أمواتا أو : لأن المنقضي في حكم ما لم يكن .
  وصدقهم الله في تقالهم (1) لسني لبثهم في الدنيا ، ووبخهم على غفلتهم التي كانوا عليها .
   والمراد ب‍ * (ـ العادين) * الملائكة ، لأنهم أحصوا أعمال العباد وأيامهم ، وقيل : هم الحساب (2) ، أي : فاسأل الملائكة الذين عدوا أعمار الخلق ، أو : من يقدر أن يلقي فكره إلى العد فإنا لا نعرف عدد تلك السنين إلا أن نستقلها ونحسبها * (يوما أو بعض يوم) * .
  * (عبثا) * حال ، أي : عابثين ، أو مفعول له ، أي : ما * (خلقنكم) * للعبث بل للحكمة التي اقتضته ، وهي أن نتعبدكم ونكلفكم الطاعات ثم نعيدكم في دار الجزاء لنثيب ونعاقب ، وقرئ : * (ترجعون) * بفتح التاء (3) .
   و * (الحق) * الثابت الذي لا يزول ، أو : الذي يحق له الإلهية والملك فلا يزول ملكه ، وكل ملك غيره فملكه مستعار ، وإنما يملك بعض الأشياء من بعض الوجوه ، وهو * (الملك) * المالك لجميع الأشياء من جميع الوجوه ووصف * (العرش) * بالكرم (4) لأن الرحمة تنزل منه ، وينال الخير والبركة من جهته ، ولنسبته إلى أكرم الأكرمين .
  * (لا برهن له به) * صفة لازمة ، نحو قوله : * (يطير بجناحيه) * (5) جئ بها للتوكيد ، أو : هو اعتراض بين الشرط والجزاء ، كما يقال : من أحسن إلى فلان لا أحق بالإحسان منه ، فالله مثيبه .

-------------------
(1) في نسخة : ( مقالهم ) .
(2) قاله قتادة ، راجع التبيان : ج 7 ص 401 .
(3) قرأه حمزة والكسائي ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 450 .
(4) في نسخة : ( بالكريم ) .
(5) الأنعام : 38 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 603 _
سورة النور مدنية (1)
  أربع وستون آية .
  في حديث أبي : ( من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمن ومؤمنة فيما مضى وما بقي ) (2) .
  الصادق (عليه السلام) : ( حصنوا أموالكم وفروجكم بتلاوة سورة النور ، وحصنوا بها نساءكم ، فإن من أدمن قراءتها في كل يوم أو في كل ليلة لم يزن أحد من أهل بيته أبدا حتى يموت ، فإذا هو مات شيعه الى قبره سبعون ألف ملك كلهم يدعون ويستغفرون الله له حتى يدخل في قبره ) (3) صدق ولي الله.

-------------------
(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان : ج 7 ص 403 : مدنية بلا خلاف ، وهي أربع وستون آية في البصري والكوفي ، واثنتان في المدنيين ، وفي الكشاف : ج 3 ص 208 : مدنية ، وهي اثنتان وستون آية ، وقيل : أربع وستون ، نزلت بعد الحشر ، وفي تفسير الآلوسي : ج 18 ص 74 ما لفظه : مدنية كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير ، وحكى أبو حيان الإجماع على مدنيتها ولم يستثن الكثير من آيها شيئا ، وعن القرطبي أن آية * (يا أيها الذين ءامنوا ليستأذنكم) * الخ مكية .
(2) رواه الزمخشري في كشافه : ج 3 ص 261 مرسلا .
(3) ثواب الأعمال للصدوق : ص 135 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 604 _
بسم الله الرحمن الرحيم

  * (سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)* (سورة) * خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ موصوف ب‍ * (أنزلنها) * والخبر محذوف أي : فيما يتلى عليكم * (سورة أنزلنها) * ، وقرئ في الشواذ : ( سورة أنزلناها ) بالنصب (1) على : زيدا ضربته ، و * (أنزلنها) * تفسير للفعل المضمر ، أو على : اقرأ سورة و * (أنزلنها) * صفة * (وفرضنها) * وفرضنا أحكامها التي فيها ، أي (2) : جعلناها واجبة مقطوعا بها ، وأصل الفرض القطع ، وقرئ : ( فرضناها ) بالتشديد (3) وهو للتوكيد وللمبالغة في الإيجاب ، أو : لأن فيها فرائض شتى ، تقول : فرضت الفريضة وفرضت الفرائض ، وقرئ : * (تذكرون) * بتشديد الذال (4) وتخفيفها .
  * (الزانية والزانى) * رفعهما على الابتداء ، والخبر محذوف ، والتقدير : فيما

-------------------
(1) قرأه عيسى بن عمرو كما في شواذ القرآن لابن خالويه : ص 101 .
(2) في نسخة : ( أو ) بدل ( أي ) .
(3) قرأه ابن كثير وأبو عمرو ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 565 .
(4) وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وعاصم برواية أبي بكر وابن عامر ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 272 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _605 _
  فرض عليكم الزانية والزاني أي : جلدهما ، ويجوز أن يكون الخبر * (فاجلدوا) * لأن الألف واللام بمعنى ( الذي ) و ( التي ) ، والتقدير : الذي زنى والتي زنت فاجلدوهما ، كما تقول : من زنى فاجلدوه .
  والجلد: ضرب الجلد ، تقول : جلده كما تقول : ظهره وبطنه وركبه ، وهذا حكم من ليس بمحصن من الزناة الأحرار البالغين ، فأما المحصن فحكمه الرجم .
  وقرئ : ( رأفة ) بفتح الهمزة (1) ، والمعنى : أن الواجب على المؤمنين أن يستعملوا الجد في دين الله، ولا يأخذهم اللين والهوادة في استيفاء حدوده ، وقوله : * (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) * من باب التهييج وإلهاب الغضب لله ولدينه ، وقيل : معناه : * (لا تأخذكم بهما) * رحمة تمنعكم عن إقامة الحد عليهما فتعطلوا الحدود (2) ، أو : من الضرب الشديد ، بل أوجعوهما ضربا ولا تخففوا كما يخفف في حد الشارب .
  والرجل يجلد قائما على حالته التي وجد عليها ضربا وسطا مفرقا على الأعضاء كلها ، لا يستثنى منها إلا ثلاثة : الوجه والرأس والفرج ، وفي لفظ : ( الجلد ) إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتجاوز الألم إلى اللحم .
  والمرأة تجلد قاعدة عليها ثيابها قد ربطت عليها حتى لا تبدو عورتها .
  وفي تسميته ( عذابا ) دليل على أنه عقوبة ، ويجوز أن يسمى ( عذابا ) لأنه يمنع من المعاودة كما يسمى ( نكالا ) .
  والطائفة : الفرقة الحافة حول الشئ ، وهم ثلاثة فصاعدا ، وهي صفة غالبة ، وعن الباقر (عليه السلام) وابن عباس (رضي الله عنه) والحسن وغيرهم : ( أن أقلها رجل واحد ) (3) .

-------------------
(1) قرأه ابن كثير ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 565 .
(2) قاله عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وابراهيم ، راجع التبيان : ج 7 ص 406 .
(3) تفسير التبيان : ج 7 ص 406 ، تفسير الطبري : ج 9 ص 258 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 606_
  وينبغي أن لا يشهد إلا خيار الناس .
  الفاسق : الذي من شأنه الزنا ، لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء اللاتي على خلاف صفته ، وإنما يرغب في زانية مثله أو مشركة ، وكذلك الزانية المسافحة المشهورة بذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها ، وإنما يرغب فيها من هو من شكلها .
  وإنما قرن سبحانه بين الزاني والمشرك تفخيما لأمر الزنا واستعظاما له ، ومعنى الجملة الأولى: وصف الزاني بكونه غير راغب في العفائف لكن في الزواني ، ومعنى الجملة الثانية : وصف الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء ولكن للزناة ، وبينهما فرق ، وإنما قدمت الزانية على الزاني في الأولى لأن الآية مسوقة لعقوبتهما على جنايتهما ، والمرأة منها منشأ الجناية ، وهي الأصل والمادة في ذلك ، ثم قدم الزاني عليها في الثانية (1) لأن الآية مسوقة لذكر النكاح ، والرجل هو الأصل فيه والخاطب ، ومنه مبدأ الطلب .
  وحرم الزنا (2) * (وحرم) * نكاح المشهورات بالزنا على المؤمنين .
  * (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) * ذكر سبحانه حد الزنا ، ثم ذكر حد القذف بالزنا ، أي : يقذفون العفائف من النساء بالزنا والفجور * (ثم لم يأتوا بأربعة) * عدول يشهدون بأنهم شاهدوهن يفعلن ذلك * (فاجلدوهم) * والواجب أن يحضروا في مجلس واحد ، فإن جاءوا متفرقين كانوا قذفة .

-------------------
(1) في جميع النسخ : ( الثاني ) ، والصحيح ما أثبتناه .
(2) ليس في نسخة : ( وحرم الزنا ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _607 _
  ويقتضي نظم الآية أن تكون هذه الجمل الثلاث بأجمعها جزاء للشرط ، فيكون التقدير : من قذف المحصنات فاجلدوهم وردوا شهادتهم وفسقوهم ، أي : فاجمعوا لهم الجلد ورد الشهادة والتفسيق * (إلا الذين تابوا) * عن القذف * (وأصلحوا فإن الله) * يغفر لهم ، فلا يجلدون ولا ترد شهادتهم ولا يفسقون .
  والأبد : اسم لزمان طويل انتهى أو لم ينته ، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته ، سواء حد أو لم يحد ، عن أئمة الهدى (عليهم السلام) وابن عباس (رضي الله عنه) (1) ، وهو مذهب الشافعي (2) .
  ومن شرط توبة القاذف أن يكذب نفسه ، فإن لم يفعل ذلك لم تقبل شهادته .
  * (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) * روي : أنه لما نزلت آية القذف قام عاصم بن عدي الأنصاري فقال : يا رسول الله ، إن رأى رجل منا مع امرأته رجلا فأخبر بما رأى جلد ثمانين ! وإلى أن يجئ بأربعة شهداء فقد قضى الرجل حاجته ومضى ، قال : كذلك أنزلت يا عاصم ، فخرج فلم يصل إلى منزله حتى استقبله هلال بن أمية يسترجع ، فقال : ما وراءك ؟ قال : شر ، وجدت على بطن امرأتي خولة شريك بن سمحاء ، فقال : هذا والله سؤالي ،

-------------------
(1) انظر الكافي : ج 7 ص 397 ب 18 شهادة القاذف والمحدود .
(2) كتاب الام للشافعي : ج 7 ص 45 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 608_
  فرجعا ، فأخبر عاصم رسول الله، فبعث إليها فقال : ما يقول زوجك ؟ فقالت : لا أدري ، الغيرة أدركته أم بخلا على الطعام ، وكان شريك نزيلهم ، فنزلت الآيات ولا عن بينهما (1) .
  وقرئ : ( أربع شهادات ) بالنصب (2) لأنه في حكم المصدر الذي هو * (فشهدة أحدهم) * وهي مبتدأ محذوف الخبر ، فيكون التقدير : فواجب أن يشهد أحدهم أربع شهادات ، ويكون * (بالله) * من صلة * (شهدا ت) * ، وفي الرفع يكون * (أربع شهدا ت) * خبرا .
  وقرئ : ( أن لعنة الله ) و ( أن غضب الله ) على تخفيف * (أن) * ورفع ما بعدهما (3) .
   وقرئ بنصب * (الخمسة) * الثانية (4) على معنى : وتشهد الخامسة .
  وصفة اللعان : أن يوقف الرجل بين يدي الحاكم والمرأة عن يمينه ، فيقول الرجل أربع مرات : أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما ذكرته من الفجور عنها ، ثم يقول في المرة الخامسة : لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به .
  ويدرأ (5) عن المرأة العذاب ـ وهو حد الزنا ـ أن تقول : أشهد بالله أنه لمن الكاذبين فيما قذفني به ، أربع مرات ، مرة بعد أخرى ، وتقول في الخامسة : غضب الله علي إن كان من الصادقين فيما قذفني به ، ثم يفرق الحاكم بينهما ، ولا تحل له أبدا ، وكان عليها العدة من وقت اللعان .
  وإن نكل الرجل عن اللعان قبل استكمال

-------------------
(1) رواه الطبري في تفسيره : ج 9 ص 273 .
(2) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم برواية أبي بكر ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 452 .
(3) وهي قراءة نافع ويعقوب ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 566 .
(4) الظاهر من عبارة المصنف أنه اعتمد على قراءة الرفع هنا كما لا يخفي .
(5) في نسخة : ( يدفع ) ، واخرى : ( يرفع ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 609 _
  الشهادات وجب عليه حد القذف .
  وجواب * (لولا) * متروك ، وتركه دال على أمر عظيم لا يكتنه .
  * (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) * ( الإفك ) : أبلغ الكذب ، وأصله من ( الإفك ) وهو القلب ، لأنه قول مأفوك عن وجهه ، والمراد : ما أفك به على عائشة وصفوان بن المعطل .
  والعصبة : الجماعة من العشرة إلى أربعين ، وكذلك العصابة ، واعصوصبوا : اجتمعوا ، وهم : عبد الله بن أبي وهو الذي * (تولى كبره) * أي : إثمه ، ومسطح بن أثاثة ، وحسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم .
  * (لكل امرئ) * من تلك العصبة نصيبه * (من الإثم) * على مقدار خوضه في الإفك ، والعذاب العظيم لابن أبي ، لأن معظم الشر كان منه ،

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 610_
  يشيع ذلك في الناس ويقول : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها ، والله ما نجت منه ولا نجا منها .
  والخطاب في قوله : * (هو خير لكم) * لعائشة وصفوان لأنهما المقصودان بالإفك ، ولمن ساءه ذلك من المؤمنين ولكل من رمي بسب ، ومعنى كونه خيرا لهم : أن الله تعالى يعوضهم بصبرهم .
  وكان سبب الإفك : أن عائشة ضاع عقدها في غزوة بني المصطلق ، وكانت قد خرجت لقضاء حاجة ، فرجعت طالبة له ، وحمل هودجها على بعيرها ظنا منهم أنها فيه ، فلما عادت الى الموضع وجدتهم قد رحلوا ، وكان صفوان من وراء الجيش ، فلما وصل إلى ذلك الموضع وعرفها أناخ بعيره حتى ركبته وهو يسوقه حتى أتى الجيش وقد نزلوا في قائم الظهيرة .
  كذا رواه الزهري عن عائشة (1) .
  وقرئ: ( كبره ) بضم الكاف (2) ، أي : عظمه * (بأنفسهم) * أي : الذين هم كأنفسهم ، لأن المؤمنين كلهم كالنفس الواحدة .
  ونحوه: * (ولا تلمزوا أنفسكم) * (3) و * (فسلموا على أنفسكم) * (4) ، وقيل : معناه : هلا ظننتم ما تظنونه بأنفسكم لو خلوتم بها (5) ، ولم يقل : ظننتم بأنفسكم خيرا ، عدولا عن المضمر إلى المظهر ، وعن الخطاب إلى الغيبة ، ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات .
  ويدل على أن الاشتراك في الإيمان مقتض أن لا يصدق مؤمن على أخيه قول غائب ، وموجب أن يصرح ببراءة ساحته وتكذيب قاذفه .

-------------------
(1) تفسير ابن كثير : ج 3 ص 260 .
(2) قرأه حميد ومجاهد وأبو البرهم ويعقوب وابن قطيب وأبو جعفر المدني ، راجع التبيان : ج 7 ص 415 ، وشواذ القرآن لابن خالويه : ص 102 .
(3) الحجرات : 11 .
(4) النور : 61 .
(5) قاله مجاهد ، راجع التبيان : ج 7 ص 416 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 611 _
  * (لولا) * الأولى والثانية للتحضيض ، وهذه لامتناع الشئ لوجود غيره ، والمعنى : ولولا أني حكمت بأن أتفضل عليكم في الدنيا والآخرة لعاجلتكم بالعقاب فيما خضتم فيه .
  يقال : أفاض في الحديث واندفع وخاض .
  * (إذ) * ظرف * (لمسكم) * أو ل‍ * (أفضتم) * ، * (تلقونه) * يأخذه بعضكم من بعض ، يقال : تلقى القول وتلقنه وتلقفه بمعنى ، والأصل تتلقونه ، وصفهم بارتكاب آثام ثلاثة ، وعلق مس العذاب العظيم بها ، وهو : التحدث منهم به حتى انتشر وشاع ، وقولهم بأفواههم ما لا علم لهم به ، واستحقارهم لذلك .
  وفصل بين * (لولا) * و * (قلتم) * بالظرف لفائدة ، وهي بيان أنه كان يجب عليهم أول ما سمعوا أن يتفادوا عن التكلم به ، فكان ذكر الوقت أهم ، فوجب تقديمه * (سبحنك) * فيه تعجب من عظم الأمر ، أو تنزيه الله من أن تكون زوجة نبيه فاجرة .
  * (يعظكم الله) * في * (أن تعودوا) * من قولك : وعظت فلانا في كذا فتركه ، أو كراهة أن تعودوا أبدا ، أي : ما دمتم أحياء مكلفين ، و * (إن كنتم مؤمنين) * تهييج (1) لهم ، أو (2) تذكير بما يوجب ترك العود ، وهو اتصافهم بالإيمان الصارف عن القبيح .
  * (تشيع الفحشة) * أي : تشيعونها عن قصد إلى الإشاعة ومحبة لها ، وعذاب الدنيا : الحد * (والله يعلم) * ما في القلوب من الأسرار .
  * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ)

-------------------
(1) في نسخة : ( تقبيح ) .
(2) في نسخة : واو بدل ( أو ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 612_
  * * (ما زكى منكم) * أي : ما طهر أحد منكم من وسوسة الشيطان ، لكنه سبحانه يطهر بلطفه من يشاء ، وهو من له لطف يفعله به ليزكو عنده ويصلح به .
  * (ولا يأتل) * أي : لا يحلف ، وهو افتعال من الألية ، وقرئ : ( ولا يتأل ) (1) ، وعن الزجاج : يريد أن لا يؤتوا فحذف ( لا ) ، والمعنى : لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى من يستحق الإحسان (2) * (أولوا الفضل) * أولو الغنى * (منكم والسعة) * في المال ، وقيل : معناه : لا يقصروا في أن يحسنوا إليهم وإن كانت بينهم وبينهم إحنة لجناية اقترفوها (3) ، من قولهم : ما ألوت جهدا ، إذا لم تدخر منه شيئا ، نزلت في شأن مسطح ، وكان ابن خالة أبي بكر ، وكان فقيرا ، وكان أبو بكر ينفق عليه ، فلما خاض في الإفك حلف أن لا ينفق عليه .
  وقيل : نزلت في جماعة من الصحابة حلفوا أن لا يتصدقوا على من تكلم بشئ من الإفك ولا يواسوهم (4) .
  * (الغفلت) * عن الفواحش .
  وقرئ : * (يوم تشهد) * بالتاء والياء (5) .
  والدين :

-------------------
(1) قرأه الحسن وأبو جعفر المدني وزيد بن أسلم و عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة ، راجع شواذ القرآن لابن خالويه : ص 102 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 6 ص 440 .
(2) معاني القرآن : ج 4 ص 36 .
(3) قاله ابن بحر كما في تفسير الماوردي : ج 4 ص 83 .
(4) قاله ابن عباس والضحاك كما في تفسير البغوي : ج 3 ص 334 .
(5) وبالياء قرأه حمزة والكسائي ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 454 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _613_
  الجزاء ، و * (الحق) * صفة للدين ، أي : يوفيهم الجزاء الحق الذي هم أهله * (أن الله هو الحق المبين) * أي : العادل ، الظاهر العدل الذي لا ظلم في حكمه .
  * (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ)* (الخبيثت) * من الكلم تقال أو تعد للخبيثين من الرجال والنساء * (والخبيثون) * منهم يتعرضون للخبيثات من القول ، وكذلك * (الطيبت ... والطيبون) * ، و * (أولئك) * إشارة إلى الطيبين ، وأنهم * (مبرءون) * مما يقول الخبيثون من خبيثات الكلم .
  ويجوز أن يكون المراد بالخبيثات والطيبات النساء ، أي : الخبائث يتزوجن الخباث ، والخباث الخبائث ، فكذلك أهل الطيب .
  * (حتى تستأنسوا) * فيه وجهان : أحدهما : أنه من الاستئناس ، خلاف لاستيحاش ، لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا ، فهو كالمستوحش لخفاء الحال عليه ، فإذا أذن له استأنس ، فالمعنى : حتى يؤذن لكم ، فهو كقوله : * (لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم) * (1) فوضع الاستئناس موضع الإذن، لأن الاستئناس يرادف الإذن.
  والثاني : أنه استفعال من أنس الشئ : إذا أبصره مكشوفا ، والمعنى : حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال هل يراد دخولكم

-------------------
(1) الأحزاب : 53 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 614 _
  أم لا ؟ ومنه قولهم : استأنست فلم أر أحدا ، أي : استعلمت وتعرفت ، ومنه قول النابغة : على مستأنس وحد (1) وعن أبي أيوب الأنصاري : قلنا : يا رسول الله، ما الاستئناس ؟ قال : ( يتكلم الرجل بالتسبيحة والتحميدة والتكبيرة ويتنحنح ، يؤذن أهل البيت ، والتسليم : أن يقول : السلام عليكم ، أأدخل ، ثلاث مرات .
  فإن أذن له وإلا رجع ) (2) .
  * (ذا لكم) * الاستئذان والتسليم * (خير لكم) * من تحية الجاهلية وهو قولهم : حييتم صباحا أو مساء ، أو من الدخول بغير إذن * (لعلكم تذكرون) * أي : أنزل عليكم هذا إرادة أن تتعظوا وتعملوا بما أمرتم به في باب الاستئذان .
  * (فإن لم تجدوا فيها أحدا) * من الآذنين * (فلا تدخلوها) * واصبروا حتى تجدوا من يأذن لكم ، أو : إن لم تجدوا فيها أحدا من أهلها فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها لأنه تصرف في ملك غيرك ، فلابد أن يكون برضاه * (فارجعوا) * ولا تقفوا على الأبواب منتظرين ، ولاتلحوا (3) في تسهيل الحجاب * (هوأزكى لكم) * الرجوع أطهر لكم ، لما فيه من السلامة والبعد عن الريبة لكم ، وأنفع لكم وأنمى خيرا ، ثم أوعد المخاطبين بأنه * (عليم) * بما يأتون وما يذرون ، فيجازي بحسب ذلك .
  ثم استثنى من البيوت التي لا يجب على داخلها الاستئذان : ما ليس بمسكون

-------------------
(1) كأن رحلي وقد زال النهار بنا * بذي الجليل على مستأنس وحد وهو من قصيدة نظمها في مدح النعمان بن المنذر ، وفيه يصف حاله كحال المسافر يجد في السير بعد الزوال ليصل الى منزل يجدفيه رفيقا مؤنسا وعلفا لدابته ، ديوان النابغة : ص 21 .
(2) أخرجه ابن ماجة في السنن : ج 2 ص 1221 ح 3707 .
(3) في نسخة : ( تلجوا ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _615 _
  منها نحو : الفنادق وهي الخانات والربط وحوانيت الباعة والأرحية والحمامات ، والمتاع : المنفعة والارتفاق والبيع والشراء ، وقيل : هي الخربات المعطلة يتبرز فيها ، والمتاع : التبرز (1) .
  * (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) * * (من) * للتبعيض ، والمراد : غض البصر عما يحرم ، والاقتصار به على ما يحل .
  ويجوز عند الأخفش أن يكون ( من ) مزيدة (2) ، ولم يجزه سيبويه (3) .
  الصادق (عليه السلام) : ( حفظ الفروج عبارة عن التحفظ من الزنا في جميع القرآن ، إلا هنا فإن المراد به الستر حتى لا ينظر إليها أحد ، ولا يحل للرجل أن ينظر إلى فرج أخيه ، ولا للمرأة أن تنظر الى فرج أختها ) (4) .
  ثم أخبر أنه * (خبير) * بأحوالهم وأفعالهم ، ويعلم كيف * (يصنعون) * ، فعليهم أن يكونوا على حذر واتقاء في كل حركة وسكون .

-------------------
(1) قاله عطاء ، راجع التبيان : ج 7 ص 427 .
(2) انظر معاني القرآن للأخفش : ج 1 ص 272 .
(3) انظر كتاب سيبويه : ج 4 ص 224 .
(4) الكافي : ج 2 ص 36 ح 1 قطعة . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 616_
  وأمر النساء أيضا بغض الأبصار وحفظ الفروج كما أمر الرجال .
  وعن ام سلمة قالت : كنت عند النبي (صلى الله عليه وآله) وعنده ميمونة ، فأقبل ابن ام مكتوم ، وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب ، فقال : احتجبا ، فقلنا : يا رسول الله، أليس أعمى لا يبصرنا ؟ فقال : أفعمياوان أنتما ؟ ألستما تبصرانه (1) ؟ الزينة : ما تزينت المرأة من حلي أو كحل أو خضاب ، وهي ظاهرة وباطنة ، فالظاهر لا يجب سترها وهي الثياب ، وقيل : الكحل والخاتم والخضاب في الكف (2) ، وقيل : الوجه والكفان (3) ، وعنهم (عليهم السلام) : الكفان والأصابع ، والباطنة كالخلخال والسوار والقلادة والقرط ، فلا تبديه إلا لهؤلاء المذكورين (4) .
  وسئل الشعبي : لم لم يذكر الله الأعمام والأخوال ؟ فقال : لئلا يصفها العم عند ابنه ، وكذلك الخال (5) .
  وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتستر ، لأن هذه الزين واقعة على مواضع من الجسد ، لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء ، وأما الظاهرة فسومح فيها لهن ، لأن المرأة لا تجد بدا من ذلك ، خصوصا في الشهادة والمحاكمة .
  والخمر : المقانع ، جمع خمار ، أمرن بإلقائها على جيوبهن لأنها لو كانت واسعة تبدو منها نحورهن ، وكن يسدلن الخمر من ورائهن فتبقى مكشوفة ، فأمرن بسدلها من قدامهن حتى تغطيها .
  ويجوز أن يكون المراد بالجيوب الصدور تسمية بما

-------------------
(1) أخرجه الترمذي في سننه : ج 5 ص 102 ح 2778 .
(2) قاله ابن عباس ، راجع التبيان : ج 7 ص 429 .
(3) وهو قول سعيد بن جبير والحسن وعطاء والأوزاعي ، راجع تفسير الطبري : ج 9 ص 304 ، وتفسير الماوردي : ج 4 ص 91 .
(4) تفسير القمي : ج 2 ص 101 برواية أبي الجارود عن الباقر (عليه السلام) .
(5) حكاه عنه الرازي في تفسيره : ج 23 ص 207 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 617 _
  يليها ، كما قيل : ناصح الجيب ، وضربها بالخمار على الجيب وضعها عليه ، كقولك : ضربت بيدي على الحائط .
  وقرئ : ( جيوبهن ) بكسر الجيم (1) لأجل الياء ، و ( بيوتا غير بيوتكم ) (2) بكسر الباء (3) .
  * (أو نسآئهن) * يعني : النساء المؤمنات ، لأنه ليس للمؤمنة أن تتجرد بين يدي مشركة أو كتابية ، وعن ابن عباس : والظاهر أنه عنى بنسائهن و * (ما ملكت أيمنهن) * من في صحبتهن وخدمتهن من الحرائر والإماء (4) .
  وقيل : * (ما ملكت أيمنهن) * هم الذكور والإناث جميعا (5) .
  والتابع : هو الذي يتبعك لينال من طعامك ، ولا حاجة له في النساء ، وهو الأبله الذي لا يعرف شيئا من أمر النساء ، وقرئ * (غير) * بالنصب (6) على الاستثناء أو الحال ، وبالجر على الوصفية ، و * (الإربة) * الحاجة * (أو الطفل) * وضع الواحد موضع الجمع لأنه يفيد الجنس ، و * (لم يظهروا) * هو إما من ظهر على الشئ : إذا اطلع عليه ، أي : لا يعرفون ما العورة ، ولا يميزون بينها وبين غيرها ، وإما من ظهر على فلان : إذا قوي عليه ، أي : لم يبلغوا وقت القدرة على الوطء لعدم شهوتهم .
  وكانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها ، وقيل : كانت تضرب بإحدى رجليها الاخرى * (ليعلم) * أنها ذات خلخالين (7) ، وإذا نهين عن إظهار صوت الحلي بعدما نهين عن إظهار الحلي علم أن النهي عن إظهار مواضع الحلي أبلغ .

-------------------
(1) قرأه ابن كثير وحمزة والكسائي وابن عامر وابن ذكوان والأعشى ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 330 ، وتفسير البغوي : ج 1 ص 161 .
(2) الآية : 27 .
(3) قرأه ابن كثير وابن عامر والكسائي ، راجع التبيان : ج 7 ص 140 .
(4) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 231 .
(5) وهو قول ام سلمة وعائشة كما في تفسير البغوي : ج 3 ص 339 .
(6) وهي قراءة ابن عامر وأبي بكر وأبي جعفر ، راجع التذكرة في القراءات : ج 2 ص 567 .
(7) قاله السدي ، راجع تفسير السمرقندي : ج 2 ص 438 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 618 _
  وقرئ : ( أيه المؤمنون ) بضم الهاء (1) ، والوجه فيه : أن الألف لما سقطت من ( أيها ) لالتقاء الساكنين اتبعت حركتها حركة ما قبلها .
  * (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) * الأيامى واليتامى أصلهما ( أياييم ) و ( تيايم ) فقلبا ، والأيم للرجل والمرأة ، وتأيما إذا لم يتزوجا بكرين كانا أو ثيبين .
  وفي الحديث : ( اللهم إنا نعوذ بك من العيمة والأيمة والغيمة ) (2) .
  أي : * (أنكحوا) * من يأتم منكم من الأحرار والحرائر ، ومن كان فيه صلاح من غلمانكم وجواريكم ، وهذا أمر ندب واستحباب .
  وعنه (عليه السلام) : ( من أحب فطرتي فليستن بسنتي ، وهي النكاح ) (3) .
  وعنه (عليه السلام) : ( من كان له ما يتزوج به فلم يتزوج فليس منا ) (4) .
  وعنه (عليه السلام) : ( إلتمسوا الرزق بالنكاح ) (5) .

-------------------
(1) وهي قراءة ابن عامر ، راجع التبيان : ج 7 ص 429 .
(2) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 233 مرسلا .
(3) أخرجه البيهقي في سننه : ج 7 ص 78 .
(4) الكشاف : ج 3 ص 234 .
(5) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال : ج 16 ص 276 ح 44436 نقلا عن مسند الفردوس . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 619 _
  الصادق (عليه السلام) : ( من ترك التزويج مخافة العيلة فقد أساء الظن بربه ، لقوله تعالى : * (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) * ) (1) .
  * (لا يجدون نكاحا) * أي : استطاعة تزوج ، ويجوز أن يراد بالنكاح ما ينكح به من المال * (والذين يبتغون) * مرفوع بالابتداء ، أو منصوب بفعل مضمر يفسره * (فكاتبوهم) * كقولك : زيدا فاضربه ، ودخلت الفاء لتضمن معنى الشرط .
  والمكاتبة والكتاب أن يقول الرجل لمملوكه : كاتبتك على كذا ، ومعناه : كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك ، أو : كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت علي العتق * (إن علمتم فيهم خيرا) * أي : صلاحا ورشدا ، وقيل : قدرة على أداء مال الكتابة (2) .
  * (وءاتوهم) * أمر بإعانتهم وإعطائهم سهمهم الذي جعله الله لهم في قوله : * (وفي الرقاب) * (3) ، أو : حظهم من المال الذي عليهم وهو استحباب .
  * (ولا تكرهوا) * إماءكم على الزنا ، وكانت إماء أهل الجاهلية يساعين على مواليهن ، وكانت لعبدالله بن أبي ست جوار يكرههن على البغاء ، وضرب عليهن ضرائب ، فشكت اثنتان منهن إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فنزلت (4) .
  ويكنى بالفتى والفتاة عن العبد والأمة .
  وفي الحديث : ( ليقل أحدكم : فتاي وفتاتي ، ولا يقل : عبدي وأمتي ) (5) .
  و * (البغآء) * مصدر البغي ، وإنما شرط إرادة التحصن لأن الإكراه لا يتأتى إلا مع إرادة التحصن ، وهو التعفف .
  وكلمة * (إن) * وإيثارها على ( إذا ) تؤذن بأنهن كن يفعلن ذلك برغبة وطوع ، ومن يجبرهن * (فإن الله من بعد إكرا ههن غفور) *

-------------------
(1) الكافي : ج 5 ص 330 ح 5 .
(2) قاله مجاهد ، راجع تفسير الطبري : ج 9 ص 314 .
(3) البقرة : 177 .
(4) أسباب النزول للواحدي : ص 273 .
(5) مسند أحمد : ج 2 ص 496 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _620_
  وللمكرهات لا للمكره * (رحيم) * بهن ، وعن الصادق (عليه السلام) : ( لهن غفور رحيم ) .
  و * (مبينت) * أي : واضحات ظاهرات في معاني الأحكام والحدود ، و ( مبينات ) بالفتح : موضحات مفصلات * (ومثلا) * من أمثال * (من قبلكم) * وشبها من حالهم بحالكم .
  * (اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) * قال : * (نور السموات) * ، ثم قال : * (مثل نوره) * و * (يهدي الله لنوره) * ، كما يقال : فلان كرم وجود ، ثم يقول : ينعش الناس بكرمه ويشملهم جوده .
  ومعناه : ذو نور السماوات وصاحب نور السماوات ، وإضافة النور إلى السماوات والأرض لأحد معنيين : إما لأن المراد أهل السماوات والأرض وأنهم يستضيئون بنوره ، وإما للدلالة على عموم إضاءته وشيوع إشراقه .
  ورووا عن علي (عليه السلام) : * (الله نور السموات والأرض) * والمعنى : نشر فيها الحق فأضاءت بنوره ، أو نور قلوب أهلها به (1) .

-------------------
(1) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 242 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 621_
  * (مثل نوره) * أي : صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة والإشراق * (كمشكوا ة) * أي : كصفة مشكاة ، وهي الكوة في الجدار غير النافذة * (فيها مصباح) * أي : سراج ثاقب * (المصباح في زجاجة) * زهراء هي مشبهة في ظهورها (1) ب‍ * (كوكب درى) * من الكواكب المشهورة بمزيد الضوء والظهور (2) كالمشتري والزهرة ونحوهما ، وهو منسوب إلى الدر ، أي : أبيض متلألئ .
  وقرئ : ( درئ ) بالهمزة (3) على زنة ( سكيت ) ، كأنه يدرأ الظلام أي : يدفعه بضيائه ، و ( دري ) (4) كمريق ، وهو العصفر * (يوقد) * هذا المصباح * (من شجرة) * أي : مبدأ ثقوبه من شجرة الزيتون ، يعني : رويت ذبالته بزيتها ، ومن قرأ ( توقد ) بالتاء (5) فالفعل للزجاجة ، والتقدير : مصباحه الزجاجة ، فحذف المضاف ، وقرئ : * (يوقد) * بالياء أيضا * (مباركة) * كثيرة البركة والمنفعة ، لأنه يسرج بدهنها ، ويؤتدم بها ، ويوقد بحطبه وثفله ، ويغسل الإبريسم برماده ، وهي أول شجرة نبتت بعد الطوفان في الأرض التي بارك الله فيها للعالمين ، وقيل : لأن سبعين نبيا باركوا فيها منهم إبراهيم (عليه السلام) (6) * (لا شرقية ولا غربية) * لأن منبتها الشام ، وهي بين المشرق والمغرب ، وأجود الزيتون زيتون الشام ، وقيل : لا يفئ عليها ظل شرق ولا غرب ، بل هي ضاحية للشمس لا يظلها شجر ولا جبل ، فزيتها يكون أصفي (7) ، وقيل : ليست في مقنأة (8) لا تصيبها الشمس ، ولا في مضحى لا يصيبها الظل ، لكن الشمس والظل

-------------------
(1 و 2) في نسخة : ( زهورها ) و ( الزهور ) .
(3) قرأه النحويان (أبو عمرو والكسائي) ، راجع التذكرة في القراءات : ج 2 ص 568 .
(4) وهي قراءة المفضل ، راجع المصدر السابق .
(5) قرأه حمزة والكسائي وأبو بكر ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 568 .
(6) قاله ابن عباس ، راجع تفسير القرطبي : ج 12 ص 258 .
(7) قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة وابن سيرين ، راجع التبيان : ج 7 ص 438 .
(8) المقنأة : الموضع الذي لا تطلع عليه الشمس ، وضده : المضحاة ، (لسان العرب : مادة قنأ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 622_
  يتعاقبان عليها (1) .
  وعن الحسن : ليست من شجرة الدنيا فتكون شرقية أو غربية (2) * (يكاد زيتها يضى ء) * من صفائه وفرط تلألئه وضيائه من غير نار ، و * (نور على نور) * أي : هو نور متضاعف ، قد تظاهر فيه نور الزيت ونور المصباح ونور الزجاجة ، فلم يبق مما يقوي النور ويزيد في إضاءته بقية .
  واختلف في هذا النور الذي أضافه سبحانه إلى نفسه وما شبهه به ، فذهب الأكثر من المفسرين إلى أنه نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) ، فكأنه قال : مثل محمد (صلى الله عليه وآله) رسول الله وهو المشكاة ، والمصباح قلبه ، والزجاجة صدره ، شبهه بالكوكب الدري ، ثم رجع إلى قلبه المشبه بالمصباح فقال : يوقد هذا المصباح من شجرة مباركة يعني : إبراهيم (عليه السلام) ، لأن أكثر الأنبياء من صلبه ، أو : شجرة الوحي لا شرقية ولا غربية : لا نصرانية ولا يهودية ، لأن النصارى تصلي إلى المشرق واليهود إلى المغرب * (يكاد) * أعلام النبوة تشهد له قبل أن يدعو إليها ، أو : يكاد صدقه في نبوته يتبين ويتميز وإن لم ير شئ من معجزاته ، كما قال عبد الله بن رواحة : لو لم تكن فيه آيات مبينة * كانت بديهته تنبئك بالخير (3) وعن الباقر (عليه السلام) : ( إن قوله : * (كمشكوا ة) * عليها مصباح هو نور العلم في صدر النبي ( صلى الله عليه وآله) ، والزجاجة صدر علي (عليه السلام) ، علمه النبي (صلى الله عليه وآله) علمه فصار إلى صدره * (يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار) * يكاد العالم من آل محمد (صلى الله عليه وآله) يتكلم بالعلم قبل أن يسأل * (نور على نور) * أي : إمام يؤيد بنوره العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمد (صلى الله عليه وآله) ، وذلك من لدن آدم إلى قيام الساعة ، هم خلفاء الله في أرضه ، وحججه على خلقه ، لا تخلو الأرض في كل عصر من واحد منهم ) (4) .

-------------------
(1) قاله السدي ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 346 .
(2) تفسير الحسن البصري : ج 2 ص 160 .
(3) حكاه الرازي في تفسيره : ج 23 ص 237 .
(4) التوحيد للصدوق : ص 158 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _623_
  وهذا يقتضي أن تكون الشجرة المباركة هي هذه الشجرة التي أشرقت الأرض بنورها من عهد آدم إلى منقرض العالم .
  وقيل : إن نور الله هو الحق (1) ، كما في قوله : * (يخرجهم من الظلمات إلى النور) * (2) أي : من الباطل إلى الحق ، وعن أبي بن كعب : أنه قرأ ( مثل نور من آمن به ) (3) يهدي الله بهذا النور الثاقب من يشاء من عباده ، بأن يفعل به لطفا إذا علم أنه يصلح له ، ويوفقه لاتباع دلائله .
  * (في بيوت) * يتعلق بما قبله ، أي : كمشكاة في بعض بيوت الله، وهي المساجد ، أو بما بعده وهو * (يسبح له ... رجال) * في بيوت .
  وقوله : * (فيها) * هو تكرير كما يقال : زيد في الدار جالس فيها ، والمراد بالإذن : الأمر * (أن ترفع) * أي : تبنى ، كقوله : بناها : رفع سمكها * (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت) * (4) ، أو : تعظم وترفع من قدرها ، وقيل : هي بيوت الأنبياء (5) ، وروي ذلك مرفوعا ، وهو : أنه (عليه السلام) لما قرأ هذه الآية سئل : أي بيوت هذه ؟ قال : بيوت الأنبياء ، فقام أبو بكر فقال : يا رسول الله، هذا البيت منها ، وأشار إلى بيت علي (عليه السلام) وفاطمة (عليهما السلام) ؟ فقال : نعم ، من أفاضلها (6) .
  * (ويذكر فيها اسمه) * أي : يتلى فيها كتابه ، ويذكر أسماؤه الحسنى ، وقرئ : ( يسبح له ) على البناء للمفعول (7) ، وإسناده إلى أحد الظروف الثلاثة وهي : * (له فيها بالغدو والآصال) * .

-------------------
(1) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 242 ونسبه الى علي (عليه السلام) .
(2) البقرة : 257 .
(3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 242 .
(4) البقرة : 127 .
(5) قاله مجاهد ، راجع تفسير القرطبي : ج 12 ص 265 .
(6) رواه الآلوسي في تفسيره : ج 18 ص 174 عن أنس وبريدة .
(7) قرأه ابن عامر وأبو بكر ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 568 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 624 _
  ويرتفع * (رجال) * بما دل عليه * (يسبح) * أي : يسبح رجال ، والآصال : جمع أصل وهو العشي ، والمعنى : بأوقات الغدو أي : بالغدوات ، والتجارة : صناعة التاجر ، أي : لا يشغلهم عن الذكر والصلاة ، فإذا حضرت الصلاة تركوا التجارة وقاموا إليها * (وإقام الصلوا ة) * أي : إقامتها ، فإن التاء في ( إقامة ) عوض من العين الساقطة ، إذ الأصل ( إقوام ) فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض فأسقطت ، ونحوه : وأخلفوك عدا الأمر الذي وعدوا (1) وتقلب القلوب والأبصار : أن تضطرب من الهول والفزع ، و ( تشخص ) أي : تتقلب أحوالها فتفقه القلوب وتبصر الأبصار بعد أن كانت لا تفقه ولا تبصر ، أي : يسبحون ليجزيهم جزاء أعمالهم مضاعفا ، ويزيدهم على الثواب تفضلا ، والتفضل يكون * (بغير حساب) * .
  * (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ * أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) *

-------------------
(1) وصدره : إن الخليط أجدوا البين فانجردوا ، والبيت منسوب لزهير بن أبي سلمى من قصيدة يمدح بها هرم بن سنان ، وقيل : للفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب ، راجع ديوان زهير : 26 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 625 _
  والسراب : ما يرى في الفلاة يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري ، والقيعة : بمعنى القاع أو جمع القاع ، وهو المستوي من الأرض، شبه ما يعمله الكفار من الأعمال التي يحسبها نافعة عند الله بسراب ، يراه من غلبه العطش فيحسبه ماء ، فيأتيه فلا يجد ما رتجيه * (ووجد الله) * عند عمله فجازاه على كفره ، أو : وجد الله عنده بالمرصاد فأتم له جزاءه ، وهذا في الظاهر خبر عن * (الظمان) * وفي المعنى خبر عن الكفار ، وفي معناه : * (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلنه هباء منثورا) * (1) * (عاملة ناصبة) * (2) * (يحسبون أنهم يحسنون صنعا) * (3) .
  والبحر اللجي : الكثير الماء ، منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر * (يغشه) * أي : يعلو ذلك البحر * (موج) * من فوق ذلك الموج * (موج من) * فوق الموج * (سحاب ... ظلمات ) * ظلمة البحر وظلمة الموج وظلمة السحاب * (إذا أخرج) * الواقع فيها * (يده لميكد يربها) * مبالغة في : لم يرها ، أي : لم يقرب أن يراها ، وهذا تشبيه ثان لأعمالهم في خلوها عن نور الحق وظلمتها لبطلانها بظلمات متراكمة * (ومن لم يجعل الله له نورا) * بتوفيقه ولطفه فهو في ظلمة الباطل لا نور له .
  وقرئ : ( سحاب ظلمات ) على الإضافة (4) ، و ( سحاب ) بالرفع والتنوين ( ظلمات ) بالجر (5) بدلا من * (ظلمات) * الأولى.
  * (صفت) * يصففن أجنحتهن في الهواء ، والضمير في * (علم) * ل‍ * (كل) * أو ل‍ * (الله) * ، وكذلك في * (صلاته وتسبيحه) * كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها .

-------------------
(1) الفرقان : 23 .
(2) الغاشية : 3 .
(3) الكهف : 104 .
(4) قرأه ابن محيصن والبزي عن ابن كثير ، راجع تفسير القرطبي : ج 12 ص 284 .
(5) وهي قراءة قنبل ، راجع المصدر السابق . (*)