* (ويمدهم) * من مد الجيش وأمده إذا زاده ، والمعنى : أنه يمنعهم ألطافه التي يمنحها المؤمنين ويخذلهم بسبب كفرهم ، فتبقى قلوبهم يتزايد الرين والظلمة فيها كما يتزايد الانشراح والنور في قلوب المؤمنين .
وأسند ذلك التزايد إلى الله سبحانه لأنه مسبب عن فعله بهم بسبب كفرهم .
وعن الحسن
(1) قال : في ضلالتهم يتمادون
(2) والطغيان : الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتو ، وفي إضافة الطغيان إليهم ما يدل على أن الطغيان والتمادي في الضلال مما اقترفته نفوسهم ، والعمه مثل العمى إلا أن العمه في الرأي خاصة ، وهو التحير والتردد ، لا يدري أين يتوجه .
*
(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) * (16) سورة البقرة / 17 معنى اشتراء * (الضلالة بالهدى) * اختيارها عليه واستبدالها به على سبيل الاستعارة ، لأن الاشتراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر ، والضلالة : الجور عن القصد ، وفي المثل : ( ضل دريص نفقه )
(3) ، فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين ، والربح : الفضل على رأس المال ، وأسند الخسران إلى التجارة مجازا ، والمعنى : أن المطلوب في التجارة سلامة رأس المال والربح ، وهؤلاء قد أضاعوا
--------------------
(1) هو الحسن بن أبي الحسن بن يسار ، أبو سعيد البصري ، مولى الأنصار ، كان فصيحا
زاهدا ، وكان حافظا واعظا بارعا في وعظه ، وكان راويا عن كثير من الصحابة ، ولد لسنتين بقينا من خلافة عمر ، ونشأ بوادي القرى ، وتوفي سنة 110 ه وهو ابن ثمان وثمانين ، (تهذيب التهذيب لابن حجر : ج 2 ص 263 ـ 270 ، وميزان الاعتدال للذهبي : ج 1 ص 254 ، وحلية الأولياء لأبي نعيم : ج 2 ص 131 ، وأمالي السيد المرتضى : ج 1 ص 106) .
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 1 ص 68 .
(3) الدرص : ولد الفأرة واليربوع والهرة وأشباهها ، ونفقه : جحره ، والمثل يضرب لمن
يعني بأمره ويعد حجة لخصمه فينسى عند الحاجة ، راجع مجمع الأمثال للميداني : ج 1 ص
432 ، والقاموس المحيط : مادة (درص) . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 77 _
الطلبتين
(1) معا ، لأن رأس المال كان هو الهدى فلم يبق لهم ، ولم يصيبوا الربح لأن الضال خاسر .
*
(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ) * (17) ثم زاد سبحانه في الكشف عن حالهم بضرب المثل ، فقال : * (مثلهم) * أي : حالهم كحال * (الذى استوقد نارا) * ، وضع ( الذي ) موضع (الذين ) ، كقوله سبحانه : * (وخضتم كالذى خاضوا) *
(2)، أو قصد جنس المستوقدين ، أو أراد الجمع الذي استوقد نارا ، على أن المنافقين لم تشبه ذواتهم بذات المستوقد ، بل شبهت قصتهم بقصة المستوقد ، فلا يلزم تشبيه الجماعة بالواحد ، واستوقد : طلب الوقود ، والوقود : سطوع النار وارتفاع لهبها ، والإضاءة : فرط الإنارة ، وهي متعدية في الآية ، ويحتمل أن تكون غير متعدية مسندة إلى * (ما حوله) * والتأنيث للحمل على المعنى ، لأن ما حول المستوقد أشياء وأماكن .
وجواب ( لما ) : * (ذهب الله بنورهم) *، ويجوز أن يكون محذوفا ، لطول الكلام وأمن الالتباس ، كأنه قيل : * (فلمآ أضاءت ما حوله) * خمدت فبقوا متحيرين متحسرين على فوت الضوء ، وعلى هذا فيكون * (ذهب الله بنورهم) * كلاما مستأ نفا ، كأنهم لما شبهت حالهم بحال المستوقد اعترض سائل فقال : ما بالهم قد اشبهت حالهم حال هذا المستوقد ؟ فقيل له : * (ذهب الله بنورهم) * ، ويجوز أن يكون قوله : * (ذهب الله بنورهم) * بدلا من جملة التمثيل على سبيل البيان .
--------------------
(1) الطلبة ـ بكسر اللام ـ : ما طلبته ، (القاموس المحيط : مادة طلب) .
(2) التوبة : 69 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 78 _
والفرق بين أذهبه وذهب به : أن معنى ( أذهبه ) : أزاله وجعله ذاهبا ، و ( ذهب به ) : استصحبه ومضى به معه ، قال : * (فلما ذهبوا به) * (1) ، فالمعنى : أخذ الله نورهم وأمسكه ، وما يمسك الله فلا مرسل له ، فهو أبلغ من الإذهاب ، و ( ترك ) بمعنى طرح وخلى ، قالوا : تركه ترك الظبي ظله ، فإذا ضمن معنى ( صير ) تعدى إلى مفعولين وجرى مجرى أفعال القلوب ، نحو قول عنترة (2) : فتركته جزر السباع ينشنه * يقضمن حسن بنانه والمعصم (3) والمراد بالإضاءة انتفاع المنافقين بالكلمة المجراة على ألسنتهم ، ووراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق الذي ترمي بهم إلى ظلمة سخط الله والعقاب الدائم ، ويجوز أن يكون قد شبه اطلاع الله على أسرارهم بذهاب الله بنورهم .
ووجه آخر : وهو أنهم لما وصفوا باشتراء الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل، ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد ، والضلالة التي اشتروها بذهاب الله بنورهم .
سورة البقرة / 19 * ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) * (18) كانت حواسهم صحيحة لكنهم لما
أبوا أن يصيخوا (4) مسامعهم إلى الحق ، وأن
--------------------
(1) يوسف : 15 .
(2) هو عنترة بن شداد بن عمرو بن معاوية بن قراد العبسي ، أشهر فرسان العرب في الجاهلية ، ومن شعراء الطبقة الاولى، من أهل نجد ، امه حبشية اسمها : زبيدة ، سرى إليه السواد منها ، وكان من أحسن العرب شيمة ومن أعزهم نفسا ، يوصف بالحلم على شدة بطشه ، وفي شعره رقة وعذوبة ، اجتمع في شبابه بامرئ القيس الشاعر ، وشهد حرب داحس والغبراء وعاش طويلا ، قتل نحو سنة 22 قبل الهجرة ، (الشعر والشعراء لابن قتيبة : ص 130 ، والأغاني : ج 8 ص 240 ، وخزانة الأدب: ج 1 ص 62 ، وشرح الشواهد : ص 164 ، وآداب اللغة : ج 1 ص 117 ) .
(3) راجع ديوانه : ص 64 ، وخزانة الأدب : ج 9 ص 165 ، أي : فتركته قتيلا تنهشه السباع
والوحوش وتقتضم أصابعه وزنديه .
(4) أصاخ له : استمع ، (القاموس المحيط : مادة صاخ) . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 79 _
ينطقوا ألسنتهم بالحق ، وأن ينظروا ويتبصروا بعيونهم ، جعلوا كأنهم انتقضت بنى مشاعرهم التي هي أصل الإحساس والإدراك كقوله : صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به * وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا (1) و * (لا يرجعون) * معناه : لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه ، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها ، أو بقوا متحيرين لا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون ، فكيف يرجعون إلى حيث ابتدأوا منه ؟ * ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ) * (19) الصيب : المطر الذي يصوب ، أي : ينزل ويقع ، ويقال للسحاب : صيب أيضا (2) .
هذا تمثيل آخر لحال المنافقين ، ليكون كشفا لها بعد كشف ، والمعنى : أو كمثل ذوي صيب ، أي : كمثل قوم أخذهم المطر على هذه الصفة فلقوا منها مالقوا .
قالوا : شبه دين الإسلام بالمطر ، لأن القلوب تحيا به كما تحيا الأرض بالمطر ، وشبه ما يتعلق به من شبهات الكفار بالظلمات ، وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق ، وما يصيبهم من أهل الإسلام بالصواعق .
وقيل : شبه القرآن بالمطر ، وما فيه من الابتلاء والزجر بالظلمات والرعد ، وما فيه من البيان بالبرق ، وما فيه من الوعيد آجلا والدعاء إلى الجهاد عاجلا بالصواعق (3) .
وجاءت هذه الأشياء
--------------------
(1) البيت لقعنب بن ام صاحب الغطفاني كما في شرح درة الغواص : ص 130 ، وراجع لباب
الآداب: ص 403 مادة ( اذن ) ، وأذنوا : أي استمعوا ، ومعناه لا يحتاج الى بيان .
(2) انظر لسان العرب : مادة (صوب) .
(3) قاله ابن عباس ، راجع تفسيره : ص 5 ، وتفسير الماوردي : ج 1 ص 82 ، واختاره الزمخشري في الكشاف : ج 1 ص 79 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 80 _
منكرة ، لأن المراد أنواع منها ، كأنه قيل : في الصيب ظلمات داجية (1) ، ورعد قاصف ، وبرق خاطف .
والضمير في * (يجعلون) * يرجع إلى أصحاب الصيب المضاف ، مع كونه محذوفا
وقيام الصيب مقامه ، و * (يجعلون) * استئناف لا محل له ، و * (من الصوا عق) * يتعلق
ب * (يجعلون) * أي : من أجل الصواعق يجعلون أصابعهم في آذانهم ، وصعقته الصاعقة :
أهلكته ، فصعق أي مات : إما بشدة الصوت أو بالإحراق ، و * (حذر الموت) * مفعول له ،
ومعنى إحاطة الله بالكافرين : أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به
حقيقة ، وهذه الجملة اعتراض .
* ( يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) * (20) سورة البقرة / 21 الخطف : الأخذ بسرعة ، لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدة والهول ، فكأن قائلا قال : كيف حالهم مع مثل ذلك البرق ؟ فقيل : * (يكاد البرق يخطف أبصرهم) * ، فهذه جملة مستأنفة أيضا لا محل لها ، و * (كلما أضاء لهم) * استئناف ثالث ، كأنه جواب لمن يقول : كيف يصنعون في حالتي خفوق (2) البرق وخفوته (3) ؟ وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون به ويذرون ، إذا خفق البرق مع خوفهم أن يخطف أبصارهم انتهزوا تلك الخفقة فرصة (4) ، فخطوا خطوات يسيرة ،
--------------------
(1) داجية : مظلمة ، ومنه دجا الليل إذا أظلم . (القاموس المحيط : مادة دجا) .
(2) خفقت الراية : اضطربت ، (الصحاح : مادة خفق) .
(3) خفت الريح : أي سكن ، (الصحاح : مادة خفت) .
(4) في نسخة : فرضا . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 81 _