* (ينسفها ربى) * أي : يجعلها بمنزلة الرمل ، ثم يرسل عليها الرياح فتذريها وتفرقها كما يذرى الطعام .
  * (فيذرها) * أي : فيذر مقارها ومراكزها ، أو يكون الضمير للأرض وإن لم يجر لها ذكر .
  * (لا ترى فيها عوجا) * أي : اعوجاجا * (ولا أمتا) * ولا نتوا (1) يسيرا ، وعن الحسن : العوج : ما انخفض من الأرض ، والأمت : ما ارتفع من الروابي (2) .
  وأضاف ( اليوم ) إلى وقت نسف الجبال في قوله : * (يومئذ) * أي : يوم إذ نسفت ، ويجوز أن يكون بدلا بعد بدل من * (يوم القيمة) * (3) ، * (يتبعون) * صوت * (الداعي) * إلى المحشر ، وهو إسرافيل الذي ينفخ في الصور يدعو الناس قائما على صخرة بيت المقدس ، فيقبلون من كل أوب (4) إلى صوته * (لا عوج له) * أي :

-------------------
(1) نتأ نتأ ونتوءا ونتوا : انتبر وانتفخ وارتفع ، (لسان العرب : مادة نتأ) .
(2) حكاه عنه البغوي في تفسيره : ج 3 ص 231 .
(3) الآية : 100 .
(4) يقال : جاءوا من كل أوب : أي من كل ناحية ، (الصحاح : مادة أوب) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)_ 502 _

  لايعوج له مدعو ، بل يستوون إليه من غير انحراف * (وخشعت الاصوات) * أي : خفضت من شدة الفزع وخفتت * (فلا تسمع إلا همسا) * وهو الركز الخفي ومنه الحروف المهموسة ، وقيل : هو من هميس الإبل وهو صوت أخفافها إذا مشت ، أي : لا تسمع إلا خفق (1) الأقدام ونقلها إلى المحشر (2) .
  * (من) * يجوز فيه الرفع والنصب : فالرفع على البدل من * (الشفعة) * بتقدير حذف المضاف ، أي : * (لا تنفع الشفعة إلا) * شفاعة * (من أذن له الرحمن) * ، والنصب على المفعولية ، ومعنى * (أذن له ... ورضى له) * : لأجله ، كاللام في قوله : * (وقال الذين كفروا للذين ءامنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه) * (3) .
  * (يعلم ما بين أيديهم) * أي : ماتقدمهم من الأحوال * (وما خلفهم) * أي : ما يستقبلونه * (ولا يحيطون) * بمعلوماته * (علما) * .
  * (وعنت) * وجوه العصاة أي : خشعت وذلت إذا عاينت أهوال يوم القيامة ، وقيل : المراد ب‍ * (الوجوه) * الرؤساء والملوك (4) ، أي : صاروا كالعناة وهم الأسارى ، وقوله : * (وقد خاب) * وما بعده اعتراض .
  * (فلا يخاف ظلما) * وهو أن يؤخذ بذنب لم يعمله ، أو لا يجزى بعمله * (ولا هضما) * وهو أن يكسر من حقه فلا يوفي له ، أو يبطل بعض حسناته ، وقرئ : ( فلايخف ) على النهي (5) ، والمعنى : فليأمن الظلم والهضم . * (وكذلك) * عطف على * (كذلك نقص) * (6) أي : مثل ذلك الإنزال ، و (7) كما

-------------------
(1) الخفق : صوت النعل وما أشبهها من الأصوات ، (لسان العرب : مادة خفق) .
(2) وهو قول ابن عباس والحسن وعكرمة وابن زيد ، راجع تفسير الطبري : ج 8 ص 459 ـ 460 .
(3) الأحقاف : 11 .
(4) حكاه الآلوسي في تفسيره : ج 16 ص 265 .
(5) قرأه ابن كثير ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 424 .
(6) الآية : 99 .
(7) في نسخة : ( أو ) بدل الواو . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 503 _
  أنزلنا عليك هؤلاء الآيات المتضمنة للوعيد أنزلنا القرآن كله * (وصرفنا) * أي : وكررنا * (فيه) * آيات * (الوعيد) * وبيناها على ألفاظ مختلفة ليتقوا المعاصي * (أو يحدث) * القرآن * (لهم) * شرفا بإيمانهم به ، أو اعتبارا بأن يذكروا به عقاب الله للأمم .
  * (فتعلى الله الملك الحق) * استعظام له سبحانه ، ولما يصرف عليه عباده من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده ، وما يجري عليه أمور ملكوته .
  ولما ذكر القرآن وإنزاله قال على سبيل الاستطراد : وإذا لقنك جبرئيل الوحي ف‍ * (لا تعجل) * بتلاوته قبل أن يفرغ من قراءته ، ولا تكن قراءتك مساوقة لقراءته ، ونحوه : * (لا تحرك به لسانك لتعجل به) * (1) ، وقيل : معناه : لاتقرئه أصحابك حتى يبين لك ماكان مجملا (2) ، واستزد من الله سبحانه علما إلى علمك * (وقل رب زدنى علما) * إلى علم .
  * (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى * فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى)

-------------------
(1) القيامة : 16 .
(2) وهو قول مجاهد وقتادة ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 233 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 504 _
  * عطف سبحانه قصة آدم على قوله : * (وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون) * ، والمعنى : * (و) * أقسم قسما * (لقد) * وصينا أباهم بأن لا يقرب الشجرة * (فنسى) * العهد ولم يتذكر الوصية ، يقال : عهد الملك إلى فلان وأوعز إليه وعزم عليه * (ولم نجد له عزما) * يجوز أن يكون من الوجود الذي هو بمعنى العلم ومفعولاه * (له عزما) * ، وأن يكون نقيض العدم ، كأنه قال : وعدمنا له عزما ، وقيل : * (فنسى) * معناه : فترك الأمر (1) .
  * (وإذ) * منصوب بمضمر ، أي : واذكر وقت ما جرى عليه من معاداة إبليس ووسوسته إليه ، وتزيينه له الأكل من الشجرة * (أبى) * جملة مستأنفة كأنه جواب قائل يقول : لم لم يسجد ؟ والوجه : أن لا يقدر له مفعول وهو السجود ، وأن يكون معناه : أظهر الإباء وتوقف .
  وقوله : * (فلا يخرجنكما) * معناه : فلا يكونن سببا لإخراجكما * (فتشقى) * أسند الشقاء إلى آدم دون حواء بعد اشتراكهما في الخروج ، لأن المراد بالشقاء هنا : التعب في طلب القوت ومعاناة العمل وذلك معصوب برأس الرجل ، وعن سعيد بن جبير : أنه أهبط إلى آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه ويرشح العرق من جبينه فذلك هو الشقاوة (2) .
  وقرئ : * (وأنك) * بفتح الهمزة وكسرها (3) ، ووجه الفتح : العطف على * (ألا تجوع) * والتقدير : وإن لك أنك لا تظمأ ، والكسر : على الاستئناف ، والشبع

-------------------
(1) قاله مجاهد ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 430 .
(2) حكاه عنه الطبري في تفسيره : ج 8 ص 467 .
(3) وبالكسر هي قراءة نافع وعاصم برواية أبي بكر ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 539 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _505 _
  والري والكسوة والكن (1) هي الأقطاب التي يدور عليها كفاف الإنسان ، فذكر سبحانه استجماعها له في الجنة ، وأنه لا يحتاج إلى كفاية كاف ولا إلى كسب كاسب كما أن أهل الدنيا يحتاجون إلى ذلك ، وذكرها بلفظ النفي لنقائضها التي هي الجوع والعري والظمأ والضحي ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة التي حذره منها حتى يتحرز عن السبب الموقع فيها كراهة لها .
  * (فوسوس إليه الشيطن) * أي : أنهى (2) إليه الوسوسة كما يقال : أسر إليه ، وأضاف ال‍ * (شجرة) * إلى * (الخلد) * وهو الخلود ، لأن من أكل * (منها) * خلد بزعمه .
  وطفق يفعل كذا مثل : جعل يفعل ، وأخذ يفعل ، وحكمها حكم ( كاد ) في أن خبرها الفعل المضارع ، وهي للشروع في أول الأمر ، و ( كاد ) للدنو من الأمر * (يخصفان عليهما) * أي : يلزقان بسوآتهما * (من ورق الجنة) * للتستر ، وهو ورق التين * (وعصى ءادم ربه) * أي : خالف ما أمره به ربه ، والمعصية : مخالفة الأمر ، سواء كان الأمر واجبا أو ندبا * (فغوى) * أي : فخاب من الثواب الذي كان يستحقه على فعل المأمور به ، أو خاب مما كان يطمع فيه بأكل الشجرة من الخلود ، ويستشهد على ذلك بقول الشاعر : فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره * ومن يغو لا يعدم على الغي لائما (3) * (ثم اجتبه ربه) * أي : اصطفاه ربه وقربه إليه ، من قولهم : جبى إلي كذا فاجتبيته * (فتاب عليه) * أي : قبل توبته وهداه إلى ذكره ، وقيل : هداه للكلمات التي تلقاها منه (4) .
  ولما كان آدم وحواء أصلي البشر جعلا كأنهما البشر ، فخوطبا

-------------------
(1) الكن : البيت ، والجمع : أكنان وأكنة ، (لسان العرب : مادة كنن) .
(2) الانهاء : الإبلاغ ، (الصحاح : مادة نهى) .
(3) والبيت للمرقش الأصغر ، تقدم شرحه وبيان معناه .
(4) قاله السمرقندي في تفسيره : ج 2 ص 357 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 506_
  مخاطبتهم فقيل : * (فإما يأتينكم) * على لفظ الجماعة كما أسند الفعل إلى السبب وهو في الحقيقة للمسبب ، والمراد بالهدى : الكتاب والشريعة .
  وعن ابن عباس : ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ، ثم تلا قوله : * (فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى) * (1) .
  * (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى * أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى * وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) * * (ومن أعرض عن) * القرآن ، وقيل : عن الدلائل (2) فلم ينظر فيها * (فإن له معيشة ضنكا) * أي : عيشا ضيقا ، والضنك مصدر يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث ، والمعني فيه : أن مع الدين القناعة والتوكل على الله والرضا بقسمته ، فصاحبه ينفق مما رزق بسهولة وسماح فيكون في رفاهية من عيشه ، ومن أعرض عن الدين استولى عليه الحرص والجشع ، ويتسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق فيعيش في ضنك * (ونحشره يوم القيمة أعمى) * البصر ، وقيل : أعمى

-------------------
(1) حكاه عنه الماوردي في تفسيره : ج 3 ص 431 .
(2) ذكره القرطبي في تفسيره : ج 11 ص 258 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _507 _
  عن الحجة لا يهتدي إليها (1) ، والأول أوجه (2) لأنه الظاهر .
  * (كذلك) * أي : مثل ذلك فعلت أنت ، ثم فسره بأن آياتنا * (أتتك) * واضحة منيرة فلم تنظر إليها بعين المعتبر وتركتها وعميت عنها ف‍ * (كذلك) * نتركك على عماك ، ولا نزيل غطاءه عن عينيك .
  ولما توعد المعرض عن ذكره بعقوبتين : المعيشة الضنك في الدنيا وحشره أعمى في الآخرة ، ختم آيات الوعيد بقوله : * (ولعذاب الاخرة أشد وأبقى) * كأنه قال : وللحشر على العمى الذي لا يزول أبدا أشد من ضيق العيش المنقضي ، أو أراد : ولتركنا إياه في العمى أشد وأبقى من تركه لآياتنا .
  وفاعل * (أفلم يهد) * الجملة بعده ، والمراد : ألم يهد لهم هذا بمضمونه ومعناه ، كما أن قوله تعالى : * (وتركنا عليه في الاخرين سلم على نوح في العلمين) * (3) معناه : تركنا عليه هذا الكلام ، ويجوز أن يكون فيه ضمير الله أو الرسول ، ويدل عليه القراءة بالنون (4) * (يمشون في مسكنهم) * يريد : أن قريشا يتقلبون في بلاد عاد وثمود ويعاينون آثار إهلاكهم * (إن في ذلك) * لعبرا ودلالات لذوي العقول .
  * (ولولا كلمة سبقت من ربك) * وهي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة * (لكان) * مثل إهلاكنا عادا وثمود لازما لهؤلاء الكفرة ، واللزام : إما مصدر لازم وصف به ، وإما فعال بمعنى مفعل كأنه آلة اللزوم ، لفرط لزومه كما قيل : لزاز (5) خصم * (وأجل مسمى) * معطوف على * (كلمة) * أو على الضمير في * (كان) * أي :

-------------------
(1) قاله مجاهد ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 235 .
(2) في بعض النسخ : أولى.
(3) الصافات : 78 و 79 .
(4) وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي وأبي رجاء العطاردي ، راجع الفريد في اعراب القرآن للهمداني : ج 3 ص 470 .
(5) لزه يلزه لزا ولززا ، أي : شده وألصقه ، وكز لز اتباع له ، رجل ملز : إذا كان شديد الخصومة ، لزوم إذا طالب ، (الصحاح : مادة لزز) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 508 _
  لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين له كما كانا لازمين لعاد وثمود .
  وقوله : * (بحمد ربك) * في موضع نصب على الحال ، أي : وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه ، والمراد بالتسبيح : الصلاة أو هو على الظاهر * (قبل طلوع الشمس) * يعني : صلاة الفجر * (وقبل غروبها) * يعني : الظهر والعصر ، لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار بين زوال الشمس وغروبها * (ومن ءانآى اليل) * أي : ساعاته ، وعن ابن عباس : هي صلاة الليل كله (1) ، وقيل : إن قبل غروبها هو صلاة العصر و * (أطراف النهار) * هو الظهر لأن وقته الزوال وهو طرف النصف الأول وطرف النصف الثاني من النهار (2) ، وقد تؤول أيضا التسبيح في * (ءانآئ اليل) * بصلاة العتمة وفي * (أطراف النهار) * بصلاة الفجر والمغرب ، فيكون تكرارا على إرادة الاختصاص كما في قوله : * (حفظوا على الصلوا ت والصلوا ة الوسطى) * (3) ومن حمل التسبيح على الظاهر قال : أراد المداومة على التسبيح والتحميد في عموم الأوقات ( لعلك ترضى ) (4) بالشفاعة والدرجة الرفيعة ، وقرئ بفتح التاء كما في قوله : * (ولسوف يعطيك ربك فترضى) * (5) .
  * (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى * وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى * وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى * قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنْ اهْتَدَى)

-------------------
(1) حكاه عنه الماوردي في تفسيره : ج 3 ص 432 .
(2) وهو قول ابن جريج وقتادة ، راجع تفسير الطبري : ج 8 ص 477 .
(3) البقرة : 238 .
(4) يظهر منه أنه يعتمد على هذه القراءة بضم التاء مبنيا للمجهول هنا تبعا للكشاف .
(5) الضحى : 5 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 509 _
  بخلقه ، ألا ترون أنه إذا لم ينقطع إليه لم يكن خليله ؟ وإذا لم يعلم بأسراره لم يكن خليله ؟ وأن من يلده الرجل ، وإن أهانه وأقصاه ، لم يخرج عن أن يكون ولده ؟ لان معنى الولادة قائم .
  ثم إن وجب ـ لانه قال الله: ابراهيم خليلي ـ أن تقيسوا أنتم فتقولوا : إن عيسى ابنه ، وجب أيضا كذلك أن تقولوا لموسى : إنه ابنه ، فان الذي معه من المعجزات لم يكن بدون ما كان مع عيسى ، فقولوا إن موسى أيضا ابنه ، وإنه يجوز أن تقولوا على هذا المعنى : شيخه وسيده وعمه ورئيسه وأميره كما قد ذكرته لليهود .
  فقال بعضهم : وفي الكتب المنزلة أن عيسى قال : أذهب إلى أبي .
  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فان كنتم بذلك الكتاب تعملون ، فان فيه : ( أذهب إلى أبي وأبيكم ) فقولوا : إن جميع الذين خاطبهم كانوا أبناء الله، كما كان عيسى ابنه من الوجه الذي كان عيسى ابنه ، ثم إن ما في هذا الكتاب يبطل عليكم هذا ـ المعنى ـ الذي زعمتم أن عيسى من جهة الاختصاص كان ابنا له ، لانكم قلتم : إنما قلنا : إنه ابنه لانه تعالى اختصه بما لم يختص به غيره ، وأنتم تعلمون أن الذي خص به عيسى لم يخص به هؤلاء القوم الذين قال لهم عيسى : ( أذهب إلى أبي وأبيكم ) فبطل أن يكون الاختصاص (1) لعيسى ، لانه قد ثبت عندكم بقول عيسى لمن لم يكن له مثل اختصاص عيسى ، وأنتم إنما حكيتم لفظة عيسى وتأولتموها على غير وجهها لانه إذا قال : ( أبي وأبيكم ) فقد أراد غير ما ذهبتم إليه ونحلتموه ، وما يدريكم لعله عنى : أذهب إلى آدم وإلى نوح إن الله يرفعني إليهم ويجمعني معهم ، وآدم أبي وأبوكم وكذلك نوح ، بل ما أراد غير هذا قال : فسكتت النصارى ، وقالوا : ما رأينا كاليوم مجادلا ولا مخاصما وسننظر في أمورنا .
  ثم اقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الدهرية فقال : وأنتم فما الذي دعاكم إلى القول

--------------------
(1) ( تكون البنوة للاختصاص ) أ ، ط . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 510_
  فإن رزقك مكفي من عندنا * (لا نسلك) * أن ترزق نفسك ولا أهلك .
  وعن أبي سعيد الخدري : لما نزلت هذه الآية كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأتي باب فاطمة وعلي (عليهما السلام) تسعة أشهر وقت كل صلاة فيقول : الصلاة رحمكم الله * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * (1) (2) .
  وعن بكر بن عبد الله المزني (3) : أنه كان إذا أصاب أهله خصاصة قال : قوموا فصلوا ، بهذا أمر الله (4) رسوله ، ثم يتلو هذه الآية (5) .
  * (والعقبة) * المحمودة * (للتقوى) * أي : لأهل التقوى .
  * (وقالوا لولا يأتينا باية) * اقترحوا على عادتهم في التعنت آية على النبوة ، فقيل لهم : * (أولم) * تأتكم آية هي أصل الآيات وأجلها في باب الإعجاز ، يعني : القرآن ، وذلك أن القرآن به يستدل على صحة سائر الكتب المنزلة ، وجميعها مفتقرة إلى شهادته على صحة ما فيها كما يحتاج المحتج عليه إلى شهادة الحجة ، لأنه معجزة وتلك الكتب ليست بمعجزات ، وذكر الضمير الراجع إلى ( البينة ) في * (من قبله) * لأنها في معنى الدليل والبرهان .
  * (كل) * أي : كل واحد منا ومنكم * (متربص) * منتظر للعاقبة ، فنحن ننتظر وعد الله لنا فيكم ، وأنتم تتربصون بنا الدوائر ، و * (الصرا ط السوى) * : الدين المستقيم .
  وفي قوله : * (ولو أنا أهلكنهم) * الآية ، دلالة على وجوب اللطف ، وأنه إنما بعث الرسول لكونه لطفا ، ولو لم يبعثه لكان للخلق الحجة عليه سبحانه وتعالى .

-------------------
(1) الأحزاب : 33 .
(2) تفسير الحبري : ص 306 ح 55 ، شواهد التنزيل للحسكاني : ج 2 ص 47 ح 668 .
(3) هو بكر بن عبد الله بن عمرو بن هلال المزني ، أخو علقمة ، راجع تهذيب التهذيب لابن حجر : ج 1 ص 484 .
(4) في نسخة زيادة : واو .
(5) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 99 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 511 _
سورة الأنبياء مكية (1)
  وهي مائة واثنتا عشرة آية كوفي ، وإحدى عشرة آية غيرهم ، عد الكوفي * (لا ينفعكم شيئا ولا يضركم) * (2) .
  في حديث أبي : ( من قرأ سورة الأنبياء حاسبه الله حسابا يسيرا ، وصافحه وسلم عليه كل نبي ذكر اسمه في القرآن ) (3) .
  وقال أبو عبد الله (عليه السلام) : ( من قرأها حبا لها كان ممن رافق النبيين في جنات النعيم ، وكان مهيبا في أعين الناس في الدنيا ) (4) .
بسم الله الرحمن الرحيم

  * (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلْ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ)

-------------------
(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان : ج 7 ص 227 : هي مكية في قول قتادة ومجاهد ، وهي مائة واثنتا عشرة آية في الكوفي ، وإحدى عشرة في البصري والمدنيين ، وقال الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 100 : مكية ، وآياتها 112 ، نزلت بعد سورة ابراهيم ، وفي تفسير الآلوسي : ج 17 ص 2 ما لفظه : نزلت بمكة كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير ، وفي البحر : أنها مكية بلا خلاف وأطلق ذلك فيها ، واستثنى منها في الاتقان قوله تعالى : * (أفلا يرون أنا نأتى الأرض) * الآية .
(2) الآية : 66 .
(3) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 140 مرسلا .
(4) ثواب الأعمال للصدوق : ص 135 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 512_
   * اللام في * (للناس) * لتوكيد معنى إضافة (الحساب ) إلى ( الناس ) ، والأصل (1) : اقتراب حساب الناس (2) ، ثم اقترب للناس الحساب ، ثم * (اقترب للناس حسابهم) * والمراد : اقتراب القيامة ، وإذا اقتربت فقد اقترب ما يكون فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك ، وإنما وصفت بالقرب لأن كل آت وإن طالت مدة ترقبه قريب ، وإنما البعيد هو الذي وجد وانقرض .
   وفي كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) : ( أن الدنيا ولت حذاء (3) ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء ) (4) .
  وصفهم بالغفلة مع الإعراض على معنى : أنهم غافلون عن حسابهم ، ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم ، وإذا نبهوا عن سنة الغفلة بما يتلى عليهم من الآيات أعرضوا عن التفكر فيها والتدبر لها والإيمان بها ، ثم قرر سبحانه إعراضهم عن تنبيه المنبه بأن الله يجدد لهم الذكر وقتا فوقتا ، ويحدث لهم الآية بعد الآية والسورة بعد السورة ليتعظوا ، فما يزيدهم استماع الآي والسور إلا لعبا وتلهيا .
  وقوله : * (وهم يلعبون لاهية قلوبهم) * حالان مترادفتان أو متداخلتان ، وأبدل

-------------------
(1) أي : أصل العبارة قبل زيادة التوكيد عليه .
(2) ليس في بعض النسخ جملة : ( والأصل : اقتراب حساب الناس ) .
(3) حذاء : أي خفيفة سريعة النفاذ ، (لسان العرب : مادة حذذ) .
(4) نهج البلاغة : ص 84 خطبة 42 ضبط صبحي الصالح . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _513_
  * (الذين ظلموا) * من واو * (وأسروا) * إذانا بأنهم الموسومون بالظلم فيما أسروا به ، أو يكون على لغة من قال : أكلوني البراغيث ، أو هو مبتدأ وخبره * (وأسروا النجوى) * قدم عليه ، والمعنى : * (و) * هؤلاء * (أسروا النجوى) * بالغوا في إخفاتها ، فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا على أفعالهم بأنه ظلم * (هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون) * هذا الكلام كله في محل النصب بدلا من * (النجوى) * أي : وأسروا هذا الحديث ، ويجوز أن يتعلق ب‍ ( قالوا ) مضمرا .
  اعتقدوا أن الرسول من الله لا يكون إلا ملكا ، وأن كل من ادعى الرسالة من البشر وأتى بالمعجزات فهو ساحر ، وما أتى به فهو سحر ، فلذلك قالوا : * (أفتأتون السحر وأنتم) * تعاينون أنه سحر ؟ وقرئ : * (قال ربى) * على الخبر عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولم يقل : يعلم السر ، لأن القول عام يشمل السر والجهر ، فكان في العلم به العلم بالسر وزيادته (1) ، ثم بين ذلك بقوله : * (وهو السميع العليم) * أي : العالم لذاته لا يخفي عليه خافية .
  ثم أضربوا عن قولهم : هو سحر ، إلى: أنه تخاليط * (أحلم) * ، ثم إلى : أنه كلام مفترى من عنده ، ثم إلى : أنه قول شاعر ، لأن الباطل لجلج ، والمبطل متحير لا يثبت على قول واحد ، وصحة التشبيه في قوله : * (كمآ أرسل الاولون) * من حيث إنه في معنى : كما أتى * (الاولون) * بالآيات ، لأن إرسال الرسل متضمن للإتيان بالآيات ، فلا فرق بين أن يقول : أرسل محمد (صلى الله عليه وآله) ، وبين قولك : أتى محمد (صلى الله عليه وآله) بالمعجز .
  * (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ * ثُمَّ صَدَقْنَاهُمْ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ * لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)

-------------------
(1) في نسخة : ( وزيادة ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 514 _
  * في قوله : * (أفهم يؤمنون) * دلالة على أنهم أعتى من الأمم التي اقترحت على أنبيائهم الآيات ووعدوهم أن يؤمنوا عندها ، فلما جاءتهم خالفوا وأخلفوا الوعد فأهلكهم الله، أي : فلو أعطيناهم ما اقترحوا لكانوا أنكث منهم .
  واختلف في * (أهل الذكر) * فقيل : هم أهل الكتاب (1) ، وقيل : هم أهل العلم بأخبار من مضى من الأمم (2) .
  وعن علي (عليه السلام) : ( نحن أهل الذكر ) (3) .
  * (لا يأكلون الطعام) * صفة الجسد ، والمعنى : وما جعلنا الأنبياء قبله ذوي جسد غير طاعمين ، ووحد ( الجسد ) لإرادة الجنس ، كأنه قال : ذوي ضرب من الأجساد ، وهذا رد لقولهم : * (مال هذا الرسول يأكل الطعام) * (4) ، * (وما كانوا خلدين) * أي : ما أخرجناك (5) وما أخرجناهم عن حد البشرية بأن أوحينا إليهم .
  * (ثم صدقنهم الوعد) * أي : في الوعد ، فهو مثل قوله : * (واختار موسى قومه) * (6) أي : من قومه .
  ومنه قولهم : صدقني سن بكره ، وصدقوهم القتال * (فأنجينهم) * من أعدائهم * (و) * أنجينا * (من نشاء) * من المؤمنين بهم * (وأهلكنا المسرفين) * وهم المشركون ، أسرفوا على أنفسهم بتكذيبهم الأنبياء .

-------------------
(1) قاله الحسن وقتادة ، راجع تفسير التبيان : ج 7 ص 232 .
(2) وهو قول الرماني والأزهري والزجاج ، راجع التبيان : ج 6 ص 384 ، ومعاني القرآن للزجاج : ج 3 ص 201 .
(3) رواه الطبري في تفسيره : ج 9 ص 6 ، والطوسي في التبيان : ج 7 ص 232 .
(4) الفرقان : 7 .
(5) ليس في بعض النسخ : ( ما أخرجناك ) .
(6) الأعراف : 155 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _515 _
  * (فيه ذكركم) * أي : شرفكم وصيتكم ، كما في قوله : * (وإنه لذكر لك ولقومك) * (1) ، أو : موعظتكم ، أو فيه مكارم الأخلاق التي كنتم تطلبون بها الثناء وحسن الذكر ، كالسخاء وأداء الأمانة والوفاء وحسن الجوار وصدق الحديث وأشباهها من محاسن الأفعال .
  * (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ * وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) * هذا كلام وارد عن غضب شديد ، لأن القصم أفظع الكسر ، بخلاف الفصم ، وهو سبحانه قاصم الجبارين ، وأراد بالقرية أهلها ولذلك وصفها بالظلم ، والمعنى : أهلكنا قوما وأنشأنا قوما آخرين ، وعن ابن عباس : أنها ( حضور ) ، وهي و ( سحول ) قريتان باليمن ، تنسب إليهما الثياب (2) .
  وفي الحديث : كفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ثوبين سحوليين ، ويروى : حضوريين (3) .

-------------------
(1) الزخرف : 44 .
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 105 .
(3) رواه أيضا في الكشاف : ج 3 ص 105 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 516_
  بعث الله إليهم نبيا اسمه ( حنظلة ) فقتلوه ، فسلط عليهم ( بختنصر ) كما سلط على أهل بيت المقدس فاستأصلهم .
  وظاهر الآية على الكثرة ، ولعل ابن عباس ذكر ( حضور ) بأنها إحدى القرى التي أرادها الله بهذه الآية .
  فلما علموا شدة بطشنا (1) بأجسامهم وشاهدوا عذابنا ركضوا من ديارهم ، والركض : ضرب الدابة بالرجل ، أي : هربوا وانهزموا من قريتهم لما أدركتهم مقدمة العذاب ، فقيل لهم : * (لا تركضوا) * والقول محذوف ، ويحتمل أن يكون القائل بعض الملائكة ، أو من هناك من المؤمنين * (وارجعوا إلى مآ أترفتم فيه) * من العيش الرافه والحال الناعمة ، والإتراف : إبطار النعمة ، وهي الترفه * (لعلكم تسئلون) * تهكم بهم ، أي : ارجعوا إلى نعمتكم ومساكنكم لعلكم تسألون غدا عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة ، أو : ارجعوا واجلسوا في مجالسكم ومراتبكم كما كنتم كذلك حتى تسألكم حشمكم ومن تملكون أمره ويقولوا لكم : بم تأمرون ؟ وماذا ترسمون ؟ كعادة المنعمين ، أو : يسألكم الناس في أنديتكم المعاونة في الخطوب النازلة ، ويستشفون بآرائكم في المهمات الكادسة (2) .
  * (تلك) * إشارة إلى * (يويلنآ) * ، والدعوى بمعنى الدعوة ، أي : * (فما زالت تلك) * الدعوى * (دعوبهم) * ، وإنما سمي الدعوى لأن المولول كأنه يدعو الويل فيقول : تعال يا ويل فهذا وقتك ، والحصيد : الزرع المحصود ، أي : جعلناهم مثل الحصيد ، شبههم به في استئصالهم ، أي : جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود ، كما يقال : جعلته حلوا حامضا أي : جامعا للطعمين .

-------------------
(1) في نسخة : ( بأسنا ) .
(2) في بعض النسخ : ( الكارثة ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 517 _
  وما جعلنا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع * (وما بينهما) * من أنواع الخلائق للهو واللعب ، وإنما سويناها للفوائد الدينية والحكم الالهية .
  * (لاتخذنه من لدنآ) * أي : من جهة قدرتنا ، واللهو : الولد ، وقيل : المرأة (1) ، وقيل : * (من لدنآ) * أي : من الملائكة لا من الإنس (2) ، وهو رد لولادة المسيح وعزير ، بل إضراب عن اتخاذ اللهو ، كأنه قال : سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب .
  * (بل) * من موجب حكمتنا أن نغلب اللهو بالجد وندحض الباطل * (بالحق) * ، واستعار لذلك القذف والدفع تصويرا لإبطاله به ومحقه ، فجعله كأنه جرم صلب كالصخرة مثلا قذف به على جرم رخو أجوف فدمغه ، ثم قال : * (ولكم الويل مما تصفون) * به مما لا يجوز عليه .
  * (ومن عنده) * هم الملائكة ، يعني : أنهم منزلون منه منزلة المقربين عند الملوك ، لشرفهم على الخلق وكرامتهم عليه * (ولا يستحسرون) * أي : لا يعيون ولا يملون .
  * (يسبحون) * أي : ينزهون الله تعالى عما لا يليق بصفاته على الدوام في * (اليل والنهار) * لا يضعفون عنه .
  * (أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ * أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ * وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)

-------------------
(1) قاله ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد ، راجع تفسير التبيان : ج 7 ص 236 .
(2) قاله ابن جريج ، راجع تفسير القرطبي : ج 11 ص 276 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 518_
  * * (أم) * هذه منقطعة بمعنى ( بل ) ، والهمزة فقد دلت على الإضراب عما قبلها ، والإنكار لما بعدها ، وهو أن يتخذوا * (من الارض) * آلهة * (ينشرون) * الموتى ، ومن أعظم المنكرات أن ينشر الموات الأموات ، وإذا ادعوا لها الإلهية لزمهم أن يدعوا لها الإنشار ، لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور ، وقوله : * (من الارض) * من نحو قولك : فلان من الكوفة ، تريد : أنه كوفي ، فيه إيذان بأنها الأصنام التي تعبد في الأرض ، أو يريد : * (ءالهة) * من جنس الأرض ، لأنها : إما أن تنحت من بعض حجارة الأرض أو تعمل من بعض جواهرها ، وقرئ : ( ينشرون ) (1) ، ويقال : أنشر الله الموتى ونشرها ، وهما لغتان .
  ثم دل سبحانه على توحيده فقال : * (لو كان فيهما) * أي : في السماء والأرض * (ءالهة إلا الله لفسدتا) * وصفت الآلهة ب‍ * (إلا) * كما توصف ب‍ ( غير ) ، كما لو قيل : آلهة غير الله، ولا يجوز أن يكون بدلا ، لأن البدل لا يسوغ إلا في غير الموجب ، كقوله : * (ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك) * (2) وذلك أن أعم العام يصح نفيه ولا يصح إيجابه ، والمعنى : لو كان يدبر أمرهما آلهة شتى غير الواحد الذي هو منشئهما ومحدثهما * (لفسدتا) * ولم ينتظم أمرهما ، وفي هذا دليل التمانع الذي بنى عليه المتكلمون في مسألة التوحيد .

-------------------
(1) قرأه الحسن ومجاهد ، راجع البحر المحيط لأبي حيان : ج 6 ص 304 .
(2) هود : 81 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 519 _
  * (لا يسئل عما يفعل) * لأن أفعاله كلها حكمة وصواب ، ولا يجوز عليه فعل القبيح * (وهم يسئلون) * لأنهم مملوكون مستعبدون ، يقع منهم الحسن والقبيح ، فهم جدراء بأن يقال لهم : لم فعلتم في كل شئ فعلوه ؟ وكرر * (أم اتخذوا من دونه ءالهة) * استعظاما لكفرهم * (قل) * لهم : * (هاتوا برهنكم) * على ذلك من جهة العقل أو من جهة الوحي ، فإنكم لا تجدون كتابا من كتب الأولين إلا وفيه الدعاء إلى التوحيد والنهي عن الشرك * (هذا) * القرآن * (ذكر من معى) * أي : عظة الذي معي ، يعني : أمته * (وذكر) * الذين * (قبلى) * من أمم الأنبياء ممن نجا بالإيمان أو هلك بالكفر .
  وعن الصادق (عليه السلام) : يعني ب‍ * (ذكر من معى) * من معه وما هو كائن ، وب‍ * (ذكر من قبلى) * ما قد كان (1) .
  ثم ذمهم سبحانه بالجهل في قوله : * (بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون) * عن التأمل والنظر .
  وقرئ : * (نوحي) * و ( يوحى ) (2) وهذه الآية مقررة لما قبلها من آي التوحيد .
  * (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا) * هم خزاعة حيث قالوا : الملائكة بنات الله * (سبحنه) * نزه ذاته عن ذلك ، ثم أخبر عنهم بأنهم * (عباد) * ، والعبودية تنافي الولادة * (مكرمون) * أكرمهم الله وقربهم .
  * (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) * يعني : يتبعون قوله ولا يقولون شيئا حتى يقوله ، فلا يسبق قولهم قوله ، وكما أن قولهم تابع لقوله فعملهم أيضا كذلك مبني على أمره ، لا يعملون عملا لم يأمرهم به ، وجميع ما يأتون ويذرون مما قدموا وأخروا بعين الله، يحيط علما بما عملوا وما هم عاملون ، ولا يجترئون أن يشفعوا * (إلا لمن ارتضى) * الله دينه ، أو : ارتضى

-------------------
(1) رواه الصفار في بصائر الدرجات : ص 149 ح 1 .
(2) قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالنون ، وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم بالياء ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 428 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 520 _
  أن يشفع فيه وأهله للشفاعة وهم المؤمنون ، ثم إنهم مع هذا كله * (من) * خشية الله * (مشفقون) * خائفون وجلون من التقصير في عبادته .
  ثم أوعد بعذاب جهنم من أشرك منهم إن كان ذلك على سبيل الفرض والتمثيل ، تقطيعا لأمر الشرك ، كما قال : * (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) * (1) وقرئ : ( ألم ير ) ، بغير واو (2) ، والمعنى : أن السماء كانت لاصقة بالأرض لا فضاء بينهما ، وكانت * (السموات) * متلاصقات وكذلك الأرضون لا فرج بينها ففتقها الله وفرج الله بينهما ، وقيل : * (ففتقنهما) * بالمطر والنبات بعد ما كانت مصمتة (3) وهو المروي عنهم (عليهم السلام) (4) ، وإنما قال : * (كانتا) * ولم يقل : ( كن ) ، لأن المراد جماعة السماوات وجماعة الأرض، كما قيل : لقاحان سوداوان أي : جماعتان ، فعل في المضمر مثل ما فعل في المظهر * (وجعلنا) * لا يخلو أن يتعدى إلى واحد أو اثنين ، فإن كان الأول فالمعنى : خلقنا * (من الماء كل) * حيوان كقوله : * (والله خلق كل دابة من ماء) * (5) ، أو : كأنما خلقناه من الماء لحاجته إليه وقلة صبره عنه كقوله : * (خلق الانسن من عجل) * (6) ، وإن كان الثاني فالمعنى : صيرنا * (كل شئ حى) * بسبب * (من الماء) * لا بد له منه ، ويكون * (من) * هنا كما في قوله (عليه السلام) : ( ما أنا من دد ولا الدد مني ) (7) .

-------------------
(1) الأنعام : 88 .
(2) وهي قراءة ابن كثير . راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 543 .
(3) قاله عكرمة وعطية وابن زيد والمهدوي عن ابن عباس ، راجع تفسير القرطبي : ج 11 ص 284 .
(4) رواه الطوسي في التبيان : ج 7 ص 242 عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) .
(5) النور : 45 .
(6) الآية : 37 .
(7) والدد : اللعب ، والمثل يضربه الرجل لمن لا يوافقه ، انظر المستقصى في أمثال العرب للزمخشري : ج 2 ص 314 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 521_
  * (وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ * وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) * * (روا سى) * أي : جبال ثوابت ، أي : كراهة * (أن تميد بهم) * وتضطرب ، أو لأن لا تميد بهم ، فحذف ( لا ) واللام ، وإنما حذف ( لا ) لعدم الالتباس ، كما زيد لذلك في نحو قوله : * (لئلا يعلم أهل الكتب) * (1) وهذا مذهب الكوفيين * (وجعلنا فيها) * أي : في الرواسي * (فجاجا) * أي : طرقا واسعة بينها ، جمع ( فج ) وهي صفة ل‍ ( سبل ) ، فلما تقدمت عليها جعلت حالا منها .
  * (سقفا محفوظا) * من أن يسقط إلى الأرض ويتزلزل ، أو : محفوظا بالشهب عن أن يتسمع الشياطين على سكانه من الملائكة * (وهم عن ءايتها) * أي : عما وضع الله فيها من الأدلة والعبر بالشمس والقمر وسائر الكواكب ومسائرها على الحساب القويم والترتيب المستقيم الدال على الحكمة البالغة ، فمن أعرض عن الاستدلال بها على عظم شأن من أوجدها وبديع حكمته فلا جهل أعظم من جهله .
  * (كل) * التنوين فيه عوض عن المضاف إليه ، أي : كلهم * (في فلك يسبحون) * ، والضمير ل‍ * (الشمس والقمر) * والمراد : جنس الطوالع كل يوم وليلة ، ولذلك جعلت متكاثرة لتكاثر مطالعها ، وهو السبب في جمعها بالشموس والأقمار وإن كانت الشمس واحدة والقمر واحدا ، وإنما جعل الضمير ( واو ) العقلاء للوصف

-------------------
(1) الحديد : 29 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 522_
  بفعلهم وهو السباحة .
  كانوا قد تمنوا موته (عليه السلام) ليشمتوا بذلك فنفي الله عنه الشماتة بهذا ، أي : قضى الله أن لا يخلد في الدنيا بشرا ، فإن * (مت) * أنت أيبقى هؤلاء ؟ و * (فتنة) * مصدر مؤكد ل‍ * (نبلوكم) * من غير لفظه ، أي : يختبركم بما يجب فيه الصبر من البلايا ، وبما يجب فيه الشكر من العطايا * (وإلينا) * مرجعكم فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر والشكر .
  * (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ * خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمْ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ * بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَ) * الذكر يكون بالخير وبالشر ، فإذا دلت الحال على أحدهما أطلق ، تقول للرجل : سمعت فلانا يذكرك ، فإن كان الذاكر صديقا فهو ثناء ، وإن كان عدوا فهو ذم ، ومنه قوله : * (أهذا الذي يذكر ءالهتكم) * وقوله : * (سمعنا فتى يذكرهم) * (1) ، والمعنى : أنهم يذكرون آلهتهم بما يجب أن لا تذكر به لكونهم شفعاء وشهداء ، ويسؤهم أن يذكرها ذاكر بخلاف ذلك و * (هم كفرون) * بما يجب أن يذكر الله به من الوحدانية لا يصدقون به ، فهم أحق بأن يتخذوا * (هزوا) * منك لأنهم مبطلون وأنت محق ، والجملة في موضع ( الهزء ) وهو الكفر بالله ، ويجوز أن يكون في موضع الحال على حذف القول ، أي : قائلين : * (أهذا الذي يذكر ءالهتكم) * .

-------------------
(1) الآية : 60 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _523_
  كانوا يستعجلون عذاب الله ويقولون : * (متى هذا الوعد) * ، فأراد الله سبحانه نهيهم عن الاستعجال فقدم أولا ذم * (الانسن) * على العجلة وأنه مطبوع عليها ، ثم نهاهم وزجرهم ، فكأنه قال : ليس ببدع منكم أن تستعجلوا ، فإنكم مجبولون على ذلك وهو سجيتكم ، وعن ابن عباس : أنه أراد بالإنسان آدم ، إنه لما بلغ الروح صدره أراد أن يقوم (1) ، والظاهر أن المراد به الجنس ، وقيل : العجل : الطين بلغة حمير (2) واستشهد بقول شاعرهم : والنبع ينبت بين الصخر صاخية * والنخل ينبت بين الماء والعجل (3) وجواب * (لو) * محذوف أي : لو علموا لما قاموا على الكفر ولما استعجلوا ، و * (حين) * مفعول * (يعلم) * ، أي : * (لو يعلم الذين كفروا) * الوقت الذي يستعجلون عنه بقولهم : متى هذا الوعد ، وهو وقت صعب يحيط بهم فيه * (النار) * من ورائهم وقدامهم ، فلا يقدرون على رفعها من نفوسهم ، ولا يجدون ناصرا ينصرهم ، لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء ، ويجوز أن يكون * (يعلم) * متروكا بلا تعدية بمعنى : لو كان معهم علم ولم يكونوا جاهلين لما كانوا مستعجلين ، ويكون * (حين) * منصوبا بمضمر ، أي : * (حين لا يكفون عن وجوههم النار) * يعلمون أنهم كانوا على الباطل .
  * (بل) * تفجأهم الساعة أو النار التي وعدوا بها فتغلبهم ، ويقال

-------------------
(1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 117 .
(2) قاله أبو عبيد على ما حكاه عنه الرازي في تفسيره : ج 22 ص 172 .
(3) لم نعثر على اسم الشاعر الحميري فيما توفرت لدينا من مصادر ، وروي صدره : والنبع في الصخرة الصماء منبته يقول : النبع ـ وهو شجر تتخذ منه القسي ـ انما نباته بين الصخور الصلبة لا في غيرها ، بينما النخل ينبت في الارض الرخوة اللينة والريانة ، فهو بين الماء والطين ، والظاهر هما كناية على الصعب البخيل والسهل الجواد ، أو على الشجاع والجبان لشدة الأول ورخاوة الثاني ، انظر شرح شواهد الكشاف للافندي : ص 201 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 524 _
  لمن غلب في الحجاج : مبهوت ، وفي قوله : * (ولا هم ينظرون) * تذكير بإنظاره وإمهاله إياهم ، أي : لا يمهلون بعد طول الإمهال .
  * (وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ * أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ * بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمْ الْغَالِبُونَ * قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ) * ثم سلى سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله) عن استهزائهم به بأن له في الأنبياء قبله أسوة ، وأنه يحل بهم وبال استهزائهم كما حل بأولئك .
  * (من الرحمن) * أي : من بأس الرحمن وعذابه ، والكلاءة : الحفظ ، بل هم * (معرضون) * عن ذكر ربهم لا يخطرونه ببالهم فضلا عن أن يخافوا بأسه ، والمراد : أنه أمر بسؤالهم عن الكالئ ، ثم بين أنهم لا يصلحون لذلك ، لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم .
  ثم أضرب عن ذلك لما في * (أم) * من معنى ( بل ) ، وقال : * (أم لهم ءالهة تمنعهم من) * العذاب تتجاوز منعنا وحفظنا ، ثم استأنف وبين أن ما ليس بقادر على نصر نفسه ومنعها ، ولا بمصحوب من الله بالنصر كيف يمنع غيره وينصره ؟ ! ثم قال : * (بل) * ما هم فيه من الكلاءة إنما هو منا أمهلناهم ومتعناهم بالحياة الدنيا كما متعنا * (ءابآءهم حتى طال عليهم) * الأمد ، فظنوا أنهم لا ينزع عنهم ثوب الأمن والطمأنينة .
  * (أفلا يرون أنا) * ننقص أرض الكفر بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 525 _
  أهلها ، وقيل : ننقصها بموت العلماء (1) ، وعلى القول الأول ففي قوله : * (أنا نأتى الارض ننقصها) * تصوير لما كان ينجز به الله على أيدي المسلمين من الغلبة على ديار المشركين ، والنقص من أطرافها .
  وقرئ : ( لا تسمع الصم ) (2) على الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله) .
  * (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنْ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ * وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) * أي : وإن مسهم مما أنذروا به أدنى شئ لذلوا وأقروا بالظلم على أنفسهم ، وفي ( النفحة ) معنى القلة لبناء المرة ، ولقولهم : نفحته الدابة وهو ريح يسير ، ونفحه بعطية إذا رضخه (3) .
  * (ونضع لموازين) * ذوات * (القسط) * فحذف المضاف ، ووصفت * (الموازين) * ب‍ * (القسط) * وهو العدل مبالغة ، كأنها في أنفسها قسط * (ل‍) * أهل * (يوم القيمة) * أي : لأجلهم ، أو هو كاللام في قولك : لخمس ليال خلون من الشهر ، ومنه قول النابغة : توسمت آيات لها فعرفتها * لستة أعوام وذا العام سابع (4)

-------------------
(1) وهو قول عطاء والضحاك ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 449 .
(2) قرأه ابن عامر وحده ، راجع التيسير في القراءات للداني : ص 155 .
(3) رضخه رضخا : إذا أعطاه عطية قليلة ، (لسان العرب : مادة رضخ) .
(4) وهو من قصيدة يعتذر بها الى النعمان بن المنذر مما وشت به بنو قريع ، ومطلعها : = (*)