* (ويمدهم) * من مد الجيش وأمده إذا زاده ، والمعنى : أنه يمنعهم ألطافه التي يمنحها المؤمنين ويخذلهم بسبب كفرهم ، فتبقى قلوبهم يتزايد الرين والظلمة فيها كما يتزايد الانشراح والنور في قلوب المؤمنين .
  وأسند ذلك التزايد إلى الله سبحانه لأنه مسبب عن فعله بهم بسبب كفرهم .
  وعن الحسن (1) قال : في ضلالتهم يتمادون (2) والطغيان : الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتو ، وفي إضافة الطغيان إليهم ما يدل على أن الطغيان والتمادي في الضلال مما اقترفته نفوسهم ، والعمه مثل العمى إلا أن العمه في الرأي خاصة ، وهو التحير والتردد ، لا يدري أين يتوجه .
  * (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) * (16) سورة البقرة / 17 معنى اشتراء * (الضلالة بالهدى) * اختيارها عليه واستبدالها به على سبيل الاستعارة ، لأن الاشتراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر ، والضلالة : الجور عن القصد ، وفي المثل : ( ضل دريص نفقه ) (3) ، فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين ، والربح : الفضل على رأس المال ، وأسند الخسران إلى التجارة مجازا ، والمعنى : أن المطلوب في التجارة سلامة رأس المال والربح ، وهؤلاء قد أضاعوا

--------------------
(1) هو الحسن بن أبي الحسن بن يسار ، أبو سعيد البصري ، مولى الأنصار ، كان فصيحا زاهدا ، وكان حافظا واعظا بارعا في وعظه ، وكان راويا عن كثير من الصحابة ، ولد لسنتين بقينا من خلافة عمر ، ونشأ بوادي القرى ، وتوفي سنة 110 ه‍ وهو ابن ثمان وثمانين ، (تهذيب التهذيب لابن حجر : ج 2 ص 263 ـ 270 ، وميزان الاعتدال للذهبي : ج 1 ص 254 ، وحلية الأولياء لأبي نعيم : ج 2 ص 131 ، وأمالي السيد المرتضى : ج 1 ص 106) .
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 1 ص 68 .
(3) الدرص : ولد الفأرة واليربوع والهرة وأشباهها ، ونفقه : جحره ، والمثل يضرب لمن يعني بأمره ويعد حجة لخصمه فينسى عند الحاجة ، راجع مجمع الأمثال للميداني : ج 1 ص 432 ، والقاموس المحيط : مادة (درص) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 77 _

  الطلبتين (1) معا ، لأن رأس المال كان هو الهدى فلم يبق لهم ، ولم يصيبوا الربح لأن الضال خاسر .
  * (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ) * (17) ثم زاد سبحانه في الكشف عن حالهم بضرب المثل ، فقال : * (مثلهم) * أي : حالهم كحال * (الذى استوقد نارا) * ، وضع ( الذي ) موضع (الذين ) ، كقوله سبحانه : * (وخضتم كالذى خاضوا) * (2)، أو قصد جنس المستوقدين ، أو أراد الجمع الذي استوقد نارا ، على أن المنافقين لم تشبه ذواتهم بذات المستوقد ، بل شبهت قصتهم بقصة المستوقد ، فلا يلزم تشبيه الجماعة بالواحد ، واستوقد : طلب الوقود ، والوقود : سطوع النار وارتفاع لهبها ، والإضاءة : فرط الإنارة ، وهي متعدية في الآية ، ويحتمل أن تكون غير متعدية مسندة إلى * (ما حوله) * والتأنيث للحمل على المعنى ، لأن ما حول المستوقد أشياء وأماكن .
  وجواب ( لما ) : * (ذهب الله بنورهم) *، ويجوز أن يكون محذوفا ، لطول الكلام وأمن الالتباس ، كأنه قيل : * (فلمآ أضاءت ما حوله) * خمدت فبقوا متحيرين متحسرين على فوت الضوء ، وعلى هذا فيكون * (ذهب الله بنورهم) * كلاما مستأ نفا ، كأنهم لما شبهت حالهم بحال المستوقد اعترض سائل فقال : ما بالهم قد اشبهت حالهم حال هذا المستوقد ؟ فقيل له : * (ذهب الله بنورهم) * ، ويجوز أن يكون قوله : * (ذهب الله بنورهم) * بدلا من جملة التمثيل على سبيل البيان .

--------------------
(1) الطلبة ـ بكسر اللام ـ : ما طلبته ، (القاموس المحيط : مادة طلب) .
(2) التوبة : 69 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 78 _
  والفرق بين أذهبه وذهب به : أن معنى ( أذهبه ) : أزاله وجعله ذاهبا ، و ( ذهب به ) : استصحبه ومضى به معه ، قال : * (فلما ذهبوا به) * (1) ، فالمعنى : أخذ الله نورهم وأمسكه ، وما يمسك الله فلا مرسل له ، فهو أبلغ من الإذهاب ، و ( ترك ) بمعنى طرح وخلى ، قالوا : تركه ترك الظبي ظله ، فإذا ضمن معنى ( صير ) تعدى إلى مفعولين وجرى مجرى أفعال القلوب ، نحو قول عنترة (2) : فتركته جزر السباع ينشنه * يقضمن حسن بنانه والمعصم (3) والمراد بالإضاءة انتفاع المنافقين بالكلمة المجراة على ألسنتهم ، ووراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق الذي ترمي بهم إلى ظلمة سخط الله والعقاب الدائم ، ويجوز أن يكون قد شبه اطلاع الله على أسرارهم بذهاب الله بنورهم .
  ووجه آخر : وهو أنهم لما وصفوا باشتراء الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل، ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد ، والضلالة التي اشتروها بذهاب الله بنورهم .
  سورة البقرة / 19 * ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) * (18) كانت حواسهم صحيحة لكنهم لما أبوا أن يصيخوا (4) مسامعهم إلى الحق ، وأن

--------------------
(1) يوسف : 15 .
(2) هو عنترة بن شداد بن عمرو بن معاوية بن قراد العبسي ، أشهر فرسان العرب في الجاهلية ، ومن شعراء الطبقة الاولى، من أهل نجد ، امه حبشية اسمها : زبيدة ، سرى إليه السواد منها ، وكان من أحسن العرب شيمة ومن أعزهم نفسا ، يوصف بالحلم على شدة بطشه ، وفي شعره رقة وعذوبة ، اجتمع في شبابه بامرئ القيس الشاعر ، وشهد حرب داحس والغبراء وعاش طويلا ، قتل نحو سنة 22 قبل الهجرة ، (الشعر والشعراء لابن قتيبة : ص 130 ، والأغاني : ج 8 ص 240 ، وخزانة الأدب: ج 1 ص 62 ، وشرح الشواهد : ص 164 ، وآداب اللغة : ج 1 ص 117 ) .
(3) راجع ديوانه : ص 64 ، وخزانة الأدب : ج 9 ص 165 ، أي : فتركته قتيلا تنهشه السباع والوحوش وتقتضم أصابعه وزنديه .
(4) أصاخ له : استمع ، (القاموس المحيط : مادة صاخ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 79 _
  ينطقوا ألسنتهم بالحق ، وأن ينظروا ويتبصروا بعيونهم ، جعلوا كأنهم انتقضت بنى مشاعرهم التي هي أصل الإحساس والإدراك كقوله : صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به * وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا (1) و * (لا يرجعون) * معناه : لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه ، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها ، أو بقوا متحيرين لا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون ، فكيف يرجعون إلى حيث ابتدأوا منه ؟ * ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ) * (19) الصيب : المطر الذي يصوب ، أي : ينزل ويقع ، ويقال للسحاب : صيب أيضا (2) .
  هذا تمثيل آخر لحال المنافقين ، ليكون كشفا لها بعد كشف ، والمعنى : أو كمثل ذوي صيب ، أي : كمثل قوم أخذهم المطر على هذه الصفة فلقوا منها مالقوا .
  قالوا : شبه دين الإسلام بالمطر ، لأن القلوب تحيا به كما تحيا الأرض بالمطر ، وشبه ما يتعلق به من شبهات الكفار بالظلمات ، وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق ، وما يصيبهم من أهل الإسلام بالصواعق .
  وقيل : شبه القرآن بالمطر ، وما فيه من الابتلاء والزجر بالظلمات والرعد ، وما فيه من البيان بالبرق ، وما فيه من الوعيد آجلا والدعاء إلى الجهاد عاجلا بالصواعق (3) .
  وجاءت هذه الأشياء

--------------------
(1) البيت لقعنب بن ام صاحب الغطفاني كما في شرح درة الغواص : ص 130 ، وراجع لباب الآداب: ص 403 مادة ( اذن ) ، وأذنوا : أي استمعوا ، ومعناه لا يحتاج الى بيان .
(2) انظر لسان العرب : مادة (صوب) .
(3) قاله ابن عباس ، راجع تفسيره : ص 5 ، وتفسير الماوردي : ج 1 ص 82 ، واختاره الزمخشري في الكشاف : ج 1 ص 79 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 80 _
  منكرة ، لأن المراد أنواع منها ، كأنه قيل : في الصيب ظلمات داجية (1) ، ورعد قاصف ، وبرق خاطف .
  والضمير في * (يجعلون) * يرجع إلى أصحاب الصيب المضاف ، مع كونه محذوفا وقيام الصيب مقامه ، و * (يجعلون) * استئناف لا محل له ، و * (من الصوا عق) * يتعلق ب‍ * (يجعلون) * أي : من أجل الصواعق يجعلون أصابعهم في آذانهم ، وصعقته الصاعقة : أهلكته ، فصعق أي مات : إما بشدة الصوت أو بالإحراق ، و * (حذر الموت) * مفعول له ، ومعنى إحاطة الله بالكافرين : أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة ، وهذه الجملة اعتراض .
  * ( يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) * (20) سورة البقرة / 21 الخطف : الأخذ بسرعة ، لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدة والهول ، فكأن قائلا قال : كيف حالهم مع مثل ذلك البرق ؟ فقيل : * (يكاد البرق يخطف أبصرهم) * ، فهذه جملة مستأنفة أيضا لا محل لها ، و * (كلما أضاء لهم) * استئناف ثالث ، كأنه جواب لمن يقول : كيف يصنعون في حالتي خفوق (2) البرق وخفوته (3) ؟ وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون به ويذرون ، إذا خفق البرق مع خوفهم أن يخطف أبصارهم انتهزوا تلك الخفقة فرصة (4) ، فخطوا خطوات يسيرة ،

--------------------
(1) داجية : مظلمة ، ومنه دجا الليل إذا أظلم . (القاموس المحيط : مادة دجا) .
(2) خفقت الراية : اضطربت ، (الصحاح : مادة خفق) .
(3) خفت الريح : أي سكن ، (الصحاح : مادة خفت) .
(4) في نسخة : فرضا . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 81 _
  فإذا خفي بقوا واقفين متحيرين * (ولو شآء الله) * لزاد في قصيف الرعد فأصمهم ، و (1) في بريق البرق فأعماهم ، و * (أضاء) * إما متعد والمفعول محذوف ، بمعنى : كلما نور لهم مسلكا أخذوه ، وإما غير متعد بمعنى : كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره ، ومعنى *(قاموا) * وقفوا وثبتوا في مكانهم ، والمعنى : ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بهما ، وقد كثر هذا الحذف في ( شاء ) و ( أراد ) ، ولم يبرزوا المفعول إلا في النادر ، كقوله : * (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا ) * (2) والشئ ما يصح (3) أن يعلم ويخبر عنه .
  * ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) * (21) ولما عدد سبحانه فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين ، أقبل عليهم بالخطاب ، وهو من الالتفات الذي تقدم ذكره ، وهو فن من الكلام فيه هز وتحريك من السامع ، وتنبيه واستدعاء لإصغائه إلى الحديث ، و * (يا) * حرف وضع في أصله لنداء البعيد ، و ( أي ) و ( الهمزة ) لنداء القريب ، و ( أي ) وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام ، كما أن( ذو ) و ( الذي ) وصلتان إلى الوصف بأسماء الأجناس ووصف المعارف بالجمل ، وهو اسم مبهم يحتاج إلى ما يوضحه ، فلابد أن يردفه اسم جنس أو ما يجري مجراه يتصف به حتى يتضح (4) المقصود بالنداء ، والذي عمل فيه حرف النداء ( أي ) والاسم التابع له صفته ، وقد كثر في كتاب الله النداء على هذه الطريقة ، لاستقلاله بأوجه من التأكيد في التدرج من الإبهام إلى التوضيح ، وكلمة التنبيه المقحمة بين ( أي ) وصفته لتعاضد حرف النداء بتأكيد

--------------------
(1) في بعض النسخ : أو .
(2) الأنبياء : 17 .
(3) في بعض النسخ : يصلح .
(4) في بعض النسخ : يصح . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 82 _
  معناه ، وتكون عوضا مما يستحقه من الإضافة ، وكل ما نادى الله لأجله عباده من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد وغير ذلك أمور عظام ومعان جليلة عليهم أن يتيقظوا لها ، فاقتضت الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ .
  * (الذى خلقكم) * صفة ل‍ * (ربكم) * جرت عليه على سبيل المدح والثناء ، أي : * (اعبدوا ربكم) * على الحقيقة .
  والخلق : إيجاد الشئ على تقدير واستواء ، و ( لعل ) للترجي أو الإشفاق ، وقد جاء في مواضع من القرآن على سبيل الإطماع ، ولكن لأنه إطماع من كريم رحيم إذا أطمع فعل ما يطمع فيه لامحالة ، جرى إطماعه مجرى وعده المحتوم وفاؤه به ، و ( لعل ) في الآية ليس مما ذكرته في شئ بل هو واقع موقع المجاز ، لأنه سبحانه خلق عباده ليكلفهم ، وأزاح عللهم في التكليف من الإقدار والتمكين ، وأراد منهم الخير والتقوى ، فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا ، لترجح أمرهم وهم مختارون بين الطاعة والمعصية ، كما ترجحت حال المرتجى بين أن يفعل وأن لا يفعل ، ومصداقه قوله : * (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) * (1) ، وإنما يبلو ويختبر من يخفى عليه العواقب ، ولكن شبه بالاختبار بناء أمرهم على الاختيار .
  * (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) * (22) سورة البقرة / 22 قدم سبحانه من موجبات عبادته خلقهم أحياء قادرين أولا ، ثم خلق الأرض التي هي مستقرهم الذي لابد لهم منه ومفترشهم ، ثم خلق السماء التي هي كالقبة

--------------------
(1) الملك : 2 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 83 _
  لمضروبة على هذا المستقر ، ثم ما سواه سبحانه من شبه عقد النكاح بينهما بإنزال الماء من المظلة منهما على المقلة (1) ، والإخراج به من بطنها أشباه النسل من ألوان الثمار * (رزقا) * لبني آدم ، ليقابلوا هذه النعمة العظيمة بواجب الشكر ، ويتفكروا في خلق أنفسهم وخلق مافوقهم وما تحتهم ، فيعلموا أنه لابد لها من خالق ليس كمثلها ، حتى لا يجعلوا المخلوقات * (أندادا) * له وهم يعلمون أنها لا تقدر على بعض ما هو عليه قادر .
  ومعنى جعل الأرض فراشا وبساطا ومهادا للناس : أنهم يتقلبون عليها كما يتقلب على الفراش والبساط والمهاد .
  والبناء مصدر سمي به المبني ، وأبنية العرب أخبيتهم (2) ، ومنه ( بنى على امرأته) .
  و ( من ) في * (من الثمرا ت) * للتبعيض ، كأنه قال : أنزلنا من السماء بعض الماء ، فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم ، لأنه لم ينزل من السماء الماء كله ولا أخرج بالمطر جميع الثمرات ولا جعل الرزق كله في الثمرات .
  ويجوز أن يكون ( من ) للبيان ، كما تقول : أنفقت من الدراهم ألفا .
  وإذا كان ( من ) للتبعيض كان قوله : * (رزقا) * منصوبا بأنه مفعول له ، وإذا كان للبيان كان * (رزقا) * مفعولا به ل‍ ( أخرج ) .
  والند : المثل ، ولا يقال : الند إلا للمثل المخالف المناوئ أي : هو الذي حفكم (3) بهذه الدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية ، فلا تتخذوا له شركاء * (وأنتم) * أهل المعرفة والتمييز ، أو أنتم تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت ، أو أنتم تعلمون أنه لا يماثل .

--------------------
(1) أراد بالمقلة : الأرض الحاملة للمخلوقات عليها ، وبالمظلة : السماء التي تغطيها كالقبة .
(2) الأخبية جمع خباء ، وهو من الأبنية ما يعمل من وبر أو صوف أو شعر . (القاموس المحيط : (مادة خبا) .
(3) في نسخة : خصكم . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _84 _
   ( وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ) * (23) لما احتج سبحانه على الناس للتوحيد وعلم الطريق إلى تصحيحه ، عطف على ذلك الحجة على نبوة نبيه محمد (صلى الله عليه وآله) فقال : إن ارتبتم فيما نزلنا ، أتى بلفظ التنزيل ، لأن المراد النزول على سبيل التدريج نجوما سورة بعد سورة وآيات بعد آيات على حسب النوازل والحوادث * (على عبدنا) * ورسولنا محمد (صلى الله عليه وآله) ، فهاتوا أنتم سورة من أصغر السور .
  سورة البقرة / 24 و 25 والسورة إن كانت واوها أصلا : فإما أن سميت بسور المدينة لأنها طائفة من القرآن محدودة ، أو لأنها محتوية على فنون من العلم كاحتواء سور المدينة على ما فيها ، وإما أن سميت بالسورة التي هي الرتبة ، لأن السور بمنزلة المنازل والمراتب ، و (1) لرفعة شأنها في الدين .
  وإن كانت واوها منقلبة عن همزة ، فلأنها قطعة من القرآن ، كالسؤرة (2) التي هي البقية من الشئ * (من مثله) * متعلق ب‍ ( سورة ) صفة لها ، أي * (بسورة) * كائنة * (من مثله) * ، والضمير لما نزلنا أو لعبدنا ، ويجوز أن يتعلق بقوله : * (فأتوا) * والضمير للعبد ، والمعنى : فأتوا بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب وحسن النظم ، أو هاتوا ممن هو على حاله من كونه بشرا عربيا أو أميا لم يأخذ من العلماء ولم يقرأ الكتب ، ورد الضمير إلى المنزل أوجه ، لقوله : * (بسورة مثله) * (3) وقوله : * (لا يأتون بمثله) * (4) ، ولأن الحديث في المنزل لا في المنزل عليه ، فمن حقه أن لا يرد الضمير إلى غيره ، لأن المعنى : وإن ارتبتم في أن القرآن منزل من عند الله فهاتوا أنتم نبذا مما يماثله ويجانسه ، وإن

--------------------
(1) في نسخة : أو .
(2) في بعض النسخ : السؤر .
(3) يونس : 38 .
(4) الاسراء : 88 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 85 _
  كان الضمير مردودا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فالمعنى : وإن ارتبتم في أن محمدا (صلى الله عليه وآله) منزل عليه فهاتوا قرآنا من مثله ، و ( الشهداء ) جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة ، والمعنى : ادعوا كل من يشهدكم واستظهروا به من الجن والإنس إلا الله تعالى فإنه القادر على أن يأتي بمثله دون كل شاهد .
  * ( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) * (24) لما أرشدهم سبحانه إلى الوجه الذي منه يعرفون صحة نبوة النبي (صلى الله عليه وآله) قال لهم : فإذا لم تعارضوه بسورة مثله ، ولم يتيسر لكم ذلك ، وبان لكم أنه معجز ، فآمنوا واتقوا النار المعدة لمن كذب ، وفيه دليلان على إثبات نبوته (صلى الله عليه وآله) : صحة كون القرآن معجزا ، والإخبار بأنهم لن يفعلوا أبدا ، وهو غيب لا يعلمه إلاالله.
  والوقود : ما يوقد به النار وهو الحطب ، والمعنى في قوله : * (وقودها الناس والحجارة) * أنها نار ممتازة عن النيران الأخر ، بأنها لا تتقد إلا بالناس والحجارة ، وقرن الناس بالحجارة ، لأنهم قرنوا بها أنفسهم في الدنيا ، حيث نحتوها أصناما ، وجعلوها لله أندادا ، وعبدوها من دونه ، قال سبحانه : * (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) * (1) ، ومعنى * (أعدت) * : هيئت وجعلت عدة لعذابهم .
* (وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) * (25) ثم ذكر سبحانه الترغيب بعد الترهيب ، وشفع الإنذار بالبشارة ، فبشر عباده الذين جمعوا بين الإيمان وصالح الأعمال بعد أن أنذر الكفار وأوعدهم بالعذاب

-------------------
(1) الأنبياء : 98 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 86 _
  والنكال ، والبشارة : الإخبار بما يظهر سرور المخبر به ، والجنة : البستان من النخل والشجر ، وأصلها من الستر ، فكأنها لتكاثفها والتفاف أغصان أشجارها سميت بالجنة التي هي المرة من مصدر جنه إذا ستره ، ولولا أن الماء الجاري من أعظم النعم وأكبر (1) اللذات لما جاء الله سبحانه بذكر الجنات مشفوعا بذكر الأنهار الجارية من تحتها في قرن واحد ، كالشيئين لابد لأحدهما من صاحبه ، وإسناد الجري إلى الأنهار إسناد مجازي ، كقولهم : بنو فلان يطأهم الطريق .
  وإنما نكرت ( الجنات ) لأن دار الثواب تشتمل على جنات (2) كثيرة مرتبة على حسب استحقاق كل طبقة من أهلها ، وعرفت ( الأنهار ) لإرادة الجنس ، كما تقول : لفلان بستان فيه الماء الجاري والعنب والفواكه ، أو يراد الأنهار المذكورة في قوله تعالى : * (فيها أنهر من ماء غير ءاسن) * الآية (3) .
  * (كلما رزقوا) * إما أن يكون صفة ثانية ل‍ * (جنت) * ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو جملة مستأنفة ، والمعنى : أنهم كلما رزقوا من أشجار الجنات نوعا من أنواع الثمار * (رزقا قالوا هذا) * مثل * (الذى رزقنا من قبل) * وشبهه ، بدليل قوله : * (وأتوا به متشبها) * ، وهذا كقولك : أبو يوسف : أبو حنيفة ، تريد أنه لاستحكام الشبه كأن ذاته ذاته ، والضمير في قوله : * (وأتوا به) * يرجع إلى المرزوق في الدنيا والآخرة جميعا ، لأن قوله : * (هذا الذى رزقنا من قبل) * انطوى تحته ذكر مارزقوه في الدارين ، ويجوز أن يرجع الضمير في * (وأتوا به) * إلى الرزق كما أن سورة البقرة / 26 * (هذا) * إشارة إليه ، فيكون المعنى : أن ما يرزقونه من ثمرات الجنة يأتيهم متجانسا في نفسه ، كما يحكى عن الحسن : يوتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها ، ثم

-------------------
(1) في نسخة : أكرم .
(2) في نسخة : جنان .
(3) محمد : 15 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 87_
  يؤتى بالأخرى ، فيقول : هذا الذي أتينا به من قبل ، فيقول الملك : كل فاللون واحد والطعم مختلف (1) .
  * (ولهم فيها أزوا ج مطهرة) * طهرن مما يختص بالنساء من المحيض ، وما لا يختص بهن من الأقذار والأدناس ، ويدخل تحت ذلك الطهر من دنس الطباع وسائر العيوب .
  والخلد : الثبات الدائم والبقاء اللازم الذي لا ينقطع .
  * (إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ) * (26) لما ضرب الله تعالى المثلين للمنافقين قبل هذه الآية ، قالوا : الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال ، فنزلت (2) الآية لبيان أن ما استنكروه من أن يكون المحقرات من الأشياء مضروبا بها المثل ليس بموضع للاستنكار ، لأن في التمثيل كشف المعنى ورفع الحجاب عن المطلوب ، فإن كان المتمثل له عظيما كان المتمثل به مثله ، وإن كان حقيرا كان المتمثل به كذلك ، ووصف القديم سبحانه بالحياء في مثل قوله (عليه السلام) : ( إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد إليه يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا ) (3) جار مجرى التمثيل ، لأن الحياء تغير وانكسار يعتري

-------------------
(1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 1 ص 109 .
(2) انظر أسباب النزول للواحدي : ص 27 في أحوال نزول هذه الآية .
(3) أخرجه في جامع الاصول : ج 5 ص 11 ح 2119 عن سلمان الفارسي ، ورواه أيضا في كنز العمال : ج 2 ص 87 ح 3266 و 3267 و 3268 عن علي (عليه السلام) وابن عمر ، وفي المستدرك للحاكم : ج 1 ص 497 عن أنس ، وفي الترغيب والترهيب للمنذري : ج 2 ص 480 - 481 وقال : ورواه أبو داود والترمذي وحسنه واللفظ له وابن ماجة وابن حبان في صحيحه = (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _88 _
  الإنسان من لحوق (1) ما يعاب به ويذم ، واشتقاقه من الحياة ، يقال : حيي الرجل ، كما يقال : نسي وحشي وشظي الفرس : إذا اعتلت منه هذه الأعضاء ، وجعل الحيي لما يعتريه من الانكسار منتقص الحياة ، فمثل تركه سبحانه تخييب العبد لكرمه بترك من يترك رد المحتاج إليه حياء منه ، وكذلك المعنى في الآية : أن الله تعالى لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يتمثل بها لحقارتها .
  و * (ما) * هذه إبهامية وهي التي إذا اقترنت بنكرة زادته شياعا ، تقول : أعطني شيئا ما ، أو هي صلة زيدت للتأكيد نحو التي في قوله : * (فبما رحمة) * (2) ، والمعنى : أن الله لا يستحيي ولا يترك أن يتمثل للأنداد بما لا شئ أصغر منه وأقل ، وانتصب * (بعوضة) * بأنها عطف بيان أو مفعول ل‍ * (يضرب) * ، و * (مثلا) * حال عن النكرة مقدمة عليه ، أو انتصبا مفعولين ل‍ * (يضرب) * ، لأنه أجري مجرى جعل .
  * (فما فوقها) * فيه معنيان : أحدهما : فما تجاوزها وزاد عليها في المعنى الذي ضربت فيه مثلا وهو القلة والحقارة ، والآخر : فما زاد عليها في الحجم ، و * (الحق) * : الثابت الذي لا يسوغ إنكاره ، يقال : حق الأمر إذا ثبت ووجب ، و * (ماذآ) * فيه وجهان : أحدهما : أن يكون ( ذا ) اسما موصولا بمعنى ( الذي ) فتكون كلمتين ، والآخر : أن يكون ( ذا ) مركبة مع ( ما ) فتكون كلمة واحدة ، والضمير في * (أنه الحق) * للمثل أو ل‍ * (أن يضرب) * و * (مثلا) * نصب على التمييز .
  سورة البقرة / 27 وقوله : * (مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ) * جار مجرى التفسير والبيان للجملتين المتقدمتين ، وأن فريق العالمين بأنه الحق وفريق الجاهلين المستهزئين به كلاهما موصوف بالكثرة ، وأن العلم بكونه حقا من باب الهدى ، وأن الجهل

-------------------
= والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين .
(1) في بعض النسخ : تخوف .
(2) آل عمران : 159 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 89 _
  بحسن مورده من باب الضلالة ، وإسناد الإضلال إلى الله سبحانه إسناد الفعل إلى السبب ، لأنه لما ضرب المثل فضل به قوم واهتدى به قوم تسبب لضلالتهم (1) وهديهم ، والفسق : الخروج عن طاعة الله.
  * (الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ ) * (27) النقض : الفسخ ، وشاع (2) استعمال النقض في إبطال العهد من جهة أنهم سموا العهد بالحبل على الاستعارة ، ومنه قول ابن التيهان في بيعة العقبة : يا رسول الله إن بيننا وبين القوم حبالا ، ونحن قاطعوها ، فنخشى إن الله أعزك وأظهرك أن ترجع الى قومك (3) ، و * (عهد الله) * هو ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد ، أو ما أخذ عليهم في التوراة من اتباع محمد (صلى الله عليه وآله) ، أو ما أخذ عليهم من الميثاق بأنه إذا بعث إليهم رسول مؤيد بالمعجزات صدقوه واتبعوه .
  والضمير في * (ميثقه) * للعهد ، ويجوز أن يكون الميثاق بمعنى : التوثقة ، كما أن الميعاد والميلاد بمعنى : الوعد والولادة ، ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله، أي : من بعد توثقته عليهم .
  ومعنى قطعهم * (مآ أمر الله به أن يوصل) * : قطعهم الأرحام وموالاة المؤمنين ، وقيل : قطعهم ما بين الأنبياء من الاجتماع على الحق في إيمانهم ببعض وكفرهم ببعض (4) .
  والأمر : طلب الفعل ممن هو دونك ، وبه سمي الأمر الذي هو واحد الأمور ، لأن الداعي الذي يدعو إليه شبه بأمر يأمر به * (هم الخسرون) * لأنهم

-------------------
(1) في بعض النسخ : بسبب إضلالهم .
(2) في بعض النسخ : ساغ .
(3) رواه الزمخشري في كشافه : ج 1 ص 119 .
(4) رواه الضحاك وعطاء عن ابن عباس كما في تفسير السمرقندي : ج 1 ص 105 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 90 _
  استبدلوا النقض بالوفاء والقطع بالوصل والفساد بالصلاح .
  * ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) * (28) معنى الهمزة التي في * (كيف) * مثله في قولك : أتكفرون بالله ومعكم ما يصرف عن الكفر ويدعو إلى الإيمان ، وهو الإنكار والتعجب ، والواو في قوله : * (وكنتم أموا تا) * للحال ، أي وقصتكم هذه وحالكم أنكم كنتم أمواتا : نطفا في أصلاب آبائكم * (فأحيكم) * فجعلكم أحياء * (ثم يميتكم) * بعد هذه الحياة * (ثم يحييكم) * بعد الموت ، وهذا الإحياء الثاني يجوز أن يراد به الإحياء في القبر ، وبقوله : * (ثم إليه ترجعون) * الحشر والنشور ، ويجوز أن يراد بالإحياء النشور وبالرجوع المصير إلى الحساب والجزاء ، وعطف الأول بالفاء ، لأن الإحياء الأول يعقب الموت بغير تراخ ، وعطف الآخرين ( ب‍ ) ثم ، لأن الموت قد تراخى عن الإحياء ، والإحياء الثاني متراخ عن الموت ، إن أريد به النشور أو الإحياء في القبر ، والرجوع إلى الجزاء أيضا متراخ عن النشور .
  * (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) * (29) سورة البقرة / 30 * (لكم) * أي : لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم بأن تتمتعوا منه بفنون المطاعم والمناكح والمراكب والمناظر البهيجة ، وفي دينكم بأن تنظروا فيه وما يتضمنه من عجائب الصنع الدالة على الصانع القادر الحكيم، وفي هذا دلالة على أن أصل الأشياء الإباحة إلى أن يمنع الشرع بالنهي ، وجائز لكل أحد أن يتناولها ويستنفع بها ، و * (جميعا) * نصب على الحال من قوله : * (ما في الارض)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 91 _
  والاستواء : الاعتدال والاستقامة ، يقال : استوى العود ، ثم قيل : استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصد قصدا مستويا من غير أن يلوي إلى شئ ، ومنه استعير قوله : * (ثم استوى إلى السماء) * أي : قصد إليها بإرادته ومشيته بعد خلق ما في الأرض من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شئ آخر، والمراد بالسماء جهات العلو ، كأنه قال : ثم استوى إلى فوق ، والضمير في * (فسوبهن) * ضمير مبهم ، و * (سبع سموا ت) * تفسيره ، كقولهم : ربه رجلا ، وقيل : الضمير راجع إلى السماء (1) ، والسماء في معنى الجنس (2) ، ومعنى * (فسوبهن) * : عدل خلقهن وأتمه وقومه * (وهو بكل شئ عليم) * فلذلك خلق السماوات والأرض خلقا محكما متقنا من غير تفاوت على حسب ما اقتضته الحكمة .
   (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) * (30) لما ذكر سبحانه إنعامه علينا بخلق السماء والأرض وما فيهما ، ذكر نعمته علينا بخلق أبينا آدم (عليه السلام) ب‍ * (قالوا) *، و * (جاعل) * من جعل الذي له مفعولان ، والمعنى مصير * (في الارض خليفة) * ، والخليفة : من يخلف غيره ، والمعنى : خليفة منكم ، لأن الملائكة كانوا سكان الأرض فخلفهم آدم فيها وذريته ، واستغنى بذكر آدم عن ذكر بنيه كما يستغنى بذكر أبي القبيلة في قولك : ربيعة ومضر (3) ، أو يريد من يخلفكم ، أو خلقا

-------------------
(1) قاله الهمداني في الفريد في إعراب القرآن : ج 1 ص 262 .
(2) قاله الزجاج في معاني القرآن : ج 1 ص 107 ، والأخفش في معاني القرآن : ج 1 ص 217 وعنه في التبيان : ج 1 ص 126 .
(3) في نسخة زيادة : وهاشم . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 92 _
  يخلفكم فوحد لذلك ، ويجوز أن يريد خليفة مني ، لأن آدم كان خليفة الله في أرضه ، وهو الصحيح ، لقوله : * (يا داوود إنا جعلنك خليفة في الارض) * (1) . * (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا) * إنما عرفوا ذلك حتى تعجبوا منه من جهة اللوح ، أو عرفوه بإخبار الله تعالى * (ونحن نسبح) * الواو للحال ، كما تقول : أتحسن إلى فلان وأنا أحق منه بالإحسان ، والتسبيح : تبعيد الله من السوء، و * (بحمدك) * في موضع الحال ، أي : نسبح حامدين لك ومتلبسين بحمدك * (قال إنى أعلم) * من المصالح في ذلك ما هو خفي عليكم ولا تعلمونه ، ولم يبين لهم تلك المصالح ، لأن العباد يكفيهم أن يعلموا أن أفعال الله تعالى كلها حسنة وإن خفي عليهم وجه الحكمة ، على أنه قد بين لهم بعض ذلك في قوله : * (وعلم ءادم الاسماء) * الآية .
  * ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ) * (31) أي : أسماء المسميات كلها ، فحذف المضاف إليه لكونه معلوما مدلولا عليه بذكر الأسماء ، لأن الاسم لابد له من مسمى ، وعوض منه اللام كقوله : * (واشتعل الرأس شيبا) * (2) ، وليس التقدير : وعلم آدم مسميات الأسماء ، فيكون حذفا للمضاف ، لأن التعليم يتعلق بالأسماء لا بالمسميات ، لقوله : * (أنبونى بأسمآء هؤلاء) *، ومعنى تعليمه أسماء المسميات أنه أراه الأجناس التي خلقها ، وعلمه أن هذا اسمه فرس وهذا اسمه كذا ، وعلمه أحوالها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية * (ثم عرضهم) * أي : عرض المسميات * (على الملئكة) * وإنما ذكر لأن سورة البقرة / 32 و 33 في المسميات العقلاء فغلبهم * (فقال) * للملائكة : * (أنبونى بأسمآء هؤلاء) *

-------------------
(1) ص : 26 .
(2) مريم : 4 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 93 _
  استنبأهم وقد علم عجزهم عن الإنباء على سبيل التبكيت * (إن كنتم صدقين) * أي : في زعمكم أني أستخلف في الأرض من يفسد فيها إرادة للرد عليهم ، وليبين أن في من يستخلفه من الفوائد العلمية التي هي أصول الفوائد كلها ما يستأهلون لأجله أن يستخلفوا ، فبين لهم بذلك بعض ما أجمل من ذكر المصالح في استخلافهم في قوله : * (إنى أعلم ما لا تعلمون) * (1) .
  * ( قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) * (32) قالت الملائكة : * (سبحنك) * تنزيها لك عن أن يعلم الغيب أحد سواك ، أو تعظيما لك عن أن يعترض عليك في حكمك * (لاعلم لنآ إلا ما علمتنآ) * وليس هذا في ما علمتنا * (إنك أنت العليم) * بجميع المعلومات ، وهو صيغة مبالغة للعالم * (الحكيم) * المحكم لأفعاله .
  * (قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) * (33) * (أنبهم) * أي : أخبر الملائكة * (بأسمآئهم) * علق الإنباء بالأسماء لا بالمسميات ، فلم يقل : أنبئهم بهم ، لما قلناه من أن التعليم يتعلق بالأسماء * (فلمآ أنبأهم) * آدم أخبر الملائكة * (بأسمائهم) * أي : باسم كل شئ ومنافعه ومضاره وخواصه * (قال) * سبحانه للملائكة : * (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ) * أي : أعلم ما غاب فيهما عنكم فلم تشاهدوه كما أعلم ماحضركم

-------------------
(1) البقرة : 30 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 94 _
  فشاهدتموه * (وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) * أي : ما تعلنونه وما تضمرونه ، وفي هذا أن تعليمه سبحانه الأسماء كلها بما فيها من المعاني وفتق لسانه بذلك معجزة أقامها الله تعالى للملائكة دالة على نبوته وجلالة قدره وتفضيله عليهم .
  * (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ ) * (34) * (إلا إبليس) * استثناء متصل عند من ذهب إلى أن إبليس من الجن ، وكان (1) بين أظهر الألوف من الملائكة مغمورا بهم ، ثم استثني منهم استثناء واحد منهم ، ويجوز أن يكون منقطعا * (أبى) * أي : امتنع مما أمر به * (واستكبر) * عنه * (وكان من) * جنس كافري الجن وشياطينهم ، ولاشك أن الاستثناء متصل عند من ذهب إلى أنه من الملائكة .
  وفي الآية دلالة على فضل آدم على جميع الملائكة ، لانه قدمه على الملائكة إذ أمرهم بالسجود له ، ولا يجوز تقديم المفضول على الفاضل ، ولو لم يكن سجود الملائكة له على وجه التعظيم لشأنه و (2) تقديمه عليهم لم يكن لامتناع إبليس عن السجود له ، وقوله : * (أرءيتك هذا الذى كرمت على) * (3) وقوله : * (أنا خير منه) * (4) وجه ، ولكان يجب على الله تعالى أن يعلمه أنه لم يأمره بالسجود له على وجه تعظيمه وتفضيله عليه ، ولما جاز أن يفعل ذلك إذا كان ذلك سبب معصية إبليس ، فعلمنا أنه لم يكن ذلك إلا على وجه التفضيل له عليهم .
  سورة البقرة / 35 و 36 * ( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ ن)

-------------------
(1) في نسخة زيادة : واحدا .
(2) في نسخة زيادة : في .
(3) الاسراء : 62 .
(4) الأعراف : 12 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _95 _
   * (35) * (أنت) * تأكيد للضمير المستكن في * (اسكن) * ليصح العطف عليه ، و * (رغدا) * وصف للمصدر ، أي : أكلا رغدا واسعا رافها ، و * (حيث) * للمكان المبهم ، أي : أي مكان من الجنة * (شئتما) * والمعنى : اتخذ أنت وامرأتك الجنة مسكنا ومأوى * (وكلا منها) * أي : من الجنة كثيرا واسعا * (حيث شئتما) * من بقاع الجنة * (ولا تقربا هذه الشجرة) * أي : لاتأكلا منها ، والمعنى : لاتقرباها بالأكل ، وهو نهي تنزيه عندنا لا نهي تحريم ، وكانا بالتناول منها تاركين نفلا وفضلا (1) * (فتكونا من الظلمين) * أي : الباخسين الثواب لأنفسكما بترك هذا المندوب إليه .
  * (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) * (36) * (فأزلهما) * أي : حملهما على الزلة * (الشيطن) * يعني : إبليس ، نسب الزلة إلى الشيطان لما وقعت بدعائه ووسوسته * (عنها) * عن الجنة * (فأخرجهما مما كانا فيه) * من المنزلة والنعمة والدعة ، وأضاف الإخراج إلى الشيطان لأنه كان السبب فيه ، وإنما أخرج الله آدم من الجنة لأن المصلحة اقتضت بعد تناوله الشجرة إهباطه إلى الأرض وابتلاءه بالتكليف وسلبه ثياب الجنة ، كما تقتضي الحكمة الإفقار بعد

-------------------
(1) قال في التبيان : ج 1 ص 159 ما لفظه : وقوله : * (ولا تقربا هذه الشجرة) * صيغته صيغة النهي ، والمراد به الندب عندنا ، لأنه دل الدليل على أن النهي لا يكون نهيا إلا بكراهته للمنهي عنه ، والله تعالى لا يكره إلا القبيح ، وفي تفسير الميزان قال (قدس سره) : فهما انما ظلما أنفسهما في ترك الجنة ، على أن جزاء المخالفة للنهي المولوي التكليفي يتبدل بالتوبة إذا قبلت ولم يتبدل موردهما ، فانهما تابا وقبلت توبتهما ولم يرجعا الى ما كانا فيه من الجنة ، ولولا أن التكليف إرشادي ليس له إلا التبعة التكوينية دون التشريعية ، لاستلزام قبول التوبة رجوعهما الى ما كانا فيه من مقام القرب ، انظر تفسير الميزان : ج 1 ص 131 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 96 _
  الإغناء والإماتة بعد الإحياء ، ومن قرأ : ( فأزالهما ) (1) فالمعنى : فأزالهما مما كانا فيه من النعيم والكرامة أو من الجنة * (وقلنا اهبطوا) * خطاب لآدم وحواء ، والمراد : هما وذريتهما ، لأنهما لما كانا أصل الإنس جعلا كأنهما الإنس كلهم ، ويدل عليه قوله في موضع آخر : * (اهبطا منها جميعا) * (2)، * (بعضكم لبعض عدو) * والمعنى فيه : ما عليه الناس من التعادي والمخالفة وتضليل بعضهم لبعض ، والهبوط : النزول إلى الأرض، والمستقر : موضع الاستقرار أو الاستقرار (3) ، * (ومتع) * أي : تمتع سورة البقرة / 37 و 38 بالعيش * (إلى حين) * إلى يوم القيامة ، وقيل : إلى الموت (4) .
  قال السراج (5) : لو قيل : * (ولكم في الارض مستقر ومتع) * لظن أن ذلك غير منقطع ، فقيل : * (إلى حين) * أي : إلى حين انقطاعه (6) .

-------------------
(1) وهي قراءة حمزة والأعمش والحسن والأعرج وطلحة وأبي رجاء ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 153 ، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي : ج 1 ص 236 ، والتذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 312 ، والحجة في علل القراءات السبع لأبي علي الفارسي : ج 2 ص 10 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 1 ص 161 .
(2) طه : 123 .
(3) في نسخة ليس فيها : ( أو الاستقرار ) .
(4) قاله ابن عباس والسدي ، راجع تفسير ابن عباس : ص 7 ، وتفسير الماوردي : ج 1 ص 108 .
(5) محمد بن السري بن سهل البغدادي المعروف بابن السراج ، أبو بكر ، أديب ، نحوي ، لغوي ، صحب المبرد وقرأ عليه كتاب سيبويه في النحو ، ثم اشتغل بالموسيقى ، ثم رجع الى كتاب سيبويه ونظر في دقائقه وعول على مسائل الأخفش والكوفيين ، وخالف اصول البصريين في مسائل كثيرة ، وأخذ عنه عبد الرحمن الزجاجي وأبو سعيد السيرافي وأبو علي الفارسي وعلي بن عيسى الرماني وتوفي كهلا ، من تصانيفه : شرح كتاب سيبويه في النحو ، احتجاج القراء في القراءة ، جمل الاصول ، الاشتقاق ، الشعر والشعراء ، (سير النبلاء : ج 9 ص 266 ، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي : ج 5 ص 319 ـ 320 ، ووفيات الأعيان لابن خلكان : ج 1 ص 636 ـ 637 ، ومعجم الأدباء : ج 18 ص 197 ـ 201 ، والكامل في التاريخ لابن الأثير : ج 8 ص 6 و 62) .
(6) حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان : ج 1 ص 165 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 97 _
   (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) * (37) معنى تلقي الكلمات استقبالها بالأخذ والقبول والعمل بها ، أي : أخذها * (من ربه) * على سبيل الطاعة ، ورغب إلى الله بها ، أو سأله بحقها * (فتاب) * الله * (عليه) * .
  ومن قرأ : ( فتلقى آدم ) بالنصب ( كلمات ) بالرفع (1) ، فالمعنى : أن الكلمات استقبلت آدم (عليه السلام) بأن بلغته ، والكلمات هي قوله : * (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ ) * (2) ، وقيل : هي قوله : ( لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لايغفر الذنوب إلا أنت ) (3) ، وفي رواية أهل البيت (عليهم السلام) : أن الكلمات هي أسماء أصحاب الكساء (عليهم السلام) (4) .
  واكتفى بذكر توبة آدم عن ذكر توبة حواء لأنها كانت تبعا له ، و * (التواب) *: الكثير القبول للتوبة ، وهو في صفة العباد : الكثير التوبة .
  * ( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) * (38) كرر سبحانه * (قلنا اهبطوا) * للتأكيد ولما تبعه من قوله : * (فإما يأتينكم منى هدى) * أي : فإن يأتكم مني هدى برسول أبعثه إليكم وكتاب أنزله عليكم * (فمن تبع هداى) * بأن يقتدي برسولي ويؤمن به وبكتابه * (فلا خوف عليهم) * من العقاب

-------------------
(1) قرأه ابن عباس ومجاهد وابن كثير ، راجع التبيان : ج 1 ص 166 ، والسبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 153 ، والتذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 312 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 1 ص 165 .
(2) الأعراف : 23 .
(3) نسبه الزمخشري في كشافه : ج 1 ص 128 ـ 129 الى ابن مسعود ، والماوردي في تفسيره : ج 1 ص 109 الى مجاهد .
(4) راجع الخصال للصدوق : ج 1 ص 270 ح 8 ، ومعاني الأخبار أيضا : ص 125 ح 1 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 98 _
  * (ولا هم يحزنون) * على فوت الثواب ، وجواب الشرط الأول الشرط الثاني مع جوابه ، كقولك : إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك .
  * (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) * (39) * (والذين) * جحدوا رسلنا * (وكذبوا) * بدلائلنا (1) ف‍ * (أولئك) * الملازمون للنار * (هم فيها خلدون) * أي : دائمون مؤبدون .
  * ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) * (40) لما عم سبحانه جميع خلقه بالخطاب ، وذكر لهم الحجج على توحيده ، وعدد عليهم صنوف نعمائه خص بني إسرائيل عقيب ذلك بذكر ما أسداه إليهم من النعم ، فقال : * (يابني إسراءيل) * وإسرائيل هو يعقوب لقب له ، ومعناه في لسانهم : صفوة الله، وقيل : عبد الله (2) * (اذكروا نعمتي التى أنعمت عليكم) * أي : لا تخلوا بشكرها واستعظموها ، وأراد بالنعمة ما أنعم به على آبائهم من كثرة الأنبياء فيهم ، وإنجائهم من فرعون ، وغير ذلك مما عدده سبحانه عليهم * (وأوفوا بعهدي) * أي : بما سورة البقرة / 41 و 42 عاهدتموني عليه من الإيمان بي والطاعة لي * (أوف بعهدكم) * أي : بما عاهدتكم عليه من حسن الثواب ، وقيل : أوفوا بعهدي في محمد (صلى الله عليه وآله) أن من آمن به كان له أجران ، ومن كفر به تكاملت أوزاره ، أوف بعهدكم أدخلكم الجنة (3) .
  * (وإيى فارهبون) * أي : فلا تنقضوا عهدي ، وهو من قولك : زيدا رهبته ، و * (وإيى) *

-------------------
(1) في بعض النسخ : بدلالاتنا .
(2) وهو قول ابن عباس على ما في تفسير الماوردي : ج 1 ص 110 .
(3) قاله ابن عباس ، راجع تفسيره : ص 8 ، وحكاه عنه الشيخ في التبيان : ج 1 ص 183 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 99 _
  منصوب بفعل مضمر يفسره ( ارهبون ) .
   * (وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ) * (41) أي : وصدقوا بما أنزلته على محمد (صلى الله عليه وآله) من القرآن * (مصدقا لما معكم) * من التوراة * (ولا تكونوا أول كافر به) * أي : أول من كفر به ، أو أول فريق كافر به ، أو ولا يكن كل واحد منكم أول كافر به ، كما يقال : كسانا الأمير حلة ، أي : كسا كل واحد منا حلة ، وهذا تعريض بأنه كان يجب أن يكون اليهود أول من يؤمن به ، لمعرفتهم به وبصفته ، ولأنهم كانوا يبشرون الناس بزمانه ، ويستفتحون على الذين كفروا ، وكانوا يقولون : إنا نتبعه أول الناس كلهم ، فلما بعث كان أمرهم على العكس ، كقوله : * (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) * (1) ، وقيل : الضمير في * (به) * لما معكم ، لأنهم إذا كفروا بما يصدقه فقد كفروا به (2) * (ولا تشتروا بايتى ثمنا قليلا) * الاشتراء استعارة للاستبدال ، كما في قوله : * (اشتروا الضللة بالهدى) * (3) أي : لا تستبدلوا بآياتي ثمنا قليلا ، وإلا فالثمن هو المشترى به ، والثمن القليل : الرياسة التي كانت لهم في قومهم خافوا فوتها باتباعه فاستبدلوها بآيات الله.
  * (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) * (42) الباء في قوله : * (بالبطل) * يجوز أن يكون مثل ما في قولك : لبست الشئ بالشئ : خلطته به ، فيكون المعنى : ولا تكتبوا في التوراة ما ليس منها فيختلط * (الحق بالبطل) * ، ويجوز أن تكون باء الاستعانة كما في قولك : كتبت بالقلم ،

-------------------
(1) البقرة : 89 .
(2) وهو قول الزجاج ، راجع التبيان : ج 1 ص 187 .
(3) البقرة : 16 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 100 _
  فيكون المعنى : ولا تجعلوا الحق ملتبسا مشتبها بباطلكم الذي تكتبونه ، * (وتكتموا) *جزم معطوف على * (تلبسوا) * بمعنى : ولا تكتموا ، أو منصوب بإضمار ( أن ) أي : ولا تجمعوا بين لبس الحق بالباطل وكتمان الحق ، كقولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن * (وأنتم تعلمون) * أنه حق وتجحدون ما تعلمون .
  * (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) * (43) .
  أي : وأدوا الصلاة بأركانها ، وأعطوا ما فرض الله عليكم من الزكاة * واركعوا مع الراكعين) * من المسلمين ، لأن اليهود لا ركوع لهم في صلاتهم ، وقيل : إن المراد به صلاة الجماعة (1) .
  * (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) * (44) الهمزة للتقرير مع التوبيخ والتعجيب من حالهم ، و ( البر ) : سعة الخير ، ومنه البر لسعته ، ويتناول كل خير ، ومنه قولهم : صدقت وبررت ، وكانوا يأمرون أقاربهم في السر باتباع محمد (صلى الله عليه وآله) ولا يتبعونه * (وتنسون أنفسكم) * تتركونها من البر * (وأنتم تتلون الكتب) * تبكيت مثل قوله : * (وأنتم تعلمون) * (2) ، يعني : تتلون التوراة وفيها صفة محمد (صلى الله عليه وآله) * (أفلا تعقلون) * توبيخ عظيم بمعنى : أفلا تفطنون بقبح ما تقدمون عليه ، فيصدكم استقباحه عن ارتكابه فكأنكم قد سلبت عقولكم .
  * (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) سورة البقرة / 45 و 46 * (واستعينوا) * في حوائجكم إلى الله * (ب‍) * الجمع بين * (الصبر والصلوة) *

-------------------
(1) قاله ابن عباس ، راجع تفسيره : ص 8 .
(2) البقرة : 22 . (*)