (ءاية) * نصب على الحال ، والعامل فيها معنى الإشارة ، و * (لكم) * حال أيضا من * (ءاية) * متقدمة عليها ، لأنها لو تأخرت لكانت صفة لها ، فلما تقدمت انتصبت على الحال * (فذروها تأكل) * أي : فاتركوها آكلة * (في أرض الله) * ولا تصيبوها * (بسوء فيأخذكم) * إن فعلتم ذلك * (عذاب قريب) * عاجل لا يستأخر .
-------------------
(1) قاله الضحاك ، راجع تفسير الماوردي : ج 2 ص 479 .
(2) العمرى ، ما يجعل لك طول عمرك ، وعمرته إياه وأعمرته : جعلته له عمره أو عمرى ، (القاموس المحيط : مادة عمر) .
(3) قاله مجاهد ، راجع تفسير الماوردي : ج 2 ص 479 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 178 _
* (فعقروها فقال) * صالح : * (تمتعوا) * استمتعوا بالعيش * (في داركم) * في بلدكم ، ويسمى البلد الدار ، لأنه يدار فيه بالتصرف ، يقال : ديار بكر ، لبلادهم * (ثلثة أيام) * قيل : عقروها يوم الأربعاء وهلكوا يوم السبت (1) ، * (ذالك وعد غير مكذوب) * فيه ، فاتسع في الظرف بحذف الحرف وإجرائه مجرى المفعول به ، نحو قوله : ويوم شهدناه سليما وعامرا (2) أو * (مكذوب) * مصدر كالمعقول (3) والمجلود ، أي : غير كذب .
* (ومن خزى يومئذ) * قرئ مفتوح الميم (4) ، لأنه مضاف إلى ( إذ ) وهو غير متمكن ، كقوله : على حين عاتبت المشيب على الصبا (5) وقرئ مكسور الميم ، لأنه اسم معرب فانجر بالإضافة ، والمعنى : و * (نجينا) * هم من خزي ذلك اليوم ومهانته وذلته وفضيحته ، كما قال : * (ونجينهم من عذاب غليظ) * (6) ، ولا خزي أعظم من خزي من كان هلاكه بغضب الله وبأسه .
وقرئ : * (إن ثمودا) * و * (لثمود) * بمنع الصرف وبالتنوين (7) في جميع القرآن ،
-------------------
(1) حكاه الزجاج في معاني القرآن : ج 2 ص 351 .
(2) وعجزه : قليل سوى الطعن النهال نوافله ، والبيت منسوب لرجل من عامر ، يفخر بشجاعته وكثرة غنائمه ، قال البغدادي : وهذا البيت من أبيات سيبويه الخمسين التي جهل قائلوها ، راجع كتاب سيبويه : ج 1 ص 178 ، وخزانة الأدب للبغدادي : ج 7 ص 181 وج 8 ص 202 .
(3) في نسخة : المنقول .
(4) قرأه الكسائي والأعشى ورجال نافع سوى إسماعيل ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 336 ، والتذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 459 .
(5) وعجزه : وقلت : ألما أصح والشيب وازع ، والبيت للنابغة الذبياني ، يذكر فيه بكاءه على الديار في حين مشيبه ، ومعاتبته لنفسه على طربه وصباه ، انظر ديوان النابغة : ص 80 .
(6) الآية : 58 .
(7) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ( ألا إن ثمودا ) بالتنوين ، وقرأ الكسائي وحده = (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 179 _
فالصرف لأنه اسم الحي أو الأب الأكبر ، ومنع الصرف للتعريف والتأنيث بمعنى القبيلة .
* (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ * فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ * يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) * * (رسلنا) * يعني : الملائكة ، وكانوا ثلاثة : جبرئيل وميكائيل وإسرافيل ، الصادق (عليه
السلام): ( كانوا أربعة ورابعهم ملك آخر ) (1) ، وقيل : كانوا تسعة (2) ، وقيل : أحد عشر (3) ، وكانوا على صور الغلمان * (بالبشرى) * هي البشارة بإسحاق .
وعن الباقر (عليه السلام) : ( إن هذه البشارة كانت بإسماعيل من هاجر ) (4) ، * (قالوا سلما) * أي : سلمنا عليك سلاما ، أو أصبت سلاما أي : سلامة * (قال) * إبراهيم * (سلم) * أي : أمركم سلام ، وقرئ : ( سلم ) (5) وهو بمعنى : سلام ، مثل حل وحلال
-------------------
= ( ألا بعدا لثمود ) بالخفض والتنوين ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 337 .
(1) تفسير العياشي : ج 2 ص 153 و 155 ح 46 و 53 .
(2) قاله الضحاك على ما حكاه عنه البغوي في تفسيره : ج 2 ص 392 .
(3) وهو قول السدي ، راجع الكشاف : ج 2 ص 409 .
(4) تفسير العياشي : ج 2 ص 152 ح 44 .
(5) قرأه حمزة والكسائي ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 337 .
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_180 _
وحرم وحرام ، قال الشاعر : مررنا فقلنا : إيه سلم فسلمت * كما اكتل بالبرق الغمام اللوائح (1) * (فما لبث أن جاء بعجل) * أي : فما لبث في المجئ بل عجل فيه ، أو فما لبث مجيئه ، والحنيذ : المشوي بالحجارة المحماة في أخدود من الأرض، وقيل : هو المشوي يقطر دسمه (2) ، ويدل عليه قوله : * (بعجل سمين) * (3) .
* (فلما رءآ) * إبراهيم أيدي الملائكة * (لا تصل) * إلى العجل الحنيذ ، أنكرهم ، يقال : نكره وأنكره واستنكره بمعنى ، وإنما أنكرهم ، لأنه خاف أن يكونوا نزلوا لأمر أنكره الله من قومه ، ولذلك * (قالوا لا تخف إنآ أرسلنا إلى قوم لوط) * ، * (وأوجس) * أي : أضمر * (منهم) * خوفا .
* (وامرأته قائمة) * وراء الستر تسمع تحاورهم ، وقيل : كانت قائمة تخدمهم (4) * (فضحكت) * سرورا بزوال الخيفة ، أو بهلاك أهل الخبائث ، وقيل : * (فضحكت) * حاضت (5)(6) ، وهي سارة ، وكانت ابنة عم إبراهيم * (فبشرنها بإسحق) * بنبي بين نبيين ، والوراء : ولد الولد ، وقرئ : *(يعقوب) * بالنصب ، كأنه قال : ووهبنا لها إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ، على طريقة قوله : مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة * ولا ناعب إلا بشؤم غرابها (7)
-------------------
(1) البيت لذي الرمة ، ومعناه : قلنا : سلمي واستأنسي فأمرنا سلم ، أي : نحن سالمون
مستأنسون ومؤانسون ، انظر ديوان ذي الرمة : ص 625 وفيه : ( مررن ) .
(2) قاله السدي وشمر بن عطية وسفيان ووهب بن منبه ، راجع تفسير الطبري : ج 7 ص 69 .
(3) الذاريات : 26 .
(4) قاله مجاهد على ما حكاه الماوردي في تفسيره : ج 2 ص 484 .
(5) قاله مجاهد وعكرمة ، راجع تفسير الماوردي : ج 2 ص 484 .
(6) قال الزجاج : فأما من قال : ضحكت : حاضت ، فليس بشئ ، وقال الفراء : فلم نسمعه من ثقة ، انظر معاني القرآن للزجاج : ج 3 ص 62 ، ومعاني القرآن للفراء : ج 2 ص 22 .
(7) البيت للأخوص اليربوعي ، فأراد بقوله : ( مشائيم ) بني دارم بن مالك ، وهو من قصيدة = (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_181 _
ومن قرأ: ( يعقوب ) بالرفع (1) فارتفاعه بالابتداء أو بالظرف .
والألف في * (يويلتى) * مبدلة من ياء الإضافة ، وكذا في ( يا عجبا ) و ( يا لهفا ) ، * (شيخا) * نصب على الحال ، والعامل فيه معنى الإشارة ، وكان لها ثمان وسبعون (2) سنة ولإبراهيم مائة سنة * (إن هذا لشئ عجيب) * أن يولد ولد بين هرمين .
* (رحمة الله وبركته عليكم أهل البيت) * أي : إن هذه وأمثالها مما يكرمكم الله به يا أهل بيت النبوة ، فليس هذا مكان عجب ، وقيل : الرحمة : النبوة ، والبركات : الأسباط من بني إسرائيل ، لأن الأنبياء منهم (3) ، * (حميد) * فاعل لما يستحق به الحمد من عباده * (مجيد) * كريم كثير الإحسان إليهم ، و * (أهل البيت) * نصب على النداء ، أو على المدح .
* (فلما ذهب عن إبراهيم الروع) * أي : لما اطمأن قلبه بعد الخوف وملئ سرورا بسبب البشرى بدل الغم ، فرغ للمجادلة ، وجواب ( لما ) محذوف تقديره : اجترأ على خطابنا ، أو قال : كيت وكيت ، ثم استأنف * (يجدلنا في قوم لوط) * وقيل : إن * (يجدلنا) * جواب ( لما ) ، وإنما جئ به مضارعا لحكاية الحال (4) ، وقيل : إن ( لما ) يرد المضارع إلى معنى الماضي ، كما أن (إن ) ترد الماضي إلى معنى لاستقبال (5) ،
-------------------
=
يذم الدارميين وينسبهم الى الشؤم وقلة الصلاح والخير ، ذلك انهم هربوا قاتلا كان
بنو يربوع قد أودعوه عندهم بعدما كفلوه ، ثم ادعوا أنه قد هرب وهذه ديته ، فلما سمعهم
الأخوص يذكرون الدية قال : دعوني أتكلم ، فقال هذه الأبيات ، انظر خزانة الأدب
للبغدادي : ج 4 ص 158 وما بعدها وج 8 ص 295 و 554 ، وفيهن ( ببين ) بدل ( بشؤم ) .
(1) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي ، راجع كتاب السبعة في القراءات : ص 338 .
(2) في نسخة : تسعون .
(3) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 411 .
(4) اختاره الزجاج في معاني القرآن : ج 3 ص 64 .
(5) قاله النحاس في اعراب القرآن : ج 2 ص 295 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 182_
وقيل : معناه : أخذ يجادلنا ، أو أقبل يجادلنا (1) ، أي : يجادل رسلنا * (في قوم لوط) * أي : في معناهم ، ومجادلته إياهم أنه قال لهم : إن كان فيها خمسون من المؤمنين أتهلكونهم ؟ قالوا : لا ، قال : فأربعون ؟ قالوا : لا ، فما زال ينقص حتى قال : فواحد ؟ قالوا : لا ، ف * (قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله) * (2) .
* (إن إبراهيم لحليم) * غير عجول على من أساء إليه * (أوا ه) * كثير الدعاء *(منيب) * راجع إلى الله بما يحب ويرضى ، وفيه بيان : أن هذه الصفات مما حمله (3) على المجادلة فيهم ، رجاء أن يرفع العذاب عنهم .
* (يإبرا هيم) * على إرادة القول ، أي : قالت له الملائكة : * (أعرض عن هذا) * الجدال وإن كانت الرحمة دأبك ، فلا فائدة فيه * (إنه قد جاء أمر ربك) * أي : قضاؤه وحكمه الذي لا يصدر إلا عن حكمة ، والعذاب نازل بهم لا محالة لامرد له بجدال ولا غيره .
* (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ * قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)
-------------------
(1) وهو قول الفراء في معاني القرآن : ج 2 ص 23 .
(2) العنكبوت : 32 .
(3) في بعض النسخ : حملته . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_183 _
* يعني : ساء * (لوطا) * مجئ الرسل * (وضاق) * بمجيئهم ذرعه ، وذلك لأنه
حسب أنهم آدميون ورأى حسن صورتهم وجمال جملتهم ، فخاف عليهم خبث قومه وسوء سيرتهم ، و
* (يوم عصيب) * وعصبصب : شديد ، من عصبه : إذا شده .
وروي (1) : أن لوطا قد تقدمهم وهم يمشون خلفه إلى المنزل ، فقال في نفسه : أي شئ صنعت ؟ آتي بهم قومي وأنا أعرفهم ؟ ! فالتفت إليهم وقال : إنكم لتأتون شرار خلق الله، وكان الله سبحانه قال لجبرئيل : لاتهلكهم حتى يشهد (2) عليهم ثلاث شهادات ، فقال جبرئيل : هذه واحدة ، ثم مشى لوط ، ثم
التفت إليهم ثانيا وقال ذلك ، ثم التفت ثالثة عند باب المدينة وقال ذلك ، فقال
جبرئيل : هذه الثلاثة ، فدخلوا معه منزله ولم يعلم بذلك أحد ، فصعدت امرأته فوق السطح
فصفقت ، فلم يسمعوا ، فدخنت ، فلما رأوا الدخان أقبلوا * (يهرعون إليه) * أي : يسرعون
كما (3) يدفعون دفعا * (ومن قبل) * ذلك الوقت * (كانوا يعملون) * الفواحش فضروا (4) بها ومرنوا عليها * (قال) * لوط * (هؤلاء بناتى) * فتزوجوهن ، وكان تزويج المسلمات من الكفار جائزا ، كما زوج رسول الله (صلى الله عليه وآله) ابنتيه من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن الربيع قبل أن يسلما وهما كافران ، وقيل : كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه (5) * (هن أطهر لكم) * أي : أحل لكم من الرجال * (فاتقوا الله) *
-------------------
(1) انظر الكافي : ج 5 ص 546 ـ 547 ح 6 قطعة .
(2) في بعض النسخ : تشهد .
(3) في بعض النسخ : كأنما .
(4) ضري الكلب بالصيد يضرى ضراوة ، أي : تعود ، (الصحاح : مادة ضري) .
(5) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 414 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 184 _
في مواقعة الذكور * (ولا تخزون) * أي : لا تفضحون ، من الخزي ، أو : لاتخجلون ، من الخزاية وهي الحياء * (في ضيفي) * في حق أضيافي (1) ، فإنه إذا خزي ضيف الرجل أو جاره فقد خزي الرجل ، وذلك من الكرم * (أليس منكم رجل رشيد) * رجل واحد يهتدي إلى سبيل الرشد في الكف عن القبيح .
* (قالوا لقد علمت مالنا في بناتك من حق) * لأنا لانتزوجهن ، أو مالنا فيهن من حاجة لأنا نرغب عن نكاح الإناث * (وإنك لتعلم ما نريد) * عنوا إتيان الذكور .
وجواب * (لو) * محذوف ، يعني : * (لو أن لى بكم قوة) * لفعلت بكم وصنعت ، أي : لو قويت عليكم بنفسي * (أو) * أويت * (إلى) * قوي أمتنع به منكم لدفعتكم عن أضيافي ، فشبه القوي العزيز بالركن من الجبل في شدته ومنعته ، ولذلك قال جبرئيل : إن ركنك لشديد ، افتح الباب ودعنا وإياهم ، ففتح الباب ودخلوا ، فضرب جبرئيل بجناحه وجوههم وطمس أعينهم فأعماهم .
قالت الملائكة : * (إنا رسل ربك) * أرسلنا لهلاكهم فلا تغتم * (لن يصلوا إليك) * بسوء أبدا * (فأسر بأهلك) * قرئ بالقطع والوصل (2) ، أي : سر بأهلك ليلا ، والقطع : القطعة العظيمة من الليل ، كأنما قطع بنصفين * (ولا يلتفت منكم أحد) * أي : ولا يتخلف منكم أحد ، أو لا ينظر أحد منكم وراءه (3) ، والأول أوجه * (إلا امرأتك) * قرئ بالنصب والرفع (4) ، وروي : أنه قال : متى موعد
إهلاكهم ؟ قالوا : * (الصبح) * فقال : أريد أسرع من ذلك ، لضيق صدره بهم ، فقالوا : *
(أليس الصبح بقريب) * (5) .
-------------------
(1) إذ ( الضيف ) يقع على الواحد والاثنين والجماعة .
(2) بالوصل قرأه ابن كثير ونافع ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 338 .
(3) وهو قول مجاهد على ما حكاه عنه القرطبي في تفسيره : ج 9 ص 80 .
(4) بالرفع قرأه ابن كثير وأبو عمرو ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 338 .
(5) رواه السمرقندي في تفسيره : ج 2 ص 138 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_185 _
* (جعلنا عليها سافلها) * جعل جبرئيل جناحه في أسفلها ثم رفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة ، ثم قلبها عليهم ، وأتبعوا الحجارة من فوقهم * (من سجيل) * هي كلمة معربة من : سنك كل ، بدليل قوله : * (حجارة من طين) * (1) ، * (منضود) * نضد في السماء نضدا معدا للعذاب ، وقيل : أرسل بعضه في أثر بعض متتابعا (2) .
* (مسومة) * معلمة للعذاب * (وماهي من) * كل ظالم * (ببعيد) * ، وفيه وعيد لكفار قريش .
* (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ * قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ * وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) * (إنى أربكم بخير) * أي : برخص من السعر وثروة وسعة (3) تغنيكم عن
-------------------
(1) الذاريات : 33 .
(2) قاله الربيع ، راجع تفسير الماوردي : ج 2 ص 493 .
(3) في بعض النسخ : ووسعة . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 186_
التطفيف ، أو : أراكم بخير ونعمة من الله فلاتزيلوه عنكم بما أنتم عليه * (يوم محيط) * مهلك من قوله : * (وأحيط بثمره) * (1) ، وأصله من إحاطة العدو ، وصف ( اليوم ) به لأن الزمان يشتمل على ما يحدث فيه .
والبخس : النقص والهضم .
* (ولا تعثوا في الارض مفسدين) * نهي عن السرقة والغارة وقطع السبيل .
* (بقيت الله) * ما يبقي لكم من الحلال بعد التنزه عما هو حرام عليكم * (خير لكم إن كنتم مؤمنين) * أي : بشرط الإيمان لظهور فائدتها مع الإيمان من حصول الثواب مع النجاة من العقاب ، أو يريد : إن كنتم مصدقين لي في نصيحتي لكم * (وما أنا عليكم بحفيظ) * أحفظ أعمالكم (2) وأجازيكم عليها ، إنما أنا نذير ناصح لكم .
كان شعيب كثير الصلوات فقصدوا بقولهم : * (أصلوتك تأمرك) * الهزء ، والمعنى : أصلواتك التي تداوم عليها تأمرك بتكليف * (أن نترك ما يعبد ءابآؤنآ أو أن) * نترك فعل * (مانشؤا) * في أموالنا ؟ فحذف المضاف ، لأن الإنسان لا يؤمر بفعل غيره ، وقرئ : * (أصلوا تك) * على التوحيد (3) ، * (إنك لانت الحليم الرشيد) * أرادوا بذلك نسبته إلى غاية السفه والغي ، فعكسوا ليتهكموا به .
* (ورزقني منه) * أي : من لدنه * (رزقا حسنا) * وهو ما رزقه من النبوة والحكمة ، وقيل : أراد رزقا حلالا طيبا من غير بخس (4) ، وجواب * (أرءيتم) * محذوف ، والمعنى : أخبروني * (إن كنت على) * حجة واضحة ويقين * (من ربى) * وكنت نبيا على الحقيقة : أيصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن القبائح والأنبياء لايبعثون إلا لذلك ؟ ! * (وما أريد أن أخالفكم إلى مآأنهيكم عنه) *
-------------------
(1) الكهف : 42 .
(2) في بعض النسخ زيادة : عليكم .
(3) يظهر من عبارة المصنف أنه يعتمد على القراءة بالجمع كما هو ظاهر .
(4) قاله الضحاك ، راجع تفسير الماوردي : ج 2 ص 497 .
(*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 187 _
معناه : وما أريد أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم * (إن أريد) * أي : ما أريد * (إلا الاصلح) * وهو أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي * (ما استطعت) * ظرف ، أي : مدة استطاعتي للإصلاح ومادمت متمكنا منه ، أو بدل من * (الاصلح) * أي : المقدار الذي استطعت منه ، ويجوز أن يكون مفعولا * (الاصلح) * كقوله : ضعيف النكاية أعداءه (1) أي : ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم * (وما توفيقي إلا بالله) * وما كوني موفقا لإصابة الحق فيما آتي وأذر إلا بمعونته وتوفيقه ، والمعنى : أنه استوفق ربه في إمضاء أمره على رضاء الله، وطلب منه التأييد والنصر على عدوه ، وفي ضمنه تهديد للكفار وحسم لأطماعهم منه .
* (لا يجرمنكم) * لا يكسبنكم * (شقاقي) * أي : خلافي وعداوتي إصابة العذاب * (وما قوم لوط منكم ببعيد) * يعني : أنهم أهلكوا في عهد قريب من عهدكم فهم أقرب الهالكين منكم .
* (رحيم ودود) * عظيم الرحمة متودد إلى عباده بكثرة الإنعام عليهم ، مريد لمنافعهم .
* (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ * وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتْ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ)
-------------------
(1) وعجزه : يخال الفرار يراخي الأجل ، لم نعثر على قائله ، ذكره سيبويه ضمن شواهده ، وبه يهجو الشاعر رجلا ويصفه بالجبن والضعف ، وأنه دائما يلجأ الى الفرار ويظنه مؤخرا لأجله ، انظر كتاب سيبويه : ج 1 ص 192 ، وخزانة الأدب للبغدادي : ج 8 ص 127 .
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 188_
* * (ما نفقه) * أي : ما نفهم * (كثيرا مما تقول) * وكانوا يفهمونه ولكنهم لم يقبلوه ، فكأنهم لم يفقهوه * (وإنا لنربك فينا ضعيفا) * لاقوة لك ولاعز فيما بيننا فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا بك مكروها * (ولولا رهطك لرجمنك) * أي : قتلناك شر قتلة ، والرهط : من الثلاثة إلى العشرة * (ومآأنت علينا بعزيز) * فندع قتلك لعزتك علينا ، ولكن لم نقتلك لأجل قومك ، والمراد : ما أنت بعزيز علينا بل رهطك هم الأعزة علينا ، ولذلك قال في جوابهم : * (أرهطى أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا) * ونسيتموه وجعلتموه كالشئ المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به ، والظهري منسوب إلى الظهر ، والكسر من تغييرات النسب * (إن ربى بما تعملون محيط) * قد أحاط بأعمالكم علما ، فلا يخفي عليه شئ منها .
* (اعملوا على مكانتكم) * المكانة : إما مصدر من مكن مكانة فهو
مكين ، أو اسم المكان ، يقال : مكان ومكانة ، والمعنى : اعملوا قارين على مكانكم الذي
أنتم عليه من الشرك والعداوة لي ، أو اعملوا متمكنين من عداوتي مطيقين (1) لها * (إنى عمل) * على حسب ما يؤتيني الله من النصرة والتأييد ويمكنني * (سوف تعلمون من يأتيه) * يجوز أن يكون * (من) * استفهامية معلقة لفعل (2) العلم عن عمله فيها ، كأنه قال : سوف تعلمون أينا يأتيه * (عذاب يخزيه و) * أينا * (هو كذب) *، ويجوز أن تكون موصولة ، والمعنى : سوف تعلمون الشقي الذي يأتيه
-------------------
(1) في نسخة : مطبقين .
(2) في بعض النسخ : بفعل . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_189_
عذاب يخزيه والذي هو كاذب * (وارتقبوا) * وانتظروا العاقبة * (إنى معكم رقيب) * منتظر ، والرقيب بمعنى الراقب أو بمعنى المراقب أو بمعنى المرتقب ، الجاثم : اللازم لمكانه لا يريم (1) .
روي : أن جبرئيل صاح بهم صيحة فزهق روح كل واحد منهم حيث هو
(2) .
* (كأن لم يغنوا) * كأن لم يقيموا * (في ديرهم) * أحياء متصرفين مترددين .
* (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) * * (بايتنا) * أي : بحججنا ومعجزاتنا * (وسلطن مبين) * وحجة ظاهرة مخلصة من التلبيس والتمويه .
* (وما أمر فرعون برشيد) * أي : ما في أمره رشد ، إنما هو غي وضلال . * (يقدم قومه يوم القيمة) * يتقدمهم إلى النار وهم يتبعونه كما كان لهم
-------------------
(1) رام يريم ريما : برح وزال ، (القاموس المحيط : مادة رام) .
(2) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 425 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 190 _
قدوة في الضلال .
ويجوز أن يريد بقوله : * (وما أمر فرعون برشيد) * وما أمره بصالح
العاقبة حميدها ، ويكون قوله : * (يقدم قومه) * تفسيرا لذلك وإيضاحا * (فأوردهم
النار) * أتي بلفظ الماضي لأن الماضي يدل على أمر موجود مقطوع به ، والمراد : يقدمهم
فيوردهم النار لا محالة * (وبئس الورد) * الذي يردونه : النار ، لأن الورد إنما يراد
لتسكين العطش وتبريد الأكباد والنار ضده ، والورد : الماء الذي يورد ، والإبل الواردة أيضا .
* (وأتبعوا في هذه) * أي : في الدنيا * (لعنة و) * يلعنون * (يوم القيمة بئس الرفد المرفود) * رفدهم ، أي : بئس العون المعان ، وذلك أن اللعنة في الدنيا رفد
للعذاب ومدد له وقد رفدت باللعنة في الآخرة ، وقيل : بئس العطاء المعطى (1) .
* (ذلك من أنباء القرى) * أي : ذلك النبأ بعض أنباء القرى المهلكة * (نقصه عليك) * خبر بعد خبر * (منها) * الضمير ل * (القرى) * أي : بعضها * (قائم) * أي : باق وبعضها عافي الأثر ، كالزرع القائم على ساقه والمحصود ، وهذه جملة مستأنفة لامحل لها .
* (وما ظلمنهم) * بإهلاكنا * (ولكن ظلموا أنفسهم) * بارتكاب ما به أهلكوا * (فمآأغنت عنهم ءالهتهم) * فما قدرت أن ترد عنهم بأس الله * (التي يدعون) * أي : يعبدونها ، وهي حكاية حال ماضية * (لما جاء أمر ربك) * أي : عذابه ونقمته ، و * (لما) * منصوب ب * (مآأغنت) * ، والتتبيب : التخسير، ومنه تببه : أوقعه في الخسران .
* (وكذلك) * الكاف مرفوع المحل ، أي : ومثل ذلك الأخذ * (أخذ ربك ... القرى) * ، * (وهي ظلمة) * حال من * (القرى) * ، * (أليم شديد) * وجيع صعب على
-------------------
(1) قاله القتبي على ما حكاه عنه السمرقندي في تفسيره : ج 2 ص 141 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_191 _
المأخوذ ، حذر سبحانه من وخامة عاقبة الظلم لكل أهل قرية ظالمة ، بل لكل ظالم ظلم غيره أو نفسه .
* (إن في ذلك) * إشارة إلى ما قص الله من قصص الأمم الهالكة بذنوبها
* (لاية) * لعبرة * (لمن خاف) * لأنه ينظر إلى ما أحل الله بالمجرمين في الدنيا ،
وهو أنموذج لما أعده لهم في الآخرة ، فإذا رأى عظمه وشدته اعتبر به عظم العذاب
الموعود في الآخرة فيكون له لطفا في زيادة الخشية ، ونحوه : * (إن في ذلك لعبرة ذلك
لمن يخشى) * (1) ، * (ذلك) * إشارة إلى يوم القيامة يدل عليه قوله : * (عذاب الاخرة) * ، و * (الناس) * رفع باسم المفعول الذي هو * (مجموع) * كما يرفع بفعله إذا قلت : يجمع له الناس ، أي : * (ذلك يوم) * موصوف بأن يكون موعدا لجمع الناس له صفة لازمة * (ذلك يوم مشهود) * أي : مشهود فيه ، يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد ، قال الشاعر : في محفل من نواصي الناس مشهود (2) الأجل يطلق على مدة التأجيل وعلى منتهاها ، فيقولون : انتهى الأجل ، وبلغ الأجل آخره ، ويقولون : حل الأجل ، * (فإذا جاء أجلهم) * (3) يراد آخر مدة التأجيل ، والعد إنما هو للمدة لالغايتها ومنتهاها ، فالمعنى : مايؤخره (4) إلا لانتهاء مدة معدودة فحذف المضاف .
وقرئ : * (يوم يأت) * بغير ياء ، ونحوه قولهم : ( لاأدر ) بحذف الياء للاجتزاء
-------------------
(1) النازعات : 26 .
(2) وصدره : ومشهد قد كفيت الغائبين به ، البيت منسوب لام قبيس الضبية ، وهو من أبيات الحماسة والفخر ، تقول : رب مشهد مشهود أو محفل ملتئم من أشراف الناس ورؤسائهم قد كفيت الغائبين بالنطق عنهم ، فكشفت الغمة واثبتت الحجة وقلت الصواب عنهم ، انظر شرح شواهد الكشاف للأفندي : ص 376 .
(3) فاطر : 45 .
(4) في بعض النسخ : نؤخره . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 192_
بالكسرة عنها ، وفاعل * (يأت) * : الله عزوجل ، لقوله : * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) * (1) ، * (وجاء ربك) * (2) ، ويدل عليه قراءة من قرأ : ( وما يؤخره ) بالياء (3) وقوله : * (بإذنه) * ، ويجوز أن يكون الفاعل ضميرا ل * (يوم) * (4) كقوله : * (هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم) * (5) ، وانتصب الظرف ب * (لاتكلم) * أي : لا تتكلم ، والمراد بإتيان اليوم : إتيان هوله وشدائده * (فمنهم) * الضمير لأهل الموقف ، ولم يذكروا ، لأن ذلك معلوم .
* (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ * فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) * الزفير : إخراج النفس ، والشهيق : رده (6) قال الشماخ (7) :
-------------------
(1) البقرة : 210 .
(2) الفجر : 22 .
(3) وهي قراءة المفضل والأعمش ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 461 .
(4) راجع تفصيله في الفريد في اعراب القرآن للهمداني : ج 2 ص 666 - 667 .
(5) الزخرف : 66 .
(6) قال الطريحي : شهيق الحمار : آخر صوته ، والزفير : أوله ، شبه حسيسها المفضع بشهيق الحمار الذي هو كذلك ، وشهق الرجل : ردد نفسه مع سماع صوته من حلقه ، مجمع البحرين : ج 5 ص 197 مادة (شهق) .
(7) هو الشماخ بن ضرار المازني الغطفاني ، شاعر مخضرم ، عاش اكثر حياته في العصر = (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_193 _
بعيد مدى التطريب أول صوته * زفير ويتلوه شهيق محشرج (1) * (مادامت السموات والارض) * يعني : المبدلتين ، أي : مادامت سماوات الآخرة وأرضها وهي مخلوقة للأبد ، وكل ماعلاك وأظلك فهو سماء ، ولابد لأهل الآخرة مما يظلهم ويقلهم ، وقيل : إن ذلك عبارة عن التأبيد (2) كقول العرب : ( مالاح كوكب وما أقام ثبير ورضوى ) ، وغير ذلك من كلمات التأبيد * (إلا ما شاء ربك) * هو استثناء من الخلود في عذاب النار ومن الخلود في نعيم الجنة ، وذلك أن أهل النار لايعذبون بالنار وحدها ، بل يعذبون بأنواع من العذاب ، وبما هو أغلظ من الجميع وهو سخط الله عليهم وإهانته إياهم ، وكذلك أهل الجنة لهم سوى الجنة مما هو أكبر منها وهو رضوان الله وإكرامه وتبجيله ، فهو المراد بالاستثناء ، وقيل : المراد بالاستثناء من * (الذين شقوا) * وخلودهم : من شاء الله أن يخرجه من النار بتوحيده وإيمانه لإيصال الثواب الذي استحقوه بطاعتهم إليهم (3) ، ويكون ( ما ) بمعنى ( من ) ، كما يروى عن العرب : ( سبحان ما سبحت له ) يقولونه عند سماع الرعد ، وكقوله : * (سبح لله ما في السموات وما في الارض) * (4) ، والمراد بالاستثناء من * (الذين سعدوا) * وخلودهم في الجنة أيضا : هؤلاء الذين ينقلون إلى الجنة من النار ، والمعنى : * (خلدين فيها ... إلا ما شآء ربك) * من الوقت الذي أدخلهم فيه النار قبل أن ينقلهم الى الجنة ، ف * (ما) * هاهنا على بابه والاستثناء
-------------------
= الاسلامي ، أقام في المدينة المنورة كثيرا ، وقيل : إنه أنشد شعرا امام الرسول (صلى
الله عليه وآله) ، توفي في خلافة عثمان ، انظر الاغاني لأبي فرج الاصفهاني : ج 9 ص
158 .
(1) يصف فيه حمار وحش بحسن الصوت وطول النفس ، انظر شرح شواهد الكشاف للافندي : ص 355 .
(2) حكاه البغوي في تفسيره : ج 2 ص 402 ونسبه الى أهل المعاني .
(3) قاله ابن عباس والضحاك وقتادة ، ويرويه أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله) ، راجع تفسير الماوردي : ج 2 ص 505 .
(4) الحشر : 1 ، الصف : 1 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 194_
من الزمان ، والاستثناء في الأول من الأعيان .
وعن قتادة : الله أعلم بثنياه (1) ، ذكر لنا أن ناسا يصيبهم سفع (2) من النار بذنوبهم ثم يتفضل الله عليهم فيدخلهم الجنة ، يسمون الجهنميين ، وهم الذين أنفذ فيهم الوعيد ثم أخرجوا بالشفاعة (3) .
وقرئ : * (سعدوا) * بضم السين ، ويكون على هذا أسعده الله فهو مسعود ، وسعد الرجل فهو سعيد ، ونحوه : حزن الرجل وحزنته * (عطاء غير مجذوذ) * أي : غير مقطوع ، ولكنه ممتد إلى غير نهاية .
ولما قص قصص الكفار وماحل بهم من نقمة الله سبحانه قال : * (فلاتك في مرية مما يعبد هؤلاء) * أي : فلا تشك بعد ما أنزل عليك من هذه القصص في سوء عاقبة عبادتهم للأوثان ، وتعرضهم بها لما أصاب أمثالهم قبلهم ، تسلية لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ووعدا له بالانتقام منهم ووعيدا لهم * (ما يعبدون إلا كما يعبد
أآباؤهم من قبل) * أي : حالهم في الشرك مثل حال آبائهم من غير تفاوت بين الحالتين ،
فسينزل بهم مثل ما نزل بآبائهم ، وهو استئناف معناه : تعليل النهي عن المرية * (وإنا
لموفوهم نصيبهم) * أي : حظهم من العذاب كما وفينا آباءهم أنصباءهم .
* (فاختلف فيه) * أي : آمن به قوم وكفر به قوم ، كما اختلف في القرآن * (ولولا كلمة) * يعني : كلمة الإنظار إلى يوم القيامة * (لقضى) * بين قوم موسى أو بين قومك، وهذا من جملة التسلية أيضا .
* (وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ) *
-------------------
(1) في مجمع البيان بلفظ : بمشيئته ، قال الجوهري : الثنيا : الاسم من الاستثناء وكذا
الثنوى ، انظر الصحاح : مادة (ثنى) .
(2) سفعته النار : إذا أحرقته إحراقا يسيرا فغيرت لون البشرة ، (الصحاح : مادة سفع) .
(3) حكاه عنه عبد الرزاق في تفسيره: ج 1 ص 273.
(*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 195 _
(وإن كلا) * التنوين عوض عن المضاف إليه ، يعني : وإن كلهم أي : جميع المختلفين فيه * (ليوفينهم) * جواب قسم محذوف ، واللام في * (لما) * موطئة للقسم و ( ما ) مزيدة ، والمعنى : وإن جميعهم والله ليوفينهم * (ربك أعملهم) * من حسن وقبيح وإيمان وكفر ، وقرئ : ( وإن كلا ) بالتخفيف (1) على إعمال المخففة عمل الثقيلة اعتبارا لأصلها الذي هو الثقيل ، وقرئ : * (لما) * بالتشديد مع * (إن) * الثقيلة والخفيفة ، وكلاهما مشكل عند النحويين ، إذ ليس يجوز أن يراد ب * (لما) * معنى الحين ، ولا معنى ( إلا ) كالتي في قولهم : نشدتك الله لما فعلت وإلا فعلت ، ولا معنى ( لم ) ، وأحسن ما يصرف إليه أن يقال : إنه أراد ( لما ) من قوله : * (أكلا لما) * (2) ، ثم وقف فقال : * (لما) * ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، ويكون المعنى : وإن كلا ملمومين يعني : مجموعين ، كأنه قال : وإن كلا جميعا ، كقوله : * (فسجد الملئكة كلهم أجمعون) * (3) ، ويجوز أن يكون * (لما) * مصدرا على زنة فعلى ، مثل : الدعوى والشروى .
* (فاستقم كمآ أمرت) * أي : فاستقم استقامة مثل الاستقامة التي أمرت بها على جادة الحق غير عادل عنها * (ومن تاب معك) * عطف على الضمير المستكن في ( استقم ) ، وجاز ذلك من غير تأكيد بالضمير المنفصل لأن الفاصل قام (4) مقامه ،
-------------------
(1) قرأ ابن كثير ونافع (الحرميان) بتخفيف ( إن ) و ( لما ) ، وقرأ أبو عمرو
والكسائي بتشديد الاولى وتخفيف الثانية ، وأما أبو بكر عن عاصم فقد قرأ بتخفيف
الاولى وتشديد الثانية ، راجع التبيان : ج 6 ص 73 ـ 74 ، والتذكرة في القراءات لابن
غلبون : ج 2 ص 461 .
(2) الفجر : 19 .
(3) الحجر : 30 .
(4) في بعض النسخ : قائم . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 196 _
والمعنى : فاستقم أنت وليستقم من تاب عن الكفر وآمن معك * (ولا تطغوا) * ولا تخرجوا عن حدود الله * (إنه بما تعملون بصير) * عالم فهو مجازيكم به .
وعن الصادق (عليه السلام) : ( * (فاستقم كمآ أمرت) * أي: افتقر إلى الله بصحة العزم ) (1) .
وعن ابن عباس : ما نزلت آية كانت أشق على رسول الله (صلى الله عليه وآله) من هذه الآية (2) ، ولهذا قال : ( شيبتني هود والواقعة وأخواتها ) (3) .
* (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) * ولا تميلوا إلى الذين وجد منهم الظلم ، والنهي متناول للدخول معهم في ظلمهم ، وإظهار الرضا بفعلهم ومصاحبتهم ومصادقتهم ومداهنتهم ، وعن الحسن : جعل الله الدين بين لاين : * (لا تطغوا) * و * (لا تركنوا) * (4) .
وفي الحديث : ( من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه ) (5) .
* (ومالكم من دون الله من أولياء) * حال من قوله : * (فتمسكم النار) * أي : فتمسكم النار وأنتم على هذه الحال ، ومعناه : ومالكم من أنصار يقدرون على منعكم من عذابه غيره * (ثم) * لاينصركم هو .
* (وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ)
-------------------
(1) أخرجه الطبري في تفسيره : ج 7 ص 115 .
(2) حكاه عنه القرطبي في تفسيره : ج 9 ص 107 .
(3) قد تواتر هذا الحديث عنه (صلى الله عليه وآله) بهذا اللفظ أو قريب منه من
طرق الخاصة والعامة ، نذكر على سبيل المثال : أمالي الشيخ الصدوق : ج 1 ص 194 ، الخصال : ص 199 ، المعجم الكبير للطبراني : ج 6 ص 138 وج 17 ص 287 ، المصنف لابن أبي شيبة : ج 10 ص 554 ، وغيرها .
(4) تفسير الحسن البصري : ج 2 ص 22 .
(5) اتحاف السادة المتقين للزبيدي : ج 6 ص 133 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 197_
* * (طرفي النهار) * غدوة وعشية * (وزلفا من اليل) * وساعات من الليل ، وهي ساعته (1) القريبة من آخر النهار ، من أزلفه : إذا قربه ، وصلاة الغدوة : صلاة الفجر ، وصلاة العشية : المغرب ، وصلاة الزلف : العشاء الآخرة ، وترك ذكر الظهر والعصر ، لأنهما مذكوران على التبع للطرف الأخير لأنهما بعد الزوال ، وقد قال سبحانه : * (أقم الصلوة لدلوك الشمس إلى غسق اليل) * (2) ، والدلوك :
الزوال ، وقرئ : ( وزلفا ) بضمتين (3) * (إن الحسنت يذهبن السيات) * قيل : معناه : إن الصلوات الخمس تكفر ما بينها من الذنوب (4) ، لأن * (الحسنت) * معرفة باللام ، وقد تقدم ذكر الصلوات .
وعن علي (عليه السلام) : ( أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال :
أرجى آية في كتاب الله هذه الآية ) (5) .
وقيل : * (إن الحسنت) * يكن لطفا في ترك * (السيات) * (6) ، * (ذلك) * إشارة إلى قوله : * (فاستقم) * وما بعده * (ذكرى للذا كرين) * : عظة للمتعظين .
* (واصبر) * على الامتثال بما أمرت به ، والانتهاء عما نهيت عنه * (فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) * .
وهذه الآيات اشتملت على الاستقامة ، وإقامة الصلوات ، والانتهاء عن الطغيان والركون إلى الظلمة ، وغير ذلك من الطاعات .
* (فلولا كان) * أي : فهلا كان * (من القرون من قبلكم أولوا بقية) * أي : أولو
-------------------
(1) في نسخة ، ساعاته .
(2) الاسراء : 78 .
(3) وهي قراءة أبي جعفر المدني وابن اسحاق وعيسى على ما حكاه عنهم ابن خالويه في شواذ القرآن : ص 66 .
(4) قاله ابن عباس وابن مسعود والحسن والضحاك ، راجع تفسير الماوردي : ج 2 ص 509 .
(5) تفسير العياشي : ج 2 ص 161 ح 74 قطعة .
(6) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 435 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 198_
فضل وخير ، وسمي الفضل والجودة بقية ، لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله ، فصار مثلا في الجودة والفضل ، ويقال : فلان من بقية القوم أي : من خيارهم ، وقد تكون البقية بمعنى : البقوى ، وعلى ذلك فيكون معناه : فهلا كان منهم ذوو بقاء على أنفسهم ، وصيانة لها من سخط الله وعقابه * (إلا قليلا) * استثناء منقطع معناه : ولكن قليلا * (ممن أنجينا منهم) *، و ( من ) للبيان * (واتبع الذين ظلموا مآأترفوا فيه) * أراد ب * (الذين ظلموا) * تاركي النهي عن المنكرات ، أي : اتبعوا ماعودوا من التنعم وطلب أسباب العيش الهنئ ، ورفضوا ما وراء ذلك .
* (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ * وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) * * (كان) * بمعنى : صح واستقام ، واللام لتأكيد النفي ، و *
(بظلم) * حال عن الفاعل ، والمعنى : استحال في الحكمة أن يهلك الله * (القرى) * ظالما
* (وأهلها) * قوم * (مصلحون) * تنزيها لذاته عن الظلم ، وإيذانا بأن إهلاك المصلحين
ظلم (1) ، وقيل : الظلم : الشرك (2) ، أي : لا يهلك القرى بسبب شرك أهلها وهم مصلحون
-------------------
(1) في بعض النسخ زيادة : مستحيل عليه .
(2) قاله ابن عباس على ما حكاه عنه السمرقندي في تفسيره : ج 2 ص 146 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_199_
يتعاطون الحق فيما بينهم ، ولا يضمون إلى ظلمهم فسادا آخر .
* (ولو شآء ربك) * لاضطر * (الناس) * إلى أن يكونوا أهل * (أمة وا حدة) * أي : ملة واحدة وهي ملة الإسلام ، ولكنه مكنهم من الاختيار ليستحقوا الثواب ، فاختار بعضهم الحق وبعضهم الباطل
فاختلفوا * (ولا يزالون مختلفين إلا) * ناسا هداهم الله ولطف بهم، فاتفقوا على دين
الحق غير مختلفين فيه * (ولذلك) *: " ذلك " إشارة إلى مادل عليه الكلام الأول،
يعني: ولذلك من التمكين والاختيار الذي كان عنه الاختلاف * (خلقهم) * ليثيب الذي
يختار الحق بحسن اختياره * (وتمت كلمة ربك) * وهي قوله للملائكة: * (لاملان جهنم من
الجنة والناس أجمعين) *. * (وكلا) * أي: وكل نبأ * (نقص عليك) *، و * (من أنباء
الرسل) * بيان ل * (كلا) * ، و * (ما نثبت به فؤادك) * بدل من * (كلا) *، ويجوز أن
يكون المعنى: وكل اقتصاص نقص ، على معنى : وكل نوع من أنواع الاقتصاص نقص عليك على
الأساليب المختلفة ، و * (ما نثبت) * مفعول * (نقص) * ، ومعنى تثبيت فؤاده : زيادة
يقينه وطمأنينة قلبه ، لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب * (وجاءك في هذه) * السورة ، أو في هذه الأنباء المقصوصة فيها ما هو حق * (وموعظة) * وتذكير .
* (اعملوا على مكانتكم) * على حالكم التي أنتم عليها * (إنا عملون) * .
* (وانتظروا) * بنا الدوائر * (إنا منتظرون) * أن ينزل بكم نحو ما قص الله من النقم النازلة بأمثالكم .
* (ولله غيب السموات والارض) * لا يخفي عليه خافية ، فلا يخفي عليه أعمالكم * (وإليه يرجع الامر كله) * فينتقم لك منهم * (فاعبده وتوكل عليه) * فإنه ينصرك ويكفيك أمرهم .