والمعنى : * (ولقد ءاتينا) * يا بني إسرائيل أنبياءكم ما آتيناهم * (أفكلما جاءكم رسول) * منهم بالحق * (استكبرتم) * عن الإيمان به ، فوسط بين الفاء وما تعلقت به همزة التوبيخ والتعجيب من شأنهم ، ويجوز أن يريد : ولقد آتيناهم ما آتيناهم ففعلتم ما فعلتم ، ثم وبخهم على ذلك ، ودخول الفاء لعطفه على المقدر ، ولم يقل : وفريقا قتلتم لأنه أريد الحال الماضية ، لأن الأمر فظيع فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب .
  * (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ ) * (88) * (قلوبنا غلف) * جمع أغلف ، أي : هي خلقت مغشاة بأغطية لا يصل إليها ما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله) ولا تفقهه (1) ، مستعار من الأغلف الذي لم يختن ، كقولهم : * (قلوبنا في أكنة) * (2) ، ثم رد الله عليهم بقوله : * (بل لعنهم الله بكفرهم) * أي : ليس ذلك كما زعموا : أن قلوبهم خلقت كذلك ، لأنها خلقت على الفطرة ، لكن الله لعنهم وخذلهم بسبب كفرهم وأبعدهم من رحمته * (فقليلا ما يؤمنون) * فإيمانا قليلا يؤمنون ، و * (ما) * مزيدة، وهو إيمانهم ببعض الكتاب ، ويجوز أن يكون القلة بمعنى العدم . *
   (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) * (89) سورة البقرة / 90 و 91 * (كتب من عند الله) * هو القرآن * (مصدق لما معهم) * من الكتب المنزلة : التوراة والإنجيل وغيرهما ، لا يخالفها ، وجواب * (لما) * محذوف وهو نحو كذبوا

--------------------
(1) في نسخة : تفهمه .
(2) فصلت : 5 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 127 _

  به وما أشبهه (1) ، وقيل : إن قوله : * (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) * في موضع جواب * (لما) * الأول وكرر ( لما ) لطول الكلام (2)، وقيل : إن جواب الثاني أغنى عن جواب الأول (3) * (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) * يستنصرون على المشركين إذا قاتلوهم ، يقولون : اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة ، وكانوا يقولون : قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم (4) * (فلما جاءهم ما عرفوا) * من الحق * (كفروا به) * بغيا وحسدا وحرصا على الرياسة * (فلعنة الله) * أي : غضبه وعذابه * (على الكفرين) * أي : عليهم وضع الظاهر موضع الضمير (5) .
  * (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ) * (91)( ما ) نكرة منصوبة مفسرة لفاعل ( بئس ) ، أي : بئس شيئا * (اشتروا به

--------------------
(1) وهو قول الأخفش في معاني القرآن : ج 1 ص 319 ، والزجاج في معاني القرآن : ج 1 ص 171 ، والزمخشري في الكشاف : ج 1 ص 164 .
(2) حكاه الرازي في تفسيره : ج 3 ص 180 ونسبه الى المبرد .
(3) قاله الفراء في معاني القرآن : ج 1 ص 59 ، وعنه الرازي في تفسيره : ج 3 ص 180 .
(4) اختلفوا في إرم عاد ، فقال بعضهم : هو اسم قبيلة ، وقال آخر : هو اسم مدينة ، ثم اختلفوا فيها ، فمنهم من قال : هي أرض كانت فاندرست ، ومنهم من قال : هي الاسكندرية وإليه ذهب الزمخشري ، ومنهم من قال : هي دمشق ، وروى آخرون : هي مدينة باليمن بين حضرموت وصنعاء بناها شداد بن عاد ، (معجم البلدان : ج 1 ص 212) .
(5) في نسخة : المضمر . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 128 _
  أنفسهم) * والمخصوص بالذم * (أن يكفروا) * واشتروا بمعنى باعوا * (بغيا) * أي : حسدا وطلبا لما ليس لهم ، وهو مفعول له * (أن ينزل الله من فضله) * أي : على أن ينزل الله من فضله الذي هو الوحي والنبوة * (على من يشآء من عباده) * ويقتضي حكمته إرساله * (فبآءو بغضب على غضب) * فصاروا أحقاء لغضب متوال ، لأنهم كفروا بنبي الحق وبغوا عليه ، وقيل : بكفرهم بمحمد (صلى الله عليه وآله) بعد عيسى (عليه السلام) (1) ، وقوله : * (بمآ أنزل الله) * مطلق في كل كتاب أنزله الله، وقوله : * (بمآ أنزل علينا) * مقيد بالتوراة * (ويكفرون بما وراءه) * أي : قالوا ذلك والحال أنهم يكفرون بما وراء التوراة * (وهو الحق مصدقا لما معهم) * منها غير مخالف له ، وفيه رد لمقالتهم ، لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها * (قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين) * اعتراض (2) عليهم بقتلهم الأنبياء مع ادعائهم الإيمان بالتوراة ، والتوراة لا ترخص في قتل الأنبياء .
  * (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ) * (92) يعني : * (جاءكم موسى) * بالمعجزات الدالة على صدقه * (ثم اتخذتم العجل) * إلها معبودا من بعد مجيئه ، أو من بعد موسى لما مضى إلى ميقات ربه * (وأنتم ظلمون) * وأنتم واضعون العبادة في غير موضعها ، فتكون الجملة حالا أو تكون اعتراضا بمعنى : وأنتم قوم عادتكم الظلم ، سورة البقرة / 93 و 94 * (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (93)

--------------------
(1) نسبه السمرقندي في تفسيره : ج 1 ص 137 الى مقاتل .
(2) في بعض النسخ : اعترض . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 129 _
   كرر سبحانه ذكر * (الطور) * ورفعه فوقهم ، لما في الثانية من الزيادة غير المذكورة في الأولى مع ما فيه من التوكيد * (واسمعوا) * لما أمرتم به في التوراة * (قالوا سمعنا) * قولك * (وعصينا) * أمرك * (وأشربوا في قلوبهم العجل) * أي : تغلغل في بواطنهم وتداخلها حب العجل والحرص على عبادته كما يتداخل الثوب الصبغ ، وقوله : * (في قلوبهم) * بيان لمكان الإشراب ، كقوله : * (إنما يأكلون في بطونهم نارا) * (1) ، * (بكفرهم) * أي : بسبب كفرهم * (قل بئسما يأمركم به إيمنكم) * بالتوراة ، لأنه ليس في التوراة عبادة العجل ، وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم ، كما قال قوم شعيب : * (أصلوتك تأمرك) * (2) ، وكذلك إضافة الإيمان إليهم ، وقوله : * (إن كنتم مؤمنين) * تشكيك في إيمانهم ، وقدح في صحة دعواهم له .
   * (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ) * (94) * (خالصة) * نصب على الحال من * (الدار الاخرة) * والمراد الجنة ، أي : خالصة لكم خاصة بكم ليس لأحد سواكم فيها حق كما تزعمون في قولكم : * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا) * (3) ، و * (الناس) * للجنس ، وقيل : للعهد وهم المسلمون (4) * (فتمنوا الموت) * لان من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وتمنى سرعة

--------------------
(1) النساء : 10 .
(2) هود : 87 .
(3) البقرة : 111 .
(4) حكاه الماوردي في تفسيره : ج 1 ص 161 عن ابن عباس ، وانظر الفريد في إعراب القرآن للهمداني : ج 1 ص 342 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 130 _
  الوصول إلى نعيمها ، كما روي : أن عليا (عليه السلام) كان يطوف بين الصفين بصفين في غلالة ، فقال له ابنه الحسن (عليه السلام) : ماهذا بزي المحاربين ، فقال : يا بني لا يبالي أبوك على الموت سقط أم عليه سقط الموت (1) .
  ويروى : أن حبيب بن مظاهر (2) ضحك يوم الطف ، فقيل له في ذلك ، فقال : وأي موضع أحق بالسرور من هذا الموضع ؟ ! والله ما هو إلا أن يقبل علينا هؤلاء القوم (3) بسيوفهم فنعانق الحور العين (4) .
  * (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) * (95) هذا من المعجزات لأنه إخبار بالغيب ، وكان كما أخبر به ، وفي الحديث : ( لو تمنوا الموت لغص كل إنسان منهم بريقه فمات مكانه ، وما بقي على وجه الأرض يهودي ) (5) ، * (بما قدمت أيديهم) * أي : بما أسلفوا من موجبات النار من تحريف كتاب الله والكفر بمحمد (صلى الله عليه وآله) وغير ذلك من أنواع الكفر ، والتمني : قول الإنسان بلسانه : ليت لي كذا * (والله عليم بالظلمين) * تهديد لهم .
  سورة البقرة / 96 * ( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) *

--------------------
(1) رواها في الكشاف : ج 1 ص 166 ، وأوردها في مجمع البيان : ج 1 ـ 2 ص 164 .
(2) أبو القاسم حبيب بن مظهر أو مظاهر بن رئاب ابن الاشتر الأسدي الكندي ثم الفقعسي ، وكان ذا جمال وكمال ، وفي وقعة كربلاء كان عمره 75 سنة ، وكان يحفظ القرآن كله ، ويختمه في كل ليلة من بعد صلاة العشاء الى طلوع الفجر ، قال أهل السير : إن حبيبا نزل الكوفة وصحب عليا (عليه السلام) في حروبه كلها ، وكان من خاصته وحملة علومه ، استشهد مع الحسين (عليه السلام) في كربلاء سنة 61 ه‍ ، (أعيان الشيعة : ج 4 ص 554) .
(3) في نسخة : الطغام .
(4) رجال الكشي : ص 79 ، سفينة البحار : ج 1 ص 203 ـ 204 .
(5) رواه البغوي في تفسيره : ج 1 ص 95 عن ابن عباس عنه (صلى الله عليه وآله) ، ونقله في الكشاف : ج 1 ص 167 مرفوعا . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 131 _
  هو من وجدت بمعنى علمت في قولهم : وجدت زيدا ذا الحفاظ ، ومفعولاه ( هم ) و * (أحرص الناس) * ، ونكر * (حيوة) * لأنه أراد على حياة مخصوصة متطاولة * (ومن الذين أشركوا) * محمول على المعنى ، لأن معنى * (أحرص الناس) * أحرص من الناس ، وجاز ذلك وإن دخل الذين أشركوا تحت الناس لأنهم أفردوا بالذكر من جهة أن حرصهم أشد ، ويجوز أن يراد : وأحرص من الذين أشركوا ، فحذف لدلالة * (أحرص الناس) * عليه ، وفيه توبيخ شديد لأن حرص المشركين على الحياة غير مستبعد لأنها جنتهم ولم يؤمنوا بعاقبة ، فإذا زادوا عليهم في الحرص وهم مقرون بالجزاء كانوا أحقاء بأعظم التوبيخ ، وقيل : أراد بالذين أشركوا المجوس لأنهم كانوا يقولون لملوكهم : عش ألف نيروز (1) ، وقيل : * (ومن الذين أشركوا) * كلام مبتدأ ، أي : ومنهم ناس يود أحدهم ، على حذف الموصوف ، كقوله : * (ومامنآ إلا له مقام معلوم) * (2) (3) ، والضمير في * (وما هو) * لأحدهم ، و * (أن يعمر) * فاعل ل‍ ( مزحزحه ) ، أي : وما أحدهم بمزحزحه من العذاب تعميره ، وقيل : الضمير لما دل عليه يعمر من مصدره و * (أن يعمر) * بدل منه (4) ، ويجوز أن يكون * (هو) * مبهما و * (أن يعمر) * مبينه ، والزحزحة : التنحية والتبعيد ، وقوله : * (لو يعمر) * في معنى التمني ، وكان القياس : لو أعمر إلا أنه أجري على لفظ الغيبة لقوله : * (يود أحدهم) * كقولك : حلف بالله ليفعلن ، فقوله : * (لو يعمر) *

--------------------
(1) حكاه الزمخشري في كشافه : ج 1 ص 168 عن ابن عباس ، والبغوي في تفسيره : ج 1 ص 96 عن أبي العالية والربيع .
(2) الصافات : 164 .
(3) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 1 ص 168 ، والبغوي في تفسيره : ج 1 ص 96 .
(4) انظر الفريد في إعراب القرآن للهمداني : ج 1 ص 343 ـ 344 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 132 _
  حكاية لودادتهم .
  * (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) * (98) روي : أن عبد الله بن صوريا ـ وهو من أحبار فدك ـ سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عمن يهبط عليه بالوحي ، فقال : جبرئيل ، فقال : ذاك عدونا ولو كان غيره لآمنا بك ، فنزلت (1) جوابا لقوله وردا عليه * (قل) * يا محمد : * (من) * عادى جبرئيل من أهل الكتاب * (فإنه) * نزل القرآن ، أضمر ما لم يسبق ذكره ، وفيه فخامة لشأنه ، إذ جعله لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه * (على قلبك) * أي : حفظه إياك وفهمكه بإذن الله، أي : بتيسيره وتسهيله ، والمعنى : أنه لا وجه لمعاداته حيث نزل كتابا * (مصدقا لما بين يديه) * من الكتب فيكون مصدقا لكتابهم ، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما يصحح الكتاب المنزل عليهم * (وهدى وبشرى) * أي : وهاديا ومبشرا * (للمؤمنين) * بالنعيم الدائم ، وإنما أعاد ذكر جبرئيل وميكائيل بعد ذكر الملائكة لفضلهما ، فأفردهما بالذكر كأنهما من جنس آخر ، وهو مما ذكر : أن التغاير في الوصف ينزل منزلة التغاير في الذات .
  الصادق (عليه السلام) كان يقرأ جبريل وميكال بغير همزة .
  سورة البقرة / 99 ـ 101 * (فإن الله عدو للكفرين) * أراد عدو لهم ، وضع الظاهر موضع الضمير ليدل

--------------------
(1) راجع أسباب النزول للواحدي : ص 33 ، وتفسير البغوي : ج 1 ص 96 ، والكشاف : ج 1 ص 169 ، قال ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف : ص 9 ما لفظه : ذكره الثعلبي والواحدي والبغوي فقالوا : روى ابن عباس أن حبرا ... ولم أقف له على سند ولعله من تفسير الكلبي عن أبي صالح . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 133 _
  على أنه سبحانه إنما عاداهم لكفرهم ، وأن عداوة الملائكة كفر .
  * ( وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ * أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) * (100) * (ءايت) * أي : معجزات ظاهرات واضحات * (وما يكفر بها إلا) * المتمردون من الكفرة ، وعن الحسن : إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي وقع على أعظم ذلك النوع من كفر وغيره (1) ، واللام في * (الفسقون) * للجنس ، والأولى أن يكون إشارة إلى أهل الكتاب * (أو كلما) * الواو للعطف على محذوف ، معناه : * (أ) * كفروا بالآيات البينات * (وكلما عهدوا) * واليهود موصوفون بنقض العهد (2) قال سبحانه : * (الذين عهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة) * (3) ، والنبذ : الرمي بالشئ ورفضه ، وقال : * (فريق منهم) * لأن منهم من لم ينقض * (بل أكثرهم لا يؤمنون) * بالتوراة وليسوا من الدين في شئ ، فلا يبالون بنقض الميثاق ولا يعدونه ذنبا .
  * (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) * (101) * (كتب الله) * يعني : التوراة ، لأنهم بكفرهم برسول الله المصدق لها كافرون بها نابذون لها ، أو يريد القرآن نبذوه بعد أن لزمهم أن يتلقوه بالقبول ، كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله، يعني : أنهم يعلمون ذلك ولكنهم يكابرون ويعاندون ، ونبذوه * (وراء ظهورهم) * مثل لتركهم وإعراضهم عنه .

--------------------
(1) حكاه عنه الزمخشري في كشافه : ج 1 ص 171 .
(2) في بعض النسخ : العهود .
(3) الأنفال : 56 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 134 _
  * (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) * (102) سورة البقرة / 103 المعنى : أن هذا الفريق المذكور من اليهود نبذوا كتاب الله * (واتبعوا ما تتلوا الشيطين) * أي : واتبعوا كتب السحر التي كانت تقرأها الشياطين على عهد ملك سليمان وفي زمانه ، وكانوا يقولون : هذا علم سليمان ، وبه يسخر الجن والإنس والريح * (وما كفر سليمن) * هذا تكذيب للشياطين ودفع لما بهتوه به من العمل بالسحر وسماه كفرا * (ولكن الشيطين) * هم الذين * (كفروا) * باستعمال السحر وتدوينه في كتب يقرؤونها ويعلمونها * (الناس) * يقصدون بذلك إغواءهم * (وما أنزل على الملكين) * (1) ، قيل : هو عطف على * (ما تتلوا) * أي : واتبعوا ما أنزل على الملكين (2) ، * (ببابل هروت ومروت) * (3) عطف بيان للملكين علمان لهما ، والذي أنزل عليهما علم السحر ابتلاء من الله للناس ، من تعلمه منهم وعمل به كان

--------------------
(1) في نسخة زيادة : عطف على السحر ، أي يعلمونهم ما انزل على الملكين و .
(2) قاله الزجاج في معاني القرآن : ج 1 ص 183 .
(3) بابل بكسر الباء : اسم ناحية الكوفة والحلة ، وقيل : بابل العراق ، وقيل : أول من سكنها نوح (عليه السلام) ، وهو أول من عمرها ، وكان قد نزلها بعقب الطوفان ، فسار هو ومن خرج معه من السفينة إليها لطلب الدف‌ء فأقاموا بها وتناسلوا فيها وكثروا من بعد نوح (عليه السلام) ، (معجم البلدان : ج 1 ص 447) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 135 _
  كافرا ، ومن تجنبه أو تعلمه لأن لا يعمل به ولكن ليتوقاه كان مؤمنا ، كما ابتلي قوم طالوت بالنهر * (فمن شرب منه فليس منى ومن لم يطعمه فإنه منى) * (1) * (وما يعلمان من أحد) * أي : وما يعلم الملكان أحدا * (حتى) * ينبهاه و * (يقولا) * له * (إنما نحن فتنة) * أي : ابتلاء واختبار من الله * (فلا تكفر) * أي : فلا تتعلم معتقدا أنه حق فتكفر * (فيتعلمون) * الضمير لما دل عليه من أحد ، أي : فيتعلم الناس من الملكين * (ما يفرقون به بين المرء وزوجه) * أي : علم السحر الذي يكون سببا في التفريق بين الزوجين من حيلة وتمويه كالنفث في العقد ونحو ذلك مما يحدث الله عنده الفرك (2) والنشوز والخلاف ابتلاء منه * (وماهم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) * لأنه ربما يحدث الله عنده فعلا من أفعاله وربما لم يحدث * (ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم) * لأنهم يقصدون به الشر * (ولقد علموا) * أي : علم هؤلاء اليهود * (لمن اشتريه) * أي : استبدل * (ما تتلوا الشيطين) * على كتاب الله * (ماله في الاخرة من خلق) * أي : نصيب * (ولبئس ماشروا به أنفسهم) * أي : باعوها * (لو كانوا يعلمون) * أي : يعملون بعلمهم ، جعلهم حين لم يعملوا كأنهم لم يعلموا .
  * (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) * (103) يريد * (ولو أنهم ءامنوا) * برسول الله * (واتقوا) * الله فتركوا ماهم عليه من نبذ كتاب الله واتباع كتب الشياطين * (لمثوبة من عند الله خير) * أي : * (لو كانوا يعلمون) * أن ثواب الله خير مما هم فيه ، وقد علموا ولكنه سبحانه جهلهم لتركهم

--------------------
(1) البقرة : 249 .
(2) الفرك ـ بالكسر والفتح ـ البغضة عامة ، أو خاص ببغضة الزوجين . (القاموس المحيط : مادة فرك) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 136 _
  العمل بالعلم .
   وجواب * (لو) * قوله : * (لمثوبة من عند الله خير) * ، وإنما أوثرت الجملة الإسمية على الفعلية لما في ذلك من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها ، والمعنى : لشئ من الثواب خير لهم ، وقيل : إن جواب * (لو) * محذوف يدل الكلام عليه أي : لاثيبوا (1) .
  * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) * (104) كان المسلمون يقولون لرسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا ألقى إليهم شيئا من العلم : * (را عنا) * يا رسول الله، أي : راقبنا وانتظرنا حتى نفهمه ونحفظه ، وكانت لليهود كلمة يتسابون بها وهي ( راعينا ) ، فلما سمعوا بقول المسلمين : * (راعنا) * افترصوه (2) وخاطبوا الرسول به وهم يعنون تلك اللفظة عندهم ، فنهي المؤمنون عنها وأمروا بما هو في معناها وهو * (انظرنا) * من نظره : إذا انتظره * (واسمعوا) * وأحسنوا سماع ما يكلمكم به النبي (صلى الله عليه وآله) بآذان (3) واعية حتى لاتحتاجوا إلى الاستعادة (4) وطلب المراعاة ، أو واسمعوا سماع قبول وطاعة ولا يكن مثل سماع اليهود حيث قالوا : * (سمعنا وعصينا) * (5) ، * (وللكفرين) * أي : ولليهود الذين سبوا رسول الله * (عذاب) * مؤلم .
  سورة البقرة / 105 ـ 107 * ( مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) * (105) *

--------------------
(1) قاله الزجاج في معاني القرآن : ج 1 ص 187 ، والزمخشري في الكشاف : ج 1 ص 174 .
(2) افترص فلانا ظلما : اقتطعه ، أي : تمكن بالوقيعة في عرضه ، (أقرب الموارد) .
(3) في بعض النسخ : باذن .
(4) في نسخة : الاستعانة .
(5) البقرة : 93 ، النساء : 46 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 137 _
  (من) * الأولى للبيان ، لأن * (الذين كفروا) * جنس تحته نوعان : * (أهل الكتب) * والمشركون ، والثانية مزيدة للاستغراق ، والثالثة لابتداء الغاية .
  والخير : الوحي ، وكذلك الرحمة كقوله : * (أهم يقسمون رحمت ربك) * (1) والمعنى : أن اليهود والمشركين يرون أنفسهم أحق بالوحي فيحسدونكم ، وما يحبون * (أن ينزل عليكم) * شئ من الوحي * (والله يختص) * بالنبوة * (من يشآء) * ولا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة * (والله ذو الفضل العظيم) * إيذان بأن إيتاء النبوة من الفضل العظيم ، كقوله : * (إن فضله كان عليك كبيرا) * (2) .
  * (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) * (107) نسخ الآية : إزالتها بإبدال أخرى مكانها ، وإنساخها : الأمر بنسخها ، ونسؤها : تأخيرها وإذهابها لا إلى بدل ، وإنساؤها : أن يذهب بحفظها عن القلوب ، والمعنى : أن كل * (ءاية) * نذهب بها على ما توجبه الحكمة وتقتضيه المصلحة من إزالة لفظها وحكمها معا ، أو من إزالة أحدهما إلى بدل ، أولا إلى بدل * (نأت بخير منهآ) * للعباد ، أي : بآية العمل بها أحوز للثواب * (أو مثلهآ) * في ذلك الثواب * (ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير) * فهو يقدر على الخير وما هو خير منه وعلى مثله في ذلك و * (أن الله له ملك السموا ت والارض) * فهو يملك تدبيركم ويجريه على حسب

--------------------
(1) الزخرف : 32 .
(2) الاسراء : 87 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 138 _
  مصالحكم ، وهو أعلم بما يتعبدكم (1) به من ناسخ ومنسوخ * (ومالكم) * سوى * (الله من ولى) * يقوم بأموركم * (ولا نصير) * أي : ناصر ينصركم .
  * (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) * (108) لما بين سبحانه أنه مدبر أمورهم أراد أن يوصيهم بالثقة به فيما هو أصلح لهم مما يتعبدهم به ، وأن لا يقترحوا على رسولهم ما اقترحته آباء اليهود على موسى من الأشياء التي كانت عقباها وبالا عليهم ، كقولهم : * (أرنا الله جهرة) * (2) وغير ذلك * (ومن يتبدل الكفر بالايمن) * بأن ترك الثقة بالآيات وشك فيها واقترح غيرها * (فقد ضل سوآء السبيل) * أي : ذهب عن قصد الطريق واستقامته .
  * (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) * (109) سورة البقرة / 110 ـ 112 معناه : تمنى * (كثير من أهل الكتب) * كحي بن أخطب وكعب بن الأشرف وأمثالهما * (لو يردونكم) * على معنى : أن يردوكم يا معشر المؤمنين ، أي : يرجعوكم * (من بعد إيمنكم كفارا حسدا) * منهم لكم بما أعد الله لكم من الثواب والفضل ، وانتصب * (حسدا) * بأنه مفعول له ، وتعلق قوله : * (من عند أنفسهم) * ب‍ * (ود) * أي : ودوا ذلك وتمنوه من قبل أنفسهم وشهواتهم لا من قبل الميل مع الحق ، لأنهم ودوا ذلك * (من بعد ما تبين لهم) * أنكم على * (الحق) * فكيف يكون تمنيهم من قبل الحق ؟ ! ويجوز أن يتعلق ب‍ * (حسدا) * أي :حسدا من أصل نفوسهم فيكون

--------------------
(1) في نسخة : يتعبد .
(2) النساء : 153 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 139 _
  على طريق التوكيد * (فاعفوا واصفحوا) * أي : فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح عما يكون منهم من الجهل والعداوة * (حتى يأتي الله بأمره) * الذي هو قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير وإذلال من سواهم من اليهود بضرب الجزية عليهم * (إن الله على كل شئ قدير) * فهو يقدر على الانتقام منهم .
  * (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) * (110) لما أمر سبحانه المسلمين بالصفح عنهم عقبه بالأمر بالصلاة والزكاة ليستعينوا بهما على ما شق عليهم من شدة عداوة اليهود لهم كما قال : * (واستعينوا بالصبر والصلوة) * (1) ، * (وما تقدموا ... من خير) * من صلاة أو صدقة أو غيرهما من الطاعات تجدوا ثوابه * (عند الله إن الله بما تعملون بصير) * عالم لا يضيع عنده عمل عامل .
  * (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) * (112) الضمير في * (قالوا) * لأهل الكتاب ، والمعنى : وقالت اليهود : * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا) * وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان * (نصرى) * فلف بين القولين ، ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله ، وأمنا من الالتباس لما علم من الخلاف بين الفريقين ، ونحوه قوله : * (وقالوا كونوا هودا أو نصرى) * (2) .
  والهود جمع الهائد ، ووحد اسم ( كان ) حملا على لفظ ( من ) في قوله : * (من كان هودا) *

--------------------
(1) البقرة : 45 .
(2) البقرة : 135 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 140 _
  وجمع خبره حملا على معناه * (تلك أمانيهم) * إشارة إلى أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم ، وأمنيتهم أن يردوهم كفارا (1) ، و (2) أمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم ، أي : تلك الأماني الكاذبة أمانيهم * (قل هاتوا برهنكم) * أي : حجتكم * (إن كنتم صدقين) * في قولكم : * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصرى) * ، وفي هذا دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو باطل ، وهات بمعنى أحضر * (بلى) * إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة * (من أسلم وجهه لله) * أي : من أخلص نفسه لله لا يشرك به غيره * (وهو محسن) * في عمله * (فله أجره) * الذي يستوجبه ، ويجوز أن يكون * (من أسلم) * مبتدأ ويكون * (من) * متضمنا معنى الشرط وجوابه * (فله أجره) * ، ويجوز أن يكون فاعلا لفعل محذوف ، أي : * (بلى) * يدخلها * (من أسلم) * ويكون * (فله أجره) * معطوفا على يدخلها * (من أسلم) * .
  * (وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) * (113) سورة البقرة / 114 * (على شئ) * مبالغة عظيمة ، أي : ليسوا على شئ يصح ويعتد به ، كقولهم : أقل من لا شئ * (وهم يتلون الكتب) * الواو للحال والكتاب للجنس ، أي : قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب * (كذا لك) * أي : مثل ذلك الذي سمعت به وعلى ذلك المنهاج * (قال) * الجهلة * (الذين) * لا علم عندهم ولا كتاب ، كعبدة الأوثان والدهرية ونحوهم قالوا لأهل كل دين : ليسوا على شئ ، وهذا توبيخ لهم حيث نظموا نفوسهم مع علمهم في سلك من لايعلم * (فالله يحكم) * بين

-------------------
(1) في بعض النسخ زيادة : حسدا .
(2) في نسخة : أو . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 141 _
  اليهود والنصارى * (يوم القيمة فيما كانوا فيه يختلفون) * فيريهم من يدخل الجنة ومن يدخل النار عيانا .
  * (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) * (114) * (أن يذكر) * في موضع النصب بأنه المفعول الثاني ل‍ * (منع) * ، تقول : منعته كذا ، ومثله * (وما منع الناس أن يؤمنوا) * (1) ، ويجوز أن يكون منصوبا بأنه مفعول له بمعنى : منعها كراهة أن يذكر ، وهو حكم عام في جنس * (مسجد الله) * وأن مانعها من ذكر الله في غاية الظلم .
  وروي عن الصادق (عليه السلام) : ( أن المراد بذلك قريش حين منعوا رسول الله دخول مكة والمسجد الحرام ) (2) ، وبه قال بعض المفسرين (3) .
  وقال بعضهم : إنهم الروم ، غزوا بيت المقدس وسعوا في خرابه إلى أن أظهر الله المسلمين عليهم في أيام عمر (4) فصاروا لا يدخلونها * (إلا خائفين) * يتهيبون المؤمنين أن يبطشوا بهم .
  وعلى القول الأول فقد روي : أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمر أن ينادى : ألا لا يحجن بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوفن بالبيت عريان (5) ، فالمعنى : * (أولئك) * المانعون (ماكان لهم) * في حكم الله * (أن) * يدخلوا مساجد الله * (إلا خائفين) * ، لأن الله

-------------------
(1) الاسراء : 94 .
(2) أوردها في مجمع البيان : ج 1 ـ 2 ص 189 .
(3) كابن زيد والبلخي والجبائي والرماني ، انظر التبيان : ج 1 ص 416 .
(4) وهو قول الفراء في معاني القرآن : ج 1 ص 74 ، وحكاه الشيخ في التبيان : ج 1 ص 416 عن ابن عباس ومجاهد .
(5) رواها الزمخشري في الكشاف : ج 1 ص 180 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 142 _
  تعالى قد حكم وكتب في اللوح أنه يعز الدين ، وينصر عليهم المؤمنين * (لهم في الدنيا خزى) * أي: قتل وسبي أو ذلة بضرب الجزية عليهم ، وقيل : بفتح مدائنهم قسطنطينية ورومية عند قيام المهدي (عليه السلام) (1) * (ولهم في الاخرة عذاب عظيم) * في نار جهنم .
  * (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) * (115) * (ولله) * بلاد * (المشرق والمغرب) * والأرض كلها هو مالكها * (فأينما تولوا) * أي : ففي أي مكان فعلتم التولية ، يعني : تولية وجوهكم شطر القبلة ، بدليل قوله : * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) * الآية (2) ، * (فثم وجه الله) * أي : جهته التي أمر بها ورضيها ، والمعنى : أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام فقد جعلت لكم الأرض مسجدا في أي بقعة شئتم من بقاعها ، وافعلوا التولية فيها ، فإن التولية لا تختص بمسجد دون مسجد * (إن الله وا سع) * الرحمة يريد التوسعة على عباده والتيسير عليهم * (عليم) * بمصالحهم ، وقيل : إنها نزلت في صلاة التطوع على الراحلة للمسافر أينما توجهت (3) ، وهو المروي عنهم (عليهم السلام) (4) .
  سورة البقرة / 116 ـ 118 * (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) * (117)

-------------------
(1) أورده المصنف في مجمع البيان : ج 1 ـ 2 ص 190 عن السدي ، وراجع تفسير السمرقندي : ج 1 ص 151 ، والماوردي : ج 1 ص 175 .
(2) البقرة : 144 .
(3) وهو قول عمر وابنه عبد الله، راجع تفسير البغوي : ج 1 ص 175 ، وأسباب النزول للواحدي : ص 38 ـ 39 .
(4) أورده المصنف في مجمع البيان : ج 1 ص 191 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 143 _
   ثم رد الله على اليهود والنصارى قولهم : * (اتخذ الله ولدا) * وهم الذين قالوا : ( المسيح ابن الله ) و ( عزير ابن الله ) ، وعلى من قال : ( الملائكة بنات الله ) ، * (سبحنه) * تنزيه له عن ذلك وتبعيد * (بل له ما في السموات والارض) * وهو خالقه ومالكه ، ومن جملته الملائكة وعزير والمسيح * (كل له قنتون) * مطيعون منقادون لا يمتنع شئ منهم عن تقديره وتكوينه ومشيته ، ومن كان بهذه الصفة لم يجانس له تعالى ، ومن حق الولد أن يكون من جنس الوالد ، والتنوين في * (كل) * عوض من المضاف إليه ، أي : كل من في السماوات والأرض، وجاء بلفظة ( ما ) دون ( من ) كقوله (1) : سبحان ما سخركن لنا .
   ويقال : بدع الشئ فهو بديع ، و * (بديع السموات) * من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها ، أي : بديع سماواته وأرضه ، وقيل : هو بمعنى المبدع (2) .
  وقوله : * (كن فيكون) * أي: احدث فيحدث ، وهو من ( كان ) التامة ، وهذا تمثيل ولاقول هناك ، والمعنى : أن ما قضاه من الأمور وأراد كونه يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف ، كما أن المأمور المطيع إذا أمر لا يتوقف ، (3) أكد بهذا استبعاد الولادة ، لأن من كانت هذه صفته في كمال القدرة فحاله مباينة لحال الأجسام في توالدها .
  * (وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) * (118)

-------------------
(1) في نسخة : كقولهم .
(2) قاله الماوردي في تفسيره : ج 1 ص 178 .
(3) في نسخة زيادة : فقد . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 144 _
  أي : * (وقال) * الجاهلون من المشركين ، وقيل : من أهل الكتاب (1) ، نفى عنهم العلم لأنهم لم يعملوا به * (لولا يكلمنا الله) * أي : هلا يكلمنا (2) كما يكلم الملائكة وكلم موسى ، استكبارا منهم وعتوا * (أو تأتينا ءاية) * هذا جحود منهم لأن يكون ما آتاهم من آيات الله آيات * (كذا لك قال الذين من قبلهم مثل قولهم) * حيث اقترحوا الآيات على موسى (عليه السلام) * (تشبهت قلوبهم) * أي : قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى كقوله سبحانه : * (أتواصوا به) * (3) ، * (قد بينا الايت لقوم) * ينصفون ف‍ * (يوقنون) * أنها آيات يجب الاعتراف بها والاكتفاء بوجودها عن غيرها .
   * (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ * وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) * (120) سورة البقرة / 121 ـ 123 * (إنآ أرسلنك) * لأن تبشر وتنذر لا لتجبر على الإيمان ، وهذه تسلية له (عليه السلام) لئلا يضيق صدره بإصرارهم على الكفر ، ولا نسألك * (عن أصحب الجحيم) * مالهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت واجتهدت في الدعوة ، وأما قراءة نافع :( ولا تسأل ) (4) فهو على النهي ، وقيل : إن معناه تفخيم الشأن (5) كما يقول القائل : لا تسأل عن حال فلان ، أي : قد صار إلى أكثر مما تريده ، أو أنت لا تستطيع استماع

-------------------
(1) وهو قول ابن عباس ومجاهد ، انظر تفسير الماوردي : ج 1 ص 180 .
(2) في نسخة زيادة : الله.
(3) الذاريات : 53 .
(4) كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 169 ، إعراب القرآن للنحاس : ج 1 ص 209 ، والتيسير في القراءات للداني : ص 76 ، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي : ج 1 ص 262 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 1 ص 368 .
(5) قاله الأخفش كما حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان : ج 1 ص 438 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 145 _
  خبره ، وكان اليهود قالوا : لن نرضى عنك وإن طلبت رضانا جهدك (1) حتى تتبع ملتنا ، فحكى الله كلامهم ، ولذلك قال : * (قل إن هدى الله هو الهدى) * جوابا لهم عن قولهم ، يعني : أن هدى الله الذي هو الإسلام هو الهدى الحق والذي يصح أن يسمى هدى * (ولئن اتبعت) * أقوالهم التي هي أهواء وبدع * (بعد الذى جاءك من العلم) * أي : من الدين المعلوم صحته بالدلائل والبراهين .
  * (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ ) * (121) يعني : * (الذين) * آمنوا من جملة أهل الكتاب * (يتلونه حق تلاوته) * لا يحرفونه ولا يغيرون ما فيه من نعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
  الصادق (عليه السلام) قال : ( إن حق تلاوته هو الوقوف عند ذكر الجنة والنار ، يسأل في الأولى ويستعيذ في الاخرى ) (2) .
  * (أولئك يؤمنون) * بكتابهم دون المحرفين * (ومن يكفر به) * من المحرفين * (فأولئك هم الخسرون) * حيث اشتروا الضلالة بالهدى .
  * (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ) * (123) قد تقدم مثل الآيتين (3) ، ولما بعد مابين الكلامين حسن الإعادة والتكرير إبلاغا في التنبيه والاحتجاج ، وتأكيدا للتذكير .

-------------------
(1) في نسخة : بجهدك .
(2) تفسير العياشي : ج 1 ص 57 ح 84 ، وعنه البرهان : ج 1 ص 147 ح 3 .
(3) في ص 60 ، فراجع . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 146 _
  * (وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) * (124) العامل في ( إذ ) مضمر نحو ( اذكر ) ، * (وإذ ابتلى إبرا هيم) * أي : اختبر إبراهيم * (ربه بكلمت) * بأوامر ونواه ، واختبار الله عبده مجاز عن تمكينه من اختيار أحد الأمرين : ما يريده الله وما يشتهيه العبد ، كأنه يمتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك * (فأتمهن) * أي : فقام بهن حق القيام وأداهن حق التأدية من غير تفريط وتقصير ، أو يكون تقديره : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات كان كيت وكيت ، ويجوز أن يكون العامل في ( إذ ) قوله : * (قال إنى جاعلك) *، ويكون على القول الأول قد استؤنف الكلام ، كأنه قيل : فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات ؟ فقيل : * (قال إنى جاعلك للناس إماما) * ، وعلى الثاني هي جملة معطوفة على ما قبلها ، أو يكون بيانا وتفسيرا لقوله : * (ابتلى) * .
   سورة البقرة / 125 ويراد بالكلمات ما ذكره من الإمامة .
  وقيل في ( الكلمات ) : هي خمس في الرأس : الفرق وقص الشارب والسواك والمضمضة والاستنشاق ، وخمس في البدن : الختان والاستحداد (1) والاستنجاء وتقليم الأظفار ونتف الإبط (2) .
  وقيل : هي ثلاثون خصلة من شرائع الإسلام : عشر في ( البراءة ) : * (التئبون العبدون) * (3) وعشر في ( الأحزاب ) : * (إن المسلمين والمسلمت) * (4) وعشر في ( المؤمنون ) (5) و ( سأل سائل ) إلى قوله : ( والذين هم على صلاتهم

-------------------
(1) الاستحداد : الاحتلاق بالحديد ، (القاموس المحيط : مادة حدد) .
(2) نسبه الماوردي في تفسيره : ج 1 ص 183 الى ابن عباس وقتادة ، وفي تفسير البغوي : ج 1 ص 111 : هو قول ابن طاووس عن ابن عباس .
(3) الآية : 112 .
(4) الآية : 35 .
(5) المؤمنون : 9 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 147 _
  يحافظون ) (1) (2) .
  وقيل : هي مناسك الحج (3) ، وقيل : هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه وهي أسماء محمد وأهل بيته عليه وعليهم السلام ، عن الصادق (عليه السلام) (4) .
  والإمام اسم من يؤتم به ، جعله سبحانه إماما يأتمون به في دينهم ويقوم بتدبيرهم وسياسة أمورهم ، وقوله : * (ومن ذريتي) * عطف على الكاف ، كأنه قال : وجاعل بعض ذريتي ؟ كما يقال لك : سأكرمك ، فتقول : وزيدا ؟ * (قال لا ينال عهدي الظلمين) * أي : من كان ظالما من ذريتك لا يناله استخلافي وعهدي إليه بالإمامة ، وإنما ينال من لا يفعل ظلما ، وهذا يدل على وجوب العصمة للإمام ، لأن من ليس بمعصوم فقد يكون ظالما إما لنفسه وإما لغيره .
  * (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) * (125) * (البيت) * اسم غالب للكعبة كالنجم للثريا * (مثابة للناس) * مرجعا يثاب إليه كل عام * (وأمنا) * موضع أمن كقوله : * (حرما ءامنا ويتخطف الناس من حولهم) * (5) ، ولأن الجاني يأوي إليه فلا يتعرض له حتى يخرج * (واتخذوا) * على إرادة القول ، أي : وقلنا لهم : اتخذوا منه موضع صلاة تصلون فيه ، و * (مقام ابراهيم)* الموضع الذي كان فيه الحجر حين وضع إبراهيم (عليه السلام) عليه قدميه ، أمرنا

-------------------
(1) المعارج : 34 .
(2) قاله ابن عباس على ما حكاه البغوي في تفسيره : ج 1 ص 111 .
(3) وهو قول الربيع وقتادة ، راجع تفسير البغوي : ج 1 ص 112 .
(4) رواه الصدوق عنه (عليه السلام) في الخصال : ص 305 ح 84 .
(5) العنكبوت : 67 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 148 _
  بالصلاة عنده بعد الطواف ، وقرئ : ( واتخذوا ) بلفظ الماضي (1) عطفا على * (جعلنا) * أي : واتخذ الناس * (من مقام إبرا هيم) * موضع صلاة .
  ومن قرأ : * (واتخذوا) * على الأمر وقف على قوله : * (وأمنا) *، ومن قرأ : ( واتخذوا ) على الخبر لم يقف ، لأن قوله : ( واتخذوا ) عطف على * (جعلنا) * (2) .
  * (وعهدنا إلى إبرا هيم وإسمعيل) * أمرناهما ب‍ * (أن طهرا بيتى) * أو أي طهرا بيتي ، فتكون * (أن) * المفسرة التي تكون عبارة عن القول ، أي طهراه من الأوثان والخبائث كلها ، وأضاف ( البيت ) إلى نفسه تفضيلا له على سائر البقاع * (للطائفين) * أي : للدائرين حوله * (والعكفين) * أي : المجاورين له والمقيمين بحضرته * (والركع السجود) * أي : المصلين عنده ، لأن الركوع والسجود من هيئات المصلي .
  * (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) * (126) سورة البقرة / 127 و 128 أي : * (اجعل هذا) * البلد وهو مكة * (بلدا ءامنا) * ذا أمن ، كقوله : * (في عيشة راضية) * (3) أي : ذات رضى ، وبلد أهل أي : ذو أهل ، أو آمنا يؤمن فيه كقولهم : ليل نائم ، أي : ينام فيه * (وارزق أهله) * يعني : وارزق المؤمنين منهم خاصة ، لأن قوله :

-------------------
(1) قرأه نافع وابن عامر وشريح والذماري ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 169 ، والتبيان : ج 1 ص 452 ، والكشف عن وجوه القراءات السبع للقيسي : ج 1 ص 264 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 1 ص 384 .
(2) راجع تفصيل ذلك في كتاب الحجة في علل القراءات السبع لأبي علي الفارسي : ج 2 ص 171 ، والتذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 322 .
(3) الحاقة : 21 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 149 _
  * (من ءامن منهم) * بدل من * (أهله) * ، * (ومن كفر) * عطف على * (من ءامن) * كما أن قوله : * (ومن ذريتي) * عطف على الكاف في * (جاعلك) * .
  وإنما خص إبراهيم (عليه السلام) المؤمنين بالدعاء حتى قال سبحانه : * (ومن كفر) * ، لأن الله كان أعلمه أنه يكون في ذريته ظالمون بقوله : * (لا ينال عهدي الظلمين) * فعرفه سبحانه الفرق بين الرزق والإمامة ، لأن الاستخلاف استرعاء يختص بمن لا يقع منه الظلم بخلاف الرزق فإنه قد يكون استدراجا للمرزوق وإلزاما للحجة .
   والمعنى : * (قال) * وأرزق من كفر * (فأمتعه) * ، ويجوز أن يكون * (ومن كفر) * مبتدأ متضمنا معنى الشرط و * (فأمتعه) * جوابا للشرط ، أي : ومن كفر فأنا أمتعه ، وقرئ : ( فأمتعه ) (1) ، * (ثم أضطره) * أي : أدفعه * (إلى عذاب النار) * دفع المضطر الذي لا يملك الامتناع مما اضطر إليه . *
  (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) * (128) * (يرفع) * حكاية حال ماضية ، و * (القواعد) * : جمع القاعدة وهي الأساس لما فوقه ، وهي صفة غالبة ومعناها الثابتة ، ورفع القواعد : البناء عليها لأنها إذا بني عليها ارتفعت ، ويجوز أن يكون المراد بها سافات (2) البناء لأن كل ساف قاعدة

-------------------
(1) وهي قراءة ابن عباس وابن عامر والمطوعي وشبل وابن محيصن والذماري وشريح ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 322 ، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 170 ، والتيسير في القراءات للداني : ص 76 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 1 ص 384 .
(2) جمع ساف : وهو كل عرق (أي الصف من الحجر في الحائط) من الحائط ، (القاموس المحيط :مادة سوف) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 150 _
  لما يبنى عليه ويوضع فوقه ، وروي : أن إبراهيم (عليه السلام) كان يبني وإسماعيل يناوله الحجارة (1) * (ربنا) * أي يقولان : ربنا ، وهذا الفعل في محل النصب على الحال * (تقبل منآ) * فيه دلالة على أنهما بنيا الكعبة مسجدا لا مسكنا ، لأنهما التمسا القبول الذي معناه الإثابة ، والثواب إنما يطلب على الطاعات * (إنك أنت السميع) * لدعائنا * (العليم) * بنياتنا ، وإنما لم يقل : قواعد البيت بل أبهمت * (القواعد) * ثم بينت بعد الإبهام لما في الإيضاح بعد الإبهام من تفخيم شأن المبين * (ربنا واجعلنا مسلمين لك) * أي : مخلصين لك أوجهنا من قوله : * (أسلم وجهه لله) * (2) أو مستسلمين لك خاضعين منقادين ، ومعناه : زدنا إخلاصا أو خضوعا وإذعانا لك * (ومن ذريتنا) * أي : واجعل من ذريتنا * (أمة مسلمة لك) * ، و * (من) * للتبعيض أو للتبيين كقوله : * (وعد الله الذين ءامنوا منكم) * (3) ، وروي عن الصادق (عليه السلام) : أنه سورة البقرة / 129 ـ 130 أراد بالأمة بني هاشم خاصة (4) ، * (وأرنا مناسكنا) * أي : وعرفنا وبصرنا متعبداتنا في الحج لنقضي عباداتنا على حد ماتوقفنا عليه ، وقد قرئ بسكون الراء (5) من * (أرنا) * قياسا على (6) فخذ في ( فخذ ) ، وهي قراءة مسترذلة ، إلا أن يقرأ بإشمام الكسرة (7) * (وتب علينا) * قالا هذه الكلمة انقطاعا إلى الله ليقتدى بهما ، أو استتابا

-------------------
(1) حكاه الشيخ في التبيان : ج 1 ص 462 عن ابن عباس .
(2) البقرة : 112 .
(3) النور : 55 .
(4) تفسير العياشي : ج 1 ص 61 ح 101 ، وعنه البرهان : ج 1 ص 156 ح 12 .
(5) قرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن محيصن وأبو شعيب ومجاهد والسوسي وأبو حاتم وقتادة والسدي وعمر بن عبد العزيز ورويس وروح ، راجع الحجة في علل القراءات للفارسي : ج 2 ص 173 ، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 170 ، وإعراب القرآن للنحاس : ج 1 ص 213 ، والحجة في القراءات لأبي زرعة : ص 114 ، والحجة لابن خالويه : ص 78 .
(6) في بعض النسخ زيادة : تخفيف .
(7) انظر الفريد في إعراب القرآن للهمداني : ج 1 ص 374 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 151 _
  لذريتهما * (إنك أنت) * القابل للتوبة * (الرحيم) * بعبادك .
  * (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) * (129) * (وابعث) * في الأمة المسلمة * (رسولا منهم) * من أنفسهم وهو نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) ، قال (عليه السلام) : ( أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورؤيا أمي ) (1) .
  * (يتلوا عليهم ءايتك) * يقرأ عليهم ويبلغهم ما يوحى إليه * (ويعلمهم الكتب) * وهو القرآن * (والحكمة) * وهي الشريعة وبيان الأحكام * (ويزكيهم) * ويطهرهم من الشرك والأدناس * (إنك أنت العزيز) * القوي في كمال قدرتك * (الحكيم) * المحكم لبدائع صنعك .
  * (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ ) * (130) * (ومن يرغب عن ملة ابراهيم) * التي هي الحق والحقيقة ، وهو إنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء من يرغب عنه ، و * (من سفه) * في محل الرفع على البدل من الضمير المستكن في * (يرغب) * ، ومعنى * (سفه نفسه) * امتهنها واستخف بها ، وأصل السفه : الخفة ، وقيل : إن * (نفسه) * منصوبة على التمييز (2) نحو غبن رأيه ، وقيل : معناه سفه في نفسه ، فحذف الجار (3) كقولهم : زيد ظني مقيم ، أي : في ظني ، والأول أوجه * (ولقد اصطفينه) * بيان لخطأ رأي من رغب عن ملته ، أي : اجتبيناه

-------------------
(1) منسد أحمد بن حنبل : ج 4 ص 127 وج 5 ص 262 .
(2) قاله الفراء في معاني القرآن : ج 1 ص 79 ، وعنه الفريد في إعراب القرآن للهمداني : ج 1 ص 376 .
(3) قاله الأخفش في معاني القرآن : ج 1 ص 338 ، واختاره الزجاج في معاني القرآن : ج 1 ص 211 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 152 _

  بالرسالة * (وإنه في الاخرة لمن الصلحين) * الفائزين ، ومن جمع الكرامة عند الله في الدارين لم يكن أحد أولى بأن يرغب في طريقته منه .
  * (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) * (132) سورة البقرة / 133 * (إذ قال) * ظرف ل‍ * (اصطفينه) * أي : اخترناه في ذلك الوقت ، ومعنى * (قال له ربه أسلم) * : أخطر بباله النظر في الدلائل المفضية به إلى التوحيد والإسلام * (قال أسلمت) * أي : فنظر وعرف ، وقيل : إن معنى * (أسلم) * أذعن وأطع (1) .
  وقرئ : ( وأوصى ) بالألف (2) والضمير في * (بها) * لقوله : * (أسلمت لرب العلمين) * على تأويل الكلمة والجملة ، ومثله الضمير في قوله : * (وجعلها كلمة باقية) * (3) فإنه يرجع إلى قوله : * (إننى برآء مما تعبدون إلا الذى فطرني) * (4) * (ويعقوب) * عطف على * (ابراهيم) * داخل في حكمه ، يعني : * (ووصى بها) * يعقوب بنيه أيضا * (اصطفى لكم الدين) * معناه : أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان وهو دين الإسلام ، ووفقكم للأخذ به * (فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * أي : فلا يكن موتكم إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام ، فالنهي على الحقيقة

-------------------
(1) قاله عطاء والكلبي ، راجع تفسير البغوي : ج 1 ص 118 ، واختاره ابن كثير في تفسيره : ج 1 ص 176 .
(2) وهي قراءة نافع وابن عامر وأبي جعفر والذماري وشريح ، راجع السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 171 ، وتفسير السمرقندي : ج 1 ص 159 ، والتيسير في القراءات للداني : ص 77 ، والحجة لأبي زرعة : ص 115 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 1 ص 398 ، وهي في مصاحف أهل الحجاز والشام كما في الكشاف : ج 1 ص 191 .
(3) الزخرف : 28 .
(4) الزخرف : 26 و 27 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 153 _
  عن كونهم مخالفي الإسلام إذا ماتوا ، والنكتة في إدخال حرف النهي على الموت أن فيه إظهارا لكون الموت على خلاف الإسلام موتا لا خير فيه .
  * (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) * (133) * (أم) * هي المنقطعة ، أي : بل أ * (كنتم شهداء) * ، ومعنى الهمزة فيها الإنكار ، أي : ما كنتم حاضرين يعقوب ، والشهيد : الحاضر * (إذ حضر يعقوب الموت) * أي : حين احتضر ، والخطاب للمؤمنين ، يعني : ما شهدتم ذلك وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي ، وقيل : الخطاب لليهود (1) لأنهم كانوا يقولون ما مات نبي إلا على اليهودية ، فتكون * (أم) * على هذا متصلة على أن يقدر قبلها محذوف ، كأنه قيل : أتدعون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت (2) ، يعني : أن أوائلكم كانوا شاهدين له إذ أراد بنيه على ملة الإسلام وقد علمتم ذلك ، فما لكم تدعون على الأنبياء ماهم منه براء ؟ * (ما تعبدون من بعدى) * أي : أي شئ تعبدون من بعدي ؟ أي : من بعد وفاتي ، فحذف المضاف ، و * (إبرا هيم وإسمعيل وإسحق) * عطف بيان ل‍ * (أآبائك) * ، وجعل إسماعيل وهو عمه من جملة آبائه لأن العم أب والخالة أم لانخراطهما في سلك واحد وهو الأخوة لا تفاوت بينهما * (إلها وا حدا) * بدل من * (إله أآبائك) * ، * (ونحن له مسلمون) * حال من فاعل * (نعبد) * أو من مفعوله لرجوع الضمير إليه في * (له) * ، ويجوز أن

-------------------
(1) قاله الربيع كما في التبيان : ج 1 ص 475 .
(2) اختاره الزمخشري في كشافه : ج 1 ص 193 ، وذكره الهمداني في الفريد في إعراب القرآن : ج 1 ص 378 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 154 _
  يكون جملة معطوفة على * (نعبد) * أو جملة اعتراضية ، أي : ومن حالنا أنا له مسلمون (1) .
  * (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) * (134) * (تلك) * إشارة إلى الأمة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون ، والمعنى أن أحدا لا ينفعه كسب غيره متقدما كان أو متأخرا ، وذلك أنهم افتخروا بأوائلهم * (ولا تسلون عما كانوا يعملون) * لا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا تنفعكم حسناتهم .
  * (وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ) * (135) سورة البقرة / 136 ـ 138 الضمير في * (قالوا) * يرجع إلى اليهود والنصارى ، أي : قالت اليهود : * (كونوا هودا) * وقالت النصارى : كونوا * (نصرى تهتدوا) * تصيبوا طريق الهدى والحق * (قل بل ملة إبرا هيم) * بل نكون أهل ملة إبراهيم كقول عدي بن حاتم (2) : إني من دين ، أي : من أهل دين (3) ، وقيل : بل نتبع ملة إبراهيم (4) و * (حنيفا) * حال من

-------------------
(1) انظر تفصيل ذلك في الكشاف : ج 1 ص 194 ، والفريد في إعراب القرآن للهمداني : ج 1 ص 380 .
(2) عدي بن حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي ، أبو وهب وأبو طريف ، أمير ، صحابي ، من الأجواد العقلاء ، كان رئيس طي في الجاهلية والاسلام ، كان إسلامه سنة 9 ه‍ ، وشهد فتح العراق ، ثم سكن الكوفة وشهد الجمل وصفين والنهروان مع أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وقد فقئت عينه يوم صفين ، روى عنه المحدثون 66 حديثا ، عاش أكثر من مائة سنة ، توفي بالكوفة سنة 68 ه‍ .