سورة الفاتحة / 2 سورة الفاتحة مكية سبع آيات بلا خلاف ، إلا أن أهل مكة والكوفة عدوا * (بسم الله الرحمن الرحيم) * آية من الفاتحة ، وغيرهم عدوا * (أنعمت عليهم) * آية .
وروي عن ابن عباس (1) أنه قال : من ترك * (بسم الله الرحمن الرحيم) * فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله تعالى (2) .
وعن الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن قوله تعالى : * (سبعا من المثانى) * (3) ، فقال (عليه السلام) : ( هي سورة الحمد ، وهي
سبع آيات منها بسم الله الرحمن الرحيم ) (4) .
--------------------
(1) هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن مناف الهاشمي المكي ، ابن عم
النبي (صلى الله عليه وآله) ، ولد قبل الهجرة بثلاث سنوات ، وسمع النبي (صلى الله
عليه وآله) وروى عن جماعة من الصحابة ، روى عنه : سعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيب ،
ومجاهد ، وجماعة من التابعين ، وروي أنه دعا له الرسول (صلى الله عليه وآله) : ( اللهم علمه التأويل وفقهه في الدين ) ، توفي بالطائف سنة ثمان وستين ، وقيل : تسع وستين ، (طبقات المفسرين للداودي : ج 1 ص 232 ، وتاريخ بغداد : ج 1 ص 173 ، وطبقات القراء : ج 1 ص 426 ، وتذكرة الحفاظ للذهبي : ج 1 ص 40 ، وتاريخ التراث العربي : مج 1 ج 1 ص 63) .
(2) رواه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 1 ص 1 .
(3) الحجر : 87 ، (4) تفسير العياشي : ج 1 ص 19 ح 3 ، وعنه تفسير البرهان : ج 1 ص 42 ح 14 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 52 _
وعن أبي بن كعب (1) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ( أيما مسلم قرأ فاتحة الكتاب أعطي من الأجر كأنما قرأ ثلثي القرآن ، وأعطي من الأجر كأنما تصدق على كل مؤمن ومؤمنة ) (2) .
وعن جابر بن عبد الله (3) عنه (عليه السلام) قال : ( هي شفاء
من كل داء إلا السام ، والسام الموت ) (4) .
* (بسم الله الرحمن الرحيم) *
1 ـ (5) أصل الاسم : سمو ، لأن جمعه أسماء وتصغيره سمي * (الله) * أصله : إله ، فحذفت الهمزة وعوض عنها حرف التعريف ، ولذلك قيل في النداء : ( يا الله ) بقطع الهمزة ، كما يقال : (يا إله ) .
معناه : أنه الذي يحق له العبادة ، وإنما حقت له العبادة لقدرته على أصول
النعم ، فهذا الاسم مختص بالمعبود بالحق لا يطلق على غيره ، وهو اسم غير صفة لأنك تصفه فتقول : ( إله واحد ) ولا تصف به ، فلا تقول : شئ
--------------------
(1) هو ابي بن كعب بن قيس ، يكنى أبا الطفيل ، وأبا المنذر ، كتب الوحي لرسول الله
(صلى الله عليه وآله) ، شهد العقبة الثانية ، وبالغ النبي (صلى الله عليه وآله) فيها ، وشهد بدرا ، وكان أحد فقهاء الصحابة ، مات على أرجح الأقوال في خلافة عمر بن الخطاب
سنة تسع عشرة ، وقيل : اثنتين وعشرين ، (الاستيعاب : ج 1 ص 65) .
(2) أورده في مجمع البيان : ج 1 ـ 2 ص 17 .
(3) هو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بن كعب الأنصاري السلمي ، أبو عبد الله،
ويقال : أبو عبد الرحمن ، صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، روى الكثير عن النبي
(صلى الله عليه وآله) ، وروى عن أبي بكر وعمر ومعاذ وغيرهم ، قال ابن سعد : شهد العقبة مع السبعين وكان أصغرهم ، وشهد الحديبية فهو من أهل بيعة الرضوان ، توفي سنة ثمان وسبعين ، وقيل : سبع وسبعين ، وقيل : إنه عاش أربعا وتسعين سنة ، (تاريخ الاسلام : ج 5 ص 377 ، وطبقات ابن سعد : ج 3 ص 574 ، والثقات لابن حبان : ص 52 ، والمعارف لابن قتيبة : ص 162 و 307 و 557 ، وتذكرة الحفاظ للذهبي : ج 1 ص 43) .
(4) تفسير العياشي : ج 1 ص 20 ح 9 ، وعنه تفسير البرهان : ج 1 ص 42 ح 20 ، وتفسير
الصافي : ج 1 ص 56 .
(5) قال الشيخ الطوسي : عندنا آية من الحمد ومن كل سورة ، التبيان : ج 1 ص 24 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_53 _
إله ، و * (الرحمن) * فعلان من رحم كغضبان ، و * (الرحيم) * فعيل منه كعليم ، وفي * (الرحمن) * من المبالغة ما ليس في * (الرحيم) * ، ولذلك قيل : الرحمن بجميع الخلق ، والرحيم بالمؤمنين خاصة (1) .
ورووا عن الصادق (عليه السلام) أنه قال : ( الرحمن اسم خاص بصفة عامة ، والرحيم اسم عام بصفة خاصة ) (2) .
وتعلقت الباء في * (بسم الله) * بمحذوف تقديره : بسم الله أقرأ ، ليختص اسم الله بالابتداء به (3) ، كما يقال للمعرس : ( باليمن والبركة ) بمعنى : أعرست ، وإنما قدر المحذوف متأخرا لأنهم يبتدئون بالأهم عندهم ، ويدل على ذلك قوله : * (بسم الله مجريها ومرسيهآ) * (4) .
* (الحمد لله رب العلمين) *
2 ـ (الحمد) * والمدح أخوان ، وهو الثناء على الجميل من نعمة وغيرها ، وأما الشكر فعلى النعمة خاصة ، والحمد باللسان وحده ، والشكر يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح ، ومنه قوله (عليه السلام) : ( الحمد رأس الشكر ) (5) ، والمعنى في كونه رأس الشكر : أن الذكر باللسان أجلى وأوضح وأدل على مكان النعمة وأشيع للثناء على موليها من الاعتقاد وعمل الجوارح ، ونقيض الحمد الذم ، ونقيض الشكر الكفران .
--------------------
(1) وهو المروي عن الصادق (عليه السلام) ، رواه عنه الصدوق باسناده في كتاب التوحيد :
ص 230 ح 3 ، وأخرجه الطبري في تفسيره : ج 1 ص 84 وعزاه الى العرزمي .
(2) أورده في مجمع البيان : ج 1 - 2 ص 21 .
(3) في نسخة : بالابتدائية .
(4) هود : 41 .
(5) أخرجه السيوطي في الجامع الصغير : ج 1 ص 152 ، وفي الدر المنثور : ج 1 ص 30 وعزاه
لعبد الرزاق في المصنف والحكيم الترمذي في نوادر الاصول والخطابي في الغريب والبيهقي في الأدب والديلمي في مسند الفردوس والثعلبي في تفسيره والزبيدي في اتحاف المتقين : ج 9 ص 49 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 54 _
وإنما عدل بالحمد عن النصب الذي هو الأصل في كلامهم على أنه من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة ، كقولهم : شكرا وعجبا ... ونحو ذلك إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات المعنى واستقراره ، دون تجدده وحدوثه في نحو قولك : أحمد الله حمدا .
ومعناه : الثناء الحسن الجميل والمدح (1) الكامل الجزيل للمعبود المنعم بجلائل النعم ، المنشئ للخلائق والامم (2) .
سورة الفاتحة / 3 ـ 5 والرب : السيد المالك ، ومنه قول صفوان لأبي سفيان (3) : لان يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن (4) .
يقال : ربه يربه فهو رب ، ولم يطلقوا الرب إلا في الله وحده ، ويقيد في غيره فيقال : رب الدار ، ورب الضيعة .
والعالم : اسم لأولي العلم من الملائكة والثقلين ، وقيل : هو اسم لما يعلم به الصانع من الجواهر والأجسام والأعراض ، وجمع بالواو والنون وإن كان اسما غير صفة لدلالته على معنى العلم ، وليشمل كل جنس مما سمي به (5) .
--------------------
(1) في نسخة : الحمد .
(2) في بعض النسخ : النعم .
(3) هو صخر بن حرب بن امية بن عبد شمس بن عبد مناف ، من سادات قريش في الجاهلية ، وهو
والد معاوية رأس الدولة الأموية ، ولد سنة 57 ق ه ، كان من المؤلفة ، وكان قبل ذلك
رأس المشركين في حرب الاسلام عند ظهوره ، حيث قاد قريشا وكنانة يوم احد ويوم الخندق
لقتال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وقيل : أسلم يوم فتح مكة سنة 8 ه ، وروى ابن
حجر قال : لما رأى أبو سفيان الناس يطؤون عقب رسول الله (صلى الله عليه وآله) حسده ،
فقال في نفسه : لو عاودت الجمع لهذا الرجل ، فضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في
صدره ثم قال : إذا يخزيك الله، ثم قال : ومن طريق أبي إسحاق السبيعي نحوه وزاد : ما
أيقنت أنك رسول الله حتى الساعة ، مات سنة 31 ه بالمدينة ، وقيل : بالشام ، (الأغاني : ج 6 ص 89 ، والإصابة لابن حجر : ج 2 ص 178 ت 4046 ، وتاريخ ابن عساكر : ج 6 ص 388 ،
والبدء والتاريخ : ج 5 ص 107 ، والأعلام للزركلي : ج 3 ص 201) .
(4) حكاه الزمخشري في كشافه : ج 1 ص 10 .
(5) ذكره الزمخشري في الكشاف : ج 1 ص 10 - 11 ، والهمداني في الفريد : ج 1 ص 165 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 55 _
* (الرحمن الرحيم) *
3 ـ مر معناهما (1) .
* (ملك يوم الدين) * (4) من قرأ : ( ملك )(2) فلأن الملك يعم والملك يخص ، ولقوله سبحانه : * (ملك الناس) * (3) ، ومن قرأ : * (ملك) * بالألف فهو إضافة اسم الفاعل إلى الظرف على طريق الاتساع ، أجري الظرف مجرى
المفعول به والمعنى على الظرفية ، والمراد : مالك الأمر كله في يوم الدين ، وهو يوم
الجزاء من قولهم : كما تدين تدان .
وهذه الأوصاف التي هي كونه سبحانه ربا مالكا للعالمين لا يخرج منهم شئ من ملكوته وربوبيته ، وكونه منعما بالنعم المتوافرة (4) الباطنة والظاهرة ، وكونه مالكا للأمر كله في الدار الآخرة بعد الدلالة على اختصاص الحمد به في قوله : * (الحمد لله) * فيها دلالة باهرة على أن من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه بالحمد والثناء .
* ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) * (5) ( إيا ) ضمير منفصل للمنصوب ، والكاف والهاء والياء اللاحقة به في ( إياك وإياه وإياي ) لبيان الخطاب والغيبة والتكلم ، ولا محل لها من الإعراب ، إذ هي حروف عند المحققين وليست بأسماء مضمرة كما قال بعضهم (6) وتقديم المفعول
--------------------
(1) مر في ص 12 ، فراجع .
(2) قرأه ابن عباس وابن عمر وأبو الدرداء ومجاهد وابن وثاب والأعرج وأبو جعفر وشيبة
وابن جريج والجحدري وابن محيصن وابن جندب وأبو عبيد وزيد ونافع وابن كثير وأبو عمرو
وابن عامر وحمزة ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 104 ، والتيسير في
القراءات للداني : ص 18 ، والإملاء للعكبري : ج 1 ص 3 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 1 ص 20 .
(3) الناس : 2 .
(4) في نسخة زيادة : المتواترة .
(5) في نسخة : بلسان .
(6) قاله الأخفش في معاني القرآن : ج 1 ص 163 ، وعنه الزمخشري في الكشاف : ج 1 = (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 56 _
إنما هو لقصد الاختصاص ، والمعنى : نخصك بالعبادة ونخصك بطلب المعونة . والعبادة ضرب من الشكر وغاية فيه وكيفيته ، وهي أقصى غاية الخضوع والتذلل ، ولذلك لا تحسن إلا لله سبحانه الذي هو مولى أعظم النعم ، فهو حقيق بغاية الشكر .
وإنما عدل فيه عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب على عادة العرب في تفننهم في محاوراتهم ، ويسمى هذا التفاتا ، وقد يكون من الغيبة إلى الخطاب ، ومن الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى التكلم كقوله سبحانه : * ( حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) * (1) ، وقوله : * ( والله الذى أرسل الريح فتثير سحابا فسقنه ) * (2) .
وأما الفائدة المختصة به في هذا الموضع فهو أن المعبود الحقيق بالحمد والثناء لما أجري عليه صفاته العلى تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالعبادة والاستعانة به في المهمات ، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات ، وقيل : إياك ـ يامن هذه صفاته ـ نخص بالعبادة والاستعانة ، ولا نعبد غيرك ولا نستعينه ، ليكون الخطاب أدل على أن العبادة له لذلك المتميز (3) الذي لا تحق العبادة إلا له (4) .
سورة الفاتحة / 6 و 7 وقرنت الاستعانة بالعبادة ليجمع بين ما يتقرب به العباد إلى ربهم وبين ما يطلبونه ويحتاجون إليه من جهته ، وقدمت العبادة على الاستعانة لأن تقديم الوسيلة يكون قبل طلب الحاجة ليستوجبوا الإجابة إليها ، وأطلقت الاستعانة ليتناول كل مستعان فيه .
والأحسن أن تراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة ، فيكون قوله : * (اهدنا) * بيانا للمطلوب من المعونة ، كأنه قيل : كيف أعينكم ؟ فقالوا :
--------------------
= ص 13 ، وبه قال الهمداني في الفريد في إعراب القرآن : ج 1 ص 167 .
(1) يونس : 22 .
(2) فاطر : 9 .
(3) في بعض النسخ : التميز .
(4) قاله الزمخشري في الكشاف : ج 1 ص 14 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 57 _
* ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) ) *
6 ـ أصل ( هدى ) أن يتعدى باللام أو ب ( إلى ) ، كقوله تعالى : * ( يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) * (1) ، و * ( إنك لتهدى إلى صرا ط مستقيم) *(2) ، فعومل معاملة ( اختار ) في قوله تعالى : * ( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ) * (3) .
و (السراط ) بالسين الجادة ، من سرط الشئ إذا ابتلعه ، لأنه يسرط المارة إذا سلكوه كما سمي لقما (4) لأنه يلتقم السابلة ، وبالصاد من قلب السين صادا لأجل الطاء ، وهي اللغة الفصحى (5)(6) ، و * ( الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) * هو الدين الحق الذي لا يقبل الله من العباد غيره ، وإنما سمي الدين صراطا لأنه يؤدي بمن يسلكه إلى الجنة كما أن الصراط يؤدي بمن يسلكه إلى مقصده ، وعلى هذا فمعنى قوله : * (اهدنا) * زدنا هدى بمنح الألطاف ، كقوله سبحانه : * (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى) * (7) ، ورووا عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : أن معناه : ثبتنا (8) .
وروي في بعض الأخبار : أن الصادق (عليه السلام) قرأ : ( اهدنا صراط المستقيم ) بإضافة ( صراط ) الى ( المستقيم ) (9) .
* ( الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) * (7) هو بدل من * (الصرا ط المستقيم) * ، وهو في حكم تكرير العامل ، فكأنه قال :
--------------------
(1) الاسراء : 9 .
(2) الشورى : 52 .
(3) الأعراف : 155 .
(4) في نسخة : لقيما .
(5) في نسخة : لغة الفصحاء .
(6) راجع تفصيله في الكشاف : ج 1 ص 15 ، والفريد في إعراب القرآن للهمداني : ج 1 ص
172 .
(7) محمد : 17 .
(8) رواه عنه الزمخشري في كشافه : ج 1 ص 15 .
(9) تفسير العياشي : ج 1 ص 24 ح 26 ، وعنه البرهان : ج 1 ص 52 ح 35 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 58 _
اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم ، وفائدة البدل التوكيد ، والإشعار بأن الطريق المستقيم بيانه وتفسيره : صراط من خصهم الله تعالى بعصمته ، وأمدهم (1) بخواص نعمته ، واحتج بهم على بريته ، وفضلهم على كثير من خليقته ، فيكون ذلك شهادة لصراطهم بالاستقامة على آكد الوجوه ، كما تقول : هل أدلك على أكرم الناس فلان ؟ فيكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم من قولك : هل أدلك على فلان الأكرم ؟ لأنك بينت كرمه مجملا أولا ومفصلا ثانيا ، وأوقعت فلانا تفسيرا للأكرم ، فجعلته علما في الكرم ، فكأنك قلت : من أراد رجلا جامعا للكرم فعليه بفلان ، فهو المعين لذلك غير مدافع فيه ، وأطلق الإنعام ليشمل كل إنعام .
وروي عن أهل البيت (عليهم السلام) : ( صراط من أنعمت عليهم ) وعن عمر بن الخطاب وعمرو بن الزبير (2)(3) ، والصحيح هو المشهور .
* (غير المغضوب عليهم) * بدل من * (الذين أنعمت عليهم) * على معنى : أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من غضب الله والضلال ، أو صفة على معنى : أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة العصمة وبين السلامة من غضب الله والضلالة .
ويجوز أن يكون * (غير) * هاهنا صفة وإن كان ( غير ) لا يقع صفة للمعرفة ولا يتعرف بالإضافة إلى المعرفة ، لأن * (الذين أنعمت عليهم) * لا توقيت فيه ، فهو كقوله : ولقد أمر على اللئيم يسبني * فمضيت ثمة قلت لا يعنيني (4)
--------------------
(1) في نسخة : أيدهم .
(2) في نسخة : وابن الزبير .
(3) انظر تفسير القمي : ج 1 ص 29 ، والتبيان : ج 1 ص 43 ، وتفسير الماوردي : ج 1 ص 60 .
(4) البيت منسوب لرجل من بني سلول ، وقيل : هو شمر بن عمرو الحنفي ، ومعناه لا يحتاج
إلى بيان ، راجع مغني اللبيب : ص 102 و 429 و 645 ، والكشاف : ج 1 ص 16 ، ومعاني القرآن للأخفش : ج 1 ص 323 ، والأصمعيات : ص 126 ، وخزانة الأدب للبغدادي : ج 1 ص 173 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 59_
ولأن * (المغضوب عليهم) * و * (الضالين) * خلاف المنعم عليهم ، فليس في * (غير) * إذا الإبهام الذي يأبى له أن يتعرف ، وقيل : إن المغضوب عليهم هم اليهود ، لقوله تعالى : * (من لعنه الله وغضب عليه) * (1) والضالين هم النصارى ، لقوله تعالى : * (قد ضلوا من قبل) * (2)(3) .
ومعنى غضب الله إرادة الانتقام منهم وإنزال العقاب (4) بهم ، وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده ، ومحل * (عليهم) *
الأولى نصب على المفعولية ، ومحل * (عليهم) *
الثانية رفع على الفاعلية (5) .
وأصل الضلال الهلاك ، ومنه قوله : * (وأضل أعملهم) * (6) أي : أهلكها (7) ، والضلال في الدين هو الذهاب عن الحق .
--------------------
(1) المائدة : 60 .
(2) المائدة : 77 .
(3) قاله ابن عباس ، راجع تفسيره : ص 2 ، وفي التبيان : ج 1 ص 45 قال : وروي ذلك عن
النبي (صلى الله عليه وآله) .
(4) في نسخة : العذاب .
(5) انظر الكشاف للزمخشري : ج 1 ص 17 ، والفريد في إعراب القرآن للهمداني : ج 1 ص 178 .
(6) محمد : 8 .
(7) في نسخة : أهلكتهم (*) .
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 60 _
سورة البقرة .
1 ـ سورة البقرة مدنية (1)(2) ، وهي مائتان وست وثمانون آية كوفي ، وسبع بصري * (الم) * و * (تتفكرون) * (3) كوفي ، * (إلا خائفين) * (4) و * (قولا معروفا) * (5) و * (الحى القيوم) * (6) بصري .
عن أبي عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال : ( من قرأ سورة البقرة فصلوات الله عليه ورحمته ،
--------------------
(1) في نسخة زيادة : إلا آية وهو قوله تعالى : * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) *
الآية : 281 فانها نزلت بمنى في حجة الوداع .
(2) قال الشيخ الطوسي في تبيانه : ج 1 ص 47 : وهي مائتان وست وثمانون آية في الكوفي
وسبع بصري وخمس مدني ، وروي أن قوله : * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) * نزلت في
حجة الوداع ، ونحوه الماوردي في تفسيره : ج 1 ص 63 ، وقال ابن كثير في تفسيره : ج 1 ص
34 : والبقرة جميعها مدنية بلا خلاف ، وهي من أوائل ما نزل بها ، لكن قوله تعالى فيه :
* (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) * الآية يقال : إنها آخر ما نزل من القرآن ،
ويحتمل أن تكون منها وكذلك آيات الربا من آخر ما نزل ، وكان خالد بن معدان يسمي
البقرة فسطاط القرآن ، قال بعض العلماء : وهي مشتملة على ألف خبر والف أمر وألف نهي ،
وقال العادون : آياتها مائتان وثمانون وسبع آيات وكلماتها ستة آلاف كلمة ومائتان وإحدى وعشرون كلمة وحروفها خمسة وعشرون ألفا وخمسمائة حرف .
(3) آية : 219 .
(4) آية : 114 .
(5) آية : 235 .
(6) آية : 255 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 61 _
وأعطي من الأجر كالمرابط في سبيل الله سنة لا تسكن روعته ( وقال لي : يا أبي ، مر المسلمين أن يتعلموا سورة البقرة فإن تعلمها بركة ، وتركها حسرة ، ولا يستطيعها
البطلة ) ، قلت : يا رسول الله من البطلة ؟ قال : ( السحرة ) (1) .
وعن الصادق (عليه السلام) : ( من قرأ البقرة وآل عمران جاء يوم القيامة يظلان (2) على رأسه مثل الغمامتين أو مثل الغيايتين ) (3)(4) .
* (بسم الله الرحمن الرحيم الم) * (1) اختلف في هذه الفواتح المفتتح بها السور ، فورد عن أئمتنا (عليهم السلام) : أنها من المتشابهات التي استأثر الله بعلمها ، ولا يعلم تأويلها غيره (5) .
وعن الشعبي (6) قال : لله تعالى في كل كتاب سر ، وسره في القرآن حروف التهجي في أوائل السور (7) .
وقال الأكثرون في ذلك وجوها : منها : أنها أسماء للسور ، تعرف كل سورة بما افتتحت به .
ومنها : أنها أقسام أقسم الله تعالى بها لكونها مباني كتبه ، ومعاني أسمائه وصفاته ، وأصول كلام الأمم كلها .
ومنها : أنها مأخوذة من صفات الله
--------------------
(1) أورده في مجمع البيان : ج 1 - 2 ص 32 ، وتفسير الكشاف : ج 1 ص 334 .
(2) في نسخة : يظلانه .
(3) في بعض النسخ : الغيابتين ، وفي اخرى : الغبابتين ، وما أثبتناه لما في الصحاح من
أن الغياية (بيائين) كل شئ أظل الانسان فوق رأسه ، مثل : السحابة والغبرة والظلمة
ونحو ذلك ، (الصحاح : مادة غيي) .
(4) ثواب الأعمال للصدوق : ص 130 .
(5) معاني الأخبار للصدوق : ص 24 ، رسائل المرتضى : ج 3 ص 301 .
(6) هو أبو عمرو ، عامر بن شراحيل الكوفي الشعبي، كان فقيها ومن كبار التابعين ، روى
عن مائة وخمسين من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولكن لا يخفى أنه عند
علماء الشيعة مذموم مطعون ، وقد روى عنه أشياء ردية ، مات بالكوفة سنة 104 ه ، (الكنى والألقاب للقمي : ج 2 ص 361 ، ووفيات الأعيان لابن خلكان : ج 2 ص 227 .
(7) حكاه عنه القرطبي في تفسيره : ج 1 ص 154 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 62 _
/ عز وجل ، كقول ابن عباس في * (كهيعص) * : إن الكاف من كاف ، والهاء من هاد ، والياء من حكيم ، والعين من عليم ، والصاد من صادق ، و * (الم) * معناه : أنا الله أعلم (1) .
ومنها : أن كل حرف منها يدل على مدة قوم وآجال آخرين ، إلى غير ذلك من الوجوه (2) .
على أن هذه الفواتح وغيرها من الألفاظ التي يتهجى بها عند المحققين أسماء
مسمياتها حروف الهجاء (3) التي ركبت منها الكلم ، وحكمها أن تكون موقوفة كأسماء الأعداد ، تقول : ألف ، لام ، ميم ، كما تقول : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، فإذا وليتها العوامل أعربت ، فقيل : هذه الف ، وكتبت لاما ، ونظرت إلى ميم .
قال الشاعر : إذا اجتمعوا على ألف وياء * وواو هاج بينهم جدال (4) * ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) * (2) سورةالبقرة / 2 إن جعلت * (الم) * اسما للسورة ، ففيه وجوه : أحدها: أن يكون * (الم) * مبتدأ ، و * (ذا لك) * مبتدأ ثانيا ، و * (الكتب) * خبره ، والجملة خبر المبتدأ الأول، فيكون المعنى : إن ذلك هو الكتاب الكامل الذي يستأهل أن يسمى كتابا ، كأن ما سواه من الكتب ناقص بالإضافة إليه ، كما تقول : هو الرجل ، أي : الكامل في الرجولية .
والثاني : أن يكون الكتاب صفة ، فيكون المعنى : هو * (ذا لك الكتب)
--------------------
(1) تفسير ابن عباس : ص 3 و 253 ، وعنه البغوي في تفسيره : ج 1 ص 44 .
(2) انظر تفصيل الأقوال ومن ذهب إليها في التبيان : ج 1 ص 47 - 49 ، وتفسير البغوي : ج
1 ص 44 ، وتفسير ابن كثير : ج 1 ص 34 .
(3) في نسخة زيادة : المبسوطة .
(4) البيت ليزيد بن الحكم كما نسبه إليه الزجاج وابن الأنباري والقالي ، وروى
الحريري في درة الغواص عن الأصمعي قال : أنشدني عيسى بن عمر بيتا هجا به النحويين ،
وذكر البيت ، انظر معاني القرآن واعرابه : ج 1 ص 61 ، وخزانة الأدب: ج 1 ص 110 - 112 ،
والمقتضب : ج 1 ص 236 وفيه : ( قتال ) بدل ( جدال ) . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 63 _
الموعود .
والثالث : أن يكون التقدير : ( هذه الم ) فتكون جملة ، و * (ذا لك الكتب) *
جملة أخرى .
وإن جعلت * (الم) * بمنزلة الصوت كان * (ذا لك) * مبتدأ و * (الكتب) *
خبره ، أي : ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل ، أو الكتاب صفة والخبر ما بعده ، أو
قدر مبتدأ محذوف ، أي : هو ـ يعني المؤلف من هذه الحروف ـ ذلك الكتاب .
والريب : مصدر رابه يريبه إذا حصل فيه الريبة ، وحقيقة الريبة : قلق النفس واضطرابها ، وفي الحديث : ( دع ما يريبك إلى مالا يريبك ) (1) والمعنى أنه من وضوح دلالته بحيث لا ينبغي أن يرتاب فيه ، إذ لا مجال للريبة فيه .
والمشهور الوقف على * (فيه) * ، وبعض القراء يقف على * (لاريب) * ، ولابد لمن يقف عليه أن ينوي خبرا ، ونظيره قوله : لا ضير ، والتقدير : ( لا ريب فيه ، فيه هدى ) ، والهدى : مصدر على فعل كالسرى ، وهو الدلالة الموصلة إلى البغية ، وقد وضع المصدر الذي هو * (هدى) * موضع الوصف الذي هو ( هاد ) ، والمتقي في الشريعة هو الذي يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقاب من فعل أو ترك ، وسماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متقين ، كقول النبي (صلى الله عليه وآله) : ( من قتل قتيلا فله سلبه ) (2) وقوله تعالى : * ( وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ) * (3) أي : صائرا إلى الفجور والكفر، فكأنه قال : هدى للصائرين إلى التقى ، ولم يقل : ( هدى للضالين ) لأن الضالين فريقان : فريق علم بقاؤهم على الضلالة وفريق علم مصيرهم إلى الهدى ، فلا يكون هدى
--------------------
(1) مسند أحمد : ج 3 ص 153 ، ومستدرك الحاكم : ج 2 ص 13 .
(2) المصنف لابن أبي شيبة : ج 12 ص 369 و 372 ، وج 14 ص 524 ، طبقات ابن سعد : ج 3 ص
364 ، نصب الراية للزيلعي : ج 3 ص 428 و 429 و 430 و 434 ، بداية النهاية : ج 4 ص 348 .
(3) نوح : 27 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 64 _
لجميعهم ، وأيضا : فقد صدرت السورة التي هي أولى الزهراوين (1) وسنام القرآن وأول المثاني بذكر المرتضين من عباد الله وهم المتقون .
* ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة ) * الموصول : إما أن يكون مجرورا بأنه صفة للمتقين أو منصوبا أو مرفوعا على المدح على تقدير : أعني الذين يؤمنون ، أو هم الذين يؤمنون .
وإما أن يكون منقطعا عما قبله مرفوعا على الابتداء وخبره * (أولئك على هدى) * ، والإيمان إفعال من الأمن يقال : أمنت شيئا وآمنت غيري ، ثم يقال : آمنه إذا صدقه ، وحقيقته آمنه التكذيب والمخالفة ، وعدي بالباء فقيل : آمن به ، لأنه ضمن معنى : أقر واعترف ، ويجوز أن يكون على قياس فعلته فأفعل ، فيكون ( آمن ) بمعنى صار ذا أمن في نفسه بإظهار التصديق .
وحقيقة الإيمان في الشرع هو المعرفة بالله وصفاته وبرسله وبجميع ما جاءت به رسله ، وكل عارف بشئ فهو مصدق به .
سورة البقرة / 3 و 4 ولما ذكر سبحانه الإيمان علقه بالغيب ليعلم أنه التصديق لله تعالى فيما أخبر به رسوله مما غاب عن العباد علمه : من ذكر القيامة والجنة والنار وغير ذلك ، ويجوز أن يكون * (بالغيب) * في موضع الحال ، ولا يكون صلة ل * (يؤمنون) *، أي : يؤمنون غائبين عن مرأى الناس ، وحقيقته متلبسين (2) بالغيب ، كقوله : * ( يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ) *(3) فيكون الغيب بمعنى : الغيبة والخفاء ، وعلى المعنى الأول يكون الغيب بمعنى : الغائب ، من قولك : غاب الشئ غيبا ، فيكون مصدرا سمي به .
--------------------
(1) الزهراوان : سورتا البقرة وآل عمران كما في الحديث ، انظر مستدرك الحاكم : ج 1 ص
560 .
(2) في بعض النسخ : ملتبسين .
(3) الأنبياء : 49 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 65 _
ثم عطف ـ سبحانه ـ على الإيمان بذكر الصلاة التي هي رأس العبادات البدنية ، فقال : * (ويقيمون الصلوة) * أي : يحافظون عليها ويتشمرون لأدائها ، من قولهم : قام بالأمر ، أو (1) يؤدونها ، فعبر عن الأداء بالإقامة ، أو يعدلون أركانها ، من قولهم : أقام العود إذا قومه .
* (ومما رزقنهم ينفقون) * (3) ثم عطف على ذلك بالعبادة المالية التي هي الإنفاق ، فقال : * (ومما رزقنهم) * أسند الرزق إلى نفسه للإعلام بأنهم * (ينفقون) * الحلال الطلق الذي يستأهل أن يسمى رزقا من الله، و ( من ) للتبعيض ، فكأنه يقول : ويخصون بعض المال الحلال بالتصدق به .
وجائز أن يراد به الزكاة المفروضة لاقترانه بالصلاة ، وأن تراد هي وغيرها من الصدقات والنفقات في وجوه البر لمجيئه مطلقا ، وعن الصادق (عليه السلام) : ( ومما علمناهم يبثون ) (2) .
* ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) (4) يحتمل أن يراد بهولاء مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام (3) وغيره ، فيكون
--------------------
(1) في نسخة : أي .
(2) كذا ذكره المصنف هنا وفي مجمع البيان : ج 1 - 2 ص 39 بلفظ ( يبثون ) ، لكن في
تفسير العياشي : ج 1 ص 26 ح 1 ، والبحار : ج 21 ص 21 ، والبرهان : ج 1 ص 53 ، والصافي : ج 1 ص 58 و 59 بلفظ ( ينبئون ) .
(3) هو عبد الله بن سلام بن الحارث الاسرائيلي أبو يوسف ، حليف بني عوف بن الخزرج ،
أسلم عند قدوم النبي (صلى الله عليه وآله) المدينة ، قيل : كان اسمه الحصين فسماه
النبي (صلى الله عليه وآله) عبد الله وشهد له بالجنة ، روى عن النبي (صلى الله عليه
وآله) ، وعنه ابناه ، شهد مع عمر فتح بيت المقدس والجابية ، مات بالمدينة سنة ثلاث
وأربعين ، (الاستيعاب : ج 3 ص 921) . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 66_
المعطوف غير المعطوف عليه ، ويحتمل أن يراد وصف الأولين ، فيكون المعنى : أنهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه .
وقوله : * (هم يوقنون) * تعريض بأهل الكتاب ، وأنهم يثبتون أمر الآخرة على خلاف حقيقته ، ولا يصدر قولهم عن إيقان ، و ( الآخرة ) تأنيث الآخر وهي صفة الدار ، بدليل قوله تعالى : * (تلك الدار الاخرة) * (1) وهي من الصفات الغالبة وكذلك الدنيا .
والإيقان واليقين : هو العلم الحاصل بعد استدلال ونظر ، ولذلك لا يطلق ( الموقن ) على الله تعالى لاستواء الأشياء في الجلاء عنده .
* ( أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ) * الجملة في محل (2) الرفع إن كان * ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) * مبتدأ وإلا فلا محل لها ، وفي اسم الإشارة الذي هو * (أولئك) * إيذان بأن ما يرد عقيبه ، فالمذكورون قبله أهل له من أجل الخصال التي عددت لهم ، ومعنى الاستعلاء في قوله : * (على هدى) * مثل لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه ، شبهت حالهم بحال من اعتلى شيئا وركبه ، ومعنى * (من ربهم) * : منحوه وأعطوه من عنده ، وهو اللطف والتوفيق على أعمال البر .
ونكر * (هدى) * ليفيد ضربا مبهما لا يبلغ كنهه ، كأنه قيل : على أي هدى ، وفي تكرير * (أولئك) * تنبيه على أنهم تميزوا بكل واحدة من الأثرتين اللتين هما الهدى والفلاح عن غيرهم .
سورة البقرة / 5 و * (هم) * سماه البصريون فصلا ، والكوفيون عمادا ، وفائدته الدلالة على أن المذكور بعده خبر لا صفة وتوكيد ، وإيجاب أن فائدة الخبر ثابتة للمخبر عنه دون
--------------------
(1) القصص : 83 .
(2) في نسخة : موضع . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 67 _
غيره ، ويجوز أن يكون * (هم) * مبتدأ و * (المفلحون) * خبره ، والجملة خبر * (أولئك) * .
و ( المفلح ) : الفائز بالبغية ، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر .
و ( المفلج ) بالجيم مثله (1) .
وقوله : * (عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ) * أدغمت بغنة وغير غنة ، والغنة : صوت خفي يخرج من الخيشوم ، والنون الساكنة والتنوين لهما ثلاثة أحوال مع الحروف في جميع القرآن : الإظهار وذلك مع حروف الحلق ، والإدغام و (2) ذلك مع الميم ، نحو * ( هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ) * و * (على أمم ممن معك) * (3) لا يجوز إلا الإدغام هنا لاشتراك النون والميم في الغنة ، والإخفاء وذلك مع سائر الحروف ، نحو * (من دابة) * (4) و * (بمن فيها) * (5) .
وهذا عند جميع القراء إلا أبا عمرو (6) وحمزة (7) والكسائي (8) فإنهم يدغمونهما في اللام والراء نحو : * (هدى للمتقين) * و * (من ربهم)
--------------------
(1) انظر لسان العرب : مادة فلج .
(2) في نسخة زيادة : يجوز .
(3) هود : 48 .
(4) الانعام : 38 .
(5) العنكبوت : 32 .
(6) أبو عمرو ، هو زبان بن العلاء البصري ، أحد القراء السبعة ، سمع أنس بن مالك ، وعنه أحمد الليثي وأحمد اللؤلؤي ، عالم بالعربية والشعر ، توفي عام 154 ه ، (فهرست ابن النديم : ص 48 ، وطبقات الشعراء : ج 1 ص 288 ، وتاريخ التراث العربي : مج 1 ج 1 ص 153 .
(7) هو حمزة بن حبيب بن عمارة بن الزبان التميمي ، أحد القراء السبعة ، ولد بالكوفة
سنة 80 ه ، أخذ القراءة عرضا عن الأعمش وحمران بن أعين وغيرهما ، كان عالما بالقراءات ، بصيرا بالفرائض ، إليه صارت الإمامة في القراءة بعد عاصم ، توفي سنة 156 ه ، (المعارف لابن قتيبة : ص 263 ، وفهرست ابن النديم : ص 29 ، وغاية النهاية للجزري : ج 1 ص 261 ـ 263 ، وأعيان الشيعة : ج 6 ص 238) .
(8) هو أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله بن بهمن بن فيروز الأسدي بالولاء الكوفي
المعروف بالكسائي ، أحد القراء السبعة ، كان إماما في النحو واللغة والقراءات ، قرأ
على يد حمزة ، كان يؤدب الأمين بن هارون الرشيد ويعلمه الأدب، توفي بالري وكان قد
خرج إليها بصحبة هارون الرشيد وذلك سنة 189 ه ، (وفيات الأعيان : ج 2 ص 457 ، والكنى
والألقاب : ج 3 ص 112) . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 68 _
ويدغمهما حمزة والكسائي في الياء نحو : * (من يقول) * (1) ، ويدغمهما حمزة في الواو ، نحو : * (ظلمت ورعد وبرق) * (2) فاللام والراء والواو والياء عندهم بمنزلة الميم ، ويقال لها : حروف يرملون ، لأنها أيضا تدغم في النون نحو : * (منى) * (3) و * (منا) * (4)(5) .
* (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ )* (6) سورة البقرة / 7 لما قدم سبحانه ذكر الأتقياء عقبه بذكر الأشقياء وهم الكفار الذين لا ينفعهم اللطف ، و * (سوآء عليهم) * وجود الكتاب وعدمه ، وإنذار الرسول وترك إنذاره ، و * (سوآء) * اسم بمعنى الاستواء ، وصف به كما يوصف بالمصادر ، وهو خبر * (إن) * ، و * (أنذرتهم أم لم تنذرهم) * في موضع الرفع بالفاعلية ، كأنه (6) قيل : مستو عليهم إنذارك وعدمه ، كما تقول : إن زيدا مختصم أخوه (7) وابن عمه ، أو يكون * (ءأنذرتهم أم لم تنذرهم) * في موضع الابتداء و * (سوآء) * خبرا مقدما بمعنى سواء * (عليهم) * إنذارك وعدمه ، والجملة خبر ل * (إن) * ، كذا ذكره جار الله العلامة (8) لله دره ، وما أوردناه في مجمع البيان (9) فهو من كلام أبي علي الفارسي (رحمه الله) (10)(11) ، والإنذار : التخويف من عقاب الله ، وقوله : * (لا يؤمنون) * جملة
--------------------
(1) البقرة : 200 .
(2) البقرة : 19 .
(3) القصص : 34 .
(4) الأنبياء : 101 .
(5) راجع تفصيل ذلك في كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 128 - 129 ، وتفسير
البغوي : ج 1 ص 45 .
(6) في نسخة : كما .
(7) في نسخة : أبوه .
(8) في الكشاف : ج 1 ص 47 .
(9) مجمع البيان : ج 1 - 2 ص 42 .
(10) وأبو علي هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفسوي النحوي ، فارس ميدان العلم
والأدب، وإمام وقته في علم النحو ، أقام بحلب وصنف كتبا لم يسبق الى مثلها ، ولد
بمدينة ( فسا ) سنة 288 ه ، وتوفي ببغداد سنة 377 ه ، (الكنى والألقاب: ج 3 ص 4).
(11) في الحجة في علل القراءات : ج 1 ص 201 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_69 _
مؤكدة للجملة قبلها ، أو خبر ل * (إن) * والجملة قبلها اعتراض .
قيل : نزلت هذه الآية والتي بعدها في أبي جهل وأضرابه (1) ، وعلى هذا فيكون التعريف في * (الذين كفروا) * للعهد ، وقيل : هي في جميع من صمم على كفره على العموم ، فيكون التعريف للجنس (2) . * (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) * الختم والكتم أخوان ، والغشاوة فعالة من غشاه : إذا غطاه ، وهذا البناء لما يشتمل على الشئ كالعمامة .
والختم على القلوب والأسماع وتغشية الأبصار من باب المجاز ، وهو نوعان :
استعارة وتمثيل ، ويحتمل هنا كلا النوعين : أما الاستعارة ، فأن (3) يجعل قلوبهم لأن الحق لا ينفذ فيها لإعراضهم عنه واستكبارهم عن قبوله ، وأسماعهم لأنها تنبو عن استماعه (4) كأنهما (5) مختوم عليهما ، وأبصارهم كأنما (6) غطي عليها وحيل بينها وبين الإدراك.
وأما التمثيل ، فأن تمثل حيث لم يستنفعوا بها في الأغراض الدينية التي
خلقوا من أجلها بأشياء ضرب حجاب بينها وبين الانتفاع بها بالختم والتغطية .
وأما إسناد الختم إلى الله، فللتنبيه على أن هذه الصفة في فرط تمكنها كالشئ الخلقي غير العرضي ، كما يقال : فلان مجبول على كذا ومفطور عليه ، يريدون أنه مبالغ في الثبات عليه .
ووجه آخر : وهو أنهم لما علم الله سبحانه أنه لا طريق لهم
--------------------
(1) راجع التبيان : ج 1 ص 377 ، وأبو جهل هو عمرو بن هشام بن مغيرة المخزومي ، كان من
أشد الناس عداوة للنبي (صلى الله عليه وآله) ، وقتل كافرا يوم بدر .
(2) قاله الزمخشري في كشافه : ج 1 ص 47 .
(3) في بعض النسخ : فبأن .
(4) في نسخة : سماعه .
(5) في نسخة : كأنها .
(6) في بعض النسخ : كأنها . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 70 _
إلى أن يؤمنوا طوعا واختيارا فلم يبق إلا القسر والإلجاء ، ولم يقسرهم لئلا ينتقض الغرض في التكليف ، عبر عن ترك الإلجاء والقسر بالختم ، إشعارا بأنهم قد بلغوا الغاية القصوى في لجاجهم واستشرائهم في الغي والضلال .
ووحد السمع لأنه مصدر في الأصل والمصادر لا تجمع ، ولأنهم قالوا : كلوا في بعض بطنكم (1) تعفوا ، يفعلون ذلك إذا أمن اللبس ، وإذا لم يؤمن (2) لم يفعلوا ، لا تقول : ثوبهم وغلامهم وأنت تريد الجمع .
والبصر : نور العين وهو ما يبصر به الرائي ، كما أن البصيرة نور القلب وهو ما به يستبصر ويتأمل .
والعذاب مثل النكال بناء ومعنى ، لأنك تقول : أعذب عن الشئ إذا أمسك عنه ، كما تقول : نكل عنه ، ثم اتسع فيه فسمي كل ألم فادح عذابا وإن لم يكن نكالا ، أي : عقابا يرتدع به الجاني .
والعظيم : نقيض الحقير ، كما أن الكبير نقيض الصغير ، فالعظيم فوق الكبير ،
كما أن الحقير دون الصغير .
ويستعملان في الجثث والأحداث جميعا ، تقول : رجل عظيم وكبير جثته أو خطره .
* (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) * (8) سورة البقرة / 9 افتتح سبحانه بذكر الذين آمنوا بالله سرا وعلانية ، ثم ثنى بالذين كفروا قلوبا وألسنة ، ثم ثلث بالمنافقين الذين أبطنوا خلاف ما أظهروا ، وهم أخبث (3) الكفار وأمقتهم عنده ، ووصف حال الذين كفروا في آيتين ، وحال الذين نافقوا في ثلاث عشرة آية ، وقصتهم معطوفة على قصتهم كما تعطف الجملة على الجملة .
وأصل ( ناس ) أناس فحذفت همزته تخفيفا ، وحذفها مع لام التعريف
--------------------
(1) في نسخة : بطن بعضكم .
(2) في نسخة : يؤمنوا .
(3) في نسخة زيادة : من . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 71 _
كاللازم ، لا يكاد يقال : الأناس ، ويشهد لأصله إنسان وإنس ، وسموا بذلك لظهورهم وأنهم يؤنسون أي : يبصرون كما سمي الجن جنا لاجتنانهم ، و ( من ) في * (من يقول) * موصوفة ، كأنه يقول : * (ومن الناس) * ناس يقولون كذا ، كقوله : * (من المؤمنين رجال) * (1) ، هذا إن جعلت اللام للجنس ، وإن جعلتها للعهد فموصولة ، كقوله : * (وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ) * (2) .
وفي تكرير الباء أنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة ، وفي
قوله : * (وماهم بمؤمنين) * من التوكيد والمبالغة ما ليس في قولك : وما آمنوا ، لأن
فيه إخراج ذواتهم وأنفسهم من أن يكون (3) طائفة من طوائف المؤمنين ، فقد انطوى تحته نفي ما ادعوه لأنفسهم من الإيمان على القطع .
* ( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) * (9) المعنى: أن هؤلاء المنافقين صنعوا صنع الخادعين حيث تظاهروا بالإيمان وهم كافرون ، وصنع الله معهم صنع الخادع حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده أهل الدرك الأسفل من النار ، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله فيهم ، فإن حقيقة الخدع أن يوهم الرجل صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه .
ويجوز أن يريد : * (يخدعون) * رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأن طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله، كما يقال : قال الملك كذا ، وإنما القائل وزيره أو (4) خاصته الذين قولهم قوله * (وما يخدعون إلا أنفسهم) * لأن ضررها
يلحقهم ولا
--------------------
(1) الأحزاب : 23 .
(2) التوبة : 61 .
(3) كذا في جميع النسخ لكن الظاهر أن الصحيح : يكونوا .
(4) في نسخة زيادة : بعض . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 72 _
يعدوهم إلى غيرهم ، ومن قرأ : ( يخادعون ) (1) أتى به على لفظ يفاعلون للمبالغة .
والنفس : ذات الشئ وحقيقته ، ثم قيل للقلب : نفس ، لأن النفس به نفس (2) ، قالوا : المرء بأصغريه ، أي بقلبه ولسانه .
وقيل أيضا للروح : نفس ، وللدم : نفس ، لأن قوامها بالدم ، وللماء : نفس لفرط حاجتها إليه ، ونفس الرجل أي : عين ، وحقيقته : أصيبت نفسه ، كما قيل : صدر الرجل وفئد ، وقالوا : فلان يؤامر نفسه ، إذا تردد في الأمر واتجه له رأيان لا يدري على أيهما يعول ، كأنهم أرادوا داعي النفس ، والمراد بالأنفس هاهنا ذواتهم ، ويجوز أن يراد قلوبهم ودواعيهم وآراؤهم .
والشعور : علم الإنسان بالشئ علم حس ، ومشاعر الإنسان : حواسه .
* ( قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) * (10) سورة البقرة / 11 استعير المرض لأعراض القلب ، كسوء الاعتقاد والغل والحسد وغير ذلك مما هو فساد وآفة شبيهة بالمرض ، كما استعيرت الصحة والسلامة في نقائض ذلك ، والمراد به هاهنا ما * (في قلوبهم) * من الكفر أو من الغل والحنق على رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين * (فزادهم الله مرضا) * بما ينزل على رسوله من الوحي ، فيكفرون به ويزدادون كفرا إلى كفرهم ، فكأنه سبحانه زادهم ما ازدادوه ، وأسند الفعل إلى المسبب (3) كما أسنده إلى السورة في قوله : * (فزادتهم
رجسا إلى
--------------------
(1) وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو والأعرج وابن جندب وشيبة ومجاهد وشبل وابن
محيصن والزيدي ، راجع التبيان : ج 1 ص 68 ، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص
139 ، والتذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 309 ، والاملاء للعكبري : ج 1 ص 10 ،
والحجة في القراءات لأبي زرعة : ص 87 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 1 ص 57 .
(2) في نسخة : لأن قوام النفس به .
(3) في بعض النسخ : السبب . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 73 _
رجسهم) * (1) لكونها سببا ، أو أراد : كلما زاد رسوله نصرة وتمكنا في البلاد والعباد ازدادوا غلا وحسدا ، و (2) ازدادت قلوبهم ضعفا وجبنا وخورا (3) .
وألم فهو أليم كوجع فهو وجيع ، ووصف العذاب به كقوله : تحية بينهم ضرب وجيع (4) وهذا على طريقة قولهم : ( جد جده ) .
والألم في الحقيقة للمؤلم كما أن الجد للجاد ، و * (بما كانوا يكذبون) *
أي : بكذبهم ، وفي هذا إشارة إلى قبح الكذب وأن لحوق العذاب الأليم من أجل كذبهم ،
وقرئ : ( يكذبون ) (5) من كذبه الذي هو نقيض صدقه ، أو من كذب الذي هو مبالغة في كذب ، أو بمعنى الكثرة .
* ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) *
(11) هذا معطوف على * (يكذبون) *، ويجوز أن يكون معطوفا على * (يقول ءامنا) * لأنك
لو قلت : ومن الناس من إذا قيل لهم : لا تفسدوا ، صح الكلام ، والفساد : خروج الشئ عن
حال استقامته وكونه منتفعا به ، ونقيضه الصلاح ، وكان فساد
--------------------
(1) التوبة : 125 .
(2) في نسخة : أو .
(3) الخور ـ بالتحريك ـ : الضعف ، (القاموس المحيط والصحاح : مادة خور) .
(4) وصدره : وخيل قد دلفت لها بخيل ، والبيت منسوب لعمرو بن معد يكرب ضمن قصيدة بعث
بها الى دريد بن الصمة عندما التمس منه زواج اخته ريحانة فأجابه ومطله ، انظر
الكشاف : ج 2 ص 60 ، وخزانة الأدب: ج 9 ص 257 ، والمقتضب : ج 2 ص 413 ، والخصائص : ج 1 ص 368 .
(5) وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر ، والأعرج وشيبة وأبي جعفر ومجاهد
وشبل وأبو رجاء وأبو حاتم ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 141 والكشف
عن وجوه القراءات للقيسي : ج 1 ص 227 - 229 ، والحجة في القراءات لأبي زرعة : ص 88 ،
والتيسير في القراءات : ص 72 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 1 ص 60 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 74 _
المنافقين بميلهم إلى الكفار ، وإفشاء أسرار المسلمين (1) إليهم وإغرائهم عليهم ، ومعنى * (إنما نحن مصلحون) * : أن صفة المصلحين تمحضت لهم وخلصت من غير شائبة قادحة فيها (2) من وجوه الفساد .
* (أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) * (12) * (ألا) * مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي لإعطاء معنى التنبيه على تحقيق ما بعدها ، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقا، كقوله : * (أليس ذلك بقادر) * (3) ، رد الله سبحانه دعواهم أنهم المصلحون أبلغ رد بما في كلتا الكلمتين : ( ألا ) و ( إن ) من التأكيد ، وبتعريف الخبر وتوسيط الفصل وقوله : * (لا يشعرون) * .
* ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ ) * (13) السفه : خفة الحلم وسخافة العقل ، والمعنى : إذا نصحوا أو بصروا طريق الرشد بأن قيل لهم : صدقوا رسول الله كما صدقه الناس ، واللام في * (الناس) * للعهد ، أي : كما آمن أصحاب رسول الله وهم ناس معهودون ، أو عبد الله بن سلام وأضرابه ، أي : كما آمن أصحابكم وإخوانكم ، أو للجنس ، أي : كما آمن الكاملون في الإنسانية ، أو جعل المؤمنون كأنهم الناس على الحقيقة ، ومن عداهم كالبهائم في فقد التمييز بين الحق والباطل ، والاستفهام في * (أنؤمن) * للإنكار ، واللام في * (السفهآء) * مشار بها إلى الناس .
سورة البقرة / 14 و 15 وفصلت هذه الآية ب * (لا يعلمون) * والتي قبلها ب * (لا يشعرون) * لأن أمر
--------------------
(1) في نسخة : المؤمنين .
(2) في بعض النسخ زيادة : بوجه .
(3) القيامة : 40 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 75 _
الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل يحتاج إلى نظر واستدلال حتى يعلم ، وأما النفاق وما فيه من الفساد فأمر دنيوي ، فهو كالمحسوس المشاهد ، ولأنه قد ذكر السفه فكان ذكر العلم معه أحسن .
* ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ) * (14) هذا بيان ما كانوا يعملونه مع المؤمنين ، أي : إذا لقوهم أوهموهم أنهم معهم ، وإذا فارقوهم إلى رؤسائهم من الكفار أو اليهود الذين أمروهم بالتكذيب قالوا : إنا على دينكم وصدقوهم ما في قلوبهم .
وخلوت بفلان وخلوت إليه بمعنى انفردت معه ، و * (إنا معكم) * أي : إنا
مصاحبوكم وموافقوكم على دينكم ، وقولهم : * (إنما نحن مستهزءون) * توكيد لقولهم : *
(إنا معكم) * ، لأن المعنى في * (إنا معكم) * الثبات على اليهودية ، وقولهم : * (إنما نحن مستهزءون) * رد للإسلام ودفع له ، لأن المستهزئ بالشئ ـ وهو المستخف به ـ منكر له ودافع ، ويجوز أن يكون بدلا منه أو استئنافا .
* ( اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) * (15) معنى استهزاء الله تعالى بهم إنزال الهوان والحقارة بهم ، أو إجراء أحكام المسلمين عليهم عاجلا وقد أعد لهم أليم العقاب آجلا ، وسمي جزاء الاستهزاء باسمه ، كقوله : * ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) * (1) .
وفي استئناف قوله : * (الله يستهزئ) * من غير حرف عطف أن الله تعالى هو الذي يتولى الاستهزاء * (بهم) * انتقاما للمؤمنين ولا يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم بذلك ، وقوله :